في مطلع القرن عاش مجموعة من الرواد الرائعين في الطب من نموذج (فيرشوف) و(كوخ) و (باستور) و (شاودين) و (الزهايمر) .
فيرشوف (RUDOLF VIRCHOW) قلب التصور الطبي رأساً على عقب وأسس علم (التشريح المرضي) واكتشف عشرات الأمراض ونشر أكثر من الفي بحث علمي، وبقي حتى سن الثمانين يشتغل 16 ساعة يومياً في عشق لايذوي للمعرفة، و (كوخ) شق الطريق لمعرفة السل والكوليرا والطاعون، وطوَّر باستور اللقاحات وأرسى مفهوم التعقيم، ولاننس معالجة عضات الكلاب المسعورة. ولم يكن للجراحة أن تتقدم الا بساقين: التعقيم والتخدير.
وكُشف الغطاء أمام عين (فريتس شاودين FRITZ SCHAUDIN) ليبصر (اللولبية الشاحبة) أفعى الزنا مسببة مرض الزهري، الذي عس في أدمغة ومفاصل المصابين مايزيد عن أربعة قرون.
وأما لويس الزهايمر (LOUIS ALZHEIMER) فتوصل الى تحديد مرض العته الذي يحول الذاكرة الى حطام الهشيم وأصبح المرض مرتبطاً باسمه.
فيرشوف مات بكسر عنق فخذ بعد سقوط (وهو ما أتذكره أنا شخصياً لجدي وجدتي فبقيا مقعدين بقية حياتهما) وشاودين بخراج شرجي عن عمر 35 سنة، والزهايمر بقصور كلوي عن عمر 53 سنة. واليوم يعالج كسر الفخذ بصفيحة وبراغي، واكتشف البنسلين صدفةً البريطاني (فلمنغ ALEXANDER FLEMING) عام 1928 م، ورُكِّب أول مفصل صناعي للمفصل الحرقفي الفخذي (TEP) عام 1961 وهي عملية قمنا بها أثناء التخصص في ألمانيا. وتم استخدام أول كلية صناعية في أمريكا عام 1943 م. وأصبحت أنا متخصصا بعمق في مثل هذه الأمراض، وكنا نركب القساطر أو عمليات الفستولا للغسيل الكلوي عند المصابين، وهكذا أمكن مط أعمارهم قليلا حتى تنقل هلم كلية مناسبة.
كان الناس يموتون من انفجار (زائدة دودية) واليوم يجري الجراحة العصبية المعقدة (روبوتات) بدقة أجزاء من الملمتر، بيد لاتعرف الاهتزاز، وببنية فولاذية لايمسها نصب أو لغوب في ساعات متواصلة من العمل الشاق بدون استراحة وفنجان قهوة، وفي المستقبل سيبقى الجراح خارج قاعة العمليات يراقب المخلوقات الحديدية الجديدة وهي تنجز عملها لاتريد جزاءً ولاشكورا ولاتفهمهما. ويتم حالياً تطوير جراحة الجينات، ويشق الطريق لمعرفة كامل (الكود الوراثي) عند كل المخلوقات بما فيها الانسان في مشروع (هوجو) في نفس مكان ولادة السلاح الذري للقنبلة البيولوجية حيث أمكن معرفة تركيب الكود الوراثي عند الإنسان بل إنسان نياندرتال والقرود.
في مطلع القرن كانت الأمراض الانتانية تحصد الأرواح، واليوم تم تحييد أمراض بأكملها من خلال اللقاحات مثل (السل والكزاز والبوليو شلل الأطفال والدفتريا والسعال الديكي والحصبة والخناق) وتم الاحتفال بتطهير الأرض من مرض (الجدري) عام 1972م وهناك جائزة من منظمة الصحة العالمية لمن يخبر عن حالة واحدة، فلم يبق الا في الحاويات السرية في المؤسسات الطبية أو للاستخدام العسكري في حروب الهول الأعظم؟
وفي الوقت الذي بقي مسبب الافرنجي مجهولاً مابين اندلاعه عام 1496 م واكتشافه من (شاودين) عام 1905 م لفترة أربعة قرون والسيطرة عليه بالبنسلين في الخمسينات؛ فإن فيروس الايدز لم تتطلب تحديد هويته أكثر من اربع سنوات في ضغط للزمن مائة مرة؟ ولم يستغرق أربعة أشهر مع فيروس الكورونا لتعرف طبيعته.
وفي الوقت الذي طحن الزهري عظام البابا (الكسندر السادس) وافترس دماغ الفيلسوف (نيتشه) فأودى به الى الجنون، وعطب نخاع الشاعر (هاينكه) فأصيب بالشلل، بدون معرفة السبب أو تطبيق العلاج. في غياب أي جو علمي الا الدجل والشعوذة؛ فإن الأدوية المتاحة اليوم لعلاج مالايقل عن عشرين ألف مرض، يسببها خمسين ألف نوع من الفصائل الجرثومية والحمات الراشحة تزيد عن 80 ألف دواء.
وفي الوقت التي كانت أساطير القديسين تتكلم عن زرع الأعضاء تحوَّل الأمر اليوم الى روتين؛ فيزرع في ألمانيا سنوياً (3918) عضواً بين كلية وكبد وبانكرياس منهم 542 قلباً في عمل أقرب الى المعجزة.
تم هذا الانفجار المعرفي في تطوير (زراعة الأعضاء) على يد جراح مغمور في جنوب أفريقيا هو كريستيان برنارد (CHRISTIAN BERNARD) عام 1967 م، الذي سلط عليه زملاءه كل أساليب التحقير والتشهير من منافسيه في المهنة بما فيهم حملة جائزة نوبل للطب بعد موت مريضه الأول (لويس واشكانسكي LOUIS WASHKANSKY) بـ 18 يوماً، انتزع له قلباً شاباً من فتاة تمت زراعته في صدره بنجاح، ولكن كما يعلمنا القرآن أن الزبد يذهب جفاء وماينفع الناس يمكث في الأرض، فقد انعقد لسان الحساد واختفى المعارضون أمام وهج عمله، خاصةً بعد تطويع الجسم بمادة (السيكلوسبورين) لمشكلة رفض الجديد، كما رفض معارضوه فكرته في زرع الأعضاء؛ فرفض الجديد بيولوجي واجتماعي بنفس الوقت كما نرى.
وعاش (ايمانويل فتريا EMMANUEL VITRIA) بعد زرع القلب في صدره 19 عاماً (1968 حتى 1987 م) أكثر من عمر جراحه الذي نفحه بهذه الهبة، ويتهيأ الجراح الأمريكي (روبرت وايت ROBERT WHITE) للقفزة الكبرى بزرع (رأس انسان) كامل بعد أن نجح فيها عام 1999 م على رؤوس القرود.
العلم ذو طبيعة تقدمية، له ناظم اخلاقي ذاتي ، ينمو بآلية الحذف والإضافة والتراكم المعرفي، ويزدهر في جو العقلانية والتفكير بدون قيود ، ويدعم بالانفاق المالي، ويحصد الكثير في صدف بحتة في جو عمل ملتهب.