- -

المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (2) 
تواتر الانسان بين الملل واللهو :   حللَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول :  (( انظر الى برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافلاً كل يوم بمختلف الأشغال والمواعيد وألوان اللهو المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أصدقاء إلى زيارة الندوات وحضور الولائم ، فالصيد من جديد ، فندوة جديدة ، فمقابلات العمل أو الأصدقاء ، فموائد الميسر أو محافل الرقص أو كلاهما ، وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل لافراغ فيه ، والناس من حوله مكلفون بالمساهمة في شغل أوقاته ، وإن توقف التيار لحظة وترك الرجل أعماله أو أغلق بابه على الزوار ، وإن أسرع الى الريف طالباً الراحة والهدوء ، لما بقي في الريف طويلاً ، وسرعان مايعود الى المدينة ، أما إن اُضطر الى ترك الأعمال أو اعتزال الوظيفة أو العيش في الريف بمفرده ، لضاق بالحياة ذرعاً وحل به الضجر ) ليصل في النهاية الى تقرير ارتباط الضجر باللهو (( اللهو إذاً مرتبط بالضجر أشد الارتباط )) فالانسان من أجل أن يهرب من السآمة يُهرع الى اللهو ، ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ، وهذا بدوره ليس له مخرج إلا باللهو ، فهناك تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مثل تركيب الأحماض الأمينية في الكروموسوم الخلوي . ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا يصاب الانسان أصلاً بالسآمة والملل   تفكيك نفسي لظاهرة الملل :   يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثافة الشعور بها هي التي تقود الى الملل ، ولكن ماعلاقة الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ، وهذا يعطينا توضيحات في غاية الأهمية لتناذر ( متلازمة )( SYNDROM ) يوم الأحد عند الغربيين ، فأثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا تعجبت من ملاحظة مزدوجة : أولها كراهية يوم الاثنين الذي هو بداية العمل ، وتقابله ساعة النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ، عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنهك ، فتحمِّر الأعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ، بين باكي حظه وفاشي أسراره ، عند غربي لايحرص على الاقتراب منه أحد ، في حركة تدشين القطط الاجتماعية الجديدة . وثانيها كآبة يوم الأحد خاصة بعد الظهر ، فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نكدا وتنغيصاً ، في أعجب تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنينة القلوب . لم أعرف السر خلف ذلك الا متأخراً ، من خلال هذا التحليل ( الباسكالي ) .    ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة الاغتراب الداخلي :   إن قساوة العمل الاسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية الاسبوع ، ولكنهم منفردين كقطط اجتماعية ، كل لنفسه ، فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجهة للذات ، عندما تتخوى النفس من الداخل ، تتفرغ وتتقعر وتفقر داخلياً . ويدخل الانسان الحالة النفسية التي وصفها المفكر الاسلامي علي شريعتي ( حالة الاغتراب الداخلي)  . هذه المواجهة مؤلمة وتقود الى الشعور بالبؤس والحقارة والشقاء ، في حين كان العمل الاسبوعي عملية خروج وشرود من الذات ، أي عملية نسيان مؤقت للذات ، ومن هنا يدرج باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ، لأنه يؤدي نفس وظيفة الهرب من الذات وعدم مواجهتها ، وتفيد الآية في نفس الاتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) . هذا هو السر في محاولة هرب الانسان بعد انتهاء العمل الى نوع جديد من العمل هو لهو وتسلية ، ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كلها من صنف عمل جديد قد يكون أشد إرهاقاً وأعظم مجهودا ، ولكنه يفترق عن العمل الأساسي باندماج الانسان فيه وبمتعة أكثر ، فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نشاط آخر من أنشطة العمل الذي نقوم به ، وتسعى منظومة الفكر الغربي اليوم الى تحويل العمل الى متعة مثل لعب المباريات والصيد ، من خلال بناء الديموقراطية في حقل العمل ، أي جعل العمل أيضاً ضرباً من اللهو طالما كان اللهو ممتعاً ، ولكن كلا العمل واللهو عملية تقوم في عمقها على الهروب من الذات وعدم مواجهتها ، لأن الذات فارغة لم تدرك معنى الحياة ولم تحل جدلية المشكلة الانسانية ، فيرى الانسان نفسه على هذه المرآة الشقية .  لماذا كان السجن مؤلماً مخيفاً ؟   فالذات فارغة لم تحل الجدلية الأصلية للوجود ومواجهتها يسبب الألم والشقاء ، لذا كانت ألعن أنواع السجون الافرادية ، والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس لأنه مصادرة للحرية فقط ، بل لأن الانسان يكف عن الذهول الخارجي ، والذوبان في أحداث يومية روتينية تافهة متلاحقة تختصر الحياة الى أشياء وحاجيات وغذاء ومتع رخيصة ، وتختزل الوجود الانساني الى ترانزستور حيواني منكمش ضامر لايتلقى إشعاعات الوجود العظيم ، في السجن يواجه الذات بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل والاعتكاف ، كل أمتعة الانشغال الخارجي توقفت عن تحويل انتباه الانسان ، وسقط الانسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالماً جديداً لأول مرة .
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (1) 
لماذا يشعر الانسان بالملل ؟ ولماذا يكافحه باللهو والتسلية ؟ وهل اللهو واللغو يكسران حلقة الضجر والسآمة حقاً ؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوحدة والانفراد ؟ لماذا شكلت قضية العدالة المشكلة الانسانية العظمى حتى اليوم واستعصت على الحل ؟! مامعنى الثنائية المشحونة بالتناقض المحيرة في الانسان ، بين قطبي الشيطان والملاك ، والموت والحياة ، والحزن والحب ، والشقاء والسرور ، واللانهائية والعدم ؟ لماذا لايتدفق برد اليقين الى صدر الانسان ويبقى على سطح المعلومات ؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه الانسان فيولد من جديد مكتشفاً ( المعنى ) في الحياة ؟؟   باختصار هل هناك حل للمشكلة الانسانية ؟ وهل استطعنا فهم الانسان ؟ أو على الأقل وضعنا قدمنا في طريق فهمه ؟ هذه المسائل الفلسفية الضخمة المليئة بالتحدي أغرت الفيلسوف الفرنسي ( بليز باسكال )(BLAISE - PASCAL ) فتصدى لمواجهتها في محاولة للامساك بمفاتيح الفهم الكبرى للانسان ، وهي تروي لنا قصة طريفةً من روائع مغامرات العقل الانساني في القرن السابع عشر للميلاد ، يقوم بها انسان مثقل بالأمراض ، يكاد دماغه يتفجر من الصداع ، فيحل أعقد المسائل الهندسية ، في فك لغز المنحنى الهندسي الدحروجي وهو يئن تحت وطأته ويتلوى كالأفعى من آلام الأمعاء التقرحية ، ويقترب من الشلل النصفي السفلي فيمشي على عكازتين ، ولايعمر في النهاية أكثر من ( 39 ) تسعٍ وثلاثين عاماً ( 1623 _ 1662 م ) في شهادة واضحة أن العمر في إنجازاته وليس في طوله ، وأن الزمن هو حال النفس وليس دورة الفلك كما يشير الى ذلك الفيلسوف المسلم محمد إقبال في كتاباته    ظاهرة محيرة عند المفكرين :   أجسام نحيلة يعضها المرض حيناً ، وتفترسها العلل طوراً آخر ، وتقضي عليها الأمراض في سن مبكرة ، أشبه بآلة استُهلكت بكثافة لامتناهية فطواها الموت بسرعة . نفوس عظيمة ، وأدمغة متوقدة . عيون تلتمع بالذكاء والنباهة ، ومسلك طاهر ونظافة أخلاقية ، ومواقف تشع بالحكمة والتصرف المحير الذي لايخطر على بال ، فعندما تقدم اليهود الى عيسى عليه السلام وهم يدفعون أمامهم الزانية كان حرصهم أشد على الإيقاع به عند السلطات الرومانية من إقامة الحد ، كما يروي القصة أبو الأعلى المودوديلأنه سيكون بين مطرقة السنهدرين وسنديان الحكم الروماني ، إن تأخر في النطق بالحكم اعتُبر هرطيقاً ، وإن نفذ الحكم أصبح قاتلاً أو محرضاً على القتل في نظر التشريع الروماني . كان جوابه عليه السلام عجيباً غير متوقع هادئاً عميقاً ( من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ) وانقشع جمهور الفقهاء المزورين عن رأسه .    فلاسفة وعلماء عليلون ؟؟!!   ظاهرة ملفتة للنظر تصدمنا بين الحين والآخر ونحن نقرأ للمفكرين والفلاسفة ، فنرى التحدي المخيف في إعاقة مرض وسيطرة علة ، أطلقت كوامن طاقة غير معقولة في التاريخ ، بين ظلام الرؤية في عمى أبو العلاء المعري ، وموت سبينوزا المبكر عن 42 عاماً بسلٍ رئوي افترس رئتيه ، ولكنه ترك من خلفه أربع كتب مازالت تهز الفكر الانساني حتى هذه اللحظة ، وتعتبر محطات عقلية لكل من دخل الاوقيانوس العقلي لمعرفة مغامرات الفكر الانساني الضخمة . والتقرح المعوي الممض عند باسكال ، وجنون نيتشه بمرض الافرنجي الذي استلب دماغه ، وشلل هاينه الشاعر الألماني ، ويصل المرض الى ذروته عند ( ستيفن هوكينج )( STEVEN  HOWKING ) الفيزيائي الكوني البريطاني الذي صعد عنده الشلل الى أطرافه الأربعة ورقبته ، فهو مشلول الأطراف الأربعة ، مربوط الى عربة معاق يستطيع تحريك أصبعين من يده اليسرى ، ويتنفس بثقب صناعي في الرغامى ، ويتكلم عبر كمبيوتر مربوط الى حلقه ،  باختصار هو دماغ فقط ولكنه اعتبر نيوتن القرن العشرين بالاختراق العلمي الذي قام به عندما طرح كتابه ( قصة قصيرة للزمان )( A  BRIEF  HITORY  OF  TIME ) الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية    ظاهرة التحدي :   يبدو أن التحدي يشكل قانوناً وجودياً ، فهو يستوفز الطاقات لتشكل حلقة حركية ، فالفكر أطلق باسكال ، والهم الفكري قاده الى المرض العضوي ، فمظم قرحات الجهاز الهضمي تندلع من تربة نفسية ، وهذا بدوره ولَّد شرط التحدي ، الذي قاد الى مزيد من الانتاج في حلقة تصاعدية ، ولايعني هذا أن كل مبدع أو مفكر يجب أن يكون مريضاً ، ولكن البدانة والشراهة في الأكل لم تكن في يوم من الأيام صفة المبدعين ، الذين يحملون هماً فكرياً يتجاوز معدتهم ، ذلك أن الهم الفكري يحرم في الغالب أو يقلل شهية التمتع بالطعام والإقبال على مايتقاتل ويتزاحم عليه الناس من المقتنيات ، ويحدد الاندفاع باتجاه هذا المتاع الرخيص ، وتفيدنا العضوية بآلية هامة في هذا الصدد وهي أن الطعام يوجه الدم الى الجهاز الهضمي ، مما يخفف دورانه في الدماغ ، فهو يقود آلياً الى تباطيء عمليات التفكير وإعمال العقل والعكس بالعكس ، وهي ظاهرة فيزيولوجية يشعر بها كل واحد منا بعد وجبة ثقيلة ، من ميل للكسل والاسترخاء ، ويظهر عكسها في الصيام أو قلة الطعام من صفاء الذهن وحدة القريحة وتألق الفكر . تحدي الظروف بما فيها المرض والعاهات تطلق طاقة الانسان بشكل تعويضي ، وتحدي الظروف التاريخية تستنهض المجتمع ، وتحدي البيئة يحرك الجموع البشرية باتجاه الحضارة ، كما اعتبر المؤرخ البريطاني توينبي عندما رأى في وجود اسرائيل في المنطقة العربية منخس حضاري وتحدي يدفع للمواجهة وتقرير المصير .
اقرأ المزيد
هل مات ديكارت مسموماً ؟ (4) 
مفهوم لا إكراه في الدين:     إن القرآن حينما طرح شعار (لا إكراه في الدين) أراد منها تحييد الجسد في لعبة الصراع الفكري، وهذا المفهوم ينبثق عنه ثلاث مفاهيم خطيرة مازال الجنس البشري يعس من أجل تحقيقها، ولم يصل الى ذلك حتى الآن الى بعضها الا بشق الأنفس.   هذه المفاهيم الثلاثة هي بالتتالي:  (1) ـ أولاً: تحييد العرق، وبذلك يتوقف الصراع العرقي وتزول العنصرية من العالم. (2) ـ ثانياً: كما يصب تحييد الجسد في مفاهيم العنف واللاعنف فيتوقف إكراه الانسان وتعذيبه من أجل معتقداته، فلايقتل الانسان من أجل أفكاره، بل بما جنت يداه، والقرآن مشى في اتجاهين في مواجهة هذه المشكلة الانسانية التاريخية. فهو أولاً: أعلن من جهته توقف الاكراه في العالم، بكل صوره، فكلمة (لا إكراه في الدين) كلمة جامعة شاملة لكل المعتقدات والمباديء والأديان، فنفى كل صور الضغط والاكراه وضمن أي دين أو مبدأ . ومن هذا النبع النمير نكتشف بؤس الفقه حين دشن مشروعية قتل المرتد أي من يغير معتقداته، على الرغم من عدم وجود نص واحد في القرآن يفيد هذا الحكم الشنيع، فمن أراد دخول الإسلام ثم الخروج منه عليه أن يخرج بدون رأٍس؟؟ ومن أراد صناعة السيارات عملها تمشي للأمام فقط، فإذا دخلت الكاراج وأرادت الخروج انحشرت فما غادرته أبد الدهر؟؟ رفع الأكراه هو في اعتناق مبدأ أو تركه، دخولاً وخروجاً، وكان هذا الاعلان ـ وهو أمر مثير ـ أنه جاء من طرف واحد، وليس في صور اتفاقيات متعددة الجوانب؟ وهذا يفسر قسماً من سر انتشار الاسلام في العالم وانسياحه حتى هذه اللحظة في ضمائر البشر جميعاً. وهو ثانياً: ترك الهامش أمام (التظاهر) بالتراجع عن المبدأ في حال التعرض للاكراه (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) كله في محاولة لتحييد الجسد عند اختلاف الآراء والعقائد، من أجل الوصول الى مجتمع انساني حر التفكير خالي من كل صور الاضطهاد والضغط المادي والأدبي، فلا تستخدم أي صورة من صور  الضغط لادخال الناس بالقوة في أي مبدأ، أو إخراجهم من أي دين بالقوة، في كلا الاتجاهين، دخولاً وخروجاً. والعنف المادي ضمن هذه البانوراما هو تلك الوسيلة التي تحتكرها الدولة لتحييد كل صور الاكراه على الانسان ضمن المجتمع كي يعيش آمناً، والجهاد بمعنى استخدام الآلة المسلحة هو لرفع الظلم عن الانسان أينما كان، والظلم من أي جهة انطلق حتى لو قام بها مسلم، من أجل إيقاف عملية إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة، فهي دعوة لأقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أممياً، وبذلك يتحول العالم الاسلامي تحت هذا المفهوم وضمن هذه الصورة الى مكان يهرب اليه اللاجئون السياسيون كل مكان وليس العكس. ومن عجيب تفكير الإصوليين أنهم يقولوا نعم هناك حرية اعتقاد ولا إكراه ولكن هذا في الدخول أما الخروج فلا؟!! بدون أي مستند من النص. وكله تأويل فاسد ضد العقل والمنطق والتاريخ والإنسانية والتطور الدافع للتقدم الإنساني .. (3) ـ ثالثاً: كذلك يدخل ضمن تحييد الجسد حل جذري لمشكلة المرأة، كما يتحسن وضع المراة في العالم، فوضع المرأة غير مريح في الشرق والغرب على حد سواء، وعندما يتم تحييد الجسد من خلال الجنس، تتوقف المساومة على جسد المراة، التي أخذت طابع المراهنة على الجنس، ونسيان انها انسان كامل وروح متميزة. مفهوم تحييد الجسد في الصراع الفكري:   لعل ديكارت لو بعث في أيامنا الحالية كان سيتمتع بوضع اوربا وكيف أينعت الثمرات التي وضعها هو وجيل الفلاسفة من القرن السابع عشر، وما وصلت إليه في الخلافات الفكرية، فالانسان في الغرب لايعذب من أجل أفكاره، ولايقتل من أجل معتقداته تركاً أو اعتقاداً وتحولاً،  كما أن الأرض الأروربية أصبحت إن شئنا أم أبينا ملجأً للفارين السياسيين، الذين يبحثون عن نجاة لجلودهم من محاكم تفتيش القرن العشرين، فالمسعري السعودي حمته بريطانيا وحين تدخلت السياسة فطيرته لكوبا وترينيدياد تدخل القضاء البريطاني فأعاده لضباب لندن، كذلك الحال مع الغنوشي والبيانوني في اسكتلنده وويلز. كذلك الحال مع البيطار البعثي والحوراني الاشتراكي الذي آوتهما فرنسا، والعطار الذي يقضي بقية أيامه في سلام في آخن من حيث انطلقت الحملات الصليبية على الشرق الأوسط في القرون الوسطى، عظة للغافلين وآية للمتوسمين.. كذلك حققت الحضارة الصناعية ماهو أهم من انتاج السيارات والطيارات من نقل السلطة السلمي، وتدخل أوربا الآن تحولاً مذهلاً لم يعرفه الجنس البشري من قبل وهو الاتحاد بغير طريقة نابوليون أو هتلر، فلم تعد ألمانيا فوق الجميع بل مثل الجميع، ولم يعد توحيد أوربا بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بل باتفاق المونتان لإنتاج الحديد المشترك في الوحدة الاقتصادية. وحكام أوربا يجتمعون ليتحدوا بدون اجتياح أحد للآخر، وبدون أن يخسر أحد زعامة أو مالاً أو أرضاً. ولايعني هذا أن نهاية الرحلة الانسانية سوف تختم على طريقة فوكوياما بالديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية الغربية، فالانسان الغربي حقق الرفاهية والأمن الاجتماعي ولكنه لم ينجح في الطمأنينة الروحية بعد، أما نحن في عالم الأطراف والمحيط؛ فلا رفاهية ولا أمنا، بل رحلة الجوع والخوف والتيه والهولوكوست إلى قرون طويلة، وذرارينا الذين يولدون في الشرق المنكوب ليس أمامهم إلا المجهول والانفجارات والمذابح الأهليه والحروب الطائفية وحكم البعث والعبث، ومؤامرات النصرانية والناصرية والشيع والتشيع والوقوف في خنادق الزمن متجمدين عند خلافات طواها الزمن. والرحلة طويلة أمامنا لنتعلم، ولكننا لن نخرج عن خط التحول التاريخي بحال، إنما هي المسافة الزمنية قرونا بين ذلك طويلة..
اقرأ المزيد
هل مات ديكارت مسموماً ؟ (3) 
نتابع في الحلقة الثالثة من قصة نهاية الفيلسوف ديكارت مسموما بالزرنيخ ولكن لابد من التعريج على أهم أفكار وإنجازات الرجل ولعل من ابرزها ما اهتدي إليه في مجلس كاهن كان يحرص على جمع العقول الأوربية. طنين الذبابة وانبثاق الهندسة التحليلية:   في ضاحية باريس عمد مفكر لاهوتي هو (مارين ميرسين)( MARIN MERSENNE)(5) في مطلع القرن السابع عشر، الى عملٍ لم ينتبه  له أحد، ولكنه كان مثل الزلزال للعقلية الأوربية، حيث كان يعمد الى عقد اجتماعين اسبوعيا يعقد فيها خيوط الاتصال بين أهل الفكر الحر في أوربا. وفي مجلسه العلمي المتواضع اجتمعت خيرة العقول الأوربية الحرة في ذلك الوقت، لتنتشر منها موجات التنوير بدون توقف. هذا العمل كان مثل تحركات القارات الجيولوجية، ويعني للمفكرين أملاً لاينضب في إمكانية تحسين التفكير الانساني. كان ديكارت لايكف دماغه عن العمل في كل مكان، وعندما أزعجه طنين الذبابة بدأ في التفكير عن احتمالات وجودها، فقاده هذا التفكير الى وضع قواعد المخطط البياني والهندسة التحليلية، التي أصبحت أحد أعمدة الرياضيات حتى وقتنا الحالي. يقول جاك بيرج صاحب كتاب (عندما تغير العالم):   (ومن الطريف والمثير أيضاً أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد في صومعة الراهب ميرسين مرتين اسبوعيا، لتسهم اسهاماً مهماً في التفسير الرياضي لتسيير الكون، فجرَّتها مجرد ملاحظات شخصية، فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتماع. أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة؛ فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي، والآخر من أسفل. هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم بالخط البياني)(6) جمجمة ديكارت وعظامه الناقصة:  حتى يثبت الدكتور والصحفي (آيكه بيس) مزاعمه حول تسمم ديكارت قام برحلة بحث حول بقايا عظام الفيلسوف بعد مرور ثلاثة قرون ونصف على بلاها؛ فتبين له أن عظامه وصلت ناقصة الى فرنسا  بعد دفنه في السويد عشية وفاته، حيث تم استخراجها من جديد ودفنها عام 1666م مرة أخرى في كنيسة القديس جرمان دي بري، ولم يُنتبه الى أن الهيكل غير كامل الا بعد فتح التابوت عام 1819م،  ولم تصل الجمجمة لتوضع في المتحف الانساني في باريس الا في عام 1878م . يقول الدكتور بيس عندما وضعت يدي على جمجمة الفيلسوف أردت أن أغامر فأقوم بكحت العظام وأخذ عينة منه لكشف آثار الجريمة، فالزرنيخ المعدني لاتخيب آثاره في الكشف عنها ولو بعد قرون، ولكن جرأتي خانتي في مشهد من هذا النوع !! وأما تتمة قصة الرسالة فَعُرف أن الملكة كريستينا قامت بحملة سياسية لإعلان موت الفيلسوف، أن سببه كان التهابا رئويا صاعقا ، وعندما علمت بأمر رسلة طبيب البلاط  قامت بمصادرتها، وأحيلت الى الأرشيف الملكي، ليكشف النقاب عنها بعد تطاول القرون،  في أرشيف جامعة ليدن التي حفظتْ الوثيقة. التصفية الجسدية لأهل الفكر:   جرت العادة في العصور الوسطى أن يتم التخلص من مقلقي النوم العام (كذا؟)، فأي فكرة تطرح يجب أن لاتوقظ نائماً ولاتزعج مستيقظاً، فإذا انتشرت الفكرة اعتبر صاحبها من المفسدين، فالتهمة التي وجهت لموسى عليه السلام أنه (يظهر في الأرض الفساد)... أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك؟؟  وكانت العادة تجرى بعزلهم عن فكر المجتمع في ثلاث صور، فإما النفي أو السجن أو التصفية الجسدية (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله). وينطبق على صاحب الفكر قانون الدجاجة المجروحة، فعندما تكتشف الدجاجات أن إحداهن مجروحة ؛ تُهرع إليها فتنقر مكان الجرح النازف حتى الموت، ولكن القدر التاريخي يبدو أنه يسير في مسرى آخر، في غير هذه الصورة القاتمة، بل إن التغير الاجتماعي يحدث ضمن دورة مختلفة، ترسي في النهاية لصالح الفكر التغييري الأصلح، ضمن جبروت القانون الالهي بأن الزبد يذهب جفاءً وماينفع الناس يمكث في الأرض. ودفاع المجتمع عن أفكاره مبررٌ في قسم منها والا تعرض المجتمع لهزات لانهاية لها مع نزوات البشر بدون نهاية، ولكن صمود وأحقية الفكر التغييري هو الذي يعطيه طاقة الصمود والتحدي والصبر حتى تجاوز معصرة المحنة والتطهر من خلالها، ونقل المجتمع الى عتبة جديدة أكثر تقدمية. وأياً كانت صحة قصة تسميم ديكارت فالتصفية الجسدية لأهل الفكر ليست جديدة ، حتى إن القرآن عندما أشار الى نفي الصلب عن المسيح كان ـ في تقديري ـ ينطلق من خلفية أهم من كونه مات على الصليب أو قُتل بطرق أخرى، فالقرآن يشير الى أن كثيراً من الأنبياء قتل، وليست جديداً محاولة صلب أحد الأنبياء (وقتلهم الأنبياء بغير حق). في تقديري كانت حركة القرآن لنفي قصة الصلب وصولاً الى تحييد العقيدة التي قامت عليها قضية الصلب: أي التثليث وألوهية المسيح، أكثر منها لنفي الطريقة التي قتل فيها ، بسبب ارتباط العقيدة بطريقة القتل . هوامش ومراجع:   (5) يراجع كتاب عندما تغير العالم ـ تأليف جيمس بيرك ـ ترجمة ليلى الجبالي ـ عالم المعرفة رقم 185 ـ ص 196 (6) نفس المصدر السابق ص 201  
اقرأ المزيد
هل مات ديكارت مسموماً ؟ (2) 
والآن ما الذي قاد ديكارت الى السويد ليلاقي حتفه فيها!!   في خريف عام 1649 م أرسلت ملكة السويد كريستينا (ابنة الملك جوستاف أدولف)(GUSTAV  ADOLF) ضابط كبير برتبة أدميرال الى الفيلسوف المتواري في هولندا والذي كان يُروى عنه دوماً  المثل: (عاش سعيداً من توارى في الظل وأمعن في الاختفاء عن الأنظار) تطلب منه المثول إليها الى استوكهولم لتتعلم على يديه (فن التفكير الصحيح)؟! كان ديكارت يومها يعيش في هولندا متوارياً، يغير بيته أربع وعشرين مرة في أقل من عشرين عاماً، قد سمع بأهوال محاكم التفتيش والمصير الذي تعرض له الفيلسوف والعالم الأيطالي (جاليلو)، كما أن حرق جيوردانو برونو الذي دُشِّن به القرن السابع عشر حين أحرق حياً في ساحة عامة في روما، في عام 1600 للميلاد، عن عمر يناهز 52 سنة بعد سجن وإذلال لفترة ثماني سنوات؛ جعلت ديكارت يلجأ الى هولندا التي انتشر فيها روح التسامح الديني، فكان يسافر الى فرنسا بين حين لآخر لتدبير أموره المالية، ليعود الى هولندا يعيش حياته الخاصة بعيداً عن الناس في صحراء اجتماعية، ولكن في جنة فلسفية. وفي هذه الدوحة الفلسفية كان يقطف ثمرات يانعة للفكر الانساني، وفيها أنضج معظم أفكاره فكتب معظم مؤلفاته بما فيها أعظم كتاب له، الذي اشتهر به وهو (المقال على المنهج) الذي أرسى فيه القواعد الأساسية للوصول الى الحقيقة في العلوم. الشك أداة معرفية للوصول الى اليقين !!     كان ديكارت يطمح الى الوصول الى الوثاقة واليقين التي تتمتع بصلابتها الرياضيات، بحيث يؤسس بقية العلوم على هذه القاعدة من اليقين، وكان كتابه (المقال على المنهج) في إطار توليد اليقين من أرضية الشك . كان الشك الذي استولى على عقل ديكارت كبيرا رهيبا، بحيث قاده الى قطيعة معرفية مع عقلية العصور الوسطى؛ فشطَّب دفعة واحدة الآراء المسيطرة في المجتمع. وشق الطريق الى اعتماد المحاكمة العقلية سبيلاً للفهم أكثر من الآراء المسيطرة، فليس هناك من وسيلة لقتل العقل مثل التقليد واتباع آراء الآباء، كما نعى ذلك القرآن على كفار قريش (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ومضى به الشك كما حصل مع الإمام الغزالي سابقاً، حينما اهتزت عنده حتى الضروريات والمحسوسات. كان يخاطب نفسه إذا كان كل الشعور موجوداً في المنام ولايزيد المنام أن يكون وهماً كاملاً!! فما الذي يضمن لي أن لاتكون الحياة برمتها نوعاً من الوهم الخادع على صورة منام كبير؟! وإذا كانت الحواس تخدع، والمعرفة تاتي عن طريق الحواس، فكيف يتأتى لي أن أصدق هذه المعلومات المتدفقة الى عقلي وطريقها هو الحواس؟!   استمرت رحلة الشك حتى مرض الغزالي؛ فكاد أن يهلك كما روى في كتابه المنقذ من الضلال، وأما ديكارت فلم يمت ولكن دماغه كاد أن ينفجر في ليلةٍ حاسمة غيَّرت مجرى حياته بالكامل، في شتاء قاسي، وحرب الثلاثين عاماً الطاحنة تزهق أرواح الناس على الأرض الألمانية. ليلة ديكارت التاريخية:  ابتدأت حرب الثلاثين عاماً الدينية على الأرض الألمانية في عام 1618م، ولم تنته إلا عام 1648م، بعد ثلاثة عقودٍ كاملة قتل فيها الملايين من الناس من كلا الجانبين والمذهبين، من البروتستانت والكاثوليك، وعم الخراب، وانتشرت المجاعة، وتحولت ألمانيا الى أنقاض اشتركت فيها جيوش شتى من كل القارة الأوربية، ولم تُترك فظاعة الا ارتكبت، على عادة الحروب الأهلية. ولكن أشد من عانى يومها، كان الشعب الألماني الذي مات منه ذبحاً قرابة الستة ملايين ونصف، من أصل تعداد سكان يصل الى عشرين مليوناً فقط، مما اضطر الكنيسة يومها الى استصدار قرار اشتهر بقرار نورمبرغ، أباحت فيه تعدد الزواج استناداً الى قصص العهد القديم، لتعوض النسل المنقرض، ولم تنتعش ألمانيا الا بعد مرور ثمانين عاماً (3). ويصاب الانسان بالعجب الى حد الانبهار، كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حروبٍ أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟ ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبة؛ عندما أجبرته الثلوج والبرد الى الاحتماء طيلة الشتاء الى غرفة دافئة، لايعكره فيه هوى ولاهم او حزن، حتى كانت ليلة عمد فيها الى التفكير؛ فكاد دماغه ان يحترق من وهج التفكير (كما يروي)(4) ثم جاءه مايشبه الوحي من التفكير بحيث انفتحت أمام بصيرته الطريقة الجديدة في قيادة العقل الى الأحكام الصحيحة. إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل الى طرح هذا السؤال: إذا كنت أشك في كل شيء، فهل هناك شيء ولو كان وحيداً منفرداً لا أشك فيه يقيناً؟ كانت اللمعة العجيبة التي التمعت في ذهنه: نعم قد أشك في كل شيء، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه يقيناً هو أنني أشك، والشك تفكير، فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنني أفكر لأنني أشك، وعندما أفكر فأنا موجود، على صورة من الصور، أي أن هناك حقيقة لوجودي على شكلٍ من الأشكال، فحقيقة التفكير تعني أني موجود على صورة من الصور. ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية: أنا أفكر أنا موجود.    هذه الفاتحة المدهشة في نقلةٍ عقلية بسيطة، ولكنها في مثل ثقل الجبال، هي التي ساقته فيما بعد الى تأسيس الفكر المنهجي التحليلي اللاحق، الذي اشتهر به، عندما أرسى المربعات الفكرية الأربعة المعروفة : ـ لا أقبل شيئاً مالم يكن في غاية الوضوح ـ  كل قضية مركبة تحلل الى عناصرها الأولية ـ  بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية ـ  تجرى عمليات النقد الذاتي والاختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية لإحكام ضبطها. هوامش ومراجع:   (3) يراجع بالتفصيل عن كارثة الحرب هذه كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت (4) كتاب المقال على المنهج ـ ترجمة محمود محمد الخضيري ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، ويعد هذا الكتاب من روائع النثر الفرنسي، وقوته هي من بساطته وسحر الأدب الذي يغلف كلماته
اقرأ المزيد
هل مات ديكارت مسموماً ؟ (1) 
بمناسية مرور 400 اربعمائة سنة على ولادة فيلسوف التنوير  الفرنسي (رينيه ديكارت)(RENE  DESCARTES) الذي اعتمد آليات الشك لتمحيص الحقيقة، وألقى في القارة الاوربية بذور النهضة العقلية، تقدم صحفي وطبيب ألماني هو (آيكه بيس 54 عاما)(EIKE  PIES 54) بتحقيق هز فيه الأوساط الاكاديمية، يزعم فيه أن الفيلسوف  ديكارت لم يمت من برد السويد بالتهاب رئوي؛ بل بالحري مسموماً بجريمةٍ مدبرة، تم ترتيبها بين مبعوث الفاتيكان الذي كان يقوم بمهمة إقناع ملكة السويد بترك المذهب البروتستانتي والتحول الى الكثلكة، وبين منافسين لديكارت داخل البلاط الملكي يعملون في حقل الفيلولوجيا (PHILOLOGY)(1) .   وهي تذكر بقصة حديثة نشرتها قناة الديسكفري العلمية عن طبيب أسنان سويدي أماط اللثام عن الطريقة التي أنتهى فيها نابليون مسموما أيضا بالرزرنيخ، وعلى يد أقرب الناس إليه في جزيرة هيلانا، بعد أن نفحه خمسة ملايين فرنك، وكان الأخير قد دفع زوجته إلى أحضان الامبراطور فحبلت وولدت بطفلة أخذت اسم نابليونة!! عرف ذلك يقينا أثناء نقل جثمان نابليون من المقبرة بعد 14 عاما فكان كما هو وكأنه دفن البارحة فظن القوم أنها معجزة للقديس نابليون، ولكن الطبيب السويدي ومن خلال بقايا خصلات شعر الجنرال عند محبيه عرف أنه مات مسموما وبالتدريج بالزرنيخ مع جرعات الخمر. ولعل نهاية الأسكندر الذي مات شابا كانت قريبا من هذه الطريقة. ولكن الذي مات بالسم علنا كان سقراط حين حكمت عليه ديموقراطية أثينا بتجرع سم الشوكران!! ويقال عن تسميم أبو حنيفة والحسن بن علي والأمام العادل عمر بن عبد العزيز أنهم أنهوا حياتهم أيضا موتا بالسم غيلة.. ولد الفيلسوف ديكارت في (لاهي) وهي بلدة صغيرة في منطقة التورين (TOURAINE) بفرنسا عام 1596م (2) وفي عام 1650 م اختتمت حياته عندما أعلنت ملكة السويد (كريستينا)(CHRISTINE) نبأ وفاته بالتهاب رئوي حاد عن عمر يناهز 54 عاماً. ترك ديكارت خلفه أثراً مزلزلاً ومازال في مفاصل العقل الانساني الجمعي؛ فديكارت يعتبر اليوم محطة عقلية لكل من يرتاد حقل الفلسفة، أو يريد التعرف على التحولات العقلية الكبرى فيها، وكل من جاء بعده ممارساً للفكر؛ لابد أن يتأثر بالطريقة التي طرحها بشكل أو بآخر، فيعتبر أهم ماكتب الفيلسوف سبينوزا من بقايا بصمات ديكارت عليه، فرسالته في (تحسين العقل) ينحو منحى ديكارت في كتاب (المقال على المنهج) كما أن رسالته الهامة الثانية عندما أراد أن يفهم الأخلاق بشكل هندسي (الأخلاق مؤيدة بالبرهان الهندسي) هي من آثار ديكارت في فهم كل شيء في الكون بشكل ميكانيكي. والآن ما الذي أثار شبهة موت ديكارت مسموماً بالزرنيخ؟   كان مفتاح هذه القصة الخطاب الذي تبادله اثنين من الاطباء فأما الأول فهو طبيب البلاط السويدي، الدكتور (يوهان  فان فوللن)(JOHANN  VAN  WULLEN) الذي عاصر لحظات ديكارت الأخيرة وتطور مرضه في الأيام الأولى من شهر فبراير من عام 1650 للميلاد، في استوكهولم عاصمة السويد، وأما الطبيب الثاني الذي عُنوِّن له الخطاب ولم يتسلمه قط فهو طبيب عاش في القرن السابع عشر، وهو جد بعيد للدكتور (آيكه بيس) الذي أثار الموضوع في مدينة فوبرتال (WUPPERTAL) الألمانية، وكان يومها الطبيب الخاص للأمير (يوهان  موريتس  فون  ناساو - زيجن)(JOHANN  MORITZ  VON  NASSAU -  SIEGEN) . هذه الوثيقة البريئة !! وقعت في يد الدكتور والصحفي (بيس) والتي كانت نائمة في أرشيف جامعة (ليدن من هولندا)(LEIDEN) كل تلك القرون؟!! ولكن لماذا استقرت في هولندا ولم تصل ليد الدكتور (ويليم بيس)(WILLEM  PIES) الجد الأعلى للدكتور (آيكه بيس) المقيم في فوبرتال ؟!! كانت الرسالة وثيقة مريبة عن وصف حالة فيلسوف التنوير ديكارت وهو في سكرات الموت، فالدكتور السويدي الذي كان يسجل يوميات انهيار صحة الفيلسوف بأعراض لاتُخفي مظاهر التسمم بالزرنيخ، مثل البول المدمى واللعاب المسود الغزير ودوران العينين التائه، ونوعية تقطع التنفس، المشير للتسمم الحاد بالزرنيخ، كما أن ديكارت نفسه ارتعب من جو المكائد التي هرب منها طول حياته فلحقته الى السويد. وهو الذي كان يقول عاش سعيدا من بقي في الظل. ويبدو أنه أدرك أنه وقع في المصيدة، فطلب بعض الأدوية التي تحرض عنده الاقياءات، كي يتخلص من السم اللعين، ولكن يبدو أن جرعة أخرى لحقته في اليوم الثامن من كربه فألحقته بالقبر. الدكتور (آيكه بيس) فتح الباب الى قصةٍ مثيرة من القصص البوليسية التاريخية، فبمقارنة الخطاب المرسل من طبيب لآخر، وباستعراض مظاهر المرض التي بدات مع اليوم الثاني من شهر فبراير من عام 1650 م والتي أنهت حياة الفيلسوف ديكارت في اليوم 11 منه في الساعة الرابعة صباحاً، افترض أن جرعة السم الأولى أعطيت له مع جرعة النوم، وأما الثانية فكانت للقضاء المبرم عليه في اليوم الثامن. ويبقى لإثبات هذه الفرضية الاجرامية التاريخية الوصول الى المتبقي من عظام الفيلسوف لفحصها عن طريق الطب الشرعي، فسم الزرنيخ يبقى في العظام فلا يزول، ويمكن التاكد منه بفحص الجمجمة مثلاً. هوامش ومراجع: (1) تم نشر الخبر في مقال مطول في مجلة الشبيجل الألمانية في قسمها الثقافي، وأشارت المجلة المذكورة الى طبع كتاب في هذا الصدد للدكتور (آيكه بيس) الذي وضع له عنواناً (حادثة قتل الفيلسوف ديكارت) ـ  مجلة الشبيجل العدد 32 عام 1996 م ص 160 ، وتم تكرار القصة مرة أخرى في الشبيجل العدد 46 عام 2009م ص 160 وعلم الفيلولوجيا هو العلم الذي يعني بتحقيق اللغة والنصوص اللغوية، وكان ديكارت يعتبر عملهم مضيعة للوقت يومها قبل تطور وثورة علم الالسنيات الحديثة (2) قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ الجزء 30 ـ ص 321
اقرأ المزيد
كوانتوم الوعي واللاوعي  تسخير علم النفس للدعاية  (تمرير المعلومات مباشرة الى اللاوعي) 
ثمة حكمة ملفتة للنظر في جدلية العلم والضمير مما جعلت الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانت) أن يطلب من تلاميذه أن ينقشوا على قبره من بعده هذه العبارة: شيئان يملآن صدري بالاعجاب: (السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الاخلاقي في صدري) ؛ فــ (كوانتم الوعي) تم استخدامه في التلاعب بعقول الناس، كما هو الحال في الديموقراطية الغربية، ولقد أظهر كوانتوم الوعي أمرا غريبا في دخول المعلومات إلى دماغنا فهو لايدخل حقل الوعي أولا بل حقل (اللاوعي) قبل أن يفرز إلى الوعي باعتبار أن دماغنا ثلاث طبقات من اللاوعي والوعي ومافوق الوعي (السوبر). وهكذا فالديموقراطية يمكن وصفها بأنها أقل الاشياء سوءً في العالم، فظاهرة التمثيل النيابي تخضع لجبروت المؤسسات المالية، مما لاتجعل التمثيل صحيحاً تماماً، وبالطبع لايمكن مقارنة هذا باوضاع دول شتى من العالم التي لاتعرف نظام نقل السلطة السلمي بالكامل ولم تسمع به، ولعل أجمل مافي الديموقراطية هي هشاشتها وإمكانية نقدها من داخلها، كما فعل نعوم تشومسكي في كتابه المزلزل (ردع الديموقراطية). كذلك حصل مع نظرية الكوانتم في الوعي، فعندما يمكن في التلفزيون تمرير كمية من المعلومات السياسية أو التجارية، ولكن بسرعة مُتحكم فيها بحيث تراهن على بطء (الوعي) في الاستيعاب فإن هذه المعلومات ترى بالعين وتسمع بالاذن، ولكنها عملياً لاترى ولاتسمع، لآنها تسربت عبر منافذ اللاوعي، ويبقى الانسان يتذكرها وكأنه رآها فعلاً، بسبب تدفقها المباشر الى مخزن اللاوعي في الذاكرة، وهكذا يمكن التلاعب بالانسان من خلال تسخير العلم؟!!  ولقد تم الكشف عن هذه الحيل وفاحت رائحتها الية السطح، ولكن ياترى كم من هذه الحيل العلمية تستخدم اليوم للتلاعب بالانسان تحت اسم العلم والتقدم؟! بنتاجون (خماسي) الأخلاق عند داماسيو:   انطلق داماسيو من محاولة الوصول الى منابع المشاعر الأساسية؛ فاعتبر أن هناك خمسة مشاعر تشكل حزمة وجودنا العاطفي بالكامل، فكما كانت الألوان الثلاثة: الأزرق والأحمر والأصفر، هي التي تكون بقية الألوان، كذلك فإن تحليل أي موقف عاطفي يرجع الى طيفٍ من ألوان شتى من المشاعر. ولكن قاعدتها هي مزيج معقد من خمسةٍ من المشاعر القاعدية، فإما الحزمة الخماسية للمشاعر فهي: السرور والحزن، الغضب والخوف والاشمئزاز. هذه واحدة ومضى داماسيو في تدعيم نظريته الى أن الجسم والدماغ هما في حوار ودي لايعرف التوقف والانقطاع، آناء الليل وأطراف النهار؛ في تسبيحة متواصلة، ليصل في النهاية الى تعليل ماأصاب مريضه ايليوت (صداع شديد بسبب ورم سليم في الفص الجبهي من الدماغ أدى استئصاله إلى اضطراب كامل في الشخصية) إن الذي حدث هو انقطاع (كابل) التواصل العاطفي العقلي، فكما كان للماكينة (جير) التعشيق مع عمود الحركة، كذلك لعب الفص الجبهي في الدماغ هذا الدور، في جدلية المشاعر والتفكير المنظم التحليلي. إن دامسيو بهذا الطرح يزعم أنه وصل الى تحديد الوعي وآلية عمله عند الانسان، لذلك فهو يرى أن طرح ديكارت السابق هو خاطيء. داماسيو بهذا الطرح يضع يده على مفاتيح جديدة في فهم آلية عمل الوعي والدماغ. بين ديكارت وداماسيو: أنا أفكر .. أنا موجود ؟!  أنا موجود أنا أفكر:   في إحدى التجليات الروحية كاد دماغ ديكارت أن يحترق وهو يتعذب في ظلمات الشك الحالكة. وهو يقول كما قال الغزالي سابقاً: ليس هناك من شيء يمكن أن يستقر أو يقف على قدميه. لإنني أشك في كل شيء. لم يعد هناك شيء لم أعد أشك به، فكل ماتعلمناه بني على التقليد لا أكثر. ثم أنقدح نور في هذا الظلام، بدأ يكبر وينير رحلة العقل المضنية، وشعر ديكارت بالتماسك بعد هذا الدوار العقلي. نعم إنني أشك في كل شيء، ولكن هناك شيء لا أشك فيه وهو أنني أشك؟!! فإنا إذاً أفكر لأن الشك تفكير، وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة موجودة ولاشك، وهي حقيقة عقلية بالدرجة الأولى، فأنا موجود على صورة من الصور .... أنا أفكر .. إذاً أنا موجود ... هذه هي الحقيقة الديكارتية، التي كانت إحدى مصابيح التنوير في النهضة الأوربية. وكانت قبساً من وهج عقلية الغزالي، الذي سار بنفس الخطوات، ولكن نهاية ديكارت كانت نهضة عقلية، في حين أن نهاية الغزالي كانت انتحاراً صوفياً على ضرب صنج الحضرة، عندما يدخل الانسان تلك النشوة الروحية ويتم اغتيال عقله بالكامل، ومصادرة كل إمكانية تفكير، تحت ثلاث شعارات: من قال لشيخه لا لم يفلح ؟!! والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ؟! يزعم داماسيو إن ديكارت يجب أن يقلب الآن رأساً على عقب، لأن مركز الوعي هو في تلك الجدلية التي يبدأ الدماغ رحلتها، فمع (وجود الدماغ) أمكن للروح أن تتنفس، فالبدن هو تجلي الروح وتعبيرها وطريقة تنفسها في جدلية وضفيرة لاتقبل الانفصام. أراد داماسيو أن يكتب في الأول كتاباً بعنوان خطأ ديكارت ولكنه بعد مؤتمر سان دييغو بدله الى عنوان: ديكارت مقلوباً  .. أنا موجود ... انا أفكر ؟!!
اقرأ المزيد
بين الفرينولوجيا وبيولوجيا الجزيئات 
محاولات فهم الإنسان تعددت منذ أيام أبو قراط قبل الميلاد في القرن الخامس، وحاولت الفلسفة الدخول على الخط، وجربت علوم النفس الدخول إلى هذا المجهول مما دفع الكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول أن يصف المحاولات وكأننا نتنقل في غابة لاتكف أشجارها من تغيير إشكالها مواقعها باستمرار. قال الرجل نحن  نحاول أن نفكك الظاهرة إلى وحدات ولكن الظاهرة لاتعمل هكذا. في يوم ثلج نرى الثلج ولكن هناك خليط لانهائي من الرطوبة ودرجة الحرارة والضغط وحركة الكوكب والجاذبية والسرعات ... الخ.   ومن هذه المحاولات التي راجت ثم بارت كان علم (الفرينولوجيا) ومن روجها كان طبيب يشهد له بالعلم. تصور الرجل أننا إذا وضعنا كفنا على جمجمة مخلوق عرفناه ووضع تقسيمات عجيبة يمكن الرجوع إليها وقراءتها. ولكن النتيجة أنه ضل طريقه وما هدى. وهكذا كانت الاثارة العلمية التي أثارها مجموعة من العلماء في القرن التاسع عشر عن زعم فهم الانسان بمجرد تأمل وقياس القحف أخذت اسم الفرينولوجيا. كذلك فإن علماء (بيولوجيا الجزيئات) يعلوهم هذا الشعور اليوم، ولكن الأيام تعلمنا كل يوم، أن كل النظريات التي تريد تطويق فهم الانسان تتهاوى تحت قدميه. تجربة القيصر فردريك الثاني في الامساك بالروح:   بل إن محاولة فهم الكيان المعنوي عند الانسان قديمة قدم الانسان مما ينقل لنا التاريخ بعض القصص المثيرة عن الملك فريدريك الثاني الذي أغلق الحجرة تماماً على محكوم عليهم بالاعدام، ثم حاول بعد موت الضحية، أن يفتح بحذر وبطء كوةً في الجدار، ليرى ماذا يتسرب منها؟ هل ثمة آخر خاص غير البدن الذي عانق الموت.  تجربة عالم النفس مكدوجل بوزن الروح:   بل إن عالم النفس الأمريكي (دانكان مكدوجل)(DUNCAN MacDOUGALL) قام بتجربةٍ مثيرة أكثر، عندما راقب المحتضرين في سكرات الموت، فقام بحملهم الى موازين في غاية الدقة، تفرق بين الغرامات، فوصل الى نتيجة مفادها: أن الموتى الذين يودعون الى العالم الآخر، يخسرون من وزنهم في المتوسط بين 10 ـ 42 غراماً، دلالةً على أن شيئاً ما ولو بهذا القدر البسيط يودع الجسم؛ فإذا علمنا علاقة الطاقة بالمادة من خلال معادلة آينشتاين، التي تقول بأن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة، وكانت الروح ثمة طاقة ما فإن الطاقة المتسربة رهيبة للغاية، لأن الطاقة هي تحول المادة مضروبة في سرعة الضوء المضاعفة، أي قوة تسعين مليار. هذا إذا صدقت هذه المزاعم وصمدت للحقيقة، لأن مكدوجل أردف بأن وزن الكلاب لم يتغير في تجاربه، قبل وبعد الموت، ومزاعم مكدوجل حتى الآن لم تكذب تماماً (3) . ملاحظات طريفة حول عمل الوعي:   ومن النقاط التي أثيرت في المؤتمر هي آليات عمل الوعي وكيفية عمله؟ فلقد تم رصد مجموعة من الملاحظات الملفتة للنظر: 1 ـ لقد لوحظ أولاً: أن إمكانية الاستيعاب في الوعي محدودة، فبإمكان الوعي أن يلتقط سبعة وحدات من المعلومات في الوقت الواحد  لا تزيد. 2 ـ ثانياً: يعمل الوعي ببطء شديد إذا قورن مع أجهزة الكمبيوتر، فلا يستطيع التمييز بين أكثر من أربعين حدثاً في الثانية الواحدة. في حين أن أجهزة الكمبيوتر العادية تعمل بطاقة تزيد عن هذا بملايين المرات في كمية المعلومات؛ فالوعي مقارنة بالكمبيوتر يبدو جهازاً سخيفاً !! ولكن هل هو كذلك؟ 3 ـ ثالثاً: مع كل تركيز الوعي فإن الدماغ لايشتغل بكل طاقته، بل يستخدم في المتوسط فقط واحد بالمائة من خلاياه العصبية. لماذا  ياترى؟! رابعاً: يعمل الوعي ببلادة وتراخي ملفت للنظر، فهو يعرج خلف الزمن لاهثاً متصبباً عرقاً  بدون قدرة اللحاق به. إنه خلف الزمن دوماً بحوالي ثلث الثانية. وهذا يدخلنا الى أبحاث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) الذي لفت النظر الى كيفية عمل العقل الانساني في كتابه (أسس علم نفس النجاح)(4) نظرية (براين تريسي) في كيفية عمل الدماغ:  يرى عالم النفس الأمريكي أن أفضل مايكون عمل العقل عندما يكون مرتخياً؛ فالمسمار حتى تدخله الحائط يجب أن تضربه بالمطرقة بقوة وتوجيه؛ حتى تقتحم بالمسمار صلابة الحائط. في حين أن الدماغ لايعمل بنفس الطريقة؛  فعند الانفعال يهتز عمله، وخير الاوساط لعمل الدماغ الانساني هي أن يعمل بهدوء وحب. قشرة الدماغ تسيطر على العمليات العقلية وتأخذ الوقود من الدماغ السفلي والمتوسط.   الدماغ السفلي هو دماغ التماسيح الرهيبة ، لتأدية الأعمال التي تشبه في قساوتها سماكة جلد التماسيح. والدماغ المتوسط مركز الزلازل والبراكين العاطفية، وهي مثل طاقة البخار فيمكن إدخالها في مرجل العقل كي تؤدي دورها على خير وجه . ولكن تسرب الطاقة من مفاصل ماكينة التفكير البارد التحليلي العقلاني يقود الى الانفجارات المروعة وتأرجح عمل الماكينة العقلية إذا صح التعبير. يضطرب الانسان عندما ينفعل؛ فترتجف أصابعه، ويجف عرقه ينحبس بوله، ويرتفع الضغط عنده، يصاب بالامساك وتجف عصارة المعدة وتبدأ بالتقرح، ويصب الادرنالين في الدم مدرارا . كل هذا يتولد في جو الانفعال، والاهم من هذا هو اضطراب التفكير المتوازن، وهذا هو قسم من تفسير المنازعات الانسانية، لأن مشاعر الخنازير والتماسيح وصراع الغابة يَمسح ودفعة واحدة؛ كل قشرة الدماغ وتطورها الذي استغرق ملايين السنين ، لنرتد وننهار دفعةً واحدةً من الانسانية ؛ الى قعر خندق الحيوانية البئيس . لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين.   يجب أن نضع أمام مكتبنا هذه الحكمة دوماً: ( يجب ضبط النفس في انفجار بركان الغضب، وعند اشتعال نار الانفعال، في كسرة الحزن، وانهيار الخوف، وعند اشتداد ضباب الشهوة) .
اقرأ المزيد
ديكارت مقلوباً (3)  (أنا موجود أنا أفكر)  (بحث ظاهرة الأنا في مؤتمر العلوم العصبية) 
فكرة مفاتيح الدارات العصبية:   يبدو أن فهم الدماغ يمشي في اتجاهين الأول: هو المزيد من فك أسراره سواء المناطق التشريحية أو أثر الكيمياء في التصرفات أو مركز اللغة، والاتجاه الثاني هو استحالة الاحاطة بكامل الدارات العصبية الموجوة في دماغنا، فالخلايا العصبية التي تصل الى مائة مليار خلية تتضافر فيما بينها بشبكة مخيفة من الارتباطات، بحيث أنها تشكل دارات لايمكن الاحاطة بها، ولعل رقم (الجوجول)(GOGOL) الذي يتحدثون عنه  والذي هو عشرة قوة مائة، هو رقم تقريبي لا أكثر للدارات العصبية الموجودة في دماغنا والتي تشكل تركيبنا. مقارنة بين تركيب الكروموسوم والدارات العصبية في الدماغ:   لفهم التعقيد المخيف في دماغنا يستحسن نقل ذلك الى المقارنة مع أعقد التركيبات البيولوجية المسؤولة عن الوراثة في كياننا والتي تبلغ حوال ثلاثة مليارات حامض نووي (الحامض النووي). إن تركيب الحامض النووي يبقى في غاية البساطة مع تركيب ضفيرة النورونات. فالحامض النووي يتشكل من تتابع لأحماض أمينية أربعة هي الادنين والسيتوزين والغوانين والثيمين، ويرمزلها بالحروف (ت ـ س ـ غ ـ أ A-C-T-G) وهذه الحروف الأربعة تشكل لغة الخلق البيولوجية، ويمكن لها أن تتالى على غير نظام مثل (AAA-T) أو (TCGA) وهكذا واجتماع عدد ينقص أو يزيد من هذا التتابع لهذه الحروف يسمى (جين)(GEN) وهو المسؤول عن بناء عضوي معين في البدن، مثل الانسولين الذي يحرق السكر أو هورمون الغدة الدرقية الذي يشعل الفعالية في البدن ولكن الدارات العصبية هي حروف مبعثرة تبني ارتباطات عشوائية لانهاية لها، وهي ليست عشوائية، بل كل دارة تولد معلومة أو لعلها تفرز عاطفة، أو تحث على شعور ما؟ ويكفي أن نعلم أن كل جزيئات الوجود لاتزيد عن عشرة قوة 88، وبذلك تكون الارتباطات في دماغنا أعقد وأعظم شيء في الوجود(8). موضعة الوعي والمراكز العصبية:   هذا الفهم للدارات العصبية يفتح الباب على انقلاب نوعي في فهم أماكن الاصابات العصبية، فلايعني خراب مكان بعينه أنه هو المسؤول عن الوظيفة الضائعة، تماماً كما في توقف السيارة عن السير لنضوب البنزين فنظن أنها بسبب تعطل المحرك، وهي الابحاث التي تقدم بها النفساني البريطاني (ريتشارد جريجوري) في نظرية جديدة لمواضع الوظائف ومعنى الوعي عند الانسان. وشرح ذلك في مقال مبني على الأصول ضد التموضع ويضرب لذلك مثلاً (إنه من المستحيل تقدير آثار إصابة نوعية دون معرفة كيفية تشغيل أجزاء الدماغ مجتمعة ولنأخذ مثلاً: حالة ماكينة مجهولة نحاول فهم طريقة تشغيلها وذلك بواسطة فك قطعها بشكل اصطفائي واحدة تلو الأخرى، فإذا نزعنا منها جزءً معينا مثلاً خزان الوقود فتوقفت الآلة، حينئذ يمكننا بشكل ساذج أن نستنتج، إذا لم نكن قد رأينا سيارة من قبل، بأن آلية الدفع في هذه الماكينة هي الخزان. ويبدي جريجوري الملاحظة القائلة بأن المشكلة لاتنطرح فيما لو كنا نعرف الآليات المعقدة للمحركات الانفجارية، ونحن في حالة الدماغ لسنا في هذا الموقف؛ إذ أننا لانملك نظرية وطيدة عن التشغيل الطبيعي للدماغ، ولذلك فإن تأويلات المعطيات المستمدة من الاصابات العصبية الدماغية يمسي عسيراً )(9) الغابة الدماغية والتيه العلمي:   عجز المشرحون عن التحقق الفعلي من المراكز العصبية ومكان الوعي والارادة، واحتار علماء النفس في تفسير أحلام التحقق وظواهر الباراسيكولوجيا، ولم يفهم تماماً كيف تتحول موجات الكهرباء الى ألوان بعينها مترجمة في الدماغ. لم يفهم تماماً آلية ترابط المشاعر مع الأفكار فيبدو أن هناك نوع من الترابط المحكم يضيع مع تدمير بعض الممرات العصبية. تخلخل البناء النظري الذي وضعه ديكارت سابقاً في ثنائية الروح والبدن، فهناك نوع من الضفيرة المحكمة بين النفس والجسد، فالروح تتنفس من خلال البدن والعكس صحيح. ولغز العقل والوعي مازال قائماً.   مراجع وهوامش :   (8) كتاب اللغة والفكر ـ تأليف تشارلز فورست ـ ترجمة محمود سيد رصاص ـ الفصل الأول ص 6 (9) نفس المصدر السابق ص 216 .  
اقرأ المزيد
ديكارت مقلوباً (2)  (أنا موجود أنا أفكر)  (بحث ظاهرة الأنا في مؤتمر العلوم العصبية) 
ديكارت والمقال على المنهج :   في الوقت الذي كان العالم الاسلامي يضع عقله على الرف، ويتوقف الزمن عنده على ضرب صنج الصوفية، ويشخر في أحلام وردية على قصص ألف ليلة وليلة، كانت بذور منهج الغزالي في التأسيس المعرفي من خلال مبدأ الشك يثمر ثمراته في جنوب ألمانيا بطريقة مختلفة. يقول ديكارت عن نفسه أن الثلج والبرد اضطره الى قضاء الشتاء في جنوب ألمانيا قريباً من مدينة أولم ( ULM ) . كان  رينيه ديكارت  من نبتات التنوير العقلي الجديد ، الذي امتد من شمال إيطاليا الى كل أوربا من الشعلة التي قدح زنادها لابن رشد. يقول ديكارت أنه التجأ الى هذه المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى. كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هو إمكانية الوصول الى الوثاقة واليقين في العلوم، فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقته به فكتب: (العقل هو أحسن الاشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لايسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه . ويشهد هذا بأن قوة الاصابة في الحكم التي تسمى العقل أو النطق تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لاتنشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، لأنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل)(6) المنهج الديكارتي : أنا أفكر .. أنا موجود:  استولى الشك على كيان ديكارت كاملاً فبدأ يتنفس الشك ويعيش فيه، ويقول أن تلك الليلة شعر وكأن دماغه ـ من شدة التفكير ـ يوشك على الانفجار، ثم انقدح امامه فجأة المنهج الجديد، الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي، الذي لنا عودة تفصيلية اليه اثناء الغوص في بحر الفلسفة. قال ديكارت إنني عندما أشك أفكر؛ حتى لوشككت في كل شيء؛ بمافيه وجودي بالذات، حتى لو زالت الدنيا كلها، فإن شيئاً لايزول ولايتزحزح وهو انني أشك؛ أي إنني أفكر وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة أنني موجود على صورة من الصور ولكنني موجود؛ فهذه هي الحقيقة الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند اليها في كل عمليات التفكير. هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصر التنوير في أوربا واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحد المفاصل الجوهرية التي قامت عليها الفلسفة الأوربية الحديثة، باعتبار أن ديكارت وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريون للعصر الحديث بكل انجازاته، لأنه مع حركة العقل تم تدشين حرية التفكير، ومع حرية التفكير انطلقت الابحاث العلمية بدون حدود، ومنها نبعت التكنولوجيا الحديثة والنظم السياسية أي الليبرالية الاقتصادية والديموقراطية السياسية، فهؤلاء المفكرون العظام هم الذين حلوا أعظم مشاكل الجنس البشري؛ في علاقة السلطة بالمواطن، ونقل السلطة السلمي، وبناء مناخ الحرية الفكرية الكامل بدون أي خوف أو تابو. ولكن مؤتمر جمعية العلوم العصبية (SOCIETY  FOR  NEUROSCIENCES) الذي ضم مايزيد عن عشرين ألف عالم، اجتمعوا في مدينة سانت دييغو في مقاطعة كاليفورنيا خرج ببعض النتائج التي بدأت تهز الأقدام تحت نظرية ديكارت. مؤتمر (سان دييجو) يثير بحث المشكلة الفلسفية من جديد:   ومما أذكر من تسعينات القرن العشرين أنه اجتمع كمٌ ضخم من أطباء العصبية والمعلوماتيين (INFORMATIKER) وعلماء النفس والفلاسفة ومشرحو الدماغ  وبيولوجيو الكيمياء العصبية في مؤتمر هام في سانت دييجو، يريدون حل المعضلة القديمة للفلسفة: ماهو الوعي الانساني؟ لقد حاولوا اقتحام الدماغ لفهم أسراره الدفينة. ولكن من أجل فهم ماذا يعني الكيان (أنا) كان عليهم تجاوز عقبة كؤود غير قابلة للاختراق على مايبدو حتى الان وهي: دور المشاعر والاحاسيس وعلاقتها بالعقل والفكر؟! إن الثورة العقلية التي بدأها ديكارت مع عام 1644 م عندما أطلق مقولته الفلسفية الشهيرة (أنا أفكر أنا موجود)(COGITO, ERGO  SUM) كان قد وضع أحد الأحجار الأساسية في الفلسفة الحديثة، فأما الروح والعقل والوعي فإنها تخص الكنيسة، وأما البدن فيمكن اقتحام التابو فيه وتعريضه للتشريح، وهكذا أوجد النظرية الثنائية في أن الانسان كيانان يسبحان جنبا الى جنب الروح والبدن في ثنائية متلازمة غير مفهومة. ولكن كما تفعل الثورة مع ابناءها فيبدو أن هذه الثورة العقلية تهدد بأكل ابناءها الذين دشنوها على حد تعبير مجلة الشبيجل الألمانية (7) فالاتجاه بدأ ينعكس الآن ليس البحث في البدن بل في الروح؛ فكيف نفهم الذات؟ كيف نعرف من نحن؟ كل السر على مايبدو يربض تحت عظم الجمجمة، في المادة المخية التي تضم مائة مليار خلية عصبية، في تعقيد لايقاربه شيء في الكون. مراجع وهوامش :   (6) مقال على المنهج ـ رينيه ديكارت ـ ترجمة محمود الخضيري ـ الناشر دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ ص 110 (7) مجلة الشبيجل الألمانية العدد 16 1996 م ـ البحث عن الذات ص 190
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram