الطبقات السبع لمرض الزهايمر
الكثير من الأمراض تتسلل خفية دون أن ينتبه لها صاحبها، مثل التوحد والسكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان والخرف وأخيرا الزهايمر (Altzheimer)؟  وأفظع مافي المرض أن صاحبها يخسر نفسه وهو على قيد الحياة، فيحال بينه وبين إرادته ووعيه. تأمل الآية وأن الله يحول بين المرء وقلبه؟   التوحد يعرف عند الأطفال إذا انتبه الوالدان مبكرا، والسكري يضرب من ملأ وعاء بطنه فانتفخ، ثم هزل مع كثرة الأكل؛ فالطبيعة تعمل وفق قانوها الخاص، وارتفاع الضغط يفجر شرايين الدماغ فيسقط صاحبها مشلولا أخرسا على حين غرة، وهو لايصدق هول ماحدث فهوى؟ والسرطان يتسلل خفية مثل الأنظمة الشمولية فيقتل صاحبها بدون ألم ومظاهر صاخبة؛ فإذا عثر عليه كانت المعالجة أقرب للاستحالة، كما في النظام البعثي الذي ضرب الشرق الأوسط، مثل مرض القراد في قفيز النحل فهلكت النحلات العاملات. وأما الخرف فقد جاءت الإحصائيات أنه لايقل عن 1,6 مليون من الشعب الألماني وقع في قبضته، ثلثاهم أسرى مرض الزهايمر. يعود تاريخ اكتشاف المرض إلى أكثر من قرن (1906) حيث كان الدكتور الويس الزهايمر الألماني أول من وصف المرض بأنه خطير، يأكل الدماغ ويورث العته وتدمير الشخصية بعد تدمير الذاكرة. وحين تتجلل أعراض المرض الشخصية يستوي في تشخيصها الجاهل مع العالم، كما في رؤية اليرقان في العين (أبو صفار)، ولكن الانتباه لمؤشراته الأولى هو الأمر الحاسم؛ لأن صاحبها في طريقه إلى أن لايعرف من هو؟ فلا تبقى ذاكرة ولا شخصية ولا إرادة، ومنه فقد بدأ وزير الصحة الألماني  هيرمان جروهيه   Hermann Groehe) في محاولة استصدار موافقة برلمانية على التصرف نيابة عن صاحبها لغياب الأرادة، فضلا عن تطوع الشخص في التبرع للتجارب عليه من دواء، أو أخذ دماغه للتشريح لمعرفة سر الإصابة بهذا المرض الخطير بتعبير مكتشفه الأول الدكتور الزهايمر. (لم يعرف السبب وليس ثمة من علاج)، وحاليا تقوم الدكتورة كاثرينا بورجر (Katharina Buerger) رئيسة جمعية الزهايمر في المركز الجامعي في ميونيخ في ألمانيا بوضع خطة تفصيلية لفهم المرض في سبع مراحل طبقا عن طبق فما هي مراحل الانهيار في الطبقات السبعة للمرض؟ المرحلة الأولى يشعر صاحبها أنه ليس على مايرام وليس هو هو ولكن ليس ثمة أعراض أو علامات باضطراب خطير، ولايمكن الحدس كم تستمر هذه الحالة؟ لينحدر صاحبها تدريجيا إلى المرحلة الثانية ويعبرون عنها باضطراب خفيف بثغرات في الذاكرة، مثل الكلمات التي يحفظها فتطير منه بسرعة، أو الحاجات اليومية التي يتعثر في فهمها، وهي حالة غمامية مثل الضباب تذهب وتجيء، فيظن صاحبها أنه في منام عابر، والأمر ليس كذلك بل هي زحلقة نحو القاع من الانهيار العقلي وضياع الشخصية. المرحلة الثالثة هي التأثر الطفيف حيث ينتبه المصاب إلى أن من يعرف من أصدقاء ومعارف ومن يعمل معه أن الأشياء التي يقرأها ويتعامل معها سرعان ماتتبخر منه مثل البخار في الساونا. المرحلة الرابعة هي التأثر المتوسط بالمرض وهنا قد ينفع التشريح في الكشف عن قشرة الدماغ وما ذا يتم فيه من علة ومرض، ولكن المشكلة أن تركيب الدماغ وتفاعله كهربي كيماوي حيث تتصل كل خلية مع عشرة آلاف خلية مجاورة (نورنات) حيث يحصل انفراغ كيماوي من لغة بأكثر من أربعين حرفا، كل حرف بوظيفة، وكل اختلال بعلة (مثلا يقولون أن الاكتئاب مرتبط بالسيروتونين؟). في هذه المرحلة يضطرب صاحبها في أداء مهمات متكاملة، بسبب تكسر ارتباطات الذاكرة، يضاف له ماهو ألعن من بداية فقدان الذاكرة الشخصية، وهي خلاف مايحصل لكل واحد منا مع تقدم السن، من توهج الذاكرة البعيدة. عند صاحبنا مريض الزهايمر تبدأ في التبخر. لاندري قد يكون من جهة جيدا لأن آلامنا تأتي من ذكرى حبيب ومنزل. المرحلة الخامسة تبدأ بفراغات مزعجة في الذاكرة من عدم تذكر أين يسكن؟ وماهو رقم تلفون بيته؟ أو أين هي مفاتيح سيارته؟ أو ماهي الشوارع الرئيسية في البلدة التي يعيش فيها؟ هنا يحصل انقضاض المرض ليدفع صاحبه إلى المرحلة السادسة من تبخر الذاكرة شبه الكامل، وبدء اضطراب شخصية صاحبها، بل وإرادته، ويبدأ صاحبها في العجز والاعتماد جزئيا على من حوله من أفراد عائلته المهتمين بأمره؟ أما المرحلة الأخيرة فليست ختامها مسك بل علقم؛ فلا يستطيع المريض أن يخبر من حوله بماذا يدور داخله؟ ويبدأ في فقدان السيطرة على جسمه، فتتيبس المفاصل وتتكلس العضلات، بعد أن خسر إرادته ووعيه فلم يعد إنسانا. الدكتور الزهايمر الذي وصف المرض لم يعش أكثر من 51 سنة بكسر في عنق الفخذ، ونيلز بور مكتشف البناء الذري خرّف فلم يبق بناء؛ أما صاحب (نقد العقل الخالص) الفيلسوف إيمانويل كانط؛ فقد ضربته لعنة الزهايمر؛ فلم يعد يعرف أقرب الناس إليه، وأما فيلسوف القوة (نيتشه) فكان يقول لأخته وهي تقرأ بعض إبداعاته لقد كنت أكتب مثل هذا؟ فماذا جرى لهذا الدماغ؟؟
اقرأ المزيد
الحزن والخوف
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد اختصرها في ست عناصر رئيسية توَّجَها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ماسماه: بالسلام العقلي (PEACE IN MIND) ويرى أن أهم مظاهره هي أن ينام الانسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو مايذكرنا بالقرآن الكريم الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و (الحزن): (ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في تكرار ملحِّ في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس الى هذه الحقيقة الملِّحة؟ وماهي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ ومامعنى تشديد القرآن على إيصال الروح الانسانية الى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي. لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الانسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الانسان للماضي وماطُوي في ملف الأحداث المنصرمة (لكيلا تأسوا على مافاتكم) وأما الخوف فهي السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الانسان؛ فتحرمه الهدوء النفسي والاتزان في التفكير. وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي ، فلايحزن الانسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه ، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف ، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها ، فيسقط ضحيةً لشعور القلق. أما الحزن فهو إفرازٌ تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداثٍ قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلاً هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود الى شعور تالي مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): إن كل شعور يقود الى شعور آخر (فالشعور بالخيبة مثلاً يولد العدوانية) وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة) وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عضٍ أو جُرحٍ أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة. إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور ( قلق الموت) من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع أو بعد الموت، من مصيرٍ مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والذهاب الى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآها الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) مرده الى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات. يقول الفيلسوف: (ليس الموت مفزعاً والا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت) فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عاني وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهاراً باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لاعودة منها على الاطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاماً ورفاتا؛ قد عاد الى دورة الطبيعة متحللاً الى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت الى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الانسان على الأرض؛ فكانت مصير ثمانين مليار من البشر حتى الآن. إذاً حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسياً، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني ، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس مايشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS). وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لاتتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورةٍ متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.
اقرأ المزيد
 الولادة ومعجزة الحمل 
ولنلقِ نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! إن وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!!.. بينما وزن المشيمة 500 غرام لأنها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟! ثم لننظر إلى هذه الأنشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية (طول الحبل السري 50 سم) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته، ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة، كما أن هذا الحبل يحوي مواسير (أنابيب) الدم التي تُنقل من المشيمة إلى الجنين، حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بإيصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم، كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين، وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين، فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (ولقد كرمنا بني آدم).. وطالما تحدثنا في هذه الضخامة التي وصل إليها الجنين وهي من ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الإنساني في تخليق المضغة وتكوينها، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والضخامة أم إنه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول: إن الرحم يبلغ من الحجم عند الفتاة العذراء حوالي 2-3سم3 (بقدر حبة الكستناء) بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً، كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين العرطل أو الحمل التوأم!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما أنها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمت إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد ذاته لولا أننا نراها كل يوم فتبلد حسناً اتجاهها، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من نواحي جسمها، أولاً على مستوى الحوض حيث إنها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً، وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل، ثم إن المبيض يكون قد لجم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الإنسان، وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بإمكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عالٍ وتكون النتيجة كالتالي: يقول الدم، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من إفراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الألدوسترون؛ فإذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطياً للطوارئ فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ إنه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين (الفيبرونوجين) ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما لو حصل نزف؟ خاصة وإن المشيمة سوف تقتلع وتتسلخ من قعر الرحم، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالما أظهرت إخلاصك للموضوع، ويكون جواب الدم إنني الخادم المخلص لهذا الإنسان العظيم الذي أساعد في إظهاره إلى صفحة الوجود، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك بتوليد المزيد من الحديد والخضاب، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم، وهناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من إنتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالإضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي أيضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن، كلها تستعد للمهمة الخطيرة: الأعصاب، الغدد، الأخلاط، العضلات، المفاصل، العظام.. ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور، وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبة التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون، إنها تعمل على أروع المستويات، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبت كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها، وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالإضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات (آ) و(ب) B +A بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة، وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة أن توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة، حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم. إنها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والأعضاء، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج، إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية، وإن المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه، وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد إدرار البول، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟ يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل، ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم، ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه، ويبدأ رأس الجنين بالتقدم فيحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها، ويكون هذا بإطباق ذقنه إلى صدره، والتقدم بمؤخرة رأسه، وهكذا يمر الولد إلى أسفل، بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب (المولود الجديد) وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل معجزة جديدة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين، وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم الذي كانت تغذي الجنين، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحله لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم، لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به، ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح في قساوة الحجر، بحيث أن الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم، ولذا سميت هذه العملية بعملية الإرقاء الحي وسمي الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً إنها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين. تغذية الطفل: أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه، ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً؟ إن الإرادة الحكيمة هيأت له الثدي كأحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين: خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً  للبن، ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالإفراز ويبدأ الإفراز، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل؟ حقاً إنه من الأسرار العجيبة المدهشة، فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الإفراز العائد للخلية، ومعنى هذا أن الخلية الغدية تمتلئء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور الغشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم، ثم تعود الخلية فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم، وإن تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل.. كما أن اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة التي تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف "يتفوق بشدة.. وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما..
