القطيع فيه 400 رأس من الغنم :
ومن هذه الروح ( الحدسية ) التي تتذوق الجمال المباشر في العلاقات الخفية بين الأرقام والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ، وإذ مر بجانبهم قطيع من الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد الأغنام التي تسرح في المرج . وكان الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!
موقفه الفلسفي من الرياضيات :
ومن هذا الفهم الرياضي في علاقات الأرقام والأشكال الهندسية الفنية ، وصل الى كشف هام آخر في العلاقات الرياضية ، سيخرج منه بعد ذلك بخلاصة فلسفية في قضية اللانهايتين وجدلية الانسان ، أما في المستوى الرياضي فوصل الى مبدأ يقول إن بين المراتب العددية اختلافاً لانستطيع أن نقول عنه الا أنه لامتناهي ، وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهر له عام 1654 م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ، الذي رأى فيه الأرقام على أشكال هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقداراً متصلاً لايكبر إن أضفنا له مقداراً أياً كان من مرتبة هندسية فوقه ، فلايمكن جمع النقاط الى الخطوط ، ولا الخطوط الى المساحات ، ولا هذه الى الحجوم ، أو بتعبير آخر لاحساب للجذور أمام المربعات ، ولا للمربعات أمام المكعبات ، ولا لهذه أمام مربعات المربعات ، فأمام الكميات العليا علينا أن نهمل الكميات الدنيا كما لو كانت عدماً مطلقاً )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجة المشكلة الانسانية الكبرى ، في خمسة اسقاطات : مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم اللانهايتان ؛ فإذا كانت هناك خنادق يتعذر اختراقها أو القفز من فوقها في الرياضيات ، أو تشكل الفضاءات بينها مسافات لانهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس الانسانية والمجتمع .
مشكلة العدالة الانسانية أو العدل الكوني :
تمثل العدالة الأرضية أكبر التناقضات الانسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط ولا السطوح الى الحجوم ، فهو في مشكلة العدالة الكونية يقيمها على جدلية ثلاثية بين الانفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء لايلزم دائماً الابتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجية العنيفة دون تردد ، والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس . وأثر الخوف واضح كل الوضوح لو توطدت سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ، وبواسطة العنف تم لجم الناس بالرعب فاعتادوا النظام ، فأساس الدولة هو عنف وخوف ، عنف خارجي وخوف داخلي ، ولايظهر هذا العنف والخوف الا في مواجهات فجائية ، والذي يعطي الاستمرارية لهذا الوضع هو اعتياد الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ، فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضى مع الخوف . وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة . الدولة وفق تأسيس النظام الداخلي تحرم القتل وتعاقب عليه وتعتبره رأس الكبائر وأعظم الجرائم . ولكن نفس الدولة تأمر بالقتل في الحروب والثورات ، وتشجع عليه وتكافيء ، وتعتبر أنَّ من يُقتل من طرفها شهيد ، وأنَّ من يُقتل من الطرف الآخر مجرم . في علاقة معكوسة في الدولة المقابلة . فالشهيد هناك مجرم هنا والعكس بالعكس .
علاقة الشهيد _ـ المجرم :
فعلاقة ( الشهيد ـ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخلاقية وعقلانية لها . وعندما تحدث الحروب يتم قتل الانسان بكل سهولة بالأوامر ، حتى أن الجيوش تستخدم سلاحاً خاصاً لاستمرار المجزرة ، بحيث أن الذي لايَقْتِل يُقتل ، كما صور ذلك الكاتب الأمريكي ( ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعاً أيها السلاح ) .
لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضيَّف الواحد الآخر فنجاناً من القهوة ، فلا توجد عداوة بينهما ، ولكن في الحرب يقتل الانسان أخيه الانسان بالأمر فقط مع عدم معرفته سلفاً فضلاً عن وجود عداوة أو حقد سابق . فالقتل يتم على الجغرافيا أو الهوية الشخصية . على الجغرافيا في الحروب الاقليمية فيُقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبل الذي يفترق عنا ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام الاتصالات كما في أجهزة الدش ) ويُقتل على الهوية في الحروب الأهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ، يمثل الآخر ، يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر الأرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛
العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة :
كأنَّ العدالة إذاً في طريقها الى نفق مسدود ؟!
يرى باسكال أن الانسان في جدلية لاطريق الى حلها ، وهو شقي لأنه لايلقى حكماً عادلاً ويرضخ للظلم ، ولكنه بنفس الوقت عظيم لأنه لايرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن بإمكانية العثور عليها ، فالانسانية في جدلية محيرة وفي وضع غير قابل للحل ، وينتقل من موقف الى ضده ، لايرضى بالواحد ولا الآخر .