- -

كوريا وكوبا وسوريا (1)، جمهوريات الخوف والبطالة وبقايا الجيوب الستالينية
ثلاث جمهوريات بنفس قافية الحروف ولكن اللعنة واحدة. وحديثنا اليوم عن أحد الجيوب الستالينية المفزعة هي كوريا الشمالية. وهو يقول لكم ماذا يفعل النظام السياسي فهو بمثابة الدماغ فإن صلح الدماغ صلح الجسد. وكما جاء في الحديث ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وعندما خُسفت الأرض بصدام المصدوم كان حزن (كيم يونج II Kim Jong) زعيم كوريا الشمالية كبيرا فقد اختفى لمدة خمسين يوماً عن الأنظار، ثم ظهر على الناس ليقول: إذا كانت أمريكا تظن أننا سوف نتخلى عن أسلحتنا فخطؤها كبير. وعادة الاختفاء هذه يقلد فيها آلهة الإنكا، أو بتعبير الفيلسوف البليهي (هالة الغموض وسحر الغياب). وفي علم النفس التحليلي يقول (سكينر B.F.Skinner) في كتابه (ما خلف الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity) الذي ترجمته سلسلة عالم المعرفة إلى (تكنولوجيا السلوك الإنساني)أن هناك (علاقة عكسية بين مقدار التقدير ووضوح الأسباب). وأن مقدار ثنائنا على شخص يدير جهازا معقدا هي من غموض العملية أمامنا فإذا عرفنا سرها تبخرت هالة الشخص. ويشرح (روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) أن علم الدجل يقوم على خمس درجات: ابق الأمر غامضا ـ ركز على البصري والحسي أكثر من الفكري ـ اقتبس طقوس الدين ـ موه مصادر دخلك ـ وأما الخطوة الخامسة فأقم حركية (نحن) ضد (هم). وهو ما اعتمده الطاغية: دمروا الإمبريالية الأمريكية. وتحت هذا القانون فقد اختفى الرجل مع حداد والده ليس ثلاثة أيام بل ثلاث سنوات، ثم خرج على الناس فقال: إن القائد واحد، والتاريخ رحم ينجب العباقرة مرة واحدة، ثم قام بحركة مسرحية فاستغنى عن رئاسة البلد، وقال هناك قائد واحد (أبدي)، واتخذ لنفسه اسماً متواضعاً (القائد المحبوب). أما العصابة من حوله فقد سمته الرمز والأمل، والمخلص، وهدية السماء إلى الشعب الكوري، والمهندس الأعظم في كل الأزمنة، والمخرج السينمائي الذي لن يلحقه فنان، والموسيقى الموهوب الأمهر بين كل نوابغ الموسيقى، وأن عنده ملك لا ينبغي لأحد من بعد. وقريبا من (بيونج يانج) العاصمة أقيم متحف فيه 200 غرفة بأشد إضاءة ممكنة لبلد يحتاج لشمعة، وداخل المتحف صور تعظيم الأب القائد والابن الأمل بـ 49808 قطعة مهداة من 170 دولة مثل بارودة صيد من بوتين، وشماغ من ياسر عرفات، وحقيبة من جلد تمساح من كاسترو، أو دب اصطاده تشاوسسكو بنفسه وحفظه محنطا فأهداه للرفاق، وأما خارج العاصمة حيث يرتفع تمثال الأب بأعلى من ناطحة سحاب فلا شيء يعمل، والشيء الوحيد المتماسك هو الجيش والمخابرات، والشيء الوحيد الذي يصدرونه  هو تقنية الصواريخ، وهم قاموا بتبادل فني مع باكستان فأعطوهم الصواريخ، وأخذوا منهم  تقنية الوصول للقنبلة النووية، كل ذلك على يد (روبن هود) العصر النووي العالم الباكستاني (عبد القادر خان) الذي زاد مشاكل العالم مشكلة، وأدخل الشرق الأقصى  رحلة سباق تسلح. وقصة الطاغية في كوريا الذي يلوح حاليا بالدمية النووية ترجع إلى عهد ستالين، فقد نصب الشيوعيون والده (كيم سونج الثاني Kim II Sung)  على كوريا الشمالية عام 1948 م الذي حكم مثل جنكيزخان وبول بوت لمدة 46 سنة حتى نفق عام 1994م، ثم جعل الحكم الثوري ملكيا، كما هو الحال مع الثوريين العرب الذين جاءوا حفاة عراة فتركوا لأولادهم العروش الملكية بعباءة جمهورية فضفاضة. وكيم يونج يحب النساء السويديات حصرا بسيقان طويلة، وتحت تصرفه سيارة مرسيدس بقيمة عشرين مليون دولار مما يذكر بعدي وقصي، وينطلق في شوارع (بيونج يانج PJOENGJANG) مع مسدس يتسلى به في إصابات أنوار أعمدة الكهرباء، وأكثر ولعه بأفلام الرعب وجيمس بوند، وعنده وهو الاشتراكي 20 ألف فيلم غربي، وحينما أعجبته الممثلة (شوي اون هوي Choi Un Heu) عام 1978م خطفها من هونج كونج ثم ألحق بها المخرج (شين سانج أوك Shin Sang Ok) حتى تمكن الاثنان من الفرار لاحقاً من جمهورية الجوع. و(القائد المحبوب)  قتل عام 1974م زوجة رئيس كوريا الجنوبية (بارك شونج هي Park Chung Hee) ـ كما في قصة قتل الحريري في لبنان ـ وأكملها بقتل حفنة من الوزراء (الكوريين الجنوبيين) كانوا مجتمعين في رانجون عاصمة بورما عام 1983م ، وثلثَّها بقتل 115 بريء على ظهر طائرة كورية جنوبية، كما في قصص قتل جنبلاط ومعوض وحسن خالد والرائع سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث، الذي جاء إلى جنازة أمه في بيروت فلحق بها بعد أن كسرت المخابرات السورية أصابعه التي بها يكتب، وهو مصير كاد أن يلحقني حينما ذهبت لجنازة والدتي في الأردن ومن نجاني كان جواز سفري الكندي.  فلا أمان في غابة العروبة لقط أو طير. والمشكلة عند (القائد المحبوب)  في طوله 160 سنتمتر، ولذا فهو ينوع أشكال روافع الحذاء بأكثر من أحذية النساء بدون فائدة، ويستعين عن قصر القامة بلبس بدلة طويلة؟ ويحكم البلد مثل مافيات المخدرات فيتاجر بكل شيء بما فيها تزوير الدولار فليس من مهنة قذرة ولو كانت قاذورة.
اقرأ المزيد
مفهوم الشهادة والشهيد والاستشهاد (2)
ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة) و(الشهداء 20 مرة) و(الشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد)(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)(عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا، بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ومنه جاء كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة، بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد، فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا.  و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما ليس للألفاظ منها، وثانياً بالخطأ فيما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام؟ وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ. ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة، ويكسب القاموس لفظة، كما يقول (النيهوم)، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟ والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة. ستكتب شهادتهم ويسألون؟ وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى. وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه وتعلقه بفكرته والإخلاص لها بغض النظر عن صحة الفكرة. وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة. وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي، ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب، كما حدث في لبنان وراوندا والجزائر. كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات أو مصالح تافهة أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد. ولا يوجد أرض مقدسة في نظر الإسلام؛ فالقدسية لا تخلع على التراب، ولكن تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب و(الشهادة). وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة. فليس كل من يموت من اجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة). ومات الكثير من الشيوعيين والفاشيين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة أو أن الفاشية منتهى التاريخ. وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة. وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخَّن سيجاره قبل الموت وضحك لمن حوله، وقال: هل هي سوى موتة، وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا. وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) عندما يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من اجل أفكارك؟ كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!. وفي الفلسفة المسيحية ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره. وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه. فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها. والرجلان بين يدي رب العزة الآن يختصمان. ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب، الذي فتح بالسكين على السرطان؛ فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان. ونفس سيد قطب يقول إن "كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة"؟! ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل؛ فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة تعدى الأمر فلم يعد مزحة بسيطة بل رعب مخيف. ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية؟ فهذا قانون... وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر... . وكل محظور مرغوب... وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام. وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟ وسقط سور الصين من اجل محظية جنرال. وهنا تحضرني قصة؛ ففي مناسبة ما يسمى (يوم الشهداء) تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء، بحضور مجموعة من الأمهات المفجوعات، كما كان يفعل الترابي مع حملات الجنوب، التي كان قرابينها خمسين ألفا أو يزيدون، قبل رفع الراية البيضاء للسلام، في يد سياسيين كذابين، حتى جاء دور رجل فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء فلم يكن أولادكن سوى قرابين بشرية لأصنام هؤلاء؟؟؟ فاحمرت الأحداق واشتدت القبضات، ولكنه نجا من أيديهم،  وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار. أما الرجل فكان داعية السلام جودت سعيد ....  
اقرأ المزيد
مفهوم الشهادة والشهيد والاستشهاد (1)
ليس هناك كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد. ولا يوجد كلمة غامضة مثل الشهيد. ولا يوجد كلمة مضللة مثل كلمة الشهيد. وفي القرآن جاءت مفردات هذه الكلمة 82 مرة ولم تكن مرة واحدة فيما يريده ويكررها الناس. وفي الحقبة الناصرية (جمال عبد الناصر والوحدة العربية بين مصر وسوريا) ما زلت أتذكر نفسي، وكنت يومها طالباً في المرحلة المتوسطة، وكانت لا تمر ثلاثة أيام؛ إلا وخرجنا نهتف بحياة شهيد من الشهداء، منهم الشيوعيين، وانتهاء بصانعي الانقلابات! وفي يوم كانت المظاهرة للهتاف بحياة (الشهيد) (باتريس لومومبا) وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟ وهذا ليس انتقاصا لقدره فقد رأيت عنه برنامجا في قناة الديسكفري فتحت عيني على حقيقة الرجل لأول مرة خارج الدجل الناصري وصيحات (الصحاف) القديم أحمد سعيد في صوت العرب. وفي يومٍ مررت على قبر مجرم (عبد الكريم الجندي) لمع نجمه كجلاد ورئيس مخابرات في سوريا أيام البعث الأولى، وكان الرجل يحب استعمال نعله في التعذيب  (الشاروخ)، فقرأت فوق قبره "ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون؟" وكان المجرم المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله على وجوههم كما ذكرت. ولم ينجو أحد من يده بمن فيهن النساء. وفي يوم وقع تحت يده رجل دين مسيحي؛ فقال له أعلم أن الفاتيكان سيتدخل لإنقاذك، ولكنك ستمضي عندي يومان، هما في عمر الزمن سنتان، ثم أمر بحبسه في دورة مياه طافحة؟ ثم مات الرجل قتلا أو انتحارا بيد جلاد أدهى منه وأمر، ثم مات الرجلان إلى الأبد، كما كانت الجماهير المغفلة تزعق بحياتهما إلى الأبد، فهما الآن في دار الحق يختصمان. وفي 22 يوليو من عام 2003م انتهت حياة قصي وعدي (السبطين!) قتلاً، كما قتلا الكثير من الناس؛ فذاقا من نفس الكأس، واتبعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين. وفي الأردن اجتمع الناس لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين عدي وقصي؟ ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان (العلوج) الأمريكيين كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس للطلبة المنكوبين. وفي يوم انتشرت الموضة في العالم العربي فمنهم من سما ابنه (ستالين) وآخر ابنته (جيفارا) وثالث (سيد قطب)، والأولاد يحملون أوزارا فوق ظهورهم من أسماء لا ينتسبون لها إن لم يكن عكسها وغير مسئولين عنها. وعندما قتل (آرنستو تشي غيفارا) الطبيب الأرجنتيني في غابات بوليفيا اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء مثل حمزة بن عبد المطلب. وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة فيقتل ويقتل يعتبر عند مفتي الديار في بلد ثوري، أنها (شهادة في سبيل الله) لا يقترب منها شهداء القادسية واليرموك. أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابياً وقاتل نفسه وانتحاري. وما يحكم على عمل ما ليس الفتاوى والنصوص بل العواقب. وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى؟ وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية يعتبر القتيل في عين أهله شهيدا. وفي أعين خصومه مجرما. والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة. وبين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة؛ فكلها ممارسة لعمل جنسي، ولكن الأول يقوم على (السرية) والثاني على (الإكراه)، والثالث على (الرضا والقبول والإشهار). وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن عملهم جهادا، أما هم فسموا أنفسهم الشراة، أي من باعوا نفسهم في سبيل الله لقضية لم تكن ناجحة. وإذا أراد الجراح  استئصال زائدة دودية في سوق الخضار فإنه يعد  قصاباً  ولو كان سيد الجراحين. فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس، وهم نصف معذورين، ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذي يسقون عقول الشباب بهذه السموم. وليس هناك من أمر أكثر إثارة من (الجهاد) و(الاستشهاد) كما لا يوجد موضوع أكثر خطرا وضبابية منهما. وفي يوم كان أحدهم يكلمني فقال ألا تقرأ قوله تعالى: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين"؟ فقلت له ألا تقرأ قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة"؟، وقوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"؟ والقرآن حينما يقرأه أحدنا لا يجد في نهايته فهرساً للموضوعات مثل القتال والشهادة متى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ بل يجد آيات متناثرة مثل النجوم في قبة القرآن. وإذا كنا في نجوم القطب نصل بينها بخط ؛ فنعرف الشمال من الجنوب، ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر، كذلك الحال في آيات القرآن. ورؤية فراغية بنيوية من هذا النوع مفيدة في فهم آيات القرآن. والمشكلة مضاعفة في معالجة نظام الفكر. فالعقلية النقلية هنا تواجه العقلية النقدية. وهي مشكلة أعترف أنها ليست سهلة الحل ولكن لا بد من خوض غمارها واقتحام لججها. وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة وضرب الكفار في دار الحرب حيث يستباح كل شيء؟ في الوقت الذي اعتبرت أمريكا أنه جريمة نكراء وانتحاريون مجرمون. وكما يقول (نعوم تشومسكي) الناقد الأمريكي أن قرصاناً ألقي القبض عليه في زمن الاسكندر فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأسمى قرصاناً أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا؟! وعندما انتشرت مفاهيم (الجاهلية) من فكر (سيد قطب) في الستينات من القرن العشرين ومن ذيولها  فكرة (العزلة الشعورية) مما دفع البعض إلى اعتبار أن احترام (إشارات المرور) هو احترام الجاهلية، وأن خرق أنظمة المرور هو عين التقوى؛ لأنه تمزيق شبكة المجتمع الجاهلي، لمسلم يعيش في مجتمع جاهلي (عضوياً) ويحاربه فكريا وعمليا.  
اقرأ المزيد
رجل الدين في السياسة
ليس (أضل) من رجل الدين، عندما يعتلي منبر السياسة فيحلل الأوضاع، مثل الأخرس الذي ينقل عن آخر مهمته الكلام، أو الصيني الذي يريد التحدث بلغة صربية. ولا (أخبث) من السياسي، حينما يلبس مسوح الكهان فيتحدث بالأخلاقيات والمباديء. وليس (أقبح) من منظر الرجل المخنث أو المرأة المتصابية، لأن كلاً منهما لا يؤدي دوره. (السياسة) تعني الكذب كما صرح بذلك (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني؛ فصدق خلاف العادة حينما قال: إن أحاديثنا مع الزعماء العرب تدور على مستويين فما نقوله بيننا لا نصرح به على الملأ. والواعظ الأمريكي (جيري فولويل) خرج على الناس يوما فقال عن محمد ص: إنه إرهابي. وهو بهذا يمزج بين ثلاثة أمور لا يمكن أن تشكل سوى مركب شديد الانفجار: (كذب السياسة) و(قلة الاطلاع) و(التهور ) كمن وضع أصابعه في عش الدبابير الإسلامية مع الإساءة إلى خمس الجنس البشري؛ فخسر صدق المتدينين وكسب نفاق السياسيين ألا ساء ما يحكمون. على كل حال لا يوجد في الإسلام رجال دين، بل علماء، وهم معرضون لنفس المرض السابق عندما يتحولون إلى وعاظ السلاطين؛ فلا يغيروا رسم القرآن، ولكن يفسرونه حسب المسطرة السلطانية، ويحفرون ثغرة في الدين تناسب حجم السلطان السمين. وتفنيد التهمة السابقة سهل، وهي شغل يجب أن لا نقع فيه في معركة (صراع الأفكار) كما يقول (مالك بن نبي)، على مبدأ (المرآة العاكسة) التي شرحها (روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) حسب المبدأ 44: أن المرايا خداعة بشكل هائل، لأنها تخلق شعورا بأنك تنظر إلى العالم الحقيقي والواقع أنك لا تنظر إلا إلى قطعة من الزجاج، فكل شيء مقلوب إلى عكسه. وفي كتاب مالك بن نبي (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) توضيح لهذه الآلية الخفية في إدارة كفة الصراع وتسليط الظلال على أفكار بعينها لتشويهها؛ فالثور لا ينتبه لمن يلعب بالخرقة الحمراء؛ فيقع في النهاية صريعا تحت استحسان الجمهور وصفيرهم وتصفيقهم للمصارع الجسور. وجرب (أحمد ديدات) سابقا حظه مع (جيمس سواكرت) حينما دعاه للمناظرة في أمريكا، وكان كلاً منهما يحاول أن يثبت للآخر أن دين الثاني باطل، وأن كتابه مليء بالتناقضات؛ فأساءا إلى القرآن والإنجيل معا، وحركا قضايا قديمة بكلمات جديدة، في الوقت الذي نادى الدين، أي دين إلى التسابق في الخيرات، والاعتراف بالآخر وأن الكون مبني على الاختلاف. يذكر المؤرخ النمساوي غومبريتش في كتابه (مختصر تاريخ العالم ـ سلسلة عالم المعرفة 400 ـ ص 268) أن خلطة عصر التنوير كانت ثلاثة مباديء: العقلانية وسماها (المنطق) مع التسامح والإنسانية. ولكن فقهاء الدين يحاولون بكل سبيل إرجاعنا إلى ما قبل التنوير لندخل عصر الظلمات وباسم الله. وحينما كان غاندي في محنته مع المتعصبين من الهندوس والمسلمين أعلن الصيام حتى الموت، حتى تتوقف أعمال العنف؛ فلما هدأت ثورة الدم تقدم الهندوسي، وهو يبكي، وقال قتل المسلم ولدي! قال له غاندي: وماذا فعلت أنت؟ قال قتلته: ثأرا لابني! قال غاندي، وهو بالكاد يستطيع النطق: هل أدلك على طريق يهديك إلى الجنة؟ أن لا تقتله، بل تربي ولده على الإسلام كما أراد والده أن ينشأ. عندما كنت في ألمانيا اجتمعت بخليط لا نهاية له من الفرق المسيحية، وكنت أكرر عليهم جملة واحدة: هاتوا لي فقرة واحدة في الإنجيل يقول فيها المسيح عن نفسه أنه الله؟ فضلاً عن عقيدة التثليث ومركب الأقانيم، وأن الله انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر، وأن الله ثلاثة ولكنه واحد فيما هو ضد الرياضيات! كان القوم يصابون بالذهول، لأنهم وجدوا آباءهم على أمة؛ فهم على آثارهم يهرعون، ولم يكونوا معتادين على مواجهة سؤال من هذا النوع. وكان البعض يعترف وهم قلة. وفريق ثان كان يقول لا مجال للفهم أو العقل في العقيدة كما اعترفت لي بذلك راهبة بروتستانتية. ومنهم من كان يماحك، فيقول جاءت فقرة في أول إنجيل يوحنا: في البدء كان الكلمة وكان الكلمة الله! ولكن مثله مثل من يريد بناء برج بيزا على ظهر حيوان اللاما متسلقا جبال الانديز؟ ومن أعجب ما قرأت لقس مسيحي كتابا يقول فيه إن القرآن جاء بألوهية المسيح مستشهدا بقوله تعالى من سورة الزخرف: "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين"، وهي جملة شرطية كما نرى. سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون. وهكذا، فالجدل في هذه الأمور يمكن أن يدوم ألف سنة دون دخول بوابة العلم. كنت أقول لهم ألا تتعجبوا من موضوع ألوهية المسيح غير المبرهنة وغير الواضحة في الإنجيل، فمن أين جاءت هذه العقيدة التي تبنتها الكنيسة؟ كانوا يقولون، فماذا تفعل بكلمة أبي الذي في السموات؟ كان جوابي، إنه لا يزيد عن معنى رمزي، وهو أمر علمه لجميع الناس في موعظة الجبل (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون). كل منادى بالسلام، مثل غاندي ومالكولم اكس وروزا باركس السوداء، والمناضلة البورمية أوانج سو كايا وبيرتا فون سوتنر الألمانية والهندية أراندهاتي روي وامرأة فرعون وقرة عين الفارسية وايميلن بونكهرست التي قادت مظاهرة في لندن في 18 نوفمبر من عام 1910م، فضربهن ألف من الشرطة لمدة ست ساعات متواصلة وماتت سيدتان. كلهن أبناء الله وبنات الله بالإضافة، وليس الاشتقاق وبالمعنى الرمزي. والإسلام دفعاً لهذه الإشكالية برمتها حذفها جملة وتفصيلا ووضع بدلا عنها كلمة عبد الله. قد تكون الكلمة في الأصل هكذا؛ فاختلطت على المترجمين من الآرامية إلى اليونانية، أو أنها كانت معنى اصطلاحيا شائعا كما نقول نحن رب المنزل وربة المنزل، فلا نعني بها أن المرأة والرجل تحولا إلى آلهة من دون الله يعبدون. ولكن لا المسلمين يعرفون هذا، لأنهم لا يقرأون الإنجيل، ولا شهود يهوه وفرق المسيحيين يقرأون القرآن، فيعرفون المتشابه في روح الرسالة.
اقرأ المزيد
مستنقع الطائفية (3)
وفي الوقت الذي أنشأ الفاطميون الأزهر لا يوجد اليوم فاطمي واحد في الأزهر. في حين أن العراق بلد الشقاق والتناحر والعنف. فيه ألف ملة ونحلة ولغة. فمنهم من يوحد الإله، أو يزعم أنه انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر، أومن يقدس عليا ونسله، أو يعبد الشيطان ويسميه طاووس بذنب وثيل. من كرد وعرب، وشيعة وسنة، وتركمان وآشوريين، وكلدان وسريان، ويزيديين وأرمن، وآراميين وزرادشتين؟ كل طائفة وملة ونحلة بمدرسة ومعبد وكنيسة وفرقة موسيقية وعلم يرفرف؟ كل حزب بما لديهم فرحون؟ هي أرض شظايا الأديان والحضارات، خلال ستة آلاف سنة،على حد تعبير المؤرخ البريطاني توينبي، في شرانق مغلقة تتبادل الريبة والكراهية، كما أعرف ذلك من مدينتي القامشلي التي ولدت فيها فهي على خاصرة العراق؟ ففيها ثماني أديان و12 لغة و18 لهجة في 28 شرنقة. والعراق منذ القديم لا يعرف كيف يحكم نفسه، ويعجز عن حكمه من يأتيه من الخارج؛ إلا الحجاج ومن سار على دربه.. وما أمر فرعون برشيد. وحسب عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) فإن العراق مصاب بثلاث مصائب كل واحدة كافية أن تكون مرضا غير قابل للعلاج: من ازدواج الشخصية. وصراع البداوة والحضارة. وأخيرا التناشز الاجتماعي بين التراث والحداثة. وحسب (البزاز) فإن أعظم كارثة حلت بالعراق هي تريف المدينة مع الانقلابات الثورية على يد عساكر الأقليات وأميين الريف؛ فدمر المجتمع المدني تدميرا، وهو ما حصل في عاصمة الأمويين؟ وقد يكون كلام البزاز يمثل نصف الحقيقة؛ فالحقيقة عادة صادمة موجعة. لقد حاولت أمريكا على ظهر الدبابات بالبارودة والعصا أن تحدث تجربة تاريخية في خلق (ديمقراطية كاذبة) في بلاد الرافدين، فكانت النتيجة مذابح الهوجونوت والكاثوليك ـ عفوا السنة والشيعة والأكراد والتركمان ـ لجهلهم بطبيعة الأمم وقوانين التاريخ، وأن التغيير بالدبابة لا يأتي إلا بالذباب، وتتويج سلاطين من حجم ترانزنستور من نوعية المالكي بدون ملك؟ ويبقى خيار (الديمقراطية) أفضل من (الإلوهية السياسية الحقيقية). وفي الوقت الذي تهزم فيه أمريكا عند بابل وأوروك سيتم مطاردتها في كل مكان، وستدمر إسرائيل ربما في نصف قرن تدميرا كما يتوقع (أوري أفنيري) الصحفي الإسرائيلي ونشره في مقال معبر بعنوان لبسنا قمص نيسوس اشتقاقا من الأساطير اليونانية حين أرادت امرأة هرقل أن يعشقها زوجها فكلفت نيسوس برأس انسان وجسم حصان أن يغمس قميصا في نبع الحب فيلبسه هرقل فيهيم بها عشقا ! وما حصل أن نيسوس غمسه في نبع السم فلبسه هرقل فمات من فوره. وحسب عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) في كتابه (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية) فإن أوربا احتاجت أيضاً أجيالا حتى انبعث الفكر النقدي من رحم الفكر النقلي ـ كما رأينا في نماذج الفكر التنويري على يد (مندلسون) و(ليسنج) وكلاهما كانا متعاصرين، كما كان الحال بين ابن رشد وابن طفيل في الأندلس. كلاهما نشأ من أب تقليدي متشدد؛ ولكنهما شقا الطريق إلى الحداثة، كان أبو الأول كاتب للتوراة، وكان والد الثاني الثاني واعظ لوثري، ومن رحم التقليد خرج فكر التنوير، كما يخرج الله الحي من الميت ذلكم الله فأنى تؤفكون. ومن نور الحداثة ونارها تم تدمير الكنيسة والإقطاع. وولد الرأسمال والعمل والبرلمان والصحافة والتعددية والتأمينات الاجتماعية ونقل السلطة السلمي. إن الطائفية شر مستطير على الطائفة قبل غيرها. من يلعب في النار لا يجعل النار لعب بتعبير النيهوم. وهي خطر على كل مستقبل الطائفة، لأن يوم الفصل كان ميقاتا، فيحكم بقطع رأسها على مقصلة التاريخ. ولنا في قصة مذابح التوتسي والهوتو ويوغسلافيا عبرة لمن يعتبر. واليوم ودع العالم حكم العائلة والقبيلة والطائفة والدولة الإقليمية فهذا هو روح العصر. ونحن ليس أمامنا إلا سنن من قبلنا. ولا يمكن حرق المراحل ولكن كشف قانون الشيء يمنحنا السيطرة عليه وتسريع عمليات الشفاء. كما نفعل مع المريض. وكما يقول مالك بن نبي إن التعامل مع القانون لا يعني إلغاؤه بل التعامل معه، بما يمنحنا السيطرة عليه، كما أمكن للحديد أن يطير عل شكل طائرات؛ فهنا لم يتم إلغاء القانون، بل تم التعامل معه حسب وجوده الأزلي بتداخل القوانين على بعضها البعض وتسخيرها لبعض. وأوربا اليوم ودعت مرحلة الدولة القومية، باتجاه الدولة العالمية ، في أعظم تجمع عرفه التاريخ، بدون سيف جنكيزخان، ولا مدافع نابليون، أو مدرعات هتلر، وأشرقت شمس اليورو تحت كلمة التوحيد؛ فلا يتخذ البشر بعضهم بعضا أربابا من دون الله. إن كل ما نكتبه لا قيمة له والشعوب تتعلم بالمعاناة. وحتى يعود الوعي من المنفى ليس أمامنا إلا البكاء وصرير الأسنان والحروب الطائفية، والمذابح المذهبية، وموت الإنسان بتفاهة ورخص وبدون قضية. والشعوب لا تصل إلى شاطيء الوعي إلا على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. إن ما حدث من زلزال في العالم العربي بعد طول ركود، يجعلنا نؤمن أن التاريخ تقدمي، وليس عبثيا، وأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.. كذلك يضرب الله الأمثال.. وأن الأمم سوف تتعافى من سل الطائفية وجذام الحزبية وإيدز العائلية وسرطان العسكرية ولو بعد حين؟
اقرأ المزيد
مستنقع الطائفية (2)
وغالب أقطار العروبة وقعت في قبضة عائلات إقطاعية مسلحة. في مربعات لسجن الضمير. وأول شيء برعت فيه السلطة الفلسطينية أنها فرَّخت تنينات أمنية تقذف باللهب. وجدير بالذكر أن أجهزة الرعب في أقطار أخرى اشتقت اسمها من فلسطين (فرع فلسطين) ، فما عجزت عنه بقية الأجهزة حله فرع فلسطين بكل اقتدار. مع هذا فهناك دول عربية ليس فيها مرض الطائفية، بل يدين البلد كله بالإسلام، وبمذهب واحد (سني) ولكنه مبتلى بأشد من الطائفية من جنود فرعون وهامان، مما يدل على أن الجثة تتناوب عليها أشكال شتى من الحشرات. وجثة العالم العربي اليوم تنهش فيها الديدان والذبان من كل صنف زوجان. فبلد عموده الفقري طائفي. وآخر الأمن المركزي. وثالث قبائل بني دوس وهذيل. ورابع عائلة تنتسب إلى النبي بسلسلة ذهبية. وخامس يزعم أن الكريات الحمر التي تدور في عروقه ملونة بلون نبوي أخضر. ومنهم من زعم أنه وصل إلى حل كل مشاكل الجنس البشري بما وضع نفسه في مكان الله رب العالمين بقرآن أخضر، كما كان من حكاية القذافي المقذوف الذي انتهى على الخازوق. إننا نعيش عصر الجنون العربي بدون مصحات عقلية وأسوار وأطباء وصدمات كهرباء وانسولين كالذي عولج به جون ناش العبقري المجنون؟ الطائفية مرض مثلث الزويا كل زاوية فيه تعلن إلغاء الإنسان: فهي أولاً انشداد لطائفة لا حرية للإنسان في اختيار الرحم الذي انقذف منه إلى الحياة؛ فمن ولد في الناصرية سيكون شيعياً على الأغلب. ومن ولد في منطقة البربر نطق الأمازيغية. ومن ولد في جبل سنجار سيكون يزيدياً يعبد الشيطان ـ أو يخافه ـ ويقول أنه (طاووس) مستخلف من الله بحكم الأرض عشرة آلاف من السنين! ومن ولد في حي الميدان في دمشق سيكون سنياً ما لم يحدث تسرب من فيروس شيوعي أو جرثوم بعثي عبثي؛ فيغير الكود الوراثي فيخرج كافرا بكل الملة. يحدث هذا حتى يثبت العكس. وله الحق في ذلك إذا اختار، ولكن هل هامش الخيار كما نتصور أم أنها إكراهات المجتمع. والطائفية ثانيا تعني استقطاب واستخدام من هو من نفس الفصيلة الحيوانية، مثل تعاون الحشرات على التهام الفتات، والذئاب في مطاردة الفريسة؛ فهنا يغيب الوعي وتعمل الغريزة. كما حصل في سوريا بانتشار عفن الطائفية مثل الفطر في الغابات والبعوض في شرق ألمانيا والجراد في الصومال. فكلها مناخات مريضة تنمو فيها العلل القاتلة. والطائفية ثالثا تعني العمل لصالح مجموعة، والقتل باسمها بما يجر عداوة كل الطوائف. وهو بكلمة ثانية تصدع المجتمع وبرمجة الحرب الأهلية ولو بعد حين. وإذا سالت الدماء في العراق أنهارا فهو أمر طبيعي. وإذا تكرر هذا الشلال المنكود المنكوب في بلد آخر فهو تحصيل حاصل كما في سقوط المطر إلى الأسفل وصعود الغازات لأعلى. وإذا قتل الناس بعضهم بعضا بأشد من يوغسلافيا فهو تحصيل حاصل. وهذا الكلام يفسر… ولا يبرر. والقوانين الاجتماعية لها نظمها الخاص. سنة الله في خلقه. قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا (طوائف) ويذيق بعضكم بأس بعض؟؟ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون؟ الطائفة في الأصل جمود في الزمن، وانتساب لعصر ولى وأدبر، وانتماء لأناس لسنا مسئولين عن تصرفهم وفهمهم؟ وقتل للفردية، وإعدام للاستقلالية وسلب كل ذي لب لبه. وتعتبر مصر ـ بالمناسبة ـ مركز خصب لتفريخ الطوائف والأحزاب؛ فمنها خرج الإخوان المسلمون، والحاكم بأمر الله الفاطمي والإسماعيلية والحشاشون. أما في مصر فقد أذابهم حمض الزمن، ولكن في سوريا حمتهم الجبال والعزلة والتاريخ، وسوف تذيبهم التكنولوجيا الحديثة.. كان ذلك في الكتاب مسطورا.. وكمال جنبلاط في لبنان لم يسم نفسه الحزب الدرزي وعقلاء الجبل، بل الحزب التقدمي؟ فهل هو تقدمي بكود وراثي طائفي؟ أم حقا تقدمي يتقدم إلى عرض التاريخ؟ على العموم التاريخ تقدمي ولو مع نكسات كما في مخططات البورصة وصعود وهبوط العملات والمعادن. المدهش في مصر أنها رحم للطائفية بدون طائفية؛ فهي تصدر الأمراض ولا تصاب به مثل مرض الهيموفيليا (الناعور ـ سيلان الدم لأتفه جرح كما عرف التاريخ عن الكسي ابن نيقولا الثاني الروسي وراسبوتين الدجال ) الذي تحمله الإناث ولا يصبن به. والسبب في مصر جغرافي بحت. فالنيل لا يسمح بتشكل الطائفية والطائفة. وليس أمام الناس على ضفتي النيل إلا الاختلاط والتجانس أو الموت في الصحراء. ولعل هذا كان من أسرار نجاح ثورة 25 يناير 2011م حين التحم الأقباط والسنة والشيعة والأرمن وحركة كفاية و6 أبريل بفلاحيهم ومثقفيهم جاهلهم وعالمهم؛ فالمصريون يشبهون اليابانيون من جهة شدة التجانس واللغة والعادات منذ أيام الفرعون بيبي الثاني؟ كان هذا من أسرار نجاحهم حتى جاءتهم علة السلفية والإخوان، ولن يصلح أمرهم إلا بالتجانس من الجديد، وتعقيم البلد من جراثيم العسكر.
اقرأ المزيد
الصبر والمكر: قصة الامبراطور هيلا سيلاسي والمحارب بالخا
ليس ثمة عدو للإنسان أكثر من فقده لصبره. وفي سورة مختصرة قصيرة ثمة تركيز على أربع صفات هي مفتاح تشكيل شخصية المؤمن في العصر إنه لفي خسر إلا الإيمان والعمل الصالح والمحافظة على ضبط النفس وتدريبها بالصبر والتواصي بالحق والحقيقة. هذه الصفات إنسانية المنشأ هي عمود فقري في كل ثقافة والله لايحب الظالمين. أنا شخصيا اطلعت على ثقافات متباينة ورصدت كتابي (كليلة ودمنة الجديد) متتبعا آثار ابن المقفع فوضعت 200 قصة من التراث العالمي في أربع مجلدات عن القصص العالمية ودروس الإيام وعظاتها. وبين يدينا الآن قصة رائعة عن مزيج لايصل إليه إلا الأفراد القليلون من ضبط النفس والصبر والتخطيط البطيء مثل من يلعب لعبة الشطرنح. من هذه القصص وقعت على ثروة رائعة عند الكاتب روبرت غرين في كتابه القوة (Power)   وقام بترجمة الكتاب البيجرمي على نحو جميل. وهذا الكتاب قبل ترجمته إلى العربية وقعت عليه في مجلة در شبيجل الألمانية حين أشاروا إليه واعتماد 48 قاعدة في لعبة القوة. من هذه القصص أضع بين يدي القاريء هذه القصة المعبرة عن جدلية المكر والصبر. في العشرينات من القرن العشرين استطاع الامبراطور (راس تافاري) الذي اتخذ لاحقاً اسم  (هيلا سيلاسي)  توحيد الحبشة بين قبائل تتناحر وزعامات من رجالات الحرب لانهاية لهم. وكان ما يلفت النظر  شكله الناعم وطبقة صوته المنخفضة. وبدأت تلك الزعامات بالتوافد عليه إلى  العاصمة (أديس أبابا) لإعلان الاخلاص والطاعة للعرش الامبراطوري. وكان توافد الرجال بين مستعجل ومتردد أو متباطيء ولكن رجلاً محارباً شديدا هو (جازماخ بالخا) من (سيدامو) في الجنوب رفض الدخول مع الداخلين. وكان رجلا محاربا يخشى جانبه. وانتظره هيلا سيلاسي طويلاً بدون فائدة حتى كان اليوم الذي طلبه الامبراطور للحضور إلى العاصمة ليقابله فتظاهر بالامتثال وحضر ومعه جيش من المحاربين قوامه عشرة آلاف مقاتل حتى وصل قريباً من العاصمة فعسكر على بعد خمسة كيلومترات على أمل أن يأتي إليه الامبراطور شخصياً وإلا كانت البداية لإشعال فتيل الحرب الأهلية. إلا أن هيلا سيلاسي كان طويل البال لم يعهد عنه الغضب أو فقد الأعصاب وكان قد أعد له خطة محكمة تسير وفق مراحل مثل لعبة الشطرنج تماماً بمكر سياسي بارع. قام هيلا سيلاسي أولاً بإرسال من يفاوض له ويدعو بالخا للحضور إليه بدون خوف أو مكيدة. ولكن بالخا كان يعلم معنى حضوره انفراديا أن مصيره سيكون مثل أبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور فأبى الحضور إلا مع جنده فوافق هيلا سيلاسي وقال إنه شرف كبير أن يستقبل محارباً شهما مع جنوده الشجعان في قصر الحكم. قام بالخا بانتقاء 600 من خيرة جنوده وأوصاهم أن لا يفرطوا في الشراب وأن يبقوا مستيقظين لأي بادرة خيانة. ثم سار بجنوده لمقابلة الامبراطور الذي أظهر له من الحفاوة والكرم الشيء الكثير. وعندما دخلوا القصر أظهر هيلا سيلاسي من ضروب الاحترام ما أشعر بالخا أنه من يقرر الأمور وأن سيلاسي يحتاج مساعدته بشكل ملح لتسيير أمور الدولة والحكم ومقتضيات السياسة. إلا أن بالخا لم يكن بذلك الأحمق فحذر هيلا سيلاسي أن عليه العودة إلى معسكره مع الغروب وأنه قد أعطى تعليماته لجيشه المرابط أن أي تأخر في الحضور يعني المكيدة وعليهم مهاجمة العاصمة. كان ارتكاس الامبراطور هادئاً وأظهر له أنه بعدم ثقته به يعني الكثير من جرح الكرامة. ثم دعاهم إلى تناول الطعام المعد بعناية. وعندما جاء دور العزف الموسيقى لم يكن هناك سوى تمجيد بالخا القادم من سيدامو. هذه الخطوات أدخلت الى قلب بالخا أن هيلا سيلاسي خائف منه وأنه أمام هذا المحارب العنيد يطلب وده بأي ثمن. ثم بدأ يفكر في مصير الامبراطور هل سيرسله إلى حبس انفرادي لبقية عمره أو يقضي عليه. وقبل الغروب انصرف بالخا وجنوده مزهوا بقوته بين صرخات التحية وعيارات نارية  تحية من أهل العاصمة. وعندما ألقى النظرة الأخيرة بدأ يفكر في كيفية الانقضاض على العاصمة في الأسابيع المقبلة. ولكن المفاجأة الكبيرة له كانت عندما رجع إلى معسكره ليجده خاوياً على عروشه فلم تبق خيمة أو رجل. وعندما سأل روع بالخبر فقد جاء جيش تابع للامبراطور يحمل الكثير من المال والذهب فاوض الجنود على تسليم أسلحتهم ومن امتنع مارس عليه التخويف وخلال ساعات مزقوا شر ممزق فتم نزع سلاح الأفراد وتفرقوا مع الأموال في البلاد. وعندما أراد بالخا العودة بمحاربيه الستمائة إلى الجنوب من حيث جاء بقوته قطع عليه نفس الجيش الطريق ولم يبق أمامه إلا أن يمشي باتجاه العاصمة وهناك كان الامبراطور بتحصينات كبيرة في انتظاره. وللمرة الأولى في حياته يستسلم بالخا. وعندما أجبره هيلاسيلاسي على دخول معبد يقضي فيه بقية حياته قال قبل هذه اللحظة الرهيبة إياك أن تستخف بخصمك (هيلا سيلاسي) فقد يبدو في خطوة الفأر ولكنه ينتقم كسبع ضاري. إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب وهو مافعله سيلاسي مع خصمه الذي ظن أنه يأوي إلى ركن شديد فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة.
اقرأ المزيد
البيكادون : الالتماع النووي
بصوت رفيع متهدج وبلغة أدبية منمقة تحدث الامبراطور (هيروهيتو) الى شعبه صبيحة يوم الخامس عشر من شهر أغسطس (غشت) عام 1945 . كانت الكلمات قليلة ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: ( إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث ، يمتلك من قوة التدمير مالاعهد للانسان به ، ومالاطاقة لنا به ) وتابع الامبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان : ( وإنني أخشى ياشعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد ) ؟‍! كان الامبراطور الياباني قد أدرك العهد الجديد الذي دخلته الانسانية ، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري ، فهذه القنبلة غيرت العالم ، والتاريخ ومصير الجنس البشري ، والفكر الانساني ، في ضربة واحدة وفجرت معها عصراً جديدا ؛ فدخل العالم حقبة جديدة ، وتكون خلقاً أخر ، ونشأة مستأنفة . وختم الامبراطور كلمته : ( علي أن أقول لكم إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل مالاطاقة لنا به ؟! ) القاذفة ( اينولا جاي ENOLA GAY) والضابط ( باول تيبتس PAUL.W.TIBBETS.) : كانت الساعة( 2.52 ) صباحاً عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع ( B ـ 29 تتحرك من جزيرة ( تينيان ) في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية ، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق ولاتدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات . يقود السرب الضابط ( باول تيبتس )( PAUL . W . TIBBETS ) وخبير الأسلحة ( ويليام بارسونز )( WILIAM PARSONS ) . كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس : علينا أن نبدأ الان . كان الظلام يحيط بالطائرة التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس ( اينولا جاي )( ENOLA GAY ) . كان على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه اسطوانة الغاز الكبيرة ذات ( أنف مبعوج ) ولايزيد قطرها عن 60 سم ويتراوح محتواها الأساسي حوالي ستين كغ من مادة اليورانيم 235 المكثف ، الا أنها بالغلاف الفولاذي المحيط بها ارتفع وزنها الى أربعة أطنان . وبجانب الطائرة اينولا جاي حلقت طائرتان حربيتان أخريتان الأولى تحمل مخبراً كاملاً لدراسة استخدام ( السلاح الجديد ) والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها . في الساعة 3.10 عمد ( بارسونز ) الى إغلاق زناد القنبلة بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة في هذه المهمة التي أخذت لقب ( بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13 ) وهتف : كل شيء على مايرام !! . عند الساعة ( 4.55 ) حلَّق التشكيل الثلاثي بشكل حرف ثمانية باللغة العربية ؛ حيث تحتل القاذفة النووية ( اينولا جاي ) رأس التشكيلة ، وسأل المساعد بوب كارون ( BOB CARON ) هل سنشطر الذرة اليوم ؟ علق تيبتس : لقد بدأتَ تفهم الأمور ! كانت مدينة هيروشيما قد برمجت للمسح من ملف الوجود ، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى للرحيل الى العالم الأخروي ، وهذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف ، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما ؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى الإعدادات الجنائزية عند الساعة 6.30 بدأت الإعدادات الجنائزية لسكان العالم السفلي في مدينة هيروشيما ، فاستل ( بارسونز ) ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة ، ليضع بدلاً عنها حمراء اللون ، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقاً ، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد . عندها صرخ الضابط ( باول تيبتس ) للمرة الأولى بكل علانية ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية : إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا !! عند الساعة 7.25 صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم الى 9500 ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد ( كلود ايثرليس CLAUDE EATHERLS ) الذي بثهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات أو وجود طائرات معادية في الجو ، صاح فيهم : ياشباب كل شيء على مايرام ... دمروا الهدف الأول على القائمة !! وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام لـ 140000 من البشر الذين تحت طير أبابيل الذرية يفتتحون يوماً جديداً في الحياة ، وليس عندهم أقل تصور ، لقصر المسافة بينهم وبين هوة الموت ، التي فتحت فاهها العريض لاستقبال جحافل الموتى بأبشع طريقة وسلاح . إنها هيروشيما !! صاح تيبتس : إنها هيروشيما !! ثم نظر الى بارسونز بعد أن هبطت القاذفة مخترقة فتحة من السحب وسأله : هل هي هدفنا بالضبط ؟ أجاب بارسونز بهز رأسه فهو يعرف المدينة ذات الأذرع الثمانية المستلقية بارتخاء تحتضن البحر ، وصاح تيبتس بطاقم الطائرة : أعدوا نظارات ( لحام الاكسجين ) الحماية ؛ فالوهج الذي سينطلق سيعي العيون كما أفادونا علماء لوس آلاموس !! عند الساعة 8.13 هتف تيبتس بمساعده ( توم فيريبي TOM FEREBEE ) لقد جاء دورك الآن ‍‍!! فتولى الآخر قيادة الطائرة ، التي كانت السرعة فيها تشير الى الرقم 460 \كم في الساعة . كانت المدينة معروفة تماماً لتوم فيريبي ، فهو يعرف نهر ( الاوتا OTA ) الذي يتشعب منه سبعة فروع ، كأنها راحة اليد المفتوحة ، كما يعرف جسر ايواي AIOI ) المشهور ، ذو شكل حرف T باللغة الانكليزية . في هذه اللحظة اقتربت القاذفة تماماً من نقطة الهدف ، وعند الثانية 17 بعد الدقيقة 15 من الساعة الثامنة باضت القاذفة البيضة الكبيرة ذات الاطنان الأربعة بين رجليها . مالت القنبلة أولاً الى الجانب ثم استقرت وأنفها المسطح نحو الأسفل وقد زودت بمظلتين . وعندما تحررت القاذفة من هذا الثقل عمدت الى الأعلى بكل قوة ، فالأوامر كانت تقول : ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون . وبدأ العد التنازلي للثواني 43 القادمة ؛ فالمفروض أن يحصل الانفجار على ارتفاع خمسين متراً وفي تمام الساعة 8.16 من صباح ذلك اليوم النحس ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر . عند الرقم 43 أطل الفطر النووي برأسه عندما وصل العد الى 35 ثانية وضع الطيار نظارة الوقاية ( التي تستخدم في لحم الاكسجين ) ولكنه لم يرى شيئاً فرماها جانباً ، وصاح هل ترون شيئاً ؟ أجاب أحدهم لاشيء على الاطلاق ‍!! كان خوف الأمريكيين كبيراً أن تفشل التجربة خاصة وأن هذه القنبلة لم تجرب في منطقة آلامو جوردو (1) لثقتهم العالية أنها لن تخيب !! كان اللويتنانت ( ملازم ثاني ) نوريس جبسون يعد بفارغ الصبر ، وعندما وصل الرقم الى 43 توقف وللحظة ظن أن التجربة فشلت ، ولكن في هذه اللحظة أشرقت الأرض بنور وهاج يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ؛ فالتمعت كل الطائرة ، وأبصر ( بوب كارون ) الذي كان في المؤخرة بزوغ حلقة مرعبة من الضوء ، صعدت كالعملاق الى الأعلى وكأنه الضوء القادم من كوكب آخر ، وانطلقت قوة عاتية قذفت بالطائرة الى الأعلى ، مما أطلق صفارات الإنذار داخلها ، وسمع تيبتس مايشبه طلقة المدفع من عيار 88 ملمتر ، بعدها بقليل رجت الطائرة قوة أخرى ، فصاح تيبتس : إنها قوة الضغط المعاكسة حافظوا على النظام . وعندما كانت مدينة هيروشيما تمسح من الوجود كان ( بوب كارون ) يسجل : ( ارتفع عمود فظيع من الدخان الى الأعلى وبسرعة ، في وسط العمود نار حمراء . كانت الحرائق تلتهم كل شيء ... كانت كثيرة للغاية ... أكثر من يحصيها العدد ... والآن جاءت .. جاءت ... لقد تشكل مايشبه رأس الفطر الذي نراه في الحقول ... انظروا ... انظروا الى هذا المنظر العجيب ... ) مصطلح الفطر يستخدم للمرة الأولى في تاريخ العلم صعق تيبتس من هول مارأى وقال : لم أكن أتوقع تدميرا كهذا تراه عيني ... ثم أرسل تلكس الى القاعدة الجوية في تينيان ( TINIAN ) : تحقق التدمير والنتائج ممتازة !! صاح بارسونز : ماذا أرسلت ؟ إن هذا لايكفي !! وعمد الى إرسال تلكس آخر : كانت النتائج ناجحة وذات أثر أكبر مما حصل في تجربة آلامو جوردو (2) الا أن الرعب تملك بقية طاقة الطائرة وارتسمت علامات الخوف على وجه لويس مساعد القيادة وأخذ يخاطب نفسه : رباه ماذا جنت يدانا .. ماذا فعلنا .. ماذا فعلنا .. ‍‍!! وأنه أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا كان الطيارون الأمريكيون يفركون أيديهم من قوة الإنجاز وحسمه ، ووجه ليزلي جروفز ( LESLIE GROVES ) يطفح بالبشر والسرور ، الجنرال المشرف على المشروع العسكري ابن القس البروتستانتي في لوس آلاموس ، الذي لم يندم لحظة واحدة عما حصل حتى بقية حياته ، ووجه الرئيس الأمريكي ترومان يشع بالغطرسة والتجبر ، فبدأ يفرض في مؤتمر برلين مع ستالين شروطاً مستحيلة بعد أن سكر بخمر القوة . في نفس الوقت كان أهل هيروشيما يحترقون بالنار ذات الوقود ، يذوبون ويشوون ، ويموت بالجملة الأطفال والنساء ، الشباب والعجائز ، فالنار التي كانت تنزل شواظ من نار ونحاس ، ترمي بشرر كالقصور ، كأنها الجمال الصفر المتراقصة .... وكأن القيامة قد قامت ؟‍‍! درجة الحرارة فوق مركز المدينة وصلت الى 300 ألف درجة : عندما اشتعلت كرة النار على ارتفاع 550 متراً فوق مستشفى ( كا أورو شيماس )( KAORU - SHIMAS ) في مركز مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة صباحاً و16 دقيقة من يوم السادس من أغسطس عام 1945 م كان العالم يدخل حقبة جديدة ، ليس بفعل الحرارة الجهنمية التي وصلت الى 300 ألف درجة بحيث تبخر المستشفى بمن فيه من المرضى ، ولكن بفعل امتلاك طاقة الوقود الشمسي ، وهذا التطور يعتبر نوعيا في تاريخ الجنس البشري . فلقد كان تاريخ القوة حتى تلك اللحظة تصعيداً تدريجياً في الطاقة النارية ، ويعني خسارة فادحة في الجنس البشري مع كل نزاع ، أما هذه المرة فأصبح بإمكان الانسان أن يفني جنسه للمرة الأولى في تاريخه ، حين امتلك سقف القوة ، ووضع يده على طاقة النجوم ، وتحت ضغط هذه الحقيقة العلمية أكثر من مواعظ الأخلاقيين وتعاليم المصلحين ، دلف العالم الى السلام العالمي مرغماً مفاجئاً لايكاد يصدق ، فهو يعيش حيرة التناقض بين انشطار التاريخ بين مفهوم القوة والتطور العلمي وعتبته الجديدة . هذه القوة العاتية التي استخدمت مرة واحدة فوق رؤوس البشر ولعلها الأخيرة ، توقفت القوة أن تكون سبيلاً لحل المشاكل ؛ في مستوى دول العالم الأول على الأقل ، حيث أصبحت الحروب اليوم موضة المتخلفين ، أو تأديب المتخلفين ، الذين لم يدخلوا العصر بعد ، وهذا يحمل تباشير أن يدخل الانسان المرحلة ( الانسانية ) في التاريخ ، ويبدأ عهد الانبياء فعلاً الذي نادوا به وبشروا بإمكانية إقامته ، وبذا كانت قنبلة ( هيروشيما ) نذيراً وبشيراً للبشر في آن واحد ، نذيراً بالفناء وبشيرا بالسلام . البيكادون ( PIKADON ) الالتماع المدوي كانت المدرِّسة ( كاتسوكو هوريبي ـ KATSUKO HORIBE ) بفعل ظروف الحرب قررت القدوم بشكل مبكر الى المدرسة الابتدائية ( هونكاوا ـ HONKAWA ) وكان الوقت ثواني قليلة بعد الدقيقة 16 من الساعة الثامنة صباحاً ، وقد اجتمع الطلبة وبدأت الحياة تضخ بنظمها المعهود (3) عندما قامت القيامة . تقول المدرِّسة كاتسوكو إنها لم تسمع شيئاً على الإطلاق ولكنها لاحظت فجأة أن غرفة التدريس غرقت بضوء أزرق متوهج يكاد يعمي الأبصار ، ثم انفجر زجاج النافذة وطارت الشظايا البللورية ، لتغرز نهاياتها الحادة في رأسها وذراعها الأيسر . لم تشعر بشيء ولكنها ارتمت أرضاً ، وخلال لحظات ساد سكون قاتل ، ثم ساد ظلام عجيب ، وكأن النهار تحول الى ليل . كانت الصدفة لاأكثر هي التي أبقت على حياة المدرَّسة ( كاتسوكو هوريبي ) لإن زملاءها العشرة الذين جاؤوا بالترام على الموعد تحولوا في لحظات الى قطع من الفحم الأسود ( واختارت أمريكا المكان والزمان بدقة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر ، وأعظم عتبة من الخوف والمفاجأة فألقت القنبلة بدون سابق إنذار ) كذلك حالف الحظ المدرسة كاتسوكو في مركز الانفجار ؛ فالمفروض أن تكون نقطة الانفجار 250 مترا فوق جسر ايوئي ( AIOI ) والذي حصل أن مركز الانفجار حصل بارتفاع 550 مترا فوق مستشفى كاأورو شيماس كما ذكرنا ، الذي اختفى بالكلية وانمسح من الوجود بكل مافيه من أشياء وأناسي ، فتبخر الجميع في وهج حرارة وصلت الى 300 ألف درجة ، حولت في مدى نصف قطر 500 متر كل شيء الى رماد وهباب فحم ، وحتى 3.2 كم ارتفعت الحرارة الى 3000 درجة فعرضت كل من صادفته الى أبشع الحروق ، والى مسافة 14 كم احترق الورق ، وبذا تحولت هيروشيما تحت تأثي رالضغط والحرارة والاشعاع الى جهنم تتلظى ، فقضى نحبهم فورا ثمانون ألف انسان من السكان ثم تتابع عشرات الألاوف بعد ذلك ليقترب العدد الإجمالي الى قريب 150 الف انسان . باتجاه نهر الموتوياس ( MOTOYAS ) عندما استعادت كاتسوكو وعيها اندفعت الى المدرسة باتجاه نهر الموتوياس لإنقاذ سبعة أطفال من حرق مرعب أكل وجوههم وحول ملابسهم الى أسمال ومزق ، صاحت بالأطفال : باتجاه النهر .. عليكم بالنهر ‍‍!! كان النهر هو أملهم الوحيد ، ولكن ال120 مترا أصبحت طريقاً لاينتهي ، بين جثث محترقة ، وأكتاف تتدافع قد أصابها من الحرق ماحولَّها الى جموع شاردة مجنونة تزعق من الألم ، كما أن النهر بذاته أصبح مطوقاً من النا رمن كل جانب ، فمركز المدينة بالكامل قد استحال الى كتلة نارية ملتهبة ، تزداد بالاتساع ، واختفى الأطفال السبعة من ناظريها في الاتون الملتهب . شعرت المدرِّسة هوريبي بأنها تموت واستولى عليها نوبة من الاقياءات المرة ، وعندما نظرت الى ملابسها كانت مقطعة قد غرقت بالدماء ، لم تعرف تفسير ماحدث ، هل هي نهاية العالم ؟ مابال هذه الجثث المحترقة ؟ مامعنى اكوام الموتى ؟ قصدت النهر فغطست فيه حتى الذقن هرباً من النار الحارقة ، حتى إذا انتعشت هرعت الى بقايا مدرستها التي كانت مبنية من الخرسانة المسلحة المتينة ، والتي كانت خلف نجاتها ، فرأت منظراً لاتنساه : كانت بقية زميلاتها من المدرِّسات قد تحولن الى قطع متناثرة من الجثث المتفحمة وكأنه يوم الحشر والدينونة كانت ( ساكائي ايتو SAKAE ITO ) في مجموعة من المتطوعين ، لتهيئة المدينة لمقاومة هجوم جوي ، تتذكر كيف شبت النار في معطفها فجأة بدون سابق إنذار ، وخلال لحظات عم الظلام ، ثم بدأ مطر أسود لزج قطراني يتساقط من السماء ، لم تفهم ماحدث ؟‍! ووجدت نفسها تحت أنقاض منزل !! وعندما نظرت باتجاه تلة ( هيجي ياما ـ HIJIYAMA ) رأت القمة بوضوح وكأنها قريبة . لم يبق هناك من المدينة مايعزل عن رؤيتها ، فالمدينة كنست ‍!! واندفعت باتجاه جسر ( تسورومي ـ TSURUMI ) وهي تتساءل أي قنبلة هذه التي حولت كل المدينة الى أنقاض ، لم تسمع انفجارا أو ترى حفرة في الأرض ‍!! هكذا اصطلح أهل المدينة على تسمية ماحدث بيكادون ، وهي اجتماع كلمتين ( البيكا ) وتعني الالتماع و ( الدون ) الصوت الخارق المدوي . كل من كان بالمدينة لم يشعر الا بالالتماع والتوهج ، ومن كان في البعيد رأى تألق الضوء وصوت الفرقعة . كانت طوابير الناس المحترقة المتألمة المختنقة والمتبقية من ( الهولوكوست ) المحرقة الكبرى ، تزدحم في الجسر ، يغلفها منظر واحد مكرر ، حفاة عراة ، لم يتبق على أجسادهم تجنباً لاحتكاك الجلد المحترق المؤلم ، وقد تدلت قطع الجلد المحترقة المهترئة ، يلوح بها الهواء ، لم يعد يفرق بين الذكر والانثى ، الوجه من القفا ، يصرخون في طلب الماء ، يتأوهون من الألم ، يجرون أقدامهم بين الجثث المتناثرة ، قد احترقت شعورهم وتجعدت وتصاعدت رائحة الشواء منها ، وانتفخت وجوههم من الحرق ، فلم يعد بالإمكان التعرف على هوية المصاب ، والكل كأنه في حلم ، ماالذي حدث ؟ ماالذي دهى البلد ؟ هل هو سلاح ؟ هل هي نهاية البلدة كما في بركان فيزوف في إيطاليا الذي دفن مدينة بومبي في العصرالروماني ؟ أم هي نهاية العالم ويوم القيامة التي تحدثت عنها الكتب المقدسة ؟ لاأحد يفسر !! لاأحد عنده الإجابة !! كان الجميع يبحثون عن أي مصدر للماء لتخفيف آلام حروقهم ، فعمد البعض الى دفن رؤوسهم في أحواض الماء ، التي خصصتها الحكومة لإطفاء حرائق الحرب ، وبدأ البعض في تحريك رؤوسهم في هذه الأحواض ، إلا إن الموت فاجأهم فبقوا جثثاً فوق الأحواض ؟!! وماتبقى منهم جاء وصفهم على لسان كاتب ياباني معروف هو ( يوكو اوتا ) مايلي : (( لم أتوصل بسهولة إلى فهم كيف استطاعت بيئتنا أن تتحول إلى هذا الشكل خلال لحظة ، وظننت أنه من المفروض أن يكون قد حدث شيء ما ، لاعلاقة له مطلقاً بالحرب ، إنه لاشك نهاية العالم ، كما كنت اقرؤها في الكتب عندما كنت طفلاً )) . أو مارواه شاهد عيان : (( بعد قليل شرعت مواكب المعوقين من جميع الأنواع والأشكال _ لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، تتهافت وهي تنزح من وسط المدينة ، باتجاه الضواحي المحيطة بها )) : (( كانت أذرعهم تتدلى ووجوههم _ ليس فقط جلود أيديهم وحدها ، بل أيضاً جلود وجوههم وجميع أطرافهم كانت تتساقط مهترأة ، ولو اقتصر الأمر على شخصين أو ثلاث لهان الأمر ، ولكن حيثما كنت أتوجه كنت أصادف مثل هؤلاء البؤساء ، كثيرون سقطوا أمواتاً على طول الطريق ، ولازلت أراهم ثانية وهم يتقدمون كالأشباح ، ولم يبد عليهم أنهم ينتمون إلى هذا العالم .. وبسبب جراح اولئك الناس لم يكن بالإمكان أن يعرف فيما إذا كنا نراهم من الوجه أو الظهر )) مفاجأة إضافية : مرض الأشعة نجى الدكتور ( ميشيهيكو هاشيا MISHIHIKO HACHIYA ) بإعجوبة بعد أن سقط منزله فوق رأسه ، ونزف من أربعين جرحاً في جسده ورأسه ، وعندما انطلق الى الشارع اكتشف نفسه عارياً !! يقول الدكتور ( هاشيا ) كان منظر العري هذا متكرراً حيثما وقعت عيني على الكارثة ؛ فالضغط والحرارة والحرائق أطاحت بكل شيء بما فيها الملابس ، ولكن العورات مع الحرائق لم يعد المرء يفرق بين الذكور والإناث ؟! وفيما هو يُعالج في مشفاه الذي كان مديراً له ، أثارت فضوله العلمي ظاهرة محيرة لم يعرف كيف حدثت ؟ ماهو نوع السلاح المستخدم الجديد ؟ وعندما لاحظ أن مرضاه يتغوطون دماً على شكل إسهال مدمى ، تبادر الى ذهنه ؛ أن السلاح قد يكون من النوع البيولوجي ؟! ولكن مظاهر أخرى رافقت هذه الظاهرة ، من نقص المناعة وانخفاض عدد الكريات البيض ، الى حدود 500 كرية في المليمتر المكعب الوحد ( الطبيعي يتراوح بين 4000 ـ 7000 ) والتهاب الحلق الشديد ، وسقوط الشعر ونقص الشهية وتراجع الوزن وارتفاع الحرارة ، جعله يفكر ويطلق على هذه الظاهرة ؛ وكان محقاً في هذه التسمية وكان الأول الذي لفت النظر إليها ـ سماها ( مرض الأشعة ) ؟! إذاً فهذا السلاح الجهنمي يفسر ظاهرة تساقط الأموات بدون توقف مع اختفاء النيران والدخان والحرائق ، بل وعودة الحياة الطبيعية الى مدينة هيرشيما . بل مازال الفريق العلمي حتى اليوم بعد مرور نصف قرن ، مازال يتتبع الآثار المدمرة للاشعاع الذري . هذه المفاجأة غير السارة في تلويث البيئة بالأشعة جعلت السلاح النووي خطيراً للغاية ، ولم يكن في حساب الفيزيائيين ، الذين أقدموا على التلاعب بقوى الكون من أجل الانتصارات العسكرية . خمسة صور فقط حُفظت للذاكرة الانسانية كان المراسل الصحفي ( يوشيتو ماتسوشيجي YOSHITO MATSUSHIGE ) يعمل لصالح جريدة ( شوجوكو شيمبون CHUGOKU SHIMBON ) والتي مازالت الجريدة الرسمية في هيروشيما حتى اليوم . يقول كان عمري يومها 32 عاماً ( وه ومازال على قيد الحياة يرزق وعمره 82 سنة ، ومازال يمارس مهنته المحببة التصوير حتى اليوم ؟‍! ) عندما سقط منزلي فوق رأسي بعد ظاهرة البيكادون ؟! هُرع لاى متن دراجته ليرى ماحل بالمدينة ؟ وليعرف ماجرى لمحل الحلاقة الذي تعمل فيه زوجته ؟ ماوقعت عيناه عليه أن كل شيء تهدم ، ولكن كاميرته من نوع ( ماميا MAMYA ) كانت ماتزال تعمل ، فانطلق وهي تتأرجح على الدراجة ، ولم ينتبه الى جروحه لتي كانت تنزف ، كل ماستولى على تفكيره كان مصير صالون الحلاقة التي تعمل فيه زوجته . كان منزله يبعد 2700 متراً عن النقطة زيرو ( ZERO صفر ) لمركز الانفجار . مازال يتذكر ويقول : حقاً إنه شيء عجيب أن يجرح الانسان بدون صوت قنبلة ؟ وعندما وصل الى مركز المدينة رأت عيناه ماندم عليه بقية عمره أن يفعله ، عندما كان الشاهد والمصور الأول ، الذي خرج من الاتون النووي حياً ، ولم ينتبه الى أنه كان أول من رأت عيناه الهول ، ولكنه لم يصور سوى خمس صور يتيمة هي كل مابقت للجنس البشري نذيرا للبشر عن هول ماحدث ؟‍! هذه اللقطات الخمس ، مازالت تتكرر ملايين المرات حتى اليوم ، بمثابة الشاهد الوحيد اليتيم عن آثار الحرب النووية ، كشاهد ليوم الفزع الأكبر الذي حل بهيروشيما ، ولم يعلم وقتها أن قنبلة ذرية انفجرت فوق رأسه لأول مرة في تاريخ الجنس البشري ، التي ربما لن يراها البشر مرة ثانية . يقول المصور ( يوشيتو ) : كان ركاَّب الترام في منظ رمفزع حقاً ، فبعضهم قد تمزق وسقط ارضاً ، ولكن الكثيرين كانوا يجلسون في مقاعدهم ، قد حافظوا على هيأتهم كما كانوا ، وكأن شيئاً لم يحدث ، ووما لفت نظري يومها اثنان مازالت أيديهم تقبض على أحزمة الجلد ( القشاطات ) مثل مخالب الصقور ، وكأنهم أمسكوها لتوهم بعد أن أعلن الترام الصفير بدء التحرك الى المحطة التالية ، ولكن وجوههم كانت بشكل عجيب ؛ فكأنها طليت بفحم المداخن الأسود . كانت الوجوه الجميلة قد شوهت بكل السخام والقتام الفظيع . كانت المحافظ بجنب الناس بدورها متفحمة ، كانت المظلات وأشياء أخرى كثيرة من حاجيات الناس اليومية قد أكلتها النيران وحولتها الى قطع متفحمة شوهاء بلهاء . كان الشيء المشترك والمريع ؛ يتابع المصور الياباني قصته : والذي ترك في نفسي أثراً لاتمحوه مرور الليالي ؛ تلك الوجوه والنظرات الفارغة من المعنى المحملقة في الأفق البعيد ، بعد أن عانقت الموت ، الذي جاءها من بعيد ، الذي عرفنا لاحقاً أنه جاء من لوس آلاموس . كأن الناس في متحف شمع ولكن بلون أسود قاتم ، قد انطفأت الحياة وتوقفت فيها . ويبقى السؤال لماذا لم يصور تلك الوثائق التي لاتقدر بثمن للجنس البشري ؟ يجيب المصور الياباني ( يوشيتو ـ ماتسوشيجي ) : كان سببه التقاليد اليابانية ، التي تنهى عن عن النظر في وجوه الأموات والمصابين ، والتعليمات الصارمة العسكرية ، أن لاتصور المشاهد المروعة والمقيتة من الجثث المشوهة ، كي لايفت في عضد الناس ، وتنهار المعنويات . كان العسكريون يريدون أن تستمر آلة الحرب نشيطة ، والناس تغذيها نارها التي تتلظى بالقرابين البشرية بدون انقطاع ، بل هل من مزيد . وقبل هذا أن المصور لم يكن يدري أن مارأته عيناه كانت المشاهد الأولى من حرب نوعية جديدة قفزت فيها القوة الى سقف النجوم المستعرة ، وأنه دخل عصر الذرة . النتائج فاقت كل التوقعات في نفس هذا الصباح وعلى الشاطيء الآخر من الاطلنطي ، كان الرئيس الأمريكي (ترومان ) يجتمع مع ( ستالين ) على مائدة المفاوضات بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية ( بوتسدام ) في صدد تقسيم العالم والنفوذ في مرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية !! وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي ، وغطى السرور محياه ، ظهر ذلك في حركات يديه وعينيه ، بعد أن وضعت بين يديه البرقية ( العملية تمت صباحاً . التشخيص لم يكتمل بعد . يبدو أن النتائج مطمئنة . وفاقت كل التوقعات ) . وعندما سطعت الشمس النووية ، وحلَّق ( الفطر النووي ) البئيس فوق مدينة ( هيروشيما ) ، وطوى تحت جناحيه أشباح وأرواح عشرات الآلاف من البشر ، عندها أدركت عائلة ( ويسل مان ) وسائق القطار ( ايدلين ) والمذعور ( لويس فاريس ) من قرية ( كوريثوثو ) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة ، بل وولادة عصر جديد . وتبين أن ماشاهدوه كان في الواقع تجربة أول انفجار نووي على ظهر الأرض ، في صورة تفجير قنبلة البلوتونيوم 239 . بقي أن نقول أن منظر الفطر النووي حول راحلته ليبزغ مرة أخرى بعد ثلاثة أيام ، فوق مدينة أخرى ، كأن ماحدث في هيروشيما لم يكن كافياً ، فتكرر منظر الحرائق واللهب والتفحم والانفجار ، فالتهمت النار ذات الوقود مرة أخرى قريباً من مائة ألف انسان في مدينة ناغازاكي . كان قرار الرئيس الأمريكي ترومان صارما واضحا : نقل ربع مليون انسان الى العالم الأخروي في أيام معدودة ، وانعطاف نوعي في تاريخ الجنس البشري . في نفس يوم التاسع من آب الذي مسحت فيه مدينة ناغازاكي ، كانت مدينة هيروشيما تضمد جراحها ، وتكنس الخرائب التي لاتنتهي ، ويبدأ الترام فيها صفيره مرة أخرى ، وتدب الحركة والحياة فيها من جديد ، في أقل من 72 ساعة ، شاهداً على حيوية شعب بإرادة أقوى من السلاح الذري . مراجع وهوامش : (1) يعتمد بناء السلاح الذري الانشطاري على استخلاصه من اليورانيوم 238 في طريقين الأول : استخلاص اليورانيوم المكثف 235 وهو بمعدل سبع ذرات من كل ألف ذرة يورانيوم 238 أي أن كل 1000 ألف ذرة يورانيوم خام فيها 993 ذرة غير قابلة للانشطار ، وسبع ذرات 235 صالحة لبناء السلاح النووي منها كونها ذرات قابلة للانشطار غير مستقرة . والثاني التلاعب باليورانيوم 238 وقلبه الى 239 غير مستقر قابل للانشطار بدوره ، وأعطي لقب بلوتونيوم من الكوكب التاسع بلوتو !! وكما نرى فهناك طريقة صعبة مكلفة ، وثانية صناعية أسرع وأسهل وتضخ باستمرار وتتم عن طريق المفاعل النووي ، الذي ركبه انريكو فيرمي الايطالي للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري مع نهاية عام 1942 عندما أرسل برقيته الشهيرة الى الرئيس الأمريكي دولانو روزفلت يقول : لقد رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة !! بقي أن نقول أن قنبلة البلوتونيوم 239 هي التي أنتجها مخبر لوس آلاموس الذري وتم تجريبها في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 تموز يوليو عام 1945 وقصفت بها مدينة ناغازاكي ، أما قنبلة اليورانيوم 235 المخصب فلم تجرب لثقتهم بنجاحهما ، وتم تركيبها في مختبر أواك ريدج عند التنيسي وقصفت بها مدينة هيروشيما . ولم تكن الولايات المتحدة تملك أثناءها سوى عدد لايتجاوز أصابع اليد ، ولكن سر السلاح النووي أصبح في يدها وبالتالي يمكن تصنيع العدد الذي تريده قبل انتقال سره الى الآخرين كما حدث لاحقاً عندما فجر الاتحاد السوفيتي أول قنبلة له عام 1949 م قنبلة ( جو ) الأولى نسبة الى جوزيف ستالين ، وبدأت رحلة التسابق النووي التي عاصرناها كما عاصرنا نهايتها ، وتوقف العالم عن السير في رحلة القوة ، وبدء رحلة السلام ، ونزع فتيل الحرب ومعه السلاح النووي (2) من المفارقات العجيبة التي كشف عنها العلم النووي لاحقاً أن قنبلة هيروشيما كانت تزن 60 ستين كيلوغرام من اليورانيوم 235 المخصب ولم ينفجر منها سوى 700 غرام أقل من كيلوغرام واحد ـ لحسن حظ أهالي هيروشيما فلم يكن ليبقى منها شيء لو انفجرت كل طاقتها ـ بمعنى أن كمية التفجير بلغت 2% فقط من كميتها ؟! وأما قنبلة ناغازاكي فوزنت 6,2 كغ وتفجر منها 1.3 كغ بمعنى أن ماتفجر منها 21% لذلك عمد فريق التسلح النووي لاحقاً لتطوير نظام الحقن المدعم بجرعة إضافية ( BOOSTER ) من مادة التريتيوم لتحقيق أكبر كمية تفجير ممكن من المادة (3) اتخذ الرئيس ترومان قراره بالضرب المزدوج للمدينتين بتوقيع واحد على أن يكون متتابعاً مريعاً مفاجئاً بدون أي إنذار وفي وقت بدء الحياة ، كي تكون جرعة الصدمة والرعب في أقصى مداها وجرعتها . ( توثيق المعلومات تم أخذها من مجلة الشبيجل الألمانية وكتاب القصة السرية للسلاح النووي للكاتب الأمريكي مهندس الكمبيوتر جاك هانزن وكتاب مصير الكوكب الأرضي لجوناثان شيل ومصادر أخرى متفرقة )
اقرأ المزيد
الالتماع النووي، قصة ولادته .. تطوره .. ومصيره !! (1)
عندما سقطت المانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية ، كان هاجس الحلفاء هو المدى الذي بلغته المانيا في تطوير سلاحها ؟ وما كُنْه السلاح السري الذي هدَّدَ به هتلر العالم ، عندما كان الرايخ الثالث يغرغر في سكرات الموت ؟ وهل قصد به السلاح النووي ؟ وكان همُّ الحلفاء مركزاً على وجه الخصوص على سلاحين ، فأما الأول فكانت ألمانيا قد بدأت في تطويره قبل نهاية الحرب بقليل وهو سلاح الطيارات بدون طيارين والصواريخ ( ف 1 و ف 2 _ V1 V2 ) الذي ذاقت منه لندن الويلات يومها ، وأما الثاني وهو الأكثر أهمية فهو السلاح النووي ، فبحمل المقذوف النووي على ظهر الصاروخ يمكن تدمير أي بقعة على وجه الأرض ، وبامتلاك سلاح من هذا النوع لايبقى فرق بين دولة صغرى وعظمى . غنائم الحرب : المادة الرمادية الثمينة ( الأدمغة العلمية ) !! في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي يقتلع القضبان الحديدية ويجمع بقايا المعامل الألمانية فيما عرف بعد ذلك بألمانيا الشرقية ( DDR ) كغنائم حرب ومعها العلماء ، كان همُّ الحلفاء _ وبوجه خاص الولايات المتحدة الأمريكية _ منصباً على الاستيلاء على المادة الرمادية أي الأدمغة العلمية ( والمادة المادية _ GRAY MATTER _ تعني قشرة المخ )(1) وخوف الحلفاء هل مايبرره ، وحرصهم دليل على قمة الذكاء ، لان التفوق العسكري هو تفوق تقني وعملية ذكاء قبل كل شيء ، وتنقل لنا أسرار الحرب خبرين من صراع الديناصورات الخفي ، الأول الاجتماع الذي قامت به وزارة الدفاع الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية مع فريق العلماء بقيادة الجنرال ( ميلش MILCH )(2) والثاني التنصت السري الذي مارسته استخبارات الحلفاء على الفريق العلمي الألماني الذي سقط في يد الحلفاء ابان سقوط الرايخ الثالث . حوار العسكريين والعلماء في وزارة الدفاع الألمانية : حصل اجتماع هام ومصيري في وزارة الدفاع الألمانية قاده أحد الجنرالات النازيين المخضرمين ( ميلش ) حين وجه السؤال للفيزيائي المبدع ( فيرنر هايزنبرغ ) عن الطاقة النووية والقدرة التدميرية فيها ؟ وهزته الاجابة أنها في امكانية أن تمسح مدينة بكاملها من خارطة الوجود !! فأغرته الأجابة بمتابعة التفصيلات : ياترى كم حجم هذه القنبلة ؟؟ وكان الجواب صاعقاً : ربما لاتزيد عن حجم رأس ثمرة الأناناس ؟!! ( كان وزن قنبلة البلوتونيوم التي القيت على ناغازاكي 2.6 كغ ولم ينفجر منها الا 21% فقط !! ) فتابع يسأل : ولكن كيف الطريق الى امتلاك مثل هذا السلاح ؟ وكان جواب هايزنبرغ والفريق العلمي المرافق : إن الطاقة النووية هي الآن ليست أكثر من فكرة نظرية وصلت اليها الفيزياء النووية منذ فترة قريبة (3) وهي تقوم على انشطار نواة اليورانيوم ، وبموجب المعادلة النسبية ( الخاصة ) التي وحدت مابين الطاقة والكتلة ؛ فان كمية قليلة من مادة اليورانيم سوف تقود الى نتائج تدميرية لم تخطر بعد على قلب بشر ، الا أن الطريق لمثل هذا السلاح يحتاج الى سنوات طويلة قد تصل ربما الى العشرين سنة ، وشعر الجنرال النازي بكثير من الاحباط لطول الوقت والتكاليف ، وكانت الحرب العالمية الثانية قدحمي أوارها واشتد سعارها وتعالى نارها ، فاكتفى النظام النازي بدفع المشروع باتجاه التطوير بدون حماس كبير خاصة وأن ( القائد _ - FUEHRالفوهرر لايميل كثيرا الى هذه الكيمياء اليهودية (4) الى أين وصلت رحلة التسلح النووي الألمانية مع نهاية الحرب ؟ عندما تم اعتقال مجموعة من العلماء الفيزيائيين الألمان كغنائم حرب (5) لايتجاوز عددهم ( الدزينة الواحدة ) مع سقوط ألمانيا النازية ، تم وضعهم في فيلا مريحة للغاية في بريطانيا مع كل تجهيزات الرفاهية الممكنة ، الا أن الفيلا كانت قد صممت بكيفية شيطانية على طريقة ( ارسين لوبين وشارلوك هولمز وقصص أجاتا كريستي ) حيث لاتوجد زاوية أو حائط أو طاولة أو جهاز بدون ميكرفون صغير أو لوحة تسجيل وتنصت ، وهذه الشبكة الفظيعة متصلة بمركز مراقبة مركزي ، يسجل كل حديث عابر ، أو خاطرة فكرة ، أو زفرة حسرة تصدر عن أي عالم من هذه المجموعة العلمية الهامة ، وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة ، وكان المشرفون على عملية التنصت خبراء متقنون للغة الألمانية ، واجتمعت أشرطة بطولٍ بلغ كيلومترات لانهاية لها في نهاية المطاف ، وبعد مراقبة استغرقت ستة أشهر كاملة (6) وفي نهاية الرحلة تبين للحلفاء كمية العمل الذي قام به الفريق العلمي الألماني والمدى المتواضع الذي وصل اليه البحث النووي ، الذي كانت أمريكا تمثل فيه ( المونوبول الدولي ) أي الاحتكار الدولي الكامل من طرف واحد ، فالفريق الألماني لم يتقدم شيئاً يذكر في مجال تطوير السلاح النووي خلافاً لنظام الصواريخ الذي استفادت منه الولايات المتحدة بعد ذلك لتطوير نظامها العابر للقارات . كان الفريق العلمي الألماني الخاضع للتجربة مثل فئران المخابر يتكون من أدمغة في غاية الذكاء والنباهة والابداع مثل ( فيرنر هايزنبرغ ) صاحب نظرية الارتياب ومطور ميكانيكا الكم ، و( اوتو هان ) الذي انشطرت الذرة على طاولته ، و( كارل فريدريش فون فايتسكر ) الذي اهتدى للوقود النووي الذي تستخدمه الشمس في لهيبها الذي مر عليه خمسة مليارات سنة . الفطر النووي يرتفع فوق هيروشيما : بعد سقوط ألمانيا بأشهر قليلة كان السلاح النووي جاهزاً في المخبر الصحراوي في ( لوس ألاموس _ LOS ALAMOS ) في ولاية نيومكسيكو ، وفي صبيحة اليوم السادس عشر من تموز يوليو 1945م وعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً ارتفع الفطر النووي وتحررت الطاقة النووية من قمقمق الذرة كجني علاء الدين و المصباح السحري ، وهتف ( روبرت اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع : لقد تحولتُ الى مدمرٍ للعالم ، وراقب الفريق العلمي بذهول وللمرة الأولى هذا الفطر النووي البئيس والمرعب وهو يرتفع فوق رؤوسهم ، بطاقةٍ لم يصل اليها البشر ولا في أحلامهم ؛ فأما العسكريون فشدوا قبضة اليد تحت سكرة القوة ، وأما العلماء فأدركوا أن عصراً جديداً قد ولد ، كما حصل مع الذين رأوا قارون في زينته حيث دهش الذين لايرون أبعد من أرنبة أنفهم فغرهم وهم القوة والثراء الفارغ ، وأما العلماء فأدركوا أنه سراب خادع وخطر مبين !! ( قال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولايلقاها الا الصابرون ) ولادة العصر النووي ومغزاه الفلسفي : كانت تجربة تفجير السلاح النووي في صحراء نيفادا في منطقة آلامو جوردو ذات أبعاد فلسفية ، فلأول مرة في تاريخ الجنس البشري العاقل تصل القوة الى مرحلة عجيبة ، ستتجلى بعد ذلك في كل مراحل انعطاف القوة ( سقوط الصين في يد الشيوعيين 1948 م _ حرب كوريا 1950 م _ ازمة قناة السويس 1956 م _ حرب فيتنام 1965 _ ازمة كوبا 1960 _ الحروب العربية الاسرائيلية 1967 و 1973 الخ ... ) وهي عدم القدرة على استخدامها ، وأن القوة بدأت في فرملة وكبح والغاء القوة كوسيلة في تعامل البشر ، فالرئيس الأمريكي ترومان حينما وقع على مسح مدينتين يابانيتين وفي وقت واحد من خارطة الوجود ، أدرك بعدها مستوى الدمار الذي يملكه هذا السلاح الجديد ، فالسلاح النووي الآن أصبح ذات فلسفة وجودية ( انطولوجية ) يؤشر على انعطاف في مسرح الأحداث العالمية ومسيرة الجنس البشري ، أكثر منه قفزة جديدة في تطوير سلاح جديد ، فالسلاح النووي هذه المرة تجاوز أن يكون سلاحاً ، ليتحول الى قوة كمونية تحمل مخاطر انهاء الجنس البشري العاقل برمته من الوجود ، وكفت الحرب أن تكون غالبا ومغلوبا ، وانقلبت الى انتحار لكل الأطراف ، وهذا هو السر في التحول الخفي والبطيء في توقف عالم الكبار عن الصراع وتوديع أسلوب القوة ، هذا التحول لم يدركه بعد فريق كبير من صانعي القرار وسياسي العالم الثالث ، فشهوة امتلاك السلاح النووي وسيلان اللعاب باتجاهه ، أشبه بعجل السامري الذي أغوى بني اسرائيل ، فالسلاح النووي يشبه اليوم الأصنام التي لاتضر ولاتنفع ، أو مسدسات المطاط التي يلعب بها الأولاد، فهي أسلحة ليست للاستخدام ، وفي اللحظة التي ينتبه فيها انسان العالم الثالث الى حقيقة هذه الأصنام ، فسوف تخر صريعة لليدين والجنب ، وسيتوقف عن الخوف منها ومن سدنتها . الا أن هذا التحول مر في مراحل ، من الطريف أن نتناول تطورها خطوة خطوة ، فقنبلة هيروشيما كانت ذات قوة تدميرية رهيبة ( 15 _ 20 كيلو طن ) ولكنها مع كل هذا ليست شيئاً مع التطور الذي تلاها ( قنابل الميجاطن )(7) . انفلات السر النووي من يد الولايات المتحدة عام 1949 م : في ايلول سبتمبر من عام 1949 كانت طائرة التجسس الأمريكية ب _ 29 تحوم في منطقة صحراء ( سيمي بالاتنسك _ SEMIPALATNSK ) في كازخستان ، فوق الاتحاد السوفيتي على ارتفاع 15 كم ؛ فاصطدمت بغمامة شعاعية تم التأكد أنها من عقابيل تفجير نووي ، ومع تبليغ البنتاغون دقت أمريكا أجراس الخطر ، حيث علم أن النظام الشيوعي فجر أول قنبلة نووية تحمل اسم جوزيف ستالين ( القنبلة جو 1 ) فبدأت الرحلة الجديدة باتجاهين : تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي والحرب الباردة ، وجاءت الساعة الذهبية لمنافس ( اوبنهايمر ) الهنغاري ( ادوارد تيللر _ EDWARD TELLER ) الذي عمل مع اوبنهايمر في مشروع ( مانهاتن _ MANHATTEN PROJECT ) لتطوير السلاح النووي الانشطاري الذي جرب في آلامو جوردو من صحراء نيفادا . فادوار تيللر كان يضحك من مشروع ( الألعاب النارية ) التي تستخدم في أيام الأعياد ؟!! يقصد بها تفجير بضع آلاف من مادة ( ت . ن . ت ) وهي التي حققتها القنبلة الذرية الأولى حيث بلغت قوة التدمير في حدود 20 عشرين ألف طن ( 20 كيلو طن ) . كان تيللر يطمح الى ( قنبلة السوبر _ SUPER BOMB ) القنبلة الالتحامية الهيدرجينية التي يقوم عليها استعار الشمس وغليانها ، حيث تصل القوة التفجيرية الى حدود الميجاطن = قوة تفجير من عيار مليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بخمسين مرة ) وكان ذلك في موعد مع اكتوبر من عام 1952 بعد سبعة أعوام من تفجير قنبلة اليورانيوم 235 الولد الصغير ( LITTLE BOY ) و قنبلة البلوتونيوم 239 الرجل السمين ( FAT MAN ) . مشروع مايك ( MIKE ) الجهنمي ( القنبلة .. السوبر ) : عندما كلف البنتاغون تيللر بالانطلاق في مشروع الماموت الجديد ، والذي كان قد مات منذ أيام العمل في لوس آلاموس لانتاج القنبلة الانشطارية الأولى فرك الهنغاري يديه فرحاً كونه سيحقق حلمه القديم ، فقنبلة الهيدرجين تقوم على مبدأ مختلف ، فهي تنتج من التحام ذرات الهيدرجين لانتاج مادة الهليوم ، وكان كلاً من العالمين ( هانس بيته ) و ( كارل فريدريش فون فايتسكر ) قد وصلا الى فهم ديمومة الشمس في بث الطاقة وعمر الشمس التقريبي بناء على ذلك ، فالشمس لاتنتج وقودا تقليدياً ، بل هي تقوم على التحام ذرات الهيدرجين لانتاج ذرات مادة الهليوم ، وبذلك تبلغ الحرارة على سطح الشمس حوالي ستة آلاف درجة ، وهو سطح الفرن الخارجي ، أما محل الطبخ الرهيب في قلب الفرن فتبلغ الحرارة حوالي 15 خمس عشرة مليون درجة ، والقنبلة الهيدرجينية النووية الالتحامية تقلد الشمس فتشعل هذا الفرن فوق رؤوس الناس على الأرض !! مبدأ القبضة الفولاذية المضاعفة ( F . F . F . F . = fission . fission . fussion. fission) ( انشطار _ انشطار _ التحام _ انشطار ) : انطلقر ادوارد تيللر بكل حماس لهذا المشروع ولكنه فوجيء بمصاعب فنية جمة ، حتى أنقذه في ذلك عالم رياضي شاب موهوب هو ( ستانيسلوف أولام _ STANISLAW ULAM ) من خلال تطوير مبدأ اشعال قنبلة نوووية انشطارية في حوض محكم ، يحوي مادة نظائر الهيدرجين ( الدويتريوم والتريتيوم ) المبردة السائلة في وعاء داخل الوعاء ، فيضغطها من الخارج ، بنفس الوقت يقود التفجير الأول الى تفجير قنبلة نووية انشطارية ثانية ، كالجزرة المغروسة داخل وعاء نظائر الهيدرجين ، فتصبح مادة الهيدرجين تحت ضغط مرعب من قنبلتين نوويتين في نفس الوقت ، من الخارج والداخل على حد سواء ، وتحت هذا الهرس الساحق الماحق تبدأ نويات الهيدرجين في الاندماج والتحول الى مادة الهليوم واطلاق الطاقة النووية الرهيبة ، ويكون بانتظار هذا التحول الجهنمي ، الذي ينتهي في أجزاء من المليون من الثانية ، قشرة يورانية ( مادة اليورانيوم ) تنتظر الأشعال ، فتبدأ في الانفجار هي بدورها ، فاذا نحن أمام انفجار ثلاث قنابل انشطارية وانفجار قنبلة التحامية معاً ، فلا غرابة من وصول الطاقة الى عشرات الميجاطن أحياناً !! وهذا الذي حدث مع قنبلة مايك الأولى التي بلغت طول ستة أمتار وقطر المترين ووزن 65 طن ، بحيث لم يمكن حملها على ظهر طائرة الى جزر المارشال للتجريب ، بل نقلتها بارجة حربية . وفي مارس آذار من عام 1954 م تمت تجربة جديدة وكان من المتوقع أن قوة التفجير في حدود ستة ميجاطن فتبين أنه 15 ميجاطن ( أقوى من قنبلة هيروشيما بـألف مرة ؟!! ) فانخسفت الجزيرة الى قاع البحر ، وانطبخت الأسماك والحيتان في قاع المحيط ، ودمرت الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة برمتها ، وأصابت صيادين في زورقٍ ياباني على بعد 80 كم فتأذوا جميعا ً بالأشعة ، ولكن العسكريين كالعادة صفقوا وصفروا فرحاً بنشوة القوة ، حيث أصبح بأمكانهم مسح الأرض ومن فيها ، وتبين أن هذه القنبلة ( السوبر ) بالأمكان تصعيد طاقتها التدميرية بدون حدود ، حتى لربما نصل الى فهم لغز اختفاء الكوكب بين المريخ والمشتري ، وبقاء نفايات غبار وحطامٍ من صخور لربما هي النهاية البئيسة لكوكب سابق ، ارتكب أهلوه حماقة نووية ؟!! (8) الجنون النووي الكامل ( قنبلة الجروباتز بعيار 58 ميجاطن والبنتاغون يخطط لــــ 100 ميجاطن ) ؟! في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تطور ترسانتها النووية لم يقف الاتحاد السوفيتي متفرجاً ، بل قفز بسرعة رهيبة نحو الأمام ففجَّر في نهاية الستينات قنبلة لم يكن أعظم وأشد بطشاً منها ، فاقت كل أحلام جنون القوة . كانت قوة التفجير ( 58 ) ميجاطن أي أشد من قنبلة هيرشيما بــ ( 3800 مرة = ثلاثة آلاف وثمانمائة مرة ؟!! ) فارتعب منها جنرالات الجيش الأمريكي ، وتخلخلت منها مفاصل استراتيجيي البنتاغون ، فدعوا الى حملة لاتبقي ولاتذر ، وأسرعوا الى اجتماع طاريء وبدأوا في التفكير لانتاج قنبلة لم يسمع بها ولا أبالسة الجحيم : هذه املرة من عيار 100 مائة ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بــ ( 6600 ) ستة آلاف وستمائة مرة (9)؟! ولكنهم أدركوا أن هذا الخط لايفضي في النهاية الا الى الجنون المطبق ، واستنزاف كل الموارد ، وتلويث البيئة ، وانتاج لعب ليست للاستخدام ، حتى كانت أزمة كوبا التي نجا منها العالم بأعجوبة !! العالم يقف على حافة الانهيار النووي في أزمة كوبا في الستينات : يذكر روبرت كنيدي في مذكراته تلك اللحظات عندما تم وضع الترسانة الأمريكية في حالة الانذار القصوى بتاريخ 24 تشرين أول 1962 م في الساعة العاشرة وبضع دقائق عندما اقتربت سفينتان حربيتان سوفييتان تواكبهما غواصة لعدة أميال من المنطقة التي فرض عليها الحصار البحري ( اعتقد أن الرئيس الأمريكي جون كنيدي قد مرت عليه لحظات عصيبة من القلق الذي يعصف به متسائلاً : هل أصبح العالم على حافة الهاوية فعلاً ؟ هل ارتكبنا خطأ ؟ هل كان هذا خطأنا ؟ هل أهملنا حلاً عُرض علينا ؟ هل ذهبنا بعيداً بهذا الطريق ؟ كان الرئيس قد حمل يده الى وجهه وأخفى بها فمه ، كان يطبق قبضة يده ويفتحها وكانت قسمات وجهه مشدودة ونظراته حزينة مكفهرة وكنا نتبادل النظرات فوق المنضدة فاعتقدنا لعدة ثواني أنه ليس من أحد غيرنا في المكان وأنه لم يعد الرئيس ، وكانت الساعة قد دنت من اتخاذ القرار النهائي وانفتحت أمامنا الهوة وليس من مهرب ؟ هذه المرة وجب علينا الجزم واعطاء الكلمة المباشرة ليس في الاسبوع القادم حين كنا نقول سنقرر في الاجتماع القادم ليس غداً ولاحتى بعد ثماني ساعات حين كنا نقول ابعثوا برسالة جديدة الى خروتشوف نحاول اذعانه للصواب والحق كلا ولاشيء من كل هذا . كان ممكناً في تلك اللحظات فعلى بعد 1500 كم من هنا وفي هذه الامتدادات الشاسعة من المحيط الاطلسي يجب اتخاذ القرار في الدقائق التالية فقد صعد الرئيس جون كنيدي الأحداث لكنه سيفقد السيطرة عليها من الآن وصاعداً ) (10) مراجع وهوامش : (1) الدماغ البشري مكون من قشر بسماكة عدة مليمترات وفيه النورونات العصبية أي الخلايا العصبية مركز التفكير والنشاط الذهني بعدد يصل الى مائة مليار خلية عصبية ولون هذه الطبقة رمادي ، وأما لب الدماغ فهو ذو لون أبيض وهو كم مرعب من الاتصالات ( الكابلات العصبية ) لهذا الرقم من الخلايا (2) نقلت مجلة الشبيجل الألمانية في خمس حلقات السلسلة الكاملة للاسرار الخفية لانتاج السلاح النووي ، كما أن وزارة الطاقة الأمريكية فتحت المجال للباحثين بعد مرور الفترة الزمنية الكافية مما جعل مهندس الكمبيوتر الأمريكي ( جك هانزن ) يكتب كتاباً كاملاً في هذا عن القصة السرية لانتاج السلاح النووي الأمريكي (3) وصل الكيميائي الألماني ( اوتو هان _ OTTO HAHN ) قبل الحرب العالمية الثانية بقليل وبشكل تجريبي الى امكانية شطر الذرة ، وبذلك نسف المسلمة اليونانية القديمة عن الجزء الذي لايتجزأ ( الذرة ) (4) اشترك الكثير من العلماء اليهود في تطوير السلاح النووي ويكفي أن نعلم ان رأس المشروع النووي العلمي في أمريكا كان روبرت اوبنهايمر وهو يهودي ، ولاغرابة أيضاً من تطوير المشروع النووي الاسرائيلي على يد عالم يهودي كيميائي ذو أصول ألمانية ( بيرغمان ) (5) كتاب الجزء والكل حوارات في الفيزياء الذرية _ فيرنر هايزنبرغ _ حيث يذكر العالم الفيزيائي كيف سقط أسيرا في يد القوات الأمريكية وكيف كان يتوقع هزيمة ألمانيا في الحرب وهو الألماني ، كون الحرب تكنولوجية بالدرجة الأولى ، وكيف بقى في ألمانيا من أجل بناء جيل مابعد الحرب ، فهو الذي ساهم في بناء مؤسسة ( ماكس بلانك ) في تطوير البحوث العلمية الالمانية في فترة مابعد الحرب (6) مجلة صورة العلم الألمانية ( BILD DER WISSENSCHAFT ) (7) الميجاطن هي القوة التفجيرية لمليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بما لايقل عن خمسين مرة وهي عيار واحد ميجاطن فقط وهي تكفي لمسح مدينة في حجم دمشق أو القاهرة ؟!! (8) بحساب أبعاد الكواكب عن الشمس تم الاهتداء الى قانون عجيب في الأبعاد ، حيث ظهر أن منازل الكواكب ( الزهرة _ عطارد _ الأرض _ المريخ الخ ) تمشي وفق مسلسل عددي يبدأ بالصفر ، ثم يتدرج بضرب الرقم 3 في اثنين واضافة اربعة الى كل رقم بعد ذلك ، فتصبح الأرقام هكذا : ( 4 _ 7 _ 10 _ 16 _ 28 _ 52 _ الخ ) فاذا ضرب الرقم الناتج بتسعة حصَّلنا مسافة بُعد كل كوكب بملايين الأميال بشكل تقريبي ، فالزهرة تبعد 36 مليون ميل ، والأرض تسعين وهكذا ، ولكن ثغرة القانون ظهرت بين رقمي 16 و 52 فعند الرقم 28 لم يظهر أي كوكب ، ولكن البحث الفلكي المكثف أظهر بعد ذلك وجود ليس كوكب بل ( كويكبات ) أي بقايا كوكب محطم مندثر ، فهل كان كوكبا عامرا بالحياة فارتكب أهلوه حماقةً نووية فتفجر كوكبهم ؟؟ تراجع فكرة القانون بالتفصيل في كتاب قصة الايمان _ نديم الجسر _ توزيع دار العربية _ ص 308 (9) مجلة ( P . M ) الألمانية ( 10) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ تأليف جون ناثال _ ترجمة موسى الزعبي _ مكتب الخدمات الطباعية دمشق 1986 م ص 14 .
اقرأ المزيد
انقلاب السحر على الساحر .. !!
في 6 ديسمبر _ كانون أول عام 1965 م أبحرت حاملة الطائرات الأمريكية ( تيكون ديروجا _ TICONDEROGA ) عندما كانت نار الحرب محتدمة في فيتنام ، وهي تحمل على ظهرها العديد من الطائرات المزودة بالقنابل الهيدرجينية ( الالتحامية الحرارية النووية من عيار الميجاطن ) وكان ذلك ضمن الاستنفار النووي الأمريكي خوفا من تطور نووي غير محسوب ، فحدثت واقعة نووية تم التكتم عليها في وقتها ، وهي سقوط احدى الطائرات من نوع ( سكاي هوك ) تحمل في بطنها قنبلة هيدرجينية ، من عيار واحد ( 1 ) ميجاطن من على ظهر حاملة الطائرات الى قاع البحر (1) لتستقر في عمق 4880 متر في ظلام المحيط ، تحمل 33 رطلاً من البلوتونيوم ، باتجاه الساحل الياباني قريباً من اوكيناوا على بعد 130 كم بين تايوان والجزيرة اليابانية الكبرى شيكوكو ، وطوى البنتاغون سر القنبلة الثمينة الضائعة يومها ، وليس هذا هو السر النووي اليتيم ، فقد تم إماطة اللثام في الفترة الأخيرة أن مدينة ناغازاكي ضربت بقنبلتين وليس بقنبلة نووية واحدة كما هو معروف تاريخياً الا أن احداهما لم تنفجر ؟!! قنبلة نووية من عيار ميجاطن في قعر المحيط : والذي كشف الواقعة هو كاتب أمريكي اسمه ( ويليام أركين _ WILLIAM ARKIN ) الخبير في القضايا الاستراتيجية حيث نشر كتابا أشار فيه الى مايزيد عن 1200 واقعة نووية من هذا النوع في البحار ، منها 11 مفاعل نووي ضمن غواصة نووية هوت الى القاع ومنها 48 رأسا نوويا غرقت في قاع البحر من الشكل الذي بين أيدينا ، وبعد مضي عشرات السنوات عرف أهل الجزيرة بأن أمام ساحلهم وفي قاع البحر يرقد شر سلاح عرفه الجنس البشري ، ولكن البنتاغون هدَّأ أهل الجزيرة ، بأن فترة الاثني عشر سنة قد انتهت (2) ولذا فلاخوف من بأس القنبلة الراقدة في أعماق المياه الباردة ، ولاندري ماهي مشاعر سمك القرش وهو يحوم سابحاً ، حول هذا الضيف الغريب غير المرغوب فيه ، حيث لاأمل من مغادرته ضيافة قاع المحيط؟!! القنبلة النووية المفقودة ؟!! ومن جملة الأسرار التي خرجت للسطح أيضاً في الفترة الأخيرة أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين من نوع الرجل السمين ( FAT MAN _ البلوتونيوم 239 ) بدلاً من واحدة ، وان كان بعض الخبراء قد شكك في الواقعة ، وتم تسليمها الى السوفييت عن طريق اليابانيين ، قبل دخول الجنرال الأمريكي ( مارك آرثر ) الجزر اليابانية بأيام قليلة ، وكان حرص اليابانيين على ذلك أن لاتنفرد أمريكا بسر السلاح النووي (3) وربما كان مخطط ضرب المدينة بقنبلتين ، بسبب جغرافية المدينة المحاطة بالجبال ، ولذا كان تأثر ناغازاكي أقل من تأثر مدينة هيروشيما بالكارثة النووية نسبيآً . وسواء ضربت ناغازاكي بقنبلة واحدة أو اثنتين فان المحصلة النهائية أن عهدا جديداً قد انبثق ، وأطل العصر النووي برأس الفطر المرعب ، وهو يحلق فوق مصير الجنس البشري ، تماماً كما في الأساطير التي نعرفها ماحصل مع علاء الدين والمصباح السحري . قصة علاء الدين والمصباح السحري والجني : تروي الأساطير أن علاء الدين الفقير أغراه الساحر بالدخول الى مغارة سحيقة ليخرج منها مصباحاً عتيقاً ، والذي حصل أن علاء الدين عندما وقع على المصباح رآه قد علاه التراب ، فلما أراد تنظيفه خرج من فوهة المصباح جنياً هائلاً يفعل الأعاجيب ، انتشر كالدخان ينتظر الأوامر من صاحب المصباح ، ولكن ميزة العصر الجديد الذي أخرج الجني ( النووي ) من القمقم أنه ليس مصباحاً واحداً يتيماً ، كما أن السحَّارين يزداد عددهم باضطراد ، ليس كوريا الشمالية واسرائيل آخرهم ، ولذا فإن العالم يعيش أزمة نووية حتى اليوم ، فهو استطاع ترويض الجني ( النووي ) ومازال ممسكاً به ، ولكن كثرة السحرة والمصابيح التي بها يمسكون والجن المختبيء فيها ، يجعل العالم الذي نعيش فيه عالم الجن وعبقر وعالم الخوف وعدم الاطمئنان للمردة الجدد ، الذين أعادوا الينا روح الأساطير وقصص الجان مرة أخرى . وفي الواقع يجب أن لانضحك أو نستخف بالأساطير ، لانها مخزن الحكمة الانسانية ، كما تحكي رغبات الانسان الخفية والمظلمة والتي تحرك اللاوعي عنده ، من مثل امتلاك قوة لاتخطر على بال أحد . دور الأسطورة في الذاكرة الجماعية للجنس البشري : ليس المهم في الأسطورة أنها تمثل حقيقةً أم لا ؟ المهم فيها أنها تمثل وقود تحريك الانسان ، فالسيارة تحتاج للبنزين لتمشي ، أما الانسان فيمكن أن يتحرك ويمشي بل ويقتل بالوهم ، فالذاكرة الجماعية للصرب مثلاً مازالت تتغذى من معركة ( أمسل فلد _ AMSELFELD )(4) التي جرت في كوزوفو عام 1389م ، كما أن الخيال اليهودي مازال يشحن من تهديم ( تيطس _ TITUS ) للمعبد عام 60 للميلاد ، وهذه الظاهرة لاتخلو منها أمة ، ومنها تتغذى ذكريات الأطفال ، وتشحن بها الذاكرة الجماعية للأمة ، وتُخَلِّد بها الأمة ذكريات أبطالها بكيفية ما ، وفي تراثنا هناك الكثير من الأساطير التي مازال ( الحكواتي ) يرويها في الحارات الشعبية في دمشق والقاهرة والقيروان ، من أمثال قصص ( حمزة البهلوان ، والأميرة ذات الهمة ، وعلي الزيبق ، وتغريبة بني هلال ... وماشابه ) وقصة علاء الدين والمصباح السحري تدخل تحت هذه المنظومة المعرفية ، وقصة سندباد لم يبق طفل في العالم لم يشاهدها فقد مثلَّها اليابانيون بأفلام الكرتون وترجمت الى شتى لغات العالم . وهذا يعني أن عشق الانسان للقوة وغرامه بتطويرها تكمن في العمق الرهيب للاوعي الانساني منذ قرون طويلة ، ولذا كانت المحرك العميق خلفه للتطوير بدون توقف ، ولكن هراوة الغابة غير السلاح النووي ، والقوة النارية ليست كالفطر النووي ، والذي حصل في هذا التطور الفريد ، والقفزة النوعية المذهلة للقوة ، والتي عاشها جيلنا فقط ، ولم يهضمها العقل الجماعي الانساني بعد ، يجعله يقتات من مشاعر الأسطورة ، وأحاسيس الغابة ، والاعتماد على مبدأ الهراوة . والذي حصل بكل بساطة هو تطور ثوري جديد في مفهوم القوة ، قاد الى عكس مفعوله ونقيض ماأُريد له ، حيث ألغت نفسها بنفسها ؛ فالقوة أصبحت كائناً خرافياً مثل قوى الأساطير التي سمعناها عن الجني الذي انطلق من مصباح علاء الدين ، وبات الخوف من جهاز الرعب هذا داعياً لتفكيكه من جديد ، ولكن رحلة الصعود تكون أسهل من رحلة النزول أحياناً ، واسترداد الثقة بعد كسرها بين بني البشر أصعب بما لايقارن مع فقدها . الكائن الخرافي ( الاسطوري _ الحقيقي ) الجديد : لم يفهم ساسة العالم ( بُعد ) ومدى التطور الجديد للقوة بما فيهم ( كلينتون ) الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها ، وأوعز في نفس الوقت ، الى المخابر الجديدة بتطوير تقنيات جديدة ، لاتعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي كما سنشرحه بشكل تفصيلي لاحقاً ، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض ، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم ؛ بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم ، وبكلفة إجمالية تصل الى اربعين مليار دولار تنفق في مدى العشر سنوات القادمة ، للمحافظة على التفوق النووي ، ويعرف هذا المشروع الان ببرنامج البحث والانتظار العلمي ( STOCKPILE STEWARDSHIP AND MANAGEMENT PROGRAM ) ويرمز له اختصاراً ( SSMP ) . أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة لتفجير قنابل عيار ( المائة كيلو طن ). الا إن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة ، كما يفكر الانسان ، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير ) الجنرال فيكتور فيرنر ، عندما نتصور انساناً يدب في المدينة ، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان ، فإنه لن يبقى أنساناً حتى لو حافظ على شكله الانساني ، فامتلك رأساً انما بقدر غرفة كبيرة ، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر !! (5) أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف في كتابه ( البيروستويكا ) حيث أشار الى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة ، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية ، فقال (( ولأول مرة في التاريخ أصبح هناك حاجة حيوية لادراج المعايير والقواعد الأخلاقية _ الجمالية الانسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية )) (6) مأزق العصر النووي : ولذا فان العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة ، وأدخل مفهوما ً فلسفياً جديداً في علاقات البشر والدول ، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي ، وانتبه الى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على ( مشروع مانهاتن ) في ( لوس آلاموس ) الفيزيائي الأمريكي ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري ، في منطقة ( آلامو جوردو ) ، عندما تصور علاقات القوى ( كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد اذا اشتبكا في صراع فان الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعاً ) وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق ( آيزنهاور ) عام 1956 م في احدى رسائله : (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة او اختيار الموت ))(7) وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف الزعيم السوفييتي عندما قال في النمسا في يوليو تموز عام 1960 (( نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فاذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح ، وإذا نحن بدأنا حرباً لتسوية المنازعات بين الدول ، ومنها مايبغض الرأسمالية ومنها مايبغض الشيوعية ، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض ))(8) وقريباً من هذا الكلام كرَّره جورباتشوف بعد ذلك بثلاثين سنة في كتابه البريسترويكا (( استحالة حل التناقضات الدولية حلاً عسكرياً نووياً ينتج ديالكتيكاً جديداً للقوة والأمن ، اذ لايمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية ، لاباستخدام السلاح ولابالتهويل المستمر لـ ( السيف والترس ) كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة )) (9) ليخلص في النهاية الى أن (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وايديولوجية أو أي أهداف أخرى ، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً ، كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم ، فالوظيفة السياسية للحرب كانت دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها ( عقلاني ) أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون ، لان الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما . ان النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )(10) وكان هذا الانعطاف وهذا ( الفهم ) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص ، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه . رحلة السلاح النووي في نصف القرن السابق : حتى عام 1960 كان السباق المحموم هو في إطار تضخيم وتكبير السلاح النووي ، من خلال تطوير ماعرف بالجيل الثاني ( القنبلة الهيدرجينية ) وحتى عام 1958 م فجرت أمريكا 118 قنبلة ، في جنوب المحيط الهادي قضت فيها على كل حياة حيوانية ونباتية ، وفي عام 1954 فجرت سلسلة من القنابل تحت الاسم السري ( كاسل ) في جزر المارشال منطقة ( بيكيني _ أتول ) حيث تم تفجير سبع قنابل هيدروجينية بشكل متلاحق ، تحت تصفير وتزمير العسكريين وفرحهم الشديد بألعاب العيد النووي !! وفي الأول من آذار عام 1954 م هتف الجنرالات لتفجير قنبلة جديدة كان المتوقع أن تكون بقوة 6 ميجاطن فانكشف الغطاء عن جبروت نووي بلغ 15 ميجاطن ( أقوى من هيروشيما بألف مرة ؟! ! ) فارتجت الأرض من تحتهم وحلق في السماء مارد علاء الدين النووي الجديد يطل برأسه من ارتفاع 25 كم ، وأرسل الجنرال المتحمس يصف الاعصار النووي على الشكل التالي : (( اندفع الفطر النووي محلقا الى ارتفاع 25 كم في عنان السماء وبسرعة مخيفة انطلقت الغمامة النووية ترغي وتزبد لتشكل ثلاث كرات من الكريستال اللامع ، وعندما وصل الانفجار الى أوجه التمعت السماء فجأة بلون أزرق بنفسجي في تضاعيف التشرد الأيوني المقدس !! ) (11 ) فجُن جنون السوفيات فانطلقوا لايلوون على شيء في تطوير أعظم منها ففجروا في نهاية الستينات قنبلة بلغت قوة ( 58 ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ 3800 مرة !! ) فصرَّ جنرالات البنتاجون حنقاً على أسنانهم وقرروا المضي في مشروع لم يحلم به ابليس اللعين ، بتفجير قنبلة من عيار ( مائة ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ6600 مرة !! ) كل هذا قبل اتفاقية عدم التفجير في الهواء والماء التي ذكرناها والاحتفاظ بالتفجير تحت الأرض فقط . المسموح به فقط اقلاق عظام الموتى تحت الأرض ؟!! في السبعينات تم الاتفاق على السماح بمتابعة لعبة الموت وتجارب التفجير تحت الأرض فقط ، لتقفز الاتفاقية بعد ذلك على تحديد قوة التفجير بما لايزيد عن ( 150 ) كيلوطن ( أقوى من هيروشيما بعشر مرات !! ) وكان كل ذلك في ضباب الحرب الباردة قبل أن تدفن الأخيرة في جنازة خاشعة في باريس ، مع التسعينات من هذا القرن بعد أن زُلزل العالم عدة مرات وبلغت القلوب الحناجر ، وفي السبعينات حصل تطوران هامين في التطوير النووي الأول : هو في اتجاه التصغير ( MINIMIZING ) والثاني في التلاعب في اتجاه الطاقة حيث تم انتاج قنبلة النيوترون ذات التأثير الاشعاعي . انتاج قنابل فاكهة التفاح !! كانت القنبلة الهيدرجينية الأولى التي أخذت اسم ( مايك ) والتي أنتجت في خريف عام 1952م ذات حجم مرعب ، بطول ستة أمتار وبقطر 8.1 متر وبوزن 65 طن ، وهي التي عرفت بالسلاح الاستراتيجي ، ولم يمكن حملها على ظهر طائرة في ذلك الوقت ، بل شحنت على ظهر بارجة حربية ، وفي عام 1956م استطاع الأمريكيون حمل أول قنبلة هيدرجينية على ظهر طائرة حربية من نوع ( ب _ 52 ) وكانت القوة الجوية الضاربة لأمريكا مكونة من ثماني طائرات من هذا النوع ، ولكن التطوير الجديد مشى بعكس هذا تماماً ، بانتاج ماعرف بالاسلحة التكتيكية ، حيث أمكن تصغير القنابل الى حجم الفاكهة الصغيرة ، أي أصغر من قنبلة هيروشيما ذات القوة التدميرية ( 15 كيلوطن ) ، وهكذا أصبحت الخيارات منوعة بين القنابل ( الاستراتيجية ) والـ ( التكتيكية ) ونشأ رعب جديد من هذا الطيف من الامكانيات ، حيث قفز الى الإمكان حدوث حروب تستخدم فيها الاسلحة التكتيكية الصغيرة ، ولكن الاستراتيجية النووية أظهرت مرة أخرى ، أنه مع العصر النووي أن السحر قد انقلب على الساحر ، لانه لايوجد هامش واضح بين السلاح التكتيكي والاستراتيجي ، فيمكن الانزلاق بأبسط ممايتصور الانسان من الحرب التكتيكية الى الحرب العظمى التي لاتبقي ولاتذر ، تحت تأثير أعصاب انفلتت ، وأحقاد تفجرت ، ودماء سالت؛ فالانسان مازال يحمل في جمجمته بقايا تلافيف دماغ التماسيح وسمك القرش ، كما نكتشف بين الحين والآخر عن مدى رقة وتفاهة قشرة الحضارة في القشرة الدماغية في تلافيف دماغ الانسان ، والا كيف يمكن أن نفهم صواريخ كابول ، واغتصاب خمسين ألف امراة في البوسنة من سن السبع سنوات الى السبعين على يد الصرب ؟!! تطوير نظام الصواريخ ونتائجه البعيدة : وبقي لتتويج رحلة السلاح النووي تطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية ، ومن هنا تطور علم الفضاء وارسال الأقمار الصناعية ، التي أتت بالخير لنا من حيث لايشعر العسكريون ، حيث ينتظر الجنس البشري الآن ، امكانية ربطٍ هائلة للجنس البشري من المعلومات والاتصالات ، وتهيئة الجو لبناء الدولة العالمية الواحدة وإنتاج الانسان العالمي الثقافة الجديد ، وإيقاف الحروب نهائيا واجتثاث فقر ومجاعات العالم ، وفتح الامكانية لارتياد الفضاء واكتشاف الحياة في كواكب النظم الشمسية الأخرى . المفاجأة الكبرى في نظام الصواريخ : بين اختراع أول سلاح نووي وبين الوضع العالمي الجديد قفزات لاتخطر على بال ، بين عقيدة الهجوم النووي الأول ، فمن يهاجم أولاً يربح بالقضاء الكامل المبرم على الخصم ، وتبين مع الوقت مدى سطحيته وعدم جدواه وامتلاءه بالثغرات ، فتحولت العقيدة الى الردع النووي ، أي في الحين الذي يهاجم أحد الأطراف ، فإن الطرف الثاني يطلق صواريخه النووية _ وهو يغرغر في سكرات الموت _ التي سوف تصل الى الخصم في فترة أقصاها عشرين دقيقة ، فتأخذ الخصم مع نزع الروح معا ً الى قبر مشترك ؟!! ثم تطورت عقيدة ثالثة تقول بعدم جدوى وأمان أي وسيلة أمام الحرب النووية ، فالأمر لايحتاج لهجوم أو دفاع ، بل يكفي الانتحار النووي ، فتفجير أحد الأطراف قنابله التي يملكها هو بالذات ، وفوق رأسه بالذات ، سوف تقود العالم الى شتاء نووي رهيب ، ينقرض فيه الجنس البشري ، كما انقرضت الديناصورات بظروف مشابهة . كذلك فان الياباني ( شينتارو ايشيهارا )(12) لم يضن علينا بكشف السر عن سبب الاريحية والاخلاقية المتميزة ، التي جعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تكف عن التسابق النووي !! وكان السر في نظام الالكترونيات المتطور ، الذي خرج من أيدي الديناصورات الكبرى ، ليصبح مصير تطويره في يد دولة غير نووية هي اليابان !! فالصواريخ حتى تصيب أهدافها بخطأ محدود يعتمد بالدرجة الأولى على نظام الكمبيوتر المتطور ، و( الميكرو شيبس ) التي تُخَفِّض امكانية الخطأ الى أمتار قليلة أصبحت انتاجاً يابانياً ، فحتى يمكن تدمير القنبلة الهيدرجينية _ المختبأة في ( السيلو _ SILO )(13) مباشرة وبضربة رأس لرأس ، وفي فوهة البئر النووي تماماً ، المحصن ضد الزلازل ، بجدار من الخراسانة الاسمنتية المسلحة حتى ستين متراً ، كما في المخابيء النووية الأمريكية الموجودة بشكل رئيسي في كاليفورنيا في قاعدة ( فاندنبرغ ) _ لابد من امتلاك الكمبيوترات اليابانية ، وهكذا فان قصة انقلاب السحر على الساحر أخذت بعدا ً جديداً ، حيث ظهر مرة أخرى قصر نظر العسكريين ، ومدى رجاحة عقل العلماء الذين انتبهوا الى روح العصر الجديد ، فاقتراب العالم تدريجيا ً من السلم ، كان العلم هو المطور الأكبر خلفه ، أكثر من أي اعتبار آخر أو أية موعظة أخلاقية . هوامش ومراجع : (1) مجلة الشبيجل الألمانية حيث أوردت تقرير الخبير الأمريكي بالتفصيل عن مجموع الواقعات النووية ويراجع في هذا كتاب عندما بزغت الشمس للكاتب _ نشر دار الكتب العربية _ دمشق ص 189 فصل الجيل الثاني من السلاح النووي (2) تعتبر مادة نظير الهيدرجين ( التريتيوم _ TRITIUM ) ذات حياة تصل الى ( 3.12 ) عاماً وهذا يعني أنه لابد من حقن القنبلة مرة أخرة بهذه المادة حتى تحافظ القنبلة على مفعولها ، وهو مبدأ الجرعة الداعمة كما هو في اللقاح الطبي ؟!! (3) أشارت الى هذا الخبر المجلة الألمانية شديدة الدقة ( الشبيجل ) في عددها رقم 10 من عام 1992 م حيث ذكرت اسم الترجمان والحزبي الشيوعي الروسي ( تيتارنكو _ TITARENKO ) الذي كانت مشتركاً في اللقاء الذي عقد بين القيادة اليابانية ( بالصور ) وبين القيادة الروسية اثناء استسلام الجيش الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي كشف اللثام عن رسالة تيتارنكو التي أرسلها الى القيادة الروسية يومها هو الروسي المتخصص في التاريخ العسكري ( ايجور موروسوف _ IGOR MOROSOW ) والذي كتب مؤرخاً للحرب بكتاب أخذ عنوان ( الحرب التي لاتنسى ) وتم عرض فيلم وثائقي في ألمانيا بـ 16 حلقة عن الحرب تحت نفس العنوان (4) معركة أمسل فلد ( AMSELFELD ) جرت عام 1389 م حيث هزمت فيها القوات الصربية أمام الجيش العثماني بقيادة السطان العثماني مراد خان الأول وقتل في هذه المعركة كلا القائدين فأما الملك الصربي ( لازار ) فقتل في المعركة بعد الأسر ، وأما السلطان العثماني فأثناء تفقده ساحة المعركة من جريح صربي متظاهر بالموت _ يراجع في هذا كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية _ عن معركة قوص أوه _ تأليف محمد فريد بك المحامي _ دار النفائس ص 135 (5) كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير) تأليف الجنرال فيكتور فيرنر _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ ترجمة الدكتور هيثم كيلاني _ ص 21 (6) بيروسترويكا _ م . س . غورباتشوف _ الفارابي _ ص 200 (7) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي ص 14 (8) حول منع الحرب _ تأليف جون ستراتشي _ ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد _ الدار المصرية للتأليف والترجمة _ ص 16 (9) نفس المصدر السابق ص 200 (10) نفس المصدر السابق ص 199 (11) مجلة الشبيجل عدد 13 عام 1990 ص 278 (12) كتاب اليابان تقول .. لا شينتارو ايشيهارا _ ترجمة د. أسعد رزوق _ دار الحمراء _ ص 17 _ 20 ( 13 ) المخبأ النووي للصاروخ الذي يحمل العديد من الرؤوس النووية وقسم منها وهمي .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram