تم عقد مؤتمر مصيري في اليابان حول التعريف بالإسلام، حيث اجتمعت في صالة المؤتمرات الضخمة في طوكيو شخصيات يابانية علمية، وسياسية مرموقة، واجتماعية ذات مناصب، ورجال أعمال ورؤساء شركات عملاقة، وبعض الوزراء، ورجال الدين الشنتي والكونفوشيوسي. جلس الكل يستمعون بإنصات بالغ إلى المحاضرات التي يلقيها الوفد الإسلامي القادم من الشرق الأوسط للتعريف بدين الإسلام .
وخلال ثلاثة أيام متلاحقة من المحاضرات المكثفة المملوءة بالحيوية والحماس، تم استعراض عدالة الإسلام، ومكانة المرأة، وفكرة الحاكمية، ونظام الشورى، والتربية الروحية، والحرية الفكرية في الإسلام.
كان اليابانيون يهزون رؤوسهم في كل مرة بالاستحسان والإعجاب، وفي نهاية المؤتمر تم توزيع كتيبات صغيرة بالتعريف بالإسلام، وشروط دخوله، وكيفية النطق بالشهادتين، وأركان الإسلام الخمسة.
كان كل شيء يمشي بهدوء لولا أن قطع جو الاستحسان سؤال تقدم به أحد المفكرين اليابانيين حول قتل المرتد؟
هنا وصل الحوار إلى قتال المرتدين على يد أبي بكر ثم علي مع الخوارج
فعلي (كرم الله وجهه) حينما قاتل الخوارج لم يقاتلهم لأنهم غيَّروا رأيهم وبدَّلوا دينهم، بل وضح رأيه فيهم عندما سُئِل عنهم: أكفارٌ هم؟ أجاب: من الكفر فروا.
قالوا سائلين: يا أمير المؤمنين: أو منافقون هم؟
قال: المنافقون لا يذكرون الله الا قليلا، وأولئك يذكرون الله كثيرا.
كرروا سائلين: فما تقول فيهم إذاً؟
أجاب في قولته الشهيرة التي تعتبر من درر الحكم، وقواعد التعامل الانساني في قانونٍ مزلزلٍ في العلاقات:
ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.
ففي هذه الجملة حدد مجموعتي الانحراف في المجتمع الاسلامي: الأولى هي البيت الأموي الذين تاجروا مع الشيطان ففازوا بالباطل، أما مجموعة الانحراف الثانية فعنى بها الخوارج.
أما الكارثة الأموية فحدثت بفعل هشاشة المجتمع الاسلامي، وحنكتهم القيادية السابقة في التآمر ضد الاسلام بدءً من تخطيط معركة أحد والخندق وانتهاء بالتآمر الدولي الى بلاط النجاشي، وضعف الجهاز المناعي في المجتمع الاسلامي الوليد، الذي كان في بداية تشكله التاريخي؛ فأصيب بهذا المرض العصبي الأموي الرهيب الذي قاد لالتهاب الدماغ والسحايا للرأس الاسلامي، أسلمه بعدها الى عطالة عقلية وشلل حركي، كما يحدث في كل الأمراض التي تقود الى تدمير الجهاز العصبي المركزي، وحرق كمبيوتر الدماغ، يضاف الى هذا غلطة عمر (ر) في توليته معاوية فترة طويلة حكم الشام التي دامت حوالي عشرين سنة، فاستطاع تكوين جيش بيزنطي جديد، يلبس عباءات إسلامية جاهزة لضرب الكعبة، وذبح آل البيت، واستباحة المدينة، وصعود شخصيات جزاَّرين من طراز الحجاج الذي صفى معظم القيادات الفكرية في المجتمع الاسلامي.
أما مجموعة الانحراف الثانية الخوارج فكانوا بدو بسطاء صريحين لا يعرفون التواءات النفاق السياسي.
كانوا طلاب حق ولكنهم أخطأوا الوصول إليه .
كان الخوارج مخلصين ينقصهم الوعي، وكان الفريق الأموي خبيثاً ذكيا، واعياً ينقصه الإخلاص، يبحث عن مصالحه ولو على حساب إجهاض التجربة الإسلامية كلها، الى درجة أن تلك التجربة التاريخية العظيمة انتهت قبل أن تبدأ، في أقل من أربعة عقود، في جيلٍ واحد، ليتشكل مكان الدولة الراشدية دولة بيزنطية، لا تختلف عن بيزنطة في شيء، سوى أن الأمويين أدوها بسذاجة أعرابي جاء متأخراً عن درس التاريخ بسبعة آلاف سنة، يتلمس طريقه في الظلمات، بين أطلال حضارة قديمة مليئة بالأفخاخ والألغام.
كانت سياسة الأمام علي (ر) مع الخوارج واضحة (دعوهم ما لم يسفكوا دماً حراما) فهو قاتلهم ليس من أجل آرائهم غيَّروها أم بدَّلوها، مع كل اعتقاده أنهم الذين وصفهم الحديث، بأن أحدكم يحقر صلاته بجانب صلاتكم، وصيامه بجانب صيامكم، ولكنهم مع كل شدة العبادة هذه يمرقون من الدين، كما يمرق السهم إذا دخل الصيد فخرج منه بدون أثر (كما يمرق السهم من الرمية)؛ فمع اقتناع علي الكامل بأنهم مرقوا وخرجوا من الدين، لم يحاربهم من أجل أفكارهم، بل حاربهم من أجل رفع السلاح وفرض الرأي على الناس بالقوة المسلحة، وهذا الذي فعله أبو بكر الصديق في قتاله مع المرتدين ..
وأريد أن أضيف شيئاً آخر عن فعل رسول الله (ص) أنه لم يُنقل عنه أنه قتل مرتدا لأنه غيَّر رأيه فقط، كما لم يرسل أحداً يغتال الآخرين لمجرد آرائهم تبديلا وتحريفا، بل كان يقاتل من رَفع السيف على الناس لفرض الرأي بالقوة المسلحة، وتآمر وظاهر على الإجرام ..
لا أدري يا سيدي هذا بعضاً مما شُرح لي فماذا تقول ؟؟
الرأي ما سمعت.
من يرتد يستتاب فإن أصر على الكفر يُقتل، فهذا حكم الله وشرعه العادل.
ياباني (مختص في دراسة تاريخ الشرق الأوسط القديم):
قبل أن نختتم الجلسة هناك فكرتان ملحقتان بهذه الفكرة الخطيرة:
ـ الأولى إن هذا السلاح في غاية الخطورة، يمكن تسخيره تحت دعوى الردة، كما حصل من اطلاعي على التاريخ الاسلامي، فالحلاج قُتل أيام الخليفة العباسي المقتدر، والسهروردي زمن صلاح الدين الأيوبي، بفتوى أمسكوه فيها بكلمةٍ تفوهها.
كان الحلاج يصرخ في القاضي ومن معه في لجنة التحقيق: الله .. الله .. في دمي فقتلوه تقطيعا ً، فهذا السلاح (السياسي) يمكن استخدامه ضد أي إنسان معارض سياسياً، بدعوى أنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، ولو راجعنا فتوى محمود طه السوداني، الذي أعدم أيام النميري بهذه الفتوى، لرأيناها من هذا القبيل، في التصفية السياسية المجردة ، فهذا الاتجاه الخطير الذي تشكل منذ الأيام الأولى لتشكل العالم الاسلامي العقلي والسياسي، مرض أموي لتصفية المعارضة وإجهاضها، وتصفية العقول المفكرة، وتراثهم، وضرب كل تجمع عقلاني كيفما وأينما وجد، ومحاولة تأسيس ثقافة أموية مازالت آثارها شغَّالة في الثقافة الشعبية حتى اليوم حتى في كلمات أهازيج العيد والسباب (سرسري .. بابا حسن) فبابا حسن هو الإمام علي كرم الله وجهه.
المشكلة أن عظام معاوية تحولت الى تراب منذ أمد بعيد، ولكن الثقافة الأموية مازالت حية نشيطة في تسميم الثقافة وعطالتها حتى اليوم، وفي هذا يجب أن نعترف لمعاوية بالدهاء التاريخي، يتحول أمامه ريشيليو وبسمارك الى تلاميذ بلهاء، ويتعلم على يديه مترنيخ وميكافيللي معاً.
ألا ترى يا هذا أنه سلاح سياسي خطير، وهو سلاح سياسي بالأصل؛ من أجل أن يتخلص الحاكم من المعارضة ولكن بفتوى شرعية.
2 ـ والفكرة الثانية : هي بث الرعب في مفاصل التفكير، أي ممارسة الإرهاب الفكري؛ فطالما كانت مثل هذه الأسلحة (الاستراتيجية) متوفرة فلا يمكن للإنسان أن يدلي بآرائه بصراحة في أي مجلس، بما فيها نقل وقائع هذا المؤتمر الى الرأي الشعبي الاسلامي، أي أن فكرةً من هذا النوع تلقي ظلالاً رهيبة للحجر الفكري، لأن أي بادرة فكرية قد تقود صاحبها الى الهرطقة، فيجب أن يحسب حساب أي فكرة تراوده، هل ستقوده الى قطع الرقبة وتكلفه حياته أم لا، أي أن الاسلام الذي جاء بالأصل لإطلاق الحرية انتهى عمله قبل أن يبدأه ؟!.
رئيس الوفد الاسلامي ( بعصبية ) :
لا جديد عندي أقوله ..
في نهاية المؤتمر ..
( يجتمع اليابانيون ليتداولوا الموقف وإمكانية اعتناقه على هذه الصورة): يقول سوموتا: إنه مبدأ خطير ليس علينا فقط بل على الجنس البشري ففي رأيي أن هذا المبدأ لا يُعتنق بحال ما لم تعدل هذه الفقرة ونظيراتها بشكل جوهري.
الثاني يعلق وهو رئيس قسم الأبحاث النووية في جامعة ناغازاكي: إنني أوافق على ما قاله الزميل سوموتا وأرى هذا الوفد القادم من الشرق الأوسط في غاية الخطورة على المعمورة؛ فيجب أن نحملهم وأمثالهم في صواريخ نووية الى كوكب آخر فهم يشكلون تهديداً جدياً للجنس البشري.
ويتقدم رئيس شركة تويوتا لصناعة السيارات فيقول: حقاً إنه مبدأ عجيب، تصوروا أنهم يريدون منا أن نصنع سياراتنا بدون إمكانية عودة للخلف (أنارييه) باتجاه واحد فقط، فإذا دخلت السيارة الكاراج لم تخرج منه قط!! إنها كارثة بحق على الصناعة اليابانية والعقلية اليابانية المبدعة، وسوف نفقد كل منافسة في الأسواق العالمية التي نعيش عليها، إنهم سيقودوننا الى كارثة عقلية واقتصادية مزدوجة.
ويعقب وزير المواصلات الذي كان متحمساً لاعتناق الاسلام في أول الجلسة: إنهم قوم عجيبون حقاً، يريدون منا بناء كل طرقنا السريعة الأنيقة باتجاه واحد بدون عودة فيه؟!
وبعد مداولات ومناقشات يتفق اليابانيون على تسفير هذا الوفد الخطير على متن أقرب طائرة وبدون أي توقف نهائياً، في أي محطة؛ لا في اليابان ولا في غيرها، الى بؤرتهم من حيث خرجوا منها، الى الشرق الأوسط بدون عودة ودعوة للمستقبل.
اقرأ المزيد
تم عقد مؤتمر مصيري في اليابان حول التعريف بالإسلام، حيث اجتمعت في صالة المؤتمرات الضخمة
في طوكيو شخصيات يابانية علمية، وسياسية مرموقة، واجتماعية ذات مناصب، ورجال أعمال ورؤساء شركات عملاقة، وبعض الوزراء، ورجال الدين الشنتي والكونفوشيوسي. جلس الكل يستمعون بإنصات بالغ إلى المحاضرات التي يلقيها الوفد الإسلامي القادم من الشرق الأوسط للتعريف بدين الإسلام.
وخلال ثلاثة أيام متلاحقة من المحاضرات المكثفة المملوءة بالحيوية والحماس، تم استعراض عدالة الإسلام، ومكانة المرأة، وفكرة الحاكمية، ونظام الشورى، والتربية الروحية، والحرية الفكرية في الإسلام.
كان اليابانيون يهزون رؤوسهم في كل مرة بالاستحسان والإعجاب، وفي نهاية المؤتمر تم توزيع كتيبات صغيرة بالتعريف بالإسلام، وشروط دخوله، وكيفية النطق بالشهادتين، وأركان الإسلام الخمسة.
كان كل شيء يمشي بهدوء لولا أن قطع جو الاستحسان سؤال تقدم به أحد المفكرين اليابانيين حول قتل المرتد؟
سيدة يابانية من المقدمة:
هل اعتبر هذا مثل المصيدة أو السجن للذي يأتي فيدخل الاسلام، مسموح له بالدخول، ممنوع عليه الخروج، إنها أشبه بالنكتة، أليس في هذا مصادرة للرأي وحرية الاعتقاد، لأن الترك أخو الاعتناق، والخروج صنو الدخول، ولكن ماذا تفعل بهذا النص القرآني الواضح، الذي أعلن هذا الرأي في وقت مبكر من التاريخ الانساني، قبل أن يعلنه فولتير بصرخته (اسحقوا العار) حينما قال: قد اختلف عنك تماماً بالرأي، ولكنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تعبِّر عن آراءك، وقبل أن تتبناها الديمواقراطيات الحديثة، ولكنها ربما كفرا في نظركم، كما أنني فهمت من قرآنكم أن ما يسمى الجهاد تم تشويه فكرته، فأصبح لفتح البلاد وتدويخ العباد، وليس الدفاع عن المظلومين وحماية الانسان من أجل التعبير عن رأيه، من خلال انشاء حلف عالمي لحماية المظلومين والمضطهدين سياسياً، بحيث يهرب كل اللاجئين السياسيين الى دار الاسلام، وليس أن يأتوا الينا كما هو الحال اليوم حيث معظم الهاربين السياسيين هم من العالم الاسلامي بحكومات إسلامية وغير إسلامية. فالجهاد لم يشرع عندكم لنشر الاسلام بحال من الأحوال، ولكن من أجل منع الفتنة أي حرية العقيدة والرأي. فهذا النص (لا إكراه في الدين) والنص الآخر الذي لا يقل التماعا وروعة الذي سحرني أنا اليابانية (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) كما أن الآيات العديدة التي تذكر من آمن ثم كفر أنه لا يقتل حتى ولو دخل وخرج العديد من المرات (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) فهو حسب النص الذي تتسلح به وتحتكر الحقيقة لنفسك، لم يكن بمقدوره أن يكفر للمرة الثانية لو أزهقت روحه أنت وجماعتك بعد كفره في المرة الأولى!
رئيس الوفد (بشيء من التضايق):
هل تريد أن تعلمينني ديني، أنا الذي جئتُ ألقِنُكِ أبجدياته، القرآن يا قوم عام والحديث خاص يوضح ملابسات الكلام العام، ولذا كانت الأحاديث واضحة في قتل المرتد.
ياباني من جامعة ناغازاكي (سائلاً):
ما هذه الأحاديث المزعومة التي تهدم أصلاً عظيما في قرآنكم؟
رئيس الوفد (وابتسامة خفيفة على وجهه وشعور القوة والاطمئنان بادية على محياه):
أول دليل يفقأ العين قتال المرتدين، فكانت حادثة مروعة قتل فيها الآلاف وليس أفرادا متناثرين، فكانت بمثابة الظاهرة الاجتماعية المزلزلة، فالخلفاء الراشدين عندما رأوا الأعراب تركوا الاسلام قاتلوهم مباشرة لإدخالهم مرة أخرى بقوة السيف في الاسلام، بموجب أحاديث واضحة أنه (لا يحل دم امريء مسلم الا بثلاث: قاتل النفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) وحديث (من بدَّل دينه فاقتلوه) وحديث (أهل عرينة الذين جاؤوا للعلاج في المدينة فلما ارتدوا وهربوا بالابل لم يكتف الرسول ص بقتلهم بل سمل عيونهم وقطع أطرافهم)، فهل تريدون أدلة ميدانية أقوى من هذا.
ياباني (متخصص في دراسة الأديان المقارنة) يعقب بشكل طويل:
مع أنني غير ضليع بعلم الحديث الذي تستشهد به، ولكنني حللت هذه الأحاديث بدراسة مستقلة واستشرت بعض المفكرين فعلمت أشياء غريبة، منها أن الحديث لا يبلغ في القوة مهما بلغ درجة أن يهدم ركنا هاما من الاسلام مثل مبدأ عدم الاكراه، فالنص القرآني هو المرجع النهائي عند الخلاف، فإذا جاء نص من الحديث يخالف النص القرآني صراحةً، بشكل يقطع الطريق على المفهوم القرآني ألغاه النص القرآني بشكلٍ آلي، فعندما تقول الآية أن مبدأ الاكراه ملغي جملة وتفصيلا، ملغي فلا يستخدم ضد أي إنسان، ويجب تحييد الجسد وعدم تعذيبه لإجباره على اعتناق مبدأ ما، أو التعلق به بالقوة، كذلك أباح القرآن على حد علمي عكسه تماما، فعند استخدام القوة يمكن للإنسان في ظروف كهذه التظاهر بالكفر مع الاحتفاظ بالإيمان سرا، ريثما تنجلي الازمة، لأن ثقة القرآن بالضمير لا حد لها، فهو يحترم العقل والإيمان والقناعة ويحميها، فهو لا يجبر في ثلاث صور: لا يجبر على الاعتناق بالقوة. لا يجبر على الترك بالقوة، كما لا يجبر على الاحتفاظ بالقوة. فهو يريد تحييد الجسد بالكامل في لعبة القناعة، فهو يراهن على أن العاقبة هي للعقل والقناعة، وليس أساليب القهر والإكراه التي تحمل فشلها سلفا وضمنا باتباعها هذا الأسلوب، لأن طريقة الإقناع غير مرتبطة بالقوة بل بالفهم والاقتناع.
وبهذه الطريقة تم إلغاء كل هذه النصوص التي اعتمدتها يا سيدي. وأريد أن أريحك أكثر ومن خلال النصوص التي استخدمتها، أن مشكلة النصوص تكمن أيضاً في التفسير والاستخدام الصحيح لها؛ فالنص الذي استخدمته (من بدَّل دينه فاقتلوه) هل تريد منا أو أفهم عليك أن المسيحي يقتل أيضاً فيما لو بدل دينه فأراد اعتناق الاسلام مثلاً؟ فنغلق الطريق الى الدخول الى الاسلام الذي نصبنا أنفسنا للدعوة له ـ أي أصبحنا أعداء له من حيث لا نشعرـ شيء رهيب أليس كذلك؟!
أي أن مبدأ (الطريق الواحد) ساري المفعول لكل الأديان، فنخرج بلاغاً أن وضع الدين يأخذ صفة الجينات الوراثية، التي لا يجب التلاعب فيها بحال من الأحوال. لا يا سيدي حتى الجينات نحاول أحيانا التداخل لتغييرها في حالات الأمراض الوراثية، أما حسب مفهومكم فكل ذو دين يجب أن يحافظ على ديانته، وكل صاحب مذهب يجب أن لا يبدله، فهي أمور خُتم عليها بالشمع الأحمر الى يوم القيامة بغير رجعة، وممنوع التفكير فيها تحت طائلة الشنق وقطع الرقبة بجريمة الردة؟!
أليس في هذا مصادرة كاملة لكل الخيار الانساني وإنشاء مجتمع أحادي التفكير، ديكتاتوري الصبغة تحت العباءة الإسلامية، منافق الصفات، خائف على نفسه، منحبس التفكير من أي حركة عقلية خوف الانزلاق باتجاه (إنكار معلومٍ من الدين بالضرورة) لا ضمانة فيه لأي إنسان أن يغير رأيه، مع أن الانسان في حالة صيرورة لا تتوقف، فهي حركة تجمد وتوقف في الزمن. ثم إن حديث أهل عرينة الذي استندت إليه راجعناه، وعرفنا أن المسألة مختلفة كلية عن الطريقة التي عرض فيها الحديث، بصورة حملت الإسقاطات والاكراهات الفكرية التي تحملونها، فهؤلاء قُتِلوا لأنهم قَتَلوا وليس لأنهم غيروا رأيهم، يا قوم الا ترون أنكم تسيئون الى دينكم ونبيكم، الى درجة أنكم أصبحتم ليس نورا لنشر الفكر، بل فرامل لإعاقة الحركة العقلية. وأن دينكم خائف وجل من نفسه فيريد المحافظة على أتباعه بأي ثمن ولو تحت التهديد بالقتل، مثل جماعات المافيات؟!
إن أهل عرينة استاقوا الإبل وقتلوا الناس وهربوا، وبعد كل هذا كان إنكار الاسلام منهم تحصيل حاصل، فكان موقف الرسول ص منطقي في معاقبة مجموعات من القتلة الخطرين، في ظل مرحلة تاريخية، وهو الذي يفعله قانوننا أحياناً تجاه المجرمين، ولكن عرضكم شوه الصورة وقلب الموضوع؛ بحيث لم تعودوا تخدموا مبادئكم بشكل منطقي وعقلاني وإنساني متفتح، فأصبحتم أعداء مبادئكم من حيث لا تشعرون.
وأما حديث قتل (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهو واضح أنه انقلب على الجماعة وتآمر عليها وساعد أعداءها وهو ما فعله المرتدون أيضاً بإعلان العصيان المسلح، وهو يقودنا الى ظاهرة المرتدين ومعالجتها في صدر الاسلام، وهي مرة أخرى تشعرنا أنكم تقرأون تراثكم بعيون الموتى.
دعني يا سيدي أضرب لك مثلا معاصرا في هذا الموضوع؛ لأقرب لك حيثيات البحث: لنفترض أن الدولة طالبت أهل مدينة ما بدفع الضرائب فامتنع أهلها عن ذلك، بل قتلوا الشرطة التي جاءت لتحصيلها، وأعلنوا ثورةً مسلحة ضد الدولة، يعلنون فيها عدم استعدادهم لدفع الضرائب، ماذا تفعل الدولة في موقف كهذا حيالهم؟
تأمل تعليل أبي بكر الصديق (ر) لمقاتلة المرتدين، حينما أصر على (عقال بعير) أي تحصيل الضرائب منهم، فهو لم يقاتلهم بسبب تغيير آرائهم أو تركهم للإسلام، بل بسبب مهاجمة المدينة، وقطع الطريق، ونهب القوافل، واستباحة الحرمات، وقتل العباد، والإفساد في الأرض
اقرأ المزيد
الطريق باتجاه واحد فقط (الجزء الأول)
تم عقد مؤتمر مصيري في اليابان حول التعريف بالإسلام، حيث اجتمعت في صالة المؤتمرات الضخمة في طوكيو شخصيات يابانية علمية، وسياسية مرموقة، واجتماعية ذات مناصب، ورجال أعمال ورؤساء شركات عملاقة، وبعض الوزراء، ورجال الدين الشنتي والكونفوشيوسي. جلس الكل يستمعون بإنصات بالغ إلى المحاضرات التي يلقيها الوفد الإسلامي القادم من الشرق الأوسط للتعريف بدين الإسلام.
وخلال ثلاثة أيام متلاحقة من المحاضرات المكثفة المملوءة بالحيوية والحماس، تم استعراض عدالة الإسلام، ومكانة المرأة، وفكرة الحاكمية، ونظام الشورى، والتربية الروحية، والحرية الفكرية في الإسلام.
كان اليابانيون يهزون رؤوسهم في كل مرة بالاستحسان والإعجاب، وفي نهاية المؤتمر تم توزيع كتيبات صغيرة بالتعريف بالإسلام، وشروط دخوله، وكيفية النطق بالشهادتين، وأركان الإسلام الخمسة.
كان كل شيء يمشي بهدوء لولا أن قطع جو الاستحسان سؤال تقدم به أحد المفكرين اليابانيين فقال: قرأت في نهاية الكتيب حكماً لم أفهمه على وجه الدقة، وبدا لي فيه شيء من الغرابة واللاعقلانية؟!
أجاب رئيس الوفد الإسلامي:
تفضل بسؤالك يا أخ (سوموتاـ كيم سونج) فالإسلام مبني على العقلانية وحرية الفكر؛ والتفكير فريضة إسلامية، فلا نرضى من أحدٍ من الأخوة اليابانيين الراغبين في الدخول في الإسلام بأقل من القناعة الكاملة.
الياباني (مستفسرا وعلى وجهه علامات التعجب):
تشترطون للدخول في الاسلام أن الذي يدخله يلتصق به إلى الأبد فلا خروج منه ولا فكاك ولا طلاق، وكأنه طريق باتجاه واحد إلى الأبدية لا عودة منها، ثم هب أنني أردت أن أغير رأيي لسبب أو آخر، فالطريق عندكم باتجاه واحد كما يبدو لي.
هل فهمت هذا الشرط بشكل صحيح؟
رئيس الوفد الإسلامي (بشيء من حس الدفاع):
نعم أيها الأخ الشيء الذي فهمته صحيح لسبب بسيط، فالذي يدخل الاسلام ويعتنق هذا المبدأ العظيم، لا يمكن له أن يجد أفضل منه بحال من الأحوال، فنحن قمنا له بعملية اقتصادية موفرة للجهد إلى أبعد الحدود. لذا لا يقبل الاسلام بالردة: أي الخروج منه وجاءت في هذا النصوص صريحة، فهذا كما ترى ليس رأيي أنا بالذات، بل هو حكم الله المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
الياباني (محتداً):
ولكن هذا الشرط يقوم عليه حكم غاية في الصرامة، فالذي يحاول الخروج منه لسبب أو آخر مهدد بالقتل؟! هل فهمت هذا الأمر بشكل صحيح؟
رئيس الوفد الاسلامي (وبشيء لا يخلو من الارتباك):
اسمح لي يا أخ سوموتا أن أشرح لك الموضوع حتى لا تقع في الحرج والخوف. نعم يقتل المرتد الذي يخرج من الاسلام بعد اعتناقه، لأننا نعطيه كامل الفرصة لدراسة الاسلام من كل الوجوه، فيجب أن يتحراه تماماً قبل دخوله.
ألا تفعلون نفس الشيء في السوبر ماركت حينما يشتري الإنسان البضاعة فيكتب صاحب المحل: البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تبدل. فالإسلام هكذا صفقة تمت وانتهت بعد تحري كامل ووثيق لبضاعة الاسلام.
ياباني آخر يتساءل (ويلتفت لمن حوله):
ولكن هذه بضاعة وليست ديناً أعيش به ما حييت فبإمكاني أن أتلف هذه البضاعة، لا ستخدمها، أعطيها لآخر، أما هذا الدين فإنني أتلبس به فلا يمكن أن أعلن خروجي بحالٍ من الأحوال إلا بخروجي من الدنيا!!
رئيس الوفد (بشيء من التبرير):
أيها الأخ الفاضل نحن بهذا الإجراء نريد قطع الطريق أمام من يريد التلاعب بالدين، فهناك أناس يريدون أن يتظاهروا بالإسلام كما حصل في صدر الاسلام، حينما استخدم اليهود هذا التكتيك لصرف الناس عن الاسلام، وذكر القرآن ذلك (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) فعندما يُظهر رجل الحماس للإسلام ويعتنقه، وبعد فترة قصيرة يبدأ في ترويج الإشاعات: إنني بعدما دخلت في هذه الجماعة واعتنقت دينها تبين لي كذا وكذا من الأخطاء والقباحات، فإنه بترويج مثل هذه الاشاعات يقوم بعملٍ تخريبي مضاعف ضد الاسلام، فهو من جهة يصرف الآخرين عن الدخول في الاسلام فيجهض انتشاره، كما أنه ثانياً يزعزع الكثيرين ممن دخلوا في هذا الدين، فيبدأون في التفكير بالخروج منه وبسرعة، فقام الاسلام أمام مثل عمليات التخريب هذه ودفاعا عن ذاتيته بإجراء حاسم قاطع دفاعي لقطع الطريق على مثل هذه المحاولات، فالذي يريد أن يتلاعب فيدخل ويخرج منه متى ما يشاء كان عقابه الموت بقطع الرقبة، حتى لا يفكر أحد بالتلاعب بالدين بعد ذلك، فهذا الإجراء كان ليس ضد الفكر وحرية العقيدة بل ضد عمليات التلاعب بالدين كي يؤخذ الأمر مأخذ الجدية، وهذا الذي فعله الاسلام لاحقا حينما قتل أهل الردة وجماعة من عرينة.
ياباني ثالث (يهز رأسه نفياً وهو غير مقتنع بالإجابة):
ولكن تلك الظروف غير ظروف العالم اليوم، والمسلمون اليوم يعدون فوق المليار، ولا يمكن لمثل هذه الأساليب التأثير في عقول شعوب وأمم تشربت بالإسلام، كما أن هذا الإجراء على كافة الأحوال يهدد حرية الاعتقاد دخولا وخروجا، وأنا سمعت عن دينكم من بعض المفكرين غير المشهورين أنه لا يوجد إكراه في الدين في نص القرآن، فيحق للإنسان أن يؤمن متى ما يشاء ويكفر متى ما يشاء، فيحق له الدخول والخروج من أي دين في أي زمان أو مكان تحت أي ظرف فماذا تقول؟
رئيس الوفد (بصرامة):
النص صريح فلو أردت الخروج بعد الدخول قطعنا رقبتك. بالطبع نحن لسنا متعطشين للدماء بقدر إقامة شرع الله. فلا تُقتل فوراً بل هناك عملية استتابة، فإن تُبْتَ عن الكفر تركناك، فإن أبيت الا ترك الاسلام واعتناق الكفر تقربنا بدمك إلى الله.
ياباني من مؤخرة القاعة (بشيء من الاستغراب):
ولكن هب أنني تظاهرت بأنني لم أخرج من الاسلام أو تبت حسب مصطلحاتكم وأنا أبطن الكفر، فأنتم حولتموني بهذه الطريقة الى ما هو أقبح من الكفر وهو النفاق، فالمنافق هو كافر مكثف خبيث مختبيء تحت الأرض، ألم يكن أنفع لكم وأجدى أن أُظهر الكفر علناً، بدل أن أخفي النفاق مثل الجمر تحت الرماد، أو الأفعى المتظاهرة بالموت تحمل السم الناقع باللدغ المفاجيء، ونحن حسب التقنية الراقية الموجودة في مختبراتنا الطبية نخاف من الجراثيم المختبئة المعروفة باللاهوائية، والغانغرين فيها لعين للغاية، فهي أخطر بمالا يقارن من الباكتريا التي تعيش في الضوء والهواء وعلى السطح علناً فماذا تقول يا سيدي؟
رئيس الوفد الاسلامي (بإصرار وبشيء من رفع الصوت والحدة):
الرأي ليس رأيي كما قلت لك، بل هو رأي رب العالمين، فهذا ما قاله الحديث الصحيح، ثم لم أفهم سبب تركيزك المبالغ فيه على هذه النقطة بالذات، وبهذا القدر من الكثافة، وتغض النظر عن كل محاسن الاسلام التي شرحناها لكم.
ياباني آخر من مجلس الدايت (البرلمان الياباني) بقوة ووضوح:
السبب بسيط لأن هذه القضية مصيرية ومتعلقة بحرية اعتناق العقيدة التي سُفك لها من دماء البشر ما يعادل الاوقيانوس، حتى حققت البشرية هذا المكسب في حرية الرأي وحرية العقيدة اعتناقا وتركا، وبنينا مؤسساتنا الديموقراطية بأنهار من الدموع والعرق، فأنتم بهذا الاتجاه الفظيع قطعتم الطريق أمام حرية الضمير عند الانسان. ولكن مع هذا يبقى عندي تساؤل في نفس اتجاه النص الذي تتسلح به وتحتكر الحقيقة الايديولوجية لنفسك، فأنت تقول إن النص يقول هكذا، ولكن من خلال اطلاعي البسيط على القرآن رأيت أن دينكم واضح في هذه النقطة، فهو يعلن مبدأً عظيماً هو: (لا إكراه في الدين) فهو ينفي كل صور الإكراه والإلزام والضغط والفرض، في أي دين أو مبدأ أو مذهب خروجا ودخولا، لأن صور الإكراه متعددة فمنها ما هو الإكراه على اعتناق دين، ومنها الاكراه على عدم ترك أو الخروج من دين فهي صورة إكراه كما ترى.
رئيس الوفد (بشيء من التفاخر والاعتداد بالنفس):
نعم لا يوجد في ديننا أي إكراه، فنحن لانكره أحداً بالقوة أن يدخل في ديننا، ولكننا نغلق عليه الطريق إذا أراد الخروج.
اقرأ المزيد
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )
عندما خرج ( ابن بطوطة ) من طنجة في المغرب العربي في صيف عام 1325 ميلادي (1) بقصد الحج وعمره آنذاك اثنتان وعشرون سنة ( 22 ) لم يدر في خلده قط ؛ أنه سيغيب عن منزله ( 29 ) تسعاً وعشرين عاماً كاملة ، ليعود إلى وطنه مبيض الشعر قد نيف على الخمسين !! بعد أن ودَّع خلف ظهره رحلةً حافلةً بالمغامرات والأخطار والعجائب مما رأى ، يجوب الآفاق ويتعرض لهجمات قطاع الطرق والجوع والبرد والحمى الرهيبة بدون أي صاد حيوي أو خافض حرارة ، يقطع فيها مايزيد عن ( 120 ) مائة وعشرين ألف كيلومتر على ظهر الجمال والبغال وأحياناً الكلاب ، يرى فيها معظم المعمورة المعروفة آنذاك ، من محيط الاطلنطي وحافة الاندلس ، إلى الصين والمحيط الهادي وجزر المالديف ، بشغف لايعرف الكلل لاكتشاف المجهول ، وروح مغامرة بدون حدود لمعرفة الجديد كل يوم ، وعطش لايعرف الري للازدياد المعرفي ، والاحتكاك بثقافات متباينة ، ولغات عويصة ، وعادات مغايرة ، وتقاليد لم يعتدها ، كل هذا باعتباره تطبيقاً عملياً لآية السير في الأرض لمعرفة المزيد من آية الخلق (2) فعاصر بزوغ شمس الامبراطورية العثمانية وأفول نجم بيزنطة ، وانتشار الطاعون الذي قضى على ثلث سكان أوربا ، الذين كانوا يستحمون في الجهل ، ولايعرفون القواعد الصحية الأولية ويغلقون الحمامات (3) فلم يرى جدوى في زيارتها واعتبرها أرض ظلمة ، فلا شيء يستحق الرؤية هناك فسبحان مغير الأحوال ؟!!
السير على خطى ابن بطوطة :
كانت قصة ذهابي للاختصاص في العالم الغربي ( الذي يعلمنا قواعد الصحة هذه المرة طريفة نوعاً ما ، ففي أحد الأيام جاءني شابان ذكيان من زملاء كلية الطب ، وطلبا الانفراد بي لأمرٍ هام ، ثم أسرَّ إلي أحدهم وعيناه تشعان بالاخلاص والجدية ، في حين كان صاحبه يؤمِّن على كل كلمة يقولها : لقد سمعنا أنك تريد الذهاب للاختصاص الطبي وستعيش لفترة ليست بالقصيرة في بيئة مغايرة ؛ فنحن نخشى عليك وننصحك ؛ حرصاً عليك أن لاتضرب في الأرض وتحافظ على نفسك بيننا ؟!! وقبلها بفترة جاءني أخ بنفس المهمة ومن عجائب الصدف أنه ذكر لي أخاً له يختص في ألمانيا في طب الاسنان ، فطلبت منه العنوان فكان السبب في خروجي في حين جاء ليشجعني على عدم السير في الأرض ، وهكذا تتبعت خطى ابن بطوطة لاكتشاف العالم الجديد والتزود من العلم الذي نمنا عنه فترة طويلة من الزمن ، ولتطبيق الآية القرآنية قل سيروا في الأرض فانظروا .
اقرأ المزيد
رحلة السلاح الذري لم تبدأ في لوس ألاموس بل في مخطوطات ديموقريطس الذري. أضع بين يدي المجموعة رحلة الجزء الذي لايتجزأ: رحلة الجزء الذي لا يتجزأ.
كان الزوجان (ويسل مان) (Wieselman) قد قضيا عطلة نهاية الأسبوع في مدينة ستافورد الأمريكية في ولاية أريزونا وقبل شروق شمس يوم الاثنين الموافق السادس عشر من شهر تموز يوليو من عام 1945- قبل نصف قرن من الآن- توجها إلى ولاية نيو مكسيكو يقصدان مدينة (الباسو) في أقصى الجنوب على الحدود المكسيكية، كان الظلام مخيماً يلف الجبال المحيطة برداءه الأسود، وأنوار مصابيح السيارة تشق الطريق الاتحادي رقم سبعين، وفجأة أشارت السيدة ويسل مان إلى زوجها أن ينظر إلى رؤوس الجبال المحيطة بالطريق!! التفت السيد ويسل مان ليرى وهو لا يكاد يصدق عينيه أن لون الكون بدأ في التغير، وأنارت رؤوس الجبال باللون البرتقالي فأصبحت ذرى الجبال واضحة ثم اشتدت الإضاءة وخلال ثواني أنارت الدنيا وكأنها رابعة النهار، لم يعرف الزوجان المدهوشان تفسير هذه الظاهرة التي استغرقت فترة قصيرة ثم عاد الظلام كما كان، وعندما نظرا إلى الساعة كان الوقت يشير إلى الخامسة والنصف صباحاً. لاحظ هذه الظاهرة السماوية أناس من مناطق شتى قريبون من منطقة لوس آلاموس وكانت منطقة ملاحظة الزوجان ويسل مان تبعد عن مكان هذه الظاهرة العجيبة 250 كم مائتان وخمسون كيلو متر، واحتار الناس في تفسير هذه الظاهرة بين مذنب ضرب الكرة الأرضية إلى درجة اختلال النظام الكوني وبزوغ الشمس مضاعفة عند ذلك الصباح؛ فطبيعة الإنارة وقوتها كانت كونية رهيبة، ثم تفت إشاعات مفادها أن مستودعاً كبيراً للسلاح تفجر، وكانت البلاد في حالة حرب مع اليابان.
(اسطوانة الغاز) السحرية:
وفي نفس صباح يوم الاثنين ومع ضباب الفجر تحركت البارجة انديانابوليس من ميناء سان فرانسسكو في رحلة تبلغ 9000 تسعة آلاف كيلو متر باتجاه جزيرة مغمورة قريبة من الفيلبين هي جزيرة تينيان. كان على ظهر البارجة ما يشبه (اسطوانة الغاز) الكبيرة الحجم لا يزيد قطرها عن ستين سنتمتر وارتفاعها عن متر ونصف قيل لقبطان البارجة إنها سلاح لا يعوض ويجب أن تحرس هذه الاسطوانة السحرية على مدار الساعة وفي حال تعرضت البارجة للخطر يجب إنقاذ هذه الاسطوانة قبل أرواح البحارة، كل ما عرفه ربان الباخرة عن اسمها أنها تدعى (برونكس) ويجب إيصال هذه الأمانة الغالية إلأى جزيرة تينيان في المحيط الهادي حيث يربض أكبر مطارات العالم.
ومن المصادفات العجيبة أن قبطان البارجة تفادى ما أمكنه خطر الغواصات اليابانية وطوربيداتها المدمرة، ونجح في الوصول إلى الجزيرة وتسليم الأمانة وفي 26 تموز من عام 1945 وفي طريق العودة تعرضت البارجة لطوربيد قاتل، هوت على إثرها إلى قاع البحر في مدى 12 دقيقة فقط وعلى ظهرها 1196 بحاراً لم ينجو سوى 315 (13)رجلاً وأما البقية فكانوا وجبة شهية لسمك القرش!!
وفي نفس يوم كارثة البارجة انديانابوليس انطلقت طائرة نقل من نوع (C_54) تحلق أيضاً فوق أمواج المحيط الهادئ باتجاه جزيرة تينيان وعلى متنها العالم الذري ريمر شرايبر (Raemer Schreiber) وق وضع في حجره حملاً لا يتجاوز سبعة كيلو غرامات، يتلألأ كالذهب، كان شرايبر مكلفاً بنقل هذه القطعة الذهبية إلى قاعدة تينيان لمهمة أكبر، فبعد خمسة أيام من وصوله (8) نقلت الطائرات الحربية الأمريكية قطعاً لاحقة، وقام السيد شرابير بتركيب هذه القطع بكل حذر بعضها ببعض، وأما الرأس الذهبي الذي كان في حضنه في الطائرة فجلس في قلب هذه القطع وبعد الانتهاء خرج شكل يشبه البيضة الكبيرة في ارتفاع قامة رجل متوسط الطول.
القاذفة اينولا-جاي (Enola-Gay):
قضى طاقم الطائرة Enola Gay عطلة نهاية الأسبوع (8) بعد أن شحنوها بالقنابل كالعادة، ولكن الطائرة القاذفة من نوع 29-ب ادخل إليها هذه المرة نموذج قنبلة مختلف، ولم يتم اخبار الستيوارد (طاقم الطائرة) عن حقيقة القنبلة الجديدة، وإنما تم التنبيه المؤكد عليهم أن هذه القنبلة ليست ككل القنابل، فإذا رميت فوق المدينة عليهم أن ينطلقوا بعدها إلى كبد السماء ولا يلتفت منهم أحد خلفه(13)، كل ما عليهم بعدها أن يصوروا الانفجار.
هيروشيما و(النار ذات الوقود):
في الساعة الثامنة والربع من صباح يوم الاثنين الموافق 16- آب حلقت الطائرة (اينولا- جاي) فوق مدينة هيروشيما اليابانية وألقت بحمولتها ثم هربت إلى الأعالي وصورت باهتمام النار المشتعلة التي تأكل أجساد البشر في أسفل سافلين وتحصد أرواحهم ، وخلال ساعات صعق العالم للنبأ الجديد الذي دشنه العلماء وأشرف عليه العسكريون في مختبر (لوس آلاموس) في ولاية نيو مكسيكو بأمريكا، فالسلاح الذي استعمل هذه المرة لم يكن نارياً تفجيرياً، بل كان ذرياً انشطارياً، ومع انفجار القنبلة الذرية من نوع (الولد الصغير) فوق هيروشيما والتي كانت محشوة باليورانيوم المحض (235) مائتان وخمس وثلاثون، ثم نوع الرجل السمين (Fat Man) والتي كانت مزودة بالبلوتونيوم (239) والتي كانت من حصة مدينة ناغازاكي بعد ثلاثة أيام في 9 أغسطس-آب 1945 أدرك الجنس البشري أنه دخل حقبة جديدة، وتشكل انعطاف نوعي في امتلاك القوة، ذلك أن كلتا القنبلتين اللتين انفجرتا مسحت مدينة كاملة من خارطة الوجود وأرسلت إلى العالم الآخر أرواح عشرات الآلاف من الناس في عشرات الثواني، فالانشطار الذري هو مفصل تاريخي في تصعيد القوة في تاريخ الجنس البشري، والذي لم يره أو يعاصره سوى جيلنا الحالي فقط.
عندما سمع الزوجان (ويسل مان) نبأ انفجار القنبلة الذرية فوق هيروشيما أدركوا عندها تلك الظاهرة السماوية التي كانوا الشهود الأوائل فيها، كما أدركوا أنهم شهود عصر جديد في تاريخ امتلاك القوة.
النموذج الذري للكون:
كيف انشطرت ذرة اليورانيوم؟ ولماذا أحدثت كل هذا التدمير؟ بل لماذا تملك كل هذا الجبروت من القوة التي لا ترى؟! فالعالم نسي لمدة 2400 ألفي وأربعة مائة سنة النظرية الذرية بعد وفاة الفيلسوف اليوناني ديموقريطس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وانطلق بتصوراته عن هذا العالم أنه مكون من لبنات أساسية هي (الذرات الأولية) وأطلق عليها اسم (أتوم) a tom بمعنى أنها الجزء الذي لا يتجزأ، فالجو السائد في حينه أن مكونات الكون هي أربعة: الماء والتراب والنار والهواء، ولكن الفيلسوف ديموقريطس مضى أبعد من ذلك فقال أن نفس التراب أو الماء مكون بدوره من لبنات أصغر، كل ما في الأمر أننا لا نراها بأعيننا.
أقول: هذا الوصف للكون الذي تخيله ديموقريطس اختفى عن الفكر الإنساني وعاد للحياة مرتين (الأولى) على يد فلاسفة الإسلام من المعتزلة والاشاعرة وأهل الحديث على حد سواء، حيث مضى المعتزلة إلى فكرة (الجزء الذي لا يتجزأ) في حين اعتبر ابن حزم الأندلسي أن (الجزء يتجزأ) وابن حزم يمثل المدرسة الظاهرية في علم الحديث كما نعلم.
ويمكن أن نشير إلى العقل الجبار لإبراهيم بن سيار النظام الذي وضع قدميه على أول طريق (ميكانيكا الكم) عندما أشار إلى فكرة (الطفرة) أو (الوثوب) في مشكلة المكان- الزمان (5)، وكان الإحياء الثاني للنموذج الذري للوجود هو الفتح العلمي في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
فيلسوف الذرة:
الفيلسوف اليوناني ديموقريطس عندما تخيل الكون أنه مكون من لبنات أو وحدات أساسية هي الذرات اعتبرها غير قابلة لمزيد من التجزئة؛ فقبضة التراب التي نمسكها بيدنا، أو لقمة الخبز التي نلوكها، أو شربة الماء التي نرشفها بل حتى زفرة الهواء التي نقذفها مكونة من أعداد رهيبة من هذه الذرات، وهو سبق مدهش في التفكير الإنساني فالعلم الحديث يقدر أن الزفرة الواحدة من تنفسنا البالغ حوالي العشرين مرة في الدقيقة يحوي عشرة مرفوعة إلى القوة 24 من عدد الذرات أي يحمل الزفير الواحد مليون مليون مليون مليون ذرة وهذا يعني أن تنفس وزفرة ضفدع واحد مات قبل ملايين السنين يرجح أن ما دخل حلقه من بعض الذرات نتنفسها نحن اليوم بل وحتى زفير الديناصورات التي انقرضت قبل 65 خمس وستين مليون سنة (3).
ويبقى السؤال هو كيف وصل هذا الفيلسوف المشبع بالحكمة إلى هذا التصور وبالطريقة النظرية البحتة؟
العالم الأصغر:
كان أمام العالم رحلة تبلغ الألفي عام ويزيد قبل الدخول في العالم الأصغر ذلك أن حواسنا لا تتناسب مع عقلنا، فنحن نشتهي أن نرى أكثر فأكثر ولكن عيوننا لا ترى إلا شقاً بسيطاً من هذا الكون الفسيح.
نحن نظن أننا نرى الكثير، ولكننا ومن خلال النظام الموجي للمرئيات والذي ينقله شعاع الضوء نرى- ودماغنا الذي يرى ويفسر في الواقع- من خلال النبضات الالكترونية، عبر العصب البصري، الذي ينقل انطباع المرئيات على الشبكية في قاع العين، نرى الطيف اللوني فقط الذي يصبح لوناً أبيضاً بامتزاجه، وهو يتراوح بين موجات اللون الأحمر الطويلة والبنفسجي القصيرة، وكلها في مدى يتأرجح بين 390 و 760 ميلي مكرون، للموجة الضوئية (13)، هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن الميكرون هو واحد من المليون من الملمتر الذي يشكل بدوره جزء من الألف من المتر القياسي.
اقرأ المزيد
بعد اندلاع الثورة الفرنسية بعشر سنوات وقبل أن يغلق القرن الثامن عشر بعام واحد ، ضجت فرنسا والأوساط العلمية من حدث صدم له المجتمع الفرنسي وترك الناس حيارى في التفسير والتعليق وسببه العثور على انسان عاري من غابة ( أفيرون ) أشبه بالذئاب منه بالانسان ، ففي شتاء ذلك العام ( 1799م ) ظهر للناس طلباً للدفء والغذاء صدفة فأمسكوا به بعد عناء (1) كما هي في قصة ماوكلي الطفل الذئب الذي عرض في مسلسل للأطفال .
كان الطفل في حدود الثالثة عشر من العمر قذراً تفوح منه الروائح المقرفة ، عارياً تماماً من أي لباس ، لايعرف معنى العورة ، شرساً يعض ويخمش يد كل من يقترب منه ، لايمشي بشكل منتصب ، بل منحني وأقرب للحيوان ويهز جسمه طول الوقت ، يروح ويغدو وكأنه في قفص الحيوانات ، وبين الحين والآخر تعتري جسمه تقلصات مخيفة ، كما كانت تعبيرات وجهه تخلو من أي مشاعر رحمة أو تودد .
وقف الناس ينظرون إليه متأملين ، فهو يمثل من زاوية ( التكيف الممتاز ) مع الطبيعة ، أي يمثل الصنف المتوحش النبيل ، كما كان يدعو إليه المفكر الفرنسي ( جان جاك روسو ) بالعودة إلى الطبيعة لإن الحضارة هي المرض ؟! فالطفل كان ذو بنية مدهشة قوية ومقاومة للمرض فقد استطاع أن يقاوم الموت كل السنوات الطويلة وهو عاري ، ونحن نسقط للرشح أو التهاب الصدر مع لفحة هواء وبرد بسيط . ورأى فيه فريق آخر الهوة المرعبة التي يمكن أن يهوي إليها الانسان في عريه المطلق وقذارته البهيمية ؛ عندما يعيش لوحده محروماً من المجتمع ، في حين حمد الله الفريق الثالث على نعمة العيش في مجتمع انساني مظلل بالأمن والرفاهية .
الشيء المهم في هذه الحادثة انها كانت محرضاً للدكتور ( جين _ مارك _ إيتار ) في دراسة هذا المخلوق ، حيث اختلف فيه فريقان هل هو أبله رماه ذووه في الغابة ؟ أم هو انسان قد عاش في الغابة منذ أيامه الأولى ؟؟ وأصر الدكتور إيتار على أن هذا الكائن ليس بانسان ( أبله ) في حال من الأحوال ، فهو لايتصرف كانسان وأبله ، بل هو شيء مختلف تماماً ، إنه انسان لم يتصل ( بالمجتمع الانساني ) منذ أن بدات حياته على هذا الكوكب .
صمم الدكتور إيتار على تجربة مثيرة للغاية ، هي إعادة هذا المخلوق إلى حظيرة المجتمع ، وأعطاه اسم ( فيكتور ) ومرت التجربة لعدة سنوات .
حصيلة تجربة الدكتور إيتار مع فيكتور !!
لم تكن التجربة سهلة فهو لايعرف الانتصاب ولا لبس الثياب ، تناول الطعام أو قضاء الحاجة ، لا أصول التعامل أو آداب اللياقة الاجتماعية ، وقبل كل هذا لم يكن ينطق بكلمة فرنسية واحدة .
ومن خلال تربية طويلة ولعدة سنوات تقدم الصبي قليلاً فأصبح يعرف كيف يزرر ملابسه ، أو يتبول ، ينتصب نوعاً ما ، ويتصرف بشكل معقول ، ولكن الشيء الذي استعصى هو اختراق ( حاجز اللغة ) !! كانت اللغة هي العائق الرهيب الذي تحدى الدكتور ( إيتار ) على الرغم من كل المحاولات المضنية خلال عدة سنوات ؛ نعم استطاع الطفل أن يفهم بالسماع بعض الكلمات الفرنسية ولكن شفتاه انحبست عن نطق أي كلمة ، كما انعقل لسانه عن التعبير بأي جملة واضحة سليمة التعبير، وكانت النتيجة التي خرج بها الدكتور ايتار أن المصيبة التي حلت فوق رأس هذا الصبي ليست بلهاً أو قصوراً عقلياً ، بل العزلة الاجتماعية التي طوقت مصيره بظلمات غير قابلة للانفكاك !! فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذه الكرة الأرضية بدون قوة جسدية وبدون أفكار تولد معه وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة إلا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءاً ))(2) .
قصة الصبي المتوحش في فرنسا ليست الأولى في تأكيد الأثر الاجتماعي في ( تشكيل ) الانسان فهناك قصة مثيرة عن الملك ( فريدريك ) حاكم صقلية من القرن الثالث عشرللميلاد .
اقرأ المزيد