اقرأ المزيد
السرطان والثورة البيولوجية الحديثة
السرطان حيوان قشري لا يثير منظره الرعب ولكن هذا الحيوان البريء اقرن بطائفة من الأمراض تعتبر الإصابة بها بمثابة الحكم بالإعدام على حاملها ولو بعد حين, فحين يطبق على الإنسان لا يتركه إلا وقد مات الاثنان السرطان وحامله, فهو يتصرف بحماقة القرد الذي نشر الغصن الذي يقعد عليه من شجرة الحياة, ولكن لماذا سمي هذا المرض المفزع بالسرطان؟ ولماذا يحمل انعدام الأمل؟ واقترن بالموت؟ وإذا كان له آلية عمل فهم هناك سرطانات اجتماعية؟ أو وضع سرطاني اجتماعي مثل سرطانات الأفراد البيولوجية؟ وإذا كانت الثورة البيولوجية الحديثة تجتاز فضاءات معرفية جيدة لفك لغز السرطان, والسيطرة على الأمراض الوراثية وجراحة الكروموسومات ومعالجة مرض الإيدز فأين العلوم الاجتماعية من هذا؟ تقدم لي الأستاذ الثانوي وهو يبتسم: جميل أني رأيتك في المخبر هنا وأود استشارتك في هذه الكتلة التي أحس بها في إبطي الأيسر, كنت في ذلك الوقت جديد التخرج من كلية الطب وليس عندي تصور لمثل هذا النوع من الأمراض الرهيبة تحسست منطقة الإبط التي أشار إليها فشعرت بكتلة صغيرة بقد البندقة أو الجوزة الصغيرة تتحرك تحت أناملي, قلت له من الأفضل أن تؤخذ للفحص النسيجي لمعرفة طبيعتها, إلا أن المعلومات التي تواردت بعد ذلك أعطت صورة مختلفة لطبيعة هذه العقد الليمفاوية المتضخمة, فالرجل كان قد شعر بأن شامة (خال) في ذراعه بدأت بالكبر فلم يعرها انتباهاً, إلا أنها مع الوقت بدأت تغير طبيعتها بكبر الحجم واسوداد اللون والتقرح وغياب الشعر منها والنزف, ثم بدأت العقد الليمفاوية الأبطية بالانتفاخ, وخلال الأشهر القليلة التالية لم ينفع أي علاج من جراحة وتفريغ الأبط من العقد الليمفاوية أو الأشعة الحارقة أو المعالجة الكيماوية من استخلاص الأستاذ الرفاعي –رحمه الله- من قبضة السرطان والموت فواراه التراب شاباً ذكياً نشيطاً ووقفت أردد مع الشاعر ألا رب وجه في التراب عتيق ويا رب حسن في التراب رقيق ويا رب رأي في التراب ونجدة ويا رب حزم في التراب وثيق فقل لقريب الدار أنك راحل إلى منزل ناء المحل سحيق وما الناس إلا هالك وأبن هالك وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق يبدو أن هنالك علاقة جدلية ما بين الأشياء فما هو شر لطرف قد يكون خيراً لطرف ثان وما يضحك البعض قد يبكي الآخرين وعندما يخسر طرف يربح الآخر وإذا طار المال من يد سقط في يد أخرى وفي اللحظة التي تتدفق فيها الحياة في مكان يستولي الموت في مكان ثان ومع كل شروق شمس تدفع الأرحام الأجنة إلى الحياة ومع كل غروب شمس تستقبل القبور طوابير الأموات!! وعندما بدأ مرض الإيدز في الانتشار عكف الأطباء على دراسة طبيعة هذا المرض الذي لم تحدد هويته تماماً حتى لحظة كتابة هذه الأسطر مع هذا لمع طيف من الأمل وقبس من الخير مع موجة المرض المعذرة هذه حيث عرف أن طبيعة المرض يمكن إرجاعها إلى فيروس ذي طبيعة قلوبة عكوسة فهو بدلاً من وظيفته في تلقي الأوامر من أعلى من مركز الخلية فإنه يمشي (عكس) التيار وضد طبيعة تركيب أمثاله فيتسلل للخلية ومكان المفاتيح الرئيسية بل وبقص في تركيب الحامض النووي الذي يعتبر الشيفرة السرية لبناء كل محتويات الجسم ويفسح لنفسه فليس أمام الخلية إلا إعادة طباعة هذا الغازي وتشكلي فوتوكوبي مكرر في نموذج هذا اللص؟! وهكذا تتبع الخلية مضاعفات ومشابهات هذا الفيروس أي تصبح نواة الخلية مركز إصدار أوامر لتوليد المزيد والمزيد من نسخ جديدة للفيروس المقتحم وبذا يتحول المقود قائداً والعبد سيداً؟! الفيروس القلوب هذا (الريتروفيروس) سوف يصبح مفتاحاً للدخول إلى الخريطة الوراثية عند الإنسان فكما استخرج البنسلين من العفن (عفن المقابر قيل؟) وكما استخرج الأنسولين من جراثيم الغائط سيكون هذا الفيروس المجرم بعد ترويضه حلقة الوصول إلى مفتاح الخريطة الرئيسية ومكان إصدار الأوامر لتشكيل قطعات الجسم وتشكيلاته الأساسية من أجل إدخال التعديل المطلوب, ولكن كيف يدخل؟ ما هي مكوناته ؟ ما هي هذه الخريطة الوراثية والشيفرة السرية؟ وأين تقعد؟ مع إنجازات الطب الحديثة وكشوفات المجهر الإلكتروني المكبرة عشرات الآلاف من المرات أمكن معرفة أن كل ما تقع عليه عيننا ليس أبسط الأشياء ولا أصغر الموجودات, فالشعرة التي تسقط من رأسنا والعشبة التي نطأها بأقدامنا وقطعة الخبز التي نلوكها بأفواهنا, مكونة من وحدات أصغر وأصغر مثل قصة الصندوق داخل الصندوق إلى ما لا نهاية!... وهكذا فالشعرة الواحدة وقلامة الظفر التافهة وقشرة البصل التي لا نأبها لها مكونة من ملايين ملايين الوحدات التي تشكل كل وحدة فيها كياناً قائماً في ذاته مستقل عاملاً بمفرده وبالانسجام مع نظيراته وأشباهه من الخلايا أو المختلفة في الاختصاص أخذ وعطاء. هذه الوحدة التي تعمل كمصنع فيه الإنتاج والاختصاص والصيانة بنفس الوقت, له دماغ مركزي ووحدة تحكم أولية وكمبيوتر أساسي تعمل في أحدث الأجهزة بل تتضائل أمامه أعقد كمبيوترات العصر, وفي داخل الدماغ المركزي تم العثور على قطع غريبة في شكلها عظيمة في أثرها وفعلها ونظراً لولعها الشديد بالألوان تتشربها الفائق للأصباغ سميت بالصبغيات (الكرموسومات) متباينة الأحجام هي ألياف رفيعة للغاية وخيوط متناهية في النحافة قد ضمت بإتقان لا حد له وضغطت بشكل كبب بحيث أنها إذا فردت وفككت تحولت إلى خيوط بالغة الرفع لا ترى إلا بالمجهر الكبر آلاف المرات فإذا مدت كحبل متصل وصلت إلى ثلاثة أمتار ويبقى المرء متعجباً عن هذه اليد الخفية التي لففت وجمعت وحفظت ثلاثة أمتار من خيط رفيع في كبة لا ترى إلا مكبرة عشرة آلاف مرة؟! أكثر من ذلك إذا اقتربنا إلى هذا الخيط الذي يهتز أمام أبصارنا تبين لنا أنه ليس خيطاً واحداً بل هو في الواقع خيطان مثل حافتي الجسر أو عمودا السلم الذي تربط بين حافتيه أو جانبيه درجات وهو قد وضع بشكل السلم الأنيق الذي يشبه سلماً أو درجات الصعود داخل المنارة أو البرج تماما كما ه يفي الساعة الخضراء المنصوبة في مدينة عنيزة والتي أقامتها بلدية القصيم برشاقة وبدقة هندسية جميلة أكثر من ذلك حافتا الدرج أو عمودا السلم إذا اقتربنا لنراها أكبر فأكبر لنرى مما تتكون وحداتها الأولى ولبناتها الأصلية لعرفنا شيئاً هو لغز الوجود وسر الكون الذي يقوم على البساطة فكل هذا التعقيد يقوم على البساطة فكما نكتب القصائد الرائعة والأفكار الضخمة والمجلدات التي لا تنتهي من عشرين حرفاً فقط فإن اللغة البيولوجية الأساسية لسر الخلق هنا هو أربعة حروف لا تزيد وليس 28 حرفا كما في اللغة هذه اللبنات الأساسية الأربعة هي أربعة حروف تماماً كما في ا.ب.س.ج وهذه الحروف تصطف وتلتحم وترتبط بعضها ببعض لتشكل في النهاية خيطاً طويلاً يصل إلى حوالي الأمتار الثلاثة. وهذان الخيطان المترابطان متشابهان تماماً من ناحية التركيب والكمية ويلتقيان كما يلتقي (السحاب) الذي نستعمله في ملابسنا لإغلاق الفتحات كما في (البنطلون) أو (الفستان) وأكثر من ذلك فإن هذه الحروف الأربعة تصل ببعضها بشكل مختلف . ولا غرابة لأن الكمبيوتر يقوم على قاعدة (الشخطة والنقطة _ .) وحتى نفهم الموضوع أكثر نقول أن تسلسل هذه الحروف هو الذي يشكل لغة الخلق السرية؟! هذه اللغة العظيمة والخفية التي تنساب لك رشاقة حتى بدون نقط وفواصل وإشارات تعجب بقي أن نعرف أن تسلسل هذه الحروف يكون مجلداً ب 500 صفحة هو كتاب (كتاب خلق الإنسان) فإذا نظرت إليه راعك المنظر من تتابع غامض سحري كأنك دخلت الهرم لتقرأ اللغة الهيروغليفية لأول مرة وأكثر من هذا فكل تسلسل من هذه الحروف صغر أم كبر هو مكان ومركز صناعة شيء وصلة في كريه حمراء اتصال في نسيج عظمي, خميرة مهمة, أنسولين لحرق السكر, هورمون لحبس الماء والملح الخ هذه القطعة سميت بالجبن (GEN) وكأنها جن نبي سليمان التي كانت (تغوص وتعمل عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين) هذه الجينات تبلغ حوالي ثلاثة مليارات قطعة وهناك مشروع الآن هو اعظم من مشروع ناسا (NASA) لارتياد الفضاء في فك الشيفرة (الجينية) عند الإنسان على وجه الدقة بحيث يصبح (كتاب السر الأكبر واللوح المحفوظ) معروفاً مكشوفاً لنا ويتوقع العلماء أن كشف اللثام عن مجموع الجينات الكامل يحتاج إلى 10-15 عاماً وهناك إثارة ملفتة للنظر في الحث حيث يتوقعون أن ما يعمل لإنتاج كل تركيب الجسم لا يزيد على 100-150 ألف جين فقط ويبقى السؤال والمليارات البقية هل هي (سلطة) لا معنى لها؟ أم أنها مخصصة ومعدة لأهداف مستقبلية؟ أم هي مسؤولة عن التركيب النفسي مثلاً؟ أم أن هذه الجينات بالفعل هي مخصصة لوظائف وأشياء في عمق أعماقنا ولا نعرفها لأننا لا نعرف أنفسنا فعلاً ؟؟ وكما يتكون القماش الذي تخاط منه ثيابنا التي نلبسها, وكما أن قطعة القماش مكونة من خيوط أولية بألوان مختلفة صنع على نفس الطريقة وبني على هذه الشاكلة, وبألوان شتى بن عظم أبض ودم أحمر وسائل مراري بلون الذهب وحليب أبيض بل وغائط بني, فهي كلها مكونة من خيوط أولية معروفة بالأحماض الأمينية, فهي اللغة التي يتشكل منها هذا البناء (اللغوي البيولوجي) وعرف أن هذه اللغة التي يبنى منها (قميص الجسد) مكون من عشرين خيطاً أو أن هذه (اللغة البيولوجية) مكونة من عشرين حرفاً, وهناك حلقة تفاهم ما بين لغة الكروموسومات المكونة من أربعة حروف أو أربعة خيوط بألوان مختلفة, حلقة التفاهم تمشي باتجاه واحد من الكروموسومات إلى الجسد فكل ثلاثة خيوط (تنجدل) أو (تشكل ضفيرة) من حروف الكروموسومات الأربعة فتوعز بشكل حرف واحد من حروف الجسم العشرين, وقد يتعجب الإنسان من كمية الاحتمالات, وهل يمكن لأربعة حروف أن تنتج من احتمالاتها عشرين احتمالا. أي عشرين حرفاًَ, والواقع نعم إن الطبيعة والخلق الإلهي المدهش أودع إمكانية ليست الضعف بل ثلاثة أضعافها وحاول أن تقوم أيها القارئ ولو أنني أتعبت دماغك قليلاً بحساب هذا فسوف تصل إلى أربعة وستين احتمالا. وعرف أكثر عن هذا الجسد العجيب فهناك تنسيق وتفاهم مدهشين بين اللغتين اللتين ذكرنا, بحيث أن كل إشارة تفسر على ما يرام, وكل حركة تأخذ مكانها للإنتاج بما يليق فلا خلل ولا شطط ولا نقص ولا زيادة, وعلى هذا الميزان يقوم بدننا فتنهدم في اللحظة الواحدة ملايين الخلايا, في اللحظة التي تتكاثر فيها ملايين جديدة, وأي خلل ولو في خلية واحدة يعتبر خروجاً على القانون وتمرداً على النظام وإعلان (ثورة) داخل البدن, وقيادة لعصيان مسلح وهذا هو (السرطان=CANCER) والسرطان ذلك الحيوان القشري البريء تمتد منه أذرع كثيرة, كذلك هذه العصابة المدمرة, فالخلايا السرطانية تمد أذرعها إلى كل مكان ومن هنا سمي مرض السرطان بـ (السرطان) لأنه خبيث أكال ممتد شرس يحفر وجوده في كل مكان ويمتد إلى كل نسيج وبذا تسبح خلاياه مثلاً من أنسجة الكولون حيث الغائط والقذر فتترك مكانها إلى الصدر النظيف والكبد النشيط والدماغ المتألق فيضيق الصدر وتحشرج الروح ويتفتت الكبد ويدمر الدماغ؟!! فالسرطان في الواقع إعلان عن الاختلال الخلوي الزماني المكاني الوظيفي وثورة عشوائية مدمرة فلا تبقى الخلية مكانها ولا تؤدي وظيفتها وتتكاثر زعماً منها أنها تخدم البدن وهي في هذا قد ارتكبت حماقة ستقودها إلى الموت مع الجسد الذي تدمره وهنا معنى اجتماعي كبير في السرطان الاجتماعي أيضاً حيث نبصر الأفراد يفعلون قريباً من هذا عندما تتغير طبيعة الوظائف فيتحول الحارث إلى لص والحامي إلى مدمر وأهل الفكر إلى فقراء والانتهازيون إلى (أصحاب ملايين) في الواقع يصبح المجتمع في حالة (سرطانية) وهؤلاء سمك القرش الجدد يظنون أنهم عندما يسيئون إلى المجتمع الذي يهبهم دم الحياة، والسفينة التي عليها يعومون، إنهم يحسنون صنعاً( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) بكل أسف لا يدرك الكل، كما لا يشعر حامل السرطان أنه يحمل السرطان حتى ينفجر عليه في صورة انثقاب معدة مثلاً والسرطان بإساءته إلى الجسد الذي غذاه سوف يقضي على نفسه في النهاية فالجسد الذي سيعود إلى التراب سيحمل معه نفس الخلايا السرطانية الإجرامية، والمجتمع الذي ينهار سوف يضم في حفرة القبر معه أيضاً الانتهازيين واللصوص وسمك القرش الاجتماعي. وهذا مغذى عظيم اجتماعي من مرض السرطان. ما الذي يحدث حتى تتحول الخلية من خلية مسالمة لها مكانها المعروف ونشاطها المتزن إلى خلية سلطانية تعلن التمرد على نظام الجسم هذا ما فتحت الثورة البيولوجية الطريق إليه من خلال معرفة لغة الخلق وحروفها الأربعة التي أشرنا إليها والجواب هو: الخلل الجيني ! ولكن ما هو الخلل الجيني؟ إن الخلق قصيدة خالدة وديوان شعري رائع، فكل تركيب هو قطعة فنية مدهشة، هندسة العظام. دورة الكريات الحمر. نسيج الكبد. وظيفة الكلية. تألق الدماغ. الجهاز المناعي. الإفراز الهرموني. توازن الشوارد والمعادن. استقرار أخلاط البدن كلها في أحسن تقويم وأروع خلق. كلمات مصفوفة بجانب بعضها البعض، مكونة من حروف ربطت إلى بعضها برشاقة، وكما في حياتنا العادية فأي خلل في نظام الكلمات أو ربط الحروف يؤدي إلى كارثة في التعبير فيتحول المدح قدحاً والثناء ذماً والهجاء رثاءً كذلك الحال في التعبير البيولوجي، فالأمراض هي اضطراب حروف وكلمات اللغة البيولوجية، الأمراض هي تراكيب لم تتسق وتنتظم بحيث تشكل تعبيراً متجانساً وشعراً موزوناً وقافية محكمة وتنطبق هذه القاعدة بدورها على العلاقات والأمراض الاجتماعية. لنحاول التقدم خطوة أخرى في كشف الغطاء عن هذه الحكم القريبة المحجوبة, لنتصور لغة الخلق على شكل كلمات مصفوفة بجانب تعضها البعض والكلمة الواحدة ترابط محكم لمجموعة من الحروف, لنأخذ كلمة(حرب) فهي كلمة شنيعة تمثل افظع ما دمر النسيج البشري وافسد العلاقات الإنسانية على النحو الذي استعرضناه في جريدة الرياض تحت مقالتين (كفى بالحر واعظاً) و(عبثية الحرب). كلمة (حرب) مكونة من ثلاثة حروف ولكن سحب الحرف الثاني منها يقلب (الحرب) إلى (حب) والفرق بين الحرب والحب فرق بين الوجود والعدم لأن الحب مشاركة والحرب نفي الحب نماء والحر عدم ,الحب أعظم عاطفة في الوجود والحرب هي غاية الحقد والكراهية, فإذا رجعنا وأضفنا حرف الراء المحذوف إلى نهاية كلمة حب تحولت إلى (حبر) التي تفيد مادة فإذا قلبنا الحروف قلبة ثانية تحولت كلمة (حرب) إلى (بحر) ذلك الكيان المائي المتلاطم وهكذا يمكن توليد ست كلمات بستة معان مختلفة من خلال إدخال الاختلاف إلى ترابط الحروف بعضها ببعض فكلمة (حرب) تصبح (حبر ـ برح ـ بحر ـ رحب ـ ربح). هذه اللغة البيولوجية تتشكل من عشرين حرفا لتكوين كل تراكيب الجسم ولكل منظومة منها تشكل قطعة مسؤولة عن وظيفة أساسية فالأنسولين مثلاً مكون من سلسلتين من الوحدات الأولية تماما مثل بيتي الشعر ولا يختلف أنسولين البشر عن أنسولين الخنازير مثلاً إلا بكلمة واحدة في نهاية البيت الثاني ولا غرابة لأن شاعر هارون الرشيد كاد أن يفقد حياته حينما هجى المحظية (خالصة) فأنشد: لقد ضاع شعري عندكم كما ضاع عقد على خالصة وعندما شعر بالخطر من نفوذ المحظية أنقذ رقبته فقط بمسح نهاية حرف العين فتحولت إلى همزة (ع) (ء) وهكذا أصبح بيت الشعر على لسان أبي نواس: لقد ضاء شعري عندكم كما ضاء عقد على خالصة؟!! هذا الدخول إلى الكنز المخبأ والمفتاح السري والخريطة العظمى الأساسية والنسخة الأصلية للخلق واللوح المحفوظ في الدماغ المركزي في نواة الخلية هو بداية قفزة نوعية في علم الإنسان والمعالجة الطبية وإذا كانت الأمراض الوراثية التي تم اكتشاف حوالي (800) منها حتى الآن سببها (خلل جيني) بما فيه (السرطان) فإننا عمليا وكل منا يحمل إمكانية خلل جيني في مكان ما وإذا كان مرض (الإيدز) الفظيع هو تسلسل فيروسي يخلع معطفه وملابسه وقشرته الخارجية ليتزوج الحمض النووي الداخلي ليصبح قطعة في تكوينه لكي ينتج ذرية له كما يحدث في أي زواج وعاقبته من إنتاج الأطفال فإن بإمكان العلم استخدام هذا (التكتيك) تماماً مثل (حصان طروادة) للدخول إلى الخريطة الأساسية ومفاتح التحكم في الإنتاج الخلوي من خلال التحكم في الحمض النووي المركزي بحيث يمكن أو وصول إلى الخلل الجيني وإصلاحه سواء كان بإضافة قطعة ناقصة أو تعديل تركيب مغلوط. إن السرطان يكشف اللثام عن أسراره اليوم حيث يمكن فهمه أيضاً ضمن هذه اللعبة فالتكاثر الخلوي يخضع لتوازن دقيق من خلال عمل جيني محكم والخلل الجيني هو الذي يطلق جماع التكاثر الخلوي من خلال فقد آلية السيطرة على التكاثر بل نبدأ نفهم من لعنة السرطان هذه سر الحياة أكثر ولماذا كتب علينا أن نعيش عشرات السنوات فقط وهل الانقسام الخلوي محدد كما يقال على حوالي خمسين انقساما فقط؟ ولكن لماذا تمضي الخلايا السرطانية المجنونة بانقسام رهيب لا يتوقف بحيث إذا أخذت الخلايا السرطانية في جسم المريض مات المريض ولكن الخلايا تستمر في التكاثر المرعب طالما ضمن لها الغذاء الذي يمد في عمرها عندها قد لا نرى في السرطان لعنة بل رحمة من خلال إدراك سر التكاثر الخلوي؟!! ثم أليس تكاثر خلايا الجنين في بطن أمه تكاثراً سرطانياً من نوع آخر إيجابي حيث تتكاثر الخلية الواحدة إلى مليارات الخلايات المتخصصة؟ ما هي الآلية يا ترى التي تسرع في الخلايا وهو جنين في الرحم ثم تتباطأ أكثر فأكثر مع الخروج من الرحم؟ كلها أسئلة يخترقها العلم الجديد اليوم ويجب أن تتعلم حقيقتين من العرض السابق ... الأولى تقول يجب أن لا نخاف من العلم ففيه قدرة التصحيح الذاتي كما قاد العلم إلى السلم مرغماً على النحو الذي عرضناه في علاقة العلم بالسلم في مقالات سابقة. والحقيقة الثانية أن الزبد سيذهب جفاء وما ينفع الناس سيمكث في الأرض ويجب أن لا يفزعنا التطور العلمي لأنه سيأتي بشواهد جديدة على الحق الذي بنيت عليه السماوات والأرض الهوامش والمراجع : (1) تكشل العقد اللمفاوية شبكة الإصطياد للجراثيم والعناصر الغريبة القادمة من خارج الجسم بعد حاجز الجلد والصراغ ضد الكريات البيضاء. فإذا انتفخت العقد اللمفاوية كان معناه مرحلة متقدمة لتقدم فرق اللإجتياح الغريبة. (2) أصيب الأستاذ المذكور بسرطان جلدي يعتبر من أخبث الأنواع وأشدها انتشارا وفتكاً وهو المعروف بالسرطان القتاميني (الصبغي) وينمو على شامة في الجلد. (3) تنسب هذه الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه المشهور (4) في المؤتمر العالمي الأخير في اليابان عن مرض الإيدز تمت الإشارة إلى وجود زمر فيروسية إضافية تتسبب في المرض. (5) يعتبر الحامض النووي المرمز له بـ (د.ن.أ.(D.N.A هو المحتوي الرئيسي للجينات التي هي بدورها لقطع المتصلة ببعضها البعض والتي تشكل الكروموسومات (الصبغيات) والمسؤولة عن الشيفرة السرية لأوامر تشكيل كل شيء في البدن. (6) لمزيد من فهم هذه الآلية نقول أن الحامض النووي المركزي والذي يعتبر النسخة الأصلية يرسل أوامره السرية عن طريق حامض نووي آخر إسمه الرسول أو الناقل, والفيروسات تحوي ضمن كتلتها شبيهاً من المركز إلى المحيط أو أوامر الحامض المركزي إلى الجسم باستثناء الفيروس القلوب أو العكوس فإنه يمشي ضد التيار ومن هنا أخذ أسمه العكوس (ريتروفيروس) فهو يقتحم الحامض المركزي ويجلس داخله؟! (7) يتشكل الحمض الأميني المركزي من أربة أحماض أمينية هي (الأدتين والستوزين والجوانين والثمين). (8) لتطبيق مبدأ الاحتمالات من ربع حروف نقول مثلاً (أ.أ.أ.ب) (أ.أ.ب.ب) (أ.أ.ج.ج) (أ.أ.س.س) (أ.ب.ج.س) (أ.ج.ب.س) (أ.س.ب.ج) (أ.س.ج.ب) وهكذا فسوف تصل إلى 64 احتمالا كل احتمال يوعز إلى الجسم من خلال مطبعة عملاقة في الخلية أحماض أمينية مسؤولة عن هورمون ما أو الأنسولين وهو مكون من 51 حمضاً أو خضاب الدم وهو مكون من مئات الأحماض الأمينية وهكذا.
اقرأ المزيد
الجراحة الحديثة
تم تدشين ثلاث فتوحات علمية في عالم الجراحة في منتهى الخطورة والأهمية، هي تدشين الجراحة العجائبية الجديدة : جراحة بدون جراحين ( TELE - SURGERY )( 1 ) أو الجراحة بالفاكس ؟؟! والاستنساخ الإنساني ( CLONING ) الذي أوقفوه عن المضي في مسيرته لاعتبارات أخلاقية وقانونية ( 2 )، وجراحة الجينات (GEN - SURGERY ) من خلال حقن ثلاث مليارات خلية كبدية معدَّلة بإضافة الجين الناقص ( 3 ) لمريضة فرنسية من مقاطعة كيبك في كندا والمصابة بـ ( فرط الكولسترول العائلي المميت ) والمعروف ب ( FH ) ... هذه أخبار من قمة الوعاء العلمي ورأس حربة اختراق الفضاءات المعرفية الجديدة ، في الحين الذي يفاجئنا بعض مرضانا بعدم قناعته إلا بــ ( الكي ) وسيلة للخلاص من الألم والمرض ؟! . قبل 14 عاماً من الآن كان الطبيب الألماني كورت سيم ( KURT SEMM ) يعمل في عيادته كطبيب أخصائي في أمراض النساء والولادة ، في مدينة ( كيل ) الميناء الشمالي القصي من ألمانيا الغربية ، وبينما كان يقوم بعمله المعتاد في نفخ بطن المريضة تحت التخدير كي يدخل المنظار المستخدم لـ ( التشخيص ) عثر على زائدة دودية ملتهبة عند مريضته ، فانقدحت في ذهنه فكرة جديدة مفادها : لماذا لانستخدم نفس المنظار أداةً للعلاج الجراحي من خلال إدخال آلات مساعدة للقطع والشفط والحرق الكهربي ؟؟ ولكن هذا يعني أنه سيقوم بعمل الجراح وليس النسائي !! تساءل الطبيب ( كورت سيم ) لماذا لانستأصل وبنفس المنظار الزائدة الدودية الملتهبة أو الحويصل المراري الفاسد أو حتى أي عضو تعطل عن العمل ويمكن التخلص منه ومن خلال فتحات هي فوهات الدخول فقط ، طالما هي تحت أعيننا وفي متناول يدنا بل وتحت التكبير بحيث تراه العين بشكلٍ أفضل؟! كل مافي الأمر هو تطويل أصابع اليدين من خلال منظار إضافي يدخل إلى البطن !! كانت الفكرة رائدة وثورية وترتب عليها عملياً انعطاف نوعي في تاريخ الجراحة . وجاءت كالعادة ليست من حقل الجراحين بالذات ، بل من اختصاص آخر خارج الجراحة العامة ، كما حصل مع باستور والأطباء ، فباستور كان حتى من خارج الطب تماماً لإنه لم يكن طبيباً ولكنه خدم الطب بأعظم من دفعة أطباء ، وجرت السنة أن المبدعين والعباقرة يأتون عادة من خارج حقل المهنة ( 4 ) . ونظراً لإن الدكتور يمتلك تحت عيادته ورشة عمل ، وله صلة بأخيه الذي يسكن في الجنوب والذي يعمل مهندساً في صناعة الآلات الطبية فكان يقوم بتصميم المناظير وتطويرها باستمرار ويعمل بصمت وفي الظل حتى استطاع أن يقوم بإنجاز كمية كبيرة من العمليات الجراحية بهذه الطريقة ، ثم تقدم إلى مؤتمر الجراحين في ألمانيا لعرض نتائج عمله ؛ فقامت قيامة الجراحين من هذا المتطفل على ميدانهم والذي لايعتبرونه جراحاً بالأصل ؟! بل مضى بعضهم إلى المطالبة بمحاكمته على مااقترفت يداه بحق الجراحة التقليدية التي أُسست منذ مائة وخمسين عاماً !! فهرب إلى بريطانيا حيث سخِر منه الجراحون بل وزملاؤه أطباء النسائية حيث قال له أحدهم : لعلك تريد إجراء عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! ( 5 ) وهكذا قرر الطبيب المحاصَر أن يهرب من القارة الأوربية العجوز إلى العالم الجديد ؛ الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم احتضانه وتبني أفكاره وتطوير أدواته ثم المباشرة بتطبيق طريقته ( لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ، ورجع المهاجر إلى وطنه ( راغماً ) قومه مما جعلهم يتبنون طريقته ويحترمونه ، وهكذا وجد نصر المهاجر ( يجد مراغماً كثيراً وسعة ) . ( 6 ) تعتبر طريقة الدكتور ( سيم ) انقلاباً ثورياً في تاريخ الجراحة الحديثة ، لإنها شقت الطريق إلى تطوير الجراحة بشكل نوعي ، فهي فتحت باب الجراحة على إمكانياتٍ بدون حدود ، لاشقوق ولاندبات على البطن ، الوصول إلى أي مكان لمعالجته ، مع خروج سريع من المستشفى ، وتوقع اختصار في تكاليف العلاج للمستقبل ، وهكذا فالمنظار سيستأصل الحويصل المراري الفاسد والورم المدمر ، سيفتح الشريان المغلق ، ويغلق الفتق المنسدل ، يقطع العصب المريض ، ويرتق الأكياس المهترئة . بل وشق الطريق إلى معالم جراحة جديدة لم يكشف اللثام عنها بعد وهي الجراحة من بعد ( TELE - SURGERY ) بما يشبه الريموت كونترول ، وهكذا بدأت في العام الماضي تجارب في مدينة ( كالرسروهه ) في ألمانيا ، على جراحة تجرى بين جراح يبعد عن حقل العملية ( 3 ) كم من خلال عمل وثيق محكم مع ( إنسان صناعي = روبوت ) يجري العملية !! الروبوت يُسير من قبل الجراح المزود بنظارات خاصة تتمتع بميزة الأبعاد الثلاثية ، وهكذا يستطيع رؤية كل مافي جسم الإنسان ، من خلال تطوير أجهزة جديدة تلقم بكل المعلومات التفصيلية ( الداتا عن البناء الهندسي والوظيفي للجسم الإنساني ؛ إنه أشبه بالسحر وعالم الجان !! ولكن إذا استطعنا أن نقوم بإجراء العملية عن بعد ثلاثة كيلومترات ، فيمكن عن طريق التقنية الالكترونية المتقدمة أن نجري عمليتنا لمريض ممدد على طاولة العمليات على بعد 3000 كم ؟! وهكذا ستحمل جراحة الغد ، أن الجراح سيجلس وبدون أن يلوث يديه بالدم والقيح ومخاطر التهاب الكبد الإنتاني والأيدز ، يجري عمليته كما يلعب الطفل بلعبة ( الأتاري ) ، الجراح يجلس في نيويورك والمريض في تايلاند ، بل إن العالم السويسري ( كريستوف بوركهاردت ) الذي صمم الروبوت لوكالة ناسا لارتياد الفضاء ( 7 ) قام الآن بتطوير الروبوت الجديد للعمليات الجراحية ، وتم تدشين العمليات الأولى صيف العام الفائت حيث وقف الروبوت ليفتح فتحات صغيرة في جماجم مرضى مصابين بامراض دماغية في حالات ميؤوس منها وليقوم بمعالجتها من خلال عمل خاص يقوم به منفرداً ، ويطمح العلماء إلى الوصول إلى هذا المستوى من إعطاء الروبوت بكل الداتا المطلوبة ليقوم بعمليته منفرداً ، فهو على سبيل المثال يخطيء بمقدار ثلاثة من عشرة من الميلمتر ، في حين ان أحسن جراحي الأمراض العصبية على فرض أن يده لن تهتز ، يحمل إمكانية ان يخطيء بمقدار ميلمتر واحد فالجهاز الحالي أدق من أفضل جراح بثلاث مرات !! كما أن العملية التي يجريها أكمل وأسرع لإن ( حفَّار ) الجمجمة يدور أكثر من 500 دورة في الدقيقة ( مثل مثقب الأسنان ؟! ) ، وينهي العملية التي يحتاجها الجراح النطاسي في ساعات مضنية تكسر الظهر مع التركيز العصبي المهلك ، ينجزها الروبوت في أقل من نصف ساعة !! لم تعد المسافات مهمة وتقارب الزمان ، كل مافي الأمر هو التعاون الوثيق بين أصابع الجراح الرشيقة والآلة المتقنة التي أنتجتها بدورها أيضاً أنامل الإنسان المبدعة . حقاً إنه معنى كبير في العلاقة بين الصانع والمصنوع ، بين الإنسان والجهاز ؛ إننا نتلمس عبقرية الإنسان حقاً كلما استطاع أن ينجز جهازاً يحقق استقلالية أكثر فأكثر عنه وبشكل عكسي ، فالفرق كبير بين ( مضخة الماء ) التي تحتاج لليد الدائمة المرتبطة بها والتي لاتضخ الماء مالم تدفعها يد الإنسان ، أو الدراجة التي لاتمشي بدون ضغط الساق عليها ، وبين الكمبيوتر الذي يبدأ عمله بكبسة زر ، أو الروبوت الذي صنعه العالم السويسري لشركة ( ناسا ) فكلما صنع الإنسان جهازاً يستطيع أن يستقل عن الإنسان فيؤدي وظائف أكثر ، كلما كان معناه زيادة في الإبداع وعظمة في عبقرية المنتج ، وهذا يقودنا إلى فهم حقيقة وجودنا وتركيب أجسادنا العجيبة التي هي تنتج نفسها بنفسها ومعها جهاز الصيانة الخاص بها كما لو أن سيارة ( فرقع فيها الإطار ) فيقوم نفس الإطار بسد الثقب ولحمه ووضع الصمغ المناسب حتى يتابع سيره وكأن شيئاً لم يكن ، أن هذا يحدث في اللحظة الواحدة في الجسم وبملايين المرات !! نحن منحنا الوعي والإرادة والاستقلال والحرية بحيث يكون الإنسان مهندس مصيره ، فهذه الاستقلالية هي من روعة الجهاز وعظمة الخالق ، إن هذه القوة التي أخرجته للوجود بهذا الكيفية أعظم من ان يحوطها علم أو يصل إلى فهمها عقل هي مطلقة أزلية أبدية لاحدود لعظمتها وقدسيتها ربنا ماخلقت هذا باطلاً . أما الانفجار العلمي الثاني والذي يحمل مخاطر مرعبة إن لم يتم تطويقه بالغلالة الأخلاقية لإن الأخلاق بذاتها هي علم ، بل هي دينامية النفس السوية ، وهي المشكلة التي كرس الفيلسوف الهولندي اسبينوزا كتابه الموسوم ( الأخلاق مدعمة بالبرهان الهندسي ) لها . فماهو ياترى هذا الانفجار الجديد الذي حدث في خريف عام 1993م ؟؟ وماهي عملية الاستنساخ التي نسمع بها بين الحين والآخر ؟ هذه المرة الاستنساخ الإنساني !! الاستنساخ ( CLONING ) عملية نجح فيها الطبيب الأمريكي أخصائي الأمراض النسائية ( جيري هول ) لأول مرة في تاريخ الطب الإنساني في اكتوبر من عام 1993 م ، حيث تم الكشف أن الخلية الملقحة الأولى التي تتشكل من التحام رأس الحيوان المنوي مع البويضة في الثلث الوحشي ( البعيد ) من البوق ، تبدأ في الانقسام الهائل بعد التشكل وهي في رحلتها في البوق التي تستمر حوالي عشرة أيام حتى الرحم كي تعشش هناك . لقد عرف أن الاختصاص في الخلايا يبدأ بعد الانقسام الرابع لإن الخلايا قبل الانقسام الرابع متشابهة ، لننظر إلى عدد الخلايا وهي تنقسم ( 1 - 2-4-8-16-32-64-128-256-وهكذا ) وعند الانقسام ( 1 - 2 - 4 - 8 - ) وقبل أن تصل إلى 16 خلية تتشابه الخلايا تماماً ، ثم تبدأ كل مجموعة _ وحسب خطة عليا سرية _ في التشكل باتجاه معين فهذه الخلية تتكاثر لتوجد أذناً تسمع ، ولكن الأذن بدورها مكونة من مجموعة معقدة من الأعضاء ، فهي أذن خارجية تشكل صوان الأذن وعظام سمعية في الداخل وأذن باطنية في تعقيد مذهل يصل إلى درجة التيه ، مما جعل الأطباء يسمون القسم الداخلي من الأذن بالتيه ( LABYRINTH ) ومجموعة ثانية تذهب لتشكل الجهاز البصري الذي هو بدوره مكون من مجموعات ضخمة من الخلايا ذات الوظائف المتباينة ، فالقزحية ليست مثل الصلبة والثانية ليست مثل قعر العين الذي يحوي الشبكية ، التي هي مجموعة من الخلايا المنضدة فوق بعضها بعضاً في عشر طبقات تشكل الطبقة العميقة فيها مركز الإدراك البصري وهي الطبقة المعروفة بالعصي والمخاريط ، والعصي بدورها مسؤولة عن النور الأبيض والضوء الخفيف وهي موزعة في المحيط أكثر ، والمخاريط التي تشبه عواميد الجزر مختصة بتمييز الألوان ، وتذهب مجموعة ثالثة لتكوين خلايا الجهاز المخاطي في الأمعاء ورابعة للنسيج العظمي الشديد وهكذا ، أي أن تصبح هذه الخلايا المتخصصة في النهاية الإنسان الذي يسمع ويبصر ويتغذى ويتكاثر ، والوظيفة الأخيرة تقوم بها أيضاً مجموعة متخصصة من الخلايا التي تحافظ على النوع وهي الخلايا الجنسية ، هذه الخلايا الثمانية قبل أن تنقسم مرة أخرى لتصبح 16 خلية وعندها بالضبط عرف العلماء أن واحدة منها إذا تركت شكلت إنساناً كاملاً ، وإذا أخذت السبع خلايا الباقية أمكن من كل خلية منها أن تنتج إنساناً كاملاً قائماً بذاته !! بل ويمكن تجميد الخلية إلى حين واستخراجها بعد فترة لنفس عملية التصنيع المذكورة !! وهكذا ففي الواقع يوجد لكل فرد منا ليس نسخة أصلية واحدة بل ثماني نسخ أصلية ، بل نسخ لاتنتهي إذ نظر الى الاستنساخ من خلال التكاثر غير الجنسي ، لقد تم انتاج حيوانات ( عجول ) بهذه الطريقة حيث تم توليد ثماني نماذج متطابقة ، ونجحت التجربة في المستوى الإنساني إلا أن التجربة أُوقفت لاعتبارات أخلاقية وقانونية ، ونحن لانعرف بالضبط وعلى وجه الدقة هل أُوقفت التجربة فعلاً أما أننا سنفاجيء بعد فترة بالنماذج الثمانية وهي تطل برأسها على العالم ؟؟ وهذه الطريقة هي طريقة الاستنساخ الجنسي وهناك طريقة الاستنساخ اللاجنسي حيث يمكن توليد نماذج جديدة من أي خلية في الجسم ولقد نجحت هذه الطريقة على الضفادع كما أوردها الدكتور عبد المحسن صالح في كتابه التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان ( 8 ) وهذا يعني أن الفرد منا قد يمكن المحافظة عليه بطريق غير مباشر بنسخة خلف نسخة ؛ فمن المرأة العجوز يمكن استخراج نماذج مشابهة ولكن شابة وهكذا ؟؟!! يعتبر هذا الآن ضرب من الخيال العلمي ولكن المستقبل سيحمل لنا من المفاجآت ماهو أكبر من التصور وأعظم من الخيال ؟؟!! . والآن إلى قصة تدشين أول معالجة لمرض وراثي عند الإنسان ، عن طريق إضافة الجين الناقص اجتمع حشد من الأطباء والممرضات وكأَّن على رؤوسهم الطير ، في صمت مطبق وتوتر بالغ ، وهم يرقبون الدكتور ( ويلسون ) وهو يحمل بحذر بالغ حقنة كبيرة مملوءة بـ ( سائل بني ) يشبه عصير الفواكه الكوكتيل . اقترب من المريضة المممدة على السرير ، وهو يقول : ياسيدة ( فرانسين ) لاداعي للتوتر الآن فالمرحلة الصعبة قد مرت ، ونحن الآن أمام إعطاءك هذه الحقنة البسيطة ! ! برز من بطن المريضة ، من القسم العلوي الأيمن قثطرة متصلة بانبوب مطاطي ، فعمد الدكتور ( ويلسون ) بحذر إلى وصل الحقنة التي بيده ذات اللون البني ، والمحتوية على الخلاصة ( السحرية ) ، بالأنبوب المطاطي ، ليبدأ حقن المريضة ( فرانسين ) الكندية بالجرعة الأولى من ( خلاياها الكبدية بالذات ) والمعدلة بإدخال الجينات إليها . بعد عدة أيام من الحقنة الثالثة كانت المريضة تشعر وكأن حياة جديدة قد دبت فيها ، فهي تشعر للمرة الأولى أنها معافاة حقاً ، وعندما سألها الطبيب كيف تجدين نفسك الآن ؟ قالت كان مصيري الموت كأختي ، إلا أنني أشعر الآن وكأنني بعثت من الأموات !! ( 9 ) والآن ماهو الهام علمياً خلف هذه القصة ؟ وماهو المرض الذي كانت تعاني منه ؟ وماهي طبيعة هذه الحقنة الغامضة السحرية التي تم حقن المريضة فيها ولثلاث مرات ؟ في أي مكان تم هذا ؟ ماهي العتبة الجديدة والفضاءات المعرفية التي يرتادها العقل الإنساني الذي طَّوع الطب وآلته ، لفك شفرة الوجود ، وسر الخلق ، ولغز الحياة الدفين ؟؟ كانت السيدة ( فرانسين ) الكندية ، والتي تسكن في مقاطعة ( كيبك ) ذات الأكثرية الفرنسية ، مصابة بمرض فرط كولسترول الدم العائلي القاتل !! ( FAMILIAR HYPERCHOLESTERNAEMIA - FH ) ، حيث يصل مستوى الكولسترول إلى 600 - 800 ملغ في 100 سم مكعب من الدم وهي ماتعادل ثلاث إلى أربعة أضعاف سقف ارتفاع الكولسترول عند الإنسان العادي . والمعروف عن هذا المرض أنه يؤدي إلى انسداد الأوعية الدموية المبكر ، بسبب كثافة الدهن في الدم وبالتالي الموت المبكر باحتشاء القلب عند الشباب صغار السن ، واعتبر الأطباء أن عمرها مسألة سنوات قليلة . في قاعة العمليات في المستشفى الجامعي في فيلادلفيا مع الصباح الباكر كان رئيس الجراحين ( ستيفن رابرSTEVEN-RAPER ) ومساعده الدكتور ( هانزل ستيدمانHANSEL STEDMAN ) يقومون بمهمة صعبة هذه المرة في جراحة الكبد على المريضة فرنسين ، حيث عليهم أن يغيروا الطريقة التقليدية في جراحة الكبد ، من أجل إعطاء الدكتور ( ويلسون ) المتوتر في القاعة حصته النفيسة ، من خلايا كبدية حية ، تذهب مبردةً مباشرةً إلى مختبره الثمين . كان على الدكتور رابر مهمة أخرى هي وضع قثطرة من نوع ( HECKMAN CATHETER ) في الوريد البابي ( PORTAL VEIN ) الذي يضخ ثلاثة أرباع الدم الصاعد والمغذي للكبد . كان الدكتور ( ويلسون ) من النوع الذي لايطيق قاعة العمليات ، أورائحة اللحم المحترق ( بالكاوي الكهربائي ) ، ولغط ماكينات التخدير ؛ وينتظر بفارغ الصبر كنزه الكبير ، الذي سرعان ماهُرِع به إلى مخبره في وعاء بلاستيكي مبرد ، من خلال أروقة لاتنتهي وممرات لاتحصى بين البناء الضخم للمستشفى والمخبر . قبل خمس سنوات انطلقت الولايات المتحدة الأمريكية في مشروعٍ يعتبر أهم من مشروع ( ناسا ) لارتياد الفضاء ، وأهم من مشروع ( مانهاتن ) للسلاح النووي في ( لوس آلاموس ) الذي قاد الولايات المتحدة ، لتصنيع قنبلتها الذرية الأولى ، هو مشروع ( HUMAN GENOM-PROJECT ) أي مشروع المورثات الإنسانية ، لفك شيفرة الخلق الأولية ، المضغوطة في قلب نواة الخلية ، لمعرفة اللغة التي كتبت فيها ، وفك سرها المخزون . لقد وصل العلم إلى معرفة أن كل قطعة من تركيب بدننا ، سواء شعرة أو عظماً ، جلداً أو نسيج من العضلات ، الهورمونات أو الأنزيمات ، الانسولين أو الثيروكسين أو خضاب الدم ، يتكون من سلاسل طويلة أعدت بعناية فائقة وبدون أي خلل ، من مجموعة هائلة من ( الكلمات الأولية ) التي هي ( أحماض أمينية ) . كلها مكتوبة بلغة خاصة ، تماماً مثل المقالة التي بين يديك ؟! لقد عرف أن المبدع هنا هو كائن هش غريب الشكل ، يجلس بكل رفعة على عرش نواة الخلية ، إلا أنه مصغر إلى عشرات الآلاف من المرات ، مضغوط في أصغر حيز ممكن ، مخبأ في حرز أمين داخل نواة الخلية ، وفي شكل زوجي بلغت ( 23 ) زوجاً سميت لشدة أخذها الألوان بالـ ( الصبغيات ) ، وضمن هذه الكروموسومات أو الصبغيات ، تم ضغط قرابة ثلاثة مليارات من فقرات من كلمات الخلق ، بلغة سرية عجائبية لاتزيد عن أربعة حروف . هذه الفقرات هي ماتسمى ( الجينات ) ، والتي هي في حقيقتها أحماض أمينية مصفوفة ، تشكل بعدد محدود يزيد وينقص فقرة هامة ذات معنى محدد للجسم ، سواء كان بدن إنسان أو هيكل فراشة ، أو قطعة من التفاح . هذه الفقرات تعطي أوامرها بواسطة مطبعة خاصة ، إلى نقل هذه الرسالة إلى البدن كي يقوم بتصنيع دائم لكل مكوناته أو التعويض عما يفقد أو ترميم ماينهار ، في عملية على مدار الساعة ، لاتعرف الفتور والسآمة تسبح بحمد الله العلي الكبير . فهنا انسولين يحرق سكراً ، وهنا أدرينالين ينظم الضغط ، وهناك جرح يحتاج للالتئام . وفي مريضتنا ( فرانسين ) عُرف أن الخلل هو في الكروموسوم ذو الرقم ( 19 ) بنقص جيني محدد على وجه الدقة ، وعلى المتسلل الذكي أن يُسرب القطعة الناقصة لتلتحم بالأصل ، فتبدأ في العمل ، وهي هنا حياة المريضة للتخلص من طوفان تراكم شحم الدم . في الليلة السابقة لنقل العصارة الرائعة ، تم إغراق الخلايا الكبدية بالفيروسات المقلوبة ، وفي الصباح الباكر تم غسل الخلايا من جديد ، من بقايا أغلفة الفيروسات المكسرة والتي انتقلت مادتها الجينية الآن إلى نواة الخلايا الكبدية ، أصبحت الخلايا قد تم التلاعب بالمكونات الوراثية فيها ، ويبقى أمامهم وضعها في نابذ مركزي يدور بسرعة تزيد عن ألف دورة في الدقيقة ، حتى يتم طرد الخلايا الثقيلة إلى المحيط ، وأخذهم بالتالي في خلاصة بنية اللون للحقن . تَمَّ حقن المريضة فرانسين ثلاث مرات كل مرة بحوالي مليار خلية مُعَدَّلة الجينات ، على أمل استقرار الخلايا الجديدة في النسيج الكبدي وقيامها بدورها الحيوي في تكسير بللورات الكولسترول الخطيرة في الدوران . وإذا تمتعنا بهذه القصص السابقة في الإنجازات العلمية فإن هناك قصصاً أشد متعة في المعاناة اليومية للجراحين والتي توجب عليهم أن يتحلوا بالحكمة البالغة وهم يرون بعض الظواهر التي تدل على خلفية عقلية خاصة تحتاج إلى العلاج ربما أكثر من الظاهرة البيولوجية المرضية لنسمع هذه القصة : اتصل بي مساعدي الدكتور مصطفى وهو مرتاع من منظر المريض الذي دخل العيادة على الكرسي المتحرك ، قد بدأت في محياه سمات الانهاك ، وارتسمت على قسمات وجهه قصة ألم ممض طويل ، وعندما حُمل المريض إلى طاولة الفحص الطبية ، بدت ركبته بمنظر مرعب من انتفاخ لايكاد يصدق يصل إلى حجم ( البطيخة ) ، قد عقل ركبة المريض عن الحركة ، وبدأت القدم تدخل مرحلة الشلل . وبدأ العم ( خلف ) يتحدث عن قصة الأشهر الطويلة من الألم الذي لايطاق ، ثم استدار ليبرز أمكنة ( الكوي ) المتعددة فوق مكان الورم ، حيث حفرت أخاديد بشعة من احتراق الجلد . كانت الحالة ( أم دم ) المعروفة بالانورزم ( ANEURYSM ) وهذا الحجم الذي رأيناه يصعب رؤيته في الممارسة العادية لإنه يكون في الغالب قد قضى على صاحبه . كان حظ المريض جيداً وحظ ( الطبيب العربي ) أجود ، لإن مكان الكوي كان تماماً فوق مكان الورم الدموي ، حيث ينبض الورم الدموي ويرقص ويعربد . وعملية ( الكوي ) المتكرر وفوق ( القنبلة الدموية ) هذه كانت حظاً نادراً ، فلو انفجرت أثناء الحرق لقضى المريض نحبه بدقائق معدودة غارقاً بدمه ، قبل إمكانية إيصاله إلى أقرب مستشفى . هذه قصة ليست بالنادرة بل هي حالات تتكرر يومياً بحيث تمثل ( ظاهرة ) في بعض المناطق ويمكن أن اختصر تعليقي عليها بالأفكار التالية : تقول الفكرة الأولى : إن مانراه يشي في الواقع بأن من يعالج نفسه بهذه الصورة المريعة فيعرض نفسه للحرق الذي هو أشد الآلام طراً ، إنه لولا قناعته القصوى بهذه أكثر من كل طبنا الحديث ، وكل هذه ( الفلسفات ) التي نطرحها في المؤتمرات العلمية ؟! وماتحاول أن تبثه الثقافة اليومية ، أقول لما لجأ للشعوذة والدجل الذي يحاول أن يأخذ صوراً مقنعة لانهاية لها ، وبالتالي فإن هذا مؤشر خطير إلى مدى تفشي ( الخرافة ) وأن الواقع أقوى من كل كلماتنا التي نعتد بها ونعيدها . 2 _ وتقول الفكرة الثانية : إن العقلية الخرافية وعدم الاقتناع بكل موضة الطب الحديث هذا ، وأن الثقة بالكوي ( عند أول شكوى ولكل شكوى وليس آخر الدواء ) هي في ( الأرضية الثقافية ) وطالما كانت العقلية المختبئة خلف هذا النوع من القناعات في العلاج ، فيجب أن نتوقع سقوطاً في مطبات لانهاية لها في سلوكياتنا اليومية ، من مثل جدوى الدقة في العمل ، والمهارة اليدوية ، والانضباط ، والنظام ، والذوق الجمالي ، ومسؤولية الكلمة ، والفعالية ، ومعرفة قيمة الوقت ، واحترام القانون ، وروح النظافة ، والتعاون ، واحترام العمل مهما كان ، وتفشي روح السلامية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : وهذا لايعني أن شكل الخرافة واحد فصورها لانهائية ، بل إن الدجاجلة موجودون في أكثر البلاد رقياً ، بل وينشرون الدعاية لأسمائهم في المجلات اليومية ، ولكن الشيء الأكيد بنفس الوقت أن التيار العام بما فيه التيار الشعبي العميق ، والذي يمثل العمود الفقري للأمة واحتياطها التاريخي قد تخلص إلى قدر كبير من سيطرة الخرافة عندهم بفضل تفشي الروح العلمية ، فضلاً عن وجود المؤسسات العلمية العريقة ذات التاريخ الطويل والتي تنظر لها القاعدة العريضة من الأمة بالاحترام . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن سيطرة العقلية الخرافية يصعد في مجتمعنا إلى مستويات عليا غير متوقعة ، ولاينحصر فقط ي دائرة ( الأميين ) فقد تجد أستاذاً في الرياضيات قد بنى نفسه على ماهو معروف بعلم ( الوثاقة واليقين ) ولكنه عندما يواجه موقفاً يومياً ، فإنه يتصرف كأكبر خرافي ومن خلال مناقشاتي الطويلة مع المثقفين يتأكد عندي هذا المعنى يوماً بعد يوم ، وخطورة هذا الموضوع أنه يُلبَّس بتفسيرات معينة ، بل قد تستخدم نصوصاً وفقرات من هنا وهناك لدعمه ، والمشكلة الفلسفية القديمة الحديثة هي أن أي نص لاينطق ، والذي يستنطقه هو الفهم الإنساني وبقدر عمق الفهم الإنساني ، بقدر عمق إدراك أي نص ، بل إدراك الوجود كله . فالنص والفقرات لاتشع بالمعنى بل هي تعكس المعنى ، وقد انتبه إلى ذلك الأمام الغزالي قديماً حينما ذكر في كتابه المستصفى من أصول الفقه (( أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك ، وكان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا )) ( 10 ) 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن عملية أي إصلاح اجتماعية يجب أن تتبع شروط نقل الدم وزرع الأعضاء ، لإن بعض الاستعصاءات العقلية هي أشد من انسدادات الشرايين المزمنة ، بل إن الدم إذا لم ينقل وفق زمرته تماماً فإن الجسم يرفضه ويفضل الموت على الترحيب به ، وإن الجسم الذي هو بأمس الحاجة للكلية وهو مصاب بالقصور الكلوي يرفض العضو إن لم يقدم وفق الشروط التي يريدها ويرحب بها الجسم ، لذا يجب أن نتعلم احترام الإنسان حتى لو كان خرافياً غاطساً في الخرافة ويظن أن الكرة الأرضية جالسة على ظهر سلحفاة ، فاحترام الإنسان هي أهم قاعدة في تغييره ، لإننا يجب أن نحبه من خلال الاحترام من أجل فتح الحوار معه تمهيداً للتغيير العقلي الذي هو الولادة الجديدة للإنسان. لقد أدخل طفل صغير إلى المستشفى بسبب لدغ ثعبان له ، إلا أنه كان عندما يرانا يصرخ بأشد من خوفه من الثعبان ، لإن أمه قد كونت فيه الخوف من الطبيب ، فإذا أرادت تخويفه قالت له : هل تسكت أم أحضر لك الطبيب ليضربك إبرة ؟؟ فيسكت الطفل تحت خوف إبرة الطبيب المرعبة !! هل نعلم ياترى أن ثقافة الرعب تأخذ مداها عندنا في كل مستوى ونتشرب هذه الثقافة المريضة منذ أن نكون اطفالاً . إن الطفل الذي لدغه الثعبان يجب أن يعالج بنفس الأهمية من الصدمة النفسية المزدوجة من الخوف من الثعابين والأطباء على حد سواء . هوامش ومراجع : ( 1 ) قدمت مجلة الشبيجل الألمانية تقريراً موسعاً في عددها رقم 34 من عام 1994م عن هذا الموضوع ( 2 ) دشنها الدكتور جيري هول اكتوبر عام 1993م في أمريكا ( 3 ) دشنها الدكتور ويلسون في المشفى الجامعي في فيلادلفيا من ولاية بنسلفانيا فبراير شباط عام 1994م ( 4 ) في كتاب العبقرية والإبداع من كتب عالم المعرفة يشير المؤلف إلى أن معظم المبدعين جاؤوا من خارج التخصص لإناس عشقوا المادة واهتموا بهذا الفرع من المعرفة وفي سن مبكرة .( 5 ) روى لي زميلي الدكتور ( نشأت عساف ) استشاري أمراض النساء والولادة ، الذي زاره في مركز عمله في ألمانيا واستمع إلى محاضرته في جدة عندما زار المملكة وذكر أثناء محاضرته : أرجو أن لاتتعجبوا وتسخروا مني كما فعل الأطباء البريطانيون هل ستجري عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! ( 6 ) تأمل الآية الموجودة في سورة النساء رقم 100 (( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة )) ( 7 ) الدكتور كريستوف بوركهاردت وقصته رويت بالتفصيل في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 34 عام 1994 . ( 8 ) ( ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان تأليف د . عبد المحسن صالح نشر كتب عالم المعرفة - الكويت عدد 48 ص \ 246 . ( 9 ) مجلة الشبيجل الألمانية عدد 19 عام 1994م ص 231 ( 10 ) يراجع كتاب المستصفى من أصول الفقه - الغزالي - الجزء الثاني ص 21 .
اقرأ المزيد
الطاعون رعب التاريخ
بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري ، فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون ، فهو الذي قوض دولاً بكاملها ، وأفنى شعوباً بأسرها ، ومسح مدناً من وجه الأرض ، وصدع حضارات عظيمة ، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع ، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً ، ولكن أحداث الهند الأخيرة حملت معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي ، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء ويسافر فيه الناس قريباً من سرعة الصوت . والآن ماالمرعب في هذا المرض ؟ ماهي قصته التاريخية ؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له ؟ بل ماهي فلسفة انتشار المرض عموماً ؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الافرنجي والايدز ؟! دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع ، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد. في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً ، رائعة الجمال ، بديعة الألوان ، لمرضى يموتون في شر حال وأسوء مصير ، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً : إنه الموت الأسود .. (الطاعون PLAGUE) !! . كانت اللوحة أكثر من رائعة ، تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن ، تناثر فيها مرضى ( الطاعون ) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة ، وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة ( الموت الأسود ) ، وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات مدَّ يده يطلب العون ومامن معين !! في حين وقف القائد الفرنسي ( نابليون بونابرت ) بين جنوده في مستشفى ( يافا ) مقطب الجبين ، عابس الوجه ، خائر القوى ، قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس . هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لايستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض ( الطاعون ) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة . دمر الطاعون دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا ( الجنرال ) المخيف .. الموت الأسود ( الطاعون ) !! . وقف ( الجزاَّر ) حاكم عكا ( 1 ) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابوليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة ، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده ( القسطنطينية ) فنابوليون كان يرى أن ( استانبول ) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه ، هذه المرة كان الجنرال ( طاعون ) بجانب حاكم عكا ( الجزار ) كما كان الجنرال ( شتاء ) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً ( عام 1812م ) ( 2 ) يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر ( 1798م ) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة فاستولى على يافا وتابع طريقه إلى عكا ، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولى مدبراً ولم يعقب ، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة : (( وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا .. ووصل بونابرت في 16 مارس ( 1799م ) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها ( فولتير ) لكتاب ( روح الشرائع ) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب .. وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً .. حينئذ صمم على العودة إلى مصر بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه ، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد : (( لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم ، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة )) وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب ووصلوا إلى يافا في 24 منه فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصداً ، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم ، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ماصاروا إليه وماكانوا يشعرون به من العذاب .. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات والإجهاز عليهم وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل موتهم )) ( 3 ) ؟!! كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لاتحصى ، يسقط من عدو مجهول لايراه ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن !! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب ؛ يغلي من الحرارة ، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب ، زائغ النظرات متشنج الأطراف مربد الوجه مكفهر القسمات يزحف إليه الموت بسرعة ، ينفث قشعاً مملوءً بالدم ، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ ( الموت الأسود ) فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه ؟! هكذا مات الملايين من البشر في أبأس وأشنع موتة عرفها الإنسان ، وهذا يعلمنا حكمة الحياة : إن الحياة جميلة جداً ولكن الطبيعة تسحق الفرد بدون أن تبالي بنفس القدر من الحرص على المحافظة على النوع. إن هناك علاقة جدلية بين التاريخ والمرض ، فكما تتفشى الأمراض مع الحملات العسكرية والحروب المجنونة ، فإن انتشار الأمراض يصنع التاريخ بدوره ، فيقود إلى النكسات العسكرية وتوقف الحملات الحربية(4) على النحو الذي رأينا في حملة نابوليون بونابرت ، بل يقود إلى خلخلة الامبراطوريات وتصدع الحضارات ، وهو الذي لاحظه ابن خلدون حين كتب يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية وترافقه مع انتشار الطاعون الذي نزل في منتصف المائة الثامنة فتحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وجاء للدول فقلص من ظلها وأوهن سلطانها وتداعت إلى التلاشي : (( هذا إلى مانزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 5 ). كان المرض المرعب يأتي بهجمات مزلزلة عبر التاريخ ، ويعشش لعشرات السنوات ، فيمسح مدناً بكاملها من خريطة الوجود ، ثم يغيب في بطن التاريخ مرة أخرى ، فلايعرف الناس كيف جاء ولا كيف ولى وانقشع ظله الرهيب !!.جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود مايلي : (( ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى ، فقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر ، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر ، وثلاثين سنة من السادس عشر وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان ... ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألف ماتوا في هذا الوباء ، وفي باريس خمسين ألفاً ، وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً ، وربما كان المجموع ( ربع سكان العالم المتحضر ) وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض .. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية ، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل ( الفلاجلان ) الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم .. واستمع اناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين ، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة ، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة ، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة )) ( 6 ) ويبقى عام 1347 هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوربا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع ، وتتصحر أوربا عملياً ، بل وتعاني من إمكانية نقل التراث المعرفي للإجيال القادمة ، وتحتاج إلى مايزيد عن مائتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني !! ( 7 ) . من أين جاء هذا الوباء المخيف ؟؟ كيف تولد ونشأ ؟؟ هل من حادثة أيقظته ؟؟ أو حرب أثارت حفيظته فقام يفتك بالناس ؟؟ كيف انتشر كل هذا الانتشار في المعمورة يحصد أرواح الناس بمنجل لايعرف الرحمة وكأن الناس في موعد مع حصاد هذا العالم ؟!! تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب ( انسكلوبيديا تاريخ العالم ) عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوروبا ( 8 ) وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم !! فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م ؟؟ بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانيء وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة ، إلى مدن أوربا القذرة التي لاتعرف نظام التصريف الصحي ، ولانظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات !! ( 9 ) هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من اهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا ، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب ، فقاموا بشن أول حرب ( بكتريولوجية ) ربما في التاريخ الإنساني ، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة ؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون ؟!! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون ، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافيء التي وصلوها ، وبذلك نشروا المرض في كل أوربا ، فلم ينتهي عام 1352 م إلا وكانت مدن أوربا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة ، والطاعون ليس أكثر من مرض ( الرشح ) الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر ، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة !! وكما حملت السفن جرذانها ، فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة ، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لاترى إلا بالمجاهر مكبرةً آلاف المرات ، والتي لم تكن لا أوربا ولا العالم قد سمع بها ، وكان على العالم أن ينتظر طويلاً كي يبدأ الهولندي ( لوفنهوك ) بائع القماش صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا ، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب أقرب من حبل الوريد ولكن لانبصرها . بل كان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة ، فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية . ومع استفحال المرض تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض ، فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض الذي دخل الدم والأحشاء والعظام . كل أنواع النباتات والطحالب ، نقيع لحاء الشجر ، القذر والعذرة ، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة ، كتابة الرقي للأرواح والنجوم والكواكب ، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح ، الفصادة والحجامة ، الدوش البارد والساخن ، مركبات اليود والبزموت والزرنيخ والزئبق ، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون ، الحقن والزرع ، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت ولاعصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم للخلاص من هذا المرض الذي يسري في جسد ابن آدم مسرى الدم ، واليوم يمكن السيطرة عليه بجرعة من السولفا أو الستربتومايسين أو التتراسيكلين الخ .. ولكن هذه المركبات هي عصارة أرضية رهيبة من التقنيات والتراكم العلمي . لم يكن مرض الطاعون هو الوحيد في معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ ، فسلسلة الأمراض في هذا الموضوع لاتنتهي ، بين الجذام الذي كان يفضي بصاحبه إلى الإعدام الاجتماعي ، من خلال مزرعة عزل بشرية ، أو الكوليرا التي كانت تنقل إلى المقابر آلاف الجثث في هامبورغ في نهاية القرن التاسع عشر ، أو مرض الزهري ( SYPHILIS ) ( مرض الحب الفرنسي ) الذي عصف بالبشرية مايزيد عن أربعة قرون بدون معرفة المتسبب الأساسي في هذا المرض ، وبالطبع كانت الأرواح والكواكب متهمة في إحداث هذا المرض ، حتى كشف الغطاء أمام عيني ( شاودين ) في مطلع هذا القرن ، ومن خلال تطوير المخبر والمجهر ، الذي هو بدوره حصيلة القفزة العلمية برمتها ، حيث رأى تلك ( البريميات - اللولبيات الشاحبة ) والتي تشبه حبل المعكرون الملفوف أو السلك الملفوف لفتح أغطية وسدادات الأوعية الزجاجية ، ثم المثير في الوصول إلى الدواء من خلال رحلة رهيبة لاتصدق لاكتشاف الدواء النوعي الذي يخلص البدن من الجرثوم ولايفعل للجسم شيئاً ، كما حصل مع ( باول ايلريش ) في 606 من المحاولات كي يلوى مركب ( الزرنيخ ) حتى يصبح شافيا ً وبجرعة واحدة ( مركب السلفارسان ) وعندما أعطي اسمه ( 606 ) كان رمزاً للمحاولات المئوية المكررة قبل الوصول إلى الرصاصة السحرية لقتل الجرثوم !! ( 10 ) . إن مرض الطاعون ( PEST) الذي يطل علينا بقرنه اليوم من القارة الهندية يعطينا حزمة من الحكم والأفكار والتأملات : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن هذا المقالة لاتستهدف الترويع ، كما لاتبغي الاستخفاف ، كل ماتريده وضع المرض في إطاره الطبيعي والتاريخي والإمراضي ، بل والثقافي الحضاري ، فهي إذن لم تكتب للأطباء والمتخصصين في المخابر أو المتبحرين في علوم المناعيات وجراحة الكروموسومات وفصائل الجراثيم وقبائل الفيروسات ، بل هي كتبت بالدرجة الأولى من المنظور الثقافي والفلسفي ورفع مستوى الوعي . في مدى خطر هذا المرض ومعنى انتشاره بعد أن خاله الناس جميعاً أنه أصبح في ذمة التاريخ يرقد في بطون الكتب . وبالطبع يفتح هذا الباب أمام فلسفة انتشار المرض ويقظته من رقاده بعد كل هذا الهجوع عبر القرون ، فإذا به مثل ( دراكولا ) ينهض شبحاً يمتص دماء ضحاياه ليحولهم إلى أشباهه ( 11 ) . 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن بعض الناس لايتصورون طبيعة الحياة الشاقة التي كان الناس يحيوها فيما مضى ، بل ويعشق بعضهم فيما لو أتيحت له ( آلة الزمان ) أن يدخل التاريخ ، ليعيش حقبة يهواها ؟! لنتأمل ذلك : لنتصور أن صاحبنا دخل فترة منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حيث الطاعون يقصف الأرواح ولاأثر لصاد حيوي بسيط !! صداع بسيط بدون حبة أسبرين واحدة !! رائحة المدن القذرة بدون نظام التصريف الصحي !! مدن مظلمة في الليل بدون أبسط إضاءة !! المرأة تغسل بيدها كل شيء وبمواد تنظيف لاتكاد تذكر !! سفر طويل مرهق لأقرب مدينة يعلو الإنسان فيها الغبار والإنهاك وطرق محاطة باللصوص وقطاع الطرق !! تبتر الأطراف المصابة بضرب الإنسان على رأسه حتى يدوخ ثم تبدأ عملية القطع المرعبة ليتلوها بعد ذلك الكوي بالزيت المغلي !! ( كان اكتشاف امبروز باريه طريقة الزهراوي في ربط الأوعية بدون غطس الطرف في الزيت المغلي تخفيفاً كبيراً ونصراً طبياً مبيناً ) ، التهاب الزائدة الدودية معناه الموت غالباً ، وموت الأم الحامل مع جنينها أمر مكرر ، شوارع موحلة وثياب ليس فيها رائحة الأناقة ، وطرق موحشة . هل لنا أن نتصور العكس أي لو أرسلنا صاحبنا إلى المستقبل أو لو أتينا بفرد من الماضي من أيام الطاعون ليُعافى بحقنة من صاد حيوي بسيط رخيص الثمن متوفر في أصغر صيدلية في قرية نائية !! إن صاحبنا لو ذهب إلى المستقبل فلن يعود لإنه سيعيش مع عالم خالي من الحروب والمجاعات والاضطهاد يحقق الإنسان فيه ذاته وينسجم مع اخيه الإنسان . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : إذا كان الجرثوم ينتقل عن طريق التنفس على الشكل الذي سمعناه وهو شكل في منتهى الخطر وقاتل ، فإن هناك طاعون اجتماعي لايقل في خطره وينتقل أيضاً عن طريق الجهاز التنفسي ، فكما انتقل هذا المرض ( PLAGUE ) عن طريق الرذاذ التنفسي ، فإن الطاعون الاجتماعي ينتقل من الحبال الصوتية عبر الموجات الصوتية ، الأول يستهدف الجهاز التنفسي ، والثاني يتمركز في الجهاز الواعي العقلاني ، الأول يدمر الصحة البيولوجية ، والثاني يدمر الصحة النفسانية ، الأول وحداته ( عصيات يرسين ) الغليظة سلبية التلوين والثاني ( وحداته ) الفكرة الضارة ، الأول سهل بسيط بسبب أحادية المسبب ، والثاني خطير أخطر من الفيروس الذي يتقلب في أنواعه بسبب تنوع أفكار التدمير ، الأول سهل الكشف كما وصل إليه العالم ( يرسين ) و( كيتازاتو ) والثاني صعب الكشف بل لايطلب المصاب فيه إلى الكشف عنه لعدم شعوره أنه مريض ؟! بل إن أعظم تحدي يواجه الإنسان ليس عالم ( البيولوجيا ) بل عالم ( السيكولوجيا ) لنوعية قوانينه التي لم يتوجه الاهتمام الإنساني بعد لاكتشاف ديناميكيتها ، وإلا فكيف نقارن بين رؤية جرثوم تحت المجهر ورؤية طيف الحسد مثلاً ، هل يمكن ياترى لأي جهاز راصد أن يقيس لنا ( الطيف اللوني ) للحسد مثلاً ، أو مدى توتر ذبذاته ، أو كم وزنه ، أو ماهي موجاته في الدماغ وكذلك الكبرياء والكذب والنفاق وحب الظهور والزعامة والانتفاخ المغرور ، وهذا يوصلنا إلى أن ( الطاعون الاجتماعي ) أصعب في الضبط ، وأفظع في الانتشار ، وأرهب في الإصابة ، وإلا مامعنى اغتصاب خمسين ألف امرأة في البوسنة بمن فيهن طفلة السبع سنوات وعجوز السبعين ؟ مامعنى إبادة حضارة الازتيك والمايا والإنكا ؟ مامعنى ذبح مليون إنسان في راوندا ؟ مامعنى تدمير كابول بأيدي أبنائها ؟ أليس كل هذا مؤشرات لــ ( طواعين ) اجتماعية ؟؟؟؟ . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن القذارة مصدر العلل أياً كانت هذه القذارة ، بيولوجية أم نفسية أم اجتماعية !! والقرآن أشار إلى كل هذه الانحرافات المهلكة ، فطلب نظافة الثوب والبدن ( وثيابك فطهر ) وطهارة القلب والمسلك ( وذروا ظاهر الأثم وباطنه ) ونظافة المجتمع من الفساد ( أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) ، واعتبر القذارة الاجتماعية سبب تدمير المجتمعات الداخلي ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) ، وهذا يعني جهداً متواصلاً للحفاظ على وسط الطهارة ، فالحياة تقوم على ( وضع ديناميكي متحرك ) وليس ( وضع استاتيكي جامد ) ، الحياة تقوم على مبدأ ( الصيرورة والتطور ) وليس مبدأ ( التوقف والجمود والتحنط ) ، فمع الموت تقف الحياة عن التشكل وإمكانياتها عن المتابعة ، وهكذا على الإنسان أن يعيش في جو نظيف في كل مستوى ، بالنظافة الدائمة لثوبه بالغسل ، وبدنه بالحمام ، وروحه بالصلاة وبالتنمية الجدلية للنقد الذاتي ، ومجتمعه بالوعي المتقد والسلوك الرشيد والقدوة الحسنة وتفشي روح السلامية والحوار المثمر ، والثقة بأن الكلمة كائن حي مؤثر ، فيها قوة الاندفاع الذاتية في قدرة الاصلاح الاجتماعي . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن الكون الذي نعيش فيه تنتظمه قوانينه النوعية بدءاً من الذرة وانتهاءاً بالمجرة ، فهي في مستوى البايولوجيا الجراثيم والأمراض والتوازن الهورموني والاستتباب المعدني والإحكام الفيتاميني ، وهو في مستوى الذرة ( ميكانيكا الكم ) ، وفي عالم المجرات ( النسبية ) ، وفي النظام الشمسي قانون ( الجاذبية والكهرطيسية ) ، وهكذا تمسك القوانين النوعية وجودنا بإحكام ، فالإرادة الآلهية أقامت الكون على ( النظام ) و ( البرمجة ) و ( الغائية ) و ( الجمال ) و ( الحق ) ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ، ولم يكن الكون يخضع لـ ( الصدفة ) أو ( الضرورة ) أو ( العبثية ) أو ( الفوضى ) . وإذا كان الأمر كذلك فإن الجاهل يدفع ( فاتورة ) المخالفات ، فالتقي سوف تتحطم عظامه حين يسقط من شاهق مهما كان تقواه ، والهنود سوف ينتشر عندهم ( الطاعون ) بسبب تفشي القذارة ، ودفع الأوربيون ثمن الإباحية سابقاً في مرض الزهري والعقبول ، ويدفعونها مع الأفارقة اليوم في مرض ( الأيدز ) ، والسرطان الاجتماعي يشبه تماماً السرطان البيولوجي في فوضوية النمو ، فإذا أرادت خلايا أن تنمو كما يحلو لها وتزينها لها مصالحها الخاصة فإنها سوف تتورم ، ولكن على حساب التدمير المشترك المضاعف لها وللمجتمع الذي تنتسب إليه ، وكما يذهب الجسم المتسرطن بكل خلاياه ( الورمية والسليمة ) على حد سواء إلى القبر ، كذلك الحال مع الجسد الاجتماعي المتسرطن حيث يدفع الصالحون قبل الطالحون فاتورة الانقراض الاجتماعي . هوامش ومراجع : ( 1 ) راجع في هذا كتاتب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي جزء 2 ص 288 دار الجيل بيروت _ عن كتب بونابرت لأهل مصر عن سبب رجوعه عن حصار عكا . ( 2 ) انسحب نابوليون من عكا في 20\5\1799م كذلك انسحب من موسكو في 19 \ اكتوبر من عام 1812م . ( 3 ) كتاب تاريخ نابوليون الأول تأليف طنوس الحويك الجزء الأول منشورات دار ومكتبة الهلال ص 131 - 134 . ( 4 ) كان انتشار الطاعون في أوربا سبباً في توقف حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا ، وسبباً لاعتناق بريطانيا البروتستانتية من خلال زواج الملك هنري الثامن زوجة جديدة غير زوجته ماريا الحولاء المصابة بالداء الفرنسي والتي لم تنجب له أولادا ً . ( 5 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 . ( 6 ) قصة الحضارة - ويل ديورانت _ مجلد 22 - ترجمة عبد الحميد يونس - الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية ص 122 و123 و124 . ( 7 ) عندما فاجىء أهل لندن عام 1665م قضى على سبعين ألفاً من سكان لندن البالغ عددهم 400 ألف نسمة ؟!! عن كتاب الأمراض الإنتانية تأليف مدني الخيمي _ فصل مرض الطاعون ، ويراجع في هذا أيضاً كتاب عندما تغير العالم سلسلة عالم المعرفة الكويتية . ( 8 ) ( ENZYKLOPAEDIE DER WELT GESCHICHTE PAGE 409 HOLLE VERLAG UWE K . PASCHKE ) ( 9 ) لم تعرف أوربا نظام الحمامات إلا بشكل متأخر وحتى الآن توجد بعض البيوت في ألمانيا ليس فيها حمام ، وكان صاحب القلعة الكبيرة ( الإقطاعي ) له كرسيه الخاص لقضاء الحاجة فتؤخذ من تحته لترمى في الوقت الذي كانت الحمامات شيئاً طبيعياً في الحياة الإسلامية . ( 10 ) كتاب قصة الميكروب - تألف بول ديكرويف - ترجمة أحمد زكي - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1969م - ص 366. ( 11 ) حشيت ثقافة المواطن الأوربي العادي بقصة مصاص الدماء دراكولا الذي مات ولكنه يخرج من عالم الأموات شبحاً يمص دماء الناس فيتحول الضحية إلى دراكولا جديدة وهكذا .
اقرأ المزيد
بين السرطان البيولوجي والسرطان الاجتماعي (2)
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه ، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض ؟ ( 1 ) هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ ( الخبث ) في تصرفاتها كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم ؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر ؟ وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة ؟ بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية ، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة ( الاجتماعية الكيمياوية والشعاعية بل والجينية ) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق ؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة ؟ بل هل هناك بالأصل ( موت اجتماعي ) فتموت الأمة كما يموت أي فرد ؟ وإذا وجد فكيف تتجلى صورته ؟ دعنا نغوص في أعماق البحث الفيزيولوجية والاجتماعية على حد سواء لنرى تجليات العلم الحديثة في هذا الصدد ؟ دخل علي الزميل ( أبو حسن ) وقد استشاط غضباً ؛ فارتفع صوته وتهدجت نبراته ، على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد ، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم ، وغرر بهم ، تحت سراب الربح الوفير ، فيأتيهم رزقهم رغداً ، وإلى بيت بابهم بالعشي والإبكار ، وهم مستلقون على ظهورهم ، يأكلون السمن والعسل ، وهكذا قام ( الساحر ) الاقتصادي الجديد بالمعجزة الألمانية الاقتصادية الثانية ؟! وأراح العباد من همِّ المستقبل واستثمار الأموال ، فهرع الناس إليه زرافات ووحدانا ، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي ، وتراكمت الأموال والآمال ، حتى انقشع السراب الخادع _ كالعادة _ فانهارت المؤسسة المالية الجبارة المذكورة ، وأفلس صاحبها ( المظلوم ) !! وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية ، وتبخرت أموال الناس بين يدي ( الدجال ) الاقتصادي ، وأصابهم ماأصاب أهل البستان ( فأصبحت كالصريم ) وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة ، وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد ، بين اقتصاد مدمر ، وثقة تخلخلت بين الناس ، وأسعار للعقارات ارتفعت وبشكل وهمي ، بأشد من سرعة الصاروخ وبأعلى من قمم الغمام ، وجمود في حركة المبايعات . فالعقارات أصبحت معلقة في الهواء بعد انتفاخ الأسعار الوهمي ، في انتظار مسيلمة كذاب جديد ، ولاغرابة لماحدث لإن الحمق لوحده ليس له علاج ، فكيف إذا انضاف إليه الطمع ، وقديماً سأل الجاحظ غلاماً فقال له ياغلام : أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمقاً ، قال لاوالله ياعماه ، قال له الجاحظ : ويلك ياغلام ولم ؟ قال ياعماه : أُضيِّع الدنانير وأبقى أحمقاً !! ( 2 ) ************************** هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث ، بمحاولة الفرد ( الانتهازي ) أن يتضخم فـ ( يتورم ) و ( يتسرطن ) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى ( مجموعة القوارض الاجتماعية ) ( 3 ) ، التي تقضم الشبكة الاجتماعية !! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية ، ياترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة ( أمراض اجتماعية ) لاتحصى ؟ فكما يصاب الفرد بالمرض سواء العضوي أو النفسي فإن الجماعات لها أمراضها ( النوعية ) الخاصة بها ، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان ، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية ، فالجعبة مليئة ، وليس المثل السابق إلا واحد من الكثير من أمثال ( عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور ) و ( كراهية النظام والانضباط ) و ( السطحية في معالجة الأمور ) و ( عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان !! ) و ( نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ ) و ( النطق بلا مسؤولية ) و ( عدم احترام الآخرين ) ( 4 ) و ( التسيب الوظيفي ) و ( واللافعالية ) و ( البيروقرطية غير المنتجة ) و ( عدم تقدير الوقت ) و ( ضعف الذوق الجمالي ) و ( غياب الروح العملية ) و ( انطفاء روح المبادرة ) و ( عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام ) ، وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها ( الرشوة ) و ( المحسوبية ) و ( والوساطة ) واختصرها القرآن بالثلاثي : الشفاعة التي تقابل الوساطة ( ولايقبل منها شفاعة ) والعدل مقابل الرشوة ( ولايؤخذ منها عدل والمحسوبية مقابل ( لاتجزي نفس عن نفس شيئاً ) ويمكن القول باختصار : تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه ، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون ، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون ، لإن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي ، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات . ويظن أولئك ( المغامرون ) أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم ( شطار ) و( أذكياء ) ويعرفون كيف ( تؤكل الكتف ) ، ولكن السرطان حينما ينمو ، فأول مايفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة ، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة ، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه !! . وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لايشعر ، حين يدمر مصادر وجوده ، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم . **************************** هناك ( قانون اجتماعي ) ( 5 ) يربط بين العلاقات الشخصية وشبكة العلاقات الاجتماعية ، وأي زحزحة من قطب لآخر يعطي الفكرة عن مدى تماسك المجتمع وقوته من ضعفه ، وفكرة المركزية واللامركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات ، كذلك تربط علاقة صارمة بين فكرتي ( الحقوق ) و ( الواجبات ) فالواجب هو ( حق ) من جانب ، وهو ( واجب ) من الوجه الآخر ، تماماً مثل وجهي العملة !! ، لنتأمل هذه الفكرة المهمة : إن أية ( معاملة ) هي واجب للموظف يؤديها في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها ، وتنعكس الأدوار ، فنفس الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى ، في الوقت الذي يعتبر هذا واجباً للطبيب يؤديه ، وهكذا تصبح ( العملة الاجتماعية ) تدور بين ( حق - واجب ) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية ، ويجب أن لاتزور هذه العملة ، فيجب أن يقوم الطبيب بعمله في غير تذمر وملل ، كي يتحرك الموظف بنشاط وهمة لتسيير المعاملة وترك طاولته في نهاية الدوام نظيفة ، كي يؤدي الشرطي مراقبته للمرور بدون محاباة ، وهكذا يتم تبادل هذه العملة في مرافق الحياة . وحسب قواعد الاقتصاد ، متى ياترى يعتبر المجتمع معه ( فائض في العملة ) إذا نظرنا إلى العملة الاجتماعية المذكورة سلفاً ؟؟ أو أنه غني ، أو أنه في حالة بحبوحة حضارية ؟؟ الجواب عندما يتم تحصيل فائض في الواجبات !! إذاً نحن أمام ثلاث معادلات اجتماعية في الواقع : الأولى هي تلك التي تقول بفائض الواجبات عن الحقوق ، وهي تشي بالتالي بحقيقة مجتمع متفوق حضارياً ، الثانية بتساوي الحقوق والواجبات وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن ، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية ، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار . ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر على غاية الأهمية وهو : عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب ، لإن المجتمع الذي تعلم ان يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتعطيه حقوقه ، فالحقوق لاتؤخذ ولاتعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب . يقول المفكر السعودي الدكتور محمود محمد سفر في كتابه ( ثغرة في الطريق المسدود ) : (( لقد فقدنا الوعي الصحيح بدورنا كأفراد وجماعات في عمليات التنمية وأصبحنا جميعاً من (( أصحاب الحقوق )) .. وماأدراك ما (( أصحاب الحقوق )) إنها سمة التخلف في جيلنا .. حيث أصبحنا لانعرف إلا حقوقنا على حكومتنا .. وجهلنا تماماً واجباتنا وتكونت هنا وهناك في عالمنا الإسلامي جمعيات وهيئات للمطالبة بالحقوق .. حقوق المرأة وحقوق العمال وغيرهم . وقد آن لنا أن تتكون بيننا (( هيئات للقيام بالواجبات )) التي أغفلتها أو عجزت عنها الإدارات الحكومية . إن سيكولوجية مدمرة تتكون عندما يعيش الإنسان في أجواء المطالبة بالحقوق واللهث وراءها عند أجهزة غير قادرة على منحها .. حيث يصبح الإنسان عبداً لوهم اسمه (( الحقوق )) يستبسل في المطالبة بها وربما أعطى حياته من أجلها .. ولو أنه أنفق في سبيل الواجب بعض ماأنفقه في سبيل الحقوق لبلغ كثيراً مما يرجو من تقدم وازدهار .. إن التنمية في مجتمع ما تبدأ مسيرتها عندما ينسى أفراد هذا المجتمع حقوقهم ويذكروا واجباتهم .. إن الأمة تحتاج في ساعات (( الإنقاذ التنموي )) إلى النفر القدوة الذين لايسألون أين الرزق الوفير وإنما يسألون أين الواجب الكبير .. ولقد ساقنا الحديث عن التنمية إلى دور الأثرياء في مجالاتها لإننا نؤمن أنه في غياب الدور الحضاري للمال يمكن أن يصبح الثراء مدمراً . فعندما تصبح وسائل الثراء سريعة ورخيصة يبدأ المجتمع في الانصراف عن التنمية الحقة والتي تتطلب جهداً ومشقة حيث يصبح كل هم أفراد المجتمع أن (( يغترفوا من نهر طالوت )) ولاينتظروا ويصبروا أمام مشاكل التنمية ))(6) عندما زارنا الأستاذ ( مالك بن نبي ) في دمشق عام 1971 م وجلست معه وسألناه عن العديد من القضايا ، بدأت تضغط على عقلي فكرة ، في صدد الذهاب إلى العالم الغربي للاختصاص الطبي ، وخلاصتها إن الرحلة تحمل مبررها الكبير ليس من أجل تحصيل الفن الطبي ، فهذا هو أقل المبررات وأكثرها هامشية ، وهو الذي جعلني أيضاً أتردد في مغادرة الوطن ، في الوقت الذي كان يتسابق زملائي في شد الرحيل للخروج ، وأنا أعذرهم طبعاً فلكلٍ وجهةٌ هو موليَّها ، كان مايضغط علي ويؤرقني هو ( فعالية الغرب ) الكامنة خلف الطب وكل العلوم ، بل وخلف كل التكنولوجيا ومراكز البحث ، وهذه قضية أثرناها مع الاستاذ مالك بن نبي ، وكانت وجهة نظره أن معظم أبناءنا يذهبون إلى الغرب فلايفهمون عليه ( سر الفعالية ) وإنما يحصل معهم ماسماه _ رحمه الله _ الارتماء إما في ( مزابل الحضارة ) أو الانزواء في ( مقابر الحضارة ) ؟! ويعني بكلامه هذا رؤية الحضارة الغربية من ثقبين ، إما الفساد الأخلاقي والإباحية الجنسية الفظيعة ، وإما المخابر العلمية وبطون الكتب وأجواء المستشفيات ، والحضارة ليست هذا ولاذاك ، كما أنها لم تخلق في هذه الأمكنة . كان الاستاذ مالك يريد من الشباب المسلم والعربي ، أن يذهب إلى الأماكن التي تولد فيها الحضارة فعلاً ، كان يريد بناء بانوراما ضخمة ، وجغرافية عقلية ، لفهم الحضارة ككائن عضوي مترابط . التعرف على المؤسسات التي تحافظ على الحضارة وتطورها باستمرار ، التعرف على فعالية الفرد والشروط النفسية والاجتماعية التي تولِّد هذه الفعالية وتحافظ عليها باستمرار ( 7 ) . التفريق بين ( العلم ) و ( الثقافة ) حيث يشترك في الثقافة الرئيس والأجير ، ويختلف في العلم الطبيب عن الممرض ، ولذا فالطبيب يرجع بالعلم دون الثقافة ، وكان حرص الاستاذ مالك على الثقافة قبل العلم . الثقافة هي المحتوى الضخم لعالم ( اللاوعي ) والذي بموجبه يتصرف الفرد أمام الأحداث ، والثقافة تتشكل منذ لحظات مقابلة الإنسان للعالم الجديد بعد الولادة إن لم تكن حتى في الرحم ؟1 فالطفل الذي يتعلم منذ ساعات عمره الأولى أن العالم ( المتمثل بأمه ) أنه يستجيب له بالبكاء ، يتعلم البكاء وسيلة لحل المشاكل !! إلا أن العالم القاسي من حوله سوف يحمل له العديد من المشكلات الصعبة والمفاجآت ، التي سوف تحيل حياته إلى جحيم ونكد وإحباط ، لإن العالم يمشي وفق سننه الخاصة ، وليس هو أمه التي أفسدت ( ثقافته ) ولذا فلن يستجيب له بالبكاء والصراخ ، كما حصل مع العرب في هزيمة حرب 1967 م ، والتي لم يستجب لهم العالم فيها ، عندما بكوا وصرخوا وزعقوا باعلى صوتهم ، والتي يحاولون فيها حتى الآن إصلاح ذلك الخرق الذي لم يرقع بالشكل الملائم حتى اليوم ، هذه هي الثقافة العاجزة التي نعيش فيها بكل أسف !! وهذه هي القضية الكبرى التي كرس المفكر مالك بن نبي نفسه لها ( مشكلة الحضارة ) . هذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة في الإجابة والتفسير عن بعض الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً في البدء ، لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته بصورة غير التي كان يتصرف بها هناك ؟ فلا يحافظ على الموعد ، أو يلقي بالبقايا على الأرض ، أو يستخدم زمورالسيارة كالبقية ، أو لايتقيد بإشارات المرور ، أو يعتقد بالخرافة إلى أخمص قدميه ومخ عظامه . كما أنني أدركت أن سفرتي إلى الغرب حيثما كانت وجهتي كانت مصيرية وحيوية ، فإن أي باب من أبوابها سوف يدخلني إلى بنائها الداخلي ، سواء كان الاختصاص في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا ( الابن البكر لأوربا ) أو حتى أوربا الشرقية ، أو اسبانيا الحالمة المسترخية على ظهر جبل طارق ؟! فكما يدخل المسلم إلى الصفا والمروة من أبواب شتى ، كذلك الحال في دخول فناء كنيسة الحضارة الغربية ذات الأبواب العديدة ( 8 ) *************************** هناك مغالطة يجب تحريرها واكتشفت هذا أثناء مؤتمر حضرته في مدينة ( ميونيخ ) الألمانية في المركز الإسلامي أثناء إقامتي في المانيا ، حيث تم التعرض لمشكلة المرأة ووضعها في الغرب ، وكان محور المتكلمين في إطار ( تَسَقُطْ عورات الغرب ) والكشف عن نقاط الضعف التي يعرفونها هم بالذات وعن انفسهم أكثر مما نعرف نحن ، والفكرة التي استولت علي حينذاك وقمت في وقتها بشرحها بكثير من القوة والتحليل ، وخلاصتها الأفكار الثلاثة التالية : الأولى : إننا في الواقع وكأننا نريد تطمين أنفسنا اننا بألف خير ، طالما كان الغرب على وشك السقوط منتحراً بعيوبه التي لاتنتهي ( كذا !! ) والثانية : إننا نتأمل الغرب من خلال عيوبه وهذه فضلاً عن كونها غير عادلة فهي مضللة لنا نحن بالذات أكثر منهم ، والثالثة : فليموتوا بعيوبهم لإن ماينقصنا ليس التعرف على عيوبهم ، بل التعرف على عيوبنا نحن بالذات ، والقيام بعملية النقد الذاتي ، كي نبدأ مسيرة الإصلاح والإقلاع الحضارية ، مانحتاج إليه أكثر هو الاستفادة من مزاياهم الإيجابية ، والتعرف على أسرار الفعالية عندهم ، وينابيع القوة والتفوق . وهذا سيقودنا إلى موقف مختلف تماماً وعادل وإنساني ، فنحن لانريد تدميرهم ، كما لانشمت بسقوطهم ، ولانفرح بنكس القيم الإيجابية التي تعبوا في تحصيلها . بل يجب معاملتهم تحت قانون : عامل الناس بما يليق بك لابما يليق بهم ، من أجل علاقات إنسانية غير استعمارية للمستقبل ، كنت أقول لبعض الألمان أحياناً إن عندكم من القيم مايجب أن أدافع أنا عنه ، من أجل المحافظة عليه لإنه ذخر إنساني قبل أن يكون إنجازاً غربياً . ********************* إن العديد من القيم التي رأيناها في المجتمع الغربي ، وأزعم لنفسي معرفة متواضعة بالمجتمع الألماني ، الذي يعتبر من قمم مجتمعات العالم ، فألمانيا هي صيدلية العالم ، وأرض الفلاسفة ، ومكان الموسيقيين المبدعين ، وأرض حملة جوائز نوبل ، ولكنها وبنفس الوقت محرقة آوشفيتز وأرض الهولوكوست ( 9 ) ومستنقع العنصرية ، ومزبلة كبيرة لكل الإباحيات الجنسية ممتدة من مدينة ( فلينسبورج - في معهد بيآته BEATE - INSTITUT-IN FLENSBURG ) حتى الغابة السوداء ( SCHWARZ - WALD ) وما يهمني من الألمان ، واستفدت منهم في ذلك بأكثر من تكنيك ( شق ) الجلد للجراحة أو ( ثقبه ) بالمناظير أو ترقيع الشرايين وتقطيع الأوردة ، استفدت منهم ( أخلاقيات العمل ) فالإنسان الألماني أو الغربي عموماً قد يسكر ويخمر في الليل ويعربد جنسياً ، ولكنه في صباح اليوم التالي لايتأخر في حضوره للعمل ، لإن العمل عنده مقدس بل إنك إذا أردت تعذيب الألماني فاجعله يكف عن العمل ، ويشهد لهذا ظاهرة ( متلازمة ظهر يوم الأحد ) ( 10 ) ( SYNDROM SUNDAY - ) وهي مؤشر خطير عن ( التخوي والتجوف الحضاري ) كما يحصل مع تجوف نخاع الشجرة الداخلي مع كل فخامة القشر الخارجي . إن عندهم من الفائض في ( العملة الاجتماعية = الواجب ) مايجعل أمراضهم مسيطرٌ عليها ، وهذا يعني أن عندهم من الأمراض مايكفي ، ولكن قوتهم تأتي من مصدرين الأول : معرفتهم بطبيعة هذه الأمراض ، والانتباه الدائم لها ، ومراقبتها سواء بسواء مثل مراكز مراقبة انتشار الأمراض والعدوى ، بما فيها إدمان التلفزيون والإباحية الجنسية ، كل ذلك من خلال توفر أداة النقد الذاتية الاجتماعية ، قد تحدث عندهم سرقات ومخالفات ولكن الصحافة لها بالمرصاد ، ومن المعروف طبياً ، أن معالجة الخراجات هي في شقها وفتحها للخارج كي ترى الضوء ، كما أن أخطر أنواع الباكتريا ، هي الباكتريا ( اللاهوائية ) ، أي تلك التي تعشعش في الظلام ، والغانغرين فيه ليس له علاج إلا البتر المفتوح !! كما أن الأمراض النفسية تعالج بنقل آليات ( اللاوعي ) المختبئة في الظلام إلى ( الوعي ) أي الضوء الصحي والنور المطهر . لذا فإن آلية النقد الذاتي ( بشروطها ) هي تلك الآلية المطهرة للفرد والنفس والأسرة والمجتمع بل وحتى والمجتمع الدولي . الثاني : إن المحصلة الكمية للأخلاق الاجتماعية تعطيهم الوضع الطبي المعروف ( عدم انكسار المعاوضة ) ، فقد يمرض الإنسان كما هو في داء ( أديسون ) أي تخرب خلايا الغدة فوق الكظرية ( 11 ) المسؤولة عن تنظيم السكر والملح والهورمونات في الجسم . طبياً لاتظهر أعراض المرض حتى يحترق مايزيد عن 75% من مجموع الخلايا في الطرفين ، وعندما يصل البدن إلى هذه المرحلة يكون قد دخل في مرحلة ( انكسار المعاوضة ) والمجتمع الغربي مازال في مرحلة ( المعاوضة الاجتماعية ) ، وذلك بفضل زخم مجموع الأخلاقيات والقيم السائدة حتى الآن ، ويخطيء الكثير حينما ينعت الحضارة الغربية بصفتين : إما اللا أخلاقية أو أنها حضارة مادية ، ويجب طبعاً أن نحدد مامعنى ( المادية ) ؟؟ **************************** الحضارة الغربية لاتحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم إن شئنا أم أبينا ، سواء في جناحها الانجلو سكسوني أو اللاتيني أو الجرماني أو حتى الأصفر الياباني ، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى . ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم ، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير ، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها . إنني كنت ( شاهداً ) في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب ( أمريكا التي رأيت ) بل عاينت القوم ، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم ، وطرفاً من أسرار قوتهم ، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه ، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لايحسدون عليها ، فلم يعد الشرق يعجبهم ، كما أن الغرب لم يسعدهم ، فهم ( نفسياً ) في الأرض التي لااسم لها !! والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب ، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة ، والرؤيا عندهم واضحة مبللورة ، وهذه لايصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب ، ونحن الذي أدينا وظيفة ( الشهادة ) علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ وبأمانة . فلاشيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السوات والأرض . *************************** إنني يجب أن اعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولاعدلاً في مثل هذه الأمور - إننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم ، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق ، وهو مالاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع ( رفاعة الطهطاوي ) الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها ( الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز ) . منذ اللحظة الأولى بين بيروت و ( نورمبرغ - مكان ولادة الحزب النازي أكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط ، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة ، ولكن ثلاثين سنة لاتكفي للفهم العميق للثقافة . في بيروت وأنا نزيل الفندق الذي يدفع ثمن ( البيات ) لم أعرف طعم النوم بسببين الأول قرقعة ( القباقيب ) والثاني ( انبساط ) صاحبنا المشرف على إراحة نزلائه ، فلم يطب له النوم إلا على أغاني ( صباح وأم كلثوم ) وبأعلى صوت ، وبالطبع أنا لست ضد الغناء إلا في هذا الوقت ، أما في نورمبرغ فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر ظاهرة ( السكون ) كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً و( هادئاً ) فعرفت أنني فارقت حضارة ( الضجة والوسخ والضوضاء ) واستقبلت حضارة ( النظافة والسكون والهدوء ) إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم لإنني أنتمي إليها ، مع شعوري الذي لايختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها ، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة ، بل وشق الطريق لمجتمع مابعد الحداثة ، هذا الشعور سبب لي الألم مرتين ، فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها ( وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك !! ) ( 12 ) في الوقت الذي أزكي ( في جانب ) مزية من هم خصومنا أو من لايحبونا على أقل تقدير ، ولكن هذا ماتتطلبه الشهادة التاريخية ، ويوجبه العدل ، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا ، التي لاتحتمل التاجيل ، وكانت الملاحظة الثانية ( لاشيء في الأرض ) وتذكرت الحديث ( وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان ) ( 13 ) ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً ، وبانوراما ضخمة ، وخريطة تفصيلية ، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً ، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها ، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات ( وكيف أن في رأسهم أغنية خاصة لمشكلة البوسنة ، وإلا حلوها كما احتل هتلر كل يوغسلافيا في مدى 11 يوماً ، وليس تأديب صرب البوسنة فقط ، وبالمناسبة فخريطة الهجوم النازي قد وضعها وزير الدفاع الألماني في درجه لساعة الصفر - معلومات مجلة الشبيجل ) . يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص ، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي ( 14 ) ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها ، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة ، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة ( دوراة المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر ) . هذه النظافة ليست ( الحكومة فقط ) ورائها وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة ، والتثقيف المستمر ، والتنبيه الدائم ، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد . يقول جان جاك روسو في كتابه ( في العقد الاجتماعي ) عن القانون الرابع : (( يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً ، وهو القانون الذي لاينقش على الرخام ولاعلى البرونز وإنما في قلوب المواطنين ، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي ، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة ؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفيء ، يحرك أوارها أو يتممها ، ويحافظ على شعب في روح نظامه ، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة . وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام ، وهو فرع مجهول لدى ساستنا ، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به : ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر في حين يبدو أنه لايهتم إلا بتنظيمات خاصة ، إلا انها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع ، الأكثر بطئاً في نشوئها ، مفتاحه الذي لايتزعزع )) ( 15 ) كان مارأيناه هو ( النظام والانضباط في دقة الساعة ) و ( الدقة بحب وشغف ) ( المثابرة بجلدلايعرف الممل ) و ( التعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب بين عناصره ) و ( اليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح ) و ( النطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية والنظر في وجه السائل !! ) و ( المحافظة على الموعد إلى درجة الهوس ) و ( الالتزام ومعرفة معنى المسؤولية ) و ( الصدق فهو انفع للمعاملات والحجز وسواه ) و ( احترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة ) و ( الفعَّالية في معالجة المشاكل ) و ( البيروقراطية الميسرة ) فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لايقف ، فلاتحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج !! وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل . والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع ، فشكلت ( ظاهرة اجتماعية ) و ( تياراً مسيطراً هادراً ) وليست حوادث فردية ، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة تغلف المجتمع كله ، وتهبه اللون الخاص به ، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه . ************************ هل نريد الآن ان نفهم الأخلاق والقيم ( السرطانية ) في مجتمعنا ؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً ؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم ، وهو في صورة ثانية ( الخلل الوظيفي الزماني المكاني ) ، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة ، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكان خاصاً بآخرين ، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع ، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير ( سرطان العظام ) ، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة ( سرطان الجلد ) ، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب فيه في الكبد والرئة بل والدماغ ( سرطان الكولون ) ... ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات .. ويشذ الناس على القانون .... إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى ، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء ، أو هو يسير نحو الفناء لإنه فقد مبرر الحياة ، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة ( 16 ) ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد ، تموت الجماعات ، وتدول الدول ، وتفنى الأمم ، وتنقرض الحضارات فـ ( لكل أمة أجل ) ومن خلال السرطان النوعي الخاص بكل مستوى . هوامش ومراجع : ( 1 ) يجب أن نستثني من هذا الوضع اكتشاف السرطان المبكر قبل انتشاره مما يحسن إنذار المرض عموماً حسب المرحلة التي يضبط فيها ، والجراحة الحديثة تحاول فك هذا اللغز ، بحيث تكتشف بشكل مبكر الخلايا المتسرطنة المتحولة الأولى فتقضي عليها ( 2 ) دُمر أقرب الناس إلي اقتصادياً تحت أسنان سمك القرش الاقتصادي الجدد وبالطبع كنت من المدعوين لهذه الوليمة إلى فم الحوت ، كيف لا والأرباح الفلكية تلمع ( للمغفلين ) ، ومن الغريب أنه بعد كل الكارثة لايصدقون أن ماحدث هو اقتصاد ( سيقان الخشب ) بل مازالوا يعيشون أحلام ( النظرية التآمرية ) ؟؟!! ( 3 ) هذا المصطلح هو للمفكر الجزائري مالك بن نبي ، تأمل مثلاً الذي لايحترم شارات المرور ، إنه يشعر أنها لم توضع له ، فهو فوق القانون ولكنه يدمر النسيج الاجتماعي الذي يحافظ عليه بالذات ، ويذكر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه هل للإنسان مستقبل عن حماقة الحمار ، أنه يأبى أن يخرج من الزريبة أثناء الحريق مع كل حرص الآخرين على إنقاذه ( 4 ) مما كان يلفت نظري في ألمانيا أثناء وجودي الطويل فيها أن الموظف يعامل المراجع على ثلاث قواعد الأولى : إنجاز مسألة واحدة في وقت واحد ( وماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه !! ) فهو يهتم كل الاهتمام بمن هو أمامه وينسى كل النسيان من هو خلفه ، بل إذا أراد التكلم معه لم يرد عليه ، الثانية : الإنجاز الكامل والدقيق لوحدة العمل التي يتعامل معها ، وهكذا فمحاسب الصندوق لايبدأ مع الشاري الثاني مالم ينتهي من الأول قبضاً وتسديداً الثالثة : الاهتمام بالإنسان الواقف أمامه فيعطيه كل وجهه مع الكلمة الطيبة والابتسامة العذبة ليسأله في النهاية إن كان هذا كل شيء أو هناك ماتبقى لقضاءه ، وأريد أن أسجل لموظفي الخطوط السعودية سبقهم في هذه الأخلاقيات ( 5 ) أول من التفت إلى فكرة القانون الاجتماعي هو العلامة ابن خلدون ، لتتوقف من بعده ، ثم ليعاد بعثها من جديد على يد عالم فرنسي هو ( أوجست كومت ) ( 1797 - 1857 ) صاحب مدرسة ( الفلسفة الوضعية ) يراجع في هذا كتاب دراسة المجتمع - مصطفى الخشاب - مكتبة الانجلو مصرية - ص 35 ( 6 ) ثغرة في الطريق المسدود دراسة في البعث الحضاري _ د . محمود محمد سفر \ د . سيد دسوقي حسن _ سلسلة آفاق الغد - ص 78- 82 ( 7 ) يراجع كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي بحث الأفكار القاتلة والأفكار الميتة ( 8 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن حقل الدراسة التاريخية - ترجمة فؤاد محمد شبل - جزء 1 ص 3 حيث يعجز عن شرح التاريخ البريطاني منفرداً وإنما يمكن فهمه من خلال وحدة الحضارة الغربية ( 9 ) من الأرض الألمانية انطلقت الحروب العالمية ، التي أزهقت أرواح مالايقل عن سبعين مليون البشر ، ونزاعاتهم مع جيرانهم لاتنتهي خاصة الفرنسيين ، وأما محرقة اليهود على أيديهم فتعجز عنها حتى أبالسة الجحيم ، فمصطلح ( هولوكوست - HOLOCAUST ) أي المحرقة هي تلك العملية المنظمة التي شحنت اليهود من كل أوربا إلى معسكرات الاعتقال الجماعية ، والموت في غرف الإعدام بالغازات السامة ثم المحارق المخصصة ، واشتهر معسكر ( آوشيفيتز ) في بولونيا بشكل خاص حيث التهمت نيرانه اليهود وغيرهم بالملايين ( 10 ) من الغريب أن الألمان يشعرون بالكآبة يوم الأحد بعد الظهر ، لإنهم سوف يستقبلون يوم العمل والواجب في اليوم التالي وهو أمر متناقض مع شعب العمل والشغف به أعني الشعب الألماني ، وهذا يوحي بالمرض الداخلي العميق للإنسان والمجتمع الألماني ، بل والمجتمع الغربي للمستقبل البعيد ، وهذه أمراضهم ولكنها أدويتنا فما ينقصنا نحن ليس التنافس في الكسل بل العمل ( 11 ) غدة الكظر تجلس فوق الكلية في كل جانب بوزن حوالي ثلاثين غراماً ، مكونة من لب مسؤول عن تنظيم الضغط الشرياني من خلال إفراز هورمون خاص هو الأدرينالين ، وقشر يفرز ثلاث أنواع من الهورمونات لتنظيم الاستقلاب السكري والملحي والهورموني ، بالاشتراك مع البانكرياس والغدة النخامية في الدماغ والخصيتين أو المبيضين ( 12) من أفلام التراجيديا الفرنسية فالفارس ( سيرانو دي بيرجاك ) الذي يستطيع هزيمة مائة ويحب ابنة عمه ، يحمل أنفاً كبيراً اعطاه دمامة فحجبه عن طلب يدها ، وتمضي القصة في اعتصار قلب البطل حتى لحظة الموت التي يبوح فيها بالحب لابنة عمه ( 13 ) من العجيب في هذا الحديث الذي هو من ثقافتنا أنه ينص على أن الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها شهادة أن لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ، فنحن ليس فقط أننا لانرفع القذى من الطريق ، بل نلقي زجاجات الببيسي كولا ، وهذا يعطي فكرة أن التعطل العقلي يحرم من الاستفادة من كل الكنوز حتى لو وجدت في الثقافة ، ويجب ان نسجل لبلديات المملكة إنعاشنا بالنظافة والمنظر الجمالي الذي عهدناه في أوربا ( 14 ) يراجع في هذا كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية لفيلسوف عالم الاجتماع الألماني ( ماكس فيبر ) عن أثر الأخلاقيات البروتستانتية في انتشار الرأسمالية روح الادخار + روح المبادرة + قيمة الشغل ( 15 ) في العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم ص 101 ( 16 ) يراجع بالتفصيل كتاب الطب محراب الإيمان - جزء 2 - للمؤلف عن السرطان والتمرد في الجسم - دار الكتب العربية ص 103 .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram