مقالات بقلم خالص جلبي

بانوراما القوة عبر التاريخ
مع فجر الحضارة أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب ، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة ، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة ، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لانتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع ، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود ، والعدم يلف الكون ، والانتحار ينتظر الجميع ، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة . لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة ، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة : ياأبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم ، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد ، أو سباق الماراتون ؟؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته ، كما اعترف للقاريء بأنني استغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة ، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام !! قلت لصديقي الدكتور عماد : هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون ؟ هز رأسه بالنفي ، قلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس ( دارا ) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون مما جعل العدَّاء اليوناني ( فيديبيدس _ PHEIDIPPIDES ) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين ( كم ) واسبرطة التي تبعد ( 224 كم ) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة وطلب المساعدة الاسبرطية من جهة أخرى ، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل ، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي . وصف المؤرخ ( ولز ) ( H . G . WELLS ) عبور كزركسيس ( XERXES ) لمضيق الدردنيل ( HELLESPONT ) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان : (( حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال ، قال عن نفسه إنه لسعيد ، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع فسأله عمه أرطبانوس فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك : أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة ، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين )) ( 1 ) وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الأغريق بحراً وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس ( MARDONIUS ) في معركة بلاتيا عام ( 479 قبل الميلاد ) براً على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس ، وكانت معركة بلاتيا ( PLATAEA ) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً ، لإنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية ، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الاغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها ، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة ؟ رحلة القوة نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح ، فهذا له بحثه الخاص ، والمقالة حصرت نفسها في تطورأداة القوة وطريقة استخدامها ، ومانريد تسليط الضوء عليه هو ( رحلة القوة ) كيف بدأت ؟ كيف نمت ؟ كيف تطورت ؟ وأين وصلت اليوم ؟ أي إننا نطبق منهج ( الجنيالوجيا ) ( GENIALOGY ) على علم الحرب (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))( 2 ) ، فهي محاولة لفهم كيفية بدء ( خلق ) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح ؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة !! . يمكن بللورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الأحدى عشر القادمة : 1 - المرحلة الأولى : يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي ، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما ، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً ( أسلوب لأقتلنك ) ، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة ، مقابلاً أسلوب ( القتل ) بأسلوب جديد مدهش هو ( التخلي عن القوة من طرف واحد ) ، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية .... ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر . 2 - المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة ، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي ( التعددية ) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات ( لأقتلنك ) ، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح ، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش ( الذكورية ) ، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة ، لإن مرض الحرب دخل في تركيب احلضارة فيما يشبه الخطأ ( الكروموسومي ) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا ( مرض ) . إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت ( دورة الحرب ) تأخذ نظماً تاريخياً ، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف . 3 - المرحلة الثالثة : أصبحت ظاهرة الجيوش ( الذكورية ) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة ( الدفاع ) عن المجتمع ، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وامبراطوريات التوسع إلى مايلي : أولاً : تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة . ثانياً : تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص ، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري . هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة ، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان ، أو الحرب ( العالمية ) القديمة بيم روما وقرطاجنة ، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب ، والثانية إلى ( العدمية ) فوق التراب وبذا ماتت الاثنتين عملياً !! (3) 4 - المرحلة الرابعة : كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين ( الأول ) : هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم ( هدنات ) لأخذ النفس ومتابعة الحرب ، من خلال قانون العنف والعنف المضاد ، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في القوة ، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد ( رد الفعل ) أي نصل لـلاتجاه ( الثاني ) : فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة ، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة ، فلو أردنا تصوير مايحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس ، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري ، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف ، أو هي حلقات الماء بألقاء حجراً فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية . أو انتشار موجات الصوت أو الضوء !! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة ، أو هي خدعة مؤقتة ، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس ( كذا ) 5 - المرحلة الخامسة : كان أمل القوى المتصارعة دوماً ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود ، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار ، ويلغي حتى وجوده الخاص ، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير ( أداة البطش ) وهكذا أغرى قديماً مثلاً الدولةَ الآشورية براعةُ الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع ( العربة الحربية الآشورية ) ذات الأنصال الباترة حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش ، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه !! ، وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة ، ومع امتداد هذه الذراع البطَّاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم ، فكلما زاد ( كمال ) أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب ، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا ، فحكمت بدون رحمة ، ودمرت ولم تأبه ، وسوَّت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب ، وحملت شعوباً بأكملها إلى معسكرات الاعتقال ، ومايزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع ( نبوخذ نصر ) . كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين ، إلا أن الحملات التي لاتنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور ، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لاتنتهي ، استنفدت في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ ( توينبي ) عن مصير النزعة الحربية ( الجثة في الدرع ) ( 4 ) 6 - المرحلة السادسة : تحت شعور ( السيطرة ) على مقدرات الناس تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن ، وسُخر العلم لذلك ، وهكذا حدث تناقض عجيب ، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب ، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له !! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافاً لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع ، كل ذلك تحت معلومات كاذبة ، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به ، وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب ، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئاً يذكر ( 5 ) ، بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان ، أنه لم يكن هو المستهدف به بالدرجة الأولى بل الإعلان الأمريكي لمرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية ، لإن اليابان كان في حكم المهزوم . ويقع الاتحاد السوفييتي في رأس قائمة الذين يجب إرعابهم ؟! . 7 - المرحلة السابعة : انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة ( الصدم ) و ( القذف ) والوقاية من خلال جهاز ( الدروع ) ، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية أثناء الهجوم كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة ، وكما يحدث تماماً أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس ، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة ، فالخيالة الخفيفة ، فالخيالة المدرعة ، وأخيراً العربات المدرعة . ( 6 ) وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم ، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع ، فراكب الحصان المدرع ، فراكب العربة المدرع ، والذي غلب ( كزركسيس ) في معركة ( بلاتيا ) كان نظام ( الفالانكس الأغريقي ) ( PHALANX ) عام ( 479 ) ق . م . الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ ( المطرقة الثقيلة ) ، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني والد ( الاسكندر الكبير ) الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة ، حيث تم صقل جهاز الفالانكس بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل ، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان ، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاماً لتطحن جيوش داريوس في معركة ( أربيلا ) عام 333 ق . م . استطاع الاسكندر بجيش لايتجاوز ( 47 ) ألف مقاتل أن يحطم جيوش ( داريوس ) كما تفعل المطرقة في صدم وعاء من الفخار !! فعلى الرغم من جيش داريوس الهائل والمكون من قرابة مليون من الجنود !! والفيلة والعربات ذات الأنصال ( العربات الآشورية ) فإنها لم تصمد أمام جهاز ( الفالانكس ) الأغريقي والمكون بشكل رئيسي من المشاة المدرعين ، المزودين بالحراب الثقيلة الطويلة ، في أرتال منظمة تعمل كالمطرقة في الاختراق وتتحرك في مجموعات تشبه كل مجموعة ( القنفذ ذو الأشواك ) . ثم جاء دور ( الليجيون - LEGION ) الروماني الذي تسيد الصراع لقرون لاحقة بفضل التطوير الجديد على نظام ( الفالانكس ) الاغريقي ، فأضاف السيف الاسباني القصير المعمر وأنقص طول الرمح ليطور الرمح الخاص به بطول قدمين ( PILUM ) ، إلا أن نظام الليجيونات الرومانية تم هزيمته واختراقه سواء بمبدأ ( الكماشة ) الذي طبقه هانيبال في معركة ( كاني - CANNAE ) ( 7 ) بحيث أصبح لفظ كاني دليلاً على الكماشة الفظيعة !! أو عن طريق الجرمان الذين طوروا ( الفأس مخترق الدروع - الفرانسيسكا ) أو أخيراً على يد الخيالة القوط في معركة ( أدريانوبل - ADRIANOPLE ) عام ( 378 ) م حيث تسيد راكب الحصان الذي يستخدم سلاح الصدمة ( الرمح والقوس ) للفترة التالية . ثم جاء الدور من جديد ليُلغى دور الخيالة الخفيفة وأقواسها الممتازة على الرغم من براعة أصحابها كما حصل لجيش ( العاصفة ) القديم المتمثل في جيوش جنكيزخان التي لم تقهر ، كان ذلك بواسطة ظهور الخيالة المدرعة والتي أرعبت الناس حينما ظهر الملك ( شارلمان ) يلمع بالحديد المخيف تحت اشعة الشمس حينما حقق انتصاره في معركة ( بافيا ) عام 814 م ؟! ثم جاءت هزيمة الدروع من داخلها فقد أثقلت الفارس إلى الدرجة التي لم يعد الحصان قادراً على حمل كل هذا الحديد ، وكان منظر سقوط الفارس المدرع من ظهر الفرس على الأرض يثير الشفقة لإنه لايعود بعدها يستطيع حراكاً كما يحصل مع الحيوان البحري إذا اخرج من الماء !! وعندما بدأ ترقيق الدروع فاجأتها أسهم القوس المتصالب والقوس الطويل في كلٍ من معركة ( هاستنجز ) عام 1066م تلك التي انتصر فيها الدوق ويليام واحتل فيها بريطانيا ، أو في معركة كريسي عام 1346 ميلادي حيث كان بإمكان السهم اختراق الدرع والفخذ وتسمير الفارس في سرجه الخشبي !! وعندما أراد الفلاحون السويسريون التخلص من الأقطاع الألمان طوروا سلاحهم الخاص بهم والذي يُرى في المتاحف الآن ( الهالبارد ) ذو نهاية ثلاثية : رمح للطعن وفأس لضرب الخوذة ثم خطاف لنتر الفارس من ظهر الحصان . ثم جاءت القفزة النوعية في تطوير الأسلحة النارية فمع البارود بطل دور قلعة ( الإقطاعي ) ومعه النظام الإقطاعي ، إلا أن البندقية الأولى وحاملها ( الموسكيتير ) وجد صعوبة في التكيف معها بين الحشي والإشعال والإطلاق لمرة واحدة ، حتى جاء القائد المبدع فريدريك لينجز انتصاره الرائع في معركة ( لوثن ) من خلال الاستخدام الجيد للسلاح الناري ، وأمكن تطوير أمد الرصاصة وقوة انطلاقها من خلال أمرين تطويل السبطانة و ( حلزنتها ) ، ولبطء الحشي في المراحل الأولى تم إضافة ( السونكي ) كي تأخذ البارودة وظيفة الرمح والبارودة بنفس الوقت !! واستمر تطوير نظام ( لأقتلنك ) ، وعندما أمكن الوصول إلى ( الماشين غن - الرشاش ) استطاع الجنرال كيتشنر دحر المهديين ورماحهم في السودان ، كما قُتل من خيرة جنود كيتشنر في الحرب العامة الأولى ستين ألفاً في إحدى الهجمات برشاشات الألمان المتمركزين في وحول ( السوم ) ، ويعتبر نابوليون المعلم الكبير في استخدام النظام المدفعي وبه شق الطريق لأمجاده في حروب أوربا قبل أن يهزم في واترلو ، ومع تطوير الطيران والرشاشات والمدفعية ثم الدبابات وأخيراً الغازات السامة بدأت معارك الحرب العالمية الأولى تتحول إلى مسالخ بشرية فعلية ، حيث قتل في إحدى المعارك في ( السوم ) في مدى أربعة أشهر مليون و265 ألفاً من الشباب الأوربي بين ألماني وفرنسي وبريطاني . ثم ( ختامها مسك ) ؟! اختتمت الحرب العالمية الثانية بتطوير الصاروخ والسلاح النووي ، وبتركيب الثاني على ظهر الأول لم يبق مكان على وجه الأرض ينعم بالامن ، وبذا انقلب السحر على الساحر . 8 ـ المرحلة الثامنة : كانت الحروب في العصور الوسطى تعتمد الجنود المرتزقة ، فأعدادهم قليلة والمعارك تعتمد الفروسية ، وتكاليف ساحات المعارك يبقى بين حملة السيف ، ومع الثورة الفرنسية والأمريكية حصل انعطاف في تركيبة الجيوش ، فأصبحت شعبية وبالتالي بدأ المدنيون يعانون من الحروب بشكل مباشر وغير مباشر ، وبدأ مايسمى ( الحرب الشاملة ) ، وأصبح أكثر الضحايا بين المدنين وهكذا تغيرت الصورة وانقلبت الآية . 9 ـ المرحلة التاسعة : في صباح يوم 16 تموز - يوليو من عام 1945 ميلادي وفي تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً ، حصل انعطاف ( نوعي ) في امتلاك القوة ، حيث وضع الإنسان يده على الوقود الكوني هذه المرة ، حيث تم تفجير قنبلة ( البلوتونيوم 239 ) التجريبية ، وكانت قوة التفجير التجريبية في ذلك الصباح البارد حوالي 15 ألف طن من مادة ت . ن . ت . ، وطبق هذا السلاح بكل أسف في إبادة البشر مثل فئران التجارب تماماً وكانت كل قنبلة ( مع أن كل محتواها لم ينفجر تماماً كما تبين بعد ذلك ) قد مسحت مدينة عظيمة بمعظم سكانها ، مع أن قدرة التدمير كانت متواضعة ؟! وقد يتساءل القاريء وكيف كانت متواضعة ؟ والجواب أن الجيل الثاني من السلاح النووي طور قوة التفجير حتى وصل بقنبلة تجريبية إلى ( 58 ميجاطن ) أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 3800 مرة ) ؟؟!! واعتمد الجيل الثاني على مبدأ الالتحام ( لمادة الهيدرجين ولذا سميت هيدرجينية ) وليس الانشطار ( انشطار مادة اليورانيوم 235 أو 239 ) كما كان مع الجيل الأول . وكان وراء القنبلة الأخيرة الاتحاد السوفيتي فأراد البنتاغون إنتاج قنبلة بقوة 100 ( مائة ) ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 6666 ) مرة ، وعند مناقشة الموضوع شعر الجميع أن هذا الطريق الذي يمشون فيه ليس إلا ( جنون مطبق ) و ( انتحار جماعي ) و ( تلويث للبيئة ) وتهديد جدي للإنسانية ، التهديد هذه المرة بالفناء الماحق المترع بالعذاب ، حيث لاتوجد كرة أرضية ثانية نجرب عليها أو ننتقل إليها بعد خراب الأولى ؟! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) . ثم مشت الرحلة إلى جيل ثالث من القنابل النووية ، ثم مالت النفوس إلى إنتاج ( تفاح ) من الحجم الصغير أي عيار كيلو طن واحد فقط كما هي مع الألغام المزروعة في الجولان السوري ، أو تلك التي تحمل في المعارك التي ينبغي تطويقها لتطلق من مدافع بسيطة ؟؟ هذه المعلومات هي يوميات بسيطة لاستراتيجي الدفاع والأمن والتسلح العالمي اليوم ، وكما ذكرتُ فهذه المعلومات هي لرفع مستوى ( الوعي ) عند إنساننا ، كي يدرك طبيعة العالم الذي نعيشه ، وأن عهد البطولة قد ولى ، وملف الحروب قد طوي ، وأن أشعار ( أبو تمام ) لم تعد تطرب ( السيف أصدق أنباءً من الكتب ) . 10 ـ المرحلة العاشرة : عندما كتب ابن خلدون في مقدمته عن عدم اعتماد الأخبار لمجرد نقلها عن الثقات ، بل يجب عرضها وقارنتها مع ( أصول العادة ) و ( قواعد السياسة ) و ( طبيعة العمران ) الخ ... قام بستة تطبيقات على ذلك ، منها أن جيش موسى في التيه لايعقل أن يبلغ ( 600 ألف مقاتل ) واعتمد ابن خلدون مشكلة الاتصالات في الجيش في تفنيد الخبر ، فكيف يقاتل جيش لايعرف طرفه مايحدث في الطرف الآخر ؟! وهو محق بالنسبة لعصره ، ولو بعث ابن خلدون في أيامنا الحالية لما تعجب من حملة ( بارباروسا ) التي قادها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي بخمسة ملايين جندي ، والسبب هو أن مشكلة الاتصالات أمكن حلها والسيطرة عليها . إن تحقق هذه الإمكانيات قفز بالحرب قفزة ( نوعية ) ، فمع التراكم المعرفي والتقنيات الحديثة ، لم تعد الحرب كائناً بسيطاً ، بل تحولت إلى كائن خرافي ، ولم تعد الحرب ( حرباً ) بالمعنى الحرفي للكلمة . يقول صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة الجنرال فيكتور فيرنر : (( إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل ؛ ذلك أن حجم التدمير وسرعته اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط ، وإنما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب ، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ، ووزنه 200 كلغ فإنه يبقى إنساناً بالرغم من أنه غير عادي . ولكن هل يمكن أن نعتبره كائناً بشرياً إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه عدة أطنان ؟؟ )) ( 8 ) 11 ـ المرحلة الحادية عشر : ثم رأت أعيننا شيئاً لم يخطر على قلب بشر في العالم القديم ، فلو قام من قبره الآن داريوس أو الأسكندر الكبير أو نابوليون أو جنكيزخان لفركوا عيونهم من هول الجبروت الذي امتلكه الإنسان المعاصر ، ثم سوف يتحول عجبهم إلى مايشبه الجنون فلايكاد يصدقون رؤية الظواهر التالية : الأولى : سقوط أعظم امبراطورية ، تملك أعظم سلاح امتلكته قط أي قوة مرت على وجه البسيطة حتى اليوم ، فالاتحاد السوفيتي هوى صريعاً لليدين والجنب ، وفي قدرته تدمير الكوكب الأرضي أربع مرات ؟! الثانية : صعود قوى لاتملك أي سلاح ، بل هي مجردة من السلاح ومشروط عليها أن لاتتسلح مثل اليابان وألمانيا ، وهذا يعلمنا أن الصعود لايحتاج لقوة ، فهل يدرك الأفغانيون هذا الدرس من التاريخ ؟! أو هل تفهم الحركات الإسلامية المتلمظة للقوة منطق التاريخ ؟؟! الثالثة : إن المشكلة التي تواجه مالكي البلوتونيوم والسلاح النووي اليوم هو كيفية التخلص منه وليس تركيبه ؟؟ إن هذه المرحلة التي عاصرناها شيء عجيب حقاً فقد رأينا ثلاث أمور كل واحدة أعجب من أختها ؛ رأينا توقف ظاهرة الحروب عند من يملك العلم والمعرفة واستمرارها عند المتخلفين ، ورأينا اتحاد الأوربيين الذين اقتنعوا بأن الحرب لاتحل المشكلات بل تخلق المشكلات سواء منتصراً أو مهزوماً ، ورأينا انتهاء الحرب الساخنة والباردة ووُدعت الأخيرة بجنازة خاشعة في باريس إلى المقبرة عام 1989 م . فإذا استطعنا هضم الأفكار السابقة في مجمل بانوراما القوة فيمكن طرح الأفكار التالية : 1 ـ تقول الفكرة الأولى : إن الجنس البشري جرب حظه من الحروب وامتلاك القوة ، ووصل ليس فقط إلى نهاية الطريق المسدود ، بل مشى كالأعمى يتلمس الطريق في هذا الكهف المظلم ، حتى لمس الجدار الصاعق الحارق فاحترقت يداه فهو مايزال يعالج يديه المحروقتين ، وسمع دمدمة الشياطين في جهنم ( الفناء النووي ) خلف الجدار !! وهذا أكثر من درس للمغفلين والحمقى الذين يريدون دخول مخاضات عبرها غيرهم ، ووصلوا إلى هذه النتيجة من عبثية الحرب وعدم جدوى امتلاك الأسلحة بما فيها خرافة السلاح النووي ، ولعل عدم امتلاك العرب لهذا الصنم سوف يوضع في تاريخهم كرواد إنسانيين . 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن الذين وصلوا إلى نهاية الرحلة واحسوا بعدمية هذا الاتجاه أخذوا يرجعون عنه ، ونحن مثلنا كما يقول المثل السوري ( يطعمك حجة والناس راجعة !! ) فإذا فات موسم الحج أبينا إلا أن نقيم كل يوم موسم حج للعنف والقوة ؟! وهذا يوحي بأن هناك فريق من الناس خارج التاريخ والجغرافيا ، وتشوش عليهم الفرقعات التي تحدث هنا وهناك ، بل يمضي بعضهم إلى اعتبار أن الحروب ستبقى إلى قيام الساعة ، والعالم المعاصر يحتفل بتدشين إغلاق هذه الدكاكين العتيقة . 3 ـ الفكرة الثالثة تقول : إن نفس القوى العظمى التي أدركت هذه الحقيقة تحاول أن تعمي على عيون وعقول الآخرين كي ( تزغلل ) الرؤية عندهم ، وهكذا مازالت أسواق الأسلحة قائمة ( بما فيها البلوتونيوم المهرب ) وهم يدركون تماماً أنهم يبيعوننا عتاداً ميتاً ولى وقته وانقضى ، ويفعلون هذه من أجل المحافظة على امتيازاتهم في العالم ، فالعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين منها 10% تأكل خيرات 90% وشريحة مقلوبة بنفس النسبة أي تشكل 90% ولكنها تمنح 10% من خيرات العالم ؟؟!! وبالطبع فهذا وضع مرضي يجب التخلص منه ، وهي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى ، فسوف نبقى ندفع فواتير ( نعال الجمال ) حتى نرشد ( 9 ) 4 ـ والفكرة الرابعة تقول : إن الذين يريدون إشعال الحروب يخطئون مرتين وليس مرة واحدة ، الأول أنهم انقادوا ودخلوا الحقل الذي لايسيطرون عليه ، بل يسيطر عليه الآخر ويعرف أسراره ، فنهاية الحرب لن تكون بأيديهم ، بل بيد من يملك تمويلها ، فينصر من يرى أن من مصلحته نصره والعكس بالعكس ، وهذا تناقض عجيب يعيشه العالم هذه الأيام حيث لايقاتل من يستطيع ، ويقاتل من لايستطيع ولايملك مقدرات نهاية الحرب !! وهكذا فإن من يدخل الحرب يدخل مكان اللعبة التي لايعرف أسرارها بل يتحول هو إلى أحد رموز اللعبة ، وللخلاص من هذا وجب إما الخروج الكامل من اللعبة أو عدم دخولها ابتداءً .. من كان له أذنان للسمع فليسمع . بقلم الدكتور خالص جلبي هوامش ومراجع : ( 1 ) معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) - هـ . ج . ولز - المجلد الثاني - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ص 367 . ( 2 ) سورة العنكبوت - الآية 20 ( 3 ) راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر في كتابه أفول الغرب عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما - الجزء الأول ( 4 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ - جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية ( 5 ) كشفت مجلة صورة العلم الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر ، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت ، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء ، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار _ لحسن الحظ _ في موضوع السلاح النووي ، ولكن بنفس الوقت فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ ف 1 وف 2 الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب الثانية ( 6 ) راجع في هذا كتاب الأسلحة والتكتيكات - ونترنغهام وبلاشفورد- سنل - ترجمة المقدم حسن بسام - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 7 ) معركة كاني عام 216 قبل الميلاد سحق فيها القائد القرطاجي جيشاً رومانياً ضخماً وبلغ قتلى الرومان فيه حوالي خمسين ألفاً من أصل ثمانين ألف مقاتل ، واعتمد مبدأ الكماشة على تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين حيث ينسحب القلب إلى الداخل وينفرج الجناحان ، فيجر معه الجيش الروماني إلى الداخل في الحين الذي تطبق فيه الأجنحة من الجانبين والخلف وبالتالي يتحول الجيش المقاتل إلى كتلة مختنقة تقاتل فيها الحافة فقط ، ويتحول جيش هانيبال إلى مفرمة لحم !! ( 8 ) الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير - الجنرال فيكتور فيرنر - ترجمة هيثم كيلاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 21 ( 9 ) يروى أن وصياً كان يعرض على القاصر كل سنة أمواله وفي نهاية الحساب يقول : وقد دفعنا يابني ثمن كذا وكذا لنعال الجمال ، ففي إحدى السنوات قال الغلام : ولكن ياعماه ماأراه أن الجمال لاتنتعل الأحذية ، قال الوصي أردت امتحانك فقد رشدت فهذه أموالك أعيدها إليك . والفرق بيننا وبين القصة أننا لن نسترد مادفع ثمناً للأحذية .
