مقالات بقلم خالص جلبي

مخطط الانحدار وإعادة البناء (1) 
لو أتيح لزائر سماوي أن يمر على الأرض قبل ألف سنة من غير أن يعرف أي لغة أو ثقافة أو دين، وتفقد الأرض والناس والوقت والعمل، فسوف يتشكل في ذهنه انطباع واضح من جراء تكرار المناظر، أن هذا العالم ليس عالماً واحدا بل عالمين، وأن هناك خطان واضحان يفصلان الناس في الكرة الأرضية، تماماً مثل خطوط الطول والعرض وخط الاستواء ومدار الجدي والسرطان، ولكنهما ليس خطان جغرافيان بل خطان حضاريان متميزان، أو لنقل محوران للشمال والجنوب: يمتد الخط أو المحور الأول على طول طنجة ـ جاكرتا، ويربط الثاني بين موسكو ولندن.   المحور الأول (طنجة ـ جاكرتا) يملك الثروة والعلم والقوة العسكرية، ناشط اقتصادياً، تمر عبر أراضيه خطوط التجارة الدولية، وتزدحم أسواقه بالبضائع والناس والمال معاً، في أعظم دينامية اقتصادية عرفتها أسواق المال، وتزدان بيوته بكتب العلم والثقافة العالمية والترجمات المنوعة، ومجالسه بالبحث العلمي والمناظرات على الطريقة التي سجلها لنا مثقف ذلك العصر أبو حيان التوحيدي، في كتابه (الإمتاع والموآنسة)، ومدارسه التي تقيس محيط الكرة الأرضية، وتخطط لانتقاء أفضل مكان لبناء بيمارستان (مستشفى) بتجربة صمود اللحم للفساد  وتمتلك دوله الجيوش النظامية المتطورة، ويتحرك في مدنه بشر فعَّالون بوجوه تفيض بالجمال والحيوية، يرتدون الملابس النظيفة الجميلة، وفي مدينة مثل بغداد يعالج فيها أكثر من 800 طبيب في عشرات البيمارستانات عشرات الآلاف من الناس، الذين ينعمون بالرفاهية ويرتادون الحمامات العامة بشكل دوري، ويعنون بالنظافة والجمال، وتشع منهم الزينة ويتبارون في التأنق في المأكل والملبس، ويقضون الكثير من الوقت في مجالس العلم والرحلات، كما خلدها الأدب العربي في قصص السندباد البحري، ومجالس الظرف والفكاهة، وعجائب الأسفار وغرائب الحوادث، في قصص ألف ليلة وليلة، وكتاب (الأغاني) لأبي فرج الاصفهاني. كتاب الثقافة العالمية وسطور الحضارة كانت تكتب في ذلك الوقت بخط  ولغة من اليمين الى الشمال .......... وفي المحور الثاني على خط لندن ـ موسكو يعيش أكثر شعوب العالم فقراً وتخلفاً، ينتشر فيهم الطاعون فيحصد ثلث السكان على الأقل، في المدن القذرة التي لاتعرف نظام التصريف الصحي والحمامات بعد، يطاردون الساحرات والقطط، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير، ويشترون تذاكر لدخول الجنة، ويحرقون العلماء والكتب معاً في الساحات العامة، بتهمة الهرطقة والزندقة، وتزدحم مدنهم بالشحاذين على الطريقة التي وصفها الروائي الفرنسي (فيكتور هوجو) في قصته العالمية المشهورة (أحدب نوتردام) ويُعالج المريض النفسي بالسلاسل والضرب بالكرباج لاستخراج الأرواح الشريرة من جمجته، وينسب انتشار الأمراض الى البروج والكواكب أو اليهود! فتخرج الناس على شكل طوابير تطوف البر تضرب نفسها بالسوط لدفع المرض، أو تحرق اليهود والساحرات والقطط معاً في الساحات العامة، وتتحرك من وسطه أفواج من الحجاج الفقراء لزيارة القدس، أو عصابات صليبية مفلسة يقودها رجال أمُّيون من طراز ريتشارد قلب الأسد، ويضحك البابا لاكتانتيوس أشد الضحك على الذين يزعمون أن الأرض كروية فيقول: هل جُنَّ الناس الى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار والناس تتدلى من الطرف الآخر؟! ! في صورة حضارية (كاريكاتورية) تعجز عنها ريشة أعظم فنان!! وبعد ألف سنة بالضبط يصاب الزائر السماوي بالدوار وجحوظ العينين، ويبدأ ليمشي على رأسه حتى يفهم قراءة الخطوط من جديد؟!...........إن الشمال تحرك الى الجنوب، وتزحزح الجنوب فاستقر في الشمال في معادلة معكوسة جداً. محور طنجة جاكرتا يزدحم بشعوب فقيرة هزيلة عاجزة عن حل مشاكلها، يشكل العالم الاسلامي فيها وزناً كبيراً، قد خسر الرهان العالمي، وطُوِّق بحضارة رأسمالية غربية، ذات إدارة موحدة، تُحْكِم قبضتها على الكرة الأرضية كلها، للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، مسلحة بالصواريخ النووية ومصارف المال ومراكز البحث العلمي. وانقلب خط الشمال ليمتد هذه المرة فيملك أربع قارات جديدة، ويضع يده على ممرات الملاحة البحرية ومعها الثروة العالمية، ويمتلك الجيوش النظامية المتطورة التي فاجأت فرسان المماليك عند سفح الأهرام مع نهاية القرن الثامن عشر، ومعها الأسلحة المتطورة من البنادق والمدفعية، بالأضافة الى التقنية الحربية الرفيعة. الغرب اليوم يملك ثلاث أخماس الكرة الأرضية وأربعة أنهار من كل خمسة أنهار هامة في الجغرافيا، وخمسة فدادين من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، ويملك ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف في العالم وتنام في مانهاتن في نيويورك، أعظم خزينة ذهب في تاريخ الجنس البشري لم يحلم بها الفرعون خوفو، ولم يملكها قارون بذاته. وانتشرت لغة ريتشارد قلب الأسد لتصبح اللغة العالمية، وبُني لأحفاده بيت على ظهر القمر. كتبت الحضارة هذه المرة من الشمال الى اليمين ..... مجلة الشبيجل الألمانية تمثل لهذا الانقلاب العالمي بعنوان (عالم منكوس  VERKEHRTE  WELT) وتمثل لهذا بكمية الاستهلاك العالمية للطاقة، حيث تحتل أمريكا الشمالية رأس القمة؛ فتستهلك ثلث مايستهلكه جميع البشر على وجه الكرة الأرضية (.82212 مليون طن) وتأتي أوربا في المقام الثاني الى (.11407 مليون طن) وتأتي دول أوربا الشرقية في المقام الثالث (.21685 مليون طن) وتنكمش قارة أفريقيا كلها في هذه الخريطة الى مايعادل استهلاك اسبانيا، وعندما كبرت الصورةُ ظهرت أمريكا وكأنها الديناصور وانكمشت حجم الدول الى مقدار استهلاك الطاقة، وتحولت صورة العالم الى كائنات عملاقة يسكنها الرجل الأبيض، وتحولنا نحن الى كائنات قزمة وذيول تابعة لكائنات خرافية ديناصورية تتمدد على خط الشمال المحور الذي سماه سابقاً المفكر الجزائري مالك بن نبي (واشنطن ـ موسكو) والسؤال كيف حدث هذا الانقلاب الصاعق ومتى ؟
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (4) (آثار رحلة كولومبوس)
الادوات المعرفية التاريخية:   حتى تفهم أحداث التاريخ لابد لها من الربط الكرونولوجي وإدخال عنصر الحركة فيها، مستخدمين آليات التفكيك والتحليل التاريخية التي لاتعتمد منهج النقل فقط، واستخدام الادوات المعرفية التاريخية، حتى يمكن الوصول أو بكلمة أدق الاقتراب من سر التاريخ المغيب ضمن أحداث حفظت في أوراق وملفات أكلها البلى، وتلعب السينما دورا حيويا في الوصول فهم رائع من هذا النوع. وعندما يستعرض الكاتب النيهوم خسارة شبه الجزيرة الايبرية فإنه يحلِّل آثارها على الشكل التالي: (إن العرب لم يخسروا اسبانيا كما يقال في كتب التاريخ، بل خسروا المحيط كله، ومعه الامريكيتين واستراليا ونيوزيلندا وآلاف الجزر وجميع ممرات التجارة الدولية، وقد حشرتهم مدافع الاسبان وراء مضيق جبل طارق؛ لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد، ويروا الفلاحين الاوربيين يبحرون بسفن عربية وخرائط عربية الى عصر آخر في عالم جديد، وعندما نزلت فرقة الخيالة الاسبانية في المكسيك، وتقدم المدعو (كورتيز) لابادة الهنود أكثر من سواه، كان على التاريخ أن يسجل بهدوء، أن الحصان العربي قد وصل الى أمريكا، لكن فارسه العربي لم يصل؟!! وخلال الثلاثمائة سنة التالية كان العرب يقضون عقوبة الحبس وراء مضيق جبل طارق، مثل مارد مسحور في قمقم، وكان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للمسلمين، ولفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية مالبثت أن اجتاحت العالم بقاراته السبع، ووضعتها جميعا تحت ادارة راسمالية واحدة، لاول مرة في تاريخ العالم والادارة معاً) ليصل في النهاية الى رسم صورة العالم في العصر الفيكتوري: (الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 م تقريرا عن وضع الامبراطورية يقول لها مباهيا: سهول روسيا وأمريكا الشمالية هي حقول قمحنا. شيكاغو وأوديسا هي مطاحن غلالنا. كندا والبلطيق غابات أخشابنا. استراليا مراعي خرافنا. أودية أمريكا الغربية مراعي أبقارنا. مناجم البيرو تغدق علينا الفضة. استراليا وجنوب أفريقيا مناجم لذهبنا. الهندوس والصينيون يزرعون لنا الشاي والقهوة. الانديز تزرع لنا السكر. اسبانيا وفرنسا عرائش أعنابنا. بلدان البحر المتوسط حدائق ثمارنا. أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة)(8) المهمة التي تواجهنا هي فهم أحداث التاريخ بشكل ديناميكي جدلي، ومن خلال رؤية فلسفية عميقة لآليات الصراع الانساني، فالأحداث لاتولد من فراغ ولاتتشكل عبثاً وبدون خلفيات من  الانجاز التاريخي.    فلسفة ولادة الحدث التاريخي   حتى يمكن فهم الأحداث التاريخية لابد من القيام بأجراء تحليل تاريخي، لإدراك العوامل الخفية والعميقة التي قادت لتشكيل هذا الحدث. فكل حدث هو في علاقة جدلية في عدة مستويات. كونه سبباً ونتيجة بنفس الوقت، نتيجة لما قبله، وسبباً لما سيأتي بعده، وكونه في وضع (مجموعة) من العناصر (المركبة) بين تفاعل العناصر الداخلية والخارجية، وليس ولادة لحدثٍ مفردٍ يتيم،  وكونه في حالة (ديناميكية) فحتى يولد ويبرز أي حدث الى العيان ، فلابد من (تفاعل) مجموعة من العناصر بكمٍ وكيفٍ معينين، وكونه يولد بشكل أساسي بعد أن مهدت العناصر الداخلية في تشكيله.    الارتطام الحضاري الحزين  عندما وضع كولومبوس أقدامه في جزيرة اسبانيولا (جمهوريتي هايتي والدومينيكان حالياً) لم يدر في خلده أبداً مأساة الارتطام المروع الذي سيحدث بعد هذا اللقاء ويقود الى افناء مائة وثمانين مليون من البشر، في كارثة انسانية لم يكشف اللثام عنها بعد، في موت ثمانين مليون من أبناء القارتين الامريكيتين قبل أن يختم القرن السادس عشر، وإبادة مائة مليون من السود من أفريقيا، في عمليتين دمويتين الى أبعد الحدود، الأولى بالتفريغ والثانية بالشحن على ظهور السفن لاستحداث مزارع الرجل الابيض في الارض الجديدة ومد أوربا بالغذاء والذهب. هذا اللقاء الحضاري غير المخطط له، وهذا الارتطام بين حضارات العالم القديم والجديد قاد الى تدمير حزين لكامل الحضارات الموجودة في الامريكيتين، في عملية عنيفة لاقصى الحدود لم تعرف الرحمة، فتم القضاء الكامل على حضارة الازتيك والانكا والمايا والهنود الحمر، في عملية يعجز عنها الشيطان الرجيم. العالم القديم منح اسم العالم الجديد. شعوبه أُبيدت. وحضارته دمرت بالكامل وسويت بالارض، ولغته لم يعد يتحدث بها أحد، وكتبه يحاول علماء الفللوجيا حتى اليوم فك ألغازها فيما تبقى من كتب قليلة للاهتداء الى سرها، وأهم من كل هذا انقلاب الميزان التاريخي لصالح الغرب، فهذا الانقلاب الصاعق المزدوج في تبدد الهيمنة الاسلامية في العالم، وصعود القوة الغربية للامساك بمقود الحضارة العالمية فيما يسمى الدول الصناعية السبع، كلها بدأت برحلة رجل خرافي متعصب يؤمن بالاساطير أكثر من العلم، ويسجل خيالات فكرية أقرب الى الهذيان، ولكن كل هذا لايعني شيئاً البتة. الشيء المهم أن هذا الرجل أحدث زلزالاً في التاريخ الانساني من حيث يشعر أو لايشعر، فهو الذي فتح فتحة في سد يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون وقارات بأكماها يستعمرون.
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (3) (آثار رحلة كولومبوس)
خسارة المحيط وآثارها المأساوية   الخطوة الجريئة التي قام بها الدون كريستوبال كولون والتي تحتاج الى مزيد من التحليل، في كيفية كسره حاجز الخوف من اجتياز بحر الظلمات، التي كانت نفس الملكة الاسبانية مقتنعة به عندما قالت له: إن الناس يقولون إنه بحر لايمكن ارتياده فسكت وقال: ماذا كان يقول العرب عن غرناطة؟ أجابت الملكة بصوت خافت: إن غرناطة كالنسر في الجو لاتنال. ولكن التاريخ يخبرنا أن غرناطة سقطت من الجو جريحة تحت الحراب الاسبانية، وسلم عبد الله الصغير مفاتيحها في ذل مابعده ذل، ليخلد التاريخ مكان بكاءه (مكان الحسرة)(LA PLAZA DE FEURZA) وهو يطل على مدينته التي ودعها الى الأبد، كما يخبرنا التاريخ أن بحر الظلمات أخذ اسم المحيط الاطلنطي (ATLANTIC).      نقطتا التحجر ونتائجهما   في الواقع لم يخسر العرب شبه الجزيرة الايبرية بل خسروا المحيط واللعبة الكونية برمتها، فعندما كانت معارك الاسترداد الاسبانية ماضية في زخمها، تُبتلع الاندلس قضمة قضمة وقطعة بعد أن تهضم التي قبلها، كان صلاح الدين الايوبي يهزم الصليبيين في معركة حطين عام 1187 م ليسترد القدس في العام الذي بعده، يظن أن دورة الحروب الصليبية قد انتهت وكانت قد بدأت فعلاً، هكذا يخبرنا التاريخ في ثلاث انكسارات مشؤومة، في سقوط طليطلة واشبيلية وغرناطة (بين الأعوام 1085 م ـ 1248 م ـ 1492 م) ففي عام 1085 ميلادية كانت الحروب الصليبية قد بدأت في الجناح الغربي قبل أن تبدأ في الجناح الشرقي بأربعة عشر عاماً. في هذا العام سقطت مدينة طليطلة، العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية، لتبدأ الحروب الصليبية في المشرق بكل ضراوة عام 1099 م، في أعنف حرب عرفها الجنس البشري، وأشدها ضراوة، وأغزرها دما، وأطولها زمنا فقد استمرت 171 عاما‍ (من عام 1099 حتى 1270 م)، وحسب المفكر المغربي (الهادي المنجرة) نقلا عن باحثة يابانية أنها كلفت حوالي مائة ألف قتيل مايعادل في أيامنا ربما أكثر من عشرة ملايين من الأنام؟ وفي عام 1086 م نجح المرابطون في إيقاف الفونسو السادس في معركة الزلاقة في نهاية القرن الخامس للهجرة الحادي عشر للميلاد ( 1086 م الموافق 479 للهجرة) وفرملة سقوط الاندلس أربعة قرون لاحقة. ولكن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يظهر انهياراً مأساوياً للعالم الاسلامي في جناحيه الشرقي والغربي، سجل ظاهرته الكاتب الفرنسي (لوي غارديه) في ظاهرة لم نتعافى من آثارها فنحن ندفع ثمنها مضاعفاً حتى اليوم في الصومال وأفغانستان وسوريا ولبنان والعراق وعبادان وتركستان. يقول لوي غارديه: (ليسمح لنا بنوع من التنميط التاريخي. إننا نزعم أن هناك نقطتي تحجر وتجمد تتحكمان بهذه الحركة الانكفائية والدفاعية، حيث يتحصن العهد الحديث للعالم الاسلامي، هاتان النقطتان تقعان معاً في القرن الثالث عشر الميلادي وهما: من جهة الاستيلاء على اشبيلية سنة 1248 م من قبل الجيوش المسيحية الاسبانية، ومن جهة ثانية الاستيلاء على بغداد ونهبها من قبل جيوش المغول بامرة البوذي هولاكو سنة 1258 م، ولايعني هذا أن القرن الثالث عشر الميلادي؛ السابع الهجري هو عهد الانحطاط، ولكن هاتين الهزيمتين فتحتا بنوع من الانواع في تاريخ الشعوب الاسلامية ثغرة ماتزال تتفاقم) طبعا علينا أن نضيف إلى نقطتي التحجر بناء دولة بني صهيون عام 1948 ومن قبل تقطيع الجثة العثمانية عام 1928م بإعلان سقوط الخلافة على يد كمال أتاتورك (عفوا دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان فلما خر تبينت الجن الأوربي أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين!)     الانهيار بدأ قبل ستة قرون   إن هذه الثغرة التي اتسعت على الراقع، أدركها ابن خلدون في حس حضاري متميز فكتب في مقدمته عام 1408 م وهو يراقب سحب الظلام التاريخية القادمة من الأفق البعيد: (هذا الى مانزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وأوهن من سلطانها، وتداعت الى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها) ليخلص الى نتيجة منطقية في سبب عكوفه على كتابة هذه الظاهرة التاريخية وهذا الانقلاب الكوني الذي يستدعي التسجيل بشكل ملحِّ: (وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها)
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (2) (آثار رحلة كولومبوس)
الخلفية السياسية للصراع المذهبي   هذا الصراع يفتح أذهاننا لفهم أرضية الصراع المذهبي،  فيعطي فكرة عجيبة خفية عن نشوء الفرق الدينية، التي تلعب السياسة دوراً كبيراً في تشكلها، فليست الاديان تفجر الحروب، بل النزاعات هي التي ترتدي ثوب الدين فتولد الصراعات، وفي البلقان تشكل عند هذا (الصدع) بالذات الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية، تحت خلاف مذهبي يكاد الانسان لايصدقه (  يتعرض الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه (محاضرات في النصرانية)  الى جوهر الخلاف بين الكنيستين عند نقطة انبثاق الروح القدس، وهو خلاف ربما لو سألت اليوم اتباع كلا الكنيستين لما عرفوه، فتقول كلا الكنيستين بالتثليث ولكنهما اختلفا عند نقطة انبثاق الروح القدس فقالت الواحدة بانبثاقه من الآب والابن وقالت الثانية بانبثاقه فقط من الآب)، فالكروات تابعون لكنيسة روما، والصرب تابعون لكنيسة موسكو، التي كانت من قبل في القسطنطينية، قبل تحولها الى (استامبول) المحرفة من كلمة (اسلام بول أو اسلام بوليس)(ISLAMPOLIS) أي مدينة الاسلام، كما كانت من قبل (قسطنطين بوليس) أي مدينة الملك قسطنطين، الذي اعتنق المسيحية عام 325 م وأنشأها لتكون منارة إشعاع للديانة المسيحية في الشرق، فحولها محمد الفاتح عام 1453 م الى اسمها الجديد، بعد أن حافظت على كيانها الثقافي أكثر من ألف عام، خلافاً لروما التي دُمرت على يد قبائل الهون مبكراً عام 425 م، كما حوَّل محمد الفاتح كنيستها الشهيرة (أيا صوفيا) الى مسجد اسلامي  في جو من عدم التسامح، الذي كان يسود العالم وقتها، ونسي فيه المسلمون الروح العمرية في تعامله مع كنيسة القيامة، عندما رفض الصلاة داخلها، حتى لايتخذها المسلمون ذريعة فيحولوها الى مسجد، وبذلك حافظت كنيسة القيامة على نفسها حتى اليوم، شاهداً على روح التسامح والتعددية في الاسلام. ولقد شاهدت أثر هذه الروح في مسجد قرطبة الرائع حيث حشر داخله على كنيسة غير متناسبة مع هندسة المسجد في الوقت الذي لم يبق أحد يصلي في المسجد أو الأندلس. يومها قمت بالأذان في محراب المسجد وعلى ظهري طفلتي أروى وقلت فلتنتعش عظام أهلها المغيبين في قبور التاريخ.   الابحار باتجاه المجهول عبر بحر الظلمات   هذا الانهيار الذي حدث للجناح الشرقي للعالم الغربي، أي انهيار بقايا الدولة البيزنطية عجَّل بأمرين، فسقطت غرناطة بعد 39 سنة من سقوط القسطنطينية عام 1492 م وشعر الغرب بالاختناق وانقطاع السبل أمامه الى الشرق، بعد أن تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، تسيطر عليه دولة عظمى بمقاييس ذلك الوقت، وانقطعت الطرق البرية التي أصبحت تحت رحمة الجند العثمانيين، وانقلب الشرق الاوسط حتى تونس الى ولايات عثمانية، وتكفل القرصان (خير الدين برباروسا) ومساعده (تورغوت) بإدخال الرعب في مفاصل الاوربيين، وأخذت أوربا تفكر جدياً الآن باجتياج جديد من طراز معركة بلاط الشهداء (بواتييه) بعد أن قفزت قوة اسلامية فتية جديدة الى الساحة العالمية، عندما زحف العثمانيون ثلاث مرات الى قلب أوربا كانت ذروتها حملة الخريف من عام 1683 م. فلم يبق أمام الغرب الا أن يستند بظهره بكل قوة الى مخرج من هذه الأزمة الحضارية ولو بدخول بحار الشياطين وظلماته، فاخترقت أوربا بحر الظلمات مع كل إدراكها أنها تبحر الى المجهول، الى بحيرات تغلي ناراً، ومنحدرات تخطف السفن، وسيكلوبات (كائنات ماردة) بعين واحدة تفترس البشر.  الآثار الخطيرة الناجمة عن سقوط القسطنطينية   الضغط العثماني إذاً من الشرق الذي بدأ باجتياح الضفة الشرقية لأوربا وتدمير الصرب في معركة أمسل فيلد ومقتل ملكهم لازار الذي يحتفلون بذكراه كل عام حتى اليوم، ومروراً بسقوط القسطنطينية الذي أحدث دوياً مرعباً ارتجفت له مفاصل الغرب، وتابع الزحف العثماني مسيرته الى البقان، فترتب على الامتداد وسقوط القسطنطينية بوجه خاص أمورٌ في غاية الأهمية: الأول: تحولت القوة العثمانية الى قوة عالمية مزدوجة الامتداد (أوربية آسيوية) وبدأت في الزحف باتجاه البلقان الذي سيسقط برمته بعد قليل في أيديهم ولمدة قرون. الثاني: تحول حس الدفاع في دول أوربا المتنازعة بعدها للدفاع عن الميراث المسيحي كوظيفة مركزية، خاصةً بعد امتداد يد العثمانيين ثلاث مرات لحصار قلب أوربا (فيينا) انتهت الحملة الثالثة عام 1683 م على ماذكرنا، عندما كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية ويكتب كتابه الموسوم (المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعيةPhilosophiea Naturalis Principia Mathematica) الثالث: انتقلت الزعامة الدينية للكنيسة (الارثوذكسية) الى مركز آخر استمر حتى هذه الساعة وهو (موسكو) وهو مايفسر التعاطف التاريخي بين الصرب والروس باعتبار انتمائهما المشترك لكنيسة واحدة. الرابع: هرب مجموعة كبيرة من العلماء الى ايطاليا، مما حرك الجو الفكري هناك، وساهم في قيام النهضة العقلية في أوربا، فمن ايطاليا بدأت النسمات الأولى لحركة التنوير، كما كانت بنفس الوقت خسارة للدولة العثمانية التي كانت قوة عسكرية ضخمة، ولكنها لم تكن ذات تألق عقلي وفكري متميز. الخامس: ولعله أخطر ماحدث على الاطلاق، فلقد خسرت أوربا مع سقوط بيزنطة بوابة الدخول الى البحر الأسود، وهذا يعني بكلمة أخرى حرمانها من الاتصال بالهند، فعمدت الى اكتشاف طرق جديدة بعد أن قطع العثمانيون الطريق عليها، وأصبحت في وضعية المحاصر وظهره الى جدار الاطلنطي (بحر الظلمات) وليس هناك من تقنيات لاجتياز المحيطات، فكانت المحرض لاكتشاف الهند من الغرب وليس من الشرق، كما يلف الانسان لحك أذنه اليمنى باليد اليسرى، فكانت هذه الأزمة الأوربية نعمة عليها كما ظهر بعد ذلك ، لأن المسلمين سُجنوا خلف مضيق جبل طارق ، في زنزانة البحر المتوسط ، حين قفز الغرب لامتلاك أربعة قارات جديدة عبر المحيطات ، ولتصب كل كنوز الأرض في خزائنهم ، وليصبحوا مركز الثراء العالمي ، يُهرع إليهم كل من في جيبه قرش للادخار لديهم !! وما يتبعه من قيام الطبقة الوسطى والثورة الصناعية وبروز البورجوازية وقيام المؤسسات الدستورية وولادة الديموقراطية ، فكان انقلابا مريعا محزنا ، انكسر معه التوازن التاريخي بالكامل بيننا وبين الغرب. السادس: ارتبط سقوط القسطنطينية مع سقوط غرناطة كضربة انتقامية، فسقوط الأولى كان عام 1453 م والثانية 1492 م بفارق 39 سنة، ولكن التاريخ ينقل إلينا خبراً مثيراً آخر مفاده أن شهر يناير الذي سقطت فيه غرناطة كان يدشن بالموافقة على مشروع كولومبوس لعبور بحر الظلمات في رحلة الى المجهول، بحثاً عن الذهب لتمويل حملات صليبية جديدة،  ووصولاً الى الشرق من خلال الابحار عن طريق الغرب، في أعجب رحلة من نوعها لايقارنها اليوم الا رحلات ارتياد الفضاء لكشف المريخ.
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (1) (آثار رحلة كولومبوس)
نكتب عن التاريخ الحزين لنا والمفرح لغيرنا ونؤرخ ليوم الثاني من يناير من عام 1492م قبل 530 سنة نهاية غرناطة والوجود العربي الإسلامي. بنفس السنة يحصل تطور تاريخي مفصلي فما ذا حدث؟  قبل مايزيد عن خمسة قرون وفي أيام خريف عام 1492 للميلاد، رست ثلاث سفن اسبانية تحمل اسماء (نينيا) و (سانتا ماريا) و(بينتا) بامرة البحار الايطالي كولومبوس على شاطيء أحد جزر البهاما، في أكبر غلط جغرافي عرفه تاريخ العلم، وفي أكبر كشف ولدته الصدفة المحض، ليقلب تاريخ الشعوب الاوربية الفقيرة الجاهلة، فالارض التي كانت ثلاث قارات تحولت الى سبعة، مضيفةً أربع قارات غنية الى حساب الغرب، ومعها آلاف الجزر الغنية التي لايحصيها العدد، في أكبر انعطاف وخسارة تاريخية للعالم الاسلامي. يكاد الانسان لايصدق عندما يقرأ مغامرة البحار الايطالي (كريستوفرو كولومبو)(CRISTOFRO  COLOMBO) الذي سماه الاسبان (الدون كريستوبال كولون) (DON  CRISTOBAL  COLON) والذي اشتهر لاحقاً باللغة الانكليزية العالمية تحت اسم كريستوف كولومبوس (CHRISTOF  COLUMBUS)( مجلة الشبيجل الألمانية (DER  SPIEGEL) عدد 1 ـ عام 1992 م ص 100 وقد نشرت يومها بحثاً مزلزلاً تحت عنوان نهب العالم الجديد (DER  RAUB  DER NEUEN  WELT) في ست حلقات لكشف الآثار العميقة والبعيدة لرحلة كريستوف كولومبوس، ولفظة (الدون) تعني بالاسبانية السيد العظيم (وكريستوبال) معنى حامل المسيح و(كولون) معنى الستعمر أو المستوطن، وهكذا فاسمه أصبح يرمز الى حمل رسالة المسيح ونشره من خلال الاستعمار والاستيطان في العالم الجديد ومن هنا جاءت لفظة الكولونيالية بمعنى الاستعمار من كلمة كولون) الذي ظن بوصوله الى جزر البحر الكاريبي أنه قد وطأ الهند، في لحظة تاريخية حاسمة، وبقي تحت تأثير هذا الخطأ الجغرافي الفادح حتى مماته عام 1506 م، وهو في الواقع اكتشف ماهو أهم من الهند، اكتشف عالماً جديداً لم يكن الهنود الذين اكتشفهم فيه هنوداً، بل كانوا السكان الأصليين لقاراتٍ جديدة غنية حظي بها الغرب في ضربة حظ تاريخية بين غفلة العالم الإسلامي عن مسار التاريخ وضعف السكان الاصليين. والهنود الحمر الذين أبادهم المستوطنون الأوربيون بالبنادق والمدافع والحرب البكترولوجية لم يكونوا هنوداً من قريب أو بعيد، في صدفة تاريخية عجيبة لم يحلم بها أحد. ولكن التاريخ حقق عندها انعطافاً لمصلحة الغرب ضد العالم الاسلامي. الشيء الذي توصل إليه البحار كولومبوس لم يفطن الى قيمته لا نفس المكتشف ولا الجيل الذي قام بهذه المغامرة الكبرى. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم الحدث أكثر بكثير من نفس مكتشفه الاساسي كولومبوس بعد الامساك بالكرونولوجيا التاريخية ولماذا يحدث الذي لايحدث؟ يطرح الكاتب (النيهوم) تساؤلاً حزيناً على هذه الصورة: (وطننا العربي يقع في خانةٍ تضم أكثر الشعوب عجزا عن ملاحقة مسيرة الحضارة، وهو موقع لا مبرر للشكوى منه، سوى أن الحضارة بأسرها ولدت في وطننا، وأن السفن والاسلحة التي ارتاد بها الاوربيون قارات العالم الجديد كانت في ايدينا قبل أن يعرفها الاوربيون بثلاثة قرون على الأقل، فلماذا يحدث الذي لايحدث وكيف يمشي وطن وناسه الى الوراء؟). وعندما يحاول أن يفهم البانوراما التاريخية أو السياق الكوني ويحاول الامساك بالكرونولوجيا التاريخية يصف أبعاد الانقلاب التاريخي بكلمات قليلة ومعاني حزينة ومزلزلة: (في العالم القديم الذي شهد غارة الصليبيين على الوطن العربي منذ ألف سنة تقريباً كان العرب هم أصحاب الجيوش النظامية المتطورة، وكان موقعهم على أبواب آسيا وأفريقيا يضع بين أيديهم المفاتيح الذهبية للتجارة بين القارات، ويضمن لهم معركة سهلة ضد عصابات صليبية مفلسة، يقودها رجال أميون من طراز ريتشارد قلب الأسد). ويقرر الكاتب بعد ذلك تحول المسار التاريخي لميزان الغرب على الصورة التالية: (في العالم الجديد الذي نعرفه الآن يملك الصليبيون المفلسون أنفسهم وهم شعوب غرب أوربا جميع مفاتيح التجارة الدولية بين القارات ويملكون أيضاً ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة أنهار من كل ستة أنهار، وخمسة فدادين، من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، وثمانية قروش، من كل تسعة قروش ونصف). ولكن ماهو السر خلف هذا الانقلاب الصاعق؟ يجيبنا الكاتب بقوله : (سبب هذا الانقلاب الصاعق أن شعوب أوربا الغربية بحكم موقعها على المحيط الاطلسي في عصر تميز بتطوير الملاحة المحيطية على أيدي العرب، قد ارتادت فجأة ثلاث قارات ومئات الجزر المأهولة بشعوب بسيطة السلاح والتنظيم، فأبادت سكانها بالبنادق، وفتحتها لاستيطان ملايين من مواطنيها، الذين تولت الشركات أمر تهجيرهم، وتمويل مشروعاتهم في العالم الجديد، منذ مطلع الغارة خلال القرن السادس عشر)    فكرة الكرونولوجيا التاريخية   عندما نرى كولومبوس مع تسعين بحاراً يضعون أقدامهم في جزر البهاما من جزر البحر الكاريبي، وهم يظنون أنهم وصلوا الى الشرق من خلال الابحار غرباً، على أساس كروية الأرض، ويسمون أهل الجزر الطيبين الذين يحسنون استقبالهم ويرحبون بهم بالهنود، تبقى هذه (اللقطة) من الكرونولوجيا التاريخية في إطار الرحلات الممتعة والمغامرات الشيقة، كما نرى أفلام الرحالة والقراصنة، ولكن الفيلم يكون قد بدأ من هذه اللحظة، فإذا أمسك أحدنا باللقطات التاريخية بدون ربط الواحدة بالاخرى، فإنه لايفهم السياق التاريخي ولايضع يده على السر المصون، القريب المحجوب عن العيون، والفيلم نفهمه عادةً بسبب وصل اللقطات ببعض وإدخال الحركة عليه بالسرعة، فالمنظر الواحد يبقى جامداً ولكن تتابع اللقطات والمناظر بسرعة معينة، يدخل عليه الحياة، ويعطينا بالتالي إدراك المغزى الخفي خلف هذه الأحداث التي تتالى، من حصيلة مجموعات جامدة من اللقطات، فهناك سببية تربط بين الأحداث.    جدلية السبب والنتيجة   من هنا نعلم أن كل حدث هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده، ويصدق هذا على الأحداث الرهيبة التي شاهدناها في راوندا وبروندي وزائير ولاحقا سوريا من زحف الآلاف الهاربة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا، في حروب أهلية بئيسة لا تشذ عن صرامة القانون الاجتماعي الذي أوردناه في جدلية الأحداث، ضمن سياق سنة اجتماعية. فما حدث الآن بين قبائل الهوتو والتوتسي لم يأت من فراغ، بل لابد من رؤية السياق التاريخي وتبادل آثار الفعل ورد الفعل المدمرين، من تبادل جرعات الحقد والانتقام المتبادل، وتوزيع أدوار القوة والمذابح المتواترة. كذلك الحال في البوسنة فلا يمكن رؤية الأحداث في ضوء مذابح عام 1992 م بل العودة الى معركة (أمسل فيلد)(AMSELFELD) عام 1389 م التي خلَّدها العثمانيون في تاريخهم باسم معركة (قوص أوه) قبل ستمائة عام من ذلك التاريخ، بل العودة الى التقسيم التاريخي، الذي قام به الامبراطور ثيودسيوس عام 389 م حينما قطع الامبراطورية الى حصتين بين ولديه اركاديوس وهونوريوس، ولم تتحد الامبراطورية بعد ذلك قط، حذاء صدع تاريخي في المنطقة التي نسميها اليوم البلقان، دعى الى حدوث شرخ ديني موازي للشرخ السياسي.
اقرأ المزيد
كوريا وكوبا وسوريا (2)، جمهوريات الخوف والبطالة وبقايا الجيوب الستالينية
ويبدو أن الطغاة العرب ليسوا النموذج المتفرد في العالم فهناك ما يعزيهم ويغريهم من بقايا جيوب ستالينية في بورما وكوريا الشمالية وكوبا كي يعلنوا البيعة الأبدية لأنفسهم أو تكرارها مثل حبات المسبحة في ثلاث وثلاثين انتخابا، حتى يضطر الشباب أن يصرخوا في المظاهرات كفى، ويلبسون قمصانا كتب عليها "لا لإعادة الانتخاب .. لا  لوراثة الحكم". بعد أن استعد حسب الله السادس عشر للانتخاب الخامس. وهو ليس الوحيد في غابة العروبة. حتى خسف الله به الأرض ولكنه بعث من جديد مثل طير الفينيق فالعسكر فيها روح أوزيس وازيريس الفرعونية. ثم حدث الحدث الجلل فاحتشدت كل طاقة كوريا الشمالية من أجل حدث جلل وكان يومها الاحتفال بمولد كيم يونج الثالث بعد الستين (63) ، وجاءت التعليمات خاصة للنساء أن لا يزيد طول شعر الواحدة منهن عن 7 سبعة سنتمتر.  وقبل هذا في مطلع فبراير عام 2005م أعلن القائد المحبوب أن كوريا الشمالية أصبحت دولة عظمى فقد امتلكت السلاح النووي؟ وهو صنم لا يضر. أو بتعبير (فؤاد زكريا) في كتابه (خطاب إلى العقل العربي) إنها أسلحة ميتة مميتة ليست للاستخدام ولكن لماذا ينتجوها؟ والدول المعروفة حتى اليوم والتي تملك السلاح النووي هي ثمانية وتملك ما تدمر الكرة الأرضية وتفني البشر عدة مرات، وإفناء البشر مرة واحدة كافي، فـ (أمريكا) عندها من المخزون النووي (10656) رأساً نووياً، محمول على 116 نوع من القاذفات من عمق الأرض (السيلو) أو من بطن الحوت (الغواصات) مقابل (روسيا 10000) و(الصين 402) و(فرنسا 348) وإسرائيل (أكثر من 200 رأسا) ومن أجيال ثلاثة وما أدراك ما الأجيال الثلاثة؟ وبريطانيا العظمى (185) وباكستان (30 ـ 50) والهند (30 ـ 40). والآن تنضم كوريا الشمالية إلى نادي الأشرار النووي ببضع قنابل قابلة للزيادة، بعد أن أعلنت انسحابها من اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وضحكت على أمريكا وأوربا والعالم، وحصدت مليارات الدولارات وهي تهيئ في الخفاء ليوم الفصل العظيم. ثم لوحت بصاروخ (رودونج ـ واحد Rodong I) طار فوق رؤوس اليابانيين يئز أزا،  وعدواتهم مع اليابانيين قديمة وشديدة، وكيم سونج الوالد قاد حرب التحرير في الحرب العالمية الثانية ضد اليابانيين تحت تدريب وأموال وتوجيه ستالين، حيث ولد هناك (كيم يونج) في معسكر روسي للتدريب في منطقة نائية في (شاباروفسك Chabarowsk) ثم فقد والدته عام 1949م ليصبح تحت وصية زوجة والده (آي Ae)، وكلمة آي هي الوجع في اللغة العربية وكذلك كانت هي له عدوا وحزنا، فقد حاولت أن تدفع بابنها لتسلم العرش بعد موت سونج الثاني، ولكن (كيم يونج) استطاع  عام 1974م بشراسة ودهاء أن ينتزع العرش لنفسه، ثم يتولى قيادة المخابرات، ومن حكم المخابرات في عالم المافيات الاشتراكي حكم البلد، كما هو الحال في جمهوريات الخوف والبطالة عند العربان. وقبل ذلك بسنتين عام 1972 قام بحذف تعريف كلمة (الحكم الوراثي) في القاموس الكوري الذي نص على أنه "نظام رجعي نهاب" وهكذا كسب القاموس كلمة وخسر الواقع حقيقة. وغلطة أمريكا مع بقايا الطغاة في العالم أنها بدأت في الحلقة الضعيفة من السلسلة حيث ألقت القبض على صدام مثل الجرذ في مجرور تحت أرضي، وتلوح أنها تريد التخلص من إيران وربي أعلم بما يدور في الخفاء فهو يعلم السر وأخفى.  والأهم كما يقول الكاتب الأمريكي (بوب وود وارد Bob Woodward) في كتابه المعنون (خطة الهجوم Plan of Attack) أن التخلص من أخطر الديكتاتوريين في كوريا الشمالية كان يجب أن يتصدر القائمة، وأمريكا تعلم علم اليقين رحلته في الوصول إلى السلاح النووي، من خلال عملاء ألمان (كما ذكر ذلك التقرير التفصيلي في مجلة الشبيجل الألمانية ـ عدد 7 2005م ) (جوتهارد  ليرش Gotthard Lerch) والأخوة تينر وجيرهارد فيسر وجايجز بالإضافة إلى رئيس مؤسسة تراديفين المدعو ماير) الذين حاولوا توصيل تقنية فصل غازات اليورانيوم على ظهر الباخرة (BBC China) إلى القذافي مع طنين من اليورانيوم ولكن الأخير تحت الخوف من أمريكا  فتح بلده وحافظ على عرشه (مؤقتاً)، وسلم البضاعة لأمريكا فرست في مفاعل (أواك ريدج) النووي الأمريكي كما في قصة غواصة هتلر 234، فقد أرسل هتلر في أبريل 1945م بعد أن تيقن من الهزيمة واستعد للانتحار غواصة محملة بآخر وأهم تقنيات الحرب مع أول طيارة نفاثة قابلة للتركيب، مع أكثر من 500 كغ من اليورانيوم الجاهز للاستعمال فأصبح من غنائم الحرب للأمريكيين واستعمل اليورانيوم لضرب اليابان بدلا من نجدتها؟ والديكتاتور الكوري القصير كما هو الحال مع ملالي إيران يظنون أن السلاح النووي يقي الدول الاستبدادية من السقوط ولو عمرت على الظلم وأشلاء المعذبين. ولكن انهيار الدول يأتي من الداخل، وعندما انهارت دولة أشور لم ينقصها عتاد أو تقنية. والاتحاد السوفيتي انهار بدون هجوم خارجي، وهو يملك أسلحة تدمير الكون مرات،  وبأقوى من كوريا القزم بعشرة آلاف مرة. ومشكلة الطغاة في كل مكان هي واحدة فقد سئل القذافي قبل أن يقذف بشواظ من نار عن معنى الديموقراطية فقال إنها كلمة أصلها عربي (ديموكراسي) أي الديمومة على الكراسي. والمسخوط الآن في محكمة العدالة الالهية فلا ينتصران.
اقرأ المزيد
كوريا وكوبا وسوريا (1)، جمهوريات الخوف والبطالة وبقايا الجيوب الستالينية
ثلاث جمهوريات بنفس قافية الحروف ولكن اللعنة واحدة. وحديثنا اليوم عن أحد الجيوب الستالينية المفزعة هي كوريا الشمالية. وهو يقول لكم ماذا يفعل النظام السياسي فهو بمثابة الدماغ فإن صلح الدماغ صلح الجسد. وكما جاء في الحديث ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وعندما خُسفت الأرض بصدام المصدوم كان حزن (كيم يونج II Kim Jong) زعيم كوريا الشمالية كبيرا فقد اختفى لمدة خمسين يوماً عن الأنظار، ثم ظهر على الناس ليقول: إذا كانت أمريكا تظن أننا سوف نتخلى عن أسلحتنا فخطؤها كبير. وعادة الاختفاء هذه يقلد فيها آلهة الإنكا، أو بتعبير الفيلسوف البليهي (هالة الغموض وسحر الغياب). وفي علم النفس التحليلي يقول (سكينر B.F.Skinner) في كتابه (ما خلف الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity) الذي ترجمته سلسلة عالم المعرفة إلى (تكنولوجيا السلوك الإنساني)أن هناك (علاقة عكسية بين مقدار التقدير ووضوح الأسباب). وأن مقدار ثنائنا على شخص يدير جهازا معقدا هي من غموض العملية أمامنا فإذا عرفنا سرها تبخرت هالة الشخص. ويشرح (روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) أن علم الدجل يقوم على خمس درجات: ابق الأمر غامضا ـ ركز على البصري والحسي أكثر من الفكري ـ اقتبس طقوس الدين ـ موه مصادر دخلك ـ وأما الخطوة الخامسة فأقم حركية (نحن) ضد (هم). وهو ما اعتمده الطاغية: دمروا الإمبريالية الأمريكية. وتحت هذا القانون فقد اختفى الرجل مع حداد والده ليس ثلاثة أيام بل ثلاث سنوات، ثم خرج على الناس فقال: إن القائد واحد، والتاريخ رحم ينجب العباقرة مرة واحدة، ثم قام بحركة مسرحية فاستغنى عن رئاسة البلد، وقال هناك قائد واحد (أبدي)، واتخذ لنفسه اسماً متواضعاً (القائد المحبوب). أما العصابة من حوله فقد سمته الرمز والأمل، والمخلص، وهدية السماء إلى الشعب الكوري، والمهندس الأعظم في كل الأزمنة، والمخرج السينمائي الذي لن يلحقه فنان، والموسيقى الموهوب الأمهر بين كل نوابغ الموسيقى، وأن عنده ملك لا ينبغي لأحد من بعد. وقريبا من (بيونج يانج) العاصمة أقيم متحف فيه 200 غرفة بأشد إضاءة ممكنة لبلد يحتاج لشمعة، وداخل المتحف صور تعظيم الأب القائد والابن الأمل بـ 49808 قطعة مهداة من 170 دولة مثل بارودة صيد من بوتين، وشماغ من ياسر عرفات، وحقيبة من جلد تمساح من كاسترو، أو دب اصطاده تشاوسسكو بنفسه وحفظه محنطا فأهداه للرفاق، وأما خارج العاصمة حيث يرتفع تمثال الأب بأعلى من ناطحة سحاب فلا شيء يعمل، والشيء الوحيد المتماسك هو الجيش والمخابرات، والشيء الوحيد الذي يصدرونه  هو تقنية الصواريخ، وهم قاموا بتبادل فني مع باكستان فأعطوهم الصواريخ، وأخذوا منهم  تقنية الوصول للقنبلة النووية، كل ذلك على يد (روبن هود) العصر النووي العالم الباكستاني (عبد القادر خان) الذي زاد مشاكل العالم مشكلة، وأدخل الشرق الأقصى  رحلة سباق تسلح. وقصة الطاغية في كوريا الذي يلوح حاليا بالدمية النووية ترجع إلى عهد ستالين، فقد نصب الشيوعيون والده (كيم سونج الثاني Kim II Sung)  على كوريا الشمالية عام 1948 م الذي حكم مثل جنكيزخان وبول بوت لمدة 46 سنة حتى نفق عام 1994م، ثم جعل الحكم الثوري ملكيا، كما هو الحال مع الثوريين العرب الذين جاءوا حفاة عراة فتركوا لأولادهم العروش الملكية بعباءة جمهورية فضفاضة. وكيم يونج يحب النساء السويديات حصرا بسيقان طويلة، وتحت تصرفه سيارة مرسيدس بقيمة عشرين مليون دولار مما يذكر بعدي وقصي، وينطلق في شوارع (بيونج يانج PJOENGJANG) مع مسدس يتسلى به في إصابات أنوار أعمدة الكهرباء، وأكثر ولعه بأفلام الرعب وجيمس بوند، وعنده وهو الاشتراكي 20 ألف فيلم غربي، وحينما أعجبته الممثلة (شوي اون هوي Choi Un Heu) عام 1978م خطفها من هونج كونج ثم ألحق بها المخرج (شين سانج أوك Shin Sang Ok) حتى تمكن الاثنان من الفرار لاحقاً من جمهورية الجوع. و(القائد المحبوب)  قتل عام 1974م زوجة رئيس كوريا الجنوبية (بارك شونج هي Park Chung Hee) ـ كما في قصة قتل الحريري في لبنان ـ وأكملها بقتل حفنة من الوزراء (الكوريين الجنوبيين) كانوا مجتمعين في رانجون عاصمة بورما عام 1983م ، وثلثَّها بقتل 115 بريء على ظهر طائرة كورية جنوبية، كما في قصص قتل جنبلاط ومعوض وحسن خالد والرائع سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث، الذي جاء إلى جنازة أمه في بيروت فلحق بها بعد أن كسرت المخابرات السورية أصابعه التي بها يكتب، وهو مصير كاد أن يلحقني حينما ذهبت لجنازة والدتي في الأردن ومن نجاني كان جواز سفري الكندي.  فلا أمان في غابة العروبة لقط أو طير. والمشكلة عند (القائد المحبوب)  في طوله 160 سنتمتر، ولذا فهو ينوع أشكال روافع الحذاء بأكثر من أحذية النساء بدون فائدة، ويستعين عن قصر القامة بلبس بدلة طويلة؟ ويحكم البلد مثل مافيات المخدرات فيتاجر بكل شيء بما فيها تزوير الدولار فليس من مهنة قذرة ولو كانت قاذورة.
اقرأ المزيد
باركنسون
صديقي الأردني الكاتب ماجد عرسان الكيلاني أهداني كتابه جيل صلاح الدين وفي زيارته لي وبرفقته زوجته الأمريكية المسلمة (قرة عين) في مدينة النماص في جبال عسير حمل لي كتاب عنان عن التاريخ الأندلسي في أربع مجلدات ومنه استفدت وتعرفت للمرة الأولى على فكرة ابراهام ماسلو عن هرم الحاجيات الإنسانية بلغني أنه أصيب بهذا المرض (باركنسون) قبل أن توافيه المنية وكان من خيرة من تعرفنا عليهم في هذه الحياة الفانية. وفي هذه الليلة من أعياد الميلاد لعام 2021م اتصل بي زميل فاضل وجراح بارع من تركيا وقد بدأ هذا المرض ينال منه قلت له بعد مائة عام لن يبق أحد منا ولا أولادنا ولا أحفادنا وسيكون أولاد أحفادنا على حافة القبر فلا تحزن! فنحن محكومين بالإعدام منذ أن نتخلق نطفة فعلقة فمضغة فسواك رجلا. والآن إلى هذا المرض فمن كان أول من وصفه وبماذا يتصف وأين مكان العلة وماهي مسبباته وهل له من علاج وكيف يسير المرض ويتطور؟ لعل أهم جانب إيجابي فيه أنه رعاش لا إرادي ثم هو مرض غير قاتل مثل السرطان بل هو تنكس في الخلايا العصبية وأول من وصف المرض  كان من قبل الدكتور “جيمس باركنسون” منذ عام 1717م، عندما عرفت طبيعة المرض المترقية، التي تفضي بصاحبها مع الوقت إلى العجز الكامل، سواء المشي أو النطق. ومع تقدم علم التشريح والفيزيولوجيا أمكن إماطة اللثام، عن أسرار مدهشة في حركاتنا العادية، التي نؤديها في كل لحظة، بكل دقة وتوازن، ولا نعرف هذه الدقة المخيفة في الأداء، حتى نرى خسارتها، فالتوازن يعمل حتى في النوم. فإذا اضطرب هذا الجهاز، استيقظ الإنسان على الدوار، ولو كان يغط في أعمق السبات، وهو ما حصل معي يوما، ولم أصدق حتى سقطت على الأرض حين تحديت قوانين جسمي فعرفت أن الإنسان خلق من ضعف. ويمكن وصف المرض كما جاء في قصة مهندس الكمبيوتر (جورج) المغرم بعمله، من سكان ولاية كاليفورنيا حين شعر بأن أصابع يده ترتجف، من حين لآخر، لم يعرها انتباها كبيرا، وعزاها إلى الجهد وكثرة ضرب الأصابع، على لوحة الكمبيوتر، الذي لا يكاد يبتعد عنه. إلا أن هذا الرجفان (اللا إرادي) تطور بشكل مأساوي مع الوقت، فقد بدأ بالانتشار إلى بقية الأطراف العلوية سوية. كان المرض يتطور وفي علاقة متناقضة محيرة، ففي الحين الذي ترجف أطرافه وكأن يده “تعد النقود” أو “تسبح بالمسبحة”، كان يشعر أن بدنه، وكأن مادةً لاصقة تتغلغل في كل عضلة من عضلات جسمه الثقيل؛ فهو متصلب، متيبس، يقتلع خطواته اقتلاعا، وينتقل بصعوبة بالغة، فإذا شد على نفسه، وأراد الإسراع، فقد توازنه، فهو يُهرع إلى الأمام، وكأنه يركض خلف مركز توازنه. استحال إلى كيان مشوه، وبدأ يفقد السيطرة على نظام العضلات في جسده، مع كل الصفاء الذهني الذي يتمتع به دماغه، واكتملت الصورة المرضية بفاجعة على الوجه، فجمدت التعبيرات، وزالت الابتسامة، واختفى الضحك والبكاء ومعالم الرضى والغضب، وتحول الوجه إلى قناع ثلجي جامد، لا ينم عن معنى كما في وجه وزراء الخارجية في العادة، ورؤساء جمهوريات الخوف والبطالة. كان المرض واضحاً لدى الأطباء، فهذا المزيج من وجه الأموات، والشلل الرعاشي، فهذه الآليات الرهيبة من التوازن، في حركات العضلات، تمثل سيمفونية من أبدع أنواع الألحان، بين الشد والارتخاء، والبسط والقبض. وهناك شبكة من الاتصالات بين قشر المخ، في الأعلى، ومراكز توازن الحركة في الدماغ المتوسط، بحيث تمضي الحركة بدون زيادة أو نقص، فالدماغ المتوسط كأنه الميزان العادل، الذي يدرس قوة الحركة، فيعطي الأوامر المناسبة، إلى العضلات المناسبة، في التنسيق فيما بين بعضها، لتخرج الحركة في رشاقة كاملة. وكل نقص يمشي باتجاه الشلل، وكل زيادة باتجاه الرقص، وهناك ما لا يقل عن سبعة أمراض من هذا النوع بين الشلل والرقص، ومنشأ اضطراب الحركة هو في بقع صغيرة للغاية تم الكشف عنها، منها منطقة سوداء اللون (SUBSTANTIA NIGRA) وسط أدغال الدماغ، في حجم رأس دبوس، ذات وظيفة في غاية الحيوية، عدد الخلايا فيها حوالي المليون، تقوم بإفراز مادة في غاية الأهمية هي (الدوبامين)، وتأثير هذه المادة ينحصر في تمرير الأوامر العصبية بين الخلايا العصبية، فهو مثل جهاز التحويل الدائم للأوامر العصبية. إن مادة الدوبامين المفرزة تنتقل إلى منطقة مجاورة هي اللحاء، وهذه بدورها تقوم بتنظيم التنبيه العصبي بين الخلايا، عبر الوصلات العصبية (السنابس)، بحيث تصل أوامر الحركة في أحسن صورة ممكنة، وكأنها أوتار العود المتوترة بين الشد والانبساط، فيخرج نغم الحركة أحلى ما تتلقاه الأذن. ليس هذا فقط بل تناسق الأنغام، كي يخرج اللحن شجياً، والأغنية يطرب لها الفؤاد، وبذلك تستقيم الحركة بين تقليب ورقة وكتابة جملة. بين استنشاق زهرة، وزر سترة، بين رشفة الماء، وبلع الطعام، وإنشاد الشعر، ودمع العين. بين السباحة، وقيادة السيارة، بين إبداع الرسم، وفن الجراحة، وعبقرية الكتابة بالقلم، وأعمال الخفة ولو مسك قدح من الماء. نحن ننهمك يومياً في عشرات الأعمال المعقدة، دون أن نعي أن خلفها رأس الدبوس الأسود، الذي لا يتوقف عن إنتاج مادة التوازن الحركي، ومرض باركنسون هو تدمير خلايا هذه المنطقة، والتوقف عن إفراز هذا المداد الأسود الذي يسطر حركات عضلات الجسم. لقد تم تركيب العديد من الأدوية للشفاء من المرض بدون فائدة بما فيها جراحات معقدة، بل أدى استئصال منطقة الدماغ المتوسط إلى مسح الذاكرة عند المريض الذي توقف في الزمن بدون ذاكرة. عندها يعرف المرء كم كانت الطبيعة البشرية رائعة الخلق، وفضل الله علينا عظيما.    
اقرأ المزيد
تحية أهل الكتاب في يوم عيد الميلاد
مع نهاية عام 2021 م كان معظم الناس على وجه الأرض يربضون في بيوتهم مع احتفال محدود على تخوف من فيروس خفي يضرب الأرض ومتحوراته وتغيرات شكله على نحو متقلب يقف العلم والعقل حائرا تجاه هذا الكيان الهش بأحجام لايرى إلا مكبرا عشرات الالاف من المرات. وأذكر جيدا حين مرت أيام وفي وقت متقارب بين أعياد الميلاد وكربلاء، وبين عيد الميلاد وعيد المسلمين وهو أمر أذكره جيدا حيث ترعرعت؛ فأنا رجل ولدت في مدينة اسمها (القامشلي) فيها عشر لغات، وثماني أديان، بما فيها المسيحية المنقرضة (النسطورية)، وعشرين لهجة (كوسموبوليتيان) بين سريان وأرمن وآشوريين، وطخلركه وكرمنج وشيعة،  وماردينيين وداغستان، وشمريين وعلوية، وشراكسة وشوام، وكلدان ودروز، وكاثوليك وبروتستانت، ومحلمية وعبدة الشيطان من اليزيديين. وطبعا هم لايسمون أنفسهم أنهم عبدة الشيطان بل لهم فلسفة لاتخلو من معقولية عن تفسير الشر في العالم أن الشيطان يحكم العالم لفترة عشرة آلاف سنة واسمه طاووس ولذا يتجنبونه خوف بطشه وشره فلا يتعوذون بالله من الشيطان الرجيم ويتجنبون أي كلمة فيها شين وطاء مثل مشط وطشت وشاط وطاش مطاش وشطيح ولطش. ويمكن عقل إي انسان وحبسه إذا رسمت حوله دائرة فلا يخرج مالم يأتي أخر فيمسح طرف الدائرة فيخرج! وهكذا فالقامشلي المدينة العجيبة التي ولدت فيها سريالية كل شارع بلغة ومدرسة وكنيسة، وكل دكان بطربوش وطاقية وعمة وعقال وشرشوبة وشروال؟؟ كأننا في هوليوود في فيلم تاجر البندقية!! والدي اعتمر الطربوش العصملي الأحمر، وخالي يونس من عشيرة طيء بعقال، وخال آخر كانت من نصيب جدي فتزوجها (الذي تزوج مثنى وثلاث ورباع منها تركية من مدينة سامسون من البحر الأسود عائشة ومنها جاءت والدتي جاهدة وهكذا فأنا مزيج من شعوب البحر المتوسط وقزوين والأسود وبحر أيجا والمتوسط وجبال طوروس كما أظهرت ذلك أيضا لطخة الـ DNA عندي) وهي أرمنية كنت أراها وقد حسن إسلامها وتصلي الصلوات الخمس ولا تذكر من نكبة أهلها في تركيا شيئا سوى أنني كنت ألاحظ في عينيها العبرات تترقرق في المآق حين تذكر أمها. كانت تقول فصلوها عن أمها وترجت القوم أن يحافظوا على أخيها معها وكان لها ذلك. الأخ أصبح من موالي بيت البيطار في دمشق. اجتمعت به وعائلته الشامية الجديدة. وكان رجل ميكانيكي سيارات وهي صنعة لبوس للأرمن حيث حلوا وارتحلوا. ومن أم عدنان الشامية ولد له وصال وحنان وامتثال وزياد ومن امتثال جاء غلام اعتنق التدين الشامي ثم أصبح من الحزب القومي السوري الذي يؤمن بسوريا الكبرى أنِشأه نصراني اسمه انطوان سعادة اتهم بقتل رئيس الوزراء اللبناني الصلح فانتهت حياته على المشنقة. واجتمعت بابن امتثال في مؤتمر في بروكسل وكان مع رجل أسمه شقرا رئيس الحزب القومي السوري الاجتماعي وأنا أتأمله متعجبا من تصاريف الزمن من أرمني إلى صوفي إلى قومي واعجبا واعجبا. وكما أشرت فخالي طلعت كانت أمه من أصول مسيحية أرمنية من أيام (القفلات = القوافل من طوابير النقل الجماعي الذي قامت به الدولة العثمانية بعد التمرد المسلح في شرق تركيا) وهو لا يعلم، أو يعلم ولا يصرح، وهي تلك الزيجات التي تمت أثناء الترحيل القسري للأرمن من تركيا في عشرينيات القرن الفائت، ففاز البعض بالفتيات الجميلات، وهن نجون من التشرد والدعارة، فأسلمن وحسن أسلامهن، وقصص التاريخ مرة حزينة.. لذا لا غرابة عندي إن ناقشت أرثوذكسيا عن سبب انشقاق الكنيسة عند صدع البلقان على طبيعة الآب والأبن والروح القدس، ومن أين اشتق روح القدس هل من الآب أم الابن أم من كليهما معا؟ أو كاثوليكيا لماذا يرسمون صدورهم بالصليب وهي أداة قتل المسيح؟ وهل يقدس أهل القتيل المسدس الذي قتل به ولدهم؟ كنا نحتفل معهم في أعياد الميلاد، كما نحتفل برمضان والضحية، وجوزيف بدكانه المختص ببيع العرق والويسكي؟ الملاصق لدكان والدي يبيع كل أنواع الخمر المعتقة؟ أصدقائي رافع أبو الحسن الدرزي، وهابو وأخوه جيجي الأرمني، وجودت وابن أخيه سمير العلوي، وجورج ابن الصائغ الكاثوليكي، ودنحو السرياني (الوزير الحزبي الذي اجتمعت به أثناء الإمساك بي في درعا يوما)، ومروان شريف المردلي (الشارد من البعث إلى الطليان لاحقا) من نفس ملتي، قبل أن يرسخ حزب البعث الطائفية إلى درجة القرف والتقزز وحواف الحرب الأهلية.. هكذا كان حالي حتى جئت بلاد السلفية والوهابية فرأيت العجب؛ وأفهم هذا لأنهم مثل طيور البطريق إذا اجتمعوا في الانتراكتيس (القطب الجنوبي)، فلا يفرقون عن بعضهم في عقال وغطرة ودشداشة، ولأنهم محرومون من الرؤية الفراغية، والتباينات المذهبية، فلا يتصورون إلا لونا واحدا من الطعام واللباس؛ الكبسة والعباءة والغطرة... وأذكر في يوم من أيام عيد الميلاد، كيف تربص (الشباب الطيبة) بمجموعة من الممرضين والممرضات الفيليبينيين، فكبسوا البيت عليهم عسى أن يضبطوهم متلبسين بالجريمة النكراء وهم يحتفلون بعيدهم الذي احتفل به أجدادهم من قبل، ويحتفل به أهلوهم في كل مكان... إن الشباب الطيبة من المتعصبين المتشددين، يرتكبون ثلاث جرائم دون أن يشعروا برائحة جريمة؛ التجسس على القوم، ودخول البيوت من غير أبوابها، واقتحام الخصوصيات من غير استئذان، وأخيرا نار التعصب لظى نزاعة للشوى.. والله حرم التجسس، وحرم الاقتحام،  وأمر بالاستئذان والرحمة والمرحمة... ولكن بيننا وبين هذه المفاهيم الإنسانية مسافة قطر المجرة مائة ألف سنة ضوئية!! وفي النقاش الذي دار فيما سبق بين جيمس سواكرت وديدات قال له؛ سمحنا لك بالتبشير بالإسلام هنا في بوسطن وفيلادلفيا ونيوجرسي؛ فهل يمكن أن تعاملونا بالمثل فنعرض أفكارنا بين أظهركم كما فعلتم بنا؟ كان جواب ديدات ـ رحمه الله ـ نعم حين تأذن تأشيرة دخول لبلدنا، وهي أن تعلن إسلامك؟؟ والأمر يصلح للنكتة وليس للنقاش؟؟ الله يقول ولا تخاطبوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، ونحن حريصون على أن نخاطبهم بالتي هي أسوأ.. وفي يوم عيد الميلاد المجيد بدل أن نهنئهم ونبذل لهم المعروف؛ فإننا جدا حريصون على اعتباره بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؟ أما رفع الرايات والصور في عبادة الشخصيات فليست بدعة، والفتوى جاهزة بمعول يناسب فتحة هدم الإسلام.. وهكذا فلا يجوز مبادأتهم بالسلام، وإذا كنا في طريق يجب أن (ندفشهم) على جنب، ونجبرهم إلى أضيق الطريق، وتحويل حياتهم بيننا إلى جحيم وعداوة، تحت أحاديث مشبوهة عرجاء برصاء شوهاء عوراء.. .. لا عجب أن علَّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث مكذوب، ليقول له في النهاية إذا مرت عليك فانتبه لها فكلها أحاديث مكذوبة..
اقرأ المزيد
الطبقات السبع لمرض الزهايمر
الكثير من الأمراض تتسلل خفية دون أن ينتبه لها صاحبها، مثل التوحد والسكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان والخرف وأخيرا الزهايمر (Altzheimer)؟  وأفظع مافي المرض أن صاحبها يخسر نفسه وهو على قيد الحياة، فيحال بينه وبين إرادته ووعيه. تأمل الآية وأن الله يحول بين المرء وقلبه؟   التوحد يعرف عند الأطفال إذا انتبه الوالدان مبكرا، والسكري يضرب من ملأ وعاء بطنه فانتفخ، ثم هزل مع كثرة الأكل؛ فالطبيعة تعمل وفق قانوها الخاص، وارتفاع الضغط يفجر شرايين الدماغ فيسقط صاحبها مشلولا أخرسا على حين غرة، وهو لايصدق هول ماحدث فهوى؟ والسرطان يتسلل خفية مثل الأنظمة الشمولية فيقتل صاحبها بدون ألم ومظاهر صاخبة؛ فإذا عثر عليه كانت المعالجة أقرب للاستحالة، كما في النظام البعثي الذي ضرب الشرق الأوسط، مثل مرض القراد في قفيز النحل فهلكت النحلات العاملات. وأما الخرف فقد جاءت الإحصائيات أنه لايقل عن 1,6 مليون من الشعب الألماني وقع في قبضته، ثلثاهم أسرى مرض الزهايمر. يعود تاريخ اكتشاف المرض إلى أكثر من قرن (1906) حيث كان الدكتور الويس الزهايمر الألماني أول من وصف المرض بأنه خطير، يأكل الدماغ ويورث العته وتدمير الشخصية بعد تدمير الذاكرة. وحين تتجلل أعراض المرض الشخصية يستوي في تشخيصها الجاهل مع العالم، كما في رؤية اليرقان في العين (أبو صفار)، ولكن الانتباه لمؤشراته الأولى هو الأمر الحاسم؛ لأن صاحبها في طريقه إلى أن لايعرف من هو؟ فلا تبقى ذاكرة ولا شخصية ولا إرادة، ومنه فقد بدأ وزير الصحة الألماني  هيرمان جروهيه   Hermann Groehe) في محاولة استصدار موافقة برلمانية على التصرف نيابة عن صاحبها لغياب الأرادة، فضلا عن تطوع الشخص في التبرع للتجارب عليه من دواء، أو أخذ دماغه للتشريح لمعرفة سر الإصابة بهذا المرض الخطير بتعبير مكتشفه الأول الدكتور الزهايمر. (لم يعرف السبب وليس ثمة من علاج)، وحاليا تقوم الدكتورة كاثرينا بورجر (Katharina Buerger) رئيسة جمعية الزهايمر في المركز الجامعي في ميونيخ في ألمانيا بوضع خطة تفصيلية لفهم المرض في سبع مراحل طبقا عن طبق فما هي مراحل الانهيار في الطبقات السبعة للمرض؟ المرحلة الأولى يشعر صاحبها أنه ليس على مايرام وليس هو هو ولكن ليس ثمة أعراض أو علامات باضطراب خطير، ولايمكن الحدس كم تستمر هذه الحالة؟ لينحدر صاحبها تدريجيا إلى المرحلة الثانية ويعبرون عنها باضطراب خفيف بثغرات في الذاكرة، مثل الكلمات التي يحفظها فتطير منه بسرعة، أو الحاجات اليومية التي يتعثر في فهمها، وهي حالة غمامية مثل الضباب تذهب وتجيء، فيظن صاحبها أنه في منام عابر، والأمر ليس كذلك بل هي زحلقة نحو القاع من الانهيار العقلي وضياع الشخصية. المرحلة الثالثة هي التأثر الطفيف حيث ينتبه المصاب إلى أن من يعرف من أصدقاء ومعارف ومن يعمل معه أن الأشياء التي يقرأها ويتعامل معها سرعان ماتتبخر منه مثل البخار في الساونا. المرحلة الرابعة هي التأثر المتوسط بالمرض وهنا قد ينفع التشريح في الكشف عن قشرة الدماغ وما ذا يتم فيه من علة ومرض، ولكن المشكلة أن تركيب الدماغ وتفاعله كهربي كيماوي حيث تتصل كل خلية مع عشرة آلاف خلية مجاورة (نورنات) حيث يحصل انفراغ كيماوي من لغة بأكثر من أربعين حرفا، كل حرف بوظيفة، وكل اختلال بعلة (مثلا يقولون أن الاكتئاب مرتبط بالسيروتونين؟). في هذه المرحلة يضطرب صاحبها في أداء مهمات متكاملة، بسبب تكسر ارتباطات الذاكرة، يضاف له ماهو ألعن من بداية فقدان الذاكرة الشخصية، وهي خلاف مايحصل لكل واحد منا مع تقدم السن، من توهج الذاكرة البعيدة. عند صاحبنا مريض الزهايمر تبدأ في التبخر. لاندري قد يكون من جهة جيدا لأن آلامنا تأتي من ذكرى حبيب ومنزل. المرحلة الخامسة تبدأ بفراغات مزعجة في الذاكرة من عدم تذكر أين يسكن؟ وماهو رقم تلفون بيته؟ أو أين هي مفاتيح سيارته؟ أو ماهي الشوارع الرئيسية في البلدة التي يعيش فيها؟ هنا يحصل انقضاض المرض ليدفع صاحبه إلى المرحلة السادسة من تبخر الذاكرة شبه الكامل، وبدء اضطراب شخصية صاحبها، بل وإرادته، ويبدأ صاحبها في العجز والاعتماد جزئيا على من حوله من أفراد عائلته المهتمين بأمره؟ أما المرحلة الأخيرة فليست ختامها مسك بل علقم؛ فلا يستطيع المريض أن يخبر من حوله بماذا يدور داخله؟ ويبدأ في فقدان السيطرة على جسمه، فتتيبس المفاصل وتتكلس العضلات، بعد أن خسر إرادته ووعيه فلم يعد إنسانا. الدكتور الزهايمر الذي وصف المرض لم يعش أكثر من 51 سنة بكسر في عنق الفخذ، ونيلز بور مكتشف البناء الذري خرّف فلم يبق بناء؛ أما صاحب (نقد العقل الخالص) الفيلسوف إيمانويل كانط؛ فقد ضربته لعنة الزهايمر؛ فلم يعد يعرف أقرب الناس إليه، وأما فيلسوف القوة (نيتشه) فكان يقول لأخته وهي تقرأ بعض إبداعاته لقد كنت أكتب مثل هذا؟ فماذا جرى لهذا الدماغ؟؟
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram