ليس ثمة عدو للإنسان أكثر من فقده لصبره. وفي سورة مختصرة قصيرة ثمة تركيز على أربع صفات هي مفتاح تشكيل شخصية المؤمن في العصر إنه لفي خسر إلا الإيمان والعمل الصالح والمحافظة على ضبط النفس وتدريبها بالصبر والتواصي بالحق والحقيقة.
هذه الصفات إنسانية المنشأ هي عمود فقري في كل ثقافة والله لايحب الظالمين. أنا شخصيا اطلعت على ثقافات متباينة ورصدت كتابي (كليلة ودمنة الجديد) متتبعا آثار ابن المقفع فوضعت 200 قصة من التراث العالمي في أربع مجلدات عن القصص العالمية ودروس الإيام وعظاتها. وبين يدينا الآن قصة رائعة عن مزيج لايصل إليه إلا الأفراد القليلون من ضبط النفس والصبر والتخطيط البطيء مثل من يلعب لعبة الشطرنح. من هذه القصص وقعت على ثروة رائعة عند الكاتب روبرت غرين في كتابه القوة (Power) وقام بترجمة الكتاب البيجرمي على نحو جميل. وهذا الكتاب قبل ترجمته إلى العربية وقعت عليه في مجلة در شبيجل الألمانية حين أشاروا إليه واعتماد 48 قاعدة في لعبة القوة. من هذه القصص أضع بين يدي القاريء هذه القصة المعبرة عن جدلية المكر والصبر.
في العشرينات من القرن العشرين استطاع الامبراطور (راس تافاري) الذي اتخذ لاحقاً اسم (هيلا سيلاسي) توحيد الحبشة بين قبائل تتناحر وزعامات من رجالات الحرب لانهاية لهم. وكان ما يلفت النظر شكله الناعم وطبقة صوته المنخفضة. وبدأت تلك الزعامات بالتوافد عليه إلى العاصمة (أديس أبابا) لإعلان الاخلاص والطاعة للعرش الامبراطوري. وكان توافد الرجال بين مستعجل ومتردد أو متباطيء ولكن رجلاً محارباً شديدا هو (جازماخ بالخا) من (سيدامو) في الجنوب رفض الدخول مع الداخلين. وكان رجلا محاربا يخشى جانبه. وانتظره هيلا سيلاسي طويلاً بدون فائدة حتى كان اليوم الذي طلبه الامبراطور للحضور إلى العاصمة ليقابله فتظاهر بالامتثال وحضر ومعه جيش من المحاربين قوامه عشرة آلاف مقاتل حتى وصل قريباً من العاصمة فعسكر على بعد خمسة كيلومترات على أمل أن يأتي إليه الامبراطور شخصياً وإلا كانت البداية لإشعال فتيل الحرب الأهلية. إلا أن هيلا سيلاسي كان طويل البال لم يعهد عنه الغضب أو فقد الأعصاب وكان قد أعد له خطة محكمة تسير وفق مراحل مثل لعبة الشطرنج تماماً بمكر سياسي بارع. قام هيلا سيلاسي أولاً بإرسال من يفاوض له ويدعو بالخا للحضور إليه بدون خوف أو مكيدة. ولكن بالخا كان يعلم معنى حضوره انفراديا أن مصيره سيكون مثل أبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور فأبى الحضور إلا مع جنده فوافق هيلا سيلاسي وقال إنه شرف كبير أن يستقبل محارباً شهما مع جنوده الشجعان في قصر الحكم.
قام بالخا بانتقاء 600 من خيرة جنوده وأوصاهم أن لا يفرطوا في الشراب وأن يبقوا مستيقظين لأي بادرة خيانة. ثم سار بجنوده لمقابلة الامبراطور الذي أظهر له من الحفاوة والكرم الشيء الكثير. وعندما دخلوا القصر أظهر هيلا سيلاسي من ضروب الاحترام ما أشعر بالخا أنه من يقرر الأمور وأن سيلاسي يحتاج مساعدته بشكل ملح لتسيير أمور الدولة والحكم ومقتضيات السياسة. إلا أن بالخا لم يكن بذلك الأحمق فحذر هيلا سيلاسي أن عليه العودة إلى معسكره مع الغروب وأنه قد أعطى تعليماته لجيشه المرابط أن أي تأخر في الحضور يعني المكيدة وعليهم مهاجمة العاصمة. كان ارتكاس الامبراطور هادئاً وأظهر له أنه بعدم ثقته به يعني الكثير من جرح الكرامة. ثم دعاهم إلى تناول الطعام المعد بعناية. وعندما جاء دور العزف الموسيقى لم يكن هناك سوى تمجيد بالخا القادم من سيدامو.
هذه الخطوات أدخلت الى قلب بالخا أن هيلا سيلاسي خائف منه وأنه أمام هذا المحارب العنيد يطلب وده بأي ثمن. ثم بدأ يفكر في مصير الامبراطور هل سيرسله إلى حبس انفرادي لبقية عمره أو يقضي عليه. وقبل الغروب انصرف بالخا وجنوده مزهوا بقوته بين صرخات التحية وعيارات نارية تحية من أهل العاصمة. وعندما ألقى النظرة الأخيرة بدأ يفكر في كيفية الانقضاض على العاصمة في الأسابيع المقبلة. ولكن المفاجأة الكبيرة له كانت عندما رجع إلى معسكره ليجده خاوياً على عروشه فلم تبق خيمة أو رجل. وعندما سأل روع بالخبر فقد جاء جيش تابع للامبراطور يحمل الكثير من المال والذهب فاوض الجنود على تسليم أسلحتهم ومن امتنع مارس عليه التخويف وخلال ساعات مزقوا شر ممزق فتم نزع سلاح الأفراد وتفرقوا مع الأموال في البلاد. وعندما أراد بالخا العودة بمحاربيه الستمائة إلى الجنوب من حيث جاء بقوته قطع عليه نفس الجيش الطريق ولم يبق أمامه إلا أن يمشي باتجاه العاصمة وهناك كان الامبراطور بتحصينات كبيرة في انتظاره. وللمرة الأولى في حياته يستسلم بالخا. وعندما أجبره هيلاسيلاسي على دخول معبد يقضي فيه بقية حياته قال قبل هذه اللحظة الرهيبة إياك أن تستخف بخصمك (هيلا سيلاسي) فقد يبدو في خطوة الفأر ولكنه ينتقم كسبع ضاري.
إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب وهو مافعله سيلاسي مع خصمه الذي ظن أنه يأوي إلى ركن شديد فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة.
اقرأ المزيد
نفهم أن يؤثر شخص على شخص أو اثنين، ولكن تبقى (ظاهرة) تخريج جيل كامل من الرجال المميزين فهي أقرب للمعجزة.
ليس فقط الصديق أبو بكر، وعمر الشديد الفاروق، وأمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، وعلي بن أبي طالب القاضي العادل كرم الله وجهه، وخباب بن الأرت، والأرقم بن الأرقم صاحب أول بيت للدعوة، وحذيفة بن اليمان أبو الأسرار وكاشف المنافقين، بل وعشرات ومئات. ليس فقط الرجال بل النساء، أول من أسلم كانت امرأة خديجة رضي الله عنها، وأول من استشهد في سبيل الله فقتل كانت امرأة سمية، والمرأة كانت خلف إسلام ثاني رجل في الإسلام عمر بن الخطاب، أخت عمر فاطمة، عائشة كانت المرأة الذكية التي حملت ثقافة كاملة للجيل التالي من التابعين، وخولة وعفراء وأم حرام وأم سليم، إنه جيل مميز فريد. دفع صديقي عبد الحليم أبو شقة أن يكتب موسوعة بعنوان «تحرير المرأة في عصر الرسالة».
وحين نعرف قصة كل واحد منهم نقف أمام لوحة من العظمة الإنسانية. علينا أن ندرك أن امتداد الإسلام بدأ نواة مصغرة في الجزيرة العربية، حين وفاة نبي الرحمة (ص)، ولكن انتشاره تم في عهد الصحابة الميامين، في ظل دولة عادلة راشدة.
علينا أن نتذكر بعض القصص منهم وعنهم، لماذا سمي أبو بكر بالصديق؟ كانت حادثة الإسراء والمعراج. قال كفار قريش إنها فرصة أن نزعزع إيمان ثاني اثنين إذ هما في الغار. هرع الناس وهم يهتفون أي أبا بكر بن قحافة اسمع ما يقول صاحبك لقد ذهب ليلا إلى فلسطين ورجع، وأحدنا يحتاج شهرا يخب خبا ليصل تلك الأرض. توقع الذين يخبرونه بالخبر أن يتفاجأ وينكر صاحبه.
في الإنجيل قصة تروي الفارق بين أعظم رجلين في الإسلام والنصرانية؛ أبو بكر وبطرس، في ليلة العشاء الرباني الليلة الأخيرة قبل نهاية قصة يسوع المسيح، يجتمع عيسى بن مريم بالحواريين جميعا على مائدة أخيرة؛ هي حسب القرآن كانت معجزة المسيح الأخيرة، وسميت سورة باسمها سورة «المائدة» لأنهم طلبوا أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم. في تلك الليلة قام عيسى بن مريم، فغسل أقدام الحواريين يعلمهم التواضع قائلا الصغير فيكم كبيرا، وفي النهاية بلغ الحماس ببطرس أن قال للمعلم وهو يودعهم إن أمرا جللا بانتظارهم، قال يا معلم نفسي فداك لن نسلمك ولو بأرواحنا. التفت إليه يسوع وقال يا بطرس سوف تنكرني ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك. في تلك الليلة تم القبض على المسيح وسيق إلى الاتهام بزعمه أنه ملك اليهود وأنه يهدم المعبد ويبنيه في ثلاث ليال.
في تلك الليلة بعد أن تفرق الحواريون عنه بدأ الناس يتهامسون لرجل مار بينهم يسترق السمع عن مصير المسيح، أنه بطرس، وهو ينكر نفسه أن يكون من تلامذة المسيح، إلى أن صاح الديك وقد أنكر المعلم ثلاث مرات، كما توقع له المسيح. خر الرجل باكيا وعرف مقدار ضعف الإنسان. بطرس حسب الروايات، وصفه المعلم أنه الصخرة التي سوف تستند إليها الكنيسة. في ذلك الامتحان سقط.
مقابل قصة بطرس الرسول تأتينا قصة أبو بكر رضي الله عنه، ولماذا سمي بالصديق. إنه حينما نقلوا إليه خبر ذهابه في ليلة واحدة إلى القدس وعودته منها التفت إليهم أبو بكر وقال لهم، هل هو من قال هذا؟ قالوا نعم صاحبك. قال إن قالها هو فقد صدق؛ فإني أصدقه بخبر السماء، وهو يأتيه كل يوم وليلة. في تلك اللحظات من الصمود والوجدان والتصديق نال لقبه عبرالتاريخ أنه ليس أبو بكر بن أبي قحافة، بل أبو بكر الصديق. كما نالت يثرب اسمها الخالد المدينة المنورة.
في كتاب «أخبار عمر» للأخوين علي وناجي الطنطاوي نسمع مسلسل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاث حلقات؛ الأولى حين حاول أن يتسلل تحت لباس الكعبة ليفاجيء المصطفى في صلاته عند بيته المحرم، عسى أن يجفل؛ فإذا به يسمع فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من سورة «الحاقة» (38ـ 39) فقال في نفسه، أي عمر رضي الله عنه إنه فعلا قول شاعر، وإذا بالسورة تجيبه وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. هنا ردد من جديد إذن هو قول كاهن؟ تابع الرسول (ص) القراءة ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين. ارتج عمر وانسحب ولكن لم يؤمن بعد.
أثناء هذا كان النبي (ص) يطمع في نصرة أشد القوم في قريش، ويردد اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين. من نال الجائزة كان الفاروق، أما الثاني فكان عمرو بن هشام، الملقب بأبي الحكم ليصبح اسمه في التاريخ أبو جهل.
الحلقة الثانية من إسلام الفاروق كانت حين رأى بعضا ممن يعرف وهم يهاجرون بدينهم إلى الحبشة. يأتي فيسألهم إلى أين الرحيل؟ يقول المهاجر نفر بديننا منكم. ولكنه يلاحظ في وجه عمر رضي الله عنه رقة غير معهودة. تلتفت إليه زوجته وتقول أتطمع في إسلامه؟ يجيب لا أدري. تعقب زوجته حينما يسلم حمار الخطب سوف يؤمن عمر بن الخطاب.
أما الحلقة الثالثة والأخيرة فهي عندما أراد ضرب أحد الصحابة، حينما رآه يقرأ طرفا من القرآن فيلتفت إليه الصحابي ويقول ارجع إلى صهرك وأختك لتعرف أنهما أسلما. صعق عمر وركض باتجاه بيت أخته فعلا ليراهما وفي أيديهما صفحة يقرآن فيها شيئا من القرآن الكريم. ينقض عمر ضربا على صهره فتقاوم أخته وتقول نعم يا عدو الله لقد أسلمنا. يهدأ عمر ثم يطلب الصفحة التي كانا فيها يقرآن، يعطيانه الورقة بعد تردد. حين يقرأ آيات من سورة «التكوير» إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت. يخشع عمر ويطلب مكان اجتماع الصحابة، وحين الوصول يخاف المجتمعون، ثم يسمحون له بالدخول، وهنا تحدث المفاجأة الكبرى حين يتشهد عمر، ويسمى الفاروق ويكون ثاني الخلفاء الراشدين، فأي فرق بين عمر الجاهلية وعمر الإسلام؟
يرسل الرسول (ص) (خالد بن الوليد) في سرية ويقول: أنت الأمير فيها، ثم يرسل مددا إلى الحملة، ويكون بينهم (أبو عبيدة بن الجراح) ويقول له حين تلتحق بخالد تكون لك الإمارة. يصل أبو عبيدة ويخاطب خالد بالرسالة. يمتنع خالد ويقول بل أنت ردف لي. ماذا نتوقع من الصحابي الجليل أبو عبيدة، الذي أخذ لقب أمين الأمة. يقول لخالد المتحمس سأطيعك ولو عصيتني. تمضي الأيام ويخوض كلا القائدين أعظم معارك التاريخ. وحين يجتاح الطاعون المنطقة، يقول عمر في آخر لحظات حياته بعد أن مات أبو عبيدة في الطاعون، لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته.
هناك من تتبع أخبار الصحابة ليعرف أن أبا أيوب الأنصاري مات على أسوار القسطنطينية في إحدى الحملات، ولتموت أم حرام في حملة على قبرص، وليهزم خالد جيوش هرقل في اليرموك، وليتقدم سعد بن أبي وقاص إلى بلاد فارس فتختفي من مسرح التاريخ.
كان هذا الجيل مميزا من القرون بكل أسف قتل الكثير منهم في معارك الردة، ولولا ذلك لاختفى الإسلام من وجه الأرض، فقد كان التحدي الأعظم في وجه انتشار الإسلام في الأرض وانسياحه عبر القارات. وبفضل جيل الصحابة امتد الإسلام من الصين حتى جبال البيريني. ثم دار التاريخ دورته كالعادة ليتحول من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
اقرأ المزيد
نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة واكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه. (الجينات) الشيفرة السرية للخلق تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. الجينات في الخلايا تحدد العمر والاستعداد لمرض السكر والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه. علينا أن نتنفس والا اختنقنا، أن نأكل ونشرب والا هلكنا. وأن نمارس الجنس والا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية فلانستطيع الانتقال بسرعة الضوء في استحالة يفرضها قانون النسبية باستهلاك طاقة لانهائية وتوقف كامل في مربع الزمن. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال الى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي الى الحياة بدون ارادتنا، ونخرج منها بدون ارادة ورغبة بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته لانتحكم في وقت المجيء اليه في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة الى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف الى مستودعات النسيان فلاتسمع لهم ركزا.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الانسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لاشيء اذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه واللانهائي الذي يغمره.
نحن لانستطيع ركوب آلة الزمن فنعود الى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومين بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن أسرى (ثقافة) ننتسب الى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه. من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا. كذلك كان الانتساب الى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في راوندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في افغانستان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو أو وسوريا في مملكة القرود يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج ترجع رفاهيته الى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين، ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي قد يكون رهين الاعتقال، لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، لايستطيع فتح فمه الا عند طبيب الاسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الارجنتين، أو لاجئا سياسيا في السويد والمانيا، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والابكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البايولوجيا فقد يفر عراقي الى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتننق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الانسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات، والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت، وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والاذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: من ظهر الأرض الى قبر السجن، ومن دفء الجماعة الى برد العزلة، أومن شاطيء الحياة الى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.
هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات وزنزانة الزمن وقفص الثقافة ومعتقل المجتمع.
مع هذا فلايتقدم المجتمع الا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الانسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا وتطور. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة. ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دروة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها الى لمواجهة حادث مروع.
العجل يمشي بعد الولادة بساعات والارانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الانسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي.
نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين ولكن الانسان وضع قدمه على القمر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الانسان يقودها (لاوعي) أعمى.
ثقب العين صغير ومنه يرى الانسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى الا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايرى منه عشر معشار مالايرى، لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الانسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون.
كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابن أفضل منه.
اقرأ المزيد
(5) اللمعة الخامسة من القرآن
في مطلع سورة البقرة ندخل أولا إلى عالم الحرف بعدها مباشرة إلى عالم الغيب . القرآن يقول علينا أن نتحرر من (الريب) الشكوك. فهي الهداية وهو عالم التقوى. وأول صفة لهذا الصنف من الناس أنهم يؤمنون بالغيب كآلية خلق للضمير الجديد.
الم (ثلاثة حروف بدون معنى ولكن الحرف هو مفتاح اللغة والكتابة هي الذاكرة الجديدة للبشرية).
(ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين).
نحن إذن أمام ثلاث أفكار الحرف والذاكرة البشرية والعلم
مراحل العلم:
هناك شيء أولي وهو (السنة) وهذه تمثل استقرار الحقيقة الموضوعية في الوجود الخارجي للذهن، وانتقال هذه الحقيقة إلى الذهن وترسخها فيه هو (العلم) والرسوخ يتفاوت بدرجات والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب، ثم تأتي مرحلة التعبير أو النطق علمه البيان إنه البيان عن هذه الحقيقة، ولكن البيان يختلف مردوده بين الصحة والخطأ على قدر صواب أو خطأ استواء الحقيقة في الذهن، وأخيراً حبس هذا المعنى وتقييده في رسم معين وهذه هي (الكتابة) والكتابة هي الذاكرة الجديدة للبشرية والتي تنمو إلى ما لا حد له، وبواسطة الكتابة استطاع الإنسان أن يضيف إلى ذاكرته ذاكرة الآخرين بل ذاكرة البشرية المتراكمة ببطء عبر القرون وهنا بدأ التاريخ، ومنها بدأت خبرات البشر بالتراكم والاستفادة منها ونقلها من جيل إلى جيل.
(الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
معنى الحرف:
عندما تكونت الكتابة تشكلت ذاكرة جديدة للبشرية، وحصلت طفرة هائلة للبشرية لأن المعلومات البشرية بدأت بالتراكم والتكديس والتفاعل، وبدأت بذور نهضة الحضارات حيث أن الكتابة بدأت بصياغة البشرية صياغة جديدة، هذه المرحلة من اكتشاف الكتابة تعتبر أخطر تطور في تاريخ البشرية، لأن اكتشاف الحرف كان معناه تحويل النطق إلى كتابة تعبر عما تريد وتنقله إلى الأجيال القادمة، وهذا معنى كبير أشار إليه القرآن بالتركيز على الحرف في كثير من فواتح السور آلم أو في الإشارة إليه عند خلق آدم وعلم آدم الأسماء كلها القدرة على التعبير بالكتابة، واكتشاف اللغة لا يقل في أهميته عن مرحلة تحول الإنسان من فترة ما قبل الاجتماعية إلى الفترة الاجتماعية، أو هو بتعبير أدق: إن اكتشاف الكتابة رافق دخول الإنسان الحضارة، إن الإنسان لم يدخل التاريخ لولا الكتابة ـ على الأقل التاريخ المقروء ـ لذا كان من الأهمية أن يفتتح القرآن بالحرف (14 حرف تجمعها جملة نص حكيم قاطع له سر) في 29 سورة وهو يؤكد على الحرف.
ويبرز معنى آخر وهو البدء بالدورات الحضارية في التاريخ، لأن العديد من المجتمعات مر على تراب هذه الأرض، ولكنها كانت مجتمعات بدائية، قدرها المؤرخ توينبي في حدود 600 ستمائة مجتمع، ولكن لم يكتب إلا لعدد قليل من المجتمعات أن ترفع (حضارة) وهي في حدود (32) اثنان وثلاثون مجتمعاً ما زال منها على قيد الحياة خمسة فقط منها المجتمع الإسلامي الحالي [رأي توينبي الحضاري].
كان البدء بالدورات الحضارية مقترناً بالكتابة والقراءة أو معرفة الحرف، ولم يتسن للبشر أن يتقدموا بسرعة إلا بعد تطوير الحرف، خاصة بعد انتشار الطباعة والتصوير وصولا إلى عالم النت، وهنا يجدر أن نلفت الانتباه إلى ظاهرة وهي بروز الرسالات بشكل متواتر في هذه المرحلة من نهضة الحضارات، وليس معنى هذا انعدام النبوات في الفترات السابقة وان من أمة إلا خلا فيها نذير ولكن اقتران الحضارات بانبعاث الرسالات يجعلنا نشارك الأستاذ مالك في رأيه القائل بأن النبوات كانت العامل الكيفي المركب والباعث للحضارة، وإن كان هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل خاص نرجو أن نوفق إلى تناوله في بحث خاص..
أخطر مراحل العلم:
رأينا فيما سبق أن مستويات الوجود الواعي هو السنة كوجود موضوعي، ومردودها الصحيح في الذهن هو العلم، والتعبير عنه هو البيان، وتقييد المعنى برسم معين هو الكتابة ولكن يا ترى ما هي أخطر المراحل التي يضل فيها البشر ومنها تنبع المشاكل؟ طالما كانت سنة الله في خلقه لا تتبدل وهي واحدة ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا التبديل بتغييرها أصلاً، والتحويل بحرفها عن مجراها.
إن أخطر المراحل هي في تكوين الصورة الذهنية كمرحلة تالية للحقيقة الموضوعية، إن مردود الحقيقة الموضوعية الخارجية في الذهن له ثلاث حالات:
أ = 0 (مساوي للصفر)
ب أصغر من 1 (أصغر من الواحد)
ج = 1 (مساوي للواحد)
(أصغر من الواحد) = 1 (مساوي للواحد)
أما مساوي الصفر فهو الخطأ المطلق، وأما مساوي الواحد فهو الصحة المطلقة، وأما الأقل من الواحد فهو الاقتراب من الصحة بمقدار ونسبة متفاوتة.
اقرأ المزيد
الحديث التاسع من سلسلة الأحاديث الحيوية
كان هدفي من هذه الأحاديث أو تأسيس قناة لي بعنوان (رحلتي في عالم الطب والفكر) هو أن أدخل القبر وقد فرغت مافي رأسي. بالمناسبة اطلعت على كتاب لكاتب فرنسي بهذا المعنى، أرسله لي صديقي المغربي (عبد الرحيم طوط) من مدينة الجديدة واسميه رجل الحضارة لفعاليته ونشاطه وتنظيمه ونظافته وسعيه. سألته عن اسم العائلة؟ قال طوط تعجبت؟ قال والدي كان يقاتل مع الفرنسيين فوقع أسيرا في يد الألمان وحين تمكن من الفرار تحت زخات الرصاص أخذ اسمه! قلت له كلمة طوط بالألمانية معناها ميت (Tot) فلربما اعتبروه يومها في عداد الأموات ومنها أخذ اسمه.
وحين أمر أحيانا على أوقيانوس اليوتيوب أتذكر حديث (الجمعة لمن سبق) فمن ركب عباب هذا البحر مبكرا قبل سنوات لربما حاز على جماهير هائلة تعد بالملايين. قالت لي زوجتي الأمر أكثر من ذلك هناك دفوعات مالية لمن حقق أرقاما معينة؛ فهناك إذن مايسيل لعاب من يعمل في هذا (اليانصيب = toto loto).
وأحيانا أرى أرقاما مذهلة مثلأ لشيخ يتحدث عن لعق الأعضاء التناسلية فيحقق عدد من المشاهدين مليون ومائة ألف. وثمة سياسي كذاب من نموذج أبو طلالة تنبأ بحرب بين أمريكا والصين مع نهاية عام 2020 م ولم يحدث شيء بالطبع، ولكن جمهور المشاهدين كان يحملق وهو يسمع التخريفات، بل إن صديقا لي أبو فراس المطوع من السعودية أرسل لي عن هذا الرجل وأخر من دجالي الهند اسمه عمران لسن متقن للسان ريتشارد قلب الأسد، يتوقع نهاية العالم، والناس تحملق مفتوحة الفم يجد الذباب طريقا للدخول اليه من شدة الاتساع! أو فيديو أرسله لي أخ فاضل من البحرين لفتاة تتعرى وتتبول مثل خنزير بري وقد استهوى الملايين من التافهين مؤشرا لحضارة ودعت الحياء والإنسانية معا. وما يأتيني من هذه القمامات أكثر من رمال صحراء تندوف والربع الخالي.
المهم في القرآن ثمة آية في آخر سورة المائدة تقول (لايستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) (المائدة الآية 100) وهذا يفيد أن الطبيعة لاتعتمد على الوفرة فقط؛ فالعناصر النادرة مثل اليورانيوم قليل نادر ولكن تصنع منه القنابل الذرية أو توليد طاقة تكفي مدينة بقبضة من ترابها. وجهنم تقول هل من مزيد. وفي الإنجيل ما ارحب الطريق الذي يقود إلى الهلاك وكثيرون الذين يسلكونه. لذا فإن الحديث الذي نسوقه عن منظر يفلج وهو حضور نبي إلى مشهد يوم القيامة ولا مرافقين له من قومه فكان غريبا بينهم.
بالمقابل علينا أن ننتبه جدا لهذا القانون فهو يصدق لأن البذرة لم تجد أرضها المناسبة، ولكن الكثير من الأفكار الضالة تجد طريقها وتنتشر. مثل البعثية العبثية أو زحوف ملالي طهران باللطم والشتيمة للصحابة أو النازية والفاشية والشيوعية الصفراء.
هنا ينطبق قانون هام هو أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. أو القانون الموجود في سورة إبراهيم عن مثل الكلمة الطيبة والخبيثة، وأن الثانية تصبح أيضا شجرة كبيرة، ولكن نهايتها أن يخسف بها فلا تدوم، لوجود عناصر الموت داخلها، كما في النظام البعثي العبثي في سوريا والعراق الذي أصبح في مزبة التاريخ أو الشيوعية الصرفاء مع ربها لينين ونبيها ستالين وحوارييها خرا تشوف، أما الكلمة الطيبة فتبقى مثمرة إلى أبعد الآجال. وهكذا يجب فهم قانون الحديث عن قانون الكثرة والقلة.
عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لي سَوادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فقِيلَ لِي: هذا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقَوْمُهُ، ولَكِنِ انْظُرْ إلى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فإذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقِيلَ لِي: انْظُرْ إلى الأُفُقِ الآخَرِ، فإذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقِيلَ لِي: هذِه أُمَّتُكَ ومعهُمْ سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخاضَ النَّاسُ في أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، فقالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ ولَمْ يُشْرِكُوا باللَّهِ، وذَكَرُوا أشْياءَ فَخَرَجَ عليهم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: ما الذي تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فأخْبَرُوهُ، فقالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقامَ عُكّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ، فقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فقالَ: أنْتَ منهمْ؟ ثُمَّ قامَ رَجُلٌ آخَرُ، فقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فقالَ: سَبَقَكَ بها عُكّاشَةُ.
اقرأ المزيد
(8) الحديث الثامن من سلسلة الأحاديث الحيوية
يصف القرآن المجتمع الفرعوني أنه طبقات . ثمة طبقة تستبيح أخرى. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم. وحين لايبق مجتمع مواطنة فهو مؤشر إلى سير المجتمع في ليل التاريخ. وحين بدأ رسول الرحمة ص في بناء مجتمع جديد انضم إليه صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي بلون جلود تتراوح من أشد البياض إلى أشدها سوادا. كانت دعوة أممية ولم تكن جاهلية ولا قبلية ولا عائلية. وأول شيء فعله رسول الرحمة ص في المدينة ثلاثا. بناء قلب المجتمع المسجد. ونهاية القبلية فلم يبق أوس وخزرج وقرشي بل أخوة مهاجرون وأنصار. ثم بناء مجتمع المواطنة بالمواثيق مع اليهود بثلاث مجموعات بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة. وبذلك انتهينا من بني أمية ومن التشيع ومن الدم. إلا أن هذا لم يدم وسجل لنا التاريخ فشل التجربة بسرعة. فولدت بيزنطة بمعطف قبلي وفارس بعباء حسينية والدمويون داعش القديمة. وعند حافة معركة صفين نسمع قول عقيل أخو علي يقول إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وإن معاشي مع معاوية أقوم لحياتي. وبذا ينشطر الضمير وما زال. ويبقى السؤال لماذا.
الحديث الذي بين يدينا يفتح عيوننا على بوابة الجحيم: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ثم يقسم رسول الرحمة أنهم سينفذ القانون ولو على ابنته.
حاليا نلاحظ هذا نحن من يعيش في كندا. أنا متيقن لو أن جاستن ترودو خالف إشارات المرور فسوف يلحقه (تيكت) غرامة المخالفة فالقانون يسود. أما في الشرق المنكوب فمن يحكم هي علاقات مريضة ولذا فهي تدفع ثمن المخالفة.
إنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُمْ شَأنُ المرأَةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكلّمُ فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومَنْ يَجترئُ عليه إلا أُسامَةُ بن زَيدٍ، حِبُّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فَكلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أتَشفَعُ في حدٍّ مِنْ حُدودِ الله؟ ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ الله لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا
اقرأ المزيد
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد اختصرها في ست عناصر رئيسية توَّجَها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ماسماه: بالسلام العقلي (PEACE IN MIND) ويرى أن أهم مظاهره هي أن ينام الانسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو مايذكرنا بالقرآن الكريم الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و (الحزن): (ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في تكرار ملحِّ في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس الى هذه الحقيقة الملِّحة؟ وماهي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ ومامعنى تشديد القرآن على إيصال الروح الانسانية الى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي.
لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الانسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الانسان للماضي وماطُوي في ملف الأحداث المنصرمة (لكيلا تأسوا على مافاتكم) وأما الخوف فهي السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الانسان؛ فتحرمه الهدوء النفسي والاتزان في التفكير.
وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي ، فلايحزن الانسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه ، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف ، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها ، فيسقط ضحيةً لشعور القلق.
أما الحزن فهو إفرازٌ تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداثٍ قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلاً هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود الى شعور تالي مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): إن كل شعور يقود الى شعور آخر (فالشعور بالخيبة مثلاً يولد العدوانية) وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة) وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عضٍ أو جُرحٍ أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة.
إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور ( قلق الموت) من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع أو بعد الموت، من مصيرٍ مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والذهاب الى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآها الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) مرده الى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات.
يقول الفيلسوف: (ليس الموت مفزعاً والا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت) فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عاني وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهاراً باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لاعودة منها على الاطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاماً ورفاتا؛ قد عاد الى دورة الطبيعة متحللاً الى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت الى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الانسان على الأرض؛ فكانت مصير ثمانين مليار من البشر حتى الآن.
إذاً حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسياً، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني ، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس مايشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS).
وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لاتتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورةٍ متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.
اقرأ المزيد
في عام 450 قبل الميلاد عاش الفيلسوف ( زينون ZENON) في مدينة ايليا الواقعة في جنوب ايطاليا وأثار تناقضاً عقلياً لم تفارق مخيلة الفلاسفة وتفكيرهم عبر العصور، حتى أدركت مغزاه العميق الرياضيات الحديثة المتمثلة في ميكانيكا الكم، فما هو الشيء المثير في قصة هذا الفيلسوف الذي مات وارتاح في قبره، ولكنه لم يدع الفكر الانساني يرتاح حتى مطلع القرن العشرين؟! بل ماهو هذا المصطلح العجائبي: (ميكانيكا الكم) ؟؟ وأين ولد وعلى يد من؟ وماهي ظروف ولادته؟ وأثره على الفكر الانساني؟ والآثار الفلسفية التي انبنت عليه؟ ولكن لنبدأ بالقصة المسلية، قصة السهم الذي لايطير، والعدَّاء الذي يريد السباق فتتَّسمر قدماه في الأرض، وإذا أراد بطل طروادة (أخيل) أن يلحق بالسلحفاة، عجز عن ذلك مهما حاول وبذل؟!! وثق أيها القاري أنني لاأمزح كما أن الفلاسفة هم أكثر الناس جدية ومنهم صاحبنا الفيلسوف (زينون)
إن السهم الذي ينطلق لايطير، والقذيفة التي تندفع تبقى مسمَّرةً في مكانها، والعداء الذي يركض في الملعب واقف في مكانه؟!! هذه الكلمات قد يتوقف القاريء عندها ليعيد قراءتها والتأكد منها هل هناك خطأ مطبعي؟ لا... إن العبارة قد انُتقيت على وجه الدقة؛ فالفيلسوف كان يعني مايقول وهو يرى الكون يضج بالحركة من حوله!! فكيف وصل الى هذه النتيجة العجائبية؟
إن السهم حتى يطير والعدَّاء حتى يركض، أو أخيل حتى يلحق بالسلحفاة فإن النتيجة واحدة، فلا السهم يطير ولا العداء يتحرك قيد انملة في الركض فهو مسمر في مكانه، ولن يلحق أخيل بالسلحفاة مهما حاول وبذل من جهد!! ولكن كيف؟؟
طرح زينون الموضوع على الصورة التالية: حتى ينطلق العدَّاء ليقطع مسافةً ما، فإنه لابد له من قطع نصف المسافة، ولكن نصف المسافة بذاتها حتى تُقطع لابد من قطع نصفها أيضاً، أي ربع المسافة السابقة، وهكذا فنحن بدون توقف مع حركة (نصف النصف) الى مالانهاية؟! بكلمة ثانية فإن العدَّاء حتى يبدأ في الانطلاق وفي كل مرة مازال أمامه بدون توقف نصف نصف المسافة، فيبقى مسمَّرا في مكانه لان رحلة اللانهاية ليس لها توقف؟!! ينطبق هذا أيضا على حركة السهم فهو في اللحظة الواحدة يشغل مكاناً واحداً، فلايستطيع أن يشغل مكانين في نفس الوقت، أي هو ساكن فيه، إذ لو كان متحركاً لانتقل في الحيز، ونظراً لان مجموع حركات السهم هي مجموع (هذا السكون) كان معناه أن السهم لايتحرك؟!! كما أن أخيل الذي يريد أن يلحق بالسلحفاة البطيئة لن يصل اليها مهما حاول لان أمامه أن يقطع دوما نصف (نصف) المسافة التي بينهما، ولكن السلحفاة هي دوما أمامه مهما تكن المسافة تافهة، لانه سينحبس في نصف النصف التي تفصله عن السلحفاة بدون نهاية!! .
ولكن مهلاً ياسيد (زينون) أن مانراه أن السهم يتحرك فيجرح ويقتل، وقذائف الروس قطعت أجسام المسلمين في سوريا وسواهما من المدن، كان (زينون) يجيب بكل هدوء: نعم وأنا معكم في أن مانراه أمامنا من حركة السهم وأثره واقع، ولكنني اعتبره بحكم الوهم لانني لا أجد سنده العقلي مبرهناً كما أن الحجج التي اتقدم بها لاتدحض!! فالتحليل العقلي البارد كما ترون يقودني الى أن السهم لايتحرك والعداء مسمَّرٌ في مكانه وأخيل لن يلحق بالسلحفاة؟ فالمكان كما ترون مكون من نقط لاتنتهي، والزمان مكون من آنات لاتخلص، ولما كان الجسم المتحرك بين نقطتين يكون أثناء حركته بينهما خارج المكان؛ فإن الحركة تصبح ممتنعة لانعدام المكان الذي تحدث فيه.
ولفك هذا الارباك العقلي لفهم الكون والحركة فيه تعددت الاجابات بدءً من ارسطو حتى ايامنا الحالية، مرورا بفلاسفة المسلمين الاشاعرة الذين قالوا بالجزء الذي لايتجزأ، فتقسيم زينون يجب أن يتوقف عند حافة ما من أجل تمرير الحركة من نقطة الى أخرى، وانتهاءً بالفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) الذي طرح فكرة (الكانتور في اتصال الكم الرياضي) لفك معضلة زينون، عندما نتصور وجود عدد لانهائي من النقط بين نقطتين، فإن هذا يفضي الى اجتماع النقاط فتتصل الحركة. فمشكلة الحركة التي أثارها زينون قديماً ليست بهذه السهولة أو السخف، بل تقوم على جدل عميق، وهي في الواقع محاولة لفهم الحركة وكيف تحدث من خلال التأسيس العقلي لها، فزينون أراد أن يثبت لمن حوله أن الحركة تحدث ليس على الطريقة التي يظنون ، بل لها منطق خاص ، وهذا هو الذي جاءت به (ميكانيكا الكم) حديثاً؛ فالعالم الفيزيائي (هايزنبرغ) الذي جاء بمبدأ (الارتياب أو عدم التحديد: UNCERTAINTY PRINCIPLE) أو اللاحتمية (INDETERMINISM) أدرك أن زينون كان على حق واختصر المشكلة على النحو التالي في الفيزياء الذرية: لانستطيع أن نعين وعلى وجه الدقة مكان وسرعة الالكترون ؛ فعندما نريد تعيين مكانه نُخفق في معرفة سرعته ، وإذا عرفنا سرعته غاب عن أعيننا وكأنه الشبح فتبخر فلانعرف أين اختبأ ؟! أو بكلمات زينون القديمة: لايمكن للجسم أن يشغل حيزا ويكون متحركاً في نفس الوقت.
اقرأ المزيد
تقدم الرسول التركي المعمم قد وضع يده على مقبض سيفه المعقوف فدفع بالرسالة إلى القائد النمساوي ستارهمبرج (STARHEMBERG) ففضها على عجل؛ ليقرأ انذاراً مروعاً من قائد الجيش العثماني (قره مصطفى باشا)؛ يأمره فيها بالتسليم لأن السلطان العثماني قد قرر ضم النمسا لملكه، فمن امتثل حافظ على روحه وممتلكاته، ومن عصى شَطَرَه ومايملك بحد السيف!!.
كان ذلك في صيف عام 1683م بعد 35 سنة من نهاية حرب الثلاثين عاما المذهبية في أوربا، والتي قضت على ثلث الساكنة في ألمانيا (ستة ملايين من أصل 21 مليونا) وتم تدمير ثمانين ألف قرية ومدينة، ويراجع في هذا قصة الحضارة لويل ديورانت في فهم تفصيل الكارثة. وهكذا جاءت كارثة جديدة فوق رأس الأوربيين بعد كارثة حرب الثلاثين سنة.
كانت فيها العاصمة النمساوية محاصرة بجيش تركي قوامه ربع مليون جندي، وكان هذا الحصار الثالث (والأخير) من نوعه، الذي يخترق فيه العثمانيون وسط أوربا، ففي 12 أيلول سبتمبر بعد حوالي شهرين من الحصار؛ حيث فر فيها معظم الأهالي بمن فيهم القيصر النمساوي ليوبولد الأول، أمكن صد الهجوم وفك الحصار، وكان العنصر الرئيسي في هذا التحول جيش بولوني قاده الملك يوحنا سويبسكي الثالث، قفز لنجدة أهل فيينا في اللحظة التاريخية الحرجة فأنقذ ليس فقط النمسا، وتنفست أوربا كلها الصعداء من الخطر العثماني الذي انكسرت حدته تماماً بعد ذلك، بل وانكسر الميزان العسكري بكامله، فلم يرى العثمانيون بعدها انتصارات ذات بال؛ بل بالأحرى هزائم وعلى شكل كوارث، وتابع المخطط العثماني التاريخي مسيرته الانحدارية، حتى أسلمت دولة آل عثمان الروح مع مطلع القرن العشرين.
كان الانكسار العثماني على أبواب فيينا نقطة تحول في التاريخ الأوربي الحديث ففي الوقت الذي بدأت فيه مسيرة التراجع العثماني قفزت قوى جديدة الى المقدمة، فصعدت الامبراطورية النمساوية الهنغارية، لتنهار في النهاية هي وغريمتها العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وهذا التحول على أبواب فيينا لم يكن في أعماقه عسكرياً فحسب بل تحولاً حضارياً بالكامل، فالعقل الأوربي كان قد بدأ مسيرته قبل ذلك، وفي الوقت الذي كان السلطان العثماني (محمد خان الرابع) يُعزل من العرش عام 1687م، كان (اسحق نيوتن) منهمكاً في انتاج كتابه (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) (PRINCIPIA MATHEMATICA PHILOSOPHIA NATURALIS) الذي ترك بصماته على الفكر الانساني حتى هذه اللحظة. ولكن من أين تنبع أهمية كتاب اسحق نيوتن في فلسفة الطبيعة؟
في الوقت الذي كان الاتراك يحاصرون فيينا والحروب الدينية تعصف في أوربا، كان اسحاق نيوتن يقوم بتطوير حساب التفاضل والتكامل، ويكتشف قانون الجاذبية، ويستهويه الضوء فيريد معرفة أسراره، فأوربا التي صدت الخطر التركي في الربع الأخير من القرن السابع عشر، كانت غير أوربا التي اقتحمها العرب من الغرب في القرن الثامن الميلادي، وغير أوربا بعد ستة قرون التي اقتحمها الأتراك من الشرق هذه المرة في القرن الرابع عشر للميلاد، فقد بدأت روح جديدة في التدفق في مفاصل المجتمع الأوربي المسيحي، واسحاق نيوتن كان خلية من هذا الجسد الجديد الفتي، كما أن نيوتن لم يأت من فراغ ولم يتشكل فكره إلا من خلال وثبات فكرية سابقة، ففي عام 1543 للميلاد حدثت زلزلة عقلية مثلثة الزوايا في فهم الكون والجسم الانساني وجغرافية الكرة الأرضية، فــ (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه قبل موته بساعات قليلة برؤية كتابه حول دوران الكرات السماوية، فقلب التفكير الانساني حول الكون، فأصبحت الشمس لاتدور حول الأرض بل العكس، وتحولت الأرض إلى تابع بسيط حول الشمس، واستطاع (فيزاليوس) أن يقوم بأول تشريح لجسم الانسان وكان من المحرمات، كما تم تدشين الجغرافيا الجديدة للكرة الأرضية، فعرفت قارات جديدة وتحول بحر الظلمات الى المحيط الاطلنطي، مما دفع المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) أن يسمي هذا العام في كتابه قصة الحضارة بعام العجائب. ويجب الانتباه إلى عدم الخلط بين تاريخ 1543 وعام 1453 فعام العجائب كان مع منتصف القرن السادس عشر الميلادي أما منتصف القرن الخامس عشر فترافق مع استيلاء العثمانيين على لؤلؤة الشرق القسطنطينية ليتحول اسمها إلى مركز الاسلام أو مدينة الإسلام (اسلام بول أو استانبول).
كان نيوتن يتساءل لماذا يتشكل طيف قوس قزح من مجموعة من الألوان؟ ما لذي يجعل الضوء فجأة بمجموعة سبعة ألوان بعد أن كان أبيضاً أو لنقل بكلمة أصح عديم اللون؟ هل الضوء (مكون) من مجموعة ألوان فاذا امتزجت هذه الألوان تشكل الضوء الذي نعرفه؟ ثم ماهي طبيعة الضوء؟ مم يتكون في الحقيقة؟ وهل له سرعة؟
في الواقع إن الضوء كان ومازال (مستودع الأسرار) فمنه انطلق (نيوتن) في فهم ظاهرة الطيف اللوني (قوس قزح) ومنه انهارت الفيزياء الكلاسيكية فجاء المقتل من نفس المولد كما سنرى بعد قليل، ومنه انبثقت النظرية النسبية التي لاترى شيئاً مطلقاً ثابتاً في هذا العالم الا (ثبات) سرعة الضوء العجيبة فوصلت إلى قلب مفاهيم الزمان والمكان والطاقة والمادة، ومنه انبثقت (ميكانيكا الكم) من خلال حل معضلة (اشعاع الجسم الأسود).
اقرأ المزيد
ولنلقِ نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! إن وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!!.. بينما وزن المشيمة 500 غرام لأنها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟!
ثم لننظر إلى هذه الأنشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية (طول الحبل السري 50 سم) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته، ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة، كما أن هذا الحبل يحوي مواسير (أنابيب) الدم التي تُنقل من المشيمة إلى الجنين، حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بإيصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم، كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين، وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين، فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (ولقد كرمنا بني آدم)..
وطالما تحدثنا في هذه الضخامة التي وصل إليها الجنين وهي من ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الإنساني في تخليق المضغة وتكوينها، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والضخامة أم إنه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول: إن الرحم يبلغ من الحجم عند الفتاة العذراء حوالي 2-3سم3 (بقدر حبة الكستناء) بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً، كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين العرطل أو الحمل التوأم!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما أنها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمت إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد ذاته لولا أننا نراها كل يوم فتبلد حسناً اتجاهها، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من نواحي جسمها، أولاً على مستوى الحوض حيث إنها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً، وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل، ثم إن المبيض يكون قد لجم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الإنسان، وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بإمكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عالٍ وتكون النتيجة كالتالي: يقول الدم، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من إفراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الألدوسترون؛ فإذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطياً للطوارئ فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ إنه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين (الفيبرونوجين) ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما لو حصل نزف؟ خاصة وإن المشيمة سوف تقتلع وتتسلخ من قعر الرحم، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالما أظهرت إخلاصك للموضوع، ويكون جواب الدم إنني الخادم المخلص لهذا الإنسان العظيم الذي أساعد في إظهاره إلى صفحة الوجود، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك بتوليد المزيد من الحديد والخضاب، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم، وهناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من إنتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالإضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي أيضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن، كلها تستعد للمهمة الخطيرة: الأعصاب، الغدد، الأخلاط، العضلات، المفاصل، العظام..
ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور، وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبة التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون، إنها تعمل على أروع المستويات، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبت كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها، وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالإضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات (آ) و(ب) B +A بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة، وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة أن توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة، حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم. إنها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والأعضاء، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج، إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية، وإن المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه، وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد إدرار البول، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟
يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل، ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم، ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه، ويبدأ رأس الجنين بالتقدم فيحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها، ويكون هذا بإطباق ذقنه إلى صدره، والتقدم بمؤخرة رأسه، وهكذا يمر الولد إلى أسفل، بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب (المولود الجديد) وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل معجزة جديدة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين، وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم الذي كانت تغذي الجنين، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحله لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم، لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به، ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح في قساوة الحجر، بحيث أن الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم، ولذا سميت هذه العملية بعملية الإرقاء الحي وسمي الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً إنها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين.
تغذية الطفل:
أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه، ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً؟ إن الإرادة الحكيمة هيأت له الثدي كأحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين:
خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً للبن، ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالإفراز ويبدأ الإفراز، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل؟ حقاً إنه من الأسرار العجيبة المدهشة، فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الإفراز العائد للخلية، ومعنى هذا أن الخلية الغدية تمتلئء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور الغشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم، ثم تعود الخلية فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم، وإن تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل.. كما أن اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة التي تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف "يتفوق بشدة.. وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما..
اقرأ المزيد