اقرأ المزيد
خيار شــمشــون الجبار !! (السلاح النووي الإسرائيلي بين الاسطورة والحقيقة)
لم تولد فكرة السلاح النووي الاسرائيلي في ( المدراشا )( 1 ) بل ولدت في ( الفانين زي )( WANNENSEE ) ( 2 ) . لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل ، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م ، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م ؛ حينما خطط ( هايدريش ) الرهيب مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليون من اليهود في أوربا ، ولم يولد الجنين النووي الاسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا ، ومن الغريب _ وهذه آلية معروفة في علم النفس _ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته ، فهذه مأساة إسرائيل ( اسبرطة ) الجديدة ، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني ( تيطس ) ( 3 ) ومحارق النازية في ( آوسشفيتز _ AUSSCHWITZ _ ) و ( تيريبلنكا ) . فالنازيون خططوا لـ ( الحل النهائي ) الجرماني ، ومؤسسوا الصهيونية خططوا لـ ( الحل النهائي ) الاسرائيلي خيار شمشون . ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم فلنسمع قصته المثيرة . قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلاً _ وهو محق في هذا _ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن ( يفهمون ) في العالم العربي : يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوباً من القهوة !! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب ، هل تنظر متفرجاً بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء ؟ وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق ( المجنون ) من أجل الردع والتوازن ، أي أنه ينصح بالمضي في نفس الطريق الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد ( العتيق ) . وعقب الزميل الثاني : الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل ، أما الزميل الثالث فأضاف أنا مع أفكار السلام ( النظرية ) ولكن الواقع أثقل في الميزان ، والذي أوصل أوربا إلى السلام هو الردع المتبادل ، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل . ************************************* هذه الأفكار التي أنقلها إلى القاريء تمثل ( عينة ) من فهم العالم الذي نعيش فيه ، كما تمثل تشرب البيئة لـ ( ثقافة العنف ) التي يستحم فيها العالم جميعاً ، هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلاً لأشخاص بأعينهم ، بل إفراز ثقافة ، وتعبير وسط اجتماعي ، وفهم لطبيعة علاقات البشر ، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه . لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين _ فضلاً عن السياسيين _ لزيادة معلوماتهم ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة ، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث ، هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقاريء العادي كي تمنحه ( وعي ) العالم الجديد الذي نعيش فيه ، مسارات القوة ، تطور التكنولوجيا النووية _ بما فيها الاسرائيلية _ دورة التاريخ وعبرة الماضي ، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم . ***************************************** لايمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه ، معلقاً في الفضاء ، مفصولاً عما حوله ، مالم يدخل ضمن ( القانون الجدلي ) الخاص به ، ضمن شبكة علاقاته ، فكل ( حدث ) هو ( نتيجة ) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو بنفس الوقت ( سبب ) لما سيأتي بعده ، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات ، ولايشذ عن هذا القانون بل ويصدق عليه أكثر حدث ( شمشون الجبار ) الذي بين أيدينا ؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال ( ايرنست بيرغمان ) و ( بن غوريون ) و ( عاموس ديزحاليط ) ولدوا وعاشوا في ( الهولوكوست ) ( 4 ) ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى ، وحذرهم غير متناه ، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود ، بما فيها الغرب ممثلاً بفرنسا التي بنت لهم مفاعل ( ديمونا ) ونظام الصواريخ ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الاسرائيلي ( 5 ) ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء . وأكثر من هذا فحتى مشروع ( مانهاتن ) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من ( شبح ) أن هتلر يُصَنِّع السلاح النووي ، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئاً يذكر ، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك ( 6 ) وكان في مشروع ( لوس آلاموس ) _ المخبر الذري الذي ضم الفيزيائيين النوويين في ذلك الوقت _ طائفة من العلماء اليهود الذين اندفعوا أيضاً للعمل تحت ضغط هذا الشعور ، يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو ( روبرت اوبنهايمر ) ، ولاننسى أن نذكر أن نفس آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت ، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي ( سيلارد ) الهنغاري الهارب ، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام ، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله : الرياضيات خالدة والسياسة زائلة !! . ********************************** لابد قبل الدخول في البحث من شرح كلمة ( خيار شمشون ) ( SAMPSON OPTION ) ومن أين جاءت ؟ فهذا المصطلح تم طرحه في لقاء ( المدراشا ) الذي أشرنا إليه في قبو الموساد ( الاستخبارات الإسرائيلية ) حيث تم استعماله في ذلك اللقاء التاريخي الحاسم ، وأصل هذه الكلمة من العهد القديم ( التوراة ) وخلاصتها أن شمشون كان جباراً عاتياً ، وكان يكفيه أن يقتل ألف شخص بلحي ( فك ) حمار ، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة ، فأرسلوا له فتاة جميلة هي ( دليلة ) كي يُغرم بها ويَدُلَّها على قوته ، ويفضي إليها بسره ( قوتي في خصائل شعري السبعة فإذا حُلقتْ ذهبت قوتي ) فلما نام على ركبة دليلة خرج الكمين فقص شعر شمشون ليتحول إلى قط وديع ، وإمعاناً في إذلاله أعموه بأن سملوا عينيه ، ثم سَخَّروه في الطحن بدلاً عن حمار الرحى ، ثم عرضوه لكل الإهانات الممكنة أمام الناس ، وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لايعلمون (( وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح ، نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون ، فدعا شمشون الرب وقال ياسيدي الرب اذكرني وشددني ياالله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ، وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره وقال شمشون : لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته )) ( 7 ) فمغزى هذه القصة إذن هي المثل الشعبي المعروف ( علي وعلى أعدائي ) أي أن مصممي السلاح النووي الإسرائيلي أدركوا من نقطة البداية ، أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط ، هي لحظة التهديد بالفناء ، فإذا واجهوا خطر الفناء فإنهم لن يعيدوا قصة ( الماسادا ) قصة الانتحار الجماعي مرة أخرى ، هذه الفكرة كانت ومازالت محور التفكير الاسرائيلي ( لن تتكرر مآسينا مرة أخرى ) و ( لن تتكرر محارق آوسشفيتز ) ، هذه هو ( الدينمو) الفكري ، والنظارة اللونية التي ترى إسرائيل بها العالم . ******************************** لنسمع القصة من بدايتها إذن ............ إن الذي دشن القصة لم يكن ( ارنست ديفيد برغمان ) ولا ( أهارون كاتزير ) ولا ( شالحفين فراير ) الأدمغة العلمية اليهودية ، الذس دشن المشروع فعلاً هم ( هملر ) و ( هايدريش ) و ( أوزفالد بول ) !!! ( 8 ) ففي صبيحة يوم بارد هو العشرين من يناير كانون ثاني عام 1942م في ألمانيا النازية وعلى ضفاف بحيرة برلين ، تم لقاء على غاية الأهمية بين أقطاب الحكم النازي ، هذا اللقاء السري الذي أعد بعناية فائقة وبسرية مطلقة إلى درجة إنه لم يخلف وراءه أية مخطوطات أو وثائق ورقية ، كان قائد اللقاء ( هايدريش ) مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو والحرس الخاص ( اس اس )( SS ) في هذا اللقاء تم طرح ( فكرةً ) ترتعد لها المفاصل ، وهي تنظيف أوربا من كل يهودي ( 9 ) وهذا يحمل ضمناً القضاء على حوالي ( 11 ) مليون يهودي موزعين على الشكل التالي : ( 131800 ) يهودي مازالوا يقيمون في أراضي الرايخ الأصلية ، وخمسة ملايين في الاتحاد السوفيتي ، وثلاثة ملايين في أوكرانيا ومليونان وربع في بولندة وثلاثة أرباع المليون في فرنسا وثلث مليون في بريطانيا ( 10 ) . كتب ويليم شيرر عن هذا اللقاء : (( وقد دعا هايدريش إلى اجتماع ضم ممثلي كافة الوزارات المختلفة والوكالات المتفرعة عن الحزب النازي والفرقة لخاصة ، وعقده في وانسي ضاحية برلين الجميلة في العشرين من كانون ثاني عام 1942م ، وقد لعبت الوقائع المدونة لهذا الاجتماع دوراً مهماً في بعض المحاكمات الأخيرة التي أقيمت في نورمبرغ ، وعلى الرغم من النكسات الراهنة التي منيت بها القوات المسلحة الألمانية في روسيا فقد اعتقد الموظفون النازيون أن بلادهم قد كسبت الحرب وأن ألمانيا ستتحكم عما قريب في جميع انحاء أوربا بما فيها انكلترا وإيرلندا ، ولهذا فقد أبلغ هايدريش هذا المؤتمر الذي ضم نحواً من خمسة عشر موظفاً من كبار الموظفين أن نحو من أحد عشر مليوناً من اليهود سوف يشملهم الحل النهائي للمشكلة اليهودية في أوربا )) ( 11 ) هذه الأجواء هي التي فرخت السلاح النووي الإسرائيلي قبل أن يولد في صحراء النقب ، فأفران الغاز في آوسشفيتز هي التي قادت إلى أفران المفاعل النووي في ديمونا . ولكن جرت العادة أن العقل يتعطل عن التفكير في الرعب الشديد والحزن الشديد وهذا ماحصل للعقل اليهودي المعاصر المحاصر بذكريات الإعدام الجماعي وغرف الموت بالغاز !! ****************************** لم يمر اجتماع ( المدراشا ) بدون معارضة سواء أخلاقية أم تقنية ، خاصة من أولئك الذين عاشوا ( الهولوكوست ) فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك ؟! وقد صدرت عدة أفكار معوقة لفكرة الانطلاق النووي ، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول ( بلغت 15000 دكتوراة ) وأفضل الأيدي الماهرة ، وزبدة الصناعات ، وجبلاً من الدولارات ، ثم في سبيل سلاح لن يستخدم ؟؟ هل هناك حماقة أكبر من هذا ؟! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ورقة تقدم بها دماغ مهم هو ( بنيامين بلومبرغ ) تفيد أن العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاماً ، كما ورد عائق تقني آخر برز في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي فضلاً عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية . لذا انتهى الاجتماع على ثلاث خيارات بين متابعة البحث العلمي ، وإيجاد قطع تجميع السلاح ، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم ؟؟ وهذا الذي كان . ************************* بدأ حفارو القبور النوويين بالعمل الصامت في إزاحة مئات الأطنان من التربة في صحراء النقب لايراهم إلا الغربان في السماء ، وحشرات النهار وأفاعي الليل البهيم ، يبنون طبقاً تحت طبق حتى بلغت ثمانية . كانت التقنية الفرنسية تصب عصارة فكرها وأحدث تقنياتها ، وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة ( يو - 2 ) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس ، ولكن الإدارة الأمريكية كانت بين من يغض الطرف ومشجع ومتذمر إلا أنه لم يكن هناك أمر لإيقاف هذه العمل أو التأكد منه بجدية . وفي عام 1986 روى رجل اسمه ( فانونو ) كان يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل ( ديمونا ) وزعم أن عنده صوراً التقطها بنفسه ( 57 صورة ملونة ) لكل أجزاء المفاعل ، عندها ادرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطاً بعيدة في إنتاج السلاح النووي ، وكلف هذا فانونو أن تصطاده الموساد في لندن ويحكم بالسجن لمدة 18 عاماً . وفي عام 1991 نشرت مجلة الشبيجل الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ ( الرحم النووي ) في ديمونا . بعد الهجوم الثلاثي على مصر وانسحاب إسرائيل من سينا ، قايضت فرنسا قبول إسرائيل بقبول الانسحاب مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل ( ماركول ) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي الرون . وبدأ المشروع يغلفه السرية والصمت المطبقين . وفي أوائل عام 1968 بدأ إنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كغ اسبوعياً ، وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج مالايقل عن خمس قنابل نووية سنوياً وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى . ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت اسرائيل في مطلع عام 1970 مالايقل عن عشرين رأس نووي ، وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي ، ثم مشى التطوير في نفس بانوراما القوة الدولية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة سواء في اتجاه التكبير أو التصغير . وكما كان المفاعل يبنى تحت الأرض ، كان هناك وفي نفق آخر في منطقة ( هربات زكريا ) وبمساعدة تقنية فرنسية ( شركة داسو ) يتم تطوير نظام الصواريخ (( ذهل يغال ألون لما رآها وصرخ : كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وهاهي اسرائيل تبني صواريخ نووية ، إننا شعب عظيم ، لقد انبعثنا أحياء بعد أن كنا أمواتاً ، في جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين . إننا سبارطة عصرنا )) ( 12 ) هل ماقاله يغال ألون صحيحاً ؟؟ في الواقع لقد تحول داوود إلى جوليات المدرع بعد مرور ثلاثة آلاف سنة !! ************************* وفي الوقت الذي كانت الرؤوس النووية تنضج في إسرائيل لتحمل من النقب إلى حيفا حيث تركب تهيأة ليوم الفصل ؛ يوم شمشون الجبار ، كان العالم يمضي في طريق القوة بكل عنف ، وإذا أردنا أن نأخذ بانوراما للاستراتيجية النووية الجديدة ، فإنها تبدأ مع قنبلة هيروشيما ، حيث تم إلقاء قنبلة انشطارية من قوة ( 15 ) كيلو طن ، أي ( 15 ) ألف طن من مادة ت . ن . ت شديدة الانفجار ويمكن تقسيم رحلة الصعود النووي إلى المراحل التالية : 1 - كانت البداية مع السلاح الانشطاري بشكليه ( اليورانيوم ) و ( البلوتونيوم ) ، ويتم استخلاص اليورانيوم ( 235 ) من خام اليورانيوم ( 238 ) إلا أن البلوتونيوم ( 239 ) هو تركيبي وتم الوصول إليه من خلال المفاعل النووي الذي نجح في إنشائه للمرة الأولى الإيطالي ( انريكو فيرمي ) والقنبلة التي أُلقيت على هيروشيما كانت قنبلة يورانيوم ( 235 ) ( سميت الولد الصغير وحجمها بقدر اسطوانة الغاز الكبيرة ) وبدون تجريب ، في حين أن قنبلة ناغازاكي كانت قنبلة البلوتونيوم ( 239 ) وأخذت اسم ( الرجل السمين ) بسبب انتفاخها ، وبلغ وزنها 2 طن واختلفت تقنيتها تماماً عن قنبلة الولد الصغير ، وهي التي جربت في صحراء نيو مكسيكو ، في منطقة ( ألاموجوردو ) وأعطيت لقب ( ترينتي ) أي الثالوث المقدس !! وكانت القدرة التدميرية لاتزيد عن عشرين ألف طن من مادة الـ ت . ن . ت . لكلا القنبلتين ، ومع تركيب المفاعل النووي أصبح هذا ( التنور ) يخرج من ( الأرغفة النووية ) مايشاء !! فلاغرابة أن أصبح مخزون الدولتين العظميين مايزيد عن خمسين ألف رأس نووي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي عدة مرات !! 2 _ مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفيتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949 وأعطاها لقب ( جو 1 ) نسبة إلى جوزيف ستالين ، فجُن جنون البنتاغون واستدعوا ( ادوارد تيللر ) للمضي في مشروع جهنمي كبير لاتعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء ، في الحين الذي تم استدعاء الرأس العلمي ( روبرت اوبنهايمر ) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيت وتهمة الجاسوسية . وفي آذار من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن ( أقوى من قنبله هيروشيما بألف مرة !! ) فقنبلة هيروشيما متواضعة جداً فهي من عيار ( 18 ) كيلو طن أي ألف طن ، أما هذه فهي من عيار ( مليون طن ) من المادة المتفجرة ، كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود ، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق ( درجة ثالثة ) حتى بعد 45 كم من مركز الانفجار ؟! وتُوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفييتية من عيار 58 ميجاطن أي أقوى من قنبلة هيروشيما ب( 3800 ) مرة !! وفكر البنتاغون بمشروع أشد هولاً ( تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن ) ، ولكن الطرفان شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق !! 3 - في المرحلة الثالثة تم الوصول لما اعتبروه قنبلة نظيفة وماهي بنظيفة ( القنبلة الشعاعية النيوترونية ) حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية ( البشر ) دون المعدات والأبنية والمنازل لإنها أثمن من الإنسان !! 4 - في المرحلة الرابعة بدأوا في اتجاه تصغير القنبلة فبدلاً من الكيلو طن ؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم انتاج قنابل من عيار 30 - 100 طن من المادة المتفجرة ، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما ، أي بروز السلاح النووي التكتيكي ، ويمكن لهذه ( التفاحات ) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها ، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي ، بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة ، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة ( التقليدية ) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام ( بدايات ) السلاح النووي ( التكتيكي ) ليصل في النهاية إلى السلاح النووي ( الاستراتيجي ) تحت مبدأ ( التصاعد الآلي ) الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال ( بيير غالوا ) ( 13 ) 5 - كانت الحاجة ماسة إلى ( نظام نقل ) للرأس النووي ، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم ، والتي كان قدوضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيداً عن قاذفات الحلفاء ، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي ، ومع إرسال ( اسبوتنيك ) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي أصبح بالأمكان حمل رأس نووي بدلاً من قمر صناعي !! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات ، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق !! فالغواصات النووية السوفيتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والاطلنطي كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 - 6 دقائق . 6 - كان التكتيك الأول هو ( الهجوم ) فتحول إلى ( الدفاع ) ثم بطل كلاهما وشرح ذلك كما يلي : ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم ، ولكنن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب ، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم ، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما ً عليه ، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاسترتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها ، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب ، فبرزت عقيدة ( الانتظار النووي ) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي ، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي !! ولكن بأربعة شروط : 1 - الصواريخ المضادة المحمية 2 - التمكن من اختراقات العدو المهاجم 3 - الكمية الكافية 4 - العمل الآلي . ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة الأول : ( السيلو ) أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى ، وليس هذا فقط بل خرسانة مسلحة لسبعين متر ويزيد تحيط بالصاروخ النووي ، بحيث لاتؤثر فيه حتى الزلازل ، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة ( البئر ) النووي المختبيء في الأرض وبقنبلة هيدرجينية ، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم ، ومن هنا ندرك عمق كلام ( شينتارو ايشيهارا ) الياباني الذي كشف النقاب في كتابه ( اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا ) حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان . الثاني : المنصات المتحركة والثالث المحمول في الغواصات النووية . ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتباً وأفنوا اعمارهم يمكن عرض حزمة الأفكار التالية : 1 - الفكرة الأولى تقول : إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية ، ورحلة القوة النووية . وأن العصر ( الحراري النووي ) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ، ولا عصر المدفع والبارجة ، والذي تفطن لهذا هم العلماء ولا السياسيون ، لإن كثيراً من السياسيين لايرون أبعد من أرنبة انفهم ، وهو ماانتبه إليه غورباتشوف في كتابه ( البيروستريكا ) فطرح فكرة ( الانتحار النووي ) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أُهاجِم أو أُهاجَم يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة ، وإن في قصة ( شيرنوبيل ) لعظة . وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي ، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون ( المعرفة ) سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه ، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب ، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين ، عجزاً عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها . 2 - الفكرة الثانية تقول : أصبح السلاح النووي مثل ( الصنم ) الذي لايضر أو ينفع ، فالناس يعظمونه ويهابونه ، وهو سلاح ليس للاستخدام ، ثبت هذا في أحلك الظروف وأكثرها احتياجاً ، مثل حرب ( كوريا ) و ( فيتنام ) ، وماحدث مع بني إسرائيل في هذا الصنم هو ماحدث مع السامري الذي أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى !! 3 - الفكرة الثالثة تقول : أن المضي في رحلة التسلح ستنتهي بالإفلاس والارتهان للآخرين كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي يفكك سلاحه الذري ، ويبيع البلوتونيوم ، ويصدر علماء الذرة ، وأن الذي طلَّق القوة هو الذي يبني المستقبل ويكتسح الأسواق كما في نموذج اليابان . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال ( معركة حضارية ) ، فالانتاج النووي يحتاج لقاعدة تكنولوجية علمية متقدمة ، وهزيمة الجيوش العربية المتكرر أمام اسرائيل هي هزيمة الشرق أمام الغرب المتفوق تكنولوجياً ، لإن إنجاز اسرائيل وعقول اسرائيل هي غربية كانت ومازالت ، وليست اسرائيل أكثر من امتداد ( جيب ) غربي للمنطقة . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن مشكلة العالم العربي هي ليست اسرائيل بالدرجة الأولى فهي ليست أكثر من ( ميزان حرارة ) لكشف حرارة الجسم العربي المعتل ، ومايخيف أكثر من الخراج الإسرائيلي وسلاح شمشون هو النزاع العربي العربي ، وفي اللحظة التي يشعر فيها الغرب أن العالم العربي نهض كما نهض الصين فسوف يتخلى عن فورموزا الشرق الوسط . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إذا كانت هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة فلماذا تنتج ؟ هل يجهلون أنها لاتضر ولاتنفع ؟ أغلب الظن أنهم يعرفون كل أبعاد اللعبة ، ولكن الذي لايعرف ينقلب إلى الأشياء المسخرة ، والذي يعرف قانون تسخير الأشياء هو الذي يتسخر له الكون أشياؤه وأناسيه يقول المفكر ( فؤاد زكريا ) في كتابه ( خطاب إلى العقل العربي ) : (( ويظل بعد ذلك سؤال محير هل هم يجهلون هذا ؟ أغلب الظن أنهم لايجهلون ، وإنهم على وعي بأن الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة ( عقلياً ) ، مادامت تؤدي إلى عكس المقصود منها ، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر ، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب الحرب ، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة ، أما إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب فسوف يكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه ، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج ( لعب ) مميتة لن يستخدمها أحد . وأغلب الظن أن هذا بعينه هو المقصود : فأسلحة الدمار الشامل تنتج من أجل الإنتاج ، لامن أجل الاستخدام ، لإن الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد ، أما الاستخدام فسيكون الجميع خاسرين ، ومن هنا كان واجبنا نحن شعوب العالم الثالث أن نحدد موقفنا من هذه المسألة مادمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة ، لإننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسية من حقائق الكون) (14) الهوامش والمراجع : ( 1 ) ( المدراشا ) مجمع الموساد ( الاستخبارات الاسرائيلية ) جنوب تل أبيب ( 2 ) ( الفانن زي _ WANNENSEE _ ) بحيرة برلين وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية لاستئصال اليهود من العالم ( 3 ) ( تيطس ) القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م ( 4 ) الهولوكوست أصبح تعبيراً معروفاً عن محرقة اليهود في التاريخ وبخاصة معسكرات الإبادة النازية ( 5 ) في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الاسرائيليين قال لهم : إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة وأنها ثانياً لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل وثالثاً يعرف الاتحاد السوفييتي ذلك . راجع سيمور هيرش \ خيار شمشون مكتبة بيسان ص 140 ( 6 ) يراجع في هذا كتاب ( سجناء العالم الذري ) الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم ( اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم ( ايرفين ) والحقيقي في مشروع ( مانهاتن ) هو ( روبرت ) من أن الألمان انتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان !! ولم يثبت هذا تاريخياً ( 7 ) سفر القضاة - العهد القديم ص 408 - 409 وقصة الماسادا انتحر فيها 900 من اليهود المحاصرين دفعة واحدة أثناء هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيطس عام 73 بعد الميلاد ( 8 ) ( هملر ) رئيس الجستابو الاستخبارات النازية و ( هايدريش ) مساعده الأيمن و ( أوزفالد بول ) الحاكم النازي البولندي وأحد الرؤوس الإجرامية في الحرب العالمية الثانية ، كانت نتيجة الثلاثة بالانتحار للأول والاغتيال للثاني والشنق للثالث راجع تاريخ ألمانيا الهتلرية - وليم شيرر - الجزء الرابع ص 52 ، وأما العلماء الثلاثة اليهود المذكورين فهم الرؤوس العلمية التي تسلمت رئاسة المشروع النووي بالتالي ( 9 ) استخدمت الكلمة الألمانية بالضبط ( تنظيف ) = SAUEBERUNG ) وهناك من فلول النازيين اليوم من نسمع خبر إحراقهم للأجانب كما هي في حادثة إحراق العائلة التركية أخيراً في ألمانيا !! ( 10 ) تاريخ ألمانيا الهتلرية جزء 4 ص 63 ( 11 ) شركة ( سان غوبان ) الفرنسية هي التي بنت المفاعل النووي الاسرائيلي بقوة 24 ميجا واط ، وكان يعمل بقوة أربع إلى خمس أضعاف طاقته أي حتى 120 ميجاواط أما شركة ( داسو ) فقد بنت لهم نظام الصواريخ _ راجع كتاب سيمور هيرش \ خيار شمشون ( 12 ) سيمور هيرش ص 138 ( 13 ) كتاب استراتيجية العصر النووي - الجنرال بيير غالوا \ ترجمة اللواء الركن محمد سميح السيد \ دار طلاس \ ص 10 .( 14 ) عن كتاب ( خطاب إلى العقل العربي ) - فؤاد زكريا - كتاب العربي - ص 164 .
اقرأ المزيد
النسبية تفتح الطريق للمشروع النووي
كتب ( آينشتاين EINSTEIN ) أبو ( النسبية ) عن الأناس الفعَّالين يقول : (( إن معرفة الحقيقة مرةً واحدة لاتكفي ، والأهم منها هو المحافظة عليها بعناد كي لاتتعرض للضياع وتطويرها باستمرار فتبقى حيةً ناميةً بالتجديد الدائم . إن الحقيقة تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء ، مُهَدَدَّاً في كل لحظة بالدفن في لجة التراب ، بفعل عواصف الرمل المتربصة بها . الأيدي النشيطة التي لاتعرف الكلل ، والتي تمسح التراب عن التمثال بشكل متواصل ، هي التي تبقيه متألقاً تحت ضوء الشمس ))(1). وإذا كان آينشتاين (2) قد تكلم في معرفة ( الحقيقة ) فإن فيلسوف التنوير من القرن الثامن عشر ( ليسنغ LESSING) تكلم عن ( البحث عن الحقيقة ) فقال : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ؟ إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) ( 3 ) ، ففي هذا الجو النهم للمعرفة ولدت النظرية النسبية فما هي هذه النظرية التي قلبت المفاهيم وماهي ذيولها الفلسفية ؟ لنستمع إلى القصة المثيرة . سألني الدكتور ( ط ) وهو يحدقني بنظراته التي تشع ذكاءاً كالعادة : لك عندي مجموعة من الاستفسارات !! ومضى الليل إلى منتصفه ونحن يخوض في فضاءات معرفية مختلفة ، ونبحث بنهم مع آخرين في اختراقات المعرفة الجديدة ، ولكنه وقف أمام سؤال ليقول : أريد تعليقاً شافياً لقضية ( الجن والمس ) فماذا في جعبتك عنها ؟؟! كان جوابي على هذه المسألة متعدد المحاور ولكنني بدأتها بالفكرة التالية : أريد أن أخبركم أولاً أن ماأنجزه العقل البشري حتى الآن عجزت عنه الجن والمردة ( 4 ) انظروا إلى شاشة التلفزيون هذه أمامكم ، التي لم يحلم الإنسان فيها إلا من خلال أسطورة ( سندباد والجن الأزرق ) ، حيث نرى الساحر وهو ( يعزِّم ) على الكرة الزجاجية ليرى من خلالها الأحداث البعيدة ، إن هذا الجهاز ينقل لكم أحداث العالم كلها وبسرعة الضوء ، ماذا تقولون لو جاء رجل من الماضي قبل ألف سنة ثم دخل هذه الخيمة الآن ليرى هذه الشاشة _ وفي هذه اللحظة كان الفريق الأهلي يدخل هدفاً مما جعل معظم الحضور يصيحون صوتاً واحداً جول .. جول !! _ وعندما اختنقت كلماتي تحت هتاف الحماس لـ ( الكورة ) _ التي احترم قطعاً المتحمسين لها ، بدون إدراك سر الحماس فيها إلى درجة الاقتتال _ انتبه الدكتور ( هـ ) إلى أهمية الفكرة فهتف صائحاً : كان سيصاب بما يشبه الجنون !! . وتابعت البحث في محور ثاني ، فهناك قصة جميلة من ( القرآن ) تنقلنا إلى إدراك الفرق بين عمل ( الجن ) وأهل ( العلم ) وهي قصة تحمل طيفاً من المعاني الرائعة ، وهي قصة ( سليمان والهدهد والعرش والجن والصرح ) ( 5 ) ولكن قبل الدخول في القصة والتي أشارت إلى ( سرعات ) غير عادية نتساءل في ( عالم السرعات ) ماهي السرعات التي تنطلق بها الحيوانات أو الآلات أو حتى الأمواج ؟ هل هناك حدود قصوى للسرعة لايمكن تجاوزها ؟ وإذا كانت هناك سرعات قصوى فمن هو هذا الكائن الذي يحقق مثل هذه السرعة ؟ ثم كم هو مقدار هذه السرعة ؟ ثم هل أمكن قياس مثل هذه السرعات الخارقة مثلاً ؟ هذه الأسئلة ونظائرها تمثل أرقاً فلسفياً قديماً ، استطاع العلم الحديث أن يحل بعض ألغازه ، ويفك شيئاً من أسراره ، وكان ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ، وكان هذا الكشف مدعاة لانبثاق نظرية هزت العالم ، وقوضت بنيان العالم الفيزيائي القديم ، وطوحت بنظريات أساسية حافظت على صلابتها لقرون بل آلاف السنوات ، فأما النظرية الجديدة فهي ( النسبية _ RELATIVITY THEORY _ ) وأما التي تهاوت فكانت فكرة الزمان والمكان لـ ( نيوتن وأقليدس ) . في عام 1907 تقدم إلى جامعة برن في سويسرا شاب يبلغ من العمر 26 عاماً ، خجول الوجه ، قليل الكلمات ، بسيط الملابس ، يبدو عليه فقر الحال ، ببحث غريب لايثير الانتباه في ( الديناميكيا الكهربية للجسم المتحرك ) . كان عنوان البحث لايبعث على التفاؤل إلى درجة أن الذي قُدم إليه رفض طلب الفتى وصرفه من وجهه !! وكان هذا البحث المرفوض هو خلاصة الثورة الفيزيائية الحالية والتي عرفت فيما بعد بـ ( النظرية النسبية الخاصة ) ، وعندما بدأ البحث تنتشر رائحته عمدت جريدة نمساوية إلى القول بظهور مشعوذ يدعي إمكانية ( انضغاط الزمن ) بـ ( حيلة رياضية ) فيمكن أن تكون الساعةُ ساعةً ، ويمكن أن لاتكون كذلك ، ويمكن أن يكون الزمن في مكان دونه في مكان آخر ؟! فالزمن لايتدفق بنفس السوية في كل الكون ، بل قد يكون الماضي حاضراً لآخرين والمستقبل ماضياً عند مجموعة ثانية ، لإن الزمن هو ترابط الحوادث ، المرتبطة بدورها بعامل السرعة ؟! ومع زيادة السرعة يتباطيء الزمن حتى التوقف عندما تبلغ السرعة سرعة الضوء ( 6 ) إن سرعة الإنسان سخيفة حتى في مستوى عدَّاء ( الماراتون ) الشهير ( فيديبيدس ) الذي ركض ( 224 كم ) بين مدينتي ( ماراتون ) واسبرطة القديمة للتحذير من الاجتياح الفارسي الوشيك لبلاد اليونان فهو لايزيد عن 15 - 20 كم \ ساعة ، في حين أن سرعة الحصان لاتزيد عن 70 كم \ ساعة ، ويبدو أن الفهد البري هو أسرع الحيوانات قاطبة إذ تعقب المكتشف الأمريكي ( روي تشابمان آندروز ) فهداً هندياً قريباً من نيبال بسيارته وبقي يزيد في السرعة فلم يستطع اللحاق به ولم يتعب الفهد الرشيق ، وربما بلغت سرعته حوالي 120 كم \ ساعة ، وتبقى الطيور هي المتفوقة بين كل كائنات الكرة الرضية فهناك مجموعة من الطيور تصل سرعتها حتى قريبا ً من سرعة الطائرات ( مايزيد عن 350 كم \ ساعة)(طير الفرقاطة) ، ويعتبر سمك (أبو سيف) أسرع الكائنات البحرية إذ يصل في سرعته حتى حوالي 100 كم في الساعة ، إلا أن القرآن يفتح عيوننا على ( سرعات ) تتفتح لها ( الشهية العلمية ) تماماً ، تقوم بها ثلاث كائنات واعية هي ( الملائكة ) التي يكشف القرآن النقاب فيها عن سرعة الضوء ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) ، كما يشير القرآن إلى اختلاف الزمان بين مكان وآخر ، فـ ( اليوم = الزمن ) هو في مكان ( خمسين ألف سنة ) ولكنه في مكان آخر ( ألف سنة ) من الزمن الذي نتعامل به ( مما تعدون) (7) ، و ( الجن ) محدودي السرعة بعدة مئات من الكيلومترات في الساعة ، وكائنات عندها (إمكانيات علمية) لها سرعة الضوء بل وإمكانية نقل المواد على الطريقة التي عرضت في فيلم ( الهرب ضد الزمن - RUNNING AGAINST THE TIME - ) ( 8 ) حيث تم تكثيف المواد سواء الفيزيائية أو البيولوجية من خلال ( داتا = وحدات معلومات ) رهيبة ونقلها عبر الزمن إلى زمن آخر . وبالطبع فإن الفيلم الأخير هو من أفلام الخيال العلمي لاأكثر ، ولكن الإنجازات الإنسانية العظيمة جاءت كلها من خيالات ، وصاحبنا ( آينشتاين ) جاءت نظرية ( النسبية ) عنده من خياله وهو طفل (أن يركب شعاع الضوء). إن القصة وترميزاتها بين ( سليمان والهدهد والعرش والصرح ) تنعش العقل بإمكانيات لم يصل لها حلم الإنسان ، بل وحتى كل التصورات العلمية الحديثة ، باعتبار أن سرعة الضوء ثابتة لاتتغير كما لايمكن تجاوزها ، شرحت متابعاً المحور الثاني في حديثي ، كان السباق بين ( عفريت ) من الجن يريد إحضار العرش في مدى ساعات ( قبل أن تقوم من مقامك ) وبين من يملك إمكانية ( علمية ) ( عنده علم من الكتاب ) والذي عرض خدماته في إحضار العرش بسرعة الضوء ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) ، وأنا في حديثي هذا أنحو مع المفكر ( فؤاد زكريا ) إلى الحذر من قصة ( إقحام الآية في كشف علمي ) ( 9 ) ولكنني أميل إلى ماطرحه المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) عن ( القرآن ليس كتاباً علمياً ولكنه يخلق المناخ العلمي لتفتح الأفكار الرائدة ، وفي صفحاته إشارات خفية لحقائق علمية مذهلة ) ( 10 ) . كانت إذاً إمكانية ( الجني ) في سرعةٍ وصل إليها الإنسان بل ( تجاوزها ) في الوقت الراهن ، فهو أحضر حمولة بسيطة ( العرش ) وخلال ساعات ، والبشر اليوم يرسلون الصواريخ التي تخترق الجاذبية الأرضية بسرعة تجاوزت 12 ألف كم \ ساعة ، ولكن الإمكانيات البشرية لم تصل حتى اليوم إلى قدرة ذلك الذي عنده ( علم من الكتاب ) . لم تصل إلى مستوى عمله مرتين : ( الأولى ) لم تصل إلى سرعته ؛ لإنها سرعة الضوء ، لإن ( النسبية ) تضع ( استحالة ) في الوقت الراهن أمام الوصول إليها ، و( الثانية ) إمكانية نقل أي شيء عبر هذه السرعة التي تمثل أعظم سرعة في الوجود حيث يتحول من يصل إليها إلى ( كتلة لانهائية ) ويستهلك من الطاقة ( طاقة لانهائية ) وينضغط في ( الطول ) وينكمش إلى الصفر ، كما يتوقف ( الزمن ) عند ذلك !! بل إذا زادت السرعة عن سرعة الضوء انقلبت الأحداث بشكل معكوس فيقوم الأموات من القبور ، وتلد البنت أمها !! إنني أريد التنويه في بحثي قبل الغوص فيه إلى أحشاءه من أجل استعراض التركيب ( التشريحي ) له ثم ( الفيزيولوجي ) ، إلى أن هذا البحث لم يكتب لفيزيائي الكون ، أو الهندسة الذرية ، كما لم يكتب للمتبحرين في الفلك ، أو الغارقين في الرياضيات ، ففي جعبتهم مايجعل مثلهم لايستفيد من مثلي _ وإن كان البحث يهمهم ويستهويهم _ ، هذه المقالة وضعت لنفسها هدف مخاطبة القاريء العادي بغية ( التثقيف ) وأخذ بانوراما الأحداث العالمية الضخمة ، والتحولات المصيرية ، والأفكار المفصلية ( البنيوية ) ، لإننا سنرى بعد قليل الذيول الفلسفية لهذا ( العلم ) الذي جاء به ( الكتاب ) من أجل اكتشاف قوانا الداخلية الخفية المودعة ، كي نعمل في الحقل المفيد ، وليس الحقل الأسطوري الخلاب والمريح والسالب لنظرية ( الجهد الإنساني ) . تابعت الحديث في خط محوري ثالث ، وفي ( الحقل المفيد ) في فكرة ( إن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلاً خارقاً للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر ) ( 11 ) ففلسفة القرآن كلها تقوم على ( عدم ) اعتماد المعجزة أسلوباً للأقناع ، وإذا كانت ( هموم ) أهل قريش منحصرة في أن يصبح بيته من ( زخرف ) أو تتنزل الكتب من السماء ، أو أن تتدفق الأرض بالماء إلى آخر الطموحات الصبيانية ، فإن القرآن اعتمد سياقاً واضحاً من أجل تحرير العقل الإنساني من الخرافة ، فلا يتعلم السحر فهو قريب من الكفر ( فلا تكفر ) ، ويتجنب نصائح الكهان ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما انزل على محمد ) ، وأن لايتصل بالجن لإن لهم عالمهم الخاص بهم ( وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ) ، وهو بهذا قطع أصل شجرة ( الحقل غير المفيد ) وغير العلمي ، وتحرير البشر من سلطان البشر . ورفع الإنسان إلى مستوى العلم الذي به يرتفع بغير حدود ، وبه يتحرر ، وبه يمتلك القوة الفعلية . ومضيت في شرح المحور الرابع وصديقي الدكتور يصغي بشغف المفكرين وتواضع العلماء : وإذا كان المجدي هو اتجاه ( العقل و ( العلم ) وتوديع ( الهوى ) و ( الظن ) ؛ فإن العلم يروي لنا أعظم قصة من الثورات العلمية التي دشنها الإنسان في قصة النسبية وسرعة الضوء ، لإنه لم يكن لهذه النظرية ان تشق الطريق لولا توديع الفكر ( العتيق ) ( 12 ) ، والعميق والرائع في النظرية النسبية والانقلابي ، هو عطشه العميق لاكتشاف العلاقات الكبرى بين قوانين الوجود ، وهكذا استطاعت النسبية أن تدمج المكان بالزمان ، ليتحول مفهوم ( الزمن ) إلى البعد الرابع ، وتتحول علاقة الزمان - المكان إلى كينونة واحدة ، وليدمج بين الطاقة والمادة ، فتتحول كل منهما إلى الأخرى وفق معادلة صغيرة ، لم يعد هناك زمن مطلق كما اعتبرته الفيزياء التقليدية ، كما نُسف مفهوم المكان المطلق ، لذا لاغرابة أن اعتبرته ( أي آينشتاين ) المجلة النمساوية ؛ مشعوذاً يريد أن يثبت تغير الزمن بحيل رياضية . ولكن كيف يمكن فهم تغير الزمن ؟ هل اليوم مثلاً في كوكب آخر هو غير اليوم على الأرض ؟ الجواب نعم فإن ( سنة ) الكوكب عطارد هي 88 يوماً ، ويومه قريب من ذلك ، فلافرق بين اليوم والسنة على ظهره ، فهو يدور حول نفسه بقدر دورانه حول الشمس ( 13 ) في حين أن سنة الكوكب ( بلوتو ) 238 سنة ( مما نعد نحن ) ثم أن الزمن يتعلق بالسرعة ، فالسرعة تضغط الزمن ، فكلما ازدادت السرعة انضغط الزمن أكثر ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء ، وهي مستحيلة لأي سرعة غير سرعة الضوء حسب معطيات العلم الحالي ، توقف الزمن !! . جاء في كتاب آينشتاين والنظرية النسبية للدكتور محمدعبد الرحمن مرحبا : (( ويستتبع القول بالزمان المحلي نتائج يصعب على العقل قبولها . إذ أنه لما كان هذا الزمن يتناول جسم الإنسان كله فيمكننا أن نستنتج أن الشخص المتحرك حركة بطيئة ( يشيخ ) قبل الشخص المتحرك حركة سريعة . بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة النور يعيش خارج الزمن ، أي لايشيخ أبداً . وكيما نوضح ذلك بطريقة محسوسة ونصور التحول العظيم الذي طرأ على علم الفيزياء نقتبس المثل الآتي من ( لونجفين ) ( 14 ) فقد تخيل هذا العالم رحالة فلكياً غادر الأرض بسرعة تساوي 1\ 20000 من سرعة الضوء ، وقفز في المستقبل قفزة إلى الأمام ليرى ماتكون عليه الأرض بعد سنتين من سنيه هو ، ولما آب راجعاً إلى مستقره على الأرض وجد أن السنتين اللتين قضاهما عبر الفضاء ذهاباً وإياباً تعدان قرنين من عمر الأرض ، ووجد الأرض آهلة بسكان جدد وعادات جديدة ووجد حضارة لاعهد له بها قبل منطلقه )) ( 15 ). استطاع آينشتاين بومضة عبقرية أن يكتشف علاقات الكون الأساسية ويربطها ببعض ، فالمكان ذو ثلاث أبعاد : طول وعرض وارتفاع ، ولكن الزمن هو بعد رابع ، إلا أننا لانستطيع تصوره بسبب طبيعة تركيب عقولنا ، والمركب ( الزمان - المكان ) مرتبط بدوره مع السرعة ، وأعظم سرعة في هذا الوجود هي سرعة الضوء ، فآينشتاين اعتبر أنه لاشيء ثابت في هذا الوجود إلا سرعة الضوء ، وسرعة الضوء فقط ، وبذلك مسح في أول ضربة نظرية الأثير القديمة ، وأعطى التعليل الراسخ للتجربة التي قام بها عالمان جليلان هما ( ميكلسون ومورلي ) ( 16 ) أجرياها بكل دقة من أجل قياس سرعة الضوء في كل الاتجاهات ، وهكذا فالضوء ينتشر وبسرعة ثابتة ومهما كانت سرعة حركة المصدر ، وتبين أن سرعة الضوء رهيبة ، حيث بلغت ( 300 ) ألف كم \ ثانية ، فلاغرابة إذاً إذا اعتبر ديكارت أن سرعة الضوء غير متناهية ، أو فشل غاليلو في قياس سرعته ، لإنه كان كمن يقيس الكرة الأرضية بالشبر !! وهكذا فالضوء يلف الكرة الأرضية سبع مرات ونصف خلال ثانية واحدة ، فلاغرابة أن نتحدث مع من هم في أقصى الأرض بنفس اللحظة ، كما يصل ضوء القمر في ثانية وثلث فقط ، في حين أن ضوء الشمس يغمر الأرض بعد انطلاقه بثماني دقائق . ونظراً للأبعاد الكونية الشاسعة فقد استخدمت هذه الوحدة في القياس ، فكلمة ( سنة ضوئية ) تعني المسافة التي يقطعها الضوء في مدة سنة كاملة ( أي ستة ملايين مليون ميل أو حوالي 9 مليون مليون كم ) وعلينا أن نعلم أن قطر المجرة اللبنية التي ننتسب إليها هي في حدود 100 ألف سنة ضوئية ، وهي مجرة متواضعة فمجرة المرأة المسلسلة مثلاً يصل إلى 150 ألف سنة ضوئية !! وأقرب مجرة إلينا تبعد حوالي مليونين من السنين الضوئية ، ولأخذ فكرة عن سعة الكون الذي نعيش فيه ، فماعلينا سوى وضع التصور التالي والمنقول عن كتاب الكون لكارل ساغان ( ص 167 ) : في قبضة اليد الواحدة من رمل الشاطيء حوالي عشرة آلاف حبة ، وفي الكون من النجوم ماهو أكثر من كل رمال الشواطيء في بحار الدنيا أجمعين. انطلقت النظرية النسبية من علاقة السرعة بالأشياء الأخرى ، وبذلك سجلت النسبية الخاصة الخطوات الأولى لعلاقة السرعة بالكتلة والزمان والمكان ؟ ماذا يحدث لو زادت السرعة في علاقتها بالكتلة ؟ ترى النسبية أنه مع السرعة يحدث تبدل في ثلاث اتجاهات ( الأول ) تزداد الكتلة و ( الثاني ) هو انضغاط الزمن و ( الثالث ) هو انضغاط الطول ، فإذا زادت السرعة مثلاً لعمود يبلغ طوله مترا حتى بلغت نصف سرعة الضوء انضغط الطول إلى حوالي 86 سم ، فإذا وصل إلى حوالي 90% من سرعة الضوء لم يبقى من المتر إلا 45 سم ، فإذا وصل إلى سرعة 99 % من سرعة الضوء انكمش المتر إلى 14 سم فقط ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء أصبح الطول صفراً !! ولايشعر بهذا الشيء من هو داخل العملية ، بل يشعر بها المراقب من الخارج فقط ، كما أنها تنطبق على كل شيء في هذا الوجود ، وهذه أمور لايستطيع العقل تصورها ، ولكنها قضايا فجرتها النظرية النسبية ، وبذلك نفهم النسبية ولماذا أخذت هذا الاسم ، فكل مافي الكون في حركة وبسرعة مختلفة ، فالأرض تدور حول نفسها بسرعة ربع ميل في الثانية ، وهي تدور بنفس الوقت حول الشمس بسرعة 5.18 ميل في الثانية ، والشمس وكواكبها سائرة باتجاه نقطة في المجرة بين مجموعة هرقل ( الجاثي ) ومجموعة اللورا وبسرعة 12 ميل في الثانية ، ومجرة الدرب الحليبية التي ننتمي إليها تدور حول نفسها دورة كاملة كل ربع مليار سنة وبسرعة 120 ميل في الثانية ، ومجرتنا تبتعد عن أخواتها المجرات الأخرى بسرعة تصل إلى ( 600 - 40000 ميل في الثانية ) وكل في فلك يسبحون ، لم يبق ثبات لشيء مطلقاً ، فلا الأحجام تبقى أحجاماً ، ولا الأبعاد أو الزمان أو المكان ، فكل مافي الكون هو في حالة ( يزيد في الخلق مايشاء ) و ( كل يوم هو في شأن ) و ( يخلق مالاتعلمون ) ، فالزمان الذي يتدفق مفكك الأوصال في هذا العالم الذي نعيشه ، وتياره الذي يجري مختلف من مكان إلى آخر ، فالزمن في مكان من الكون هو غير الزمن في مكان آخر ، ويتبع هذا تغير كل شيء من الأبعاد والأحجام والأوزان والحركات ، وكل هذا يتبع السرعة التي يتمتع بها الكوكب او المكان الذي يتدفق فيه الزمن ، بل هو حتى في الكرة الأرضية اليوم ليس كالغد ، فبعد خمسة مليارات سنة سيكون يوم الأرض 36 ساعة ، كل هذا بفعل تباطؤ حركة الأرض بفعل الاحتكاك ( 17 ) ، إذاً يبقى فهم العالم ووضعه بشكل نسبي حسب مكان المراقب ، هذا التحول العقلي هو الذي ألهم صاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد أن يقولا أن هناك ثورة في المفاهيم أطاحت بالنظام القديم ، وشقت الطريق إلى فهم جديد للعالم بل رسم معالم حضارة جديدة (18). وأما أهم أمرين فتحت الطريق إليهما النظرية النسبية ، التي بدأت تتأكد مخبرياً ، فهما أولاً : ( نظرية الانفجار العظيم ) في كيفية تشكل الكون الأولي ، وثانياً : ومن خلال معادلة علاقة الطاقة بالمادة الانطلاق في المشروع النووي ، حيث أمكن انتاج طاقة لم يحلم بها حتى ( الجن ) التي أرقت مضجع صديقي الدكتور ، فلأول مرة يضع الإنسان يده على الوقود الكوني !! كان هذا من خلال بحث قام به عالمان هما ( كارل فريدريش فون فايسكر ) والثاني ( هانس بيته ) ، حيث ومن خلال معادلات آينشتاين ، تم الوصول إلى كشف السر عن نوع الوقود الذي يحترق في الشمس وأنه وقود غير تقليدي ، فلو كان مخزون الشمس من الفحم مثلا ً لاستُهلك في مدى 300 عاما ً لايزيد ، ولكنه من نوع القنابل الهيدرجينية ، التي تنفجر بدون توقف ، قاذفةً أحياناً شواظاً من لهب يتجاوز الـ 500 ألف كم خارج الجحيم الشمسي المستعر . كيف لاتنتهي الشمس مع كل ضخامة الوقود الذي تستهلكه . السبب أن الشمس تبلغ في القطر 3.1 مليون كم ، وكتلتها أكبر من الأرض بـ 330 ألف مرة ، وتستهلك في كل ثانية 4 مليون طن من غاز الهيدرجين ، ومع أن مااستهلكته في مدى خمسة مليارات سنة شيء ضخم ، مع هذا عندها من المخزون مايعادل 98% من كتلتها الحالية ، فكتلتها تصل إلى 2 بليون بليون بليون طن ( 19 ) وهذا يثير سؤالاً مهماً مفعماً بالمسؤولية ، عن إمكانية استمرار الحياة لخمس مليارات سنة أخرى على الأقل على الأرض ، والجريمة المروعة في السلاح النووي أو تلوث البيئة حينما تُوقف الحياة عليها بحماقة يرتكبها السياسيون . قادت النسبية إلى إدراك بانوراما جديدة لعلم الكوسمولوجيا ، كيف بدأ ؟ ماهو تركيبه ؟ وأين يتجه ؟ ومع أن آينشتاين نفسه قد أدرك منذ البداية أن المعادلات تقوده إلى عالم ( ديناميكي ) متمدد ، إلا أنه يقول هو نفسه أنه ارتكب اكبر حماقة في حياته ، حينما أراد إمساك المعادلات في قالب ( استاتيكي ) جامد فادخل ماأطلق عليه ( الثابت الكوسمولوجي ) . والذي حدث أن آخرين استخدموا معادلاته ليصلوا بها إلى تصور جديد لشكل الكون (المتوسع) ، وإذا كان الكون يتوسع فهذا يقود بشكل معكوس إلى أنه من قبل كان أصغر ، فإذا مشى التصور مقلوبا ً وصلنا إلى نقطة بدأ منها الكون ، وقد تم الكشف عن ذلك بواسطة ظاهرة ( الزحزحة الحمراء ) بواسطة العالم الفلكي (أدوين هابل) الذي عرف أن كل المجرات تبتعد عن بعضها في سرعة مخيفة ، وتم تحديد عمر الكون من خلال ذلك بين 15 وعشرين مليار سنة ، كما تم تحديد عمر النظام الشمسي الذي ننتسب إليه بحوالي ثماني مليارات من السنين . ولكن نقطة البدء الكوني هي التي تشكل التحدي العقلي الذي لم يحل حتى الان ، حيث تتوقف القوانين الكونية عن العمل ، فلايبقى زمان أو مكان أو طاقة أو مادة أو أي وجود لأي قوانين كونية ، إنها الحقبة ( المتفردة ) التي لايناسبها إلا كلمة الخلق من العدم !!. ومن علاقة الطاقة بالمادة استطاع آينشتاين أن يضع قانوناً بسيطا ً للغاية ، ولكن نتائجه كانت مروعة ، فالطاقة والمادة هما وجهان لحقيقة واحدة ، حتى الضوء هو كتلة مادية ولكنها متناهية في الدقة ، والطاقة تساوي المادة المتحولة ولكن مضروبة في مربع سرعة الضوء ، فإذا عرفنا أن سرعة الضوء 300 ألف كم في الثانية الواحدة كان معنى هذا أن الطاقة تساوي مايعادل 90 مليار من المادة المتحولة ، وهذا يحمل خبرين ( نذيرا وبشيرا ) فهي عالم الوصول إلى الطاقة الرخيصة ، وإذا توفرت الطاقة لم يبق نزاعات إنسانية ، فالبشر لايتخاصمون على ( الهواء ) ولكنهم يتقاتلون على مصادر المياه والبترول ، فإذا حلت مشكلة الطاقة الرخيصة إلى درجة المجان ، ربما حل القسم الأكبرمن المشاكل الإننسانية ، وأما النذير فهي أخبار هيروشيما وناغازاكي !! . وهنا فذلكة في عالم المادة والروح ، فالضوء يبقى محدود السرعة لإنه ( مادة ) ولكن رقيقة للغاية ، أما الروح الإنسانية فعندما غادرت عالم المادة لم تعد سرعة تقيدها ، وهذا ماسيكشف العلم القادم عن أسراره . شيء هام من ذيول الفكرة النسبية لم يتم التاكيد عليه ، وإن تمت الإشارة إليه أحياناً ، وهو معنى روحي كبير وفلسفي ضخم ، ولايقل عن الفتوحات المادية ، وهو علاقة الزمن بمتحولات أخرى دشنتها ( النسبية الخاصة ) بعلاقة الزمن بالسرعة ، ودشنتها ( النسبية العامة ) بعلاقتها بالكتلة فاعتبرت الأولى أن الزمن يتباطؤ كلما ازدادت السرعة ، إلى درجة أن الزمن قد يتوقف إذا وصلت السرعة إلى حد سرعة الضوء ، ومعنى توقف الزمن بكلمة أخرى دخول ( الخلود ) أو على حد تعبير العالم الفرنسي لونجفين توقف الشيخوخة ، فإذا عاش الإنسان على كوكب غير الأرض بسرعة كبيرة كسب من العمر المزيد فالمزيد ، ولكن دخوله سرعة الضوء يجعله يستعصي على الفناء ، لإن الزمن لن يأكله بعد اليوم بعد أن توقف أن يعمل . وعندما نسمع عن تحول بيولوجي لأهل الجنة ( التحول إلى طبيعة نورانية الذي يعني اكتساب سرعة الضوء أي توقف الزمن ) ( 21 ) فإن هذا يقرب إلى وعينا أكثر طبيعة الخلود والصمود أمام الموت والزمن . وأما في النسبية العامة فإن حياة الإنسان على كوكب ذو كتلة كبيرة تدخله نفس العملية من التاثير على الزمن ، وهكذا فالحياة على المشتري الذي يكبر الأرض أكثر بألف مرة ، يمنح الإنسان حياة أطول ، فإذا عاش على ظهر كوكب من النوع الذي قال عنه القرآن ( عرضها السموات والأرض ) كان معناه مرة أخرى توقف الزمن أن يفعل فعله المميت المدمر ، والدخول بالتالي عالم الخلود ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين ) وبذلك أدخلتنا النسبية إلى إمكانية الخلود مرتين وقربت إلى وعينا مفاهيم روحية مستعصية على العقل كي نصل إلى ذلك المزيج الرائع من العلم والإيمان . بقلم الدكتور خالص جلبي 19 \ 5 \ 1415 هـ الموافق 24 \ 10 \ 1994 م هوامش ومراجع ( 1 ) ALBERT EINSTEIN - JOHANNES WICKERT - RORO PAGE 7 ( 2 ) معنى كلمة آينشتاين باللغة الألمانية ( حجر واحد ) ! ( 3 ) ( ليسنغ ) راجع مقدمة كتاب الأمراض القلبية - مدني الخيمي - طباعة جامعة دمشق - ص 7 وقد نسب القول المذكور إلى ( غتلدلنغ ) ( 4 ) اكتشف ابن خلدون قانوناً هاماً في مقدمته عندما فند أقوال الذين زعموا أن الأهرامات شيدها العمالقة ، خاصة حينما يزعم إلى الرشيد أنه أراد هدم إيوان كسرى فعجز عن ذلك فكيف بالبناء ، وكفذك لما حاول المأمون هدم الأهرام ، في حين أن ابن خلدون لم ير فيها سوى إنجاز بشري وهندسي رائد _ راجع المقدمة ص 177 وص 346 ( 5 ) تراجع القصة بكاملها في سورة النمل ( 6 ) يراجع كتاب آينشتاين والنظرية النسبية - عبد الرحمن مرحبا - دار القلم بيروت - ص 80 ( 7 ) يراجع في هذا المجلد الثاني من موسوعة المعرفة ص 200 عن سرعة الحيوانات ، وأما فيما يتعلق بسرعة الملائكة والتي تبلغ سرعة الضوء فيمكن حسابها بزمن ( خمسين ألف سنة مما تعدون ) فهي حاصل ضرب 50000 في 365 في 24 ساعة في 60كم \ ساعة على أساس سرعة الحصان ( 60 - 70 كم \ ساعة - راجع موسوعة المعرفة مجلد 2 - ص 200 ) التي كانت أقصى سرعة بلغها الإنسان في وقت نزول القرآن ( مما تعدون ) وجداء الضرب هذا يبلغ = 000و000و280و26 كم ( 26 مليار و280 مليون كم ) وهي المسافة التي يقطعها الحصان في خمسين ألف سنة ، فإذا قسم هذا الرقم على الثواني التي يحويها اليوم الذي هو 24 ساعة ( مما تعدون ) بلغت 86400 ثانية ، فإذا قسم الرقم الأول على الثاني تحت قانون السرعة = المسافة تقسيم الزمن بلغت السرعة التي يشير إليها القرآن سرعة الضوء تقريباً وهي 300 ألف كم في الثانية الواحدة ( الرقم بالضبط = 304166 كم في الثانية الواحدة ) !! وهكذا فيوم العروج الروحي يستغرق نفس اليوم على ظهر الكرة الأرضية ، ولكنه يحقق بهذه السرعة مسافة تقاس بالسرعة الضوئية ، وهي مطابقة ملفتة للنظر ، ولكن الأهم منها أن العالم الإسلامي برمته لم ينتبه إلى أقل من هذا من كنوز القرآن !! وجاء اختلاف الزمن في آيتين الأولى من سورة السجدة حيث يعرج ( الأمر ) من الأرض إلى السماء بسرعة تبلغ ألف سنة من حساب الكرة الأرضية ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) السجدة - 5 - أما آية العروج الأخرى فهي في سورة المعارج ( تعرج الملائكة والروح إليه في كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) الآية 4 ( 8 ) تقوم خلاصة هذا الفيلم على اختراع عالم ٍ لآلة بإمكانها دفع الإنسان عبر الزمن وفكروا في إنقاذ حياة الرئيس الأمريكي ( روبرت كيندي ) بحمايته من القتل كي يتم تغيير التاريخ وعدم تورط أمريكا في حرب فيتنام ، ولكن الذي حدث هو موت من أرسل !! فلما أرادوا إنقاذه شعروا أن أفضل شيء أن لايغيروا شيء ورجعوا إلى مذهب الخيام والجامعة داوود ( الكل باطل وقبض الريح ) وكأنهم انتهوا مع الفيلم إلى مذهب الجبرية !! ( 9 ) يراجع في هذا كتابه الصحوة الإسلامية في الميزان ( بحث التخلف الفكري وأبعاده الحضارية ص 46 - 47 ) ويعرض فيها أفكاراً قيمة ويتساءل وهو محق في هذا لماذا لم يتوصل المسلمون إلى كشف علمي من خلال آية قبل أن يصل إليه العلم ( 10 ) يراجع في هذا مؤلف مالك بن نبي رحمه الله ( دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ) وكذلك كتاب شروط النهضة ( 11 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - دار آسيا - ص 145 ، وهذه الفكرة تولدت من فكرة عظيمة محورية وهي فكرة إلغاء النبوة حيث يرى فيلسوف الإسلام أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ، وبذلك يكون مجيء الإسلام للعالم ، هو إعلان ( مولد العقل الاستدلالي ) حيث تكف المعجزة عن العمل في حياة الناس ، كما كانت مع موسى في انشقاق البحر وإحياء الموتى لعيس ، فالقرآن دشن فلسفة واضحة بعدم اعتماد هذا الأسلوب ، وهو معنى مكرر في كل ثنايا القرآن . ( 12 ) يعتبرصاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد ( روبرت أغروس وجورج ستانسيو ) أن نظرية النسبية قادت إلى التخلي إلى الأبدعن فكرتي الزمان والمكان المطلق - عالم المعرفة عدد 134 - ص 21 ( 13 ) الكون الأحدب ص 37 وعبد الرحمن مرحبا ص 75 ( 14 ) أبرز العلماء الفرنسيين الذين نشروا النظرية النسبية وروجوا لها في فرنسا ( 15 ) عبد الرحمن مرحبا ص 80 ( 16 ) تمت في كليفلاند عام 1881 م وكررت في كل فصول السنة وفي كل الاتجاهات وتبين ثبات سرعة الضوء - مرحبا ص 65 ( 17 ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان - د . عبد المحسن صالح - عالم المعرفة - ص 23 ( 18 ) العلم في منظوره الجديد ص 16 و 15 و 19 ( 19 ) التنبؤ العلمي ص 22 ( 20 ) الحديث : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لايبولون ولايتغوطون ولايتمخطون ولايتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء )) مروي في الصحيحين ( زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم - الشنقيطي - المجلد الأول ص 71 رقم الحديث 201 ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة .
اقرأ المزيد
بين السرطان البيولوجي والسرطان الاجتماعي (2)
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه ، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض ؟ ( 1 ) هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ ( الخبث ) في تصرفاتها كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم ؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر ؟ وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة ؟ بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية ، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة ( الاجتماعية الكيمياوية والشعاعية بل والجينية ) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق ؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة ؟ بل هل هناك بالأصل ( موت اجتماعي ) فتموت الأمة كما يموت أي فرد ؟ وإذا وجد فكيف تتجلى صورته ؟ دعنا نغوص في أعماق البحث الفيزيولوجية والاجتماعية على حد سواء لنرى تجليات العلم الحديثة في هذا الصدد ؟ دخل علي الزميل ( أبو حسن ) وقد استشاط غضباً ؛ فارتفع صوته وتهدجت نبراته ، على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد ، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم ، وغرر بهم ، تحت سراب الربح الوفير ، فيأتيهم رزقهم رغداً ، وإلى بيت بابهم بالعشي والإبكار ، وهم مستلقون على ظهورهم ، يأكلون السمن والعسل ، وهكذا قام ( الساحر ) الاقتصادي الجديد بالمعجزة الألمانية الاقتصادية الثانية ؟! وأراح العباد من همِّ المستقبل واستثمار الأموال ، فهرع الناس إليه زرافات ووحدانا ، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي ، وتراكمت الأموال والآمال ، حتى انقشع السراب الخادع _ كالعادة _ فانهارت المؤسسة المالية الجبارة المذكورة ، وأفلس صاحبها ( المظلوم ) !! وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية ، وتبخرت أموال الناس بين يدي ( الدجال ) الاقتصادي ، وأصابهم ماأصاب أهل البستان ( فأصبحت كالصريم ) وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة ، وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد ، بين اقتصاد مدمر ، وثقة تخلخلت بين الناس ، وأسعار للعقارات ارتفعت وبشكل وهمي ، بأشد من سرعة الصاروخ وبأعلى من قمم الغمام ، وجمود في حركة المبايعات . فالعقارات أصبحت معلقة في الهواء بعد انتفاخ الأسعار الوهمي ، في انتظار مسيلمة كذاب جديد ، ولاغرابة لماحدث لإن الحمق لوحده ليس له علاج ، فكيف إذا انضاف إليه الطمع ، وقديماً سأل الجاحظ غلاماً فقال له ياغلام : أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمقاً ، قال لاوالله ياعماه ، قال له الجاحظ : ويلك ياغلام ولم ؟ قال ياعماه : أُضيِّع الدنانير وأبقى أحمقاً !! ( 2 ) ************************** هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث ، بمحاولة الفرد ( الانتهازي ) أن يتضخم فـ ( يتورم ) و ( يتسرطن ) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى ( مجموعة القوارض الاجتماعية ) ( 3 ) ، التي تقضم الشبكة الاجتماعية !! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية ، ياترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة ( أمراض اجتماعية ) لاتحصى ؟ فكما يصاب الفرد بالمرض سواء العضوي أو النفسي فإن الجماعات لها أمراضها ( النوعية ) الخاصة بها ، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان ، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية ، فالجعبة مليئة ، وليس المثل السابق إلا واحد من الكثير من أمثال ( عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور ) و ( كراهية النظام والانضباط ) و ( السطحية في معالجة الأمور ) و ( عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان !! ) و ( نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ ) و ( النطق بلا مسؤولية ) و ( عدم احترام الآخرين ) ( 4 ) و ( التسيب الوظيفي ) و ( واللافعالية ) و ( البيروقرطية غير المنتجة ) و ( عدم تقدير الوقت ) و ( ضعف الذوق الجمالي ) و ( غياب الروح العملية ) و ( انطفاء روح المبادرة ) و ( عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام ) ، وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها ( الرشوة ) و ( المحسوبية ) و ( والوساطة ) واختصرها القرآن بالثلاثي : الشفاعة التي تقابل الوساطة ( ولايقبل منها شفاعة ) والعدل مقابل الرشوة ( ولايؤخذ منها عدل والمحسوبية مقابل ( لاتجزي نفس عن نفس شيئاً ) ويمكن القول باختصار : تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه ، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون ، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون ، لإن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي ، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات . ويظن أولئك ( المغامرون ) أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم ( شطار ) و( أذكياء ) ويعرفون كيف ( تؤكل الكتف ) ، ولكن السرطان حينما ينمو ، فأول مايفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة ، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة ، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه !! . وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لايشعر ، حين يدمر مصادر وجوده ، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم . **************************** هناك ( قانون اجتماعي ) ( 5 ) يربط بين العلاقات الشخصية وشبكة العلاقات الاجتماعية ، وأي زحزحة من قطب لآخر يعطي الفكرة عن مدى تماسك المجتمع وقوته من ضعفه ، وفكرة المركزية واللامركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات ، كذلك تربط علاقة صارمة بين فكرتي ( الحقوق ) و ( الواجبات ) فالواجب هو ( حق ) من جانب ، وهو ( واجب ) من الوجه الآخر ، تماماً مثل وجهي العملة !! ، لنتأمل هذه الفكرة المهمة : إن أية ( معاملة ) هي واجب للموظف يؤديها في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها ، وتنعكس الأدوار ، فنفس الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى ، في الوقت الذي يعتبر هذا واجباً للطبيب يؤديه ، وهكذا تصبح ( العملة الاجتماعية ) تدور بين ( حق - واجب ) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية ، ويجب أن لاتزور هذه العملة ، فيجب أن يقوم الطبيب بعمله في غير تذمر وملل ، كي يتحرك الموظف بنشاط وهمة لتسيير المعاملة وترك طاولته في نهاية الدوام نظيفة ، كي يؤدي الشرطي مراقبته للمرور بدون محاباة ، وهكذا يتم تبادل هذه العملة في مرافق الحياة . وحسب قواعد الاقتصاد ، متى ياترى يعتبر المجتمع معه ( فائض في العملة ) إذا نظرنا إلى العملة الاجتماعية المذكورة سلفاً ؟؟ أو أنه غني ، أو أنه في حالة بحبوحة حضارية ؟؟ الجواب عندما يتم تحصيل فائض في الواجبات !! إذاً نحن أمام ثلاث معادلات اجتماعية في الواقع : الأولى هي تلك التي تقول بفائض الواجبات عن الحقوق ، وهي تشي بالتالي بحقيقة مجتمع متفوق حضارياً ، الثانية بتساوي الحقوق والواجبات وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن ، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية ، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار . ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر على غاية الأهمية وهو : عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب ، لإن المجتمع الذي تعلم ان يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتعطيه حقوقه ، فالحقوق لاتؤخذ ولاتعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب . يقول المفكر السعودي الدكتور محمود محمد سفر في كتابه ( ثغرة في الطريق المسدود ) : (( لقد فقدنا الوعي الصحيح بدورنا كأفراد وجماعات في عمليات التنمية وأصبحنا جميعاً من (( أصحاب الحقوق )) .. وماأدراك ما (( أصحاب الحقوق )) إنها سمة التخلف في جيلنا .. حيث أصبحنا لانعرف إلا حقوقنا على حكومتنا .. وجهلنا تماماً واجباتنا وتكونت هنا وهناك في عالمنا الإسلامي جمعيات وهيئات للمطالبة بالحقوق .. حقوق المرأة وحقوق العمال وغيرهم . وقد آن لنا أن تتكون بيننا (( هيئات للقيام بالواجبات )) التي أغفلتها أو عجزت عنها الإدارات الحكومية . إن سيكولوجية مدمرة تتكون عندما يعيش الإنسان في أجواء المطالبة بالحقوق واللهث وراءها عند أجهزة غير قادرة على منحها .. حيث يصبح الإنسان عبداً لوهم اسمه (( الحقوق )) يستبسل في المطالبة بها وربما أعطى حياته من أجلها .. ولو أنه أنفق في سبيل الواجب بعض ماأنفقه في سبيل الحقوق لبلغ كثيراً مما يرجو من تقدم وازدهار .. إن التنمية في مجتمع ما تبدأ مسيرتها عندما ينسى أفراد هذا المجتمع حقوقهم ويذكروا واجباتهم .. إن الأمة تحتاج في ساعات (( الإنقاذ التنموي )) إلى النفر القدوة الذين لايسألون أين الرزق الوفير وإنما يسألون أين الواجب الكبير .. ولقد ساقنا الحديث عن التنمية إلى دور الأثرياء في مجالاتها لإننا نؤمن أنه في غياب الدور الحضاري للمال يمكن أن يصبح الثراء مدمراً . فعندما تصبح وسائل الثراء سريعة ورخيصة يبدأ المجتمع في الانصراف عن التنمية الحقة والتي تتطلب جهداً ومشقة حيث يصبح كل هم أفراد المجتمع أن (( يغترفوا من نهر طالوت )) ولاينتظروا ويصبروا أمام مشاكل التنمية ))(6) عندما زارنا الأستاذ ( مالك بن نبي ) في دمشق عام 1971 م وجلست معه وسألناه عن العديد من القضايا ، بدأت تضغط على عقلي فكرة ، في صدد الذهاب إلى العالم الغربي للاختصاص الطبي ، وخلاصتها إن الرحلة تحمل مبررها الكبير ليس من أجل تحصيل الفن الطبي ، فهذا هو أقل المبررات وأكثرها هامشية ، وهو الذي جعلني أيضاً أتردد في مغادرة الوطن ، في الوقت الذي كان يتسابق زملائي في شد الرحيل للخروج ، وأنا أعذرهم طبعاً فلكلٍ وجهةٌ هو موليَّها ، كان مايضغط علي ويؤرقني هو ( فعالية الغرب ) الكامنة خلف الطب وكل العلوم ، بل وخلف كل التكنولوجيا ومراكز البحث ، وهذه قضية أثرناها مع الاستاذ مالك بن نبي ، وكانت وجهة نظره أن معظم أبناءنا يذهبون إلى الغرب فلايفهمون عليه ( سر الفعالية ) وإنما يحصل معهم ماسماه _ رحمه الله _ الارتماء إما في ( مزابل الحضارة ) أو الانزواء في ( مقابر الحضارة ) ؟! ويعني بكلامه هذا رؤية الحضارة الغربية من ثقبين ، إما الفساد الأخلاقي والإباحية الجنسية الفظيعة ، وإما المخابر العلمية وبطون الكتب وأجواء المستشفيات ، والحضارة ليست هذا ولاذاك ، كما أنها لم تخلق في هذه الأمكنة . كان الاستاذ مالك يريد من الشباب المسلم والعربي ، أن يذهب إلى الأماكن التي تولد فيها الحضارة فعلاً ، كان يريد بناء بانوراما ضخمة ، وجغرافية عقلية ، لفهم الحضارة ككائن عضوي مترابط . التعرف على المؤسسات التي تحافظ على الحضارة وتطورها باستمرار ، التعرف على فعالية الفرد والشروط النفسية والاجتماعية التي تولِّد هذه الفعالية وتحافظ عليها باستمرار ( 7 ) . التفريق بين ( العلم ) و ( الثقافة ) حيث يشترك في الثقافة الرئيس والأجير ، ويختلف في العلم الطبيب عن الممرض ، ولذا فالطبيب يرجع بالعلم دون الثقافة ، وكان حرص الاستاذ مالك على الثقافة قبل العلم . الثقافة هي المحتوى الضخم لعالم ( اللاوعي ) والذي بموجبه يتصرف الفرد أمام الأحداث ، والثقافة تتشكل منذ لحظات مقابلة الإنسان للعالم الجديد بعد الولادة إن لم تكن حتى في الرحم ؟1 فالطفل الذي يتعلم منذ ساعات عمره الأولى أن العالم ( المتمثل بأمه ) أنه يستجيب له بالبكاء ، يتعلم البكاء وسيلة لحل المشاكل !! إلا أن العالم القاسي من حوله سوف يحمل له العديد من المشكلات الصعبة والمفاجآت ، التي سوف تحيل حياته إلى جحيم ونكد وإحباط ، لإن العالم يمشي وفق سننه الخاصة ، وليس هو أمه التي أفسدت ( ثقافته ) ولذا فلن يستجيب له بالبكاء والصراخ ، كما حصل مع العرب في هزيمة حرب 1967 م ، والتي لم يستجب لهم العالم فيها ، عندما بكوا وصرخوا وزعقوا باعلى صوتهم ، والتي يحاولون فيها حتى الآن إصلاح ذلك الخرق الذي لم يرقع بالشكل الملائم حتى اليوم ، هذه هي الثقافة العاجزة التي نعيش فيها بكل أسف !! وهذه هي القضية الكبرى التي كرس المفكر مالك بن نبي نفسه لها ( مشكلة الحضارة ) . هذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة في الإجابة والتفسير عن بعض الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً في البدء ، لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته بصورة غير التي كان يتصرف بها هناك ؟ فلا يحافظ على الموعد ، أو يلقي بالبقايا على الأرض ، أو يستخدم زمورالسيارة كالبقية ، أو لايتقيد بإشارات المرور ، أو يعتقد بالخرافة إلى أخمص قدميه ومخ عظامه . كما أنني أدركت أن سفرتي إلى الغرب حيثما كانت وجهتي كانت مصيرية وحيوية ، فإن أي باب من أبوابها سوف يدخلني إلى بنائها الداخلي ، سواء كان الاختصاص في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا ( الابن البكر لأوربا ) أو حتى أوربا الشرقية ، أو اسبانيا الحالمة المسترخية على ظهر جبل طارق ؟! فكما يدخل المسلم إلى الصفا والمروة من أبواب شتى ، كذلك الحال في دخول فناء كنيسة الحضارة الغربية ذات الأبواب العديدة ( 8 ) *************************** هناك مغالطة يجب تحريرها واكتشفت هذا أثناء مؤتمر حضرته في مدينة ( ميونيخ ) الألمانية في المركز الإسلامي أثناء إقامتي في المانيا ، حيث تم التعرض لمشكلة المرأة ووضعها في الغرب ، وكان محور المتكلمين في إطار ( تَسَقُطْ عورات الغرب ) والكشف عن نقاط الضعف التي يعرفونها هم بالذات وعن انفسهم أكثر مما نعرف نحن ، والفكرة التي استولت علي حينذاك وقمت في وقتها بشرحها بكثير من القوة والتحليل ، وخلاصتها الأفكار الثلاثة التالية : الأولى : إننا في الواقع وكأننا نريد تطمين أنفسنا اننا بألف خير ، طالما كان الغرب على وشك السقوط منتحراً بعيوبه التي لاتنتهي ( كذا !! ) والثانية : إننا نتأمل الغرب من خلال عيوبه وهذه فضلاً عن كونها غير عادلة فهي مضللة لنا نحن بالذات أكثر منهم ، والثالثة : فليموتوا بعيوبهم لإن ماينقصنا ليس التعرف على عيوبهم ، بل التعرف على عيوبنا نحن بالذات ، والقيام بعملية النقد الذاتي ، كي نبدأ مسيرة الإصلاح والإقلاع الحضارية ، مانحتاج إليه أكثر هو الاستفادة من مزاياهم الإيجابية ، والتعرف على أسرار الفعالية عندهم ، وينابيع القوة والتفوق . وهذا سيقودنا إلى موقف مختلف تماماً وعادل وإنساني ، فنحن لانريد تدميرهم ، كما لانشمت بسقوطهم ، ولانفرح بنكس القيم الإيجابية التي تعبوا في تحصيلها . بل يجب معاملتهم تحت قانون : عامل الناس بما يليق بك لابما يليق بهم ، من أجل علاقات إنسانية غير استعمارية للمستقبل ، كنت أقول لبعض الألمان أحياناً إن عندكم من القيم مايجب أن أدافع أنا عنه ، من أجل المحافظة عليه لإنه ذخر إنساني قبل أن يكون إنجازاً غربياً . ********************* إن العديد من القيم التي رأيناها في المجتمع الغربي ، وأزعم لنفسي معرفة متواضعة بالمجتمع الألماني ، الذي يعتبر من قمم مجتمعات العالم ، فألمانيا هي صيدلية العالم ، وأرض الفلاسفة ، ومكان الموسيقيين المبدعين ، وأرض حملة جوائز نوبل ، ولكنها وبنفس الوقت محرقة آوشفيتز وأرض الهولوكوست ( 9 ) ومستنقع العنصرية ، ومزبلة كبيرة لكل الإباحيات الجنسية ممتدة من مدينة ( فلينسبورج - في معهد بيآته BEATE - INSTITUT-IN FLENSBURG ) حتى الغابة السوداء ( SCHWARZ - WALD ) وما يهمني من الألمان ، واستفدت منهم في ذلك بأكثر من تكنيك ( شق ) الجلد للجراحة أو ( ثقبه ) بالمناظير أو ترقيع الشرايين وتقطيع الأوردة ، استفدت منهم ( أخلاقيات العمل ) فالإنسان الألماني أو الغربي عموماً قد يسكر ويخمر في الليل ويعربد جنسياً ، ولكنه في صباح اليوم التالي لايتأخر في حضوره للعمل ، لإن العمل عنده مقدس بل إنك إذا أردت تعذيب الألماني فاجعله يكف عن العمل ، ويشهد لهذا ظاهرة ( متلازمة ظهر يوم الأحد ) ( 10 ) ( SYNDROM SUNDAY - ) وهي مؤشر خطير عن ( التخوي والتجوف الحضاري ) كما يحصل مع تجوف نخاع الشجرة الداخلي مع كل فخامة القشر الخارجي . إن عندهم من الفائض في ( العملة الاجتماعية = الواجب ) مايجعل أمراضهم مسيطرٌ عليها ، وهذا يعني أن عندهم من الأمراض مايكفي ، ولكن قوتهم تأتي من مصدرين الأول : معرفتهم بطبيعة هذه الأمراض ، والانتباه الدائم لها ، ومراقبتها سواء بسواء مثل مراكز مراقبة انتشار الأمراض والعدوى ، بما فيها إدمان التلفزيون والإباحية الجنسية ، كل ذلك من خلال توفر أداة النقد الذاتية الاجتماعية ، قد تحدث عندهم سرقات ومخالفات ولكن الصحافة لها بالمرصاد ، ومن المعروف طبياً ، أن معالجة الخراجات هي في شقها وفتحها للخارج كي ترى الضوء ، كما أن أخطر أنواع الباكتريا ، هي الباكتريا ( اللاهوائية ) ، أي تلك التي تعشعش في الظلام ، والغانغرين فيه ليس له علاج إلا البتر المفتوح !! كما أن الأمراض النفسية تعالج بنقل آليات ( اللاوعي ) المختبئة في الظلام إلى ( الوعي ) أي الضوء الصحي والنور المطهر . لذا فإن آلية النقد الذاتي ( بشروطها ) هي تلك الآلية المطهرة للفرد والنفس والأسرة والمجتمع بل وحتى والمجتمع الدولي . الثاني : إن المحصلة الكمية للأخلاق الاجتماعية تعطيهم الوضع الطبي المعروف ( عدم انكسار المعاوضة ) ، فقد يمرض الإنسان كما هو في داء ( أديسون ) أي تخرب خلايا الغدة فوق الكظرية ( 11 ) المسؤولة عن تنظيم السكر والملح والهورمونات في الجسم . طبياً لاتظهر أعراض المرض حتى يحترق مايزيد عن 75% من مجموع الخلايا في الطرفين ، وعندما يصل البدن إلى هذه المرحلة يكون قد دخل في مرحلة ( انكسار المعاوضة ) والمجتمع الغربي مازال في مرحلة ( المعاوضة الاجتماعية ) ، وذلك بفضل زخم مجموع الأخلاقيات والقيم السائدة حتى الآن ، ويخطيء الكثير حينما ينعت الحضارة الغربية بصفتين : إما اللا أخلاقية أو أنها حضارة مادية ، ويجب طبعاً أن نحدد مامعنى ( المادية ) ؟؟ **************************** الحضارة الغربية لاتحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم إن شئنا أم أبينا ، سواء في جناحها الانجلو سكسوني أو اللاتيني أو الجرماني أو حتى الأصفر الياباني ، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى . ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم ، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير ، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها . إنني كنت ( شاهداً ) في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب ( أمريكا التي رأيت ) بل عاينت القوم ، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم ، وطرفاً من أسرار قوتهم ، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه ، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لايحسدون عليها ، فلم يعد الشرق يعجبهم ، كما أن الغرب لم يسعدهم ، فهم ( نفسياً ) في الأرض التي لااسم لها !! والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب ، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة ، والرؤيا عندهم واضحة مبللورة ، وهذه لايصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب ، ونحن الذي أدينا وظيفة ( الشهادة ) علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ وبأمانة . فلاشيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السوات والأرض . *************************** إنني يجب أن اعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولاعدلاً في مثل هذه الأمور - إننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم ، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق ، وهو مالاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع ( رفاعة الطهطاوي ) الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها ( الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز ) . منذ اللحظة الأولى بين بيروت و ( نورمبرغ - مكان ولادة الحزب النازي أكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط ، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة ، ولكن ثلاثين سنة لاتكفي للفهم العميق للثقافة . في بيروت وأنا نزيل الفندق الذي يدفع ثمن ( البيات ) لم أعرف طعم النوم بسببين الأول قرقعة ( القباقيب ) والثاني ( انبساط ) صاحبنا المشرف على إراحة نزلائه ، فلم يطب له النوم إلا على أغاني ( صباح وأم كلثوم ) وبأعلى صوت ، وبالطبع أنا لست ضد الغناء إلا في هذا الوقت ، أما في نورمبرغ فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر ظاهرة ( السكون ) كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً و( هادئاً ) فعرفت أنني فارقت حضارة ( الضجة والوسخ والضوضاء ) واستقبلت حضارة ( النظافة والسكون والهدوء ) إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم لإنني أنتمي إليها ، مع شعوري الذي لايختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها ، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة ، بل وشق الطريق لمجتمع مابعد الحداثة ، هذا الشعور سبب لي الألم مرتين ، فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها ( وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك !! ) ( 12 ) في الوقت الذي أزكي ( في جانب ) مزية من هم خصومنا أو من لايحبونا على أقل تقدير ، ولكن هذا ماتتطلبه الشهادة التاريخية ، ويوجبه العدل ، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا ، التي لاتحتمل التاجيل ، وكانت الملاحظة الثانية ( لاشيء في الأرض ) وتذكرت الحديث ( وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان ) ( 13 ) ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً ، وبانوراما ضخمة ، وخريطة تفصيلية ، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً ، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها ، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات ( وكيف أن في رأسهم أغنية خاصة لمشكلة البوسنة ، وإلا حلوها كما احتل هتلر كل يوغسلافيا في مدى 11 يوماً ، وليس تأديب صرب البوسنة فقط ، وبالمناسبة فخريطة الهجوم النازي قد وضعها وزير الدفاع الألماني في درجه لساعة الصفر - معلومات مجلة الشبيجل ) . يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص ، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي ( 14 ) ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها ، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة ، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة ( دوراة المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر ) . هذه النظافة ليست ( الحكومة فقط ) ورائها وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة ، والتثقيف المستمر ، والتنبيه الدائم ، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد . يقول جان جاك روسو في كتابه ( في العقد الاجتماعي ) عن القانون الرابع : (( يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً ، وهو القانون الذي لاينقش على الرخام ولاعلى البرونز وإنما في قلوب المواطنين ، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي ، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة ؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفيء ، يحرك أوارها أو يتممها ، ويحافظ على شعب في روح نظامه ، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة . وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام ، وهو فرع مجهول لدى ساستنا ، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به : ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر في حين يبدو أنه لايهتم إلا بتنظيمات خاصة ، إلا انها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع ، الأكثر بطئاً في نشوئها ، مفتاحه الذي لايتزعزع )) ( 15 ) كان مارأيناه هو ( النظام والانضباط في دقة الساعة ) و ( الدقة بحب وشغف ) ( المثابرة بجلدلايعرف الممل ) و ( التعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب بين عناصره ) و ( اليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح ) و ( النطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية والنظر في وجه السائل !! ) و ( المحافظة على الموعد إلى درجة الهوس ) و ( الالتزام ومعرفة معنى المسؤولية ) و ( الصدق فهو انفع للمعاملات والحجز وسواه ) و ( احترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة ) و ( الفعَّالية في معالجة المشاكل ) و ( البيروقراطية الميسرة ) فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لايقف ، فلاتحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج !! وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل . والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع ، فشكلت ( ظاهرة اجتماعية ) و ( تياراً مسيطراً هادراً ) وليست حوادث فردية ، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة تغلف المجتمع كله ، وتهبه اللون الخاص به ، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه . ************************ هل نريد الآن ان نفهم الأخلاق والقيم ( السرطانية ) في مجتمعنا ؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً ؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم ، وهو في صورة ثانية ( الخلل الوظيفي الزماني المكاني ) ، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة ، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكان خاصاً بآخرين ، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع ، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير ( سرطان العظام ) ، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة ( سرطان الجلد ) ، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب فيه في الكبد والرئة بل والدماغ ( سرطان الكولون ) ... ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات .. ويشذ الناس على القانون .... إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى ، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء ، أو هو يسير نحو الفناء لإنه فقد مبرر الحياة ، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة ( 16 ) ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد ، تموت الجماعات ، وتدول الدول ، وتفنى الأمم ، وتنقرض الحضارات فـ ( لكل أمة أجل ) ومن خلال السرطان النوعي الخاص بكل مستوى . هوامش ومراجع : ( 1 ) يجب أن نستثني من هذا الوضع اكتشاف السرطان المبكر قبل انتشاره مما يحسن إنذار المرض عموماً حسب المرحلة التي يضبط فيها ، والجراحة الحديثة تحاول فك هذا اللغز ، بحيث تكتشف بشكل مبكر الخلايا المتسرطنة المتحولة الأولى فتقضي عليها ( 2 ) دُمر أقرب الناس إلي اقتصادياً تحت أسنان سمك القرش الاقتصادي الجدد وبالطبع كنت من المدعوين لهذه الوليمة إلى فم الحوت ، كيف لا والأرباح الفلكية تلمع ( للمغفلين ) ، ومن الغريب أنه بعد كل الكارثة لايصدقون أن ماحدث هو اقتصاد ( سيقان الخشب ) بل مازالوا يعيشون أحلام ( النظرية التآمرية ) ؟؟!! ( 3 ) هذا المصطلح هو للمفكر الجزائري مالك بن نبي ، تأمل مثلاً الذي لايحترم شارات المرور ، إنه يشعر أنها لم توضع له ، فهو فوق القانون ولكنه يدمر النسيج الاجتماعي الذي يحافظ عليه بالذات ، ويذكر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه هل للإنسان مستقبل عن حماقة الحمار ، أنه يأبى أن يخرج من الزريبة أثناء الحريق مع كل حرص الآخرين على إنقاذه ( 4 ) مما كان يلفت نظري في ألمانيا أثناء وجودي الطويل فيها أن الموظف يعامل المراجع على ثلاث قواعد الأولى : إنجاز مسألة واحدة في وقت واحد ( وماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه !! ) فهو يهتم كل الاهتمام بمن هو أمامه وينسى كل النسيان من هو خلفه ، بل إذا أراد التكلم معه لم يرد عليه ، الثانية : الإنجاز الكامل والدقيق لوحدة العمل التي يتعامل معها ، وهكذا فمحاسب الصندوق لايبدأ مع الشاري الثاني مالم ينتهي من الأول قبضاً وتسديداً الثالثة : الاهتمام بالإنسان الواقف أمامه فيعطيه كل وجهه مع الكلمة الطيبة والابتسامة العذبة ليسأله في النهاية إن كان هذا كل شيء أو هناك ماتبقى لقضاءه ، وأريد أن أسجل لموظفي الخطوط السعودية سبقهم في هذه الأخلاقيات ( 5 ) أول من التفت إلى فكرة القانون الاجتماعي هو العلامة ابن خلدون ، لتتوقف من بعده ، ثم ليعاد بعثها من جديد على يد عالم فرنسي هو ( أوجست كومت ) ( 1797 - 1857 ) صاحب مدرسة ( الفلسفة الوضعية ) يراجع في هذا كتاب دراسة المجتمع - مصطفى الخشاب - مكتبة الانجلو مصرية - ص 35 ( 6 ) ثغرة في الطريق المسدود دراسة في البعث الحضاري _ د . محمود محمد سفر \ د . سيد دسوقي حسن _ سلسلة آفاق الغد - ص 78- 82 ( 7 ) يراجع كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي بحث الأفكار القاتلة والأفكار الميتة ( 8 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن حقل الدراسة التاريخية - ترجمة فؤاد محمد شبل - جزء 1 ص 3 حيث يعجز عن شرح التاريخ البريطاني منفرداً وإنما يمكن فهمه من خلال وحدة الحضارة الغربية ( 9 ) من الأرض الألمانية انطلقت الحروب العالمية ، التي أزهقت أرواح مالايقل عن سبعين مليون البشر ، ونزاعاتهم مع جيرانهم لاتنتهي خاصة الفرنسيين ، وأما محرقة اليهود على أيديهم فتعجز عنها حتى أبالسة الجحيم ، فمصطلح ( هولوكوست - HOLOCAUST ) أي المحرقة هي تلك العملية المنظمة التي شحنت اليهود من كل أوربا إلى معسكرات الاعتقال الجماعية ، والموت في غرف الإعدام بالغازات السامة ثم المحارق المخصصة ، واشتهر معسكر ( آوشيفيتز ) في بولونيا بشكل خاص حيث التهمت نيرانه اليهود وغيرهم بالملايين ( 10 ) من الغريب أن الألمان يشعرون بالكآبة يوم الأحد بعد الظهر ، لإنهم سوف يستقبلون يوم العمل والواجب في اليوم التالي وهو أمر متناقض مع شعب العمل والشغف به أعني الشعب الألماني ، وهذا يوحي بالمرض الداخلي العميق للإنسان والمجتمع الألماني ، بل والمجتمع الغربي للمستقبل البعيد ، وهذه أمراضهم ولكنها أدويتنا فما ينقصنا نحن ليس التنافس في الكسل بل العمل ( 11 ) غدة الكظر تجلس فوق الكلية في كل جانب بوزن حوالي ثلاثين غراماً ، مكونة من لب مسؤول عن تنظيم الضغط الشرياني من خلال إفراز هورمون خاص هو الأدرينالين ، وقشر يفرز ثلاث أنواع من الهورمونات لتنظيم الاستقلاب السكري والملحي والهورموني ، بالاشتراك مع البانكرياس والغدة النخامية في الدماغ والخصيتين أو المبيضين ( 12) من أفلام التراجيديا الفرنسية فالفارس ( سيرانو دي بيرجاك ) الذي يستطيع هزيمة مائة ويحب ابنة عمه ، يحمل أنفاً كبيراً اعطاه دمامة فحجبه عن طلب يدها ، وتمضي القصة في اعتصار قلب البطل حتى لحظة الموت التي يبوح فيها بالحب لابنة عمه ( 13 ) من العجيب في هذا الحديث الذي هو من ثقافتنا أنه ينص على أن الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها شهادة أن لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ، فنحن ليس فقط أننا لانرفع القذى من الطريق ، بل نلقي زجاجات الببيسي كولا ، وهذا يعطي فكرة أن التعطل العقلي يحرم من الاستفادة من كل الكنوز حتى لو وجدت في الثقافة ، ويجب ان نسجل لبلديات المملكة إنعاشنا بالنظافة والمنظر الجمالي الذي عهدناه في أوربا ( 14 ) يراجع في هذا كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية لفيلسوف عالم الاجتماع الألماني ( ماكس فيبر ) عن أثر الأخلاقيات البروتستانتية في انتشار الرأسمالية روح الادخار + روح المبادرة + قيمة الشغل ( 15 ) في العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم ص 101 ( 16 ) يراجع بالتفصيل كتاب الطب محراب الإيمان - جزء 2 - للمؤلف عن السرطان والتمرد في الجسم - دار الكتب العربية ص 103 .
اقرأ المزيد
موت المجتمعات وهلاك الأمم وانحلال الحضارات
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين ، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لاتفارقنا يوماً واحداً ، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة ، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة ، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما ، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد ، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت ؟ أو أنه كائن من نوع غير ( بايولوجي ) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت ؟ وإذا كانت ( سنة أو قانون ) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه ( المجتمع ) وتشكل مصيره ، فقد بات علينا معرفة هذا ( البعد الجديد ) في الحياة الإنسانية ، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك ؟ وبأي آلية ؟ وفي أي ظرف ؟ وتحت أية شروط ؟ ( لكل أمة أجل ) مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي: اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم : إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت ، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم . صدمت وبعمق ، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS ) ( 1 ) يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان ، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه ، مع هذا يبقى المريض مريضاً ، أي أنه مازال حياً يرزق ، ولو أنه محكوم بالإعدام . لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد ، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده !! فمن أين جاء بتحليله هذا ياترى ؟؟ إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات ( INDEX ) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع ، ولادة أو موتاً ، صحة أو مرضاً ، عافية أو اعتلالاً ، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص ( DIAGNOSIS ) فاعتبر الجسد الاجتماعي ( جثة ً ) . قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت : إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات مافيه الكفاية على موت الفرد ( عضوياً ) من انعدام النبض ، وتوقف ضربات القلب ، وغياب التنفس ، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد ، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة ، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة ، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة ، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة ( الصمل الجيفي ) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل ، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك ، الذي يتمزق في كل لحظة : باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل قد طالما أكلوا دهراً وماشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب : بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب ؟!! مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل ؟! ماهو المجتمع بالفعل ؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي ؟ لايمكن أن نفهم ( موت المجتمع ) مالم نفهم ماهو ( المجتمع ) بالأصل ؟ فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن ( النوعي ) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته ، وموته من حياته ، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو ( شبكة علاقات ) تنظم نشاط الأفراد ( 2 ) ، فإذا أردنا تصور ( الشبكة الاجتماعية ) أو ( النسيج الاجتماعي ) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد ، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة ، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد ، وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع ، حيث تترابط مايزيد عن ( 100 ) مليار خلية عصبية ( النورونات - NEURONS ) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف ، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط ، بحيث يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في رأسه ، من زاوية الاتصالات ؛ أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا . وتتعاون هذه ( النورونات ) من خلال ( نظام التحام ) بين كل خلية وأخرى ، تسري فيها سيالة عصبية ، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه ، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة ، والنسيج الاجتماعي أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها ، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود ، المتوتر أو المسيَّب ، النشيط أو الخامل ، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها ، وينبنى على هذه الفكرة أمرين هامين : 1 - الأمر الأول : إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لإنها من صناعتهم 2 - الأمر الثاني : إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة ، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد ، وهي ( الظاهرة الورمية ) التي تحدثنا عنها في بحث السرطان الاجتماعي ، حيث يؤدي ضخامة الفرد ( العقدة في الشبكة الاجتماعية ) إلى قطع الأوتار الاجتماعية ، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة ( السرطان ) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص ، غير عابئة بما يحصل للجسم ، ولكن السرطان كما عَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه ، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية ، يقضي على وجوده بالذات . يقول مالك بن نبي : (( بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات ، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا ، بينما شبكة علاقاته مريضة ، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد ، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب ( الأنا ) عند الفرد من ( تضخم ) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية ، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم ، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً ))( 3 ) المجتمع يعتبر شبكة علاقات وليس كماً من الأفراد كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية ، فالسكر السداسي ( الغلوكوز ) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا ، مكون من ذرات من الفحم الأسود ( الكربون ) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد ، مكون من ذرات من ( الكربون الأسود ) المضغوط بشكل جبار . والذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة ، هو طبيعة ( التركيب الداخلي ) لذرات الكربون ، فأصبحت ( يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار ) والمجتمع بدوره هو ( طبيعة تراص ) خاصة بين أفراده ، فإذا بقي ذرات كان سخاماً أسوداً ، وشحاراً قاتماً ، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة ، أو لمعان تفوق عبر التاريخ . فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة ، وأعطى ذرة الألماس الصلابة المخيفة والتألق المدهش الفذ ، هو طبيعة التركيب الداخلي ، مع أن ذرات الكربون بالأصل سواد وقتام ، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية ، بل يعتبر الفحم ( شبه معدن ) وليس معدناً ، فهو ليس في صلابة الحديد ، أو ندرة الذهب ، أو ثقل الزئبق ، أو إشعاع اليورانيوم ، فالذي يعطي التركيبَ القوةَ الضاربة ، أو النوعية الممتازة ، أو التميز والتفوق ، هو كيفية ( اجتماع ) عناصره الأولية . وكذلك المجتمعات ، فالذي يَسِمْ المجتمع بالقوة أو الضعف ، بالتميز أو السطحية ، بالتفوق أو الانحطاط ، هو نوعية علاقة ذراته ( أشخاصه ) الداخلية . وبذلك تفوق المجتمع الياباني وتأخر المجتمع العربي ، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين بالمجتمع الغربي كانت متقاربة ، فارتفع المجتمع الياباني وحلق ، في حين أن المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة ، ويعجز عن السيطرة على حل مشاكله ، وبين عامي 1960 م و1990 م حقق المجتمع ( الكوري ) قفزة نوعية وبقي المجتمع ( الغاني ) يتجرع غصص التخلف ، مع أن مستوى دخل الفرد كان واحداً في نقطة البدء !! ( 4 ) . إذاً المجتمع هو تركيب ( STRUCTURE ) تماماً كما في التراكيب الكيمياوية العضوية ، وهو بالتالي ليس ( مجموعة ذرات ) و ( كومة أشخاص ) ونحن نعلم من الكيمياء العضوية ، أن تغيير فاعلية مركب ، من وضع إلى وضع ، يتم من خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية ، ويبقى ( الكم الذري ) كما هو بدون نقص أو زيادة ، فينقلب المركب الخامل إلى فعاِّل وبالعكس ، والدواء إلى سم زعاف ، والسم إلى ترياق ، كما حصل مع باول ايلريش ( PAUL EHRLICH ) بعد ( 606 ) من المحاولات ؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض الأصبغة ، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياقٍ وعقارٍ ، لمعالجة داءٍ فتكَ بالجنس البشري أكثر من ( 400 ) عاماً ( الافرنجي _ SYPHILIS )( 5 ) . كيف يبدأ المرض في المجتمع ؟؟ كيف يتحول المركب إذاً ؟ كيف ينقلب في وظيفته ؟ بل وكيف يمرض المجتمع ؟؟؟؟ كلها تحدث بنفس الآلية ( تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية ) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا إلى ( قوارض اجتماعية ) تلتهم الشبكة الاجتماعية ، انحدر المجتمع صوب الفناء والموت ، وبنفس الآلية التي يموت فيها الأفراد . ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة جيداً ؟ فماالذي يحدث عند موت الفرد ؟ دعنا نتأمل ظاهرة ( الفك والتركيب ) في أي موجود تحت أيدينا من مثل الكرسي أو الطاولة أو السيارة ؟؟ وكيف نسمي الطاولة ( طاولة ) ؟ أم كيف نمنح لقب الكرسي لـ ( الكرسي ) ؟ أو السيارة لـ ( السيارة ) ؟؟ إن هذا يرجع ليس لـ ( القطع أو الأجزاء ) التي تشترك في تركيب الطاولة أو الكرسي فضلاً عن السيارة !! فلو أمسكنا بالكرسي و( فككَّنا ) الأجزاء عن بعضها ، لم تعد الطاولةُ ( طاولةً ) ولا السيارةُ ( سيارةً ) ؟! والسبب هو أن السيارة تأخذ ( وظيفتها ) و ( شكلها ) الذي يمنحها الاسم ، من ( اتصال القطع ) و ( تلاحم الأجزاء ) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة لنقل الركاب والأمتعة . كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه ، فإذا التأمت قطعه ، وتضافرت عناصره الأولية ، لتؤدي وظيفة ( الجلوس ) عليه ، استحال إلى كرسي ، أما قطعه الأولية فليس لها اسم ، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع ومعقدٌ للغاية ، والذي يحدث في الموت ، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه ، وتعود إلى سيرتها الأولى ، أو للسيارة عندما تُفكَّك وترجع إلى وحداتها الأولية ، وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال ( قد علمنا ماتنقص الأرض منهم )(6) فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لاينقص منه شيء ، وبَدَنُنَا في الواقع مكون من برميل ماء ، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير ، وقبضةٍ من الكلس ، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب ، وحفنة من الفوسفور ، وآثارة من اليود والنحاس ، وبقيةٍ تافهة من الفوسفور المتقد ، وكميةٍ من الغازات التائهة !! فنحن كـ ( مواد أولية ) في ( ثمننا ) لانساوي شيئاً مذكوراً ، ولكننا في تركيبنا الإنساني لايصل إلينا ( سعر ) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في منتهى الغباء !! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى دورة الطبيعة ، ولاغرابة عندما نسمع أبو العلاء المعري ينشد : رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٌ من تزاحمِ الأضداد خفِّف الوطءَ ماأظن أديم الأرض إلا من هذه الأجســــــاد إن العنصر الواحد مثل حديد الدم ، أو فوسفور المخ ، أو يود الدرق، أوكلس العظام ؛ مصيره في النهاية إلى التراب ، إلى دورة الطبيعة ، ليعاد تشكيله واستخدامه من جديد ، في غاية جديدة ، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر ، قد يكون بشراً جديداً ، أو أنسجة حيوان ، أو محتويات خلية نباتية ، فأجسادنا الزائلة جاءت من الطبيعة ، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ( 7 ) ، والذي حصل مع الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين ، سبقت إحداهما الأخرى ، فأما الخلل الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو ( توقف الوظيفة ) فيتحول الإنسان إلى صورة جامدة ، لايبكي ولايضحك ، لايتألم ولايحس ، لايتكلم ولايسمع ، فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي ( تحلل الشكل ) فالميت مثل النائم ، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله ، بل يبقى اللحم حاراً ولساعاتٍ بعد الوفاة ، كما تبقى بعض الخلايا حية ، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما ، ثم يسيطر الموت فتبدأ ( علاقات ) الأنسجة بالتفكك و ( ارتباطات ) الخلايا بالتمزق النهائي ، كي يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية . والمجتمع عندما يبدأ الانهيار في مرحلة الموت يمر مايشبه هذه المراحل من ( شلل الوظيفة ) لينتقل بعدها إلى مرحلة ( اندثار الشكل ودماره الكاملين ) .. ليتحول في النهاية إلى ( كومة ) من الأناسي و ( خردة ) من البشر لايجمعها رابط ، أو يضمها مثل أعلى ، أو يحدوها قيم عليا ، أو ينتظمها تنسيق مشترك ، فيعيش كل فرد لنفسه ، أو يتحول الإنسان من ( الشخص ) إلى ( الفرد ) فيخسر ذلك ( البعد ) الذي منحه أياه المجتمع ، حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية ( المعادلة الاجتماعية )( 8 ) موت الأفراد وموت المجتمعات حسب القرآن ومن الملفت للنظر أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين ، فذكر موت ( الفرد ) ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات ( لكل أمة أجل ) ( 9 ) فالأجل هنا جماعي وليس فردي . فالآجال إذاً نوعان : منها ماهو خاص بالفرد والآخر بالمجتمعات ، كلٍ من نوعية متباينة ، وهذا يعني بكلة ثانية أن الأمم تموت ، والدول تنتهي ( 10 ) والشعوب تفنى ( 11 ) والحضارات تباد وتنهار ( 12 ) بل إن حديث القصعة أشار أيضاً إلى طرف من هذا ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) فيتحول المجتمع الإسلامي إلى مواد غذاء وتموين لبناء أجساد أخرى ، عندما يختل تركيب التكوين الداخلي الاجتماعي ، فتتحول طاقات الأفراد المنسابة عبر الأقنية الاجتماعية إلى مصادر تفجير لها ، فتتمزق أقنية الوصل الاجتماعية ، ويتهتك النسيج الاجتماعي . جاء في كتاب ميلاد مجتمع : (( ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع مالم يسبق تكييفها ، أعني مالم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا تعيد تنظيم هذه الطاقة وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع - إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما ))(13) . كما أسعفنا القرآن بأمثلة عن مجتمعات باتت مريضة تمشي باتجاه الموت ، وكيف تم التصرف تجاهها ، بين فتية أهل الكهف ، الذين انطلقوا لتأسيس مجتمعهم الخاص بهم وضنوا حتى بالكلب أن يبقى في المجتمع السابق !! وبين موسى ( ص ) وهو يواجه أعظم حضارة في عصره ، حيث حدد مهمته على وجه الدقة ، من أنه لايريد إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه ، إنه يريد شعبه ، الذي ينتظره أن يُدفن في الصحراء أولاً من خلال ( التيه ) كي يخرج من أصلابهم جيل لايعرف غير الشمس والحرية ، وهو الذي لن يرتعد من ( القوم الجبارين ) الذين توهمهم آباؤهم كذلك . والمثل الثالث في انفلاق مجتمع المدينة الساحلية إلى ثلاث مجموعات أمام تحدي الانحراف ، نجى فيها الفريق الصغير نواة الأمة الجديدة ، بترابط جديد للقيم ، أما بقية المجتمع فتشوه الترابط الداخلي عنده ، ليتحول إلى مجتمع ( القردة الخاسئين ) ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ولاغرابة لإن كروموسومات القردة تشبه 99% من كروموزومات الإنسان ، ولكن الاختلاف في البناء الداخلي ولو باختلاف 1% يقلب البناء رأساً على عقب ، ويحول البشر السوي إلى قردٍ خاسيء !! شهادة التاريخ في موت المجتمعات : إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ ، وبقيت الأهرامات تشهد على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع ( بيولوجياً ) ولم تُغيَّب عناصره الأولية في التراب ، ومازال الإنسان الفرعوني ( المصري ) يعيش ، ولكن كعنصر أولي يشارك في حضارة مختلفة ، فعندما مات المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و ( طوب ) أو ( لبنات ) امتصها مجتمع زاحف نامي متفوق ، كوَّن بها نفسه من ( لبنات ) المجتمع الميت ، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وهكذا تحول المجتمع ( الفرعوني ) إلى مجتمع ( روماني ) ، ثم مات بدوره ليتحول إلى مجتمع ( إسلامي ) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى ، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ) مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والازتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني الخ ... (( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )) ( 14 ) تحليل يومي تشريحي لحركة المجتمع : ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع والكيمياء العضوية والبايولوجيا بل وحتى علم الأدوية ، نتوجه لتسليط الضوء على فكرة ( السلسلة الذهبية ) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي ، وتقطع شبكة الربط الحضارية !! مامعنى أن ( معاملة ) ما في أي قطاع اجتماعي لاتمشي إلا بطريقة ( الدفع المتتابع المستمر ) مع شيء من المقبلات من ( الوساطة ) ؟؟!! إن هذا المرض خطير للغاية ، ومؤشر لأزمة اجتماعية ، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي _ إن شِئنا أم أبينا _ وحتى تنجز تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية ، يقودها الأفراد الاجتماعيون ، من خلال معادلة ( حق - واجب ) أي أن الواجب الذي يؤديه فرد في سلسلة ( آ ) ستكون له حقاً في سلسلة ( ب ) مثل العلاقة بين ( علاج طبي لمريض ) و ( استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور ) و ( نقل رسالة بريدية ) فالعملة أي ( الخدمة الاجتماعية ) هي عملة ذات وجهين ( حق - واجب ) فما كان حقاً لفرد هو واجب للتأدية في ذمة آخر . هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل ( حلقات السلسلة ) بمافيهم الفرَّاش وحامل الأوراق ، لإنه يكفي أن ( تنام ) المعاملة في ( درج ) أو يضطرب التعقيم في مرحلة طبية ، أو يهمل أي موظف الخدمة الاجتماعية ، أن تضطرب السلسلة كلها وتحل الكارثة !! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية . فإذا كانت ( السلسلة الاجتماعية ) مكونةً من عشر حلقات بين الرئيس ، ومساعده ، والسكرتير ، والموظف المتلقي ، وحامل الأوراق ، والمدقق ، والناسخ ، والضارب على الآلة الكاتبة ، وصاحب الكمبيوتر ، والجالس خلف سنترال التلفون . يكفي أن تضطرب ( حلقة واحدة ) وحلقة واحدة فقط لاغير ، من هذا السلسلة كي يختلَ العمل بأكمله ، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي ، فعندما يكون الموظف متسلِلاً بدون إذن ( 15 ) والساعي مهملاً ، والمدقق نعساناً ، والناسخ فوضوياً ، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً ، والقاعد خلف السنترال نائماً ؟! يكفي الخلل في ( حلقة مفردة يتيمة ) ولو كانت كل ( السلسلة ) من الذهب الخالص و24 قيراط ، أن تحل الكارثة وتقع المصيبة ، وتتوقف السلسلة أن تمر بها ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وبذا ينطفيء الضوء الاجتماعي ، ويذهب نوره ، وتحترق الآلات ويعم الخراب ، وتسود الفوضى ، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع ... نفسي نفسي . إن هذه الحقيقة المرة والموجعة هي الإصابة العصبية الاجتماعية الكبرى ، والتي تحول المجتمع إما إلى ( مشلول ) بانقطاع العصب ، أو متشنج مضطرب بإصابة العصب الجزئية ، مشلول عندما يعطب العصب بالكامل فلايمرر السيالة العصبية الاجتماعية ، ومتشنج بعدم تناسق عضلات الفعل الاجتماعي في اضطراب مرور السيالة العصبية حسب نسبتها ومقدارها موت المجتمع لايعني بالضرورة فناء الأفراد إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهقة إلى أبعد الحدود ، مزعجة إلى حد المرض ، مضيِّعة للوقت بدون مبرر ( لإننا ملوك الزمان ) بل وتأكل الكرامة الإنسانية أحياناً ، فلا موظف يبقى خلف طاولته ، ولاعامل يبقى مرتبطاً إلى عمله ، والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها اللهَ في نهاية المطاف على السلامة ، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد( أليس للعجائب ) و( عبقر ) للجن ، وإنجازها وكأنها إزاحة جبل ، والسر في هذا هو تقطع ( نقط الاتصال والالتحام الاجتماعية ) بين ( حلقات ) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها ، فلا تعود ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك ، وحديد صدأ ، والصدأ على كل حال يعني التفكك والعودة إلى حالة ( الخام الطبيعي ) ، فإذا اضطربت ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وتقطعت حلقاتٌ متعددة ، من سلاسل شتى ، كان مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج الاجتماعي ، وكان معناه أن المجتمع يبدأ يكف أن يكون مجتمعاً ، بل يتحول إلى ( مُجمَّع هزيل ) و ( مافيات اجتماعية ) وحوضاً مرعباً لسمك القرش وقنافذ البحر والاخطبوط الاجتماعي ، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الاوقيانوس ( المحيط ) اللاجتماعي المتخبط ، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى ، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق ، وعليه أن يولد من جديد ، إما بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع ( البشر الخام ) في الجاهلية ، حيث لم يكن يهم ( طرفة بن العبد ) إلا قدحاً من الخمر ، وقتالات طائشة ، وممارسة الزنا مع بنات الهوى ( 16 ) أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة ، واندثار ثقافة المجتمع ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم ) وقد حدث هذا في التاريخ ويتكرر . مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع الكهربائي والالكتروني : ماالفرق بين مجتمع ومجتمع ؟؟ هناك ثلاث أنواع من المجتمعات فيما لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية !! مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع ( الكهربائي ) و ( الالكتروني ) ، فعندما لاتمشي المعاملات إلا بطريقة ( الدفش المتتابع المستمر ) !! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء ) فالماء يتدفق طالما بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي ، فإذا توقفت عن( الدفش ) انقطع الماء وتوقف الخير !! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بملمتر واحد ؛ لاتصل إلى هدفها بدون ( الدفعة الأخيرة ) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لاشيء ، فلا تولد أو ترى النور بدون الحقنة الأخيرة !! أما المجتمع ( الكهربي ) فهو الذي يتحرك بكبس الأزرار ، فتمشي المعاملة لوحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير ، بسبب قوة كل حلقة من ( السلسلة الذهبية ) ، وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما حركَّها ، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم ، وهي من أسرار تفوقهم وقوتهم ، فلاتحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة ، فضلاً عن نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية ( تخليص المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري ؟؟!! ) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات ( النبض الالكتروني ) فهي تلك التي تتربع على عرش الالكترونيات ، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان ، من مثل المجتمع الياباني ( 17 ) وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء ) إلى ( الفعل الكهربي ) فضلاً عن ( التوهج الالكتروني ) فإنه يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية ، فإذا أدى أحد ( حلقات ) السلسلة عمله بفعل ( جذبي بانتكاس داخلي ) قعد المجتمع وانشل ، وإذا تحول إلى روح ( الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي ) تحول إلى مجتمع ( حركة الكهرباء ) فإذا قفز إلى روح ( المبادرة ) أصبح بسرعة الومض الالكتروني !! ولله في خلقه شؤون . ثمن الانهيار الاجتماعي مع تمزق شبكة المجتمع يدفع كل عناصر المجتمع الثمن ومع كل فوائده المركبة ، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي ، والسبب بسيط هو أن ( الماكينة الاجتماعية ) لاتعمل ، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى أسفل ، فتتباطيء ويتوقف الانتاج ، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية ، فهي تبرد مع الوقت ، والتحرك باتجاه المحيط ، أي أن الفعل الاجتماعي يتحول من فعل ( واعي إرادي ) إلى عمل ( فيزيائي ) وشتان بين الإرادة والمعدن ، والحي والجماد ، والفعل والانفعال ، والطبيعة والإنسان ، في حين أن المحافظة على الشبكة الاجتماعية يجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها ، ممتعة لكل فرد ، حلوة لكل من يشارك في نشاطها ، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم ( الاستقامة ) والفائض في الحياة الاجتماعية ( غدقا ) ( وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً ) ( 18 ) مثل انكليزي معبر : يقول المثل الانكليزي أن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص أسماؤهم ( كل واحد ) و ( أي واحد ) و ( لا أحد ) والرابع كان اسمه ( بعض الناس ) ، وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز . فُسئل ( كل واحد ) كي ينجزه ، إلا أن ( كل واحد ) كان يتوقع من زميله ( بعض الناس ) أن يقوم به ، إلا أن ( بعض الناس ) غضب لإن المهمة كانت مهمة الزميل ( كل واحد ) ، إلا أن ( كل واحد ) فكر أن ( أي واحد ) يمكن أن يؤديها ، ولكن الزميل ( لا أحد ) تحقق أن ( أي واحد ) يمكن أن يفعلها ، وبذلك كانت المحصلة أن ( كل واحد ) لام ( بعض الناس ) لإن ( لا أحد ) فعل ماكان يجب أن يفعله ( أي واحد ) !!! THIS IS A STORY ABOUT FOUR PEOPLE NAMED ( EVERYBODY ) , ( SOMEBODY ) , ( ANYBODY ) , AND ( NOBODY ) . THERE WAS AN IMPORTANT JOB TO BE DONE AND ( EVERYBODY) WAS ASKED TO DO IT . ( EVERYBODY) WAS SURE ( SOMEBODY) WOULD DO IT . ( ANYBODY ) COULD HAVE DONE IT . ( SOMEBODY ) GOT ANGRY ABOUT THAT , BECAUS IT WAS ( EVERYBODY) ,S JOB . ( EVERYBODY ) THOUGHT ( ANYBODY) COULD DO IT BUT ( NOBODY ) REALIZED THAT ( EVERYBODY) WOULD,NT DO IT . IT ENDED UP THAT ( EVERYBODY ) BLAMED ( SOMEBODY) WHEN ( NOBODY ) DID WHAT ( ANYBODY ) , COULD HAVE DONE . قصة الملك وشعبه المحب : وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له ، بأن نصب في الميدان العام للبلد حوضاً كبيراً ، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل ، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً ، لإن كل واحد فكر بنفس الطريقة : (( وماالذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير !! )) مراجع وهوامش: ( 1 ) الإنذار مصطلح طبي عن توقع حالة المرض للمستقبل ( 2 ) جاء في كتاب ( ميلاد مجتمع ) لمالك بن نبي - ترجمة عبد الصبور شاهين - إصدار ندوة مالك بن نبي - ص 15 : (( المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد ، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني ، يتم طبقاً لنظام معين ، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ماتقدم على عناصر ثلاثة : 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها )) ( 3 ) كتاب ميلاد مجتمع - المصدر السابق - ص 40 (( فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية ، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام ، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي )) ( 4 ) يراجع كتاب ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) تأليف باول كندي - النسخة الانكليزية ص 193 ، ويذكر المؤرخ أن دخل الفرد كان في البلدين عام 1960 م 230 دولار في السنة ليصبح اثني عشر ضعفاً للكوري ويبقى الغاني راوح مكانك ( 5 ) يراجع قصة الميكروب تأليف ( بول دي كرويف ) - ترجمة أحمد زكي - لجنة التاليف والترجمة والنشر - بحث الرصاصة المسحورة ص 339 ( 6 ) سورة ق الآية 4 ( 7 ) سورة طه الآية رقم 55 ( 8 ) يراجع في هذا التحليل القيم لاوسفالد شبنجلر في أفول الغرب عن مفهوم كم البشر الذي تضم خليطه المدن العالمية الكبرى بدون أي رباط قيم ( 9 ) راجع الآية رقم 49 من سورة يونس : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون وراجع الآية رقم 19 من سورة ق : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ( 10 ) أشار ابن خلدون في مقدمته أن الهرم إذا نزل بدولة فلايرتفع لإن لها أجل طبيعي راجع المقدمة ص 293 - 294 ( 11 ) راجع القصة المروعة لفناء شعب الوبيخ في شمال قفقاسيا من خلال القصة الدرامية ( آخر الراحلين ) ( 12 ) راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن انقراض 23 حضارة من أصل 28 حضارة مرت على ظهر البسيطة ( 13 ) مالك بن نبي المصدر السابق ص 100 ( 14 ) ميلاد مجتمع - ص 8 : ولقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت ، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت مثل المجتمع الغالي بعد معركة اليزيا والمجتمع القرطاجني بعد معركة زاما والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على بومبي ، وحضارة الازتيك عاشت في أمريكا الوسطى والانكا في أمريكا الجنوبية وكلاهما دمرهما الأسبان ، أما شعب الوبيخ فقد دُمر بيد روسية عثمانية مشتركة !! راجع قصة آخر الراحلين ( 15 ) تأمل الآية من سورة النور رقم 62 - 63 وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يستأذنوه .... قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ( 16 ) يراجع في هذا معلقة طرفة بن العبد ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ...... وجدك لم أحفل متى قام عودي .. شربة الخمر التي يعلوها الزبد+ الكر في الحروب الفارغة + والبهكنة ( الفتاة الناعمة ) للمتعة الرخيصة ( 17 ) يراجع في هذا كتاب آفاق المستقبل - جاك أتالي - عن تحول القلب الصناعي في المحيط الهادي باتجاه طوكيو وكذلك كتاب ( اليابان الذي يستطيع أن يقول لأمريكا لا ) تأليف عضو الدايت الياباني ( شينتارو إيشيهارا ) ( 18 ) السورة الجن الآية 16 .
اقرأ المزيد
الحوار أم الصدام ؟
في الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله ، في مركب جديد متطور ، متفوقٍ على كل ٍمن المركبين السابقين ، وفي الصدام يلغي كلُ طرفٍ الآخرَ، ليموتَ الاثنان في النهاية ، لإنه في اللحظة التي يلغي فيها أحد الأطراف الطرف الآخر يكون قد حكم على نفسه بالإلغاء . فالحوار هي آلية نجاة الجميع . لإنها وثيقة الاعتراف المتبادل بالوجود الذي أسبغه الله على الجميع يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر : هل لك في الحوار ؟ فقال : على عشرة شروط !! قال وماهي ؟ قال : ألا تغضب ، ولاتعجب ، ولاتشغب ، ولاتحكم ، ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ، ولاتجعل الدعوى دليلاً ، ولاتجوز لنفسك تأويل آيةٍ على مذهبك ، إلا جوزت لي تأويلَ مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلاً منا يبغي من مناظرته ؛ أن يكون الحق ضالته والرشد غايته !! (1) دخل عليَّ صديقي التركي ( عاصم ) مع طفله الصغير ، الذي أعجبته مكتبتي وتلون كتبها ، فانطلق في هذا العالم الجديد يعس فيه ويكتشف ؟! إلا أنه سرعان ماعاد إلى منعكسات اللجم التي عُوِّد عليها ، فكانت والدته لاتنطق إلا بلفظ ابتعد لاتلمس أو لاتقترب وممنوع !! المهم كان حرف ( لا ) المقدس يتكرر كالمطرقة على رأس الصبي المذهول ، بين جاذبية المكتبة وأغراضها ، وبين حرف ( لا ) العنيد البئيس والمتكرر ؟!! وبقي الطفل يتأرجح بين كلمات اللجم ، والقانون الميمي الثلاثي ( مايصير . ممنوع . مافي ) ونظرات التخويف ، وبعضاً من صفعات والده التربوية !! وأردت أن أقوم بتجربة صغيرة مع هذا الطفل ، فبدأت في ( حواره ) ، وكان دوري أن أعلمه ( أسماء الأشياء ) ( 2 ) ومن خلال التعريف أسمح له بالدخول إلى العالم المزدحم من حوله ، فبدأ الطفل فتجرأ فـ ( نطق ) وتجاسر فتكلم فـ ( سأل ) ولكنني أدركت أن هذا الطفل ( الصفحة البيضاء ) يتشكل فيه ( نقشنا ) بقدر الجهد المبذول من خلال ساعات العمل . والإنسان في الواقع كمعادلة ليس أكثر من : وضع صيرورة ، ومحصلة تراكمية بطيئة للحظات الجهد الواعي خلال وحدات الزمن التي مرت قبل كل لحظة جديدة ، وهذا التراكم لايتوقف إلا بالموت ، فالموت هو توقف الصيرورة ، وإن كان كثير من الناس أموات وهو محسوبين من الأحياء ***************************** هذه الواقعة السابقة أثارت في ذهني بعض الذكريات من الوسط الألماني ، وطريقة المرأة الألمانية في معالجة طفلها اليومي . كنت أتأملها وهي تعطيه كل الوقت ، تنمي عقله ، بـ ( احترام السؤال ) وتنمية ( الدهشة ) واستثارة ( روح الفضول ) وتشجيع ( الحوار ) وطرد شبح الخوف منه ، وجرأة ( النقد والنقد المضاد ) والتعبير عن وجهة النظر أمام الملأ بدون وجل أو اضطراب ، جنباً إلى جنب ، مع العناية بغذاءه ونظافته وحمَّامه اليومي ، وتشكيل السلوك عنده في عدم إلقاء شيء على الأرض ، أو عدم إخراج الأصوات من فمه أثناء ارتشاف الشوربة أو الشاي ، فهي حضارة النظام والنظافة والهدوء . وأدركت أن الطفل في مجتمعنا ومن خلال تركه للظروف ( تُشَكِّله هي ) ينبت وقد اغتيلت عنده مجموعة من الصفات النفسية الإيجابية ، لعل أبرزها ( روح الدهشة ) في تأمل العالم ، لإنه مع وأد روح الدهشة تتوقف آلية الفضول ، فيُقتل النمو وروح البحث العلمي عنده دفعة واحدة . وبالتالي لذة ( الجِدَّة ) في الحياة التي تخلع على الحياة معنى وتشحنها بالاستمرارية والنمو ، وبكسب العادات العقلية الجديدة هذه ، ينشأ ليس على الانطلاق وروح المغامرة وحب اكتشاف المجهول ، بل على السلبية والجمود والخوف والتقليد الأعمى . كما ذكرتني الواقعة آنفة الذكر ، بالدراسة الشيقة التي قام بها عالم النفس السويسري ( جان بياجييه )( JEAN PIAGET )( 3 ) عندما قام بدراسته على أولاده الثلاثة ، من خلال دراسة ( التطور الروحي الحركي ) وارتقاءه مع ارتقاء الإنسان في العمر ، ووضع اتجاهاً كاملاً بين مدارس علم النفس ، التي اجتهدت في فهم المزيد عن الآليات النفسية وعملها عند الإنسان ، وعلاقة ذلك في بناء العادات العقلية ، ومنها كسب آلية الحوار التي نحن بصددها . يرى ( بياجييه ) أن : (( كثيراً من المفاهيم مثل التفكير والذكاء والوعي والقيم والتوقع )) تعود إلى (( تأثير البيئة على الإنسان )) الذي هو (( محكوم بمدى وعيه بها وهو وعي يمر في مراحل ارتقائية مختلفة )) ( 4 ) فكرة الزوجية ( القانون الانطولوجي _ الوجودي - وعلاقته بالحوار ) : إن الزوجية هي القاعدة الأولى التي ينطلق منها الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى فكل شيءٍ من الأناسي والحيوان والثمار و( الأفكار ) خُلق زوجين وليس فرداً ، وبغرض التزاوج ( ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ( 51 : 49 ) فالإنسان يولد من زوجين أب وأم ، كذلك الحيوان والنبات ، وكذلك الأفكار ، فكل فكرة هي مولودٌ من أب وأم ، وفروع وأصول ... ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون ) ( 36 : 36 ) .. وتزاوج فكرتين _ بشروط الزوجية _ يخصب العلاقة بذرية جديدة صحيحة البنية ، ولكن مع هذا قد يحدث زواج ولايحصل الإنجاب ، بفعل عقم أحد أو كلا طرفي العلاقة . فالشرط العضوي أساسي في الزواج ، ولايتم الإنجاب بدونه ، ولكنه مع هذا فهو شرط غير جامع ولامانع . إذا فشلت العلاقة الجنسية فشل الزواج في الغالب ، ولكن إذا نجحت فإنه لايعني أن الحياة الزوجية في مركب استقرار ، بل لابد من الشرط الكامل ( الجامع والمانع ) : ( المودة والرحمة ) ؛ فحتى يأتي الأطفال إلى الدنيا لابد من زواج بين رجل وامرأة ، وحتى يرى الحيوان ذريته من أي نوع ، لابد من زواج ذكره بأنثاه ، وحتى يتم إثمار النبات ، لابد من اللقاح والزوجية ، فـ ( ولادة ) البشر و ( تكاثر ) الحيوان ، و( إثمار ) النبات ، يتوقف كله على التلاقح والزوجية . فالزوجية هي : (( أس الكون وأساس الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى )) . هذا القانون ينطبق أيضاً على الأفكار ، باعتبارها وحدات مخلوقة . فشرط الخصوبة والتكاثر الإيجابي ، بل وحتى السلبي في الوجود المخلوق هو الزوجية ، وتعبير القرآن ( من كل شيء ) يجعل القاعدة تعم المخلوقات كلها ، فتدخل دنيا الأفكار تحت هذه القاعدة ، باعتبار أن كل فكرة هي ( مخلوقة ) من مخلوقات الله فكما أن كل شيء مخلوق ، كذلك فهو خاضع لقاعدة الزوجية ... ولاتشذ الأفكار عن هذه القاعدة ، ففكرة ( ا ) عندما تتزاوج مع فكرة ( ب ) يتولد منهما فكرة ( ج ) ، وكما أن كل إنسان له أب وأم ، كذلك فكل فكرة لها آباؤها وأبناؤها بل وأحفادها ، وكما كان للبشر أبناء وحفدة (( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )) ( 16 : 72 ) كذلك كان للأفكار ذرية صالحة وأحياناً طالحة ، ولكن كما قلنا : إن شرط الزوجية هو أساس الخصب ، كذلك تبادل الأفكار واللقاء والبحث ، فإنها تحتاج للأزواج ( العقليين ) المخصبين ، فاجتماع عاقلين يتبادلان الآراء ينتج عنهما أفكار جديدة ، باعتبار ( التلاقح النوعي والفكري ) هنا . مع هذا فإنه ليس كل الأزواج عندهم ذرية (( ويجعل من يشاء عقيما )) ( 42 : 5 ) واجتماع جاهلين هو اجتماع عقيمين ، والعقيم من طرف واحد يسبب عدم الإنجاب فكيف إذا كان من الطرفين ؟!! فالخصوبة تأتي من مخصب وكذلك اجتماعات الناس ... إلا أن علاقات الأفكار في تزاوجها تخضع للقوانين التالية ( بعضها على الأقل ) : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن علاقات الأفكار في التزاوج ليست مثل الواقع الاجتماعي الإنساني ففي عالم الأفكار يمكن للأفكار أن تتزاوج مع أصولها وفروعها إن صح التعبير ، وهذا يعني ذرية برقم قياسي . 2 - وتقول الفكرة الثانية : الذرية التي تخرج من هذا الاقتران ليست ( نُسخاً = كوبي ) ولا أصول ، بل هي أفضل من الأصول ، بل وكل ذرية هي أفضل من التي قبلها ، كما يحصل في اولادنا الذين ننجبهم فأولادنا نسخ أصلية أفضل منا ويحملون نفس القدرة الانتاجية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : الفكرة كائن حي ، بمعنى أنه يحمل صفتي ( الحركة والتكاثر ) وهكذا فالفكرة تحمل في ذاتها قدرة الاندفاع الذاتية ، لذا يجب علينا أن لانزهد بأي فكرة ندلي بها في أي وسط إنساني واعٍ . والقرآن اعتبر الكلمة الطيبة أنها كائن حي ( كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : هناك في عالم الأفكار قانون ( النمو أو الفناء الذاتي ) فالفكرة السيئة فيها خلل كروموزومي ، يقودها إلى وضع سرطاني فتنمو إنما بشكل شاذ ، مما يودي بها في النهاية إلى حتفها ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) . خلافاً للفكرة الجيدة التي فيها صفتي ( الخيرية والديمومة ) . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : اعتبر القرآن أن العاقبة هي للأفكار الصالحة فهي التي ستبقى في حين أن بقية الأفكار السيئة تمتاز بالجزئية وعدم الصمود مع عنصر الزمن ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهكذا سقطت الشيوعية ومضت الفاشية وانقرضت النازية . فهو قانون تاريخي صارم . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إن الكون يقوم على مبدأ التعددية فالجبال مختلف ألوانها ، والألسنة متعددة ، والشعوب متباينة ، والأفكار متضاربة ، وهذه القاعدة متأصلة في الوجود ، وعلى أساسه تمت برمجته ( ولذلك خلقهم ) فهو جل جلاله لو أراد جعل الناس أمة واحدة ، ولكنه خلقهم مختلفين حتى تبقى الحياة في حالة صحة ونمو وحركة ومدافعة ويقظة . وكما أن العقم ليت حالة مستعصية في كل الأحوال وبشكل مطلق ، وثبت علمياً أنه يمكن معالجة العقم كي يصبح منتجاً ، كذلك العقول والأفكار واللقاءات . قد يحصل اجتماع ، وتبادل آراء بين العُقماء ، ولكنه من نوع تبادل الجهل ، وكثير من الاجتماعات هي في الواقع إما في صورة ( مجاملات ) أو إذا حصل خلاف في الرأي حدث ( نزاع ) ، فكثير من الناس يدرجون في لقاءاتهم على الانعكاس على أحد طرفي علاقة مشؤومة هي ( مجاملات - منازعات ) وبذلك يتعطل الجهد العقلي في هذا اللقاء فلا يثمر . إن جو المجاملة في البحث يعني بكلمة أخرى التهرب والالتفاف حول الموضوع ، والاحتفاظ بالخنادق الفكرية ، وبذلك لاتتعرض الأفكار للتجلية والتمحيص ، وبالتالي النمو والبللورة ، فهو تهرب لبق من البحث تحت ضغط فكرة : إن البحث سيقودنا إلى النزاع واختلاف القلوب ، ولذا وحفاظاً على علاقاتنا الشخصية يجب أن نتجنب البحث الجدي والحوار الفعَّال . والكثير لايتصور خلاف الرأي إلا في صورة ( النزاع ) ، مع أن الله خلق البشر بالأصل مختلفين ، لإن في الاختلاف تفاعل وصحة وخصوبة وكشف لصورة الحق (( ولذلك خلقهم )) ( 11 : 119 ) وإذا حصل النزاع حصل تبادل الجهل ، وارتفعت الأصوات ، وعم الصخب ، وتفشت المهاترة ، لذا كان من الأفضل في مثل هذه الأجواء أن يتوقف العقل عن المتابعة ، لإن العتبة العقلية تتوقف هنا ، وتبدأ عتبة الحنجرة والحبال الصوتية !! .. وجرت سنة الله في خلقه أن رفع الصوت في مثل هذا الجو ، يتماشى بشكل طردي مع ضعف الحجة ، فكما يلجأ البعض إلى ثخانة الصوت وذبذبات الحبال الصوتية ، كتعويض عن عمق الحجة وقوة البرهان ، فإن آخرين قد يلجأوا إلى رفع العصا أو فوهة البارودة ، بل وحتى سبطانة المدفع والرأس النووي الموجه ؟! وفي البلاد المتخلفة قد توقف العقل عن العمل منذ فترة طويلة ، فهو في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر ، وعندما ينطق العقل ، فعليه أن يقول قولاً لا يوقظ نائماً ولايزعج مستيقظاً ؟! فلا يرحب بمقلقي ( النوم العام ) ، ذلك أن حركة العقل خطرة أكثر من الانشطار النووي (( ومايستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ومايستوي الأحياء ولا الأموات )) ( 35 : 19 ) . يجب أن نعترف أن الحوار الفعال النشط يحتاج بدون شك إلى أرضية فكرية خصبة ، وطاقة نفسية ، وتحرر فكري وانكسار قيد التقليد ، ولكنه مع هذا يبقى مفتاح دخول وتجاوز العقبة ( فلا اقتحم العقبة ) . إن العقل يتحرر تماماً عندما يتجاوز عتبة الخوف من البحث ، إن الأمان للعقل هو في البحث ، لإنه يتأسس على أرض صلدة . أما الانعكاس على الطرف الآخر للعلاقة المشؤومة ، فهو النزاع والانفعال في البحث ، وفقد ضبط النفس ، والحزبية ، والأسلوب التبريري لدعم الأفكار ، فهذا الجو يعتبر غير منتج ، فهو محاولة دفاع عن الآراء بأي ثمن من أجل الاحتفاظ بها ، وليس أسلوب تنمية الأفكار أو تبين وجه الصواب فيها . وكما أن الحوار وتبادل الآراء _ أي جو النقد الذاتي _ هو جو زوجية الفكر فإن ( الصممية ) هي عقم هذا الجو . والصمم أنواع : فقد يكون عضوياً فيزيولوجياً ، وقد يكون لغوياً ، وقد يكون ثقافياً . فالصوت حركة في وسط مادي ، تنتقل هذه الحركة عبر غشاء الطبل وعظيمات السمع ، فإذا حدث خلل في هذا الطريق العضوي في أي نقطة من شريط الانتقال ، تعطل انتقال الصوت ، وكان الصمم في مثل هذه الحالة عضوياً فيزيولوجياً بحتاً . وقد يحدث صمم من نوع آخر ، وهو ليس قصوراً في انتقال حركة الصوت ، وإنما في تفسيرها في الفص الصدغي في الدماغ ، فيحدث عجز في التفاهم ، ويحدث ( حديث طرشان ) من نوع جديد ، كذلك الصمم الثقافي عندما يتحاور شخصان بلغة واحدة ولكن بخلفية ثقافية متباينة ، فكما أن الحروف لها شيفرتها الخاصة بها ، لكل حرف وكلمة في الدماغ ، ولكل لغة ، كذلك هو في عالم الأفكار . فإذا اجتمع مثلاً من يؤمن بمادية التاريخ وفائض القيمة وآلية وسائل الإنتاج ، مع آخر قضَّى عمره في دراسة النحو والصرف والمعلقات الشعرية فقط ، فإن مايحدث بينهما سيكون عجباً ، ليس لإن الحروف والكلمات غير مفهومة ، بل لإن موجة الحديث كلها متباينة ، كما في جهاز الراديو عندما يوضع على الموجة القصيرة والبث على الموجة المتوسطة ؟! . كذلك حتى يحصل تبادل الآراء وإمكانية التفاهم لابد من تغيير موجة الاستقبال الفكرية بكبس أزرار خاصة في تلافيف الدماغ !! فالصمم هنا ليس فيزيولوجياً ولالغوياً بل ثقافي ببعد جديد ( 5 ) العقل على مفترق الطرق : أحسن الفيلسوف الفرنسي ( ديكارت ) حينما اعتبر أن أفضل الأشياء توزعاً بين الناس وبالتساوي هو العقل ، لإن كل فرد يعتقد أنه اوتي منه الكفاية ، فلا يريد المزيد ولا التغيير ، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فقد يشتهي أن يجعل أنفه أصغر ، أو شفتيه أكثر حمرة ، أو جسده أكثر رشاقة ، أو قامته أكثر طولاً ، ولكنه لايفكر ولا للحظة واحدة أن يجعل عقله أفضل بناءً ، وأكثر نضجاً ، وأحسن توجيهاً ، فعنده شعور الاطمئنان لهذا الجانب ، أكثر من اطمئنان التماسيح وهي تتشمس على شطئان الأنهار !! ويصل ديكارت إلى تقرير حقيقة على غاية من الأهمية . يقول ديكارت : (( إن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين الناس بالفطرة ، وكذلك يشهد بأن اختلاف آراءنا لاينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر ، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ، ولاينظر كل منا في نفس ماينظر إليه الآخر ، لإنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه ، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل ))( 6 ) ، وإذا كان الأمر بهذا الأهمية فيمكن وضع قاعدتين عقليتين هامتين في الحوار والبحث ، تتولد منهما نتائج في غاية الخطورة في أرض الواقع ، سلباً وإيجاباً حسب الزحزحة العقلية . 1 - القاعدة الأولى تقول : في أي حوار عقلي اعتبر إن ماعندي صحيحاً ويحتمل الخطأ ، وماعند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحاً . 2 - وتقول القاعدة الثانية : وهي (( آلية الفيلسوف الألماني ليسنغ ))( 7 ) إن الرغبة إلى البحث أهم من امتلاك الحقيقة ، لإن امتلاك الحقيقة الحقيقية المطلقة إدعاء ، وخدعة ، وتعطيل للجهد الإنساني ، وغير ممكنة لإنها ملك لله وحده فقط . فالعقل بين احتكار تفسير النصوص ، أوتشغيله لفهم النصوص ، فالأول يقع في مغالطة أن فهمه للنص يساوي النص ، والثاني يتحرر بإدراكه أن فهمه للنص هو ( كم ) أقل من النص دوماً _ وإلا أصبح هو النص - ويتناهى إلى الصفر ، لابل قد ينقلب تحت خط الصفر فيصبح سلبياً ، كما حصل للخوارج في التاريخ الذين قتلوا المسلمين وأبقوا على المشركين ، وظاهرة الخوارج هي ( عقلية ) قابلة للتكرار دوماً . يقول ليسنغ : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ، إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) . والآن ماهي النتائج المباركة أو المريعة المترتبة على العقليتين والتفكيرين ؟؟ هذا التحليل يترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية ، فطالما رأت العقلية الأولى أن هناك هامشاً للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله ، فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي ، وبالتالي تفتح المجال أمام تصحيح الأخطاء والنمو والنضج ، في حين أن العقلية الثانية تنبع منها نتائج مختلفة تماماً ؛ فطالما امتلكت ( الحقيقة النهائية ) فهذا يعني وبشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ ، بل كل ماعندها صواب ، وهذا يعني بالتالي أن لاحاجة للمراجعة ، وبالتالي لاداعي لتصحيح الأخطاء إذ لا أخطاء ، وكيف يخطيء من هو مقدس ؟؟ إذن لانمو ولانضج ، أي ( لاحياة ) وبذلك يُستل نور الحياة تدريجيا ًمن هذه العقلية فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة ، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك . إن الله الذي خلق الطرفين ، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع ، لم يلغ طرف على حساب طرف ، بل منح الوجود للطرفين ، إلا أن الطرف الأول لايرضى بهذا ، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر وأحياناً بأسلوب ( لأقتلنك ) ، فإذا قال الطرف الأول إن الله أوجدني ومنحني المشاركة يكون جواب الطرف الآخر ( العملي ) : نعم إن الله منحك الوجود أما أنا فسوف ألغيك ؟؟!! ( إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه ) . ومن الناحية العملية تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر ، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة ، فحين تترك العقلية الأولى المجال لهامش من الخطأ ، وبالتالي قدرة المراجعة والنقد الذاتي ، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر ، بل احترامه ، بل حمايته ، بل طلبه ، لإنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح ، وتقويم الأخطاء ، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً ، ليس فقط للفرملة والتوازن ، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه ، لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني ، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً ، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجودا ً ؟؟!! .. فرق رهيب إذن بين العقليتين ........... العقلية الأولى تقوم على ( ثنائية التفكير = الديالوج ) ، تفسح المجال للأخطاء ، للنقد المضاد ، للمراجعة الذاتية ، للتسامح مع الطرف الآخر ، لاحترامه لما فيه من خير عميم ، ولحمايته لإنها بذلك تحمي نفسها بالذات ( 8 ) لإيجاده إن لم يكن موجوداً لإنها تضمن وجودها باستمرار وجوده . وإذا اختلفت مع الآخرين ، اتخذت بعين الاعتبار أن الموضوع لايتعدى ( خطأ في الفهم ) يمكن إصلاحه بالحوار ، والصبر عليه ، و ( قتل الموضوع بحثاً ) وليس ( قتل الإنسان إعداماً ) . بل والاستعداد ليس لقتل الآخرين ، بل أن تموت هي من أجل فكرتها ، كي تحول القاتل ليس إلى بطل بل إلى مجرم . العقلية الثانية ليس عندها قدرة المراجعة ، ولماذا المراجعة طالما كانت تملك الحق المطلق ؟؟ فمهمتها إذن محصورة في نشر ماتعرفه ، وعلى الآخرين أن يحظوا بشرف الاستماع ، من مصدر المطلق !! . هي عقلية ( أحادية التفكير = المونولوج ) ، لاتقبل الاعتراض ولاتسمح به ، فإذا قام اعتراض العقل كان شاذا غير مرحب به ، فكان مبررا لتصفيته ( ELIMINATION ) وحذفه من الوجود غير مأسوف عليه ، وهي على مايبدو طريقة سريعة واقتصادية !! فلماذا الحوار الطويل في ساعات غبية تافهة ، لمردود هزيل !! في حين أن طلقة واحدة و( كلمحٍ بالبصر ) تحل المشكلة ودفعة واحدة !! كما يحدث في قصف كابول اليومي الآن !! ( ألا ساء مايحكمون ). والتهم جاهزة فإذا اختلف السياسيون تقاذفوا بـ ( العمالة والخيانة ) وإذا اختلف العقائديون كانت الجعبة أدسم فتراشقوا بــ ( الهرطقة ) ، وماهو جزاء الهرطيق سوى القتل؟؟ العقلية الثانية تلغي الطرف الثاني إن كان موجوداً ، وبكل حماس وإخلاص وطمأنينة بال ، بأنها نفذت إرادة الوجود ، كي تنفرد هي بالوجود . إذن فلاتجاه الأول يوجد ملغياً ، والثاني يلغي موجوداً ، وهذا هو الفرق بين العقليتين ، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت ، فلا يستويان ... من كان له أذنان للسمع فليستمع ............... مراجع وهوامش: ( 1 ) مجلة 15 - 21 مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي ، العدد 11 السنة الثالثة - ص 4 - نقلت بشيء من التصرف ( 2 ) تأمل الآية : وعلم آدم الأسماء كلها _ البقرة - الآية رقم 21 ( 3 ) جان بياجييه عالم نفس سويسري ومؤسس مدرسة علم النفس الارتقائي ، وهو اتجاه من خمسة اتجاهات بين ( مدرسة علم النفس التحليلي _ وعلماؤه فرويد ويونج ) و ( المدرسة السلوكية وأبرز روادها سكينر وباندورا ) و ( مدرسة الجشتالت وتنسب إلى فرتهايمر وكوفكا وكوهلر ) وأخيراً الاتجاه الأخير ( مدرسة علم النفس الإنساني ) الذي شق الطريق إليه أبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل ) وينضاف للمدرسة الارتقائية الاتجاه المعرفي المعروف بـ ( الفلاسفة الفينومينولوجيون = أي علم الظواهر ) وكذلك علماء النفس الوجودي بدءً من كيركيجارد وسارتر ، ويرتكز الاتجاه الوجودي على الفكرة القائلة بأن شخصية الفرد تتكون من خلال نضاله الذاتي لتشكيل ذاته الداخلية إلى أن يجد لنفسه في الحياة معنى وقيمة وأسلوباً يحقق به ذاته ( 4 ) راجع في هذا كتاب ( الإنسان وعلم النفس ) سلسلة عالم المعرفة - تأليف عبد الستار إبراهيم - ص 57 ( 5 ) يراجع بالتفصيل كتاب النقد الذاتي للمؤلف بحث لماذا النقد الذاتي - مؤسسة الرسالة ص 93 ( 6 ) رينية ديكارت - المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم - ترجمة فواز الملاح - دمشق - محمود صالح - ص 22 ( 7 ) من فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر ( 8 ) ومفهوم الجهاد في الإسلام ينبع من هنا في حماية الإنسان بما فيه المخالف ، حتى لايبقى إنسان يفتن ويضطهد من أجل آراءه ( حتى لاتكون فتنة ) لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه ( لاإكراه في الدين ) أي مجتمع حرية العقيدة .
اقرأ المزيد
علم تغيير ما بالنفوس
إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما ، فإن العكس صحيح أيضاً ، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي ، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض : فطالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا ، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين ، وطالما كانت أسرار التغيير تحت أيدينا فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا ، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده قبل أن يكون من مصدر آخر !! وأعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي : أن لايلوم أحداً ، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ ، وأن لايلعن الظروف ، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف ، تمهيداً للسيطرة عليها ، وأخيراً فإن علينا أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير ، لإن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره ، والتسخير هي الخدمة المجانية ، وهي متاحة لجميع البشر . مازالت أحداث البوسنة ماثلة في ذهني وبجنبي الأخ معاذ وفي وجهه مظاهر الألم وهي مشاهد مكررة مع اختلاف المواقع. أتذكره حين قال : عندما أسمع أخبار ( بيهاج ) أشعر وكأن أحشائي تتمزق من الداخل ؟! ورد الأخ عماد : إن مايحدث شيء غير معقول ، وتتابعت التعليقات في توزيع ( اللوم ) على الأمم المتحدة أو رؤوساء الدول الأوربية أو موقف أمريكا المتردد ؟؟!! هذه عينة جيدة من آلام المسلمين اليومية ، ولكن هل يمكن فهم كارثة بيهاج بدون كارثة البوسنة ، بل هل يمكن فهم مايحدث في البوسنة بدون الاجتياح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، وهل يمكن فهم عقدة الصرب بدون معركة ( أمسل فيلد - AMSELFELD ) التي حدثت في عام 1389 م ، أو حتى قبل ذلك منذ الشرخ التاريخي بين الكنيسة الشرقية والغربية عام 879 م على أرض البلقان ( 1 ) أم هل يمكن فهم الأحداث الحالية بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني ، ضمن صيرورة الحضارة الإسلامية ؟ وأن مايحدث اليوم لايشذ عن القانون التاريخي الذي يفيد بالعلاقة الجدلية بين الأحداث ، فكل حدث هو نتيجة لما قبله ، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده من الأحداث . وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلايمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها ، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها . في نهاية القرن الثامن الهجري ( الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي ، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط ، يسطر بحثاً في التاريخ ، غريب العنوان طويله ( 2 ) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل ، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون ، فيصل إلى فهم حركة التاريخ ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية ، بهذه الكلمات القليلة (( وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً ، فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 3 ) هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي . وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس ( قانوني - سنني ) مرهف ، فهو يحاول فهم علل الأشياء ، ويدخل إلى بطن الأحداث ، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (( فإن التاريخ في ظاهره لايزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق )) هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابياً ونوعياً في تاريخ الفكر كله ، فهو نزل إلى الحوض التاريخي ، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها ، ليس كقطع ممزقة ، ونثارات مرمية ، وحوادث لايجمعها خيط ، أو ينتظمها قانون ، بل كواقع بشري يخضع لـ ( سنة الله ) في خلقه ، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها ، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق ، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية ، وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ ، فلاغرابة أن اعتبره المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي _ والعلماء يقدرون بعضهم _ بأنه (( أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان - IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE )) ( 4 ) أو أن يعتبره ( فلنت ) : (( إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون ، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه )) ( 5 ) إن فكر ( ابن رشد ) و ( ابن خلدون ) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم ، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه ، ولهذا لم يتابع أحداً هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش ، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن ؟! والذي استفاد من هذا الفكر ( السنني ) هم رواد النهضة الغربية ( 6 ) خاصة في إيطاليا ، حيث أطلق تياراً عقلياً تحررياً ، بدأ ينتبه إلى فكرة ( السنن ) في إدراك الوجود ، و( البحث التجريبي ) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة ( الاستقرائية - INDUCTION ) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة ( الاستنباطية - DEDUCTION ) ( 7 ) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود ، فكانت طريقة ابن خلدون الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين ( العودة إلى الواقع ) لإن أي ( صخرة ) هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أياً كان مصدره ، أي بربط الفكر النظري بالواقع ، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ؟ لاكيف يجب أن تكون كما فكر من قبل أرسطو وإفلاطون ( 8 ) وهي نقلة نوعية في الفكر . هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار ( الطبيعة والتاريخ ) من مصادر المعرفة ( 9 ) هي روح إسلامية وهي بنفس الوقت ثورة على التفكير اليوناني القديم ، ففكرة ( السنة ) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن ، والسنة ليست في التفاعل الكيمياوي ، أو الخواص الفيزيائية لمعدن ما ، بل ولا في البايولوجيا ، عنى القرآن بالسنة ( النفسية الاجتماعية ) ، واعتبر أن هذه السنة ثابتة ، فلا تتغير ولاتتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 10 ) وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون ( السنة ) فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى ، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه ؟؟ هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية ، فالقانون يفرض نوعا ً من ( الحتمية - DETERMINISM ) على العقل ، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البايولوجيا ، كما أن قانون الذرة هو غير قانون المجرة ، وقوانين ( ميكانيكا الكم ) هي غير قوانين ( النسبية ) ، وغير القوانين ( النفسية والاجتماعية ) ، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره ، ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية ، لذا أصبح المجتمع متطوراً وقابلاً للتغيير . يقول مالك بن نبي (( إن كل قانون يفرض على العقل نوعاً من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون ، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً ، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم . فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لاينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببية ضيقة النطاق ... وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لاتتقبل التغيير حسب طبيعتها تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير ، لإن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس )) ( 11 ) وإذا كانت ( السنة أو القانون ) تسيطر على الوجود بكل قطاعاته بدءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة ، من الالكترون حتى النفس الإنسانية ، ومن الجزيء الكيمياوي حتى المجتمعات ، فكيف يمكن فهم قانون تغيير مابالنفوس ؟؟ إن النفس الإنسانية لاتشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود ، ولكن قطاع التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البايولوجي ، فــ ( وحدة التأثير - UNIT ) هنا هي ( الفكرة ) إضافة أو تعديلاً أو ابتداءً ، واعتبرت الآية القرآنية أن إمكانية تغيير مابالنفس ممكناً ، والواقع يمدنا بشواهد يومية على ذلك ، بل إنها ربطت تغيير الواقع ، ومن خلال سنة الله في خلقه ، بتغيير رصيد مابالنفوس (( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم )) ( 12 ) ، ففي هذه الآية الرائعة والتي تشكل بناءً أساسياً وفكرة مفصلية في منظومة المعرفة الإسلامية ( الابستمولوجيا ) تنقدح ( حزمة ) من الأشعة الفكرية !! يقول الشعاع الفكري الأول : إن الإرادة الآلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على أساس مجموعة من السنن المحكمة ، ومن هذه السنن ( الجهد الإنساني ) ، فالله لايغير الواقع الاجتماعي ، مالم يتدخل الفعل الإنساني ، على كل تفاهته وضعفه ، فلولا الماء المهين الذي نمنيه ( نحن ) ماتمت عملية الخلق التي لاحدود لروعتها ، وهذا تكريم إلهي للإنسان على دوره في هذا الوجود من خلال وظيفة الاستخلاف التي أُنيط بها . ويقول الشعاع الفكري الثاني : إن هذا القانون دنيوي أرضي فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في راوندا أو ألمانيا ، لاختار قطعاً ألمانيا ، والسبب بسيط هو وجود الضمانات ، فمنذ اليوم الأول من ولادة الإنسان ، تكون حظوظه أن لايموت في الأمراض ، أو أن لايقتل بحرب أهلية ، أو أن لايموت جوعاً ، أو أن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة ، أو أن يحصِّل تدريساً عالياً ، ولا يعني هذا أن كل من يولد في راوندا يكون فقيراً ، أو من يولد في الصومال مريضاً ، أو من يولد في أفغانستان مقطوع الساقين بقذيفة مدفع ، ولكن احتمالات كل هذه وبنسبة تتراوح تزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي للمجتمع ، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى الجبهات ، أو لو ولد يهودياً أن قضى نحبه في إحدى معسكرات الاعتقال النازية . لذلك كان المسؤولية والحساب في الآخرة فردية ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( 13 ) في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 14 ) ، وفي حديث السفينة عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية ( 15 ) فعندما تنطلق القوارض ؛ من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً ، فإن الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء ، بمافيهم القوارض الفاسدة الحمقاء التي لاتبصر أكثر من أرنبة أنفها ، بتضخم الذات المريضة السرطانية على حساب المجتمع ( مثل تلك المناظر اليومية المؤذية والعدوانية ، من الوقوف أمام إشارة المرور ، فيتحرك المخالف الذي ركب على رقبة الناس وسرق وقتهم ، عندما يزمر له طابور السيارات المصطف خلفه ؟! ) . ويقول الشعاع الفكري الثالث : إن هذا القانون بشري ، يضم تحت شموليته كل البشر مؤمنين وملحدين ، مسلمين وكافرين ، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات : المستوى الأول : إن الكون مسخر ( كمونياً ) بالقوة ، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين تسخيره ، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها ، فهو حقل متاح للجميع ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( الإسراء : 20 ) وهكذا طير الأمريكيون الحديد في الهواء ، وأطلق اليابانيون الإعصار الالكتروني من قمقمه ، ويفتك الصرب اليوم بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون . المستوى الثاني : ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوي في هذا الكون الذي نعيش فيه ، وليس هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن ، والإخلاص بدون حدود ، والحذر من الأخطاء بدون نوم ، ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم ، كما عذب اليهود والنصارى من قبل (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق )) ( 16 ) ويقول الشعاع الفكري الرابع : إن هذا القانون اجتماعي وليس فردي ، فلو أراد فرداً أومجموعة صغيرة أن تغير مابنفسها ، فقد يحصل العكس ، فقد تتعرض للسحق تحت قانون ( الدجاجة الجريحة ) الذي ذكره المؤرخ البريطاني توينبي ، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة المجروحة ، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت ؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين : داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم ، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة ، في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً ، لإن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق ، الحسرة على المزيد والقلق على ماهو موجود ، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ، أن لايكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق اللصوص ؟! ويقول الشعاع الفكري الخامس : إن لفظة ( ما ) في آيةٍ استبدلت بلفظة ( نعمة ) في آية أخرى ، وبذلك فيمكن للنعم أن تتغير لتصبح ( نقماً ) !! والعكس صحيح ؛ من خلال تغيير مابالنفوس ، والنعم كثيرة لايحصيها العدد ، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة وظروف العمل المريحة والأمن الاجتماعي ، ومقابلاتها من انتشار الأمراض ، وفساد التعليم ، وسوء نظم القضاء والخيانات الزوجية ، والتوتر في ظروف العمل ، والخوف الاجتماعي ، وجمعت الآية القرآنية نموذجين متواجهين (( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ( النحل : 112 ) وليس هناك من ( نعمة ) أعظم في المجتمع من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش وراحة البال ، وكنت أتعجب من ( الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة ) مع كل رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي ، واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي ( قوت اليوم ) في مجتمع يوفر ( الضمانات ) للأفراد الذين يعيشون فيه ، ضمن ( الطمأنينة الروحية ) وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل الشوكولاتة الاجتماعية ( وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) فهذه الطمأنينة هي التي كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع الرفاهية ، والعكس صحيح بفقر عالم ( الأشياء ) فالعلماء تفيض قلوبهم بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من الدولارات ، لإنهم ( لايملكون الأشياء كما لاتملكهم الأشياء ) . إذا ً كيف يحصل التغيير الاجتماعي ؟؟ إن جواب هذا يتعلق بفكرتي ( الكتلة الحرجة ) و ( المثلث الاجتماعي ) . فكرة المثلث الاجتماعي : حتى يمكن السيطرة صحياً وفي منطقة ما ، فلايشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء بل يكفي قدراً معيناً ، وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى ويتعلق بمجموعة من العوامل ( عدد السكان _ الأمراض المتوطنة _ الحالة المعيشية _ التعليم _ المواصلات الخ .. ) فكيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما ؟ فأقول تقريباً للموضوع مايلي : حتى يمكن إشباع المجتمع صحياً والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما ؛ لابد من وجود ( كتلة اجتماعية حرجة ) تقوم بالدور الصحي ، هذه الكتلة الحرجة تنتظم ( مثلثاً ) ذو أضلاع ثلاثة يجلس في الضلع الأول ( الأشخاص الفنيون ) ( الأطباء والممرضون والفنيون .. الخ ) ، ويكون في الضلع الثاني ( المؤسسات الصحية ) ( المشافي المستوصفات المخابر مراكز البحث العلمي الخ .. ) ، وأما الضلع الثالث فيحوي ( الأفكار ) وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي ، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد ، فلا يكفي بناء مشفى وشراء لأحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية ، ذلك أن الحضارة ليست شراءً للأشياء ، بل هي عملية بناء ، والشراء مهما كانت الأموال خلفه ( سينفد ) ( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ) ( النحل : 96 ) وتختصر في ثلاث كلمات ( بناءٌ لها وصيانتها والقدرة على تطويرها لإنها تمتلك السر الحضاري وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف ) . إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية . وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية وانتهاءً بأعلاها . و كذك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية بما فيها المؤسسة العسكرية . وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لايخرج أيضا ً عن القاعدة الصحية التي ذكرناها فيما سبق أي وجود المثلث الذي يضم ( أشخاص + مؤسسات + وعي فكري مطابق ) . فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية من خلال تشكيل الكتلة الحرجة والشبكة الاجتماعية المتوترة . وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لابد من تهيئة عناصره الأولية ، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هي الإنسان الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره . فكرة الكتلة الحرجة : يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى ، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لاينقصون عنها ولافائدة من زيادتها إن لم تربك ( كتلة حرجة CRITCAL MASS ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية ، لإن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى ، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوماً ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود ، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية ( التورم غير الصحي والموت بعد حين ) وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي ( خبيثة - MALIGNANT ) ، وفكرة الكتلة الحرجة كونية سواء في المادة الصلبة أو السوائل ، في البايولوجيا أو النفس ، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي ، فهو قانون انطولوجي وجودي . ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا ً ، من أن التراكم ( الكمي ) يحدث انقلاباً ( نوعياً ) مع الزمن ( 17 ) ولمزيد من فهم الفكرة نقول : من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن ، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج ، ولايكفي مجرد الإضافة ، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً ، أي يختلط بدرجة التجانس ، وتستمر هذه ( الإضافة ) وهذا ( التفاعل ) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أشبع إلى ( الدرجة الحرجة ) بحيث أننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح . إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة ، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى ( الكتلة الحرجة ) فلاتنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية ، بل لابد من كتلة حرجة ، بحيث تضغط كتلتان من مستوى ( ماتحت الحرج ) كي تصبحان بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة ؛ فيحصل الانفجار المهول . هذه ( الكتلة الحرجة ) تعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي . ويسري هذا القانون على النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة ( التأثر الحرج ) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ( 5 : 83 ) . ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لاتحدث إلا بــ ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد ، فلايتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100سنتجراد . وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي ، فلايحدث الغليان مالم يصل إلى الدرجة الحرجة . وهكذا فـ ( الماء ) حتى يغلي لابد له من ( الدرجة الحرجة ) و( القنبلة الذرية ) تحتاج لانفجارها إلى ( الكتلة الحرجة ) و( الجبن ) حتى يُحفظ يحتاج لــ ( الوسط الحرج ) والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة سواء ( نوعياً ) أو ( كمياً ) حتى يتم الإصلاح المنشود . ولتبسيط الموضوع أكثر نقول ، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة مايحكمون به على تشبع الوسط بالكمية الحرجة ، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة ، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً بل وتنبؤاً عن تغير المجتمع . والآن إلى أخطر قطع البحث ، إلى قاعة العمليات الجراحية : للتداخل على استئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية ، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية . لابد قبل العمل الجراحي من معرفة ( تشريح الخارطة النفسية ) فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى ( المعرفة المحيطة بالتشريح - ANATOMY ) كذلك لابد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية ، ونحن هنا لانحتاج إلى معرفة ( كنه وحقيقة النفس ) فهذه يبدو لاجدوى منها ولن نصل إليها - على الأقل في القريب العاجل _ مايهمنا هو كيفية عمل النفس ( ديناميكية النفس ) ، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها ، وهذه تحت السيطرة الإنسانية ، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية ، بجراحات دقيقة . إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة ( الوعي ) وشريحة ( اللاوعي ) ، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار ، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر ، هو مدى تشبع النفس بالفكرة ، أو على حد تعبير القرآن ( الرسوخ ) ، فالفكرة قد يكون وزنها ( ميكروغرام ) وقد يكون وزنها ( ميجاطن ) !! فعندما تترسخ الفكرة وتهضم جيداً تتحول إلى اللاوعي ، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل ، فلايعرف الراحة كما يتصور البعض ، حتى في النوم كما ثبت من الدراسات الالكترونية المتقدمة ، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها ، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش ، فهو ( يعالج ) المعضلات حتى لو تركها الإنسان ، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة ( حسب التجلي ) وهو مايحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء . وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات ، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً . فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات ، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي ، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان ، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي ، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية . حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير ، و ( العواطف ) هي تعبيرات اللاوعي ، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولانعرف عنها شيئاً ، ولكنها توجهنا بشكل مرعب ، فالصربي الذي يقتل المسلم اليوم ، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة ( أمسلفيلد ) في كوزوفو قبل 600 عاماً ، قد امتلأ ( اللاوعي ) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة ، ومعالجة كيمياوية ضد السرطان مكثفة ، واختراق فكري شعاعي لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن . والمثل الصربي واضح ، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبأة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية . كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل ، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولط إلى 220 ، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ، ولكن ( التردد الكهربي ) داخلنا هو عادة في فولتاج ( الوعي - اللاوعي ) وليس العكس ، بمعنى أن الأفكار تمشي أولاً إلى الوعي ( باستثناء الأطفال والعوام التي قد تمر الأفكار مباشرةً الى اللاوعي عندهم كما في تشكل السلوك بالتقليد ) حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي ، فأصبحت في اللاوعي ( خبرة ) و ( تحرر ) الوعي لاستقبال أفكار جديدة ، وهي في حالة سيالة متصلة ، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت ( العواطف ) فأفرزت ( السلوك ) فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس . وإذا كنا من أجل ( أجهزة ) معينة نضطر لتحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولط إلى 220 فولط ، كذلك يمكن نقل سيالة ( اللاوعي ) إلى ( الوعي ) وهو مايفعله المحللون النفسيون أحياناً ، فإذا ظهرت تلك ( العفونات ) المختبأة بدون ( أكسجين عقلي ) إلى الضوء والهواء الطلق تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال . وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم . هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان ، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ . تقول الأسطورة أن عملاقاً أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة ، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول ، فهرع إليه لينتقم منه والأرض تهتز تحت أقدامه ، فلما سمع الثاني وقع الأقدام أصيب بالرعب ، فهدأته زوجته ، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى الأمر هي بآلية ( الأفكار ) لا بآلية ( العضلات ) ، وغطته باللحاف باستثناء قدميه الضخمتين ، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر ، اعتذرت عن عدم وجود زوجها ورجته أن لايرفع صوته حتى لايوقظ ( ابنها النائم ) فلما التفت فرأى الأقدام الفظيعة البارزة قال في نفسه إن كان هذا غلامه فكم يكون الأب ، فأصيب بالرعب وولى الأدبار ( 18 ) ؟؟!! . مراجع وهوامش : ( 1 ) وقعت عام 1389 ميلادي حيث انتصر فيها العثمانيون بقيادة معركة أمسل فيلد السلطان مراد خان الأول على الصرب الذين كان يقودهم الملك لازار ، ومن غرائب الأحداث التاريخية أن كلاهما قتل في هذه المعركة ، فأما السلطان العثماني فغدراً من جريح في المعركة ، وبعدها سقطت البلقان بما فيها صربيا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون _ راجع كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف محمد فريد بك المحامي ص 135 - ومازال الصرب حتى اليوم يحتفلون بذلك التاريخ المر ، ويندبون قتلى تلك المعركة التي مضى عليها مايزيد عن ستة قرون ؟! وأما النزاع الديني فيراجع في هذا كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص 161 وكان منشأ الخلاف أن الكنيسة الشرقية اعتبرت أن روح القدس هو من الآب فقط في حين أن الكنيسة اللاتينية قالت إنه مشتق من الاثنين الآب والأبن ؟! ( 2 ) كتاب التاريخ لابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) ( 3 ) المقدمة ص 33 ( 4 ) مقدمة كتاب التحرير لمقدمة ابن خلدون ص 8 ( 5 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ص 162 ( 6 ) يراجع في هذا بالتفصيل كتاب عندما تغير العالم - كتاب عالم المعرفة رقم 185 _ تأليف جيمس بيرك _ ترجمة ليلى جبالي (( وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) ( AVERROISM ) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية )) ص 94 - 95 ( 7 ) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 562 ( 8 ) ، وتقوم الطريقة الاستنباطية على وضع المقدمة والقياس عليها وهي مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة ( كل انسان فان . أحمد انسان . أحمد فان ) في حين أن الطريقة الاستقرائية تعمل من تحت لفوق بالعكس ، فهي تجمع الوقائع ثم تخرج بالقانون الذي ينتظم الوقائع ويفسرها ، والفرق الجوهري أن المنطق الأرسطي الصوري يبقى في الإطار النظري في حين أن منطق البحث التجريبي ، والذي انطلق به المسلمون من روح القرآن ، هو الانطلاق من الواقع واستخراج قانونه الذي يفسره . يراجع كتاب ( منطق ابن خلدون ) للدكتور علي الوردي ص 21 والمثل المضحك عن ( أسنان الحصان ) حيث اجتمع رهط من تلامذة أرسطو يتناقشون في أسنان الحصان ، فاختلفوا وكل مكنهم أراد إثبات وجهة نظره ( نظرياً ) فلم يكلف أحدهم خاطره ويلوث يده بفتح فم الحصان والنظر في نوعيتها !! ( 9 ) يراجع كتاب تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ( غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ ) ص 146 ( 10 ) فاطر 42 ( 11 ) كتاب ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) تأليف جودت سعيد _ تقديم مالك بن نبي - ص 11 ( 12 ) لاتوجد سوى آيتان في القرآن في هذا المعنى الأولى من سورة الرعد المذكورة أعلاه ، والثانية من سورة الأنفال استبدلت لفظة ( ما ) بلفظة ( نعمة ) فقالت : ذلك بأن الله لم يك مغيراً ( نعمة ) أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) ( 13 ) الأنعام 94 ( 14 ) الأنفال 25 ( 15 ) الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ًولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وماأردوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ( 16 ) المائدة 18 ( 17 ) يراجع المقدمة ص 29 ( 18 ) حتى يغيروا مابأنفسهم ص 91
اقرأ المزيد
انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية
(( إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة : 1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي . 2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ . 3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! ) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه . الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا . والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها . والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !! والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟ لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية ) فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم . عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم . جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 ) كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين . كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير . وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 ) مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته : الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ . والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري . في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات . يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان . إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية . أن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لايسقط طريح الفراش ، لإنه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة - COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريرية - CLINICA ) أي لايحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير ، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج ، الذي أصيب ( التجرثم الدموي - SEPTICEMIA ) مع معركة صفين ، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج ، والنزف ( BLEEDING ) العباسي ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسية ، والغيبوبة ( COMA ) المملوكية ، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتي ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر ، ثم ( التشريح ) في قاعة العمليات ، حيث جرت عمليات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل ) ، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أُكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى ، لانستطيع أن نقول شيئاً ، لإننا لانعرف ماذا يجرى لنا ، ولانعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية ، ولانملك العقل الخلدوني التحليلي . إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً ، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني ، أي تحت خط الصفر ، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي ، حيث ينحدر الخط إلى ماتحت الخط الأفقي ، الذي هو خط الصفر . إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرخ لـ ( المعجزة الأوربية ) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة ، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين ، حسب الخانات التي يوزعها . ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات ( الدراويش ) ، وازدراد الأساطير ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأخبار الجن والعفاريت ، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على مايحدث كان يجيب : سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً !! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك ، أنه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا ، وراجعوا قصة ( علي التركي - ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة . يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى : (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لاتتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية ؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسارالسياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى لاعلى الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق ، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار ، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية ، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية ، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد ، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد ، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق ، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب ، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى ، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار ، ونظم معين من ( العقلية ) المتشكل . إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليلية ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس ، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبية ) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار ) ، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء ) ، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر ، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه ، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! ( 11 ) . وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات ، ويطُوَّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين ، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة ( استعصاء تاريخية ) لم يتعافى منها حتى الآن ، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثر كل طرف على الآخر سلباً ، بين ( العطالة ) العقلية و( العجز ) الحضاري . إن الفوضى الاجتماعية في العالم الأسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكييك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي . يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك ، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل ، وينقله إلى الآخر ، فأرشده ( l ) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطل ، فلا يستفيد من أعظم الكنوز ، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل ( 15 ) وهذه الواقعة إن دلت على شيء ؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لايستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به ، ويمر على الآيات ( وهو عنها معرض ) لإن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً . وأن ماحدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق . فالقانون الألهي يطوق عباده جميعاً . هوامش ومراجع : ( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24 ( 8 ) كتبها رجل ألماني تزيَ بزي تركي ، وعمل لمدة ثلاث سنوات ، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعاً زاد عن عشرة مليون مارك !! ( 9 ) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص 38 و49 و50 ( 10 ) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتمناع ، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان ، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل ، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت ، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد ، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم ( الخط البياني ) - عالم المعرفة 185 - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص 201 ( 11 ) سورة القصص 76 ( 12 ) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزئين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية ( 13 ) الزخرف 23 ( 14 ) الحديث : (( ذكر النبي ( l ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قلنا يارسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والانجيل ولاينتفعون مما فيهما بشيء )) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 66 المائدة وصححه ( 15 ) تأمل الآية القرآنية ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) سورة الجمعة آية 5 .
اقرأ المزيد
العقل النقلي والعقل النقدي
