بمناسبة انعقاد مؤتمر العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) في مدينة سان دييغو (SAN DIEGO) في مقاطعة كاليفورنيا الأمريكية، في نوفمبر من العام 1995 م في ذكرى تأسيسها قبل ربع قرن من الزمان، احتشدت مظاهرة ضخمة من العلماء زاد عددها عن عشرين ألف عالم في شتى ميادين العلوم العصبية: من الذين يعملون في تشريح الدماغ (ANATOMY) وفسيولوجيا الاعصاب، وجراحة المخ، وأبحاث الخلايا العصبية، وعلماء النفس، والفلاسفة، وكيمياء الدماغ، والمخدرين، والمعنيين بالمخدرات والمدمنين وعالم الجريمة، وجماعات التنويم المغناطيسي، والمعتقدين بالباراسيكولوجيا، وأطباء النفس العصبي (PSYCHONEUROLOGY)، أطباء الصحة النفسية، وعلماء الكمبيوتر، والمعلوماتيين.
كانت عناوين الابحاث فقط (ABSTRACTS) تضم ثلاث مجلدات ضخمة. كان هدف الاجتماع هو محاولة حل المشكلة الفلسفية القديمة في اكتشاف الذات؟! من يكون أنا؟ ماهو الوعي واللاوعي؟ ماهو التفكير؟ وكان أطرف ماجاء في المؤتمر بعض الاختراقات المعرفية الجديدة التي قدمها بعض العلماء مثل (بنيامين ليبيت)(BENJAMIN LIBET) الذي يعمل في فسيولوجيا الاعصاب، من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، حول ظاهرة غياب الوعي عن الحاضر، فالوعي يتأخر دوماً عن اللحظة الراهنة بأجزاء من الثانية، فهو يلهث للحاق بنبض الزمن عبثاً، فنحن عملياً خارج الزمن الفعلي؟ ومنها التي قدمها الدكتور (انتونيو داماسيو)(ANTONIO DAMASIO) من جامعة (إيوا)(IOWA) حول فهم جديد لجدلية العواطف والعقل، في تقسيم مثير للعواطف الانسانية فيما يشبه طيف الضوء، فكما يتجمع طيف الضوء الأبيض من سبعة ألوان في حزمة واحدة، حولته الى اللون الأبيض الذي نشعر به، كذلك انبثقت تصرفات الانسان من حزمةٍ من خمسة عواطف هي : الحزن والسرور، الخوف والغضب، والاشمئزاز، ليصل في النهاية الى دراسة ميدانية مثيرة، في تطبيق مقياس خاص على قياس العواطف ونبض العقل ونظم الأفكار عن طريق فحص مادي لتعرق الجلد).
حادثة المريض ايليوت (EIIIOT):
كان الصداع الذي استولى على المريض مبرحاً، لايفارقه ليل نهار مما اضطره الى مراجعة طبيب الاعصاب الدكتور (انتونيو داماسيو) الذي اكتشف عنده ورم في المنطقة الجبهية من الدماغ.
كان المريض السيد (ايليوت) ذو وظيفة محترمة، في حياة زوجية مريحة، وفي علاقات ممتازة مع زملاءه وجيرانه، وباستشارة جراحي الأعصاب تم التداخل الجراحي لاستئصال ورم سليم في الفص الجبهي الدماغي. تمت العملية بسلام ورجع المريض الى بيته معافاً ... ولكن؟؟
تناقض الذكاء والتصرفات:
بعد العملية الجراحية بفترة قصيرة بدأت شخصية السيد ايليوت بالتغير تدريجياً، كما هي في حادثة عامل الطرق (فينياس جاج) الذي اخترق جمجمته قضيب الحديد (1) التي عرضنا قصته فيما سبق، مريضنا الجديد ولى ظهره لزملائه وعاف أقرباءه. خسر وظيفته. بدأ يدخل في مضاربات مالية خطيرة أودت به الى حافة الافلاس. انهدمت عائلته وفارقته زوجته. لم يعد يستيقظ مبكراً وتحول الى رجل بدون طموح. لم يعد يدقق في المواعيد والزمن وتحول الى كم فوضوي.
يقول الدكتور (داماسيو): الشيء الذي لفت نظري في هذا المريض والذي حرضني للبحث العلمي، هو أن ذكاءه لم يضطرب فبقيت المحاكمة العقلية صافية دقيقة، لم تخنه ذاكرته. كانت فحوصات الذكاء عنده (I Q) عادية، وتذكر الكلمات والأرقام على مايرام. قدرة المحاكمة كما هي. بل حتى منظره الأنيق وروحه الفكاهية لم يخسرها. مع كل هذا فإن المريض (ايليوت) أصبح عاجزاً في أن يترك لوحده ليحل مشاكله اليومية منفرداً. وكان السؤال ماالذي أوصل المريض الى حافة الانهيار هذه؟ وأي خلل ترتب بعد هذه العملية الجراحية التي لم تستخرج سوى ورماً حميداً تخلص منه المريض في الظاهر؟ ماهي نوعية الاتصالات العصبية التي تدمرت من جراح الاستئصال الجراحي؟
هذه الحادثة دفعت الدكتور (داماسيو) أن يكرس عشرين سنة من العمل الشاق في الأبحاث العصبية قبل أن يتقدم ببعض النتائج المتماسكة في مؤتمر جمعية العلوم العصبية في سان دييغو الذي أشرنا إليه. ولكن قبل عرض نتائج الدكتور داماسيو عندنا رحلة مثيرة في دراسة الوعي عند الانسان أماط العلم اللثام عن طرف منها.
عصر اكتشاف الذات:
اهتم الانسان بشغف في اكتشاف العالم الخارجي ونسي نفسه، ربما بسبب الصعوبة النوعية، أو ربما لشدة قربها من الذات، فكيف تريد الذات دراسة نفسها بدون إطلالة خارجية، ولكن وعي الذات في الحقيقة هو أرفع أنواع الوعي.
هذه الحقيقة انتبه لها العلماء مما جعل الرئيس الأمريكي السابق بوش يعلن عن افتتاح (عقد) اكتشاف الدماغ الانساني. واليوم لايسعى العلماء فقط لاكتشاف الكوارك في الذرة (2) ولاخفايا ميكانيكا الكم، أو ولادة النجوم في المجرات، بل يغطسون باتجاه العالم الداخلي، والنزول على سطح الكوكب الجديد: رأس الانسان.
الأبحاث العصبية اليوم هي من أكثر الأبحاث إثارةً وسريةً بأعتى من الأبحاث النووية، وارتياد الفضاء، وسبر المحيطات، وفلق البروتون.
مراجع وهوامش :
(1) تراجع مقالتي رقم 96 التي نشرت في جريدة الرياض السعودية ـ العدد 10251 تاريخ 18يوليو 1996 م الموافق 3 ربيع أول 1417 هـ (2) يعتبر الكوارك حتى الآن من أصغر الجزيئات دون الذرية فالذرة تتكون من نواة فيها بروتون ذو شحنة إيجابية والكترون سابح حوله بشحنة سلبية ، ونعرف اليوم أن نفس البروتون مكون من ثلاثة من الكوارك ولكن هل هذه نهاية الرحلة ؟ أم انها بدون نهاية باتجاه العالم الأصغر ، وهي كذلك بدون نهاية باتجاه العالم الأكبر عالم المجرات ، أي أننا مطوقين باللانهايتين من فوق ومن تحت ؟!
اقرأ المزيد
فكرة مفاتيح الدارات العصبية:
يبدو أن فهم الدماغ يمشي في اتجاهين الأول: هو المزيد من فك أسراره سواء المناطق التشريحية أو أثر الكيمياء في التصرفات أو مركز اللغة، والاتجاه الثاني هو استحالة الاحاطة بكامل الدارات العصبية الموجوة في دماغنا، فالخلايا العصبية التي تصل الى مائة مليار خلية تتضافر فيما بينها بشبكة مخيفة من الارتباطات، بحيث أنها تشكل دارات لايمكن الاحاطة بها، ولعل رقم (الجوجول)(GOGOL) الذي يتحدثون عنه والذي هو عشرة قوة مائة، هو رقم تقريبي لا أكثر للدارات العصبية الموجودة في دماغنا والتي تشكل تركيبنا.
مقارنة بين تركيب الكروموسوم والدارات العصبية في الدماغ:
لفهم التعقيد المخيف في دماغنا يستحسن نقل ذلك الى المقارنة مع أعقد التركيبات البيولوجية المسؤولة عن الوراثة في كياننا والتي تبلغ حوال ثلاثة مليارات حامض نووي (الحامض النووي).
إن تركيب الحامض النووي يبقى في غاية البساطة مع تركيب ضفيرة النورونات. فالحامض النووي يتشكل من تتابع لأحماض أمينية أربعة هي الادنين والسيتوزين والغوانين والثيمين، ويرمزلها بالحروف (ت ـ س ـ غ ـ أ A-C-T-G) وهذه الحروف الأربعة تشكل لغة الخلق البيولوجية، ويمكن لها أن تتالى على غير نظام مثل (AAA-T) أو (TCGA) وهكذا واجتماع عدد ينقص أو يزيد من هذا التتابع لهذه الحروف يسمى (جين)(GEN) وهو المسؤول عن بناء عضوي معين في البدن، مثل الانسولين الذي يحرق السكر أو هورمون الغدة الدرقية الذي يشعل الفعالية في البدن ولكن الدارات العصبية هي حروف مبعثرة تبني ارتباطات عشوائية لانهاية لها، وهي ليست عشوائية، بل كل دارة تولد معلومة أو لعلها تفرز عاطفة، أو تحث على شعور ما؟ ويكفي أن نعلم أن كل جزيئات الوجود لاتزيد عن عشرة قوة 88، وبذلك تكون الارتباطات في دماغنا أعقد وأعظم شيء في الوجود(8).
موضعة الوعي والمراكز العصبية:
هذا الفهم للدارات العصبية يفتح الباب على انقلاب نوعي في فهم أماكن الاصابات العصبية، فلايعني خراب مكان بعينه أنه هو المسؤول عن الوظيفة الضائعة، تماماً كما في توقف السيارة عن السير لنضوب البنزين فنظن أنها بسبب تعطل المحرك، وهي الابحاث التي تقدم بها النفساني البريطاني (ريتشارد جريجوري) في نظرية جديدة لمواضع الوظائف ومعنى الوعي عند الانسان.
وشرح ذلك في مقال مبني على الأصول ضد التموضع ويضرب لذلك مثلاً (إنه من المستحيل تقدير آثار إصابة نوعية دون معرفة كيفية تشغيل أجزاء الدماغ مجتمعة ولنأخذ مثلاً: حالة ماكينة مجهولة نحاول فهم طريقة تشغيلها وذلك بواسطة فك قطعها بشكل اصطفائي واحدة تلو الأخرى، فإذا نزعنا منها جزءً معينا مثلاً خزان الوقود فتوقفت الآلة، حينئذ يمكننا بشكل ساذج أن نستنتج، إذا لم نكن قد رأينا سيارة من قبل، بأن آلية الدفع في هذه الماكينة هي الخزان. ويبدي جريجوري الملاحظة القائلة بأن المشكلة لاتنطرح فيما لو كنا نعرف الآليات المعقدة للمحركات الانفجارية، ونحن في حالة الدماغ لسنا في هذا الموقف؛ إذ أننا لانملك نظرية وطيدة عن التشغيل الطبيعي للدماغ، ولذلك فإن تأويلات المعطيات المستمدة من الاصابات العصبية الدماغية يمسي عسيراً )(9)
الغابة الدماغية والتيه العلمي:
عجز المشرحون عن التحقق الفعلي من المراكز العصبية ومكان الوعي والارادة، واحتار علماء النفس في تفسير أحلام التحقق وظواهر الباراسيكولوجيا، ولم يفهم تماماً كيف تتحول موجات الكهرباء الى ألوان بعينها مترجمة في الدماغ.
لم يفهم تماماً آلية ترابط المشاعر مع الأفكار فيبدو أن هناك نوع من الترابط المحكم يضيع مع تدمير بعض الممرات العصبية. تخلخل البناء النظري الذي وضعه ديكارت سابقاً في ثنائية الروح والبدن، فهناك نوع من الضفيرة المحكمة بين النفس والجسد، فالروح تتنفس من خلال البدن والعكس صحيح. ولغز العقل والوعي مازال قائماً.
مراجع وهوامش :
(8) كتاب اللغة والفكر ـ تأليف تشارلز فورست ـ ترجمة محمود سيد رصاص ـ الفصل الأول ص 6 (9) نفس المصدر السابق ص 216 .
اقرأ المزيد
ديكارت والمقال على المنهج :
في الوقت الذي كان العالم الاسلامي يضع عقله على الرف، ويتوقف الزمن عنده على ضرب صنج الصوفية، ويشخر في أحلام وردية على قصص ألف ليلة وليلة، كانت بذور منهج الغزالي في التأسيس المعرفي من خلال مبدأ الشك يثمر ثمراته في جنوب ألمانيا بطريقة مختلفة. يقول ديكارت عن نفسه أن الثلج والبرد اضطره الى قضاء الشتاء في جنوب ألمانيا قريباً من مدينة أولم ( ULM ) . كان رينيه ديكارت من نبتات التنوير العقلي الجديد ، الذي امتد من شمال إيطاليا الى كل أوربا من الشعلة التي قدح زنادها لابن رشد.
يقول ديكارت أنه التجأ الى هذه المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى. كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هو إمكانية الوصول الى الوثاقة واليقين في العلوم، فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقته به فكتب:
(العقل هو أحسن الاشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لايسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه . ويشهد هذا بأن قوة الاصابة في الحكم التي تسمى العقل أو النطق تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لاتنشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، لأنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل)(6)
المنهج الديكارتي : أنا أفكر .. أنا موجود:
استولى الشك على كيان ديكارت كاملاً فبدأ يتنفس الشك ويعيش فيه، ويقول أن تلك الليلة شعر وكأن دماغه ـ من شدة التفكير ـ يوشك على الانفجار، ثم انقدح امامه فجأة المنهج الجديد، الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي، الذي لنا عودة تفصيلية اليه اثناء الغوص في بحر الفلسفة. قال ديكارت إنني عندما أشك أفكر؛ حتى لوشككت في كل شيء؛ بمافيه وجودي بالذات، حتى لو زالت الدنيا كلها، فإن شيئاً لايزول ولايتزحزح وهو انني أشك؛ أي إنني أفكر وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة أنني موجود على صورة من الصور ولكنني موجود؛ فهذه هي الحقيقة الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند اليها في كل عمليات التفكير.
هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصر التنوير في أوربا واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحد المفاصل الجوهرية التي قامت عليها الفلسفة الأوربية الحديثة، باعتبار أن ديكارت وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريون للعصر الحديث بكل انجازاته، لأنه مع حركة العقل تم تدشين حرية التفكير، ومع حرية التفكير انطلقت الابحاث العلمية بدون حدود، ومنها نبعت التكنولوجيا الحديثة والنظم السياسية أي الليبرالية الاقتصادية والديموقراطية السياسية، فهؤلاء المفكرون العظام هم الذين حلوا أعظم مشاكل الجنس البشري؛ في علاقة السلطة بالمواطن، ونقل السلطة السلمي، وبناء مناخ الحرية الفكرية الكامل بدون أي خوف أو تابو. ولكن مؤتمر جمعية العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) الذي ضم مايزيد عن عشرين ألف عالم، اجتمعوا في مدينة سانت دييغو في مقاطعة كاليفورنيا خرج ببعض النتائج التي بدأت تهز الأقدام تحت نظرية ديكارت.
مؤتمر (سان دييجو) يثير بحث المشكلة الفلسفية من جديد:
ومما أذكر من تسعينات القرن العشرين أنه اجتمع كمٌ ضخم من أطباء العصبية والمعلوماتيين (INFORMATIKER) وعلماء النفس والفلاسفة ومشرحو الدماغ وبيولوجيو الكيمياء العصبية في مؤتمر هام في سانت دييجو، يريدون حل المعضلة القديمة للفلسفة: ماهو الوعي الانساني؟ لقد حاولوا اقتحام الدماغ لفهم أسراره الدفينة. ولكن من أجل فهم ماذا يعني الكيان (أنا) كان عليهم تجاوز عقبة كؤود غير قابلة للاختراق على مايبدو حتى الان وهي: دور المشاعر والاحاسيس وعلاقتها بالعقل والفكر؟!
إن الثورة العقلية التي بدأها ديكارت مع عام 1644 م عندما أطلق مقولته الفلسفية الشهيرة (أنا أفكر أنا موجود)(COGITO, ERGO SUM) كان قد وضع أحد الأحجار الأساسية في الفلسفة الحديثة، فأما الروح والعقل والوعي فإنها تخص الكنيسة، وأما البدن فيمكن اقتحام التابو فيه وتعريضه للتشريح، وهكذا أوجد النظرية الثنائية في أن الانسان كيانان يسبحان جنبا الى جنب الروح والبدن في ثنائية متلازمة غير مفهومة. ولكن كما تفعل الثورة مع ابناءها فيبدو أن هذه الثورة العقلية تهدد بأكل ابناءها الذين دشنوها على حد تعبير مجلة الشبيجل الألمانية (7) فالاتجاه بدأ ينعكس الآن ليس البحث في البدن بل في الروح؛ فكيف نفهم الذات؟ كيف نعرف من نحن؟
كل السر على مايبدو يربض تحت عظم الجمجمة، في المادة المخية التي تضم مائة مليار خلية عصبية، في تعقيد لايقاربه شيء في الكون.
مراجع وهوامش :
(6) مقال على المنهج ـ رينيه ديكارت ـ ترجمة محمود الخضيري ـ الناشر دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ ص 110 (7) مجلة الشبيجل الألمانية العدد 16 1996 م ـ البحث عن الذات ص 190
اقرأ المزيد
مع نهاية القرن الخامس الهجري عانى العالم الاسلامي من إعصارين مدمرين، الأول كان في الانحطاط الأخلاقي والسياسي، كنتيجة محتومة للانقلاب الأموي القديم، والثاني من تطويقٍ محكم، بين مطرقة المغول وسنديان الصليبيين. بل أكثر من ذلك حسب المؤرخ (توينبي) بتعبيره الإجهاز على الفريسة الإسلامية بثلاث محاور برتغالي شرقي وإسباني غربي والقوزاق الروس باتجاه ممالك التتر في القرم. أما الإعصاران فكانت خلفيتهما ثقافية بالدرجة الأولى؛ فالجهاز المناعي الفكري وخطوط الدفاع العقلية كانت قد انهارت خطاً بعد خط وخندقاً خلف خندق. حتى اختتم القرن السابع ومعه انطفأت الروح الحضارية الاسلامية، الموافق لمنتصف القرن الثالث عشر للميلاد، عندما انهارا جناحا العالم الاسلامي في فترة عقدٍ من الزمن (1) وحصل الانقلاب الكوني وبدأت الحضارة تكتب من اليسار الى اليمين، واستخدم الحصان العربي لغزو ونهب العالم الجديد في الامريكيتين. وحُبس العالم العربي خلف مضيق بحر الظلمات في زنزانة البحر المتوسط.
أزمة العقل المسلم في القرن الخامس الهجري:
في هذه الظروف المكربة صدم العقل الاسلامي الى أعمق أعماقه في سؤال ملح: ماالذي قاد الى الكارثة؟ وقف الامام أبو حامد الغزالي ليقوم بأهم عملين عقليين ماسحين، فيما يشبه جهاز الرادار العقلي، في البحث بين الانقاض، كما يفعل الباحثون عن الصندوق الأسود عند تحطم الطائرات. في بحث الخلل الأخلاقي، وخلفية الاعصار العقلي، فاستنفر نفسه لدراسة أربعة تيارات فكرية عاصفة كانت تجتاح العالم الاسلامي وقتها: الفلسفة اليونانية وتيارات الباطنية وفرق المتكلمين والاتجاه الصوفي.
كان ضغط المصيبة ماحقاً ساحقاً، بحيث انضغط عقل الغزالي فانحدر الى الشك. والشك دائرة مروعة وكأنها الثقب الأسود الشفاط، وهذا الذي حصل مع الغزالي. ومع تراكم سحب (الشك) اسودت معالم الطرق العقلية، وتسرب الشك الى كل المنافذ، وفي النهاية استولى الشك بالكامل على عقل الغزالي وطوقه بإحكام، حتى وصل الى الشك بكل شيء حوله، وتسربت عفونة الشك الى المدارك العقلية الاساسية مثل البديهيات الاساسية.
تساءل الغزالي: إذا كان المنام كله ضرباً من الوهم؟ فلماذا لاتكون الحياة كلها ضرباً أكبر في الخيال السقيم؟ يقول الغزالي: (فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولاتشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ماتعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالاضافة الى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك، كنسبة يقظتك الى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالاضافة اليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ماتوهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها)(2)
محنة الغزالي الروحية:
وتطورت الصدمة العقلية الروحية عند الغزالي الى أن أدخلته المرض فارتمى في السرير وكاد أن يهلك، ويروي تجربته الروحية الفكرية بشكل مؤثر: (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين واربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار الى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن ادرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفة الي، فكان لاينطق لساني بكلمة واحدة ولا استطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولاتنهضم لي لقمة؛ وتعدى الى ضعف القوى، حتى قطع الاطباء طمعهم في العلاج وقالوا: (هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى الى المزاج، فلاسبيل اليه بالعلاج، الا بأن يتروح السر عن الهم الملم)(3)
الانهدام العقلي الكبير على يد الغزالي:
بقدر مابدأ الغزالي خطواته العقلية الأولى بجبروت في تأسيس المعرفة عندما أسس مبدأ اليقين في العلوم (4) بحيث لاتتزعزع المعرفة العقلية حتى لو برهن على عكسها بتحويل الحجر الى ذهب والعصي الى ثعابين، فالمعرفة العقلية هي أعمق وأبقى، والذي ترك كامل بصماته على العقل الأوربي؛ بقدر ماانتهى الغزالي نفسه؛ عندما سطر قلمه كتاب (تهافت الفلاسفة) في نهاية رحلته الى حالة فراغ كاملة بالانتحار الصوفي، مما اضطر ابن رشد لاحقاً؛ أن يتدخل بعملية فكرية جراحية اسعافية لعقل مسلم منتحر بنزف داخلي، قد انهار صاحبها بفعل النزف الفكري الى حالة الصدمة غير قابلة التراجع (IRREVERSIBLE SHOCK) فيكتب في الوقت الضائع للمباراة كتابه (تهافت التهافت)(5). لذا لم يستفد العالم الاسلامي من كتابات ابن رشد شيئاً، بل هي موضع شبهة وشك فهو من التراث المحترق.
مراجع وهوامش :
(1) من التصادف الغريب والمحزن لمصير العالم الاسلامي أن جناحيه قطعا في فترة عقد من السنين، فسقط كما يسقط الطير بلا جناحان. سقطت اشبيلية في الاندلس في عام 1248 م بيد الاسبان ودمرت بغداد بالمحراث المغولي الهابط من الشرق في عام 1256 م (2) كتاب (المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال) أبو حامد الغزالي ـ حققه جميل صليبا وكامل عياد ـ دار الاندلس ـ ص 85 (3) نفس المصدر السابق ص 136 (4) تأمل تعبيرات الغزالي المدهشة في التأسيس المعرفي (فلابد من طلب حقيقة العلم ماهي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لايبقى معه ريب ولايقارنه إمكان الوهم والغلط ، ولايتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنةً لو تحدي بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة؛ فلو قال لي قائل: لا .. بل الثلاثة أكبر من العشرة؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه! أما الشك فيما علمته فلا) نفس المصدر السابق ص 82 (5) يراجع في هذا كتاب (تكوين العقل العربي) للمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ مثلاً فصل العقل المستقيل في الثقافة العربية الاسلامية
اقرأ المزيد
وصلني بالانترنت صورا عن قوم (عاد وثمود) من جماجم وعمود فقري وهياكل بشرية. ليس هذا هو المهم بل حجم البشر الواقفين بجنبهم وكذلك آلات الحفر؟ فقد ظهر حجم الجمجمة أكبر من حجم الرجلين الواقفين حذاءها؟ كما ان آلة الجرف الضخمة ضاعت أمام حجم الهيكل؟ قالت لي زوجتي المغربية التي ذهلت من المنظر مارأيك؟ تابعت هل هي حقيقة أم فبركة؟ جوابي طبعا أنها من لعب الفوتو شوب.
وحاليا بلغت السينما درجة من التزويق واللعب بالمناظر، أن أظهرت انشقاق البحر وكأنه أمامنا، والديناصورات وهي تلتهم البشر، والبحر وهو يبتلع مدينة لوس أنجلس في كاليفورنيا.
هنا نحن أمام ظاهرة تحتاج إلى التحليل؟ فلماذا يحرص الناس على تعميم هذه الصور في النت؟
حاليا هناك طوفان من المعلومات والوعاظ الشعبيين والشكاكين وأصحاب الدكاكين السياسية. يكفي أن تفتح اليوتيوب لتغرق في محيط لانهاية لشواطئه؟ فوجب وضع الفلترة العقلية لما يرى الإنسان ويسمع؟
ليست فقط هذه الصور التي يمكن فضحها بسهولة، بل هناك تناقل معلومات مغلوطة أو مفبركة أو مضخمة أو محرفة، من كل فاكهة زوجان.
لماذا نشر هذه الصور الآن بالتحديد؟ قلت لزوجتي هذه ليست جديدة علي؛ فلقد شاهدتها منذ فترة، حتى جاءني من كشف طريقة التلاعب بالصورة، ولكن أصحاب (النصوص) يريدون نسبها إلى أحاديث يجب أن (تراجع) أن خلق آدم كان أطول من عمارة شاهقة؟.
ولكن المدهش هو بالأفلام التي تنتج من مكان لتروج في مكان؟ وهي في الصراع السياسي شيء مذهل؛ فالحرب السياسية أحيانا تدار بالفؤوس، ولكن في كثير من الأحيان باللعب بالرؤوس.
مامعنى أن البشر الأقدمين كانوا عمالقة؟ هكذا يروج البعض أن قوم عاد وثمود كانوا عمالقة؟ يتعرض ابن خلدون في مقدمته لمثل هذه الأفكار ويقول: إن الحنايا في بقايا قرطاج، وأهرامات مصر، دفعت البعض إلى الظن أن من أقامها هم قوم من العمالقة، ليصل إلى تقرير (قانون) هام في علم الاجتماع، ذو ست زوايا في اعتماد الإخبار ليس على النقل، بل النقد والتحري.
قال الرجل في مقدمته (اعلم أن الإخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والذاهب بالحاضر؛ فلا يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وهو ماوقع لكثير من أئمة النقل والتفسير).
ومنه نفهم البعد الاستراتيجي في الآية المفتاحية الموجودة في سورة العنكبوت، أن علينا ليس البحث في (الكتاب) بل السير في الأرض (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).
إذن هذه الصور من عمالقة عاد وثمود يجب أن لاينظر لها من خلال النصوص، بل من خلال البحث الانثروبولوجي (علم الإنسان) وتفقد طبقات الأرض. هل فعلا ثمة هياكل بقدر ناطحات سحاب أم هو (فرية) علمية تكاد السموات تنشق منها وتخر الجبال هدا؟
وبالمناسبة فإن غالبية من (ساروا في الأرض) كانوا من الغربيين، ولم يكونوا من العالم الإسلامي، وقديما كان العكس هو الصحيح، كما نعرف من (ابن بطوطة) في كتابه عجائب الأسفار أو (القلقشندي) ومن رسم خرائط العالم (الادريسي) وابن خلدون وعشرات من الباحثين، أما العالم الحالي فقد تم تشكيله بعد أن خرج العرب من لعبة التاريخ، وبذلك صنع العالم المعاصر الذي نعيش فيه من بناة لاعلاقة لهم بالعالم الإسلامي عموما.
(دارون) مثلا ركب سفينة البيجل لينتهي بفكرته عن الخلائق وكيف تمت. (هومبولدت) الألماني عس في غابات الأمازون ليكتشف الخلائق، و(ماركس) كشف قانون فائض القيمة في الاقتصاد، و(فرويد) عالم ماتحت الشعور، و(فون بابن) قانون ضغط البخار، و(طوريشيللي) الضغط الجوي، و(ماكس بلانك) ظاهرة إشعاع الجسم الأسود وانتهاء بقوانين ميكانيكا الكم، و(آينشتاين) النسبية الخاصة والعامة، و(دونالد جوهانسون) الانثروبولوجي هو من عس في حرارة الحبشة المخيفة، في مثلث عفار، ليهتدي إلى هيكل لوسي التي عاشت قبل 3,2 مليون سنة، ليس هذا فقط بل أين المختبر الذي يقول أن هذا العظم عمره ثلاثة ملايين من السنين أو ثلاث سنوات؟ هذه أيضا تقنيات طورها الغرب باجتهاد ومتابعة؛ بل حتى الصور التي تعمم هي من خلال النت، الذي هو مشروع أمريكي بامتياز، وكتبت مجلة در شبيجل الألمانية، عن جيل الشباب الجدد في (وادي السيليكون) قريبا من سان فرانسيسكو أنهم أباطرة الحكومة العالمية القادمة، بتطوير نظام المعرفة والاتصالات بحيث ينتهي احتكار الحكومات لصالح خبراء الديجتال.
هذه إذن هي طبيعة العصر الذي نعيش فيه. ومانعرف عن هياكل البشر حتى اليوم هو ماكشفه علماء الانثروبولوجيا (وهو أيضا علم حديث تطور من رحم علوم أخرى) أن الإنسان أصبح له على وجه الأرض بشكله المستقر حاليا، والذي ننتسب إليه، وسمي جدنا آدم تيمنا به (الإنسان العاقل العاقل) ربما مائتي الف سنة يزيد وينقص، ولكنه هو الشكل المودرن المتقدم وقبله مرت اشكال أخرى ولكنها اختفت جميعا.
ما أريد الوصول إليه أننا إذا أردنا الطيران إلى المستقبل؛ فيجب أن نركب جناحين من العلم والسلم. بكل أسف الوسط العام من الثقافة شاحب يعاني من فقر دم، ولايزيده الوعاظ الشعبيون إلا ضلالا. أملي كبير أن يعتنق مثل هذه القبسات شباب ينظرون إلى مستقبل أفضل بعقل تنويري مؤمن متسامح يبني قاعدته المعرفية طبقا عن طبق.
اقرأ المزيد
لم يكن هدفي قط حفظ كتاب الله، ولكنه تحقق على نحو غريب، أقصه للقاريء والمستفسر، فائدة للباحثين، وتذكرة للحافظين. أول سورة حفظتها كانت سورة (مريم)، أما سورة (المؤمنون) فكان حفظها في معتقل المخابرات العسكرية في القامشلي، قبل التقدم إلى امتحان البكالوريا بشهرين؛ فكاد الامتحان أن يضيع علي لولا لطف الله؛ فمكثنا في أقبيتهم أربع عشرة يوما عددا، فخرجت وأمامي 43 يوما للامتحان؛ فنجحت وكنت الأول في المحافظة (الحسكة). حفظت سورة المؤمنون برفقة الدكتور (عبد الجبار يوسفان)، الذي كان معنا معتقلا هو طبيب مميز في البلدة حتى اليوم. وما زلت أتذكر تخوفي يومها أن تضيع السنة لأنني كنت قد حضرتها على نحو مكثف، ولما انتهى الامتحان كنت من الجهد ماجعلني استلقي على ظهري شهرا كاملا.
وآخرها كانت سورة (يونس) على ظهر بناية (حسان جلمبو) (يسمونه في دمشق الملحق) الذي تخرج مهندسا لاحقا، وانتهت حياته في جحيم تدمر على مابلغني؟
والدتي (جاهدة شيخموس وصفي) رحمة الله عليها كانت معجبة جدا بسورة مريم. ربما لجرسها الموسيقي. كانت تشجعني فأرسلتني لأخذ مواعظ دينية عند سيدة اسمها (زكية) إذا لم تخني الذاكرة. كانت امرأة بسيطة تقية بدون علم. وهكذا حفظت أول سورة في حياتي ولحبي لها فقد سميت ابنتي الثانية بها فهي مريم الموجودة حاليا في نيويورك وهي تمارس السياسة وإعادة الاعتبار للمرأة في دنيا العرب.
كنت في المرحلة الإعدادية (الصف الثامن = مايعادل الثاني إعدادي). كانت البرية والخلاء أصدقائي المقربين (نسميه الجول بتعطيش الجيم بثلاث نقط). وهكذا كانت أول سورة دخلت مستودعات الذاكرة عندي هي (سورة مريم).
لم يكن يخطر في بالي ولا للحظة أن المشروع سوف ينتهي بحفظ كامل القرآن؛ لأكتشف في النهاية أن الحفظ هي المرحلة السهلة، ولكن (الحفاظ) على ماحفظ هي المرحلة الأصعب، فهناك الكثيرين ممن حفظوا فنسوا؛ أو اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. ثم تأتي المرحلة الأعظم مما مر وهي تدبر القرآن وفهم آياته وكلماته. بالمناسبة من أجل المحافظة على الحفظ يحتاج يوميا تكرار أربع ساعات؟
البارحة كنت استمع لعالم شيعي (القبانجي) يزعم التجديد الديني، وهو يتكلم عن القوس والقاب، وأن القاب هو زاوية أو نهاية القوس. كان كلامه في موضوع القرب والبعد. قلت هو ما أبحث عنه؛ لأن العديد من الكلمات في القرآن يجب الوقوف أمامها.
مثلا الطير الأبابيل مامعناها بالضبط؟ هل هي طيور من نوع خاص؟ أم كناية عن الكثرة؟ مثلا الكهف والرقيم؟ نعرف الكهف فماهو الرقيم؟ ثم لم نعرف شيئا عن مصير الكلب بعد أن رجع السبعة إلى الحياة؟ وفي هذا الاتجاه هناك مئات المواضع في القرآن، تحتاج أن يسلط عليها الضوء؟
بعد أن انتهيت من حفظ سورة مريم وفرحت والدتي بهذا الخبر، قلت لها إن حفظ (سورة البقرة) فيها حديث ينفع للوالدين، وهكذا توجهت لأعظم سورة، ولكن بعد المرور على سورة (فصلت). لم يكن حفظي بالترتيب أو من البداية للنهاية كما في معاهد تحفيظ القرآن؟
كانت سورة فصلت مقررة علينا في الصف التاسع (ثالث إعدادي). كان الجميل في السورة مقطع روعة عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا كيف تتزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأنهم أولياء الله.
هذه الصفحة من السورة أشجع فيها من يريد أن يزيد من حفظ القرآن، أن يركز على هذه الصفحة، وفيها دفع السيئة بالحسنة؟ ياحسرة على العباد. أحيانا أسمع تصرف الناس عكس الآية قلت إنه دفع الحسنة بالسيئة، على صورة مقلوبة لما جاء في القرآن.
بعد تجربتي مع حفظ القرآن رأيت أمكنة تصلح جدا للتلاوة وبشكل مكرر ومؤثر، أما آية التداين والربا والميراث وما شابه فهي أقرب للمتخصصين، كما ألفت النظر إلى أن (التورط) في حفظ القرآن بدون فهمه، ولو بشكل بسيط، لايعني أكثر من نسخة مكررة للمطبوعات، كما نقل يوما عن (محمد عبده) حين بلغه أن فلانا حفظ كتاب الله، فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة. أما الفهم والتفكيك والتحليل، بل واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة؛ فهو شيء مختلف، ويعطي المعنى لماذا نزل هذا الكتاب المبين هدى للناس.
حاليا طريقتي في التعامل مع القرآن أصبحت مختلفة، مثلا على مدى أيام وأنا أقرأ سورة الرعد واكتشف أسرارها، وليست هي السورة الوحيدة، ثم إنني اكتشف كل يوم العديد من يشكك في القرآن الكريم، أو أنه مفهوم على نحو مغلوط، ولعل أشهر من كتب على حد علمي من الوسط السني هو (الشحرور) ومن الوسط الشيعي (القبانجي) وقد كتبت حول (الأخير) بحثا مطولا نشرناه في جريدة الأخبار في المغرب.
كلا الرجلين أي (الشحرور والقبانجي) اجتهدا وهو أمر مزكى ومبارك، وإن كان أسلوب الثاني لايخلو من السخرية، التي لا أظن أنها ستخدمه في اتجاهه، أما الشحرور فكان ملتزما أكثر، وهو يقول كما قال أيضا المصري (جمال البنا) أنه ليس ثمة نسخ في القرآن، ولكنه اعتمد أداة اللغة لفك مغاليق القرآن، ولا أظنه وصل إلى أساسات تفيد الضمير المسلم الحالي، باستثناء دعوته للمراجعة، كما فعل البنا المصري والقبانجي.
اقرأ المزيد
القرآن منبع للطاقة، والتزود منه يحتاج إلى موصلات للطاقة مثل وصل الأسلاك إلى البطارية. وهذه الأسلاك يجب أن تعمل بكفاءة ومن نوعية جيدة ونظيفة من الصدأ. أذكر تماما حين بنيت بيتي في الجولان كيف شرح لي المهندس أبو طه أهمية أن تكون الأسلاك بغلظ 6 ملمتر. هنا في كندا التوصيلات الكهربية شبه أبدية. ليس فقط الأسلاك بل تقريبا كل أدوات البناء.
وفيما يتعلق بالنص القرآني فهو مكتوب بلغة عربية (بلسان عربي مبين) فهو حقيقة ضخمة، ولكنها حقيقة مضغوطة في قناة من لغة عربية، ولكن لا يمكن تمريرها بغير هذا الطريق. حقائق لانهائية من المطلق رب العزة والجلال يتحدث بها إلى العباد في لغة محدودة وكلمات محدودة فكيف يمكن ضغط اللامحدود في المحدود؟ هنا تتبدى المعجزة اللغوية والقوة اللفظية المتعالية والنور الهادي إلى صراط مستقيم. أنا شخصيا أحفظ القرآن ولكنني في كل قراءة أفهم الجديد من تضاعيف النص.
ومعنى هذا الكلام أن فهم هذه الظاهرة يتطلب قلبا مستعدا لتلقي الحقيقة. وأي حاجز بين القلب والظاهرة يمكن أن يعيق الاتصال. وأفضل اتصال لفهم ظاهرة كونية هي الاتصال المباشر بها، بدون حجب ووسائط رديئة التوصيل.وقديما أراد موسى رؤية الله كظاهرة مادية فخر موسى صعقا. فلما أغاق قال سبحانك تبت إليك. وما حصل مع موسى حصل مع قومه حين قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. وعلينا أن نتفهم هذه الطلبات فإبراهيم لم يطلب رؤية الله لا أعرف لماذا ولكنه كان يبحث عنه في تضاعيف الكون من الكوكب والقمر والشمس. ولكنه أراد أمرا مختلفا حين طلب كيف تدب الحياة في الموت الهامد؟ هنا لم يحصل له ماحصل في سورة البقرة من ضرب لحم البقرة الميتة الميت فينهض ويدل على القاتل. بل جاءت من شكل طيور مختلفة تقطع وتوزع وإذا بها تهرع إلى بعضها البعض فتطير. يسأل أحدنا ألم يكن إبراهيم موقنا بهذه الحقيقة والجواب نعم ولكن المشاهدة غير الفكرة المتخيلة. هنا تقول البرمجة اللغوية العصبية أن الحضور في الصورة والنطق تنقل لنا الفكرة بحوالي 60 بالمائة أما الكتابة فلا تنقل أكثر من 20 بالمائة. وهناك من يتقن الكتابة فله سحر ولكنه ليس كذلك في النطق وهذه تحتاج إلى مران. وأنا أعرف البعض ممن يبرعون في النطق ولكن إنتاجهم الكتابي لاشيء. وهنا علينا أن نتذكر أن مايبقى هو المخطوط وأنا شخصيا كتبت عشرات السنوات فأبدعت ولكن النطق استعين به فيما كتبت وأحاول نقل تراثي الورقي إلى الصوت والصورة فلا أدري كم سأنجح؟
وفي القرآن توجد إشارة إلى طائفة من الناس سماهم القرآن (الراسخون في العلم) والرسوخ في العلم رحلة لا نهاية لها.
واللغة لها ثلاث مشاكل جوهرية (عيوب) تحرم من الوصول إلى الحقيقة؛ هي التعميم والتشويه والحذف؛ فأما التعميم فمثل من يقول كل شيء غالٍ، والصحيح أن البعض غال والبعض رخيص وهناك مابينهما حركة في الرخص والغلا.
وأما التشويه فقول المرء مات المريض، فمن هو؟ وما اسمه؟ وكيف مات؟ وسبب الوفاة؟ فكلها نواقص فادحة تحتاج إلى الكثير من الترميم.
وأما الحذف فمثل القول كتاب رائع، فلماذا كان رائعا وما الذي جعله كذلك؟
ولكن بقدر عيوب اللغة بقدر استخدامها بين البشر كأداة تواصل، مثل ظاهرة الرعد والبرق؛ فهي تمر عبر سلك كهربي. وهكذا فأفضل طريقة للاتصال بالقرآن الاتصال المباشر به بدون حجب ووسائط، ولو كانت كتب تفسير! فهي ولدت في عصر مشبعة بروح العصر حتى الثمالة، مثل تفسير ابن كثير الذي انتهت صلاحيته مثل أي دواء، ولنتصور أننا نتناول الأدوية التي فسدت وانتهى وقتها (صلاحيتها) أو الدم الذي انتهت صلاحيته مع ك لحاجة المريض النازف له؟
ومنه سبب الشلل في العقل الإسلامي، ويجب المرور عبر العصور لاكتشاف الظاهرة القرآنية حسب تعبير مالك بن نبي الذي كتب فيها كتابا كاملاً. ونظرا لأن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة كونية مثل الشمس والقمر وفلق الصبح والغسق؛ فإن أي كلام عنها يأخذ طابع الذاتية أكثر من الموضوعية. وبقدر الخلفية الثقافية بقدر الاقتراب من الظاهرة. ولكن مهما فهم ووصف الإنسان هذه الظاهرة فهو يرى جزءًا منها مثل لو وقف مجموعة من الناس أمام صخرة ليصفوها؛ فهي مجموعة لا نهائية من الحقائق حتى وهي صخرة؛ فقد يحللها الكيماوي ويصف تاريخها الجيولوجي ونوعية الفلزات المعدنية التي تحتويها. كما قد يصفها الشاعر بعين حالمة. ويراها المؤرخ شاهدا على مرور حملة عسكرية بجانبها. ولكن الصخرة تبقى أكثر من ذلك؛ فقد تكون حجرا من المريخ كما قد تكون مكانا لنمو فطريات نادرة.
ويبقى السؤال كيف الدخول إلى هذه القناة المحدودة من اللغة لفهم ظاهرة كونية غير محدودة؟
هنا يتطلب الأمر البحث والاستعانة بأدوات معرفية وعلوم إنسانية مساعدة، تماما كما يفتح الجراح البطن، أو ينقب عالم الانثروبولوجيا في الأرض بحثا عن قطعة عظم وسن، أو يحدد عالم الاركيولوجيا عمر الأحافير، أو يستخدم صيادو الكنوز في الأعماق السونار.بكلمة أخرى مختصرة، إن الإنسان يخوض البحث كمن يدخل كهفا مليئا بالكنوز بإضاءة خاصة، وبقدر الإضاءة بقدر الاهتداء للكنوز، وهي هنا مثل خامات الأرض وعروق الذهب، تحتاج إلى عمليات إضافية كي يصل الإنسان إلى جوهرها النقي ومعدنها الخالص.
اقرأ المزيد
الناس متفقون على توصيف الجنون والمجنون ليس بجهد كبير بل باتفاق ضمني. عندنا في المدينة التي نشأت فيها ومقابل دارنا تماما كان ثمة رجل عصابي اتفق الناس على تسميته (حسن مصروع). هنا الصرع ليست الحالة المرضية من فقد الوعي والتبول اللإرادي والسقوط المفاجيء والزبد في الفم بل حالة هستيرية من رجل يتصرف على نحو غريب خلاف ما اتفق عليه الناس. وحين نقرأ في القرآن كيف وصف نبي الرحمة بأوصاف ستة من أنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون وكذاب وأنه يريد أن يغير مااعتاد عيه الناس واتفقوا منذ قديم الزمان. هنا نرى الشيء العجيب في ذكر هذا العجيب. هنا القرآن يذكر هذه الصفات لكي يزيل عنه هذه الصفات ولكنه يعترف بأن المجتمع كان يكرر هذه التهم. وحسب الوردي عالم الاجتماع العراقي فإن الجنون له صفتان الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك. مثل من يقول أنا تغديت البارحة في المريخ. ومن القصص العجيبة في التاريخ هو عكس ماذكرنا تماما أي دعم الإلحاد ببراهين من الإيمان ويحصل هذا في ظروف الاضطهاد الديني كما وقع في أوربا يوما؛ ففي مواجهة اضطهاد رهيب، قد يضطر الإنسان في النهاية، أن يعلن جنونه على الملأ؛ كي ينجو بجلده من المحرقة؟ وهو ما فعله الراهب الدومينيكاني (توماسو كامبانيلا) في مطلع القرن السابع عشر، بعد محرقة (جيوردانو برونو) الذي خضع أي برونو لتحقيق جهنمي لمدة ثماني سنوات، وافتتح القرن السابع عشر بحرقه حياً، مثل أي فروج مشوي. والكلمات التي تجرأ على نطقها (كامبانيلا) كانت أثرا من موجة الإصلاح الديني، التي اجتاحت الشمال الأوربي، بعد أن أطلق (مارتن لوثر) حركة المعارضة (البروتستانت) على صورة خمسة وتسعين سؤالاً، علقها على جدار كنيسة (فيتنبرج Wittenberg)، يسأل فيها كيف يمكن لمجرم ارتكب كل الذنوب، أن يدخل الجنة بتذاكر اشتراها من مال حرام، ونبت لحمه في الحرام؟إلا أن الخطيئة القاتلة التي وقع فيها (كامبانيلا) كانت حين لم يقدر العواقب جيدا، وهو يتعرض لديناصور لاحم اسمه الكنيسة، ومخالبه من محاكم التفتيش؟!
قال الرجل يعلق على معتقدات الكنيسة: ' إن الكنيسة روجت لمثل هذه الخرافات كي تتحكم بالناس وتجعلهم خائفين'؟؟
وبالطبع فإن جملة من هذا الحجم، في وجه خصم شرس مسلح حتى الأسنان، بكل الإمكانيات، بما فيها ادعاء أن الله يمر من خلاله، على لسان المعصوم (البابا)، وهي المسألة التي كلفت التيولوجي السويسري (هانس كينج) خسارة مقعده في التدريس، بعد مرور 400 سنة على واقعة كامبانيلا حينما طرح الأخير، مسألة عصمة البابا في الميزان، بعنوان صاخب من كلمة واحدة (العصمة؟؟ Unfehlbarkeit).
وينقل عن السير (والتر رالي) من القرن السادس عشر (1554 ـ 1618م) قوله: ' ينبغي على الرجال العقلاء أن يكونوا خزانة ذات قعرين، لا تسمح من النظرة الأولى سوى رؤية سطحها الفوقي'.
ألقي القبض على الراهب (كامبانيلا) بتهمة الهرطقة والإلحاد؛ فنزل في أقبية مخابرات الفاتيكان، حيث محاكم التفتيش الجهنمية، في عام 1593م، ثم أطلق سراحه بعد ست سنوات عام 1599م.
وكانت جنوب إيطاليا خاضعة للحكم الأسباني يومها، ومعها جبروت الكثلكة، فأوحى إليه عقله أن يقاوم الغزاة، وينشئ جمهورية مثالية، فأخطأ للمرة الثانية بأشد من الأولى، وهكذا فبعد أن كان يواجه غولا واحدا، أصبح في مواجهة غولين؟!
تم إلقاء القبض على كامبانيلا من جديد، وحكم بالسجن المؤبد، وأخضع للتعذيب هذه المرة بآلة جهنمية اسمها (لا فيجليا La Veglia)، كان المتهم كما هو مع كامبانيلا يخضع لتعليق ذراعيه، وهو في وضع القرفصاء، على بعد إنشات من كرسي، تبرز منه مسامير حادة، غليظة جاهزة لشق اللحم شقا، فليس أمام التعيس إلا أحد اثنين: أن ينغرز في خازوق الأنصال، أو تنخلع أكتافه من فوق؟..
وهنا أدرك (كامبانيلا) أن عليه إن أراد أن يبقى على قيد الحياة أن يمارس إستراتيجية جديدة، وهكذا فقد بدأ يتظاهر بالهلوسة والجنون، فأخضعته الكنيسة لمزيد من التعذيب؛ كي تتأكد أنه (مجنون حقاً) كذا؟؟ وبقي أربع سنوات مصلوبا واقفا إلى جدار، فصمد لجهنم تحقيق الكنيسة، حتى اعتقدت في النهاية بأنه فاقد العقل تماما. بعدها بفترة سنوات كتب كتابه الأول في مدح (الملكية الأسبانية)، وأن ما فعلته من ذبح الناس وحرقهم على نار هادئة، ونهب أمريكا، كان عين العقل، وقمة التقوى، فصدقت الكنيسة أنه فعلا ولد صالح للكثلكة؟!
ثم ضرب كامبانيلا ضربته الأخيرة؛ فأخرج كتابا مثيرا بعنوان (هزيمة الإلحاد) وعرضه على شكل سؤال وجواب، وكان يعرض حجج اللوثريين والمارقين بقوة ووضوح، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص، فاحتارت الكنيسة في أمره، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات، ثم اقتنعت أن الرجل كاثوليكي صالح، وأنه فعل جهده في اعتناق المذهب الصحيح والذود عنه، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل، وتلقف الناس كتاب الرجل فلم يكن هزيمة للإلحاد، بل كان نبعاً الإلحاد، وهكذا أصبح أنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة.
وهذا يجعلنا نفهم أن معركة الكنيسة مع العلماء فتحت الباب لكل ألوان الإلحاد، جملة وتفصيلا، وضد أي دين، وبذلك نشأت الحضارة الغربية الحالية، وهي ممزوجة بروح إلحادية صريحة؛ فأعلن (نيتشه) موت الرب، وأعلن (سبينوزا) أن الله والطبيعة واحد، وأن الإيمان بالمعجزات كفر، وأعلن (ماركس) أن الدين أفيون الشعوب، وختمها (ميشيل فوكو) بموت الإنسان؛ فلم يبق وينجو أحد، وكل ذلك من حماقة الكنيسة وتعصبها العقيم الذميم.
اقرأ المزيد
من جديد نلقي المزيد من الضوء على أخطر مشاكل المجتمعات حين تنحرف فتعبد الأصنام البشرية والحجرية فتقع في براثن الوثنية. ان اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نورا فما له من نور. الا انه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). أو كما يقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).
لا يمكن لأي سيارة ان تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل. ان وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية اذا سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التى جاء من اجلها الانبياء وعليه مات بعضهم او طورد الى حافة الصلب فرفعه الله اليه؟
يقول جودت سعيد (ان البشر حين يعظمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من امريكا الى اصغر ديكتاتور)... ولفهم الطاغوت قص الله علينا قصة اكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات اكبر الاثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفرا بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر.
وقصة فرعون مع موسى من اطول قصص القرآن واكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من امر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون اكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى اكثر من مائة مرة وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. انها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات. والمسلمون يلعنون فرعونا خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الاوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) و(كافور الاخشيدي) في شاهد عما تفعله الثقافة في تعطيل اقدس النصوص وان معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (امام عبد الفتاح امام) يسجل هذه الفقرات المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية): (عندما امعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم اشد سوءا وكلما اوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على ما يسوء حتى وصلت الى البدايات الاولى عند البابليين والفراعنة، دون ان اجد مرحلة استطاع فيها المواطن ان يقول بملء الفم هذه بلادي وانا انعم فيها بانسانيتي وكرامتي، واتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت).
وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى ان هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (واذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس افكارا بل ينصب اصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى ان الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة ان تواجهه بما ليس فيه. واذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد ان تكون حكومته استعمارية). ولذا فان ما حصل كان سقوطا: (في احضان الوثنية مرة اخرى.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد ان كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز اصبح يقتني الاصوات والمقاعد الانتخابية). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو ان هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن (عبيد الطاغوت) يقتربون في اشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً.
اذاعت جريدة (نجم المساء) البريطانية في 31 مارس (اذار) من عام 1846، انه سيكون في الاول من ابريل (نيسان) معرض هام وكبير لكل انواع الحمير في صالة عرض فخمة في غرفة الزراعة بـ(اسلنجتن)، وفعلا جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة، واخذوا في الانتظار فلما امتد الوقت لم يظهر احد ولم يكن هناك في القاعة الا من حضر عند ذلك ضحكوا على انفسهم الى درجة الاغماء، لأنهم عرفوا ان كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الاول من ابريل المترافق بكذبة نيسان. هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
اقرأ المزيد
علينا فتح النقاش فعلا حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجرا او بشرا او (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوما بانه متعال ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة.
لذا وصف الفيلسوف (محمد اقبال) ان الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الازمنة: (تبدل في كل حال مناة... شاب بنو الدهر وهي فتاة). قد يكون الصنم (تمثالا) لامعا يمنح البركات، يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون انه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشرا) متعاليا فوق الخطأ ودون النقد، كلماته حكم خالدة، وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع، وصوره مرفوعة بكل الالوان والاحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لا تقبل المراجعة فرضها (كهان) يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لا يفهمها المواطن اكثر من فهم زمع الكهان.
أبسط الاصنام ما نحت من الحجر، واعقدها (الايديولوجية) لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما انزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الاصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من عل بوجه مكفهر ويد ممدودة الى جماهير مطحونة تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى، واذا تنفست كان الجو عابقا بجزيئات (رجال الأمن).
عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب انهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة مطورة بدهاء عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وأشباهها في عالم العروبة وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن.
يخطئ من يظن ان (الصنم) مرتبط بتمثال من حجر. كما يخطئ من يعتقد ان المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور ان معركة الانبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن ان الفرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنما لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق: (ان البعرة لتدل على البعير وان الأثر ليدل على المسير. سماء ذات ابراج، وارض ذات فجاج، وبحار ذات امواج، ألا تدل على وجود اللطيف الخبير) واختصر القرآن ذلك فقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون).
كما ان معركة التوحيد التي خاضها الانبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الارض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم ادوات (علم الكلام) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هدد فيها الانبياء بالرجم والهجر والاخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمنا لذلك، وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع ان يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات ويتحول اهله شيعاً.
انه لا يهم ان يكون الصنم من حجر او تمر او شعار أو حزب أو عائلة او طائفة او طبقة بل نظرتنا اليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا (السدنة) الذين يقفون خلفه يوحون الى الجماهير زخرف القول غرورا انه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق. ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم اليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف للفتوحات.
انها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. ان هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). ان عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له صلى الله عليه وسلم: (انهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).
وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله الى الارض طالب بـ(كلمة السواء) ان لا يتخذ الناس بعضهم بعضا اربابا. وهي ما وصلت اليه الديموقراطية اليوم اي ان يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع افقي. ورأينا الرئيس الأمريكي (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب امام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. أو ترامب وهو يطرد من الكابيتول ومعه أربع جثث، انها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. انها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها. أين الأصنام اذاً هل هي حقا في افغانستان أم سوريا ولبنان ومصر وعبدان؟
اقرأ المزيد