في أول كتابه (رسالة في تحسين العقل) يذهب الفيلسوف (باروخ سبينوزا) أن الناس يركضون بأشد من ضباح الخيل، وتهافت الفراش على النار، على ثلاث مصادر، أنها أكيدة، ويقينية، ومضمونة، لسعادة لا تعرف النفاد هي: (المال ـ الشهرة ـ الشهوة). ولكنها لا تزيد عن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء . ثم يمضي فيلسوف التنوير في شرح الأفكار الثلاثة. أن الشهوة مرض والمال يزول والشهرة تتكسر فأين إذن السعادة الدائمة والشاملة الغامرة؟
وما كتب الرجل في حياته لم تتجاوز أربعة كتب، ومات عن عمر 42 سنة، منفوثا بالسل، بعد طعنة سكين في رقبته من المتعصبين، أنه يريد إثبات عدم وجود الله ؟ والرجل كان تقيا نقيا زاهدا، عميق التصوف، بحراً في الفلسفة، قال عنه ديورانت: أن نابليون، كان أنفع له من كل الفتوحات العسكرية، لو ألف أو قرأ طرفا مما كتب الرجل، ولكن العسكريين في العادة، في جلّهم، مغامرين متهورين، ضحلي الثقافة، عظيمي التأثير في حياة الناس، بكل أسف . فهذه هي سخرية التاريخ. وكلفت سبينوزا أفكاره أن يُلعن كل من اقترب منه أربعة أذرع، أو أكل معه، أو شرب، أو نام معه تحت سقف واحد، أو قدم له يد المعونة في دواء وغذاء. ولكن كتاباته تبقى محطة لكل من ارتاد مغامرات العقل الإنساني عبر العصور. وفي مطلع البحث يقول أن السعادة يجب أن تحقق ثلاث أمور: أن تكون أكيدة (حقيقية) غامرة، بهيجة، تقلب الحياة قلبا، وتضعها باتجاه على سكة، تاركة بصماتها على التصرفات؛ فالسعادة نور داخلي قبل كل شيء. وان تكون (مستمرة) متدفقة لا تعرف التوقف والكبح والمحدودية. وأن تكون (شاملة) تغطي الحياة وما حوت، والمشاعر وما أخفت.
وبالطبع فإن سعادة من هذا النوع لا يصل إليها إلا ثلة من الأولين وقليل من الآخرين؛ ويسميها علم النفس الحديث (تحقيق الذات Self actualization)؛ فالنفس تبقى في توتر ثلاثي، قبل الهدوء والراحة؛ فتنتقل كما يقول الغزالي في كتابه (معارج القدس في مدارج معرفة النفس)، من النفس (الأمّارة بالسوء)، إلى (النفس اللوامة)، إلى (النفس المطمئنة)، التي تدخل الجنة قبل دخولها . يقول سبينوزا يظن البعض أن الثروة تخلق السعادة، وهي جزء من الحقيقة، وليست كل الحقيقة، فنحن في الدنيا نركب زورقا باتجاه هدف، وحاجات الحياة لا بد منها، ولكن هناك من يريد البقاء في الزورق، أو بناء قصر فوق قنطرة يعبرها، كما يقول بوذا، وكل الألم يأتي من عدم إدراك هذه الحقيقة، والعمى فيها يضيع لب التنوير. ويلتقي هنا مع الحديث الذي يقول: ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها. فليس أغنى من (كريستينا) بنت (أوناسيس) إمبراطور ناقلات البترول اليوناني (Tycoon)، الذي تزوج (جاكلين كيندي)، وجعلها تنفق كل نهار، خمسين ألف دولار لشراء الملابس علها تشبع؟ فلم تشبع ؟ وماتت ابنته (كريستينا) وريثة ثروته، التي فاقت ثروة قارون انتحارا وقهرا وغماً.
وجربت أكثر من زيجة ففشلت، وطردت ذكور النحل من حياتها، المتراكمين حولها من أجل ثروتها، وانتفخت بالسمنة والملل فلم يغن عنها شيئا، وماتت في أبأس حال. وفي يناير من عام 2010 م أعلن عن موت (كيسي جونسون) حفيدة إمبراطور الشركة الدوائية، وابنة الرجل الذي اشترى نادي نيويورك بـ 630 مليون دولار، وتقول الفتاة قبل موتها ليس من ثمة تعاسة أعظم من ملك ثروة ليس لها نفاد. والقرآن يقول ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر. وهكذا فلو كان المال (شرفا) لكان قارون سيد الأنبياء، فخسف الله به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان منتصرا.
ويظن البعض أن (الشهرة) سبب للسعادة، ولو كان ذلك صحيحا، لكانت (مارلين مونرو) الممثلة الأمريكية، الشهيرة الجميلة، صاحبة الحسن والدلال والإغراء، سيدة السعداء، ولكنها أنهت حياتها بالانتحار ؟! ولو كان (النفوذ) سببا للسعادة لما أنهى وزير المالية الفرنسي (فوكيه) زمن الملك لويس الرابع عشر، الملقب بملك الشمس، حياته في زنزانة انفرادية، في جبال الألب. أو العديد من الوزراء، والمسئولين الكبار، وهم يرتعدون فرقا كل حياتهم في المنصب، وخارج المنصب !.
ويروى عن (نيكيتا خروتشوف) أن ما أبقى رأسه فوق كتفيه، أنه تحول إلى (مهرج) في حفلات ستالين، فكان الطاغية يصب على رأسه الفودكا، ويضحك ملء شدقيه . ويظن البعض أن (اللذة) هي السعادة، ومنه دعا الفيلسوف اليوناني (أبيقور) إلى اغتراف اللذات في الحياة، وينقل عنه قوله، عندما يحضر الموت فلن نكون موجودين، فلم الخوف من زائر مرعب لن نتلاقى معا؟ ومن أثينا خرج الفلاسفة (الكلبيون)، الذين دعوا الناس من أجل الراحة أن يقلدوا أخلاق الكلاب. وهي ليست مزحة؟ وأكبر نموذج في اغتراف اللذات، شاعر الجاهلية (طرفة بن العبد) و(عمر الخيام) اللذين رأيا في الحياة، تلك الفترة القصيرة، التي هي أقصر، من أن نقصرها بالترهات، فيجب ملء كأسها بالملذات دهاقا. ولكن الملذات (مشكلة) من جهتين؛ فالإفراط في تعاطي الكحول، يقود لتشمع الكبد، والإفراط في الجنس، يقود إلى الأمراض التناسلية، أو البرود الجنسي عكس مقصوده.
وأعظم اللذات تحققا، عندما تأتي في وضع الإشباع؛ سواء الماء مع شدة العطش، أو الطعام مع فرط الجوع، أو الاتصال الجنسي بحرمان مناسب. ويرى عالم النفس البريطاني (هدفيلد) أنه لابد من التفريق بين ثلاث: السرور والسعادة واللذة؛ فاللذة هي ممارسة الغريزة بدون بعد أخلاقي، وهو أمر نشترك فيه مع الحيوانات.
أما السرور فهو ممارسة متعة الغريزة، ضمن إطارها المعنوي الأخلاقي. ولكن السعادة هي عملية التوازن في إشباع الغرائز، وهو يصل بكلامه هذا إلى فتح علمي؛ فيمكن لفلاحة أو بدوية تعيش في خيمة، أن تكون في سعادة يحسدها عليها أكبر مسئول في أكبر وزارة، لا ينقصه المال والخدم والحشم والنفوذ والشهرة. وكرسي الحكم أعظم لذة، فهو كرسي الإعدام، لا ينجو منه في العادة أحد، تفوق حلاوته كل لذة، خاصة في إمبراطوريات الدول الثورية.