فهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( PENSEES ):
كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان البرق الحارق الخارق تضيء الوجود في لحظة واحدة ، ويذكرنا هذا بكتاب ( الخاطرات ) لجمال الدين الأفغاني ، وكتاب هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) وهذه الومضات الفكرية هي أحد اتجاهات علم النفس المعروفة بالجشتالت ، وكلمة ( GESTALT ) تعني بالألماني الاطار الكبير أو النسق الشامل أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشر ، حيث يصل العقل لفهم وضعٍ بدون الانتقال التدريجي التحليلي لفهم الواقعة ، وهو كما نرى أحد نزعات عمل الدماغ الانساني . هذه النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشف قانون الاحتمالات ، عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتمالات الربح والخسارة ؟ فأجاب فوراً وبعفوية ناطقاً بقانون رياضي مدهش مازال يعتمد حتى اليوم في عالم الرياضيات لمشكلة الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا التركيب العقلي عنده هو الذي جعله يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قانون الاحتمالات الرياضي الى المصير الانساني .
الرهان الرياضي والمصير الانساني :
وهي فكرة لاتخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة الإيمان باليوم الآخر تبقى أفضل حتى من الناحية البراغماتية المحضة ، في ضوء قانون الاحتمالات حيث يبقى أمام الانسان خياران ، يترتب على الأول الفوز بكل شيء ، في حين أن عكسه لايعرضه لأي خسارة ، وهي نفس الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري شعراً :
قال الطبيب والمنجم كلاهــــما لاتحشر الأجساد قلت إليكــــما
إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله طهرٌ فأين الطهر من جســــــــــديكما
ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله : (( وإنما نظرته الى الرهان نظرة براجماتية محضة . إن وزنه للمخاطر والتركيز على ماهو أكثر نفعا ، على مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة اللامتناهية )
علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية :
ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حاول فهم المشكلات الانسانية في ضوء الفلسفة ، والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصحيح ، كما أنها لاتتولد الا في مناخ خاص ، فهناك علاقة جدلية بين التكنولوجيا والقاعدة العلمية والمناخ الفكري ، أي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار على حد تعبير المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) أو كما يقول المثل الأمريكي : ( الأشخاص التافهون يتكلمون في الأشياء ويحرصون على امتلاكها . والسطحيون يروقهم الحديث عن الآخرين . اللامعون والنابهون هم الذين يعنون بالعلم ويتذوقون الأفكار وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضي وقتك وماذا يفعل بالفراغ ؟ ولاكتشاف الذات تبقى الوحدة أفضل مشعر على التذوي والتخوي والتقعر الداخلي من غناه وخصبه وحيويته . علوم الكوسمولوجيا والفيزياء النووية والبيولوجيا والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ، ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع .
جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر :
الانتاج التكنولوجي لايأتي من فراغ بل لابد له من قاعدة علمية ، واستواء هذه القاعدة بدورها يتطلب مناخاً عقلياً خاصاً . والقرآن في هذا الصدد يجب أن يفهم ليس على أنه كتاب طب وكشوف علمية ، بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم .
وفي ضوء هذه الفكرة فإن فلاسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباسكال وهيجل دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية . ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطورة من الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مالم ننتج القاعدة التي تولد ( الأشياء التكنولوجية ) وهي قاعدة علمية . ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خاص . من أبرز صفات هذا المناخ حرية الفكر ، فالفكر الغربي اليوم يبحث بدون ( تابو) بدءً من الدراسة النقدية للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة . وفي جامعة مك - جيل ( Mc. GIL ) في مونتريال يدرس الطلاب أنظمة الحكم في العالم ، حيث تخضع النظم الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبرية ، كما يدرس الأطباء الباكتريا وتفريخها وتمكنها واستفحال مرضها ، كذلك العثور على الترياق المناسب لسمومها ، ليس لتصديرها الى الدول البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ، بل للاحتفاظ بها في الأدراج السرية للمؤسسات العسكرية ، كما رأينا في فيروس الموتابا في فيلم الانفجار الفيروسي (OUTBREAK ) فالسياسة علم ، والجنس علم ، وعلاقة الايمان بالعلم أيضاً علم ، وفي اللحظة التي نوحد فيها طرفي معادلة العلم والايمان ، كما وحد آينشتاين المادة والطاقة فسوف تحل أعظم مشكلة واجهت العقل الانساني حتى اليوم .
سحر الشكل الهندسي في الأرقام عند باسكال :
كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ، ففي الوقت الذي حاول ديكارت أن يقلب الهندسة الى أرقام ، فإن باسكال استولى عليه روح الجمال في رشاقة الهندسة فَفَهِم الأرقام من خلال تراكيب هندسية ، كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فالأعداد تتركب فيما بينها وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو الأمر عند فيثاغورس وفي تقدم باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضاً من شكل هندسي الى شكل هندسي آخر ، ولايرجع أبداً الى العبارات الرمزية العامة التي نجدها في الجبر ولا الى التركيبات العقلية الخيالية التي نجدها عند ديكارت . إنه يرجع دائماً وأبداً الى نظرة فنية كاشفة )(*)