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات ( تمرير الأفكار ) بدون مناقشة و ( تكرارها ) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت . فبالأولى : يتحول العقل إلى ( وعاء ) يضم ( كم ) فوضوي من الأفكار بدون نسق معرفي ( الابستمولوجيا ) ، وبالثانية : تتشكل الدوغمائية ( 1 ) لإن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك ، وبالثالثة : تتشكل ( العقلية أحادية الرؤية ) المريرة ، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص ، مبني على الراديكالية ( التطرف ) ، فالوجود أبيض أو أسود ، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير ، معنا أو ضدنا ، والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل بل اصطياد الاتباع ، وبناء حلقات الدراويش الجدد . فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة ، ويزداد التقليد ، يشتد التعصب ، ويتعمق اتجاه العنف ، يتحنط العقل ، ويتوقف النمو ، يتعطل التطور ، وتصبح الحياة مستحيلة ؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة ، فلاغرابة أن يتحول المجتمع ( كمونياً ) إلى مايشبه الحرب الأهلية المبطنة ، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين ، فالعقلية النقلية تسبح بين ( الاطمئنان البارد ) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة ، و ( كراهية الآخر ) المارق ، ومع الكراهية تتبرمج ( الحرب ) سلفاً ، لإن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد . أما العقل ( النقدي ) فيقابل المعطيات السابقة ، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على ( تنقية وغربلة ) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على ( تأمل ) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ ، ولإنها تحولت إلى نظم ( تردد - FREQUENCY ) يشبه سريان التيار الكهربي ، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم ، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة ، والحياة مثل ( الطريق السريع ) ذو اتجاه مزدوج ، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب ؛ لإن جوهر الحب مشاركة ، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر ، فالعقلية النقدية سلامية ، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين . هذا التكوين ( الطفلي ) للعقل من خلال تأسيس (العقلية النقلية) والمحافظة عليها ونشرها في المجتمع وتربية الجيل عليها في (الجامع) و(الجامعة) له آثار اجتماعية مدمرة ، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة ، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر ، إما إذا ملك الشباب ليس ( الكلام والفتوى ) بل السلاح ؛ فنموذج ( كابول ) والصومال جاهزة ، فلايُتْعب أحدهم ذهنه ؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد ، وأنه قد يكون ( مخطيء ) لا أكثر ، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم ( يُكَفِّرون ) ومن عادة أهل العلم أنهم ( يُخَطِّئون ) ، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض ( الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض ( الهرطقة . إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى ، مصيبة مرض ( الآبائية ) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة ، فمالم ينكسر التقليد ؛ لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة ، فضلاً عن الإبداع ، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة ، عند مواجهة الكوارث والمصائب ، بتحرير منهج ( الشك ) فإنه لن يصل إلى شاطيء اليقين ، لإن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج ، والعقلية النقلية لاترى ربطاً بين الأمرين ، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة ، فلا صدفة في الكون ولاعبثية ، وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث . فإذا انهدمت بناية ، أو مات مريض ، أو توقف جهاز عن العمل ، أو حلت هزيمة عسكرية أوتردي اقتصادي ، أو نكبة حضارية ، فيجب أن نفترض أن خط أً ما قد حصل ، وليس لإن قوى لانعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك ، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة ، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه ، وهذا مبدأ قرآني ( قل هو من عند أنفسكم ) ( 2 ) ينكفيء العقل ( النقدي ) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي ( الذات ) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون ( جمع ) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات ، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم ( العفوية ) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن ( الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع ، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس . إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها ( ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال ( الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على ( الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و ( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي ( تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين . والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : (( لإن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق )) ( 3 ) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ) . وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون : (( واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح )) ثم يخلص إلى هذه النتيجة : (( وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه )) ( 4 ) إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه ( الفهم البنيوي التركيبي ) ، والثاني ربطه بالواقع ( في الآفاق وأنفسهم ) لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم ، واقتلاع نص من مكانه ، بدون سياقه العام ، والحيثيات التي ولد فيها ، والترابطات التاريخية ، لايقرب من فهم النص ، بل قد يكون خطراً ومعطلاً . والأخ الذي كان ( يقتلع ) نصف آية من سياقها يبرر بها ( العنف ) الذي يمارسه (( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء ، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (( كفوا أيديكم )) مروراً بــ (( كتب عليكم القتال )) وانتهاءً بــ ( قاتلوا المشركين كافة ) ، وغاب عنه ثانياً أن هذه ( الوظيفة العسكرية ) هي أداة خطرة للغاية ، لإنها مرتبطة بسفك الدماء ، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION ) وبيد ( الحاكم المسلم ) فقط ، فهي ليست لــ ( وظيفة فرد ) كما أنها ليست ( مهمة جماعة ) ، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة ، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح ، وضمن السياسة الشرعية ، التي هي لدفع ( الظلم ) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة ، بل بالأحرى لدفع الظلم ، سواء صدرت من كافر أو ( مسلم ) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته ، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم ، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة ( الجهاد ) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم ، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى ، إنما يفجر الكوارث في كل مكان ، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد ، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح . وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر ، ولاعلاقة له بالصراع المسلح في البوسنة ، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف . فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من ( الفتنة ) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة ، أو بإخراجه من بيته ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ( 5 ) ، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه ، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة ، بما فيه الإسلام ، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( 6 ) فالإسلام وفر نفس الصرب ، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب. ولكي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها . الأول : عمل الجهاز الكهربي ، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة ، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة ، كذلك يقوم العقل ( النقدي ) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع ، أي أخذ النتائج ، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي ، فنتائج عملنا ( جراحي الأوعية ) فوري ، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية ، ونتائج جراحة البطن ( تظهر ) في مدى أيام ، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام ، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع ، حتى يمد رجله ويحمل ثقله ، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة ، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد ، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات ، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً ، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى . كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع ، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين ، ومع البشر عقوداً ، أما التغيرات الاجتماعية ، فليس عندنا من ( مطل ) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال ( بانوراما ابن خلدون ) أي الحقل التاريخي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ( 7 ) . الثاني : هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال ( PUZZEL ) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل ، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر ، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع ، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة . الثالث : وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة ، والصورة لاتفهم إلا بتضام أجزاءها ، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه ؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه ، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال ( حركة ) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء ، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها ، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع . نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء ، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة ، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده) ( 8 ) وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا ، في معنى العقل ( النقدي ) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار ، والعقل ( النقلي ) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص ، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه ، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام ، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء ، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز ، واللحم إلى ( الحروف الأولى ) في صورة الأحماض الأمينية ، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب ، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة ، أو إطلاق الطاقة من السكر . إنه يفعل مايفعله ( العقل النقدي ) مع اللغة ، فكلمة ( فكر ) تتكون من ثلاث حروف ، ولكن حسب نظرية الاحتمالات ، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات ( فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك - ) بمعاني عجيبة ، فالأول ( فكر ) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية ، والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء ، والثالث ( فرك )عمل يدوي ، والرابع ( كرف ) ( شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟! ) والخامس والسادس ( ركف + رفك ) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر ) فيحيلها إلى ( فكر وإيمان ) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن . كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية ، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي ( BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية ، قد تخصصت في ( النقد الذاتي ) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد ؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة ، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن ، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه ، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد ، ويتمهل في اتخاذ قراراته ، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني ، تحتاج إلى ستين ساعة ، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور ( 9 ) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية ؟ وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً ، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد ، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية ، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب ، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية ، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع ( العقل النقلي ) إلى وضع ( العقل النقدي ) ؟؟ ، وفي ضوء هذا فإن ( جراحة الفكر ) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها ، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً ، بل انغلاقاً عقلياً ، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً ، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية ، فتحطم الأغلال العقلية ، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية ، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس). توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به !! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض ، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها ؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي ، لأن الرجل حبس من داخل عقله ، وليس حقيقة بل وهماً ، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً ؟؟ هوامش ومراجع : ( 1 ) الدوغما ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة ، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة ، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن ( 2 ) سورة آل عمران - رقم 165 ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قل أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 3 ) المقدمة ص 9 ( 4 ) المقدمة ص 37 ( 5 ) الممتحنة الآية 8 ( 6 ) البقرة 256 ( 7 ) الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 ( 9 ) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ ( بول اهرلنج ) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم ، حقيقة فريدة من نوعها . لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون ( الحاجز بين الدم والمخ ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة ، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة . وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
اقرأ المزيد
مصير الإنسان .. إلى أين ؟
جاء في كتاب ( الخواطر ) للفيلسوف الفرنسي باسكال ( PASCAL ) مايلي : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ولكن هناك لانهائية أخرى هي لانهائية صغر الذرة ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .. إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهائية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور ، فماهو الإنسان بعد كل هذا في الطبيعة ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل إلى استكناهه ، وهو عاجز على السواء عن رؤية العدم الذي أُخذ منه واللانهائي الذي يغمره )) ( 1 ) إذا لم نعرف كيف كان الإنسان ( قبل ) عشرة آلاف سنة ، فإن القفز عبر الزمن لرؤية مصير الإنسان ( بعد ) عشرة آلاف سنة ، يصبح ضرباً من المستحيل ، فالوجود الإنساني في حالة صيرورة وكم معرفي تراكمي ، ومعرفة البدايات يعطي تصوراً عن تشكل النهايات ، ذلك أن المجتمع الإنساني لايبقى على حال ، بل هو في حالة ديناميكية متغيرة متطورة نامية ، ومالم يتشكل عندنا بانوراما - نظرة شمولية ( PANORAMA ) للرحلة الإنسانية عبر التاريخ ، ومعرفة المنحنى البياني للصيرورة الإنسانية ، فإننا سوف نبقى نوجه أصبع الاتهام تجاه الإنسان ، ولانرى فيه إلا مارأته الملائكة : أنه كائن مجرم وشقي مخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) ( 2 ) ولكن توقع الملائكة هذا يمثل نصف الحقيقة فقط ، ولمعرفة بقية الحقيقة للاقتراب من رؤيا شمولية ومسح طوبوغرافي للطبيعة الإنسانية ، فإن قراءة التاريخ والانثروبولوجيا وعلم الحضارات وقوانين المجتمع ، سوف تسعفنا في إلقاء الضوء على فهم المصير الإنساني بشكل مختلف في ضوء جواب الله تعالى للملائكة ( إني أعلم مالاتعلمون ) . ********************** في مقالتي السابقة عن ظاهرة ( انطفاء العقل ) وأثر ذلك في مركب ( الانحطاط ) الذي تسلط على الجسم الإسلامي ، وكانت أفظع تجلياته ولحظة الانكسار الكبرى في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، الذي لم يرتفع عنه حتى اليوم ، فإن هذه المقالة خصصت نفسها ليس لمسيرة الحضارة الإسلامية ، بل لرحلة الإنسان عبر التاريخ ، وبفهم طبيعة هذه المرحلة ، وبتجميع نقاط حركتها في المنحنى البياني التاريخي ، يمكن الاقتراب لفهم أفضل لآليات الحركة التاريخية . ************************ ياترى كيف يمكن التوصل إلى معرفة حقيقة عمر الأرض والشمس ؟ وكم أصبح للإنسان وهو يدب على ظهر هذا الكوكب ؟ يطيب لأفلام الخيال العلمي إظهار الإنسان مع الديناصورات ، ولكن هذا الترافق الزمني غير صحيح ، كما كشفت عنه الأبحاث العلمية الجديدة ، فبعد اختفاء الديناصورات بفترة طويلة ظهر الإنسان ، فالديناصورات دبت على الأرض بأطنانها الثقيلة وأدمغتها الصغيرة قبل 570 مليون سنة ( 3 ) واختفت عن وجه اليابسة قبل حوالي 65 مليون سنة ، في حين أن بدايات الإنسان ظهرت قبل حوالي ( 2.3 ) مليون سنة ، وفي هذا الصدد يواجهنا سؤال ملح هو : كيف استطاع العلماء تحديد هذه الأشياء وبهذه الأرقام ، وليس هناك من أثر تاريخي أو وثيقة تقر على هذه الحقيقة ؟ كيف تم استنطاق الوجود وبأية وسيلة تم معرفة عمر وسيرة حياة هذه الكائنات ؟ إذا كانت الديناصورات وطأت الأرض بهياكلها العملاقة وأنيابها المرعبة وأدمغتها القاصرة ، قبل نصف مليار سنة فكم أصبح للحياة على وجه الأرض ؟ سواء وحيدات الخلية ، أو عديدات الخلايا ، متمثلة في بقية الحيوانات من زواحف وطيور وحيوانات ثديية ؟ بل كم أصبح للكون من عمر ؟ ومتى تشكلت المجموعة الشمسية ؟ ومتى بدأت الحياة على وجه البسيطة ؟ وأين تقع الحياة الإنسانية في هذه الرحلة الطويلة ؟!! ****************************** لابد إذن من معرفة ( الأداة ) التي يمكن بواسطتها استنطاق الشجر اليابس والحجر الصلد ، النجم اللامع والهيكل الرميم ، عن عمره فيما أفناه ؟ ومنذ متى غُيب في أحشاء الثرى ؟؟ فــ ( اللغة ) هنا التي تنطق ، تختلف في طبيعة أقلامها ومدادها وورقها ، والقرآن أشار إلى أعضاء تتكلم ليس في طبيعتها النطق والإفصاح عن نفسها ، بل يمضي القرآن أبعد من هذا ، حيث يُنطق من ليس في طبيعته النطق ، ويُسكت من في طبيعته النطق (( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم )) ( 4 ) فالفم الذي للنطق يُغلق ، وتبدأ اليد بالكلام على طريقة جديدة ولغة مستحدثة لابد من ترجمتها ، وتفسير حركاتها ، فالأصابع لاتنطق ولكن بأمكانها أن تكتب وتشير وتنقر وتعزف وتضغط وتلمس وترسم وتنحت وتشكل ، فأمامنا شريحة واسعة من إمكانيات التعبير الجديدة . فــ ( اللغة ) يعبر بواسطتها عادةً إما نطقاً أو كتابةً ، وهي الشكل التجريدي الراقي عند بني البشر ، ولكن الطبيعة لها لغةُ نطقٍ مختلفة ، فهي لاتصوت أو تكتب على طريقتنا ، بل على طريقتها الخاصة بها ، وماعلينا سوى اكتشاف هذه اللغة من واقع الطبيعة ، وأشار القرآن إلى إمكانية أن تتحدث الأرض ( يومئذ تحدث أخبارها ) ( 5 ) إلا أن هذا الحديث ليس تصويتاً بشرياً ، بل نطقاً خاصاً بالشجر والحجر علينا أن نفهمه بعد ترجمته ، وانتبه ( غاليلو ) سابقاً إلى حديث الطبيعة هذا فاعتبر أن الطبيعة كتبت بلغة خاصة وهي لغة رياضية ، علينا اكتشافها وصياغتها على شكل معادلات ، وأصاب غاليلو في حديث الطبيعة التي تتحدث بطريقتها الخاصة ، ولكن حديث الطبيعة يبقى حديث الطبيعة الذي تمثل المعادلات تعبيراً غير نهائي عن حقيقتها ، فالطبيعة هي أكبر من الطب والهندسة والرياضيات والاقتصاد والمعادلات ، فلا يمكن قياس العواطف والتجليات الروحية مثلاً بالغرامات أو درجات السلم الزئبقي ، بالسنتمترات المكعبة أو الفهرنهايت على الشكل الذي افترض غاليلو!! عملية استنطاق هذه ( اللغة ) من الطبيعة هي التي حرمت المؤرخين قديماً من عدم إمكان الغوص في بطن التاريخ لمعرفة كيفية بدء ( خلق الأشياء ) (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )) ( 6 ) بسبب عدم انتباههم إلى إمكانية هذه اللغة الجديدة ، إلى درجة أن شراح العهد القديم في أوربا اعتبروا أن العالم بدأ في العام 4004 قبل الميلاد ، وهي التي منحت العلماء اليوم ، وبطرق علمية مختلفة معرفة عمر العناصر المعدنية ، والشجرة المعمِّرة ، والصخرة الراقدة عبر الأحقاب الجيولوجية ، والهياكل العظمية التي حفظتها طبقات الأرض ، المدن التي طواها التاريخ ، والحضارات التي انهارت ولفها ليل الزمن . لم تعد الإمكانيات محصورة في تحديد عمر الشجرة فقط من خلال حلقاتها الداخلية ، بل حتى قراءة هذه الحلقات على شكل ( سيرة ذاتية - C . V. ) ومعرفة سنوات الخصب من الجفاف التي مرت خلال حياة الشجرة ، كُتبت القصة وحُفظت ووُثِّقت وخُتمت بختم ( الواقع ) الذي لايكذب ولايزور ، لايحرف النصوص أو يؤولها ؛ فهي وثيقة أكيدة سطرتها يد الزمن كوثيقة أصلية غير مزورة ، لذلك كانت طبقات الأرض في حفظها للنصوص التاريخية ووقائعه أدل على نفسها بنفسها من أي نص كتب عنها مهما كان مصدره ، كل ماتحتاجه هو المحاولة الدؤوبة لفك ألغاز هذه اللغة ، كما حصل مع حجر رشيد في مصر . ************************** وإذا امتلكنا هذه الأداة سواء من خلال العناصر المشعة في الطبيعة ، مثل اليورانيوم أو الراديوم وسواهما ، أو الكربون 14 من الشجر ، أو الحفريات المختومة مثل البصمات على الحجر وفي طبقات الأرض ، أو حلقات الشجر الداخلية ، أو تحليل كلس العظام في الهياكل العظمية ، أو التحليل الطيفي لــ ( اللون ) القادم من المجرات ، كما في ظاهرة ( دوبلر والزحزحة الحمراء ) ( 7 ) التي طبقها العالم الأمريكي ( إدوين هابل ) لاكتشاف تباعد المجرات وظاهرة تمدد الكون . كل هذه الأدوات المنوعة يغوص الإنسان بواسطتها مثل أدوات الجراح في قاعة العمليات ، ولكن الحقل هنا هو الوجود كله وليس جسم المريض ، فيتأمل المجرات بالتلسكوب ، والباكتريا بالمجهر ، ينبش طبقات الأرض بحثاً عن الهياكل العظمية وبقايا الحفريات ، يقلب النظر في مخلفات المدن البائدة والحضارات التي ابتلعتها الأرض ، فيصل ليس فقط إلى ( عمر ) هذه الأشياء ، بل إلى تسجيل ( موثق ) إلى أبعد الحدود ، وبدون أي تزوير للقصة الكاملة التي حدثت . إن بصمات المجرمين ومخلفات الشعر والدم تقود إليهم مهما أقسم أحدهم بالأيمان المغلظة أنه لم يرتكب الجريمة ، لإن آثارهم تنطق بشكل حيادي وموضوعي عما حدث ، فإمكانية الخطأ بين بصمة وأخرى هي بنسبة واحد إلى 64 مليار ، فالخطأ هنا ممتنع ، ولعل الآية القرآنية أشارت بشكل خفي إلى هذا السر في تفرد البصمة ، من أن البعث سوف يكون كاملاً غير منقوص بما فيها البصمة ( البنان ) التي هي تفرد قائم بذاته لكل شخصية إنسانية ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) ( 8 ) كذلك الحال في ( بصمات الحفريات ) على الصخر وطبقات الأرض فلا يمكن أن تضلل . هكذا استطاع العلماء الذين ( مشوا في الأرض ) استنطاق الحجر والشجر ، النجم وطبقات الأرض ، الراديوم والكلس ، العظام والدماء ، وهذا الاختراق لهذا الفضاء المعرفي هو في حالة زيادة يومية وتراكم معرفي نامي ، تتفاعل عناصره مع بعضها فتولد عناصر جديدة ، وهكذا أمكن الكشف عن هياكل العائلة المالكة الروسية للقيصر نيقولا الثاني الذي غاب في بطن الأرض مع الثورة البلشفية برصاص الشيوعيين الحمر . ************************************* وطالما أمكنتنا هذه الأدوات الجديدة من كل هذه المعرفة الغزيرة والمنوعة ، فإننا نقترب اليوم من لغز بداية الكون في إطار نظرية ( الانفجار العظيم - BIG - BANG - THEORY ) التي تفيد ببداية عجائبية خارقة للوجود ، بدأت فصولها قبل حوالي 15 مليار سنة ، من نقطة لم يستطع العلماء إلا اعتبارها أنها لحظة ( متفردة - SINGULARITY ) حيث انفجر الكون على صورة كرة نارية هائلة في جزء من ( سكستليون ) من الثانية أي واحد مقسوم على عشرة أمامها 36 صفراً ، حيث كان الكون كله بما فيه من كل المجرات الحالية مضغوط في حيز أقل من بروتون واحد .. حيث لازمان أو مكان .. لاطاقة أو مادة .. لاقوانين تنتظم الكون أي غياب كامل لكل مفاهيم الوجود التي نتعامل معها اليوم ؟!! هذا ماتقوله باختصار نظرية الانفجار العظيم التي جاءتها التأكيدات من كشوفات ( هابل ) في تمدد الكون ، ثم الكشف عن ( الإشعاع الأساسي ) في الكون على يد كل من ( آرنو بنزياس ) و ( روبرت ويلسون ) عام 1965 م ( 9 ) والتي تمشي معظم الدلائل باتجاه تأكيدها حتى الآن . وإذا كانت نقطة البداية قد دشنت للكون قبل 15 مليار سنة ، فإن مجموعتنا الشمسية التي ننتمي إليها ربما تكون قد بدأت قبل حوالي ثماني مليارات سنة ، أما أمنا الأرض فتتأرجح الأرقام عند( 5.4 ) مليار عام ، ويبقى السؤال عن الحياة التي باشرت وجودها قبل حوالي ( 5.3 ) مليار سنة ، وكانت الحياة البدائية في صورة وحيدات الخلية التي لاتحتاج للأكسجين ، حيث لم يكن في تلك العصور الساحقة وجود للأكسجين في غلاف الكرة الأرضية، وفي مسلسل الحياة هذا تأتي الحياة الإنسانية في قمة الخلق الألهي ، حيث يرجح أن تكون قد بدأت قبل حوالي ( 2.3 - 4.3 ) مليون سنة وفي أفريقيا الساخنة ، ربما في شرق الحبشة ، على النحو الذي كشف عنه العالم الأمريكي الانثروبولوجي ( دونالد جوهانسون ) في نوفمبر عام 1974 م ( 10 ) في مثلث عفار شرق الحبشة ، حيث تم الكشف عن 80% من هيكل عظمي لإمرأة تمشي منتصبة ، تعود إلى مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين ( هيكل لوسي ) فإذا وضعنا الآن الحياة على شكل كتاب ، شكلت الحياة الإنسانية فيه الصفحة الأخيرة من كتاب سماكته ألف صفحة . ****************************** بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش والوحوش تطارده ، يأكلها وتفترسه ، يعيش على الصيد وجمع الثمار ، بدون ذكر في التاريخ ، فلاتدوين ، فكان خارج التاريخ ، ولفترة ملايين السنين ، ثم حدث الانعطاف الأول والخطير في تاريخ الإنسان باكتشاف النار والمحافظة عليها متقدة ، فصرف خطر الحيوانات عنه ، كما استطاع أن يتقدم للعيش في المناطق الباردة ، وكانت هذا قبل حوالي 900 ألف سنة ، وبذلك خرج من أفريقيا في أرجح الأقوال ليعمر القارات كلها ، وأما أمريكا فانتشر إليها من أقصى الشمال عبر مضيق بهرنج ، الذي كان يصل آلاسكا بآسيا ، ولعل شبه أهل الأسكيمو بأهل الشرق الأقصى والصين يوحي بمجيئهم من هناك . **************************** وبقيت فترة الصيد وجمع الثمار واعتماد النار والانتشار في الأرض فترة طويلة من الزمن وبدون أي قفزة نوعية ، حتى دشنت المرأة الانعطاف الخطير الثاني بدخول الثورة الزراعية ، وكان ذلك قبل حوالي عشرة آلاف سنة ، ففي الوقت الذي كان الرجل فيه يركض خلف الصيد على ماخلدته نقوشات الكهوف ، انتبهت المرأة للزراعة ففجرت التاريخ وعطفت مجراه وحققت القفزة النوعية للجنس البشري ، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان تحرر الإنسان ودفعة واحدة من الموت ( جوعاً ) فسيطر على إنتاج غذاءه ، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة ، وانبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه ، على ماأشار إليه عالم الاجتماع ( دركهايم ) في كتابه تقسيم العمل ، وعلى النحو الذي فهمه ابن خلدون في ( المقدمة ) في ضرورة المجتمع الإنساني من نقطة ( الغذاء ) الذي لايمكن تحصيله بدون تعاون التخصصات ، وبتوفير الغذاء ازداد السكان ، في صراع مع حصد الأمراض التي كانت تعالج بيد ( السحرة ) حيث كانت أحد وظائف الساحر ( الطب ) ، وبدأت التجمعات السكانية الكبرى في التشكل ، وببناء المدن وتخصص فريق الفلاحين بالسيطرة على إنتاج مايزيد عن حاجة الجماعة ، تحول بقية الفريق الاجتماعي إلى تخصصات مختلفة ، وبدأ الانسان في وضع قدمه في أول طريق الحضارة ، فتشكلت المدينة ، وولد النظام السياسي الذي احتكر السلاح والعنف ، وبدأ الإنسان مع أخيه الإنسان في تشكيل مجتمع المدينة ( الآمن ) وبذلك تحرر الإنسان من الخوف من أمرين : فوضى الغابة وعنفها وجوعها ، وهو ماأشار إليه القرآن عن نعمه على الإنسان من أنه ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . وهو مانوه به ابن خلدون كاعتبار ثاني للتجمع الإنساني بعد الغذاء ( المدافعة ) ***************************** ظهرت على وجه الأرض مجموعات إنسانية على شكل مجتمعات بدائية تجاوزت ( 600 ) مجتمعاً ، على ماحررَّه المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه ( دراسة التاريخ ) ، ولكن الحضارة كان عليها الانتظار بضع آلاف من السنين قبلا أن تنبثق ، فانطلقت أول حضارة من جنوب العراق الحالي قبل ( 6000 ) سنة ، لتتلوها 28 حضارة أخرى ، في ظروف مازالت قيد التحليل من قبل فلاسفة التاريخ ، منهم توينبي الذي أشرنا إليه والذي رأى في قانون ( التحدي والاستجابة ) آليةً تفسر بزوغ الحضارات أو بالعكس انطفاؤها ، سواء كان التحدي في البيئة أم النفس كما في حضارة ( البلوبينيز ) مع تحدي ( المحيط ) أو حضارة جنوب الرافدين والنيل في تنظيم الري . ******************************** ومع ولادة الحضارة حصل خطأ ( كروموزومي ) رهيب ذي قرنين أو شعبتين أو مرضين ؛ كل منهما يزيد في تفشي القيح عند الآخر ، هما ( الحرب والرق ) ، الحرب كانت تولد الرق ، والرق هي القوة العضلية ( الآلة في ذلك الوقت ) المستخدمة في مزيد من الانتاج ، الذي اعتاد القوة العضلية المباشرة الإنسانية أو الحيوانية ، ولعل أفظع مرضين أصيب بهما الجنس البشري في تاريخه كانا ( الحرب والرق ) لإنه بالحرب يدمر وجود الإنسان بالكامل ، وبالرق يمسح من عالم البشر المعنوي فهو ميتة من نوع جديد ، ومن هنا نفهم أيضاً النتيجة المباشرة ، لتفشي مرض ( قوة العضلات - العجول الآدمية ) على وضع ( المرأة ) فطالما كانت المرأة لاتمتلك ( العضلات ) فإن المجتمع تعرض لاختلال فظيع ، بغياب المرأة عن التوجيه المشترك مع الرجل ، فوقع المجتمع تحت سيطرة الذكور فقط ، ونمت المؤسسات العسكرية ، التي هي ذكورية بالدرجة الأولى ، فكان اندلاع الحروب تحصيل حاصل ، فالحرب هي عملية ذكورية كاملة في التخطيط والقيادة والتنفيذ بل والموت في النهاية ؟! فالذكور يخوضونها بكل ضراوة ويموتون في ساحاتها ، في حين أن الانثى لاتشارك في هذه المذبحة الجماعية ، بل تحافظ على الحياة ، وتنجب الحياة ولاتموت في حمامات الدم المرعبة هذه ، فهي خزان الحياة المتجدد وينبوع الحب المتدفق ، وبترسيخ الثقافة العسكرية الاسبرطية تم تحويل وتشويه كامل للثقافة الإنسانية باستلاب الإنسان من أهم عناصر إنسانيته ، بسل روح المبادرة والبعد الفردي والاستقلالية ، وتحويل المجموع إلى كتلة لحمية مضغوطة تعمل كالمطرقة ولاتناقش ، وتحويل تيار الثقافة بكامله في الفنون والأدب والجمال وسواه ، ليصب في تيار اتجاه تكريس ثقافة البطولة و ( العنترية ) وهي كارثة إنسانية عامة ، عانت ومازالت تعاني منها كل شعوب الأرض ، ووضع لها محمد ( l ) حلاً : (( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) . ********************** وقبل خمسة آلاف سنة حصل انعطاف ثالث لايقل في وزنه وثقله عن الانعطافين السابقين باختراع الكتابة ، فبواسطة الحرف والكلمة أمكن حبس المعنى ورسمه في الأوراق وشبهها ، وبذلك أمكن وللمرة الأولى في التاريخ الإنساني ( حفظ ) الذاكرة الإنسانية ، وبدأ تيار التراكم المعرفي وثورة المعلومات ، ولعل فواتح السور من الحروف المكررة من ( ألف ولام وميم وعين وصاد ) والتي اختلف فيها المفسرون على مذاهب شتى ومازالت أحد أسرار القرآن ، لعل أحد تفسيراتها هي إشارتها إلى هذه الثورة الخطيرة في العقل والتاريخ الإنساني ، فالإنسان قبل ( الكتابة ) كان يتفاهم بالنطق والتصويت ، ولكن حصيلة التجربة الإنسانية كانت تموت مع كل جيل فلا تحفظ ، تماماً كما لو تصورنا أن خلايا الدماغ تتكاثر وتموت كما يحصل مع الكريات الحمر في الدم والتي تتبدل كل 120 يوماً فتتكسر لتعطي حمضاً يذيب دهن الطعام ويلون بعد ذلك فضلات الأمعاء الخارجة ، ذلك ان خلايا الدماغ هي من عمر الإنسان تولد معه برقم محدد وتبقى معه وترافقه إلى رحلة القبر الأخيرة ، فهي تخزن المعلومات وتبني الذاكرة تنمي الخبرة وتصقل المواهب ، تشحذ القدرات الفنية ، وهي بعد هذا مركز الإبداع وتجلي الشخصية ، ولو تبدلت وأعيد صناعتها كما هو الحال مع باقي خلايا الجسم إذاً لكان على الإنسان أن يتعلم اللغة كل بضعة أشهر من جديد . هذا الشيء كان يحدث مع الإنسان عبر التاريخ ، كما لو كان الجنس البشري بدون دماغ وخلايا عصبية ، وباختراع الكتابة تشكلت الخلايا العصبية الحافظة والدماغ الرائع للجنس البشري ، الذي يحفظ الخبرات والذاكرة البشرية والتراكم المعرفي طبقة فوق طبقة . ************************************ وبين القرن السابع والرابع عشر للميلاد تم تطوير الفكر بشكل نوعي على يد المسلمين الذين ودعوا الفكر اليوناني ، ليولِّدوا _ بدفع من روح القرآن _ المنهج الاستقرائي التجريبي وروح البحث الواقعي واعتماد التجربة ، لتتخمر بعد ذلك بعد نقلها في إيطاليا ، لتفجر بعدها روح النهضة الجديدة في أوربا ، ومع تطوير الطباعة قبل 500 سنة بدأ العقل يتحرر ، وتم ربط العالم ببعضه من خلال قوة البخار التي استخدمت قبل 200 سنة ، ليتلوها تسخير الكهرباء قبل 120 سنة ، وأما الاستعمال السلمي للذرة فتم قبل 30 عاماً فقط ، وكل إنجازات الجنس البشري الرائعة من الطب الحديث وجراحة الأوعية والمناظير والتخدير والالكترونيات والبريد والفاكس والطيران ، كله تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية . ************************* كذلك حصل انفجار سكاني بتسارع لم يعهده الجنس البشري من قبل ، خاصة بعد ارتفاع المستوى الصحي ، فالجنس البشري بين محطات عام 1800 - 1930 - 1960 - 1975 - 1988 م قفز من مليار واحد إلى خمس مليارات ، وربما يصل العدد إلى 120 مليار مع نهاية القرن القادم ؟! عندها ستتحقق نبؤة جول فيرن عن الغواصة ناوتيلوس والكابتن نيمو والمدينة في قاع البحر كما عرض في فيلم عشرين ألف فرسخ تحت الماء . حيث تسخر إمكانات البحر لإيواء وإطعام المليارات المتدفقة من البشر ، وفي الوقت الراهن فإن الأرحام تدفع مع كل شروق شمس إلى الحياة بــ 270 ألف إنسان ، في حين تبلع القبور مع كل غروب شمس 140 ألف انسان ، فيزداد البشر كل 24 ساعة 130 ألف انسان جديد ضيفاً على الكرة الأرضية . *************************** وأما رحلة القوة عبر التاريخ والصراع المسلح ، فكانت كل دورة تمضي أشد هولاً في إيقاعها من التي قبلها ، في دورات جنونية من التخريب المتكرر للجهد الإنساني ، والتدمير المعاد للمدن والدول والحضارات ، حتى حصل الانعطاف السادس في مسار عشق القوة ، بعد اكتشاف النار والثورة الزراعية ودخول الحضارة واختراع الكتابة والثورة الصناعية ، ولعل الانعطاف الأخير الأخطر من نوعه ، باعتبار توقف مصير الجنس البشري عليه ، والمثير فيه أنه أفضى إلى عكس ماأراد أصحابه ، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم 16 تموز يوليو من عام 1945 م في تجربة السلاح الذري الانشطاري الأول ( قنبلة البلوتونيوم )، حيث وضع الإنسان يده هذه المرة على وقود المجرات ، ولمس جدار جهنم الصاعق ، وأدرك أن هناك انقلاباً نوعياً في مفهوم القوة ، هي حزمة من الأفكار التالية : 1 - الأول : لم يبق غالب ومغلوب في هذه الحرب بعد اليوم ، ولن يدخل أحد الحرب وهو يعلم أنها انتحار جماعي 2 - الثاني : لن تحل المشكلات بعد اليوم بالقوة المسلحة ، فهذا هو المنطق الجديد ، منطق العصر النووي ، وبالتالي وجب على الإنسان كما ودع هراوة الغابة أن يودع عقلية الغابة 3 - الثالث : كانت بنفس الوقت إعلاناً غير مباشر ودعوة مبطنة إلى عودة الإنسان إلى انسانيته فوجب أن يودع المواجهة والصراع والدماء والصدام ، ويدخل العهد الجديد ويعتاد اللغة الجديدة : الحوار وامتزاج الثقافات والتفاهم وتكوين الثقافة السلمية وتوديع روح العنف والبطولة الفارغة 4 - الرابع : تحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة يرى الناس بعضهم ويتخاطبون بسرعة الضوء ويتحركون بأسرع من الصوت ، فهم قفزوا فوق ثقل الجسد ليلتحقوا بخفة الروح ونبض الأفكار 5 - الخامس : النزاعات المسلحة اليوم وتكديس ( خردة ) السلاح هي بضاعة المتخلفين عقلياً ، والذين لايملكون ( المعرفة ) ونواتجها من التكنولوجيا ، واستعراضاً سريعاً لبؤر النزاع المسلح في العالم يرينا أن عالم الكبار ( لايتقاتل ) والذي يتقاتل هم دول الأطراف المتخلفة فقط 6 - السادس : من يتقاتل من هذه الدول الهزيلة لايملك مصير ومخرج القتال ، بل خاتمتها متوقفة مرة أخرى على دول المركز التي تملك المعرفة والتكنولوجيا والمال ، فمن ينطلق في شراء السلاح وتكديسه يكون كمن اُرتهن لعالم الكبار وباع قضيته إليهم 7 - السابع : يتحول العالم تدريجياً الى شريحتين : شريحة من يفهم وشريحة من لايعقل ، كما يتشكل العالم إلى طبقتين مسخِّرة ( بالكسر ) ومسخَّرة ( بالفتح ) ، مستكبِرين ومستضعَفين على حد تعبير القرآن ، من يملك ( البرستيج PRESTIGE= الوجاهة والنفوذ ) ويأكل 80% من خيرات العالم ، وأخرى تشكل كعدد 80% من سكان العالم ولكنها تحظى بأقل من 20 % من خيرات العالم ويشكل العالم الإسلامي اليوم مركز الثقل فيه فيجب أن نعي هذه الحقيقة المرة من أجل تغييرها ، بتغيير مابنفوسنا أولاً 8 - الثامن : تعلم شريحة ( المستكبرين ) في العالم علم اليقين أن زمن القوة انقضى وولى ، وأن هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة ، التي لاتضر ولاتنفع ، وهم ( سحرتها ) ومانحتاجه هو توحيد محمد بن عبد الله ( l ) كي يبطل السحر الجديد 9 - التاسع : قد تتغبش هذه الرؤية عند البعض بمذابح راوندا وقتال الشيشان وقذائف مدافع الأفغان والبوسنة ، ولكن العالم الذي نعيش فيه هو عالم النور والكهرباء والكمبيوتر وجراحة الجينات والسلام ، بالطبع مازال بعض الناس يعيشون على فتيل المصباح والعد باليدين والكي واستخدام هراوة الغابة ، ولكن العبرة بخواتم الأعمال وآخر الفتوحات العلمية ، فإذا أصر المرء على ركوب الدواب والعد بالأصابع بدل استخدام الكمبيوتر تحول إلى عالم المسخَّرات ( بالفتح ) ************************** يقدر عالم الفيزياء الكونية ( ستيفن هوكينج ) في كتابه ( قصة قصيرة للزمان ) أن الشمس استهلكت من وقودها حوالي النصف ، وأن أمام الشمس في إطلاق النور والحرارة مايزيد عن خمسة مليارات من السنين ؟! فإذا كانت الحضارة الإنسانية بدات قبل ستة آلاف سنة فقط ، والثورة الزراعية تسعة آلاف ، وأفضل إنجازات الجنس البشري تمت في مدى الخمسين سنة الفائتة ، فماذا ينتظر الإنسان في مدى مائة عام القادمة فضلاً عن الآلاف أو الملايين ، كيف سيكون الإنسان بعد عشرة آلاف سنة ياترى ؟ خاصة وأن العلم يمشي بشكل متسارع ؟ قد نصاب بالحزن في اكتشاف أن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد ، وأننا ولدنا مبكرين للغاية وحرمنا من الرؤية المتألقة لعلم الله الذي سيتحقق فينا بعد حين ( إني أعلم مالاتعلمون ) . مراجع وهوامش : ( 1 ) مات باسكال ( 1623 - 1662 م ) دون الأربعين ( 39 سنة ) ويقول سانت بيف عن هذه الفقرة (( ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لانظير لها )) راجع قصة الحضارة - تأليف ويل واريل ديورانت - طباعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1979 م - ترجمة فؤاد اندراوس - الجزء 31 - ص 100 ( 2 ) البقرة 20 ( 3 ) يراجع كتاب ( EVOLUTION ) - كتاب طيف العلم الأمريكية - الطبعة الألمانية ص 17 _ ) SPECTRUM SCIENTIFIC AMERICAN4 ) سورة يس 65 ( 5 ) سورة الزلزلة الآية 4 ( 6 ) العنكبوت الآية رقم 20 ( 7 ) تم كشف هذه الظاهرة على يد العالم النمساوي كريستيان دوبلر وسميت باسمه ومفادها معرفة موجة الصوت أو الضوء القادم من الهارب ، حيث تكبر الموجة وتنضغط في حال هجوها علينا والعكس بالعكس ، وفي الضوء باعتباره مكون من حزمة من الألوان فإن رأسه القادم باتجاهنا هو أزرق ، في حين أن ذنبه الهارب عنا ذو لون أحمر ، وهي ماترسله كل المجرات لإن الكون يتوسع مثل البالونة ( 8 ) سورة القيامة الآية 4 ( 9 ) طالما انفجر الكون في كل اتجاه فلابد أنه ترك أثراً من إشعاع في كل الكون ، هذا ماكشف عنه العالمان المذكوران بدقة وتبلغ ( 5.3 ) فوق الصفر المطلق ( - 273 ) راحع كتاب العلم في منظوره الجديد تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو - ترجمة كمال الخلايلي - عالم المعرفة 134 - ص 61 ( 10 ) تراجع القصة بالكامل في مجلة المختار عدد ديسمبر من عام 1981م صفر عام 1402 هـ ( ص 114 ) عن اكتشاف هيكل لوسي .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram