- - -

خَلَقَ الانسان .. علمه البيان

( معلومات مثيرة من مؤتمر تكسون حول الادراك والوعي الانساني ومنطق الطير )

في اللقاء العلمي الضخم الذي انعقد في مدينة تكسون ( TUCSON )  الأمريكية (ولاية أريزونا )(ARIZONA ) القريبة من الحدود المكسيكية في منتصف أبريل ـ نيسان من عام 1996 م الذي سافر إليه كمٌ ضخم من الفلاسفة والاخصائيين في البيولوجيا العصبية والباحثين في آليات عمل الدماغ وعلماء النفس ، تقدمت ثلاث سيدات باحثات في آليات السلوك في تطبيقات ميدانية حول فهم الوعي والنطق عند الحيوان وبداية التفاهم معه باللغة الانسانية ، وكان أكثر ماشدَّ انتباه الحاضرين ببغاء يحمل اسم ( اليكس )( ALEX ) يستطيع العد حتى رقم ستة ويستطيع التفريق بين الألوان ، كما ظهر شمبانزي يمتلك قاموسا لغويا حتى 256 كلمة ، وتقدمت السيدة الثالثة ببحث حول دلفين يتجاوب مع أنغام صفارة الكمبيوتر . كان السؤال المثير والمحير عند الفلاسفة والباحثين في آليات الوعي والادراك عند الانسان والذي سيطر على جو المؤتمر : هل يمتلك الطير منطقاً ؟ هل يوجد وعي عند الحيوان ؟ (1) أم هل يتفرد الانسان باللغة التي هي العمود الفقري للوعي ؟ ) قصة الببغاء المثير اليكس ( ALEX ) : بدأت المحاضرات في اللقاء العلمي بشكلها الاكاديمي الرتيب ، فَعُرضت مشكلة الوعي وحرية الارادة عند الانسان ، تأثير اللاوعي ، بزوغ عصر الكمبيوتر العصبي (2) وانشغل الباحثون في قراءة تدفق التيارات الكهربية القادمة من الدماغ في النوم وخلال الأحلام ، فالدماغ لاينام على مايبدو ، كل مايحدث هو تغيير طبيعة نشاطه ، كما تناقش الحاضرون حول عمل الخلايا العصبية وآليات اتصال النهايات العصبية بالخلايا ، وكيفية مرور التيارات الكهربية ؟ وعمل الافراز الكيمياوي في الخلايا العصبية ؟ ماهو الوعي الانساني عموما ؟ وأين هي الارادة ؟ وهل لها مركز محدد ؟ (3) ولكن التحدي الأكبر الذي حاول العلماء التقرب من فهمه هو المشكلة القديمة الحديثة : الوعي الانساني وكيف يتم؟   في هذا الجو فوجيء الحاضرون في المؤتمر بتقدم السيدة ايرينه بيبربيرج ( IRENE  PEPPERBERG ) وهي تحمل على يدها ببغاء رمادي اللون يذكر بقصة جزيرة الكنز والكابتن سيلفر الذي لايفارقه ببغاؤه الجميل . مالبثت أن صاحت فيه : اليكس .. عُدْ للسادة ماذا تعرف من أرقام .. لم يكرر كلماتها كما هي عادة الببغاوات ، بل بدأ في العد واحد .. اثنين .. ثلاثة .. حتى الستة . أمسكت السيدة (ايرينه) مفاتيح ملونة بيدها ثم طلبت منه : اليكس كم مفتاح أحمر اللون في يدي ؟ فصاح بلغة مشبعة بلهجة أهالي الوسط الغربي لأمريكا ؛ لهجة مدربته ايرينه : اثنين . وكم مفتاح بلون أزرق ؟ أجاب ثلاثة !! وعدد المفاتيح الصفراء ؟ أجاب بثقة : واحد .. ومالون هذا المفتاح ؟ أجاب : أخضر .. كانت إجاباته صحيحة دوماً . منطق الطير الجديد : صُعق الحاضرون لأجوبة الببغاء الحكيم ، هذه المرة لم يظهر غبياً يكرر الكلمات فقط كما هو معروف عن الببغاوات عادة . وبدأت الأرض تميد تحت أقدام السادة النخبة الذين شاركوا في المؤتمر ، فالوعي والنطق عند هذا الطير اخترق بعداً نوعياً جديداً . شعر العلماء المختصون في فهم الوعي الانساني هذه المرة بنوع من الاحساس الخفي بعدم الأمان في المسلمات القديمة ، بتفرد الانسان بالنطق بين الكائنات ، فالطير يملك منطقه الخاص ، الذي يحتاج مثل النبي سليمان عليه السلام من يفك ألغاز حروفه . وبدأ الحاضرون يتناقلون كلمات الببغاء متعجبين متسائلين كيف وصل الى هذه العتبة ؟ أين وصل قاموس ( اليكس ) الببغاء ؟ كان قاموس ( اليكس ) اللغوي قد وصل الى مائة كلمة (4) يفرق بين الألوان السبعة ، يهتدي الى خمسة أشكال من مثل المربع والمدور والمثلث والكروي ، استطاع الوصول بالعدد الى رقم ستة ، ويستطيع التفريق بين الأشياء حسب الشكل والحجم واللون ، فهذا صندوق كبير ، وذلك مفتاح أخضر ، وهذه كرة مدورة ؟!! وكان الاستنتاج مزلزلاً : هذا الطير يمتلك من الوعي مايقترب به من مستوى الذكاء الانساني لطفل عمره خمسة سنوات !! السيدة ( ايرينه بيبيربرج ) بدأت نشاطها المهني منذ حوالي عشرين عاماً كباحثة في آليات السلوك ، بزيارة الى محل يبيع الحيوانات والطيور ، حيث صادفت ببغاء رمادي اللون ، انطلقت من إمكانياته في تقليد الأصوات الانسانية ، الى فضاء معرفي جديد . كان مشروع الباحثة ( بيبربرج ) الطموح ليس صدح الكلمات وترداد الأصوات ، فهي قصة قديمة معروفة عند الببغاء ، ولكن برنامجها كان في إدخال الطير الى دائرة الوعي والفهم و( مغزى الكلمات ) التي يكررها أو تعرض عليه ، فعصرت دماغها للتفكير في ابتكار وتطوير طريقة حديثة تدرب فيها الطير على دخول هذه البوابة الجديدة ، أو بالعكس الدخول الى دائرة الطير الداخلية ، الى وعيه الداخلي إن كان ثمة وعي يمتلكه ، فالمشكلة مع الحيوان أنه عالم قائم بذاته (5) لايملك لغتنا لنتفاهم معه ، بل يجب التمكن من لغته لمخاطبته ، أو إدخاله الى عالم اللغة الانسانية كي يُعَبِّر عما يدور في نفسه ؟ طرائق التدريب لتفتيح منافذ الفهم : كانت السيدة المساعدة في المختبر تُمَرِّر أمام عيني الطير شيئاً ما قطعة فلين .. جوزة .. مفتاح .. ثم تسأله ماهذا ؟ وفي الوقت الذي تكون الاجابة صحيحة يتلقى الثناء والتشجيع وتدفع له القطعة . بسرعة اكتشفت الباحثة ( بيبربيرج ) أنها أيقظت الكوامن الخفية عند هذا الطير ، وحرضت عند هذا الببغاء الفضولي للمعرفة ، آلية التعبير عن العالم الخارجي ، وفي النهاية كان ينعق بالكلمات فلين .. مفتاح .. كرة .. بصوته الصادح المزعج . بصبر بالغ ودأب بدون حدود وبمئات الجلسات المكثفة ، كرست العالمة نفسها للحديث مع هذا الطير لاكتشاف طاقات الفهم ومنافذ الادراك عنده وتطويرها ، وكانت الخاتمة مثيرة للغاية حيث بدأ بنفسه في الرد على بعض الاسئلة المعقدة ، فعندما تعرض أمام عينيه ثلاث مفاتيح حمراء اللون واثنان زرقاء ، لايكتفي بالرد فقط بأن هذه حمراء أو زرقاء ، بل يجيب على سؤالها : ماالذي يفرق هذه المفاتيح عن بعضها البعض ؟ يجيب الببغاء اليكس فوراً وبدون تردد : الألوان !! حَدَّق الحضور في مؤتمر ( تاكسون ) مذهولين وتذكروا قصة الهدهد الحكيم مع النبي سليمان عليه السلام ، عندما حَدَّثه باكتشافه مملكة سبأ في اليمن ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين )(6) وطرح السؤال نفسه مباشرة ؟ إذا استطاعت فعلاً الخبيرة ايرينه بيبربيرج وحالفها الحظ ، أن تفتح بوابة عالم الفكر عند الحيوان والطير ، الذي كان قد حُجز للانسان سابقاً ، واعُتبر رمز تفرده ، بعد أن فشلت معايير أخرى لتفرد الانسان (7) وطرد منه أي كائن آخر ، فالحيوانات ( صفت على الدور ) ومن سيكون الحيوان القادم الذي سيُعترف له بامتلاكه الوعي ياترى ؟ السلاحف ؟ الدببة ؟ أم النمل الذي سميت سورة من القرآن باسمه . وقف الفلاسفة في المؤتمر يتساءلون إذا أردنا إنكار الوعي جملة وتفصيلاً عن الببغاء اليكس ، فكيف يمكن أن نعلل ذلك ؟ وماذا يفرق حقاً الببغاء ، حينما يفرق بين الألوان بهذه الطريقة عن جواب طفل عمره خمس سنوات ؟؟ كان تساؤل الفلاسفة وبحاثة الدماغ بمثابة نقطة تحول في تاريخ دارسي سلوك الحيوانات والطيور ، الذين لم يأخذوا اعترافا علمياً بجدية النتائج التي وصلوا إليها . لذا فإن فريق البحث العلمي المرافق للباحثة بيبيربرج انتشى وهو يرى ذهول العلماء اللامعي الاسماء وبعيدي الصيت ، وهم يتأملون هذا الطير الفصيح ، وهو يجمع بين صفتي النطق والتفكير ، التي كانت خاصية محصورة بالانسان ، وحجراً محجورا عن غيره ؟!! ماذا يجري في عالم الطير والحيوان ؟ عندما أردت حفظ علبة الحلوى بعيدا عن النمل وضعتها في مكان عال لايصل إليه النمل في تقديري ، إلا أنني اكتشفت في اليوم التالي أن علبة الحلوى ( الحلبية ) كانت مثيرة لشهيتهم أكثر من شهيتي ، فاجتمع جيش عرمرم من النمل داخل العلبة وهو يعمل بهمة بالغة في سلب مايستطيع من الحلوى المفضلة ، وهذه الملاحظة جعلتني أفكر في أنه لابد من طريقة ما يتفاهمون بها على الحلوى ومكانها حتى يتجمعوا عليها !! فهناك إذاً درجة من التفاهم والوعي الداخلي عند طائفة النمل ، فلاغرابة أن كتب الجاحظ سبعة مجلدات حول الحيوان وسلوكه في سابقة علمية ملفتة للنظر ، وأجمل مافيها تجربة النظَّام على الحيوانات وأثر الكحول على الأسد والظبي الذي كان من أظرف ماشاهد؟!! لقد تكدس لدى الباحثين في سلوك الحيوانات أكواماً رهيبة من الملاحظات من عالم الطير والحشرات ، توحي جميعها بهذا المنحى من وجود درجة من الوعي عندها ، وكان موقف العلماء السخرية من هذه الملاحظات وأنها أقرب لرواة القصص أو دعاة العلم الشعبيين ، ولكنها لاتمت بصلة للبحث العلمي الرصين . ومن الأفضل ترك مثل هذه الأمور لهواة الحيوانات أو قصص كليلة ودمنة أو لجماعة الرومانسيين . ملاحظات ملفتة للنظر من عالم الحيوان : إن الذين يدافعون عن نظرية الوعي عند الحيوان يعتمدون مجموعة من الملاحظات العجيبة ، فالدجاج البري عندما يجتمع في حفل الزواج والتكاثر في موسم اللقاح ، تقوم الانثى بالبحث بين المتقدمين للزواج منها بكل دلال ، ولفترة طويلة درس الباحثون عبثاً عن القرائن التي تدفعها لاختيار الذكر المناسب . كان خيار الانثى عجيبا فهي لاتختار الأقوى في العضلات ولا الأجمل في الشكل ، ليس أكثرهم زعيقاً ولا أكثرهم انتفاشاً بريشه ، ولاالذي تدلت حنجرة الذكورة أمامه ، كل هذا لم يكن الحاسم في اختيار الزوج ، وينكشف السر فقط في وقت لاحق بعد أن يكون مصير الزواج قد بُتَّ فيه حيث يكتشف الباحثون مذهولين أن الانثى كانت أكثر حكمة من كل تقديرات الباحثين ، أو الأشكال الخارجية للذكور المتقدمين للزواج ، لأنها اختارت أفضلهم صحة وأطولهم عمرا كي يعني بها وبفراخها . ماهي القرائن التي اعتمدتها هذه الزوجة الحكيمة ؟ وكيف تنبأت سلفاً بطول العمر ودوام الصحة للزوج المقبل ؟ إنها ضرب من الأحجية المغلقة حتى الآن في وجه الباحثين !! ذكاء الاخطبوط : كذلك تمتلك الحيوانات عديمة الفقار طاقة ذكاء غير عادية ، كما هو الحال في الاخطبوط الذي روى عنه ( جول فيرنيه ) الروائي الفرنسي قصته المشهورة ( عشرين ألف فرسخ تحت الماء ) ومثَّله الأمريكي المشهور كيرك دوغلاس ، أو في الصورة المثيرة التي عرضها الكاتب الفرنسي المرموق ( فيكتور هوغو ) في قصته الرومانسية المبكية ( عاصفة وقلب ) فهذا الحيوان الذي تمتد أذرعته الرهيبة لايُقتل بقطع أذرعته ، بل بضرب رأسه الذي يمتلك أكبر دماغ بين الحيوانات اللافقرية . ولاحظ الباحثون قدرة هذا الحيوان على التعلم والتمييز بين الكرات البيضاء والحمراء ، عندما يطوق بأحد أذرعته الكرة ويكافيء على ذلك ، فالسلوك ينمو مع مضاعفة التعزيز . وليست هذه كل القصة فحيوان آخر من نفس الصنف يتعلم من خبرة زميله بمجرد معايشته للواقعة والسعيد من وعظ بغيره . حذر الجراذين من السموم : بدأ بعض الباحثين في السلوك في التردد من استخدام لفظ الثقافة والتعلم ونسبها فقط للانسان ، فلم تعد تتداول في أوساطهم ، عندما لاحظوا أن الجرذان فيها من الحذر والحكمة بحيث تتجنب الطُعم المسموم . ليس هذا فقط بل القيام بما يشبه الدروس التلقينية لأولادها كي تستفيد من خبرتها ، فتتجنب السموم المهلكة ولو كانت رائحة الجبن منها قوية !! . جدلية الغريزة والوعي : ولكن على الرغم من كل هذه الخبرات الميدانية الموحية ومهما كانت قيمتها في الحفاظ على حياة الحيوان ، فإن الفريق الثاني الذي يدافع عن تفرد الانسان بالوعي والحرية والارادة والبيان في اللغة ، يرى أن الحيوانات تبقى أسيرة غريزتها في عبوديةٍ لافكاك منها . لاشك أن التذكر وقدرة التعلم وتجنب المهالك والسلوك الجماعي المعقد والحواس المتطورة ، ليست بالقليلة في عالم الحيوان ، ولكنها كلها مبرمجة في التصرف لاتحيد عنه قيد شعرة ، وبالتالي فإن الوعي لايتولد من حياة في مثل هذه القيود . قصص ودروس من حياة النحل الذكي : ومن المهارات المدهشة في عالم الحيوان مايتصرف به النحل عندما يقوم برقص في غاية الابداع ، لتخبر النحلة رفيقاتها على وجه الدقة ، أن هناك شجرة للزيزفون على بعد 800 متر في الجهة الجنوبية الغربية من المملكة ، وعلى وجه التحديد في مكان تصل إليه بكل سهولة ، أو عندما تبحث الخلية المهاجرة عن مكان تلجأ إليه ، فعندما تكون المملكة كلها مدلاة فمايشبه عنقود العنب ، تنطلق 500 نحلة مثل الجواسيس تعس في الأرض ، حتى تعثر على المكان المناسب ، وقد يطول هذا التحري أياماً . المهم المكان المناسب بدون تعريض حياة الخلية المهاجرة للخطر . غباء بدون حدود عند الدبور : مع كل هذا الذكاء عند النحل والتخطيط الجيد فإنه لايتعدى البرنامج المغروس في دماغها الذي لايتجاوز حجم رأس دبوس ، ولاظهار هذه الرتابة والمحدودية في التصرف فإن العالم الفرنسي ( جان هنري فابري )( JEAN - HENRI - FABRE ) قام بتجربة على الدبور الذي يهيء الطعام لنسله بقتل الصرصور بسمه ثم سحبه الى العش ، وهناك أمام العش يبقي جثة الصرصور كما هو ثم يقوم بتهيئة العش وتنظيفه قبل إيداع الطعام فيه . قام العالم بدفع جثة الصرصور سنتمترات قليلة عن مكانها ، فوجيء الدبور باختفاء الفريسة ، فلم يبحث طويلاً عن هذا المقلب ومن وراءه ، كل مافعله البحث عن صرصور جديد وقتله وإحضاره مجددا الى النفق ، وهكذا بدون أي تفكير وتمحيص عن سر الخدعة ومن يخطط لها؟  أعاد العالم الفرنسي العملية عشر مرات الى عشرين الى أربعين مرة بدون أن يستفيد الدبور من أخطاءه . كان الدبور يكرر العملية مثل الآلة بدون كلل وملل وتذمر ، وكان صبره بدون حدود مع شقاوة الانسان ؟! ولكن أين تنتهي الغريزة وأين يبدأ الوعي ؟ بل قبل كل شيء كيف يمكن العثور على الوعي وأين مركزه في الدماغ ؟ حتى لو ثقبنا جمجمة الحيوان فلن نستطيع معرفة ورؤية الوعي والتفكير وتفسير سلوكه !! المدرسة السلوكية في علم النفس _ اتجاهات في علم النفس : من هذه النقطة بالذات نشأت ( المدرسة السلوكية )( BEHAVIORISM ) في علم النفس ، فمدارس النفس تطورت على شكل موجات متلاحقة ، بدءً من مدرسة ( التحليل النفسي )( PSYCHOANALYSIS ) الذي لمع فيه فرويد النمساوي وبقية رجال المدرسة الألمانية يونج وآدلر وميننجر ، أو مدرسة ( الجشتالت )( GESTALT ) التي برز فيها فيرتهايمر وكوهلر وكيرت كوفكا وكولر ، أو الموجة الثالثة المدرسة الارتقائية التي عنيت بظاهرة ارتقاء الانسان وألمع رجالها عالم النفس ( جان بياجييه ) السويسري ، ويمكن أن يضم الى هذه المدرسة الفلاسفة الفنومنولوجيون ( المعنيين بدراسة الظاهرة الانسانية )(8) وعلماء النفس الوجودي بدءً من كيركجارد وسارتر ولينج ورولوماي ، وكانت ( المدرسة السلوكية ) الموجة الرابعة وهي التي رأت أن الانسان وعاء مغلق فلايمكن فهمه الا من خلال تصرفاته ، فيجب أن ينصب البحث على تصرفاته في محاولة لفهمه ، مثل الآلة تماماً الى درجة التحكم في تصرفاته ، حينما نفهم القانون الذي يحكم تصرفاته ، وأشهر رجال هذه المدرسة بافلوف الروسي وواطسون وباندورا والعجوز المخضرم ( سكينر ) صاحب كتاب ( تكنولوجيا السلوك الانساني ) قبل أن تظهر الموجة الخامسة في ( علم النفس الانساني )  التي رأت أن أفضل فهم للانسان هو دراسة الانسان ، بعيداً أن يكون شحنة غريزة ، أو حركة آلة سلوكية ، وأبرز رجالها أمريكيون مثل ابراهام ماسلو وروجرز وبيرلز أو فيكتور فرانكل الذي دشن نظريته في كتابه الرائع ( الانسان يبحث عن المعنى )(9) وسيكون لنا عودة خاصة للغوص في ديناميات السلوك الانساني ومدارس علم النفس لتسليح عقلية القاريء العربي المسلم بمنجزات العصر العقلية في هذا الاتجاه ، في حملة إدخال العقلية العربية روح العصر ومنجزاته . المدرسة السلوكية وإنكارها الوعي الانساني : تعرض المدرسة السلوكية وجهة نظرها على الشكل التالي :  إذا كانت النحلة ترقص فتدل على شجرة الزيزفون ، والدبور يحفر النفق لنسله القادم ، والدجاجة تختار العريس المناسب الأطول عمرا والأفضل صحة ، والجرذ يروي خبرته لأولاده في تجنب الجبن المسموم والمصيدة المتربصة ، والببغاء يحاور العلماء مذكرا بقصة الهدهد والنملة في القرآن ، كلها تحت آليات معقدة من السلوك المبرمج ، فما هو الجديد في سلوك الانسان الذي يزيد في التعقيد لاأكثر ولاأقل ؟ القضية هي في الدرجة كما في فولتاج الكهرباء الخفيف والعالي ولكن طبيعته واحدة فما يسمى الوعي الانساني ليس أكثر من وهم ( ILLUSION )؟!! . يقول العالم الأمريكي ( ب . ف . سكينر )(B . F . SKINNER ) الحجة في المدرسة السلوكية موضحاً قواعد هذا الفهم : (( مانحتاجه هو تكنولوجيا للسلوك ، فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة اذا مااستطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء ، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية ، أو السير نحو عالم ينعم بالسلام بشيء شبيه بالتقدم المطرد الذي تقترب به الفيزياء من الصفر المطلق برغم أن كليهما ( السلام والصفر المطلق ) افتراضان بعيدا المنال)(10) ولكن هذا الموقف المتطرف ابتعد عنه العلماء والباحثون تدريجياً وخف الحماس للمدرسة السلوكية وخمد بريقها منذ فترة طويلة ، ولنا عودة موسعة لمدارس علم النفس في المستقبل ، ويرى البيولوجيون أن الوعي وسط يمكن بحثه بنفس أدواته . ولكن جذوره مغروسة في بقية الكائنات التي يجب دراسة الوعي ومستواه فيها . رأي العالم دونالد جريفين وخندق اللغة : إذا كانت جذور الوعي الأولى مغروسة في الطير والحيوان ، فإن إشراقة الوعي الانساني المتدرجة والفهم والادراك المتميز يجب أن تكون في رأس القائمة المهمة لأبحاث السلوك ، هذا مايدعو إليه العالم الأمريكي ( دونالد جريفين (( DONALD  -  GRIFFIN ) الباحث في علم السلوك ، ولكن الخندق الذي لايمكن القفز من فوقه هو والذي يفصل الباحثين عن مشروع عملهم هو بكلمة واحدة اللغة !! اللغة .. سحر البيان وقفزة الانسان النوعية : في الوقت الذي ينفذ علماء النفس الى تضاعيف الروح الداخلية بواسطة اللغة ، فإن الباحثين في السلوك أمام جدار شبه أصم وليس عليهم سوى استخراج الخلاصات من تضاعيف السلوك : اللغة الجديدة . قد تطلق الحيوانات بعض الأصوات ولكنها محدودة ، ويبدو أن البيان اختص به الانسان فتفوق الى أعلى عليين ، فقرود البحر الخضراء يتنوع عندها الزعيق بين ثلاثة أنواع ، في محاولة تنبيه المجموعة الى خطر نمر مفترس أو نسر محلق أو أفعى زاحفة ، كما أن القرود من نوع البابون تتفاهم ببعض الأصوات بحيث تلتقي معا في أماكن محددة ، ولكن هذه الأصوات القليلة الهزيلة لم تمنح حتى الآن مفتاحاً لدخول العالم النفسي للقردة كي يتم فهم تضاعيف النفس الداخلية . هذا الباب المغلق حاولت السيدات الثلاث في مؤتمر تكسون اقتحامه وتجلية ضبابه . الفضاء المعرفي الجديد في فهم سلوك الحيوان والطير : قدمت السيدة الأولى ( سافيج _ روم باو )(SAVAGE - RUMBAUGH ) التي تعمل في جامعة جورجيا ؛ شمبانزي صغير قفز في مفرداته اللغوية فوق مستوى الببغاء اليكس فوصل الى 256 مفردة لغوية . كلها بلهجة الخرسان ، حيث فشلت كل محاولات رفعه لمستوى أن ينطق ، ويعرف العلماء البيولوجيون اليوم أن اللغة تعتمد على أمرين لايملكها الشمبانزي أصلاً : المراكز العقلية في الدماغ المسؤولة عن القواعد ( الجراماتيك ) وتفسير المعاني ، وجهاز التصويت في الحنجرة ،  فالمراكز الدماغية هي ( بروكا ) و( فيرنيكيه ) في الدماغ ، الموجودتين في الفص الجداري في قشر المخ الأيسر عادة ، منطقة بروكا التي كشفها الجراح باول بروكا في القرن الماضي المسؤولة عن القواعد اللغوية ، ومنطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، أو ماتسمى المنطقة الحركية والحسية ، وعندما تعطب هذه المناطق لسبب أو آخر فإن المريض يتوزع بين عدم القدرة على النطق ، كما في إصابات الفالج الدماغي ، هو يريد أن يتكلم وتحضره الكلمة ومعناها ولكن لسانه يخونه فلا يقدر أن ينطق ، أو أنه يسمع الكلمات ولكنها تطير بجانب أذنه بدون أي إدراك لمعناها ، أما جهاز التصوت ففي القرد ارتفعت عنده الحنجرة ، فهو يستطيع التنفس والأكل معاً ، ولكن حنجرته تحولت الى عود مختنق فعجز عن اللحن الجميل ، أما في الانسان فغطست الحبال الصوتية للأسفل ؛ فتحول الصدر والرئتين الى عود جميل يصدر أعذب الأنغام . اعتمدت الباحثة فقط على لغة الاشارات . ويستطيع الشمبانزي الآن المدعو ( كانزي )( KANZI ) أن يتكلم فيشير الى كلمتي ( أنا جائع ) أو ( الكرة في الغرفة ) و( العصا في غرفة النوم ) كما يستطيع التعبير عن رغباته بصورة أخرى ، فيخبر مدربته ماذا يريد أن يلعب ؟ الى أين يمضي ؟ أو ماذا يشتهي ؟ حتى أنه يفهم بعض النماذج النحوية اللغوية . ويقوم بإطاعة الأوامر بشكل حاذق كما لو أخبر اذهب الى غرفة النوم وأحضر منها الكرة ثم أعط فلان وردة ، فإن الكرة الموجودة بقريه لايلمسها بل يحضر ما ُأمر به على وجه الدقة فيحضر كرة غرفة النوم (11). أما دايانا رايس ( DIANA - REISS ) من جامعة روتجرز ( RUTGERS ) ولاية نيوجيرسي فإنها تدرب دلفيناً على الاستجابة لصفارة الكمبيوتر في محاولة للحديث معه ، ولكنها لاتعرف على وجه الدقة ماذا يفهم منها ضمن عالمه المغلق ، كل مالاحظته هو حماسه لتلقي هذه الترحيبات من العالم العلوي ومحاولة تقليدها . ولعل أكثر الباحثات حظاً هي السيدة ايرينه بيبربرج بفضل تدريبها لطير يقلد الأصوات الانسانية بالأصل ، فلايحتاج الى لوح إشارات أو كمبيوتر يزمر ، ولعلها الصدفة الكونية السعيدة في الدخول الى عالم الوعي عند الكائنات من خلال هذا الطير ، الذي ينطق ويدل على قضايا رمزية مجردة كالألوان والأشكال والأعداد . جلال الدين الرومي والببغاء والتاجر الهندي : وكما كان الفيلسوف المتصوف جلال الدين الرومي يطرح أفكاره من خلال قصة التاجر الهندي والببغاء ، فيروي على لسان الببغاء بشكل رمزي أفكاره من خلال القصة (12) فإن مؤتمر تكسون الذي جمع هذا الخليط من علماء النفس وباحثو الدماغ والفلاسفة ، فإن السؤال الجوهري أمامهم ، بعد أن رأوا جرأة هذا الطير في اقتحام عالم الوعي وفهم المجردات مثل الأعداد هو توضيح سؤال جديد آخر ؟؟ ماهو حقاً لغز الوعي الذي اجتمع الكل له وانفض الجميع بدون ملامسته أو فهم كنهه .         مراجع وهوامش: (1) تأمل الاية من سورة النمل التي يصرح فيها النبي سليمان عليه السلام أنه يعرف لغة الطيور ( وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) سورة النمل الآية رقم 16 كما يذكر بعدها أنه ضحك من حديث النمل عندما تم أعلان النفير العام بالانسحاب الى الاعشاش تحت الأرض (2) على الحدود النمساوية الألمانية في مدينة جراتس ( GRATZ ) في المعهد التقني الالكتروني والطبي الحيوي ، يتم حالياً تطوير الكمبيوتر العصبي حيث يمكن أن يعمل بالارادة الانسانية بدون الفارة وبدون برامج ، بحيث يقرأ أفكارنا مباشرة بواسطة الأمواج الكهربية الدماغية التي تتدفق بشكل تيارات متلاحقة من مائة مليار من الخلايا العصبية المتوقدة في قبة السماء الدماغية  كتوقد النجوم في قبة المجرة _ تراجع مجلة ب . م . ( الألمانية )( P . M  ) العلمية عدد 3 \ 1996 م ص 10 _ 17 (3) أجرى الدكتور وايلدر بنفيلد ( WILDER  PENFIELD ) في كندا دراسة استغرقت منه حوالي نصف قرن لرسم خارطة كاملة لقشر الدماغ من خلال تطوير تقنيات حديثة على مرضى في حالة الوعي وتم تحديد معظم المناطق وأماكن عملها . الشيء الوحيد الذي كان يتملص من اليد هو عدم القدرة على تحديد مكان واضح لعمل الارادة الانسانية ، وخرج في نهاية أبحاثه في عام 1975 م بكتاب بعنوان لغز الدماغ ( THE MYSTERY OF MIND ) يراجع في هذا كتاب العلم في منظوره الجديد بحث العقل ص 35 _ تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو _ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 (4) أشارت مجلة الشبيجل الألمانية عدد 20 عام 1996 م الى الواقعة في قسمها العلمي تحت عنوان أبحاث السلوك : بوابة الى عالم آخر _ ص 188 _ 190 (5) تأمل الآية القرآنية من سورة الأنعام ( ومامن دابةٍ في الأرض ولاطائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ) الآية رقم  28 (6) سورة النمل الآية رقم 22 (7) اعتبر مثلاً أن الانسان تفرد باستخدام الأدوات وتم العثور على العديد من الحيوانات التي تستخدم الأدوات في غذائها كما في ثعالب البحر عند سواحل كندا في المحيط الاطلسي حيث يغوص في الماء فيصطاد السرطان ثم يضع الحجر على بطنه ثم يضرب السرطان به _ براجع في هذا كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم لمعرفة رقم 67 فصل قرد أم ملاك ص 7 (8) كتاب الانسان وعلم النفس _ تأليف عبد الستار إبراهيم _ سلسلة عالم المعرفة رقم 86 بحث الاتجاهات النظرية العامة لعلماء النفس ص 54 (9) كتاب الانسان يبحث عن المعنى وهو كتاب أكثر من رائع يهز قارئه تماماً فهي خبرة جاءت من جحيم المعتقلات النازية وفيها خسر زوجته الشابة _ تأليف فيكتور فرانكل _ نشر دار القلم _ ترجمة طلعت منصور (10) تكنولوجيا السلوك الانساني _ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 _ ترجمة عبد القادر يوسف _ ص 6 وأصل الكتاب باللغة الانكليزية ماخلف الحرية والالتزام (  BEYOND  FREEDOM  AND  DIGNITY  BY B . F . SKINNER )(11) مجلة الشبيجل عدد 43 عام 1995 م ص 152 (12) كتاب ( المثنوي ) الذي استفاد منه المفكر والفيلسوف الاسلامي محمد إقبال ، وكان يكرر دوما  هذه العبارة في المثنوي :  ذا حديث ماله من آخر فلنعد الى حديث ذلك التاجر .   كيف نطق الإنسان ؟   تيك ( TIK ) هل هي الكلمة الأولى التي تمكن الانسان من نطقها ؟ هذا مايدعيه على الأقل باحث أمريكي معاصر في دراسة اللغات وعلم الالسنيات ، ولكن هذا لايفسر على الإطلاق لماذا بدأ الانسان في النطق ؟ وكيف بدأ رحلة التعبير ؟ ومتى بزغ عصر الكلمة ؟ فاختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تدب على البسيطة . ما أهمية التعبير ؟ وماهي أهمية اللغة في علاقة الانسان بالواقع ؟ مامعنى الترميز ؟ ماهي وظيفة اللغة ؟ مامعنى النطق عند الانسان ؟ وماعلاقة التصويت باللغة ؟ بل ماهي فلسفة اللغة ؟ ومامعنى الاسماء التي تعلمها آدم ؟ إن كل هذه الاسئلة الضخمة والمصيرية فجرت في الوقت الراهن مجموعة من العلوم الجديدة كان أهمها علم الالسنيات ( LINGUISTICS )  . عندما أراد القرآن توثيق فكرته ، قال عنها إنها تشبه في الحق الذي تحمله نطق الانسان ( فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثلما أنكم تنطقون )(1) فما هو هذا النطق الذي اعتمدته الآية كمصدر لتوثيق الحق ؟ وماهي الاسماء التي عجزت عن علمها الملائكة وأنبأ بها آدم ؟ تجربة الفرعون بساميتك الأول ( PSAMMETICH   I ) : استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون لم تغادره ليلاً نهاراً مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا فهل سينطقون باللغة الأصلية للانسان ؟ وهل ستكون نفس اللغة الهيروغليفية أم ستكون متباينة ؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون ؟ كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن  فانطلق الفرعون ( بساميتك الأول ) بعد أن استولت عليه الفكرة تماماً  الى ميدان التجربة اللغوية ( الالسنية ) . يذكر المؤرخ اليوناني ( هيرودوت )( HERODOT ) عن هذه التجربة المثيرة أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما الى عائلة راعي تحت رقابة مشددة ، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما ، وكان الفرعون يتفقدهما شخصياً ليرى نتائج تجربته ، ولعل هذه التجربة الالسنية الأقدم في هذا الاتجاه ، لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية (2) وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهم نطقوا شيئاً يشبه لفظة ( بيكوس )( BEKOS ) وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعبٍ ينطق هذه اللفظة ، ذكروا له الشعب ( الفريجي )(PHRYGIER ) الذي يعيش في آسيا الصغرى ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية (3) وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي ؟!! فهل لغة هذا الشعب هي فعلاً أصل كل اللغات ؟ لو صدق هذا لحُلت هذه المشكلة بأبسط السبل ، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئاً في عمر الزمن مع الانسان ، الذي أثبتت عظامه المرمية في طبقات الأرض في شرق أفريقيا ، أنه يعود ليس الى خمسة آلاف سنة ؛ بل خمسة ملايين من السنين ؟!!  هذه الفكرة التي استولت على الفرعون المصري قديماً تحركت مرة أخرى في العصور الوسطى ، على يد حاكم مستنير حكم صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي ، محب للعلم ، متأثر بالثقافة العربية ، ويتكلم لغة الضاد ، لغة الثقافة العالمية في ذلك الوقت ، أراد أن يعرف بدوره أصل اللغات هل هي اللغة العربية أم العبرية أم السنسكريتية أم سواهم ؟ تجربة القيصر فردريك الثاني : يذكر العالم الأمريكي ( بيتر فارب )( PETER  FARB ) صاحب كتاب بنو الانسان ( HUMAN  KIND ) تجربة قاسية أجراها هذا الملك الموهوب الفنان الشاعر وبنفس طريقة الفرعون السابق ، فدفع عدداً من الأطفال حديثي الولادة الى من يهتم بأمر الغذاء والنظافة دون أن يتكلم معهم بحرف من نداء أو مناغاة . وكانت النتيجة صاعقة لأن الأطفال _ خلافاً لما روى هيرودوت المؤرخ اليوناني _ ليس فقط أنهم  لم ينبسوا ببنت شفة ؛ بل قضوا نحبهم فماتوا بالجملة ، متأثرين من هذه التجربة المدمرة !! (4) تجربة ملك سكوتلاند يعقوب الرابع ( JAKOB - IX - OF SCOTLAND ) : تروي المجلة الألمانية المعنونة ( معجزة التطور )( P . M . P . DAS WUNDER DER EVOLUTION  ) قصة مشابهة أخرى مثيرة قام بها ملك سكوتلاندا قديماً  ، بعد ثلاثة قرون من تجربة الملك فريدريك الثاني حاكم صقلية ، لاكتشاف جذر اللغات واللغة الأصلية ، التي تحدث بها الانسان ، تحت وهم أن نطق الانسان كان بالأصل موحداً ، وأن اللغة في حالة كمٍ ثابت غيرِ متطور ، ويزعم مراقبو التجربة أنهم أي الأطفال تكلموا في خاتمة المطاف اللغة العبرية ، ولاغرابة لأن أهل كل ثقافة يعتبرون لغتهم هي سرة العالم وأصل اللغات وسر الكون وأنهم أفضل ماخلق الله ، ولكن تجربة الصبي ( فيكتور ) التي برزت الى السطح في القرن التاسع عشر هزت الأوساط العلمية ، ونحن نعرف اليوم طائفةً من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الالسنية . قصة الصبي فيكتور والدكتور ايتار : جاء في المجلة العلمية الألمانية ( الاتصالات )( P. M . P . KOMMUNICATION )(5) أن طفلاً عاش في الغابة وحيداً في ظروف غامضة ، قريباً من مدينة أفيرون الفرنسية ( AVEYRON ) حتى بلغ الثانية عشر ، ثم استسلم في الشتاء القارس ليد الناس في عام 1799 م في ظروف صعبة طلباً للدفء والغذاء ،  وخضع بعدها لفحص وتدريب متواصلين من إجل إدخاله الحظيرة الانسانية ؛ فالطفل كان كالحيوان تماماً (( كان طفلاً قذراً الى حد يثير الاشمئزاز ، وكان يهز جسمه جيئة وذهابا كما لو كان قردا في حديقة الحيوان ، وتعتريه حركات تقلصية ، كما كان يعض ويخدش بأظافره من كان يحاول إطعامه دون أن يظهر محبة نحو أي انسان ))(6) ولكن الشيء المزلزل في القصة كان موضوع اللغة ؛ فالفلاسفة الفرنسيون الذين عاينوا ظاهرته المحيرة وعدم قدرته على النطق والتواصل مع الانسان ؛ افترضوا أنه أبله قاصر العقل ، ولكن الدكتور ( جين مارك كاسبار إيتار ) خالفهم في ذلك لعدم وجود سابقة من هذا النوع ، فركز كل جهوده على فهم هذا الانسان الجديد ، واعتمد طريقة الخطأ والصواب ، وحاول جهده في ابتكار العديد من الطرق في محاولة ( تحضير ) هذا الطفل ورده الى المجتمع الانساني وتمكينه من اللغة التي هي سمة الانسان الأولى . الخلاصة المزلزلة في علم الاجتماع : استطاع الدكتور ( ايتار ) بعد سنوات من الجهد المكثف أن يعلمه بعض الانماط الانسانية ، فبدأ يحسن الجلوس وارتداء الملابس وتناول الطعام وقضاء الحاجة ، ولكن الشيء المعند الذي لم يستجب له مع كل المحاولات هو النطق ، فهذا الطفل ذو الاثني عشر عاماً تقريباً بدأ يفهم بعض الألفاظ الفرنسية ، ولكنه لم يستطع التكلم بها رغم كل المحاولات ، ووصل بذلك الدكتور ايتار الى هذه الخلاصة الصاعقة ، أن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة لم يعد بالإمكان إصلاحها قط فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذا العالم بدون قوة جسدية ، وبدون أفكار تولد معه ، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه الى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول الى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة الا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءً )(7) الانسان يسبح بين معادلتين : المعادلة البيولوجية والاجتماعية : إذاً فقصة حي بن يقظان وروبنسون كروزو تبقى للاستهلاك غير المجدي ، فالصبي حي بن يقظان الذي تصوره الفيلسوف الاندلسي قديماً ( ابن طفيل ) الذي عاصر الفيلسوف ابن رشد ، كان في وهمٍ كشفه علم الاجتماع حالياً ؛ أن المجتمع هو الذي يجعل الانسان بشرا سويا ، وبدون المجتمع لايتكون الانسان ، ولايصبح الانسان انساناً ، واللغة التي ننطقها تشبه قاعدة ( الدوس )( DOS ) في الكمبيوتر ، والتي على أساسها يمكن تعلم اللغات بدون حصر ، بل يصبح تعلم كل لغة جديدة أسهل من التي قبلها ، خلافاً لما يتوهمه البعض من العبقرية المفرطة عند من يتكلم ثمانية لغات ، ففي منطقة الجزيرة في سوريا يوجد مالايقل عن سبعة لغات ، تزحف بجانب بعضها البعض في التعامل اليومي ، من الكردية والعربية والتركية والسريانية والكلدانية والآشورية والارمنية ، بالاضافة الى مالايقل عن عشرة لهجات محلية بين لغة أهل الداخل واللهجة المحلية ولهجة البدو ، يضاف إليها بضع لغات محدودة جانبية ، مع كل الفرق الدينية بما فيها الفرقة النسطورية ( المسيحية ) المنقرضة التي تحمل اسم الكلدان اليوم ، فمدينة ( القامشلي ) تشبه بهذا التنوع المذهل من اللغات واللهجات والاثنيات والأديان المتحف الحي . إن الصبي ( حي بن يقظان ) الذي كان يبني عليه فلسفته المفكر الاندلسي ( ابن طفيل ) سوف يفاجيء أن ممثل روايته سيكون أقرب الى الحيوان ، بل سيبدو كحيوان بئيس ، لأنه عاش لوحده مع الغزالة، فالانسان يأتي الى الدنيا بالمعادلة البيولوجية ، ولكنه يصبح انساناً بالمعادلة الاجتماعية . المجتمع يشكل الثقافة _ يعلِّم اللغة _ يمنح الحظوظ الدنيوية :    وأكثر من ذلك فإن المعادلة الاجتماعية تتنوع من مجتمع لآخر ، ولذا فحظوظ الانسان في الدنيا هي من المجتمع الذي ينتسب إليه أكثر من كفاءته الشخصية ، فجراح الأوعية في أمريكا يأتيه دخل يصل الى قرابة مائتي ألف دولار في السنة على الأقل ، ولكنه في مصر لايصل الى عشر معشار هذا المبلغ ، وينطبق هذا الكلام على حاملي جنسية البلد وتنقلهم في العالم ، حيث يتمتعون بهذه الامتيازات سلباً أو إيجاباً ،  التي منحهم أياها المجتمع الذي أعطاهم عضوية الانتساب للبلد . فكما أن المجتمع يجعلنا بشراً أسوياء ، كذلك المجتمع يمنحنا حظوظاً مختلفة في هذه الدنيا ، فالذي يولد في بنغلادش غير الذي يولد في ألمانيا واليابان ، وهذه مرتبطة بدورها بقَدر المجتمع في مرحلة ما ، فالذي يولد في المجتمع الألماني الآن ، غيره الذي يولد في مطلع القرن العشرين في هامبورغ في ظروف عمل قذرة ، أو في أيام الحروب العالمية ليموت في ساحات المعارك المهولة مثل الجبهة الروسية في الصقيع القاتل . المجتمع هو الذي يعطينا اللغة ، هو الذي يمنحنا الحظوظ الدنيوية . هو الذي يشكلنا ثقافياً . فالذي يولد في اليابان سيتكلم اللغة اليابانية ويؤمن بالعقيدة البوذية أو الكونفوشوسية ، ومن يولد في بافاريا في ألمانيا سينطق الألمانية ويدين بالمسيحية في أحد جناحيها الكثلكة أو البروتستانتية في الأغلب ، ومن يولد من رحم امرأة يهودية سيتشكل سيكولوجياً في الأغلب بكل التراث اليهودي وإشكالياته ، ومن يولد في جنوب العراق سيكون شيعياً ، ومن يولد في شمال العراق سيكون تركمانياً أو كردياً ، ومن يولد في الاناضول قد يقتل في إحدى هجمات جيش العمال الكردستاني من أجل بناء دولة كردية ، من حيث يعلم أو لايعلم ، وهذه ليست فكرة قدرية بل هي حقيقة دامغة ساحقة ، فالمجتمع يشكلنا إن أردنا أم لا ، رغبنا أم رفضنا تحت قوة خفية ساحقة ماحقة لارد لها . ولعل هذا يلقي ضوءً على بعض أسرار آية التغيير في القرآن ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) حينما يعتبر أن التغيير الاجتماعي لايتم بشكله الفردي بل بكم جماعي وكتلة حرجة أي تشكل تيار اجتماعي مسيطر ، بل إن الفرد الذي يسبح ضد التيار يتعرض للتمزيق والتدمير بحس الدفاع الاجتماعي وهو أمر طبيعي ، فالآية واضحة أن التغيير لايتم بصورة فردية ( حتى يغير ) بل لابد من الكم الجماعي ( حتى يغيروا ) ونفهم من نهاية الآية أن الزلزال الاجتماعي حينما يقع فلامرد له ولامفر منه ( وإذا أراد الله بقوم سوءً فلامرد له ومالهم من الله من وال ) على صورة القدر الاجتماعي الذي شرحناه. إن هذه الحقيقة مزلزلة وتقلب الرأس فعلاً ، فالانسان يتشكل ويصبح انسانا ً فقط عندما يتصل بالمجتمع ، والانسان ينطق باللغة فقط عندما يعيش ضمن الوسط الانساني ، فاللغة والنطق هما مزيج من الوراثة والكسب الاجتماعي ، فالقرد لوعاش بين البشر لن ينطق ، كما أن الانسان لو عاش خارج الجماعة بين القرود لن ينطق ، وتأتي حقيقة رهيبة أخرى من قصة الصبي ( فيكتور ) وهي أن المرحلة التي تزرع فيها اللغة في دماغ الانسان ، حاسمة للغاية وهي السنوات الأولى من عمر الطفل ، فالطفل ينطق قبل أن يقرأ ، ويتعلم اللغة سماعياً ، وعندما يتجاوز هذه المرحلة فلايتعلم اللغة ؛ فإنها تفوته والى الابد بغير رجعة . نظرية العالم الأمريكي ( جرينبيرج ) حول أصل اللغات : والآن هل هناك لغة ( أم ) ترجع إليها كل اللغات ؟ إن كل أمة ترى أن لغتها هي سرة العالم ومحور التاريخ ، ولكن الفيلسوف افلاطون ذهب الى أن كل لغة هي اختراع انساني قائم بذاته ، واليوم لاتوجد نظرية موحدة حول وجود ( لغة أم ) ترجع إليها كل اللغات ، إلا أن عالم الالسنيات الأمريكي ( جوزيف جرينبيرج )(JOSEPH - GREENBERG ) وهو من علماء اللغة المرموقين يدافع عن نظرية ( وحدة الجذر)( MONOGENETIC ) قام بمسح عملاق لذخيرة الألفاظ وبعض القواعد النحوية الثابتة في مئات اللغات ، في محاولة لوضع ضابط بين كل هذه اللغات العالمية التي تم مسحها . إن التصنيف الذي اقترحه جرينبيرج ليس بدون نزاع بين علماء الالسنيات ، ولكن العالم الأمريكي يصر على أن لغات العالم التي تصل الى خمسة آلاف لغة في المتوسط ، تعود كلها في النهاية الى لغة أم مشتركة واحدة كما نعود نحن في النهاية الى أم واحدة ، بل ذهب في تصوره الى أبعد من ذلك فقال إن الكلمة التي لها أصل في كل اللغات هي لفظة ( تك ) وهي حسب الترجمات المنوعة بين اللغات تصير الى معاني لانهائية وكلها موجودة ككلمة في كل اللغات من واحد... الى بعض .. أصبع ... ذراع .. والى معنى أشار بأصبعه !! اللغة كمٌ نامي متطور عبر الزمن : ونظراً للوقت الرهيب الذي مر على الانسان عبر الأحقاب ، ونظراً لارتباط النطق بالدماغ وجهاز التصويت المكون من الحنجرة والحبال الصوتية والبلعوم والأنف ، فإن الأثر الانثروبولوجي الذي يتم العثور عليه من العظام والجماجم لايستطيع الإفصاح بشكل أكيد عن سر النطق عند الانسان متى بدأ ؟ وكيف بدأ ؟ وكيف كانت مسيرته على العموم ؟ نظراً لارتباط النطق بأعضاء تفنى وتندثر بعد موت صاحبها . ولكن الذكاء الانساني احتال على المشكلة مرة أخرى بشكل غير مباشر ، كما روينا سابقاً في قصة الكربون 14 وساعة البوتاسيوم الأرغون الكونية ، أو كما فعل الباحث الانثروبولوجي الهولندي ( فريد سبور )( FRED - SPOOR ) الذي يقوم في جامعة لندن بدراسة مشكلة انتصاب الانسان ، من خلال دراسة الأذن الباطنة في الجمجمة التي تملك جهازاً رائعاً بالغ الاتقان مسؤول عن آلية الاتزان عند الانسان، وبالتالي تشير الى انتصابه من عدمه ، حيث درس حوالي عشرين جمجمة ، وكلها دلت على تشابه ( الانسان المنتصب )( الهومو_ ايريكتوس ) معنا ، خلاف باقي الكائنات ، ويعود الى حوالي مليون ونصف من السنين (8). دراسة الجمجمة بالكمبيوتر تدل أيضاً على تطور الدماغ مع الزمن من خلال انطباعاته التي تترك أثرها على باطن عظام الجمجمة ، ونظراً لوجود مراكز النطق في القشرة الدماغية اليسرى وأعضاء التصويت في أسفل الجمجمة ؛ فيمكن الاستدلال بشكل غير مباشر على الحدث الانثروبولجي عبر الزمن . اللغة والواقع _ اللفظ والمعنى : بقي أن نقول أنه مع الزمن تكسرت اللغات وتفرعت الى مالانهاية ، واللغة كائن ينمو مع الزمن سواء في المحتوى أم الشكل ، وأمة لاتطور لغتها تعتبر في حكم الأمة الميتة ، لأن تطور اللغة يعني الحياة ، فالحركة والنمو دليل الحياة ، والجمود والتحنط دليل الموت والفناء (9) ونظراً لهذا التطور المستمر في اللغة فلاغرابة من نشوء نظريات مختلفة حول أصل اللغة ، هل كانت من لفظة تيك أو تونج أو سونج أو سواها ، فإمكانية الوصول الى اللغة الأولى النموذجية ( PROTOTYPE ) هي في حكم المستحيل ، والأقرب أن اللغة هي أمر اصطلاحي ، وأن اللفظة لاتشع بالمعنى بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، فالكلمة كالقمر تعكس المعنى ، والمعنى كالشمس التي ترسل أشعتها ، أو على حد تعبير الفيلسوف المتصوف ( الغزالي ) الذي عاش في القرن الرابع الهجري ( 450 _ 505 هـ ) في كتابه المستصفى من أصول الفقه : أن من أراد أخذ المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد المغرب وهو يستدبره ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا (10) ولنا عودة لهذا البحث لاحقاً في فهم علاقة اللغة بالواقع ، فهناك دراسات في الوقت الحاضر تمشي باتجاه توليد المعاني من الألفاظ بدون حدود كما في السيرك والبهلوان الذي يخرج من قبعة الاخفاء مايريد من مناديل وأرانب ، مثل كلمة ضرب في القرآن ، أو اتجاه أن اللغة عندما تشكلت كانت انفعالاً كاملاً للواقع الحقيقي (11) بمعنى أن معرفة اللغة بجذورها الأولى سيقودنا لفهم أسرار الكون دفعة واحدة ، وفي تقديري أن الطريقة الأولى على الرغم من إغراءها لاتقود الى الحقيقة ، والثانية فيها عدم الأخذ بعين الاعتبار تدرج مرور الحقيقة الخارجية الى صورة ذهنية ؛ فالتعبير عنها الى الآخرين فكتابتها ، فالوجود الموضوعي يمر بــ ( فلترة )( FILTERATION ) ذات أربعة مستويات ، وكلها تدرجات وانكسارات محفوفة بمخاطر الانزلاق العقلي الكبرى ، فرؤية الشيء لاتعني أبداً أن الصورة الذهنية تساوي الحقيقة الخارجية ، والا لماذا حرق الناس من أجل رأيهم أن الشمس لاتدور ؛ بل الأرض هي التي تمشي في مدارها حول الشمس ؟!  كذلك فإن تصوراً من هذا النوع سينهي الخلاف الانساني دفعة واحدة ، طالما كانت رؤية الوجود الموضوعي يقود الى تصور ذهني واحد لجميع الناس ، إن القضية ليست بهذه البساطة كما نرى إذاً. إن منتقدي نظرية جرين بيرج حول أحادية الجذر يرون أن اللغة متعددة الجذور ، وأنها نشات في أماكن شتى في العالم ولاعتبارت اصطلاحية ، حيث انتقل الانسان من لغة الاشارات باليدين الى الترميز ، ومازالت حركات أيدينا وتعبيرات وجوهنا بواقي تلك اللغة القديمة البدائية قبل انتقال الانسان الى الترميز المجرد . ولكن كيف يتكلم الانسان حقاً ؟ وماهي أدوات التصويت ولماذا يتكلم الانسان وتخرس بقية الكائنات ؟ نظرية عالم اللسانيات نعوم تشومسكي(12): يرى العالم الأمريكي تشومسكي (NOAM - CHOMSKY ) عالم الالسنيات أن السر يكمن في إضافات خاصة للانسان مكنته من التصويت ، فالنطق يعتمد جهازين واحد للانتاج وآخر للإطلاق ، الأول عقلاني منظِم في منطقتين ، واحد لتنظيم القواعد الجراماتيك ، والثاني لتفسير المعاني . وجهاز التصويت فيزيائي بحت ، يعتمد إطلاق الصوت وتقطيعه وصدمه ونفخه في أماكن شتى بين الحلق والفم ، الرغامى والبلعوم ، الأنف والشفاه وتجاويف الجمجمة ، وهذه قد غُرست فينا بشكل جيني مختلف عن كل الكائنات ، فأما جهاز انتاج النطق أي كمبيوتر الكلمات فهو الدماغ ، ولقد عُرف أن الفص الجداري الأيسر يملك منطقتين منفصلتين لتنظيم الكلام ، الأولى مختصة بالتنظيم القواعدي والنحو والصرف وهي المعروفة بمنطقة (بروكا BROCA ) نسبة للجراح ( باول بروكا ) أول من أشار إليها عند أصابة الانسان بها والآثار المأساوية المترتبة على ذلك ، فهي تعطي الأوامر للحلق والحبال الصوتية بتقطيع الهواء ولللسان بالتقعر أو التجوف ، الاندفاع للأمام أو الاختباء للخلف ، وللفم بالفتح أو الانقباض ، وللأسنان بالتقارب أو التباعد ، في سيمفونية من أعجب ماخلق الله ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون ) فالنطق يبدأ من الرئتين مثل المنفاخين في قذف الهواء ، ليمر الهواء على حبال تهتز فتعطيه تردد وتر العود في الشدة المطلوبة ، لينصدم بعد ذلك على مسارات مختلفة تعطيه الأنغام بدون نهاية . أما المنطقة الثانية الحسية في قشر الدماغ الأيسر فهي منطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، وكلا المنطقتين مترابطتين بجسر مدهش من التعاون  فالدماغ يعمل كوحدة كلية ، ولنا عودة تفصيلية في بحث الدماغ وعلاقته بالنطق واللغة والتفكير . الاعتراضات على نظرية تشومسكي : اعتبر نعوم تشومسكي أن الانسان يتفرد باللغة ، وأن اللغة حققت له تفوقاً نوعياً ، ولكن الاعتراضات توافدت في صورة تجارب ميدانية ليس آخرها مؤتمر ( تكسون )( TUCSON ) الأخير في ولاية أريزونا ، الذي عقد في أبريل من هذا العام ، عندما تقدمت السيدة ( ايرينه بيببربيرج )( IRENE - PEPPERBERG ) ببغاء يعد حتى الستة ويفرق بين الألوان والأشكال في صورة تجريدية ، كما أن فريقاً من العلماء أخذ الصغار الرضع للشمبانزي ، وبدأ في تربيتهم مثل الأطفال تماماً وبعد جهود سنوات استطاعت القرود تناول الطعام في صحون ، وقضاء الحاجة في تواليت ، وغسل أدوات الطهو ، ولكن كل الجهد المصبوب لم يصل الى درجة النطق عند الشمبانزي ( فيكي )( VICKY )سوى أربعة كلمات ( ماما .. بابا .. كاسة .. أعلى )( MAMA .. PAPA .. CUP .. UP.. ) تجربة آلان وبياتريكس جاردنر مع الشمبانزي واشو : عمد الباحثان ( جاردنر )( ALAN&BEATRIX - GARDNER ) بعدها الى تجربة جديدة بعد الفشل الذريع في أي نطق للشمبانزي باعتماد طريقة التكلم مع الصم البكم ( لغة الاشارات )( AMERICAN - SIGN - LANGUAGE = ASL ) واستطاعا تحقيق إنجاز كبير في هذا الصدد وكذلك السيدة ( سافيج راوباوم ) من جامعة جيورجيا مع الشمبانزي كنزي ، فأما شمبانزي الزوجان جاردنر ( واشو )( WASHOE ) فقد وصل الى 132 مرادفة ، وأما كانزي وهو انجاز جديد فقد قفز الى 256 كلمة ، ولكن الشيء المؤكد في هذا الانجاز أن إمكانية الشمبانزي توقفت عند هذا الحد بمايشبه الاختناق ، في مستوى عقل طفل لايزيد عن عامين ، في جمل محدودة للغاية من مثل : أنا جائع _ الكرة هناك وهكذا . فالحيوان دخل الى عالم الكلمة ولم يبقى الانسان متفرداً الا في المدى والكم ، فالببغاء أخذ عقل طفل في الخامسة والشمبانزي فهم طفل في السنتين . كيف تخرج الكلمات ؟ يرى الباحث الأمريكي ( فيليب ليبرمان )( PHILIP - LIEBERMAN ) في علم الأصوات (PHONETIKER ) الذي يعمل منذ ثلاثين سنة على فهم آلية تطور اللغة أن تمفصل ( ARTICULATION ) جهاز النطق والتمكن من إخراج الكلمات شيء سحري حقاً ، فخلق الانسان اعتمد قاعدة في غاية الجمال ، فجهاز التصويت لم يلجأ الى فتح ثقوب جديدة في الرأس ، بل استفاد من نفس فتحات الطعام والشراب ، ففي الوقت الذي تستفيد الحيوانات الثديية من الفم في الطعام والحلق للتنفس ، فإن حلق الانسان برزت فيه صفة تقدمية للغاية وهي دفع الحنجرة للأسفل ، وتحويلها الى جهاز نطق على حساب ( الشردقة ) في الطعام ، فالانسان لايستطيع أن يتكلم ويأكل بنفس الوقت خلافاً للقرود التي تسطح عندها الفم والبلعوم وصعدت الحنجرة الى الأعلى ، فالقرد يتفوق علينا بأنه يستطيع المضغ أفضل ، ويأكل ويشرب في نفس الوقت الذي يتنفس فيه ، في حين تراجعت هذه الصفة عند الانسان لينمو جهاز النطق الرائع من نفس مستودعات الأكل والشرب ، ليصبح كياناً واعياً ناطقاً يعبر عن نفسه ويحقق الاتصال بغيره ويفكر بواسطتها فاللغة لها ثلاث حقول جبارة : إمكانية أن يخرج مابداخل الانسان الى خارجه بالتعبير ، وبواسطة الاتصال مع بني جنسه من خلال الترميز برزت الحضارة للوجود ، واللغة ثالثاً هي أداة التفكير وفهم العالم كما أشار الى ذلك الفيلسوف الألماني هومبولدت (HUMBOLDT )(13) مابين رحلة نفثة الهواء من الصدر الى استقرار المعنى في الذهن يعمل جهاز عملاق من التنظيم العصبي حتى يتم تدفق الحروف وتآلف الكلمات وانسياب الجمل وتتابع الأفكار ، تتعاون فيه سبع عشرة عضلة في اللسان وثلاثة أعصاب في الرأس وحزام متدفق من السيالة العصبية ، مع مركز مستقر في نصف الدماغ الأيسر ينظم تدفق الحروف ، من خلال تنظيم عملية التصويت لأخراج النغم المناسب والكلمة المتزنة ، فالكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا نطقتها ملكتك هي ، والكلمة مسؤولية وليست خروج هواء بل هي إفراز عصارة الفكر ، ولذا تباينت ثقافة عن ثقافة في اختيار الكلمات وتحمل مسؤوليتها .         هوامش ومراجع (1) سورة الذاريات الآية رقم 23 (2) ذكرت القصة بالكامل في المجلة الألمانية العلمية ( P . M . PERSPIKTIVE - DAS  WUNDER DER  EVOLUTION - 044 \ 96 ) ص 72 (3) جاء هذا التعريف في القاموس الألماني ( WAHRIG  -  DEUTSCES - WOERTERBUCH ) ص 2722 (4) كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم المعرفة _ رقم 67 _ ص 12_13 يقول صاحب الكتاب (( وكان هدفه من إجراء هذه التجربة معرفة ماإذا كان الأطفال سيتكلمون اللغة العبرية التي كانت الأقدم أو اليونانية أو العربية أو اللغة المحلية في صقلية التي يتكلمها آباؤهم وأمهاتهم ، ولكن جهده ذهب عبثاً إذ مات جميع الأطفال الذين دفع بهم الى التجربة ، ذلك أنهم لم يستطيعوا العيش بدون تدليل المرضعات ورؤية وجوه باسمة وسماع كلمات أو أصوات تشعرهم بالحب والحنان ))(5)المجلة المذكورة ( الاتصالات ) عدد 12 عام 1989 م ص 37 المقالة عن النطق عند الحيوان والانسان بقلم ( P . J . BLUMENTHAL )(6) راجع القصة المثيرة في الكتاب السابق بنو الانسان ص 10 (7) نفس المصدر السابق ص 11 (8) مجلة الشبيجل عدد 42 عام 1995 م ص 238 (9) في مشروع عابد الجابري المفكر المغربي في كتابه دراسة بنية العقل العربي يصل الى هذه المحصلة المؤسفة من توقف فضاء النمو في اللغة العربية (10) كتاب المستصفى من أصول الفقه _ الغزالي _ الجزء الثاني ص 23 (11) يراجع في هاتين النقطتين كتاب شحرور القرآن والكتاب وكتاب محمد عنبر جدلية الحرف العربي (12) يعتبر نعوم تشومسكي عالم مرموق في اللسانيات ، كما أنه ناقد اجتماعي سياسي قوي ، ولعل كتابه ردع الديموقراطية أو فبركة القرار من الكتب التي تكشف عورة الديموقراطية الغربية  (13) كتاب فلسفة اللغة _ تأليف الدكتور محمود فهمي زيدان _ نشر دار النهضة العربية ص 57 (( عند همبولدت الذي رأى أن اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل أفكارنا الى الآخرين ولكننا لانستطيع إدراك العالم أو معرفته الا عن طريق اللغة وهذا الادراك مستحيل بدون استخدام اللغة )) ويعلق المؤلف على ذلك بقوله : ان الانسان بلغ انسانيته حين استخدم اللغة فالنطق ليست مهمتها توصيل المعلومات بين فرد وآخر وإنما هي التي تحدد تصورات العقل .   لغات التعلم الثلاث ( 1-2 ) ( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة ) يظن الانسان أنه يتعلم اللغة من المدرسة ، ويظن أن نقل الأفكار والمعرفة تتم بالكلمة المطبوعة ، ونقول عن الانسان أنه أميِّ من لايحسن توقيع اسمه . المسلمات الثلاث كلها خاطئة . اللغة يتعلمها الطفل بالسماع قبل كتابة حرف واحد ، وهي الطريقة المثلى لتعلم لغة جديدة . وهناك قبل اتقان اللغة سماعياً مرحلة أعمق وأهم وهي لغة لاتنطق بل يتعلمها الطفل من سيما الوجوه . فاللغة كما نرى تتدرج في ثلاث مراحل ، باختراق ثلاث حواجز ، تركبها طبقاً عن طبق . طبقة اللغة العميقة تتقن بالاشارات وتعبيرات القسمات بدون حرف واحد . الطبقة الثانية أقرب الى السطح وتتقن من البيت والبيئة بالتصويت ، بلفظ الحرف قد اعتلى متن الفيزياء وموجات المادة . الطبقة السطحية الظاهرة تتم عن طريق المدرسة بإتقان رسم الحرف والكلمة ونظام الخطاب بواسطة الكتابة المقروءة . الأولى تشكيلية والثانية تركيبية فوق الأولى والثالثة عائمة سطحية ظاهرة يراها الجميع . الأولى تفرز السلوك وتشكل العواطف العميقة . الثانية تبني عالماً جديداً يعتمد الصوت والحنجرة والألفاظ ، الثالثة هي حقل الخلاف الانساني لإنها سطحية عائمة تتملص وتتفلت بعنف وقوة ولاتعبر تماماً ولايتفق الناس حولها . لابد من تفكيك الكلمات وإدراك نظم الخطاب . كتب فيلسوف الحداثة الفرنسي ( ميشيل فوكو ) كتاباً كاملاً بعنوان ( نظام الخطاب ) وقبله كتب الجاحظ كتابه اللامع ( البيان والتبيين )  من أصل أربع كتب تعتبر أجود كاتب في اللسان العربي القديم ، ( مثل الكامل للمبرد والأمالي للقالي ) . نظام الخطاب والكلمات المكتوبة هو مايتصارع البشر حوله ، فيما يعرف بمشكلة النصوص ، كونها مكتوبة بالكلمة المقروءة . لاتعتبر ( لغة المدرسة ) أكثر من نهاية المطاف في رحلة اللغة بثلاث عتبات ، طبقاً فوق طبق . استطاع الانسان نقل الأفكار فيزيائياً بالصوت ، ولقن الطفل الكلام ؛ فاللغة سماعية ، وتعلم اللغة عند الطفل يعتمد الأذن قبل رؤية حرف واحد ، ويبقى تعريفنا للأمي قاصراً ، فالذي لايجيد الكتابة يكون قد مخر عباب أوقيانوس اللغة ( سيميائياً ) وبالصوت . المعرفة ( السيميائية ) هناك ( لغة فكرية ) ليس لها اسم  ولايلتفت إليها الناس ، وهي أهم مراحل تكوين الطفل عقلياً ، يبدأ الطفل فيها رحلة تكوينه العقلي ، لغة لاتعتمد الصوت ولا الرسم ، لاالنطق ولاالكتابة ، بل عمل ( السيمياء ) والايحاء ، أو في تعبير القرآن ( فلعرفتهم بسيماهم ) ثم يضيف ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ؟!! اللغة تشتغل هنا ليس من ( الموجة الأساسية ) للقول بل من ( اللحن الجانبي ) فقد يقول أحدهم ( السلام عليكم ) وكلماته وتعبيرات وجهه تقول ليتني لم أرك ولم أجتمع بك . فهنا يتشكل نوع جديد من ( المعرفة ) في ( سيما الوجوه ) و( اللحن الإضافي ) في ذبذبة الصوت ، وإفرازات السلوك المتناقضة . عالم الكلمات السحري نحن هنا أمام حاجزين عجيبين لعالم الكلمات السحري . هناك لغتان أضافيتان غير المنطوقة المتعارف عليها ، وغير المكتوبة التي يتنازع البشر حول تفسير نصوصها . في حرب الخليج الأخيرة لم تحل الأزمة باستنطاق النصوص ، كما لم تقد المؤتمرات التي انعقدت في كلا الجانبين الى أي انفراج ، والذي حلها في النهاية ( بيزنطة ) بدون نصوص ، ولحاجة في نفس يعقوب قضاها . مازال نص الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بالقوة مفتوح لعالم كامل من التأويل بإضافة حرف واحد فقط ، هل الانسحاب من أراضي ( عربية ) أو من الأراضي ( العربية ) . حرف ( الـ ) العجيب هذا في النص الانكليزي ( THE ) قلب ظهر المجن وفتح الباب لتفسيرات لانهائية ، في شهادة صاعقة عن مشكلة ( استنطاق النصوص ) . نحن نعرف أن أول صراع في الاسلام تم فيه استدعاء النصوص ، ولم يكن الذي رفع المصاحف على رؤوس الرماح بأنزه الطرفين وأتقاهما . غضبت عائشة (ر) عندما سمعت كلمة التحية من اليهود وهم يدخلون مجلس رسول الله (ص) وغضب هارون الرشيد من التحية واطراءه بالعدل ؟! السبب هو ( لحن القول ) فاليهود لفظوا ( السلام ) بابتلاع حرف اللام خفية فأصبحت اللفظة ( السام ) بمعنى الموت ، فردت عليهم عائشة وعليكم ( السام واللعنة ) فقال المعلم الأكبر ( ص ) لقد رددت عليهم بقولي ( وعليكم ) فكان الجواب يغطي كل الاحتمالات بذكاء وخلق وافتراض حسن النية بالآخرين . المرأة البرمكية التي حيت هارون الرشيد قالت له تمدحه ( حكمت فقسطت ) ؟! بإسقاط حرف ( الألف ) فتحولت الكلمة من ( أقسطت ) الى ( قسطت ) من العدل الى الظلم ؟! إن الله يحب المقسطين بمعنى العادلين ولكنه يحكم على القاسطين أنهم كانوا لجهنم حطبا ؟! الفرق هائل بين ( السام والسلام ) وبين ( المقسطين والقاسطين ) إنها لعبة خطرة تراهن على لحن القول . وتبقى اللفظة بريئة فنحن من يشحنها بالمعنى ، أو نفرغها ونعيد تعبئتها من جديد ، في آلية تجري في كل لغة انسانية . النفس في حالة مخطط لايعرف الراحة اعتبر القرآن ( الإيمان ) شبيه بهذا ؛ فطالما حصل التصميم على عدم مراجعة الموقف و اعتماد ( الأحكام المسبقة ) وتعطيل آلية ( النقد الذاتي ) وأغلاق منافذ الفهم ( صم بكم عمي فهم لايعقلون ) فلن ينفع فيه أي نص أو آية أو معجزة ( ولوجاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ؟! الكفر هو التغطية والستر . من هنا عبر القرآن عن المزارعين الذين يغطون الحبة بالتراب أنهم ( كفار ) ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . تعطيل منافذ الفهم والمراجعة والتأمل يدخل الانسان هذه الحلقة النفسية المعيبة التي يسميها القرآن (الكفر) ويراها علم النفس ( وضع نفسي ) قابل ان ينزلق باتجاهه أي انسان ، كثقب أسود متربص للشفط في كل حين . الحديث حثنا على الدعاء دوماً أن لاتموت قلوينا . اعتبر القرآن بالمقابل حالة الإيمان أنها وضع نفسي تنشرح فيه النفس ( أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه )( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) . الإيمان والكفر حالة نفسية . النفس في حالة تذبذب ورجرجة لاتتوقف وفي مخطط صعود ونزول ، وعلى الانسان أن يسأل نفسه دوماً في أي نقطة من المخطط تسكن نفسه ؟ هل هو في حالة انشراح في معظمها ؟ إن الميل أو الاتجاه ( TREND & TENDENCY ) يحكم على الوضع ، ويوم القيامة هناك نظام كمبيوتري خاص يحاسب الانسان بموجبه نفسه بنفسه ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) . مراحل التشكل الفكري عند الطفل من الأهمية أن نعرف كيف تتشكل ( الخرائط الذهنية ) عند الطفل ومراحل تأسس اللغة وجدليتها مع ( الفكر ) و( الواقع أو التاريخ ) ؟؟ يمر الطفل وهو يتكون ( فكرياً ) بثلاث مراحل جوهرية : 1 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( السلوك ) فيقرأها الطفل من كتاب الوجوه والتصرفات 2 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( الكلام ) فتنتقل الفكرة على متن الصوت فيزيائياً . 3 ـ مرحلة تلقي ( الأفكار ) بواسطة الكتاب والقراءة ؛ فيحدث التحول العقلي ونقل المفاهيم بنبضات الضوء الكترونياً . تبدأ المرحلة الأولى بعد الولادة مباشرة ، عن طريق التأثر بالمحيط ، وينقل الطفل رغباته بلغة لاتعتمد الحرف ، مثل تعلم قضاء الحاجة بالبكاء ، ثم يتم امتصاص المفاهيم عن طريق قراءة ( كتاب الوجوه ) فيتأمل السحنة الغاضبة والتعبير الحاقد ، تكشيرة العبوس وتقطيب الوجه ، استرخاء الضحك وبشاشة الابتسام ، ارتفاع الأصوات الغاضبة ، أو هدوء وروحانية الأصوات الراضية . كلها تنتقل على ظهر الموجة الفيزيائية الضوئية ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الانسان عربية كانت أم ألمانية ؛ فنحن نعلم أن المتكلم غاضب وإن كنا لانعرف لغته التي ينطق بها ، والطفل يمتص معنى الحرام والعيب والمحظور والجيد من المواقف والتصرفات أكثر من الكلمات والحروف ؛ فهو دائم التحديق في وجوه من يحيط به خاصة الوالدين ؛ فيمتص السلوك المقبول والمرفوض ، من الانفعالات ومؤشرات تعبيرات الوجوه وتلويح اليدين . ويبقى تصرف الطفل في معظمه ارتكاساً للمحيط ، هل يعزز تصرفه أم يثبطه ؟؟ وكلها تحدث بطريقة لاتعتمد الوعي ، بل الايحاء والتقليد . الطفل دائم التطلع الى وجوه القوم المحيطين به يقرأ التعبيرات ويفسر السحنة ؛ بصرف النظر عن نوع الحروف والكلمات ؛ فإذا تصرف الطفل أدنى حركة درس ارتكاس الوسط المحيط به ، وكله يتم بآليات اللاوعي ، فهي لغة سلوكية ، ويتم الفهم فيها والإرشاد بالتصرف لابواسطة اللغة . نحتاج الى الى ابتكار اسم جديد لهذا الاسلوب في التلقي غير اللغة ، والبعض يسميه نظام الفكر ، ويمكن أن نسميه اللغة التحتية ، أو الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والقيم . هذه المرحلةتشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت التشريح المجهري فيمكن فك أسرار حديث الفطرة ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ؟‍! هذه اللغة التحتية تتغلغل وتستحكم في الطفل قبل أن ينطق خلال السنتين والثلاث الاوائل الحاسمة من عمر الانسان . نمو الحنجرة التشريحي سبب النطق نحن نعرف اليوم من علم ( الانثروبولوجيا ) و ( التشريح ) أن النطق عند الانسان قريب العهد بسبب تشريحي بسيط  هو نمو ( الحنجرة ) . الطفل والقرد كلاهما لايستطيع التصويت والنطق . أكثر ماكشف في عالم القردة إطلاق صيحات محدودة لاتتجاوز الخمسة تنبيهاً لمخاطر الغابة . الطفل بعمر السنة تبقى حنجرته أقرب الى حنجرة الشمبانزي قبل ان تكبر وتبدأ بالتصويت . حجم الدماغ ونمو الحنجرة هو الذي قاد الى النطق وانبثاق العقل . الطفل عندما يولد يكون دماغه بنصف حجمه الأصلي بسبب بقاءه تسعة أشهر فقط في الرحم ، حتى يولد مكتمل الرأس والدماغ لابد له من ضعف المدة وحوض انثوي خرافي الحجم . هذا السبب البيولوجي يفسر تأخر النطق عند الطفل وعجزه الكامل عند الولادة . العجل يمشي بعد ولادته بلحظات ، والأرانب تزحف بعد ولادتها بساعات وتركض خلال أيام . التطور الروحي الحركي عند الانسان يستغرق سنوات ؛ فهو عند الولادة أضعف مخلوقات الله قاطبة ، في تناقض وجودي يدعو للتأمل . القرود بسبب انخفاض حنجرتها تستطيع الأكل والصياح معاً ، بسبب زحف الحنجرة عند الانسان للأعلى يجب أن يكف الانسان عن الكلام عند الطعام والا ( تشردق واختنق ) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم . بين نفخ الرئتين واهتزاز الحبال الصوتية وانطلاق الهواء بين اللسان والحلق والأضراس ، وعمل الأجواف المجاورة في البلعوم كحجرات طنين ، مكَّن الانسان من النطق والترميز من خلال لغة مفتوحة ، وعلم آدم الأسماء كلها . ولكن هذه هي اللغة الصائتة المنطوقة . اللغة الأخرى هي اللغة الصامتة تشكل البنية التحتية لنظام الخطاب . جبل الجليد الثقافي البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار . المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة ) الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟‍! لكن ( الكتبة والفريسيين )  لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون . المرحلة التشكيلية في حياة الطفل إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل . لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون . قارة جديدة في عالم الوعي المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث . ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت  ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها . المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة . حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية . إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية . الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس . نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب . قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) . الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد . العمليات الجراحية على الثقافة كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها . كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة . جدلية  الكلمة الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك )) نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) . قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام ) وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت . تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت . تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة . نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .     لغات التعلم الثلاث ( 2-2 ) ( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة ) جبل الجليد الثقافي البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار . المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة ) الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟‍! لكن ( الكتبة والفريسيين )  لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون . المرحلة التشكيلية في حياة الطفل إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل . لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون . قارة جديدة في عالم الوعي المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث . ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت  ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها . المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة . حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية . إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية . الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس . نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب . قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) . الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد . العمليات الجراحية على الثقافة كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها . كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة . جدلية  الكلمة الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك )) نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) . قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام ) وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت . تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت . تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة . نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف . البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية مصدرها ثلاث كلمات باللغة الإنكليزية هي: Neuro-linguistic-programming وتختصر بثلاث حروف هي: NLP. والذي تقدم بهذا المصطلح هما عالمان في اللغويات هما: (جون غراندر) وعالم الرياضيات (ريتشارد باندلر) في عام 1975م في كتاب بعنوان (بنية التخيل Structure of Magic). وهذا العلم في الواقع ليس جديداً تماماً فقد اشتغل عليه (الفلاسفة) و(الصوفية) و(المربون) و(مدارس علم النفس) منذ فترة طويلة. وخلاصته هي فهم تشريح العقل الإنساني وكيف يتصرف الإنسان ومن أين ينبع السلوك؟ وصولاً إلى شيء خطير يزعمه الكثيرون هو (التحكم) بالسلوك الإنساني. واعتبر عالم النفس الأمريكي (سكينر) من مدرسة (علم النفس السلوكي) في كتابه  (تكنولوجيا السلوك الإنساني Beyond Freedom and Dignity) أن "العقل لا يزيد عن خرافة وأن الكرامة وهم"؟ وهو يذكر بفكرة عالم الاجتماع العراقي (الوردي) عن العقل الإنساني أنه عضو يحقق وظيفة البقاء ولا يبحث عن المنطق والعدالة والحق كما يردد ذلك المتحاورون في الفضائيات. ويقول الوردي أن العقل الإنسان جعل لابن آدم مثل ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة كي تمكن الحيوانات من متابعة البقاء. وكل الحديث عن الحقيقة النهائية والعدل المطلق والعقلانية خرافات؟ وعالم النفس (سكينر) يريد الوصول بهذا  إلى نوع من العلم نتحكم من خلاله بالسلوك الإنساني كما نتحكم في مسار قمر صناعي نطلقه إلى الفضاء. وبالطبع فإن ادعاءً كبيراً كهذا يدخلنا إلى شيء خطير في تحويل الإنسان إلى إنسان آلي (روبوت)،  ويصبح سلوك الإنسان لا يزيد عن   إفراز هورموني يمكن التحكم فيه. ويرى عالم النفس (بريان تريسي) في كتابه (أسس علم نفس النجاح) أن الإنسان يشبه (الكمبيوتر) مع الفارق الهائل في التعقيد، ولكنه مثل أي جهاز يحتاج إلى كتاب (تعليمات التشغيل Manual Instruction) كما هو الحال عندما نشتري (فاكسا)  فنتحكم به ونعرف أسراره عن طريق كتاب التشغيل. وتقول الدراسة أن 3% فقط هم الناجحون في الحياة ويرفع (تريسي) الرقم إلى 5% ويدعي الفريق الذي قام بالمقارنة بعد عشرين عاماً من الدراسة أن حصيلة النجاح الذي حققته مجموعة 3% كانت تفوق عمل 97%. والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد أي الاستعداد للتشكل، وهي الفكرة التي طرحها (ديفيد هيوم) في كتابه (عن الطبيعة البشرية) أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن (ايمانويل كانت) قال بشيء اسمه (المقولات العقليةCategorical Imperative) أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. ولولا هذا لكانت رؤية البقرة للعالم ورؤيتنا واحدة، ولكن حصيلة هذه الرؤية مختلفة جذريا بين الإنسان والحيوان ومصدر الإرسال واحد. ويعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءً من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشيفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر (الجينات) تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر (جيني). ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن (الجينات) أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم (الضغط الدموي) ليست (جيناً Gen)  واحداً مفرداً بل حوالي 200 جيناً في ضفيرة متبادلة التأثير. و حتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة  لوحة الفيديو الداخلي ، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه لا يقل عن مائة  مليار خلية (عصبية). ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات (لانهائية) إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط. وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً. وتذهب مدرسة (اريكسون ملتون) في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما (اللغة الرمزية) فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف (قصص ألف ليلة وليلة) كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي (مباشرة) فتعالجه على نحو (غير مباشر). والهندسة النفسية تحاول فك هذا اللغز الإنساني لفهم جدليته المحيرة. وقديما حاول الإمام الغزالي فهم مراتب الوجود فقال بأن الحقيقة تمر من خلال مستويات تضعف فيها المرة بعد المرة كما يمر الضوء عبر أوساط شفافة مختلفة فيتعرض للانكسار في كل وسط يتخلله. فبين الحقيقة الخارجية وكتابتها مراحل من (المفلترة المشوشة) قبل أن تصل إلى مرحلة النطق اللغوي وتختم باللغة المكتوبة في النهاية. ومن هنا فإن طبيعة الاتصالات بين (الكتابة) أو (النطق) أو (المقابلة الشخصية) تدخل الخلل إلى صحة المعلومات على نحو مأساوي. بسبب أن (الكلمة) ناشفة بريئة ولكن (النطق) يحمل (لحن القول). والرؤية تحمل قسمات الوجه وما تخفي السريرة "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول". فهنا تدخل على الخط لغة جديدة هي (اللغة السيميائية). وقام فريق بحساب مقدار وصول المعلومة أي (المردود الاقتصادي) الفعلي  للحقيقة المشوهة من خلال الكلمة (المكتوبة) أو (النطق) أو (المقابلة المباشرة) فكان على الترتيب 7% ثم 38% ثم 55% ويعني هذا أن المعلومة مع كل المحاولات لا تنفرغ عصبيا بشكل كامل، وربما سيحدث هذا للمستقبل إن استطعنا أن نفعل هذا كهربيا بتفريغ كامل شحنة الأفكار والتصورات من دماغ إلى دماغ أو من الكمبيوتر إلى الدماغ وبالعكس. مع ملاحظة أن ما يستقبله الدماغ هو قسم ضئيل من الحقيقة لأنه يتغذى بالحواس الثلاث الأساسية ويرمز لها VAKمن أصل ستة حواس وهي مختصر للرؤية والسمع والحركة(Visual Auditory Kenthetic). وهي محدودة بشق بسيط من كون حافل بالموجات. والخلاصة التي نصل إليها ثلاثة أمور: إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدعي. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة. والمهم فهناك من يدعي هندسة نفسية يمكن بواسطتها التحكم في الإنسان؟ ونحن  نعرف من تاريخ العلم أن علم نفس (الفرينولوجيا) تحمس له العلماء كثيرا ولم يكن يتطلب أكثر من تمرير اليد على الجمجمة وتعرجاتها للحكم على ملكات الإنسان وطبيعة كيميائه ومزاجه. ثم ظهر أنها لا تزيد عن دجل.
اقرأ المزيد
خرافة الدولة والخلافة الإسلامية، وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟
التحريريون من جماعة حزب التحرير الذي أسسه المقدسي التقي الدين النبهاني أفنوا عمرهم في البحث عن دولة وخرافة؟ والفلسطينيون يحلمون بدولة وعلم حتى تقاتلت فتح وحماس بكل حماس؟. والكشميريون يقاتلون للانفصال عن الهند من أجل تكوين دولة. و(خطاب) الذي قتل في الشيشان ومن بعده يقودون  حرب عصابات من أجل إقامة دولة إسلامية. والأكراد يحلمون بدولة كردية، تمتد من مرتفعات الهندوكوش إلى ماردين وأرمينيا؟ حتى تقاتل الكل مع الكل، ولوحق أوجلان من الكرد والترك والعرب والعجم  ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. وفي مناقشة على الهواء من محطة فضائية قال الكردي أنه لا مانع لديه  أن يضرب بالعصي آناء الليل وأطراف النهار بيد مخابرات كردية على أن يعيش في ظل دولة غير كردية. ودول الطوائف في الأندلس زادت عن عشرين بين بني (الأفطس) و(ذي النون) و(بني العباد) مما جعل الإمام (ابن حزم) يتبرأ منهم جميعاً، ويذكر قول الشاعر (ألقاب مملكةٍ في غير موضعها .... كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد). واليوم تبلغ الدول العربية أكثر من عشرين دولة، ومع كل زيادة في العدد يزداد التناقض والشقاق والنفاق، ويستفحل الوباء والغلاء والعناء والغباء، ويحجز المواطن العربي في مزيد من مربعات التخلف، وكل زيادة في الأرقام تعني نقصا فيها عكس قوانين الرياضيات. وقديماً شكا بنو إسرائيل إلى موسى سوء الأوضاع وتمنوا الخلاص من فرعون، ولكن موسى اعتبر أن إزالة فرعون ليست حلاً للمشاكل بقدر من سيكون البديل. "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وفي كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لـ (عبد الرحمن الكواكبي) أشار إلى ثلاث أفكار رئيسية تشكل مثلث الخلاص من الاستبداد: 1 ـ أن يكون (سلمياً بالتدريج) 2 ـ و(أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية) 3 ـ وأنه ( يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد). وإلا كان على حد تعبير الكواكبي استبدال صداع بمغص والسل بالشلل. إن استبدال فرعون بفرعون لا يتقدم في حل المشكلة إلا بإلغاء كل حل. فيتغير الأشخاص ويبقى الوسط مريضا كسيحا. (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). إن التحدي الأكبر ليس في الهدم بل البناء. ومازلت أتذكر (آية الله منتظري) ـ وكنت يومها زائرا لإيران بمناسبة العام الثاني على الثورة ـ وهو يخطب بعد نجاح الثورة الإيرانية قائلاً:"لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي اليوم هو في إيجاد بناية أفضل". واليوم لم يبق منتظري وطالقاني وعلي شريعتي وثورة، بل أوتوقراطية خانقة ودولة بوليسية، ورئيس دولة يتلمظ لصنم نووي، ويدعو لشن الحروب. وهكذا فقد استبدلت إيران الإسلام بإسلام شاهنشاهي، والشاه بشاه يلبس عباءة ويطلق لحية ويحمل سبحة، كما جاء في فيلم مرملوك الإيراني، الذي ظهر لأسبوعين ثم اختفى. إن القضاء على الشاه كان أول الطريق وأسهله، فهو عملية هدم لا أكثر، وكل التحدي هو في التخلص من وضع " اللاشرعية" بإقامة الشرعية. والقضاء على صدام كان الفصل السهل من المسرحية الأمريكية، واستئصال السرطان لا يعني بالضرورة عدم وجود انتقالات ورمية. والتخلص من الإقطاعي السابق لا يعني استبداله بإقطاعيين جدد، أكثر عددا وأظلم وأبطش كما حصل مع الثوريين البعثيين السوريين الذين واجهوا منكر ونكير الألماني الحلس ميلس. إن إزالة الظلم هي أقل من نصف الحل، ولكن كل الحل هو في إقامة العدل. وعندما يستأصل جراح الأوعية الورم الدموي لا يعني أن العملية انتهت، بل الأصعب فيها قد بدأ، بإعادة ترميم المنطقة بالكامل من خلال وضع الشريان الصناعي محل الورم المستأصل. وفي كتاب (المقال على المنهج) لفيلسوف التنوير (رينيه ديكارت) اعتبر أن المهم في تغيير الأفكار ليس هدم البنى القديمة فهو سهل، ويجب الحذر فيه، بل وعدم البدء فيه، تماماً مثل الذي يعيش في بيت خرب قذر وتريد إسكانه الفسيح النظيف من البيوت. يقول (ديكارت): لا تهدم بيته، بل ابن له الجديد، ثم خذه ليدخل البيت الجديد، وهو من تلقاء نفسه لن يعود إلى بيته القديم. من المهم إذن أن لا نهدم شيئا ليس عندنا بديل عنه؛ بل يجب أن نمتلك ما هو أفضل منه أو مثله على الأقل. ويقول الجراحون هناك خمس قواعد فلسفية في الجراحة منها أن الجراحة تجرى إذا لم يكن عنها بديلا. وأن لا يدخل الجراح إلى وسط  لزيادة الفساد فيه أكثر مما كان. كمن أراد أن يصلح تضيقا في المعي فقاده عمله إلى انسداد كامل مهدد للحياة. وفي القرآن تقول آية النسخ أنه " ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير". فالنسخ حالة تطورية نحو الأحسن وليس نكسا للخلف. فهذه قوانين وجودية ثقيلة، وهي تتنوع وصالحة للتطبيق في الكيمياء وعلم النفس والفيزيولوجيا والجراحة والفلسفة والعمران الإنساني والسياسة. واستبدال وضع سيء  بوضع سيء مثله أو أشد سوءً لا يعني شيئا، وعندما عُرض الملك على رسول الله (ص) رفضه لأنه لم يرد بناء دولة هرقلية. والتخلص من دولة قمعية بدولة أشد قمعا هو مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. أو بتعبير (لينين) عن الرأسماليين الذين اشتروا حبل مشنقتهم بيدهم، عندما أرادوا التخلص من القيصر الروسي بالشيوعيين، وكان ذلك عندما شحن الألمان (لينين) في عربة قطار مغلقة إلى روسيا عبر أراضيهم مثل من ينقل جرثومة (الانثراكس) إلى عدوه بتصوره أنه سيقضي على الدولة القيصرية فجاء منه البلاء المبين، وهلكت القيصرية الألمانية وصعد نجم الشيوعية حتى حين. والذي حصل أن لينين قضى فعلاً على عائلة (رومانوف) بدداً فلم يترك منهم أحداً بحفلة إعدام جماعية في (كاترين بورج)، ولكن الثورة الشيوعية اندلعت في وسط الفوضى، وخسر الغرب الرهان على (كيرنسكي) فكانوا في مرض، فانتقلوا إلى اختلاط للمرض أدهى وأمر. مثل من كان يعاني من الحمى فأصيب بانثقاب معوي، أو كان يعاني من سعال بسيط فتعرض لالتهاب رئوي قاتل. وكلف هذا الحلفاء لاحقاً أن يحشدوا كل إمكانياتهم ليقضوا على السرطان الشيوعي عبثاً، وما حصل مع أمريكا وجماعات المجاهدين في أفغانستان يشبه هذا التورم الخطير، وكذلك في تسليح العراق، ففي النهاية انقلب السحر على الساحر. ويكون الإنسان في ورطة فيخرج منها ليقع في ورطة ألعن. فهذه عظة التاريخ، ولقد كان في قصصهم عبرة  لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى. واليوم يحتفل الروس بنقل بقايا جماجم العائلة المالكة القديمة التي دفنت في مستنقع، ولكن عائلة (رومانوف) شطبت من ملفات التاريخ، وإلى الأبد، ودلفوا إلى مستودعات النسيان، كما حصل لمن قبلهم قرونا كثيرة، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ إن وهم الدولة أسطورة مضاعف مرتين كل منهما أشد خطراً من الآخر. الأول بتصور الانتقال إلى دولة جديدة مثل العبور من مفازة النار إلى الجنة، ووهم فكرة (الدولة الإسلامية). ومنذ أيام (الخوارج) ادعى الناس أنهم يقيمون دولاً إسلامية، فليس أسهل من رفع الشعارات واغتيال الحقائق وتفريغ المضامين. كما حصل مع البعثيين بالثالوث المقدس. الوحدة والحرية والاشتراكية فأصبحت الخراب والديكتاتورية والطائفية. ولم تعتبر الأمة وكل مدارس الفكر الإسلامية والمذاهب أن جهاد الخوارج كان جهادا، مع أن الخوارج أثاروا قضايا فكرية جديرة بالمناقشة مثل انتخاب الحاكم من الأمة ولو كان رأسه "زبيبة"، ولكن مشكلتهم كانت في التشدد والتكفير والعنف المسلح لقلب الأوضاع. وهذا الميل المريض تشربته اليوم جماعات الإسلام السياسي اليوم، ومن الملفت للنظر أن الخوارج انعزلوا تاريخيا في الواحات البعيدة في الصحاري في الأطراف كما هو بين الطوارق في الجزائر والأباضية في مسقط. واليوم نرى أشد العنف الإسلامي ينبع حيث يقل الفقه ويشتد الحماس. والخوارج لم يكن ينقصهم الحماس  بقدر الوعي، فهذه هي كارثة العالم الإسلامي المعاصرة بالفراق بين الفهم والتقوى، وانفكاك النص عن الواقع والتاريخ. استباح الخوارج دماء المسلمين باسم الإسلام، واليوم تحت اسم الحرية اغتيلت الحرية أضعافا مضاعفة، وترسخت الديكتاتوريات بأشجار باسقة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وباسم الشعب خسف بالشعب. وعندما أراد البعض اغتيال فكرة القرآن رفعوا القرآن على رؤوس المصاحف في خديعة معاوية الكبرى. ومن المعروف في علم الكيمياء العضوية أن نفس المركب يتحول من ترياق إلى سم بقلب جذر الهدركسيل فيه؛ فيبقى الشكل كما هو والمفعول مقلوبا. ويمكن تحت اسم (مسجد) أن يمارس الضرار والتفريق بين المؤمنين، وأن يتحول إلى بؤرة تحيك الموآمرات وشبكة تجسس مضادة، كما في قصة (مسجد الضرار) الذي تحصن فيه المنافقون فأمر النبي بهدمه " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا  كفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون". ومازلت أتذكر خطبة الجمعة في فيرجينيا في أمريكا عندما شاركت في مؤتمر التعددية وقام خطيب أمريكي مسلم فحذر من خرافة الدولة، وأنها يمكن أن تتحول إلى مصيدة لكل الفكر. وتحت هذا الوهم سقط في شراك العنكبوت من كل اتجاه زوجان. وعندما اعتلى الإنقلابيون ظهر الحصان العسكري تحت إغراء إقامة (دولة) تحقق أحلامهم وطموحاتهم لم يروا سوى كوابيس وتشردا وقتلا. وعندما سئل (حارس سيلاجيج) عن البوسنة (الدولة الإسلامية) كان جوابه صريحاً وفي غاية الوعي والتألق :"نحن لسنا دولة إسلامية. نحن دولة علمانية تضم خليطاً من المسلمين والكروات والصرب تتعايش فيها كل الأقليات". إنه ليس أسهل من وضع خنادق نفسية أمام زحف الإسلام ببناء دول خرافية تحت أسماء إسلامية ليست بريئة تماما، ويمكن محاربة الإسلام باسم الإسلام، ويمكن لصدام أن يضع فوق علم العراق الله أكبر وليس شيء أكبر من صدام، أو بتعبير (النيهوم) (إسلام ضد الإسلام). فهذه خديعة يجب الانتباه إليها، وأن نبحث بدون ملل عن الحقائق، ولا نغتر بالشعارات أو الكلمات، التي وصفها القرآن أنها "كلمات ما أنزل الله بها من سلطان". أي كلمات فارغة من رصيد الحقيقة مثل العملة الورقية المزيفة. ويلفت نظرنا (روجيه غارودي) المفكر الفرنسي المسلم إلى هبوط مساجد فخمة ضخمة عملاقة، كأنها صرح ممرد من قوارير "بباراشوت" من السماء، في مدن العالم الغربي؛ فتثير هلعهم أكثر من إقبالهم، في الوقت الذي يمكن نشر الإسلام بمراكز إسلامية بسيطة متواضعة، تعتمد قوة الفكر، وحسن التنظيم، وفهم عقلية المواطن الغربي، وإتقان لسانه فلا بيان دون لسان "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم". وفي أفغانستان كان (كمال بربك) وهو الشيوعي الأحمر يتظاهر بأنه مسلم تقي نقي حتى مخ العظام، وعندما دخل (نابليون) مصر ادعى الإسلام وأصبح اسمه الحاج نابليون. فهذه قصص مهمة لأيقاظ الذاكرة على الحقائق. واليوم أزالت أمريكا (حكومة) طالبان ووضعت دمية اسمها حامد قرضاي يتحرك بريموت كونترول، تحت دعوى إقامة حكومة ديمقراطية تعددية وباسم الحرية. ويحذرنا (نعوم تشومسكي) في كتاب كامل بعنوان (ردع الديمقراطية)، أننا يجب أن نفهم قانون التعامل مع القوى العظمى، وأنها عندما تنصر فريقا على آخر، تنصره بما يتفق مع مصلحتها، أكثر من مصلحة الفريقين المتصارعين، كما جاء في قصة القرد الناسك والقطين اللذين سرقا الجبنة فأرادا منه عدالة التقسيم، فاستقرت الجبنة في بطن القرد. وبالمقابل فإن هناك شريحة ترى أن حكومة طالبان ربما هي حكومة شرعية باعتبارها تنادي بالشريعة. ولكن الصراع الجاري في أفغانستان هو لم يزد عن صراع قبلي على السلطة، ولم يظهر هذا على السطح إلا حين تم طرد الروس، وهو التحدي الخطير الذي ذكرناه فيما سبق أن زوال فرعون ليس بشيء، ولكن من سيخلف فرعون؟ أو بتعبير الآية "ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". والنموذج الأفغاني ليس ذلك النموذج الذي نرفع به رأساً، وبلد من هذا النوع يفضل للمرء فيه أن يحزم المرء حقائبه ويفر منه. وهذا يظهر مرة أخرى فكرة خرافة الدولة. والخلاصة إن هذا الغرام بإقامة دولة مستقلة، أو دولة إسلامية وهم كبير، و (النميري) في السودان وتحت اسم الدولة الإسلامية أعدم مفكرا صاحب مدرسة مثل محمود طه لآرائه، مما جعل الترابي يقلب يديه على ما أنفق في الانقلاب العسكري ويقبع في إقامته الجبرية، وكما يقول المثل العربي: "يداك أوكتا وفوك نفخ". حتى إذا خرج بدأ يكتب في الحريات وهو الذي وأدها.. وكان حظه أفضل ممن سبقه فما زال يحتفظ على برأسه بفضل الروح القبيلة. وفي مصر قتل حسن البنا من وراء أعمال التنظيم الخاص، كما اغتيل صلاح البيطار بيد الرفاق من نفس أبناء الحزب الذين تربوا عل يديه. ويقول مالك بن نبي أن مولودا لو خير أن يولد؟ هل سيختار أفغانستان فيمشي بعكازة خشبية أو يرى بعين واحدة. أو في اريتريا فيقتل في جبهات حرب بائسة. أو في بلد عربي فيقضي نصف عمره في أقبية الاستخبارات والنصف الباقي يرتعش خوفا على رزق عياله؟ أم يختار السويد حيث الضمانات؟ إنه سؤال ثقيل ومزعج ولا أحد يطرحه؟ ويحتفل العراقيون والسوريون ويهنيء بعضهم بعضا حينما ينال أحدهم الجنسية البريطانية أو الكندية. بعد أن لم يبق وطن ومواطنة، وبعد أن فروا من دولهم باتجاه العدالة والأمن والرزق، فهذا هو الوطن وهذه هي دولة الإنسان. هذه المسألة أشكلت على الفيلسوف (محمد إقبال) مع ضخامة فكر الرجل وبعد نظره، حينما دعا إلى تكوين دولة إسلامية في شبه القارة الهندية، وهو النموذج المشوه الذي ولد مع باكستان في قطعتين من الأرض بينهما بعد المشرقين، لتتمزق إلى دولتين باكستان وبنغلادش، بعد أن بنيت على أنهار من دماء ملايين القتلى، في عملية جراحية دموية من أجل إرضاء غرور سياسيين من نوعية (علي جناح)، يتربع فيها على عرش السلطة، وتطبع صورته البهية على الأوراق النقدية، ويفرش بين قدميه السجاد الأحمر في المطارات، وأن يلقب في كل مكان سيدي سيدي أو بتعبير الإنجيل " يعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي    سيدي" . إنه حلم قديم لكل السياسيين المغامرين من عشاق السلطة وبناة حكم الأسر الإقطاعية المسلحة. لقد انتبه (مالك بن نبي) إلى هذه الولادة المشئومة بحيث اعتبر أن خلق دولة  باكستان كان حاجزاً نفسيا أمام انتشار الإسلام في القارة الهندية، التي كانت في طريقها إلى التحول الإسلامي البطيء. يقول (بن نبي) أن (تشرشل) كان في طريقه إلى تحقيق هدف ثلاثي من وراء خلق باكستان: (حصانة ضد الشيوعية) و(حاجز نفسي أمام انتشار الإسلام في القارة) و(كسر فكرة أي اتحاد هندي). جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي):" لقد استطاع الثعلب الهرم أن ينشئ في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجراً صحياً ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضاً كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية أخرى، ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس، تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء ملايين الضحايا، من أجل هذا التحرير الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود". وهي طريقة بريطانيا المعهودة عندما تغادر منطقة ما، أن تخلق فيها خراجاً مزمنا على صورتين، فإما خلقت وضعاً من العشق لا يقاوم لبناء دولة كما في مشكلة كشمير. أو بناء دول خرافية كما في دولة إسرائيل. بحيث تجعل المنطقة تغلي في هذا القدر قرونا وينطبخ فيها العرب واليهود معا. ولكنه داء أصيبت به بريطانيا في مشكلة شمال أيرلندا كما يقول المثل العربي رمتني بدائها وانسلت. لقد أدرك  غاندي خطورة التقسيم، وأن التفاحة نضجت كفاية لتسقط في اليد، وأن كل التحدي هو في بناء هند جديدة بعد التخلص من بريطانيا، واقترح أن يتولى علي جناح منصب رئيس أول جمهورية في الهند المتحدة، ولكن جناح كان يحوم فكره في اتجاه مختلف يسيل له اللعاب أكثر. إن الغرام بالدولة قديم، وعشق القوة متأصل في القلوب، وفكرة الدولة تأسر القلوب بسحر لا يقاوم، ويظن المغفلون أنه مع بناء الدولة سوف يبدلهم الله بعد خوفهم أمنا وفقرهم غنى وذلهم رفعة، فحصدوا الديكتاتورية والفقر ومزيدا من التقسيم. وبنوا أصناما نووية أدخلت الفزع إلى كل بيت في القارة الهندية. واليوم يحلم الأكراد بدولة كرمنجية، فيستبدلوا طاغوت عربي بطاغوت كردي ومغص بصداع. وما حصل مع تقسيم القارة الهندية أنه كان عملية جراحية نازفة لولادة قيصرية مرعبة، فلم ينفصل كل المسلمون ـ لحسن الحظ ـ ويعيش اليوم في الهند أكثر من 100 مليون مسلم، كما لم يبق من انفصل في دولة واحدة بل انشطروا بسرعة إلى اثنتين باكستان وبنغلادش، بعد أن انتزعوا قلب مجيب الرحمن من صدره، والدور اليوم على باكستان أن تنشطر إلى دويلات، وبقيت قضية كشمير بدون حل معلقة غير مطلقة على شكل خراج مزمن كما أرادت بريطانيا لها قبل نصف قرن. ووقعت باكستان في قبضة جنرالات قساة، من خلال سلسلة محمومة من الانقلابات العسكرية. ونضحك ولا نكاد نصدق اليوم أن باكستان التي أنفقت آخر مليم من جيبها لإنتاج صنم نووي خذلها في يوم الفصل. والناس عادة يشترون السلاح ليفيدهم يوم الفصل، ولكن باكستان خافت على السلاح الذي صنعته يداها. فبدل أن يحميها السلاح تبين أنه يحتاج لحماية. إنها نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. وينطبق هذا القانون على (الشيشان) وغيرها. واليوم نرى الشيشان وقد تحولت إلى أنقاض ولا تحمل مقومات دولة، وتريد الانفصال لبناء دولة تشبه دولة الطالبان. ألم يكن أجدى للشيشان أن يبقوا ضمن إطار دولة عظمى يستفيدون من مزاياها، ويمارسوا المقاومة المدنية في حال وقوع الظلم. كما بدأته النساء في أول الحملة الروسية، وتفاءلنا به، لولا انتقال عدوى المتشددين ووباء السلفية الجهادية مثل أنفلونزا الطيور إلى هناك. هل الأفضل للإنسان أن يركب غواصة نووية روسية من نوع كيرسك أم حمارا في جبال القفقاس؟ إنه سؤال محرج مزعج ولكن قابل للطرح. إن الأرض لله. والله رب العالمين. وحيث العدل فثم شرع الله. والعبرة ليست في قيام كيان سياسي يحمل ثوبا إسلاميا ويمارس الديكتاتورية. فهذا قانون جوهري في ممارسة النقد الذاتي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كما أن هناك علاقة بين النفس والآلة، وعندما يعمد الإنسان إلى السلاح فيستخدمه ويحل له السلاح الإشكالية يتحول إلى عبد له مرتهن في قبضته. وعندما يحل المشكلة بدون سلاح يتخلص من القوة مرتين وبالاتجاهين، فهو لا يفرض آراءه بالقوة، كما لا يخضع للآخرين تحت ضغط القوة، فهذه آلية هامة في تحرير الإنسان، وهو ما فعله الأنبياء بتربية الإنسان الجديد في التخلص من علاقات القوة. وفي إضاءة هذه الفكرة عن مشكلة الدولة يمكن وضع مفاصل هامة في الصراع العربي الإسرائيلي. 1 ـ (أولا)ً: الصراع العربي ـ الإسرائيلي هامشي وجانبي والصراع العربي ـ العربي هو الجوهري والأساسي ظهر هذا واضحا في حرب الخليج الأخيرة عندما نسينا إسرائيل واصطف الجنود العرب بجانب الأمريكيين. 2 ـ  (ثانياً) إن التخلص من الحكم الإسرائيلي لا يعني شيئا، إذا تم استبداله بما هو أسوء. واستبدال طاغوت صهيوني بطاغوت عربي لا يزيد الأمور إلا سوءً. وهذا الشيء يصعب تصوره ولكنه وارد. وقيام إسرائيل بالأصل  لم يكن إلا نتيجة طبيعية وتحصيل حاصل لانهيار الجهاز المناعي العربي، وهذا الجهاز لم يتعافى بعد، وفي جعبتنا الكفاية من أسلحة التدمير الذاتية، وعدم احترام بعضنا البعض، أو التآمر على بعضنا البعض، أو الغدر ببعضنا، فنحن نعيش أزمة ثقة مروعة. وهذا هو السبب في وجود الديكتاتوريات في المنطقة بسبب فقد (قدرة تقرير المصير) عند الأمة، مما جعلها مستباحة، يمكن أن يعلو ظهرها أي مغامر جريء أو انقلابي لا يتورع عن سفك الدم. كما جاء الأسد وصدام والنميري والقذافي والسادات، وآخر من شكله أزواج، من الانقلابيين المغامرين، فالمشكلة ليست في هذا البعوض التعيس، بل المستنقع الذي يشجع تفريخ هذا النوع السام من الحشرات. واستمرار الأوضاع يعني أن الأزمة قديمة ومستحكمة وعميقة جدا بحيث تصلبت مفاصل العمل السياسي. وحتى يمكن للأمة أن تمشي وتتحرك على نحو طبيعي أمامها معالجات فيزيائية مكثفة، وعمليات ترميم وتصليح متواصلة لكل الأجهزة المعطلة عن العمل، كما يحصل مع مريض معتل بعلل مختلفة. وهناك الآن حرص على بناء دولة فلسطينية ولكن يجب أن نضع في الحساب أن الإنسان الفلسطيني يمكن أن ينتقل من سجن إلى سجن أبشع،  ومن عبودية إلى عبودية مع تبديل السلاسل والسيد. وخلال نصف القرن الفائت قامت ثورات حاولت بكل إخلاص نقل الأمة إلى التحرر فتكبلت الأمة أكثر، ونحن اليوم نعاني من نقص العافية أكثر مما كنا عليه قبل خمسين عاما؛ فالعالم يتقدم ونحن نتراجع. وفي الوقت الذي تضاعف دخل الكوري الجنوبي 13 ضعفا تراجع دخلنا 13 مرة بموجب إحصائيات المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي). 3 ـ (ثالثاً) إن أمامنا خيار أن نكون في حالة (لا حرب ولا سلم). كما لو دخل رجل فاحتل بيتا في حارة وقاطعه أهل الحي لحين حزم حقائبه والانصراف بسلام وبدون ضرب وحرب، بحيث نحول الورم الصهيوني كما يفعل  الجسم بضرب نطاق حوله (محفظة Capsule)، والفرق بين الورم الخبيث والحميد أن الأخير محاط بمحفظة كاملة. وفكرة مقايضة الأرض بالسلام معناه حسب التعريف الطبي السابق أن الجسم يكسر المحفظة من أجل السماح للورم بالانتشار في الجسم. والعرب ليس عندهم مشكلة نقص في الأراضي، وفكرة السلام مع إسرائيل قاصرة، وهناك احتمال واحد للسلام، عندما تتغير طبيعة الورم الصهيوني من السرطانية إلى الورم السليم. ويجب استيعاب حقيقة مرة أن إسرائيل اليوم هي رأس حربة العالم الغربي، فهم من زرعها وتعهدها بالسقاية والسماد ومازال، وهذه حقيقة ثقيلة، أننا نواجه العالم الغربي في صراعنا وليس دولة إسرائيل، رأينا ذلك واضحا بمدها بالجسر الجوي في ساعة العسرة. ومراجعة بسيطة في كتاب (خيار شمشون) لـ (سيمور هيرش) تعطيك النبأ اليقين عن الغرب الذي مكنها من تطوير السلاح النووي وملحقاته من الصواريخ. لقد تغير العالم ولم يعد كما كان سابقا في مواجهات الحروب الصليبية عندما كان يواجه طاغية طاغية، بل تحول اليوم إلى طاغية يواجه مجتمعا غربيا تغيرت طبيعته كلياً يحكم بإدارة جماعية أحكمت قبضتها على العالم بتكنولوجيا متقدمة ومؤسسات علمية ومصارف من المال تحوي أكثر من مال قارون. 4 ـ (رابعاً) وهناك من يعترض أن إسرائيل لن ترضى بهذا الوضع ولسوف تحاول الامتداد إلى الجوار ولذا يجب التسلح وإنفاق المليارات في الأسلحة المتطورة. ولكنها مصيدة فالسلاح من الغرب، ولا يعقل أن يبيعك خصمك سلاحا تستطيع أن تتفوق به عليه، طالما لم نتمكن حتى الآن من بناء القاعدة العلمية لامتلاك التكنولوجيا المتطورة. وفي كتاب (اليابان تقول لأمريكا لا) بقلم (شينتارو أيشيهارا) نعرف أن التكنولوجيا النووية لأمريكا متوقفة على الميكرو شيبس المصنوع في اليابان. والارتهان للسلاح المتطور ورطة، ويمكن أن يدمر خلال الساعات الأولى من أي مواجهة، وهو ما رأيناه في المواجهة بين الدبابات العراقية ت 72 وأبرامز الأمريكية في حرب 1991م . وفي جنوب لبنان لم تهزم إسرائيل بأسلحة متطورة وجيوش نظامية بل بأسلحة فردية وحرب عصابات، وخروج إسرائيل أيضا عليه إشارة استفهام بهذه الطريقة، كما أن من نجح ضد إسرائيل على فرض نجاحه لا يعني أنه سينجح في لعبة الديموقراطية فلا يستويان مثلا. وفي عام 2006 م فاز حزب الله في صراعه مع التمساح الصهيوني، ولكنه تحول بدوره إلى ديناصور لاحم فالتهم لبنان عام 2008م في مناورة ساعات؟ وإسرائيل غير حريصة على اجتياح الجوار، ولقد جربت حظها عام 1982 في دخول بيروت وتراجعت. ثم جربت من جديد عام 2006م فتدمرت لبنان ولم يتدمر حزب الله، مثل مقاومة السرطان بالمواد الكيماوية فيهلك الجسم وتبقى خلايا السرطان؟ واليوم ينتقل كل الصراع مع الجيوش العربية والجيران إلى داخل إسرائيل. ويجب أن نعترف أن المواطن العربي اليوم يستطيع تحت الحكم الإسرائيلي أن يخرج في مظاهرات، ويكتب ما يشاء، وينظم الأحزاب، ويضرب بالحجارة، ولكنه في العواصم العربية عاجز عن أي تظاهرة، بآلية مزدوجة من الخوف المتبادل، فلن تكون المظاهرة سلمية، والقمع سيكون دموياً من خلال عقلية عنفية مسيطرة على الطرفين. ولولا الحضور العالمي ما تغيرت المنطقة العربية. وهذه حقيقة بغيضة ولكنها حقيقة. ولا ينطق بها إلا قليل. 5 ـ (خامساً) بين أيدينا تجربة جنوب أفريقيا تقول أن النظام العنصري مات في النهاية، وحكمت الأكثرية السوداء، وجاء منديلا من السجن إلى الرئاسة، وهذا الشيء يمكن أن يحدث في فلسطين، وحسب دراسات (عبد الوهاب المسيري) سيشكل عدد الفلسطينيين ديموغرافياً الغالبية في المجتمع الإسرائيلي عام 2050 م، ولكن الكلام في هذا الموضوع حرام. ونحن نرى اليوم عرب 48 يدخلون الكنيست ويشكلون الأحزاب ويعترضون ويتظاهرون. بل إن بعض الإحصائيات أظهرت رغبة بعض الأقليات العربية عدم الانضمام إلى البلدان العربية، وتفضيل البقاء في إسرائيل حيث الرعاية الصحية وضمانات العمل والتعليم واحترام الإنسان. رغم التفريق العنصري، فالمسألة درجات كما نرى. إنها حقائق فاجعة ولكنها حقائق. وهو مؤشر عميق على أزمة الأمة الحضاري. 6 ـ (سادساً) لقد جربت الأنظمة العربية خوض حروب نظامية ضد إسرائيل انتهت في معظمها إلى كوارث، واليوم مع السلاح النووي لا يبقى في المنطقة إلا (خيار شمشون)، بمعنى أن الحرب انتهت بامتلاك سقف القوة، وأي مقاومة مسلحة داخل فلسطين سيكون حظها أضعف من حظ الأنظمة العربية في النجاح، مما يؤكد خيار المقاومة المدنية. ويجب التفريق بين حالتين: الجنوب اللبناني حيث نجحت المقاومة المسلحة ضد أفراد غرباء يعيشون وسط أمة ولا يعتبرونها أرضهم، وبين أمتين متداخلتين في الجوار كما هو حاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين مما دعا ياسر عرفات في يوم تشبيه الوضع في جمعية الأمم المتحدة في خطابه المشهور أنها حالة تشبه تلك التي عرضت على النبي سليمان حينما ادعت امرأتان ملكية ولد واحد فاقترح أن يقطع الغلام إلى نصفين وتعطى كل أم شق منه. فصرخت الأم الحقيقة إنه ليس ولدي لا تقطعوه. فما كان من صاحب الحكمة نبي الله سليمان عليه السلام إلا أن أعطى الأم المشفقة الغلام. وأمامنا الآن النظر في هذه المسألة من جديد للتفريق بين الحكومة الدينية والحكومة المدنية،  ونعرف من التاريخ أنه في شتاء 1979 م انفجر الطلبة في فبراير (بهمن) من عام 1979 م  بالثورة الإيرانية ضد الشاه فقمعها بكل سبيل ولم يفلح. وأسس الخميني دولته الدينية. وفي يونيو 2003م انفجر الطلبة في طهران بمظاهرات ضد الحكومة الدينية فتم قمعها كما فعل الشاه من قبل. هذه المرة باسم الدين. واعتبرت الحكومة الدينية أن أولئك الطلبة مارقون يحاربون الشريعة. وفي لحظة تحول من قاوم الاضطهاد إلى جلاد. وهذا الانقلاب في الأدوار سنة كونية. كما في قصة طالوت وجالوت. واليوم يمثل دور داوود صبي الانتفاضة. وجالوت التنين النووي الإسرائيلي. وبقدر اضطهاد المسيحيين في الكولسيوم في روما وحرقهم وإلقائهم إلى الأسود. فقد فعلت المسيحية بخصومها ما هو أفظع مما فعلته روما بالمسيحيين. وهذا القانون النفسي يقول إن جرثومة الاضطهاد تنقل عدواها من طرف إلى طرف. بحيث يتم تبادل الأدوار من حيث لا يشعر أتباع الأنبياء ومقلدي الأفكار العظيمة. ولعل أعظم فتح وصلت إليه الديمقراطيات الحديثة هي وجود المعارضة والحكم في نفس الوقت تتبادل نقل السلطة السلمي. مثل دعسة البنزين والفرامل في السيارة. وأعظم ما فعله  الآباء الأمريكيون أن حددوا فترة الرئاسة أربع سنوات ولا تزيد عن مرتين ولا عودة بعدها. مقابل سبع سنوات في الشرق المنكود تتكرر حتى موت الرئيس أو اغتياله. واليوم تشكو المعارضة العربية من سوء حقوق الإنسان تحت بعض الأنظمة ولكن لو كانت محل الحكومة فلن تتغير الصورة. فهذه قوانين اجتماعية مثل الضغط الجوي وتبخر الماء بالحرارة. وعندما نجحت الثورة الإيرانية فإنها لم تقل للناس اذهبوا فأنتم الطلقاء بل استفتحت العهد الجديد بسلسلة لا نهاية لها من الإعدامات خلدها الخلخالي بمنظره الكاريكاتوري في محاكم هزلية باسم الشريعة . وفي فبراير من عام 1981 كنت في زيارة لطهران بمناسبة الذكرى الثانية للثورة فسألت إبراهيم يزدي عن الإعدامات التي لا تنتهي فاعتبر سؤالي (رأسماليا) مضادا للثورة. وقبل سقوط تشاوسسكو بأربعة أيام كان في زيارة طهران. وهكذا طرد الشاه من إيران ثم عاد فدخل بعباءة وقفطان ولحية. وفي السودان نجح الترابي في إقامة خلافته الدينية ولكن الحصان العسكري الذي جاء به إلى السلطة جمح به فكاد أن يدق عنقه. وهو الآن يكتب مخطوطة كبيرة في السياسة والحكم في الإسلام بأن الحريات هي أم القضايا بعد أن قضى على الحريات. وفي أفغانستان حكم الطالبان فوأدوا المرأة وقتلوا المخالف وحطموا الأماكن الأثرية بدعوى الأصنام ومشى الناس على رؤوسهم إلى الخلف. كل ذلك تم باسم الحكومة الدينية. وفي العراق كتب صدام على العلم العراقي الله أكبر ولم يكن في العراق من إله إلا صدام. وهو أمر صادم ولكن هذا ما يقرره القرآن، فيوسف قال لمن كان معه في السجن اذكرني عند ربك، ولم يكن سوى نظير صدام. ومن لم يصدق هذه الحقيقة الصادمة فليجرب حظه في أي عاصمة عربية أن يتعرض لرئيس البلد ثم الله، ليعلم أيهما أسرع في أن تمتد إليه يد المخابرات بالاعتقال والضرب والإهانة. فهذه تجربة ميدانية لنعرف الله الحقيقي، والوثنية الفعلية التي دلف إليها العربان في عالم الأوثان. وفي الجزائر ذبح أكثر من مائتي ألف بالسواطير والسكاكين بدعوى الجهاد لإقامة حكومة دينية. وعندما نشب الصراع بين محمد ذي النفس الزكية وأبو جعفر المنصور ساق كل طرف كل الأدلة العقلية والقلية أنه صاحب الحق في الخلافة. والذي حسم الصراع كان السيف فكان أصدق من كل الأدلة العقلية والنقلية. وفي سوريا تم توزيع منشورات سرية بفتوى من ابن تيمية بجواز قتل النصيرين بأي سبيل فهذا أقرب للتقوى. مما دعا السلطة إلى إصدار بلاغ بإلقاء القبض على ابن تيمية؟ وفي عام 1980 جرت محاولة لاغتيال رئيس الجمهورية في سوريا مما جعل النظام يتورط في قتل ألف معتقل سياسي وهم في عنابر السجن فهذا أدعى للأمن. وكما نرى فالكل يستحم في نفس العين الحمئة من نجاسة الدم المسفوح. كل هذا الصراع يدور حول تأسيس الحكومة الدينية، ولكن هل الحكومة المدنية تتعارض مع الإسلام؟ وهل أثبتت الحكومات التي رفعت الشعارات الدينية جدارتها ونجاحها في عالمنا المعاصر؟ وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟ هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تاريخية وسير في الأرض لرؤية المكاسب والخسائر التي جلبتها للناس. فمن الواضح رؤية المشهد الدامي عبر العصور لأتباع الأنبياء وهم يتقاتلون وكل حزب يريد إقامة حكومته الدينية. ويدعي أن كل ما عداها باطل يجب محوه. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" لماذا يقتتل أتباع الأنبياء؟ في البداية كان الناس يقتتلون على الطعام والمال والأرض والنساء. والقرآن يذكر أول حادثة قتل في تاريخ البشرية لأنه لم يُتَقَبل منه قربانه. فالسبب هو الإحباط والنقمة لما نزل به من فضيحة دينية حيث كشف عدم صدقه في التقرب إلى الله. وأن شعاراته الدينية كانت هزيلة وزائفة. وكثير من الدول المستكبرة الآن على مذهب قابيل ترفع الشعارات الطيبة وأحياناً الدينية وتقتل من يحاول كشف زيفها. ثم جاء بنو إسرائيل وأقاموا دولتهم الدينية على الجماجم والدماء وصوروا إلههم أنه الجبار الدموي الذي لا يرتوي إلا بحصد دائم للبشر. وحتى سليمان يخدم ربه بهذا الأسلوب "فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها" وجاء عيسى فتبرأ من كل هذه المجازر ونادى بالحب والتزم أتباعه في البداية بالحب والرحمة وبشروا أن مملكة الرب في السماء. ولم يهتموا بإقامة حكومة دينية على الأرض. إلى أن جاء قسطنطين وعقد مجمع نيقية لعلماء النصارى. ثم أصبحت النصرانية التي حددها المجمع هي دين الدولة وكل ما عداه خارج على الدولة ويجب تصفيته ومنها فرقة آريوس. وأصبح الناس يقتُلون ويُقتَلون باسم الحكومة الدينية. وقصة أصحاب الأخدود مثال على ذلك من تحريق الناس في نجران. وجاء الإسلام وأنشأ دولته في المدينة وكانت دولة راشدية هي الحكومة الدينية الأولى التي لم تقتل الناس من أجل دينهم وأفكارهم. ومع ذلك فقد قتل اثنان من الراشدين أي نصفهم ربما بسبب الاختلاف القبلي. وكانت الفتوحات في البداية حرب تحرير للإنسان من الظلم. ثم دخلها الطمع في الغنائم. ثم انفجرت الحروب الصليبية لتعرض علينا مقدار شناعة الحروب الدينية وأن تحت الشعارات الدينية مطامع دنيوية كبيرة. ولكن أتباع الأنبياء كانوا يظنون باستمرار أن الله يأمرهم أن يقاتلوا الآخرين ويفنوهم من الأرض كي يمنحهم أرضهم وديارهم وأموالهم مكافأة ومغانم. فهل أمر الله فعلاً بتصفية الكافرين؟ لماذا قال لنا إذن "لا إكراه في الدين"؟ لا بد من دراسة آيات القتال في القرآن دراسة تاريخية ضمن ظروفها وملابساتها فلكل مقام مقال، ولكن العالم الإسلامي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ لأنه عجز عن هذه الرؤية التاريخية. فهو يلغي "لا إكراه في الدين" و"ادخلوا في السلم كافة" و"كفوا أيديكم" و"كلا لا تطعه واسجد واقترب" و" فأعفوا واصفحوا" و"ادفع بالتي هي أحسن" و"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم". والقرآن يقول إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون" ويقول "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" ويقول لمحمد ص "وان احكم بينهم بما انزل الله". هل يعني ذلك إقامة حكومة يهودية لليهود ونصرانية للنصارى ومسلمة للمسلمين؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا في بلد واحد يضم مواطنين من الأديان الثلاثة؟ إن تاريخ أوربا منذ الحروب الصليبية حتى الآن يعرض باستمرار الحروب الدينية بين المذاهب المختلفة وحتى في الدين الواحد. وانظر إلى ما جري حتى الآن بين بريطانيا وايرلندا. فكل طرف يريد أن يجعل الحكم لمذهبه وكل حزب بما لديهم فرحون. والآخر هو الشيطان. والصرب انتقموا مما فعله الكروات بهم عام 1941م حين قتل ثلاثمائة ألف من الصرب. فهل يعقل أن ينزل الدين من السماء ليكون سببا دائماً للقتال بدلا من أن يكون رحمة للعالمين؟ من الواضح أن المآسي علمت الشعوب الأوربية  أن تعيد النظر وتفكر في مصالحها وما ينفع الناس بعيدا عن المذاهب والنعرات الدينية. وتركت لكل إنسان حريته في الإيمان بما يشاء من الأديان. ولكن المتحمسين من المسلمين يقولون: لكن الحكومة الإسلامية مختلفة عن ذلك إنها ترفع الظلم عن الناس وتمنحهم الأمن والعدل؟ والسؤال من هي الحكومة الإسلامية؟ أهي السلفية أم المذهبية؟ أهي السنية أم الشيعية؟ أهي التي ظهرت في بنغلادش أم أفغانستان وإيران؟ أما من سبيل لإيقاف هذه المآسي والمجازر التي ترتكب باسم الدين وطلبا لرضى الله.  وكل ما يجري في العالم الإسلامي يقول كل حزب بما لديهم فرحون. ولكن الله غير حزبي ولا يتحزب. ولا بد من الانتباه إلى أن الحكومة المدنية تسمح بالمعارضة وبوجود أحزاب متعددة تقدم أكثر من رأي حول الموضوع. أما الحكومة الدينية فإنها تعتبر المعارضة والاختلاف معها خروجا من الدين وكأن الذي يعترض عليها يعترض على الله. لأنها تعتبر نفسها تمثل حكم الله. وفي قول للرسول ص وهو يوصي الصحابي أن "لا ينزلهم على حكم الله بل على حكمه فإنك لا تدري هل يوافق حكمك حكم الله" سيقولون الله أمرنا بأن نحكَّم شرع الله؟ حسناً ولكن ما هو "ما أنزل الله؟ إنه "لا إكراه في الدين" فهذا الآيات وأمثالها تمثل مباديء قرآنية يسميها علماء الشريعة مقاصد الشريعة. وهي مباديء لا يرفضها أحد من الناس مهما كان كافرا. فلماذا لا يدعى الناس على اختلاف أديانهم إلى حكومة تتبنى هذه المباديء ويتولى شئونها مخلصون متخصصون في السياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة النفسية والجسمية. وتكون الحكومة مسئولة ومحاسبة أمام شعبها عن صلاحيتها وأحكامها. ويترك كل  إنسان ليختار من الأديان ما يشاء مع ضمان حرية الرأي وحرية الدعوة للأديان. إن الحكم بهذه المباديء سيكون حكما بالإسلام وبكل الأديان السماوية. إن دارس قصة الحضارة يتأمل في المذاهب والأديان التي تتالت على البشرية فيجد أنها اتفقت على أساس كبير واحد أن "تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟" والإسلام قال: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. أي أن نكون جميعا سواء و لا يكون أحد منا فوق القانون. قالوا باستغراب ولكن أهل الكتاب هم أهل ذمة وعليهم دفع الجزية "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" وهنا مشكلة كبيرة نعاني منها وهي العجز عن الخروج عن القوالب التاريخية التي فات أوانها. وأن هناك آيات تمثل حالة (الطوارئ) كما دفع العراق تعويضات اجتياح الكويت عن يد وهو صاغر. وكما فعل القذافي بعده، وهناك من العلماء العاصرين من تكلم عن الموضوع وقال:لم يعد هناك أهل ذمة وأصبح الجميع مواطنين لهم حقوقهم ويدفعون الضرائب لتحقيق الضمانات لهم لرفع مستوى بلدهم". إن أجمل تعريف للشريعة وضعه ابن قيم الجوزية حينما اعتبر أنه" فحيث العدل فثم شرع الله" وعندما نرى محاسبة توني بلير من مجلس العموم البريطاني في صيف 2003م على التورط في حرب العراق بمعلومات كاذبة في الوقت الذي يستعطف مواطنون عرب حكوماتهم أن يمنحوا أولادهم من الجيل الثالث جوازات سفر يصبح السؤال الجدي أين شرع الله؟ إنه سؤال مزعج ولكن لا بد منه؟
اقرأ المزيد
جماعة الدعوة والتبليغ
لعل أعظم تجمع للمسلمين على وجه الأرض ليس في مكة، وهو أمر مستغرب للقاريء ولكنها الحقيقة وهو مايحدث في الهند وباكستان وبنغلادش، وفي أي عام ترى تجمعا خرافيا يضم أربعة ملايين مسلم في صعيد واحد، على مساحة 160 فدان،  بما يزيد عن عدد المسلمين في موسم الحج، مثل منطقة (تونجي) على ضفاف نهر (توراج) خارج العاصمة (دكا)،  في المؤتمر السنوي لـ (جماعة الدعوة والتبليغ) الإسلامية في (بنغلادش) حيث يقيمون صلاة من اجل السلام والأخوة الإنسانية. وهذه الجماعة ليست ناشطة سياسياً ولذا لم تناسب الذوق العربي تماماً. وأهم ما يميزها ثلاث: نبذ كل صور العنف، وتجنب السياسة، واعتماد العمل التربوي، لتغيير واقع المسلمين من خلال إحياء وظيفة المسجد، والخروج في سبيل الله والبساطة في الحياة والخلق الحسن، ونشاطهم يشمل النساء أيضا ويسمين بالمستورات. وهي مقابل الذبح الذي يمارسه المتشددون الأصوليون يحكي فكرة (النماذج الإسلامية). ؛ فهناك نماذج من (جماعة الدعوة والتبليغ) و(الوهابية) و(الصوفية) وفرق (التشيع) و(الإخوان المسلمين) و(حزب التحرير) وعشرات التشكيلات التي تفوق العد،  وكلهم يقول أنه على مذهب السنة والجماعة. وكما يقول (ابن تيمية) أن لكل واحد سنته وقرآنه، وهناك من يدعي أنه حزب الله. والله غير حزبي ولا يقيم وزناً للحزبيين. وبعد أحداث سبتمبر   طلب (مشرف برويز) حاكم باكستان العسكري من الجماعة (الدعوة والتبليغ) أن لا تعقد اجتماعها وكان جواب رئيس الجماعة (جمشيد) نحن نقدر الظروف الدولية وجو الحروب ولكننا نؤمن بالسلام وندعو إليه، وتاريخنا في نصف قرن يشفع لنا، وقد تركنا لكم الدنيا فاتركوا لنا الدين. وعقدوا اجتماعهم السنوي بهدوء وسلام مثل ما يفعلونه منذ 57 سنة. ويصلي في هذا اللقاء عادة قرابة ثلاثة ملايين من الناس بإمام واحد وبتنظيم مدهش. أما في بنغلادش فيصلي في صعيد واحد أحياناً سبعة ملايين من العباد فتخر الجباه لرب العالمين. ومن تعاليمهم ترك ما لا يعنيك وعدم التدخل في وحل السياسة، وهي حكمة بليغة. وهم يتصرفون هكذا ليس سذاجة بل لمعرفتهم حاجة العالم الإسلامي إلى الدواء الأخلاقي. ولذلك فهم يعنون بالصقل الروحي وتهذيب الناس بفلسفة عملية أكثر من المحاضرات النظرية. فهم يصطادون الناس في كل العالم، ولهم مراكز في كل عواصم العالم تقريبا، وإن اجتمعوا بأحد عرضوا عليه الخروج في سبيل الله فيتعلم منهم بالصحبة، ولا يسألون الناس إلحافا، ولا يسألون الناس أجرا، ولا يمدوا أيديهم إلى جيوب الناس عفة منهم. وفي يوم اتصل بهم رئيس الدولة الباكستانية الأسبق (نواز شريف) في هدف منه لإصلاح الجهاز البيروقراطي فقال لرئيسهم حبذا لو استبدلت 800 من كبار الموظفين من عندي بعددهم من جماعتكم أضعهم في هذه المراكز الحيوية حتى يتبدل دم الدولة. قالوا له نقترح عليك ما هو أفضل: أن يخرج المذكورون معنا في سبيل الله أربعين يوما فيرجعوا وقد زكت قلوبهم وتغيرت أخلاقهم وأصبحوا منا ومنكم فلم يخسروا وظائفهم ولا نحن تسلطنا عليها. وفي يوم كانوا في باريس فقام اثنين منهم بزيارة لشباب عرب من الخليج قد ملوا الوعظ الديني فطرقوا عليهم الباب فلما رأوا اللحى ارتعبوا وصدوهم وقالوا قد شبعنا من كلامكم ولا نريد المزيد. فلما كرروا الطلب غضب الشاب العربي وبصق في وجه أحدهم واحكم رتاج الباب. فما كان من الثاني إلا أن طرق الباب من جديد فقال له العربي والآن ماذا تريد؟ قال أن تبصق في وجهي كما بصقت في وجه أخي فنتعادل في الثواب. فخجل الرجل منه وجلس معهم ثم خرج معهم ستة أشهر وكان مبتعثاً لدراسة الكيمياء في فرنسا. فعاد لدراسته وهو أنشط وقد تحلى بالتواضع وحب العلم والخلق الزكي. وفي الواقع فإن حاجة العالم إلى هذه الطهارة الروحية والخلق الزكي حاجة ملحة أمام التشدد والجلافة والخشونة، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. إنهم يحيوا الروح، ويعيدوا الذاكرة المنسية، ويستنهضوا الأعماق الخفية من طاقة الروح المخبأة في كل منا. وجماعة (الدعوة والتبليغ) يعرفون تماماً أن تأثير الأنبياء على الناس لم يكن نظرياً بل من خلال فلسفة عملية، وهذا السر في انتشار مبادئهم لأنهم يقومون بإحياء الإنسان، أو كان ميتا فأحييناه. ونحن نعرف من الكهرباء أن التيار إذا انقطع أظلم البيت وتوقفت الآلة عن الحركة. وكذلك كهرباء الروح فعندما تتعطل يموت الإنسان  فترى ذلك في وجهه قطعاً من الليل مظلما، وعندما تتفعل  ينشرح الصدر بالإسلام فهو على نور من ربه. وعندما كان عيسى بن مريم يعظ الناس يوم السبت جاء اليهود (الحرفيون) فقالوا أنت تخالف التعاليم الدينية ومحرم علينا العمل يوم السبت. قال لو أن خروفا سقط يوم السبت في الماء وأشرف على الغرق ألا يسعى أحدكم في إنقاذه ؟ قالوا بلى قال فهؤلاء الضائعون أولى من الخرفان. وفي يوم كان المسيح جالسا مع جماعة المباحث ورجال الدولة الرومانيين يعظهم فاستهجنوا تصرفه وقالوا إنه يجلس مع الخطاة. قال لهم من أحوج للعلاج الصحيح أم المريض؟ قالوا بل المريض. قال فهؤلاء مرضى وهم  أحوج للعلاج. ويروى عن (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر أنه بدأ نشاطه بالوعظ بالمقاهي وكانت الدفعة الأولى من أنصاره من رواد المقاهي. وفي عام 1980 م كنت في زيارة لمصر فاجتمعت بـ (فتحي رضوان) فروى لي أن البنا كان عازماً على سحب الإخوان من حقل السياسة وإدخالهم إلى بستان من التربية الروحية فقط، وأن الإخوان بهذه سوف يمدون عالم السياسة برجال نظيفين، أما نفس الجماعة فستكون على غرار (الدعوة والتبليغ) تخصب الأرض الإسلامية بالنظافة الأخلاقية والروح العملية وحب الإنتاج، وهو ما يذكر بشروط التغيير التي طرأت على أوربا مع الإصلاح الديني. ويروى عن الشيخ (المالنبوري) من جماعة الدعوة والتبليغ في الهند أنه بلغه يوماً خبرا عن رجل ارتكب المحرمات ومارس الفسوق وعكف على الخمرة. قال لمن حوله لقد ألهمني الله أن أزوره وأكسبه إلى فريق الصالحين فماذا أنتم فاعلون؟ قال من حوله: نخاف الرجل على أنفسنا. فما زال يسألهم واحدا واحداً والكل متخوف وممانع. فلما يأس منهم قال إني ذاهب فاتبعوني. فلم وصل إليه قال له اخرج معنا. قال بشرط. قال ما هو؟ قال خمرتي لا أفارقها وأنا حامل منها عبوتين. قال له: قد قبلنا شرطك. ولكن لنا نحن شرط؟ قال و ما هو؟ قال أن تأتي إلى المسجد وتترك أوعية الخمر في دورة المياه. قال قد قبلت. فلما جاء الرجل استقبلوه بحب وترحيب وأكرموه جدا فخجل من نفسه فلما سمع الكلام انقلب الرجل وتاب. ومن قواعدهم الجوهرية ستة أمور: التوحيد، والصلاة مع الخشوع، والعلم مع الذكر، والتواضع، وإكرام المسلمين، وإخلاص النية. وينقل عن العالم (المالنبوري) أن الرجل التائب بعد ذلك قام في ظلمة الليل فبكى وسالت دموعه كالميازيب؛ فوقف خلفه الشيخ وهو يقول: إن رحمة الله مركزة فوق الرجل فلعل القليل أن يصيبني منه، وهذا القليل ليس بالقليل. فهذه هي أخلاق العلماء من الرحمة والحب والإنسانية. إنهم أمل الجنس البشري فبهداهم اقتده. إن الهند على ما يبدو خزان روحي وهناك تمثل وإفراز لكل مبدأ حسب طبيعة المنطقة، والصحراء ليس فيها ياسمين وزنبق بل شوك حاد وأثل وخمط وشيء من سدر قليل. وكذلك الأفكار والدعوات، وعندما يسلم الياباني فلن يكون مثل إسلام رجل من راوندا، وهذا ليس ميزة لهذا أو عيبا لذلك ولكنها طبيعة المنطقة وكيف تخلق الناس، وفي الحديث تجدون الناس معادن مثل معادن الذهب والفضة. وفي الهند حصلت معجزة انقلاب الملك آشوكا من مجرم إلى قديس في عام 273 قبل الميلاد. فأغلق سجنه المدعو جحيم آشوكا الذي لا يخرج منه أحد حياً. وبدأ في حملة بناء المدارس والمشافي بما فيها مستشفيات للحيوانات. ونطق القانون كما يقول المؤرخ (ديورانت). وبنى 48 ألف مركز ثقافي وأرسل اعتذارا عجيباً لقبيلة (كالنجا) وأعاد إليهم أراضيهم التي سلبها منهم. وآمن بالسلم وسيلة لحل المشاكل بين البشر وكف عن شن أية غارة أو حرب مع الجيران أو داخل بلده. وبدأ بنشر تعاليم الرحمة وأوصى موظفيه أن يعاملوا الناس بالحب والمرحمة مثل أبناءهم. فترك ذكراه العطرة في التاريخ وانتشرت البوذية بفضله من سيلان إلى اليابان شاهداً على أثر السياسة في المذاهب.
اقرأ المزيد
الشحرور ومنهجه، المناهج المعرفية للوصول إلى الحقائق
ويبقى طريق الوصول إلى الحقيقة صعبا وعرا أرسل لي الأخ المغربي اليوسفي أن الشحرور صاحب منهج اللغة للوصول إلى المعنى في القرآن أنه فارق الحياة في أبو ظبي، تحديدا حيث المركز الاستراتيجي للحرب على الاتجاهات الإسلامية، وحيث تنفق الأموال لقتل الربيع العربي، ودعم حفتر الانقلابي خليفة المقذوف القذافي. لقد راسلني أيضا أخ فاضل يقول أنه وقع اخيرا على كنز معرفي في 43 حلقة لرجل يدعي وصلا بالحقيقة، وأنه فكك جوهر القرآن فوصل إلى لبه، ووضع يده على مخ الحقيقة خالصة، وأن أسرار القرآن باحت له بتفاصيلها؟ ومثل هذا الأدعاء سمعته منذ ان كنت صغيرا، وأذكر أنني رجعت يوما إلى البيت طفلا ووالدتي تصرخ فرحا أن الشيخ محمود رأى النبي ص في منامه وهو ينذر أمته من شر قادم، وأن الحل في سورة الأنعام، والدليل هو شعرة من لحية النبي ص. قالت أمي وهي تقلب القرآن التركي بين يديها، حيث لم تكن تعرف العربية، وتقسم بالله وهي تشير إلى بقية من ندفة صوف أنها شعرة النبي لاريب فيها، كانت رسالة الشيخ محمود مكونة من صفحة من مزاعم يقول فيها أن أعظم الفضل هو كتابة مائة نسخة منها وتوزيعها على كل من يعرف، وينصحه باستنساخ مائة، فيعم الفضل ولا يبق بيت حجر ومدر ووبر إلا ودخلت عليه نصيحة الشيخ محمود الذي رأى النبي ص في المنام. ولو كان في أيامنا لصور منها مائة ألف أو يزيدون. ومثل هذه القصص كما في قصة الأمام الذي اختفى في السرداب قبل ألف عام، أو المسيح الذي قفز إلى السماء فأتباعه يحتفلون كل عام بحمل الصليب إلى جبل الجلجثة مع الموسيقى الحزينة، أو الشيعة وهم يلطمون أنفسهم كل عام بالسلاسل والناس تزعق واحسيناه؟ ثم يتوجهون إلى قتل أولاد يزيد السوريين في درعا والغوطة. والحاصل تأتيني الرسائل واليوتيوب كل يوب عن مزاعم كثيرة وأنبياء كذبة ودجالين رائعين، ومشعوذين فنانين ومهرطقين مردة يعتلون صهوة البيان في المحطات الفضائية، ويبقى طريق الوصول إلى الحقيقة صعبا وعرا. أذكر من الأنجيل فقرة يقول فيها المعلم ما أرحب الطريق الذي يقود إلى الهلاك وكثيرون يسلكونه، وما أضيق الطريق الذي يقود إلى الخلاص وقليل من يسلكه، نرجع إلى الشحرور الساحر اللغوي الجديد وهو يفسر قصة نوح فيخرج منها بأشياء عجيبة مثل أن من ركب السفينة كانوا فريقين كفرة ومؤمنين!؟ ولكن كيف والقصة كلها تقوم على أن نوح قال لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا؟ هنا يأتي الساحر اللغوي فيلعب بالفقرة القرآنية ويقول تأملوا هذه اٍلآية؟ و(أهلك) إلا من سبق عليه القول ومن آمن. (مات وهلك إلا من آمن ومن سبق عليه القول أي لم يؤمن؟!) يقول الرجل ـ عفوا اللاعب في سيرك اللغة ـ ليخرج أرانب بيضاء من القبعات السوداء. نحن هنا أمام فقرة واضحة ان من ركب السفينة مع نوح بعد أن هلك من هلك، هم من سبق عليه القول، ومن قد آمن. هنا نحن أمام كلمة (أهلك) بمعنى الهلاك والفناء؟ وإلا بمعنى عائلتك ومن حولك؛ فإن لعبنا بالكلمة لغويا فيمكن أن نخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، ولكن السياق كله يقول أن نوح دعا الرب وكلفه بأن يبني سفينة تنفع يوم الطوفان فيمسح المجتمع الوثني من وجه الأرض. أسئلة ملحة عن نوح، ليس القصد منها نوح، بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق، بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة؟ والنموذج الذي بين يدي يشكل طريقتين منفصلتين للوصول إلى الحقيقة  مجسدة في قصة نوح والطوفان؛ الطريقة الأولى هي توليد الحقائق من الألفاظ، والثانية الوصول إلى درك الحقائق من البحث في الأرض والتاريخ والوقائع. نموذج هذا ما طرحته أنا عن قصة نوح والأبحاث الأركيولوجية، والثانية الطريقة اللغوية التي اعتمدها محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) من تفكيك النص القرآني، وبناء الحقائق من اللغة. والآن إلى المعمل والعمليات، فمتى حدث الطوفان؟ وأين حدث الطوفان؟ هل فعلا عم الكرة الأرضية كلها؟ هل من دلائل آركيولوجية وأنثروبولوجية وبالينتولوجية عن ظروف حدوث مثل هذا الطوفان الذي لم يبق ويذر؟ هل من المعقول أن نوحا حمل على سفينة متواضعة، ربما أصغر من سفن كولومبوس حيوانات الأرض جميعا؟ لماذا حدث الطوفان وما هي دلالته التاريخية؟ متى عاش نوح أنثروبولوجيا وكيف عاش أكثر من ألف سنة؟ ثم ما هي طبيعة الصراع الذي نشب بينه والمجتمع المحيط به؟ كل هذه الأسئلة أضعها تحت المجهر ليس فقط من أجل القصة؛ بل من أجل المناهج المعرفية للوصول إلى الحقيقة. أقول هذا لأنني منذ زمن اطلعت على كتاب الشحرور في أول صدروه (الكتاب والقرآن) حين تعرض لموضوع القصص القرآني، وكيفية الدخول على الحدث التاريخي لتفكيكه؟ وهو ما نسميه في علم الجراحة المدخل أو الأداة (Approach) فالدخول لاستئصال الزائدة الدودية، تتم بمشرط وملقط ومبعِّد وخيط، ويتم الدخول عليها من شق مك برني (Mc Burney) وهي في الزاوية السفلية اليمنى من البطن. كذلك الحال في الدخول على الأنورزما الوعائية، فهذه تحتاج ما ذكرنا بالإضافة إلى وسائل تشخيصية معقدة، و(جرافت) أي شرايين صناعية. كنت في زيارة إلى مدينة (الدمام) في السعودية حين اجتمعت بأخوة أفاضل تناقشنا فيها حول مداخل (المناهج للوصول إلى الحقيقة) أو لنقل بكلمة أدق محاولة الاقتراب من الحقيقة. أنا أعرف الشحرور، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي، ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون. ولأن الشحرور الشامي لم يعد نكرة، بل يؤسس لفكره هنا وهناك، وجب شرح نظريته إنصافا له. أنا أعرف الشحرور شخصيا، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي، ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون. ولأن الشحرور الشامي لم يعد نكرة، بل يؤسس لفكره هنا وهناك، وجب شرح نظريته إنصافا له. والرجل يخرج على الفضائيات من حين لآخر، بل هناك من ذهب إلى اعتباره أنه المجتهد 14، وأنه صاحب المذهب السادس الجديد؟ وسمعت أنه طُلِب من الكونجرس الأمريكي لشرح رسالته، كما أن الاستخبارات السورية رأت فيه منافسا ممتازا للأصوليين الذين يناجزونهم بقوة السلاح، فيأتي ضمن اللعبة السياسية إن شاء أو أبى، من حيث علم أو جهل. والمهم فالمدخل الذي دخله الشحرور على قصة نوح ينتهي فيها إلى أمور لطيفة، وكثير من (التناقضات) يتعجب منها الإنسان كيف وصل إليها هذا الرجل الذكي، ولكن كما يقول ديكارت: (أن أعظم النفوس يمكن أن ترتكب أفظع الرذائل فليس من أحد محصن؟). والموضوع كما يقول ديكارت إنه لا يدور حول ذكاء وغباء، بل كيف نوجه عقولنا، ومنه وضع هندسته العقلية بعنوان (المقال على المنهج)، وقال أنه مفيد حتى للأتراك؟ على العموم فإن النتائج هي التي تحكم على الأفكار والمدارس والمناهج. إن أخذ عينات من مفكر وكتاب أمر جيد، كما في أخذ عينة دم بسيطة من مريض مصاب بالتهاب كبد وبائي من نوع سي (Hepatitis C ). مرة أخرى أكرر مع أرسطو قوله لأفلاطون: أنت عزيز علي ولكن الحقيقة أحب ألي. أو هكذا نزعم؛ فالحقيقة النهائية هي عند الرب، ونحن باجتهادنا قد نقترب من الحقيقة شبرا أو نبتعد قدر أربعين خريفا. وينقل عن (ليسنج) من فلاسفة التنوير قوله: لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه، والشوق إلى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر؟ إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت: يا رب بل التي في يسراك فالحقيقة المطلقة هي ملك لك وحدك لا شريك لك. وينفع في هذا أيضا قول (آينشتاين) عن الحقيقة أن التعرف عليها مرة واحدة لا يكفي بل يجب غربلتها دوما فقد تكون زيفا كاملا! إن الحقيقة على فرض وجودها تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء والمهدد في كل لحظة بالغرق في عواصف الرمل، وما يبقيه ملتمعا في هذه الصحراء هي الأيدي التي لا تمل ولا تكل وتنفض عنه الغبار باستمرار. إنها فلسفة اكتشاف الحقيقة وصقلها المتكرر فالحقيقة قوة حيوية وليست كماً جامداً كما ترون. هناك أسئلة ملحة عن نوح، ليس القصد منها نوح، بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق، بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة؟ والنموذج الذي بين يدي طريقتين منفصلتين للوصول إلى الحقيقة  مجسدة في قصة نوح والطوفان؛ الطريقة الأولى هي توليد الحقائق من الألفاظ، والثانية الوصول إلى درك الحقائق من البحث في الأرض والتاريخ والوقائع. كان أول عهدي بالرجل حينما اطلعت على كتاب الشحرور (الكتاب والقرآن) حين تعرض لموضوع القصص القرآني، وكيفية الدخول على الحدث التاريخي لتفكيكه؟ ومسألة الشقوق وهو ما أثار زوبعة ضده أن لاحرج على المرأة أن تخفي شقوق الثديين وهذا يكفي في اللباس. وكما يقول المثل خالف اعرف وهو أسلوب معروف حتى في علم السياسة والطب والاقتصاد. كان ذلك في منزل داعية اللاعنف السوري (جودت سعيد). ويومها علق سعيد على ماتحدث به الشحرور أن الخطأ يحق له أن يعيش، وأن يسمح لكل الآراء بالوجود والتعبير، وهو ما أكرره أنا ايضا من فتح الميدان لكل الاتجاهات، فقد اطلعت على أراء مفكرين مغاربة شتى اتخذوا العلمانية منهجا في حياتهم وطلقوا الملة والديانة والتدين، ولاحرج؛ بدون التصريح بذلك، وعلينا أن نحميهم من خناجر الحشاشين وقنابل الانتحاريين، كما حصل لفرج فودة في مصر حين سئل الغزالي عنه فأيد مسألة قتله لأنه مرتد، ويجب تطبيق حد الردة عليه بيد الدولة فتقص رقبته، ومن قام بقتله فقد (افتئتوا على حق الدولة) على حد تعبيره. لقد اطلعت على ماكتب الشحرور ونصيحتي أيضا لمن يرد عليه أن يقرأه جيدا ليفهم منهجه في فهم القرآن، وهناك العديد ممن رد عليه، وتمنيت من الأخ عفانة الأردني أن يرد بغير الطريقة التي قام بها، ولكن كما أقول فلكل فلسفته في الحياة وفهم الأشياء، ويمكن الاطلاع على كتاب الأخ الأردني عفانة وكيف فهم الشحرور. وكتاب بيضة الديك وهو غيض من فيض من الردود. قبل كل شيء وأنا الطبيب الجراح  وهو مانسميه في علم الجراحة المدخل أو الأداة (Approach)، فالدخول لاستئصال الزائدة الدودية، تتم بمشرط وملقط ومبعِّد وخيط، ويتم الدخول عليها من شق مك برني (Mc Burney) وهي في الزاوية السفلية اليمنى من البطن. كذلك الحال في الدخول على الانورزما الوعائية، فهذه تحتاج ما ذكرنا بالإضافة إلى وسائل تشخيصية معقدة، وجرافت أي شرايين صناعية. وحين ذهبت إلى الدمام اجتمعت بأخوة أفاضل، تناقشنا فيها حول مداخل المناهج للوصول إلى الحقيقة، أو لنقل بكلمة أدق محاولة الاقتراب من الحقيقة. أنا أعرف الشحرور، وهو رجل فاضل مجتهد، ولكن كما كان أرسطو يقول إن أفلاطون عزيز علي ولكن الحقيقة هي أعز على قلبي من أفلاطون!. نموذج ماطرحته للدخول على القرآن بما سميته (الأدوات المعرفية المساعدة) هي قصة نوح والأبحاث الأركيولوجية، والثانية الطريقة اللغوية التي اعتمدها محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) من تفكيك النص القرآني، وبناء الحقائق من اللغة؟ إن كل مستوى وكائن له طريقة خاصة في التعبير والحديث، سواء الجلود أو لحاء الشجر، أو طبقات الأرض التكتونية، ويدخل في هذا قصة نوح وأين يمكن العثور عليها؟ وحين يتحدث القرآن عن ريح عاد، يقول ماتذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فلا يعقل أن يكون تأثير الريح، أشد من الريح النووية العاتية، التي ثبت أن عقارب الصحراء الجزائرية لم تتأثر بها وخرجت تلعب؟ وهذا يفتح عيوننا مرة أخرى على مشكلة اللغة وعيوبها كما قالت بذلك مدرسة البرمجة من العيوب القاتلة الثلاث؛ عن عدم الدقة والتضخيم والنقص. (التعميم والحذف والتشويه) فلنبدأ أولا بالأشياء الجيدة، ونحن معه في هذا. نوح تاريخيا يأتي في الوسط تماما، بين آدم أبو الأنبياء (يقول شحرور أن آدم لم يوح إليه) وبين الرسل الذين جاؤوا في عصر الكتابة، ولكن الشحرور و(باللعب على الألفاظ) خرج بمفهوم يقول أن نوح عاش أيام الكهوف، أي قبل ثلاثين ألف سنة، وربما عاصر إنسان نياندرتال (اختفى في هذا الوقت بين 30 ـ 35 ألف سنة)، ولكن كيف يمكن الحكم على هذه الفترة التاريخية ومن أين الأدلة؟ ولكن الشحرور سيد السيرك يخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، ويلعب بالألفاظ مثل الروليت ليستخرج ما يريد؟ فيضربن بأرجلهن يعني الستربتيز. ويمكن لـ (حمو) المرأة أن يراها عارية تماما كما خلقها ربها. وغض البصر لا يعني غض البصر، بل يمكن أن يبحلق. (الغض من الغضاضة الطراوة). وأن قطع يد السارق لاتعني القطع بل خدش اليد بجرح؟ وإلا هل يعقل أن نسوة يوسف قمن بعملية قطع اليد عند الرسغ حين حدقن في يوسف الجميل حين أكبرنه!، ولكن لم يجبنا الشحرور على فرعون الذي قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو حكم الحرابة في قطع اليد أو الصلب؟ ربما الصلب هنا لايعني الصلب بل خدش اليد ؟ يكفي أن نغير مكان الحرف ليتغير كامل المعنى. نحن معه في أن نوحاً بسفينة متواضعة لم يكن بمقدوره أن يحمل كل حيوانات العالم، بمن فيهم الدب القطبي والكنجارو الأسترالي واللاما من جبال الأنديز؟ إن مفتاح الحقائق مرة أخرى ليس الألفاظ، بل البحث في الأرض والآثار، في حين أن الشحرور يرجم بالغيب. فكيف يمكن أن يقرر أنه في عهد نوح لم يكن ثمة من صلاة وصيام وزكاة ولا أي شكل من أشكال العبادات؟ وكيف له أن يقرر أنه كان في مجتمع ليس فيه نقد وعملة؟ وأنه عاش في منطقة منخفضة محاطة بالجبال، ولعله أي الشحرور معه صور ديجتال عن المنطقة التي عاش فيها نوح؟ وهذه الطريقة هي الفارق بين لعبة اللغة، ومسيرة الفلسفة الوضعية المنطقية، وبتعبير القرآن، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(فصّلت:21). إن كل مستوى وكائن له طريقة خاصة في التعبير والحديث، سواء الجلود أو لحاء الشجر، أو طبقات الأرض التكتونية، ويدخل في هذا قصة نوح وأين يمكن العثور عليها؟ ومما جاءني من أخ فاضل من السويد العشرية التالية ولنضعها للتقييم: أن الرسول ص رجل صالح ولايلزمنا إتباعه. جواز تبديل الشريعة كل خمسين سنة. المتقون هم علماء الفيزياء والفلاسفة. الزنى بين شخصين لاغبار عليه بشرط الإخلاص (ربما تفسير موضوع ملك اليمين). النبي لايحق له الكلام في الغيبيات باستثناء القرآن. أن الحدود والتعزيرات ليست من الدين. يبث الفكر الماركسي (ربما لأنه أرسل من قبل البعثيين إلى روسيا وهناك امتص الثقافة الشيوعية؟) يعتبر أن الرسول ص يفسر القرآن مثل أي مفكر. الصلاة ليست عبادة. لايحرم شرب الخمر مالم يسكر؟ ونرى من هذه العشرية أن بعضها يستحق الذكر، وبعضها ضعيف، وثالث متهافت؛ ومن المهم تتبع أقواله وأين ذكرها؟ وفي أي كتاب وردت؟ فالناس في الوقت الحاضر لم يعودوا يقرئون بل كل ماسك التلفون الذكي ويلعب به! ولكن عصر اليوتيوب سينقرض أيضا، ومشكلته أنه ليس مثل النص المقروء. أنا شخصيا لو جاءتني مقالة بصفحات تصفحتها بسرعة ووقفت أهم ماجاء فيها، مشكلة اليوتيوب عليك الصبر والإنصات إلى الأخير حتى تستوعب وتفهم وتنصف القائل، وهذا ينطبق على أعداد لانهاية لهم من الدعاة والمفكرين والسياسيين والأفاقين وهم أكثر من رمال صحراء النفود. وهذا يذكرني بنيلسون مانديلا الذي كانت في جنازته كريستين لاغارد مديرة الصندوق الدولي في 13 ديسمبر 2013 فنوهت بعظمته (قائدا شجاعا وصاحب رؤى) لنتكتشف أن الرجل لم يطلق من محبسه إلا بعد الموافقة على المحافظة على مصالح المافيا البيضاء (يراجع في هذا كتاب صندوق النقد الدولي ـ تأليف ارنسا فولف ـ عالم المعرفة رقم 435 ص 75). أتابع مابدأته في مقالاتي حول الرجل في محاولة لإنصافه وأهم شيء هو مراجعة وتصفح ماكتب وقد فعلت أنا، وقرأت للرجل، وأزعم أنني فهمت حول ماذا يدور؟ وإن كان ثمة تطور في رحلته الأخيرة حين بدأ في استخدام العلوم الإنسانية المساعدة لدعم اتجاهه وهذا جيد. وهنا وفي هذه النقطة يشتد النزاع جدا حول المناهج المعرفية للوصول إلى الحقائق، وتكلم ابن خلدون أيضا عن هذا الجدل بين اللفظ والمعنى والحقيقة، وقال أنه عند الاختلاف، يجب تطليق الألفاظ، والتخلص منها والحج إلى شمس المعنى وقنصه ثم إلباسه اللفظ المناسب. وكلمة شجرة تاخذ قوالب وألبسة لانهائية من الألفاظ (شجرة بالعربي ـ باوم  Baumبالألماني ـ تري Tree بالإنجليزية). والغزالي نبه جدا إلى هذه الورطة، التي وقع فيها الشحرور الشامي حين أراد الوصول إلى الحقائق من الألفاظ؟ فقال أي الغزالي القديم في كتابه المستصفى من أصول الفقه : "اعلم أن من أراد الوصول إلى المعاني عن طريق الألفاظ ضاع وهلك، وكان مثله مثل من يريد المغرب وهو يستدبره، ومن قرر المعاني أولا ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد نجا". وشرح هذه القاعدة الهامة، أن البشر حين يتنازعون حول الألفاظ لايصلون قط إلى نتيجة، ومن الضروري التخلي عن الألفاظ، والتفاهم حول المعاني وماذا نريد تماما؟ وحين نتفق على المعنى نعمد إلى اللباس المناسب من الألفاظ فنخلعه عليه، ولذا استخدم القرآن لفظ الغائط وهو بالأصل ليس البراز العضوي، بل المنخفض من الأرض، وكذلك الحال في كلمة الوضوء الذي يعني بالأصل الطهارة فتحول إلى آلية محددة لاستعمال الماء قبل الصلاة. ولكن مع الوقت وبالاستعمال يتحول الغائط إلى المعنى العضوي، وأذكر جيدا من الدكتور (سبح) في كلية الطب كيف كان يقول: مهجور مستعمل خير من معلوم غير مستعمل، ويقصد بهذا أن الكلمات هي صناعتنا، ونحن من نسعملها ونعطيها المعنى والوظيفة. ومن المؤسف أن اللغة هي قناة التفاهم، وبدونها ليس من تفاهم، ودخلت البرمجة اللغوية العصبية على الخط لتقول لنا؛ إن التواصل هو ثلاث أشكال الكلمات والصوت والسيمياء، بمعنى أن الكتابة تنقل 17% من المعنى، كما هو الحال في هذه الكتابة التي أنجزها حول مناهج البحث عن الحقائق، أما الصوت فيرفع النسبة إلى ربما 35 % ولكن الحضور الكامل وحركات اليدين والرأس والتخاطب المباشر قد يرفع مستوى نقل المعنى إلى حوالي 67 % ولم نصل بعد إلى 100% .. ومنهج الشحرور هو من هذا المستوى المتردي جدا، خارج العلوم الإنسانية المساعدة من التاريخ والأركيولوجيا والأنثروبولوجيا والبالينوتولوجيا. وربما في المستقبل قد يصل الجنس البشري إلى تفريغ معلومات الدماغ إلى الكمبيوتر بطريقة كهرطيسية سريعة؛ فيكسب مرتين الإفراغ الكلي والسريع والنقل بدون تزوير وخداع؟ أو هكذا نقول؟ والآن إلى المعمل والعمليات فمتى حدث الطوفان؟ وأين حدث الطوفان؟ هل فعلا عم الكرة الأرضية كلها؟ هل من دلائل آركيولوجية وأنثروبولوجية وبالينتولوجية عن ظروف حدوث مثل هذا الطوفان الذي لم يبق ويذر؟ هل من المعقول أن نوحا حمل على سفينة متواضعة، ربما أصغر من سفن كولومبوس حيوانات الأرض جميعا؟  لماذا حدث الطوفان وماهي دلالته التاريخية؟ متى عاش نوح أنثروبولوجيا وكيف عاش أكثر من ألف سنة؟ ثم ماهي طبيعة الصراع الذي نشب بينه والمجتمع المحيط به؟ أيضا يأتي الشحرور ليقول أن نوح لم يعمر ألف سنة؟ ويعتمد في هذا على نصوص من أيام بابل أن السنوات لم تكن سنوات، ولكن القرآن يحدثنا عن 309 سنة لأصحاب الكهف فأين تقع في منظومة الشحرور؟ ليس هذا فقط بل كيف نفهم جن نبي سليمان وحديث الطير والجبال مع داوود؟ ودابة الأرض وسرعة الضوء الذي أحضر به من عنده علم عرش ملكة سبأ؟ أو عروج الأمر إلى السماء في زمن مقداره خمسين ألف سنة ممن تعدون؟ نحن بالطبع نفهم محاولة إدخال العقلانية إلى النصوص بما فيها ملك اليمين أنها سارية المفعول فلا نسخ في آيات القرآن بل حتى العبودية مرحبا بها حتى لانعطل النصوص وأن الوصية في الميراث تعطى مهما كان الوريث حاصلا من نسبة؟ نحن مع الشحرور في ورطة فعلية؟ أم أن العقلانية شيء مختلف. نموذج ذلك سرعة الضوء وصلنا إليها ولكن القرآن حدثنا عنها وامثالها كثير من تفتيت الحجر بالأمواج الصوتية كما هي في معالجة حصيات الكلية فاقترب منا معنى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته متصدعا. القرآن إذا يشق الطريق إلى المستقبل والشحرور يحاول ضغطه في مفاهيم قاصرة. كل هذه الأسئلة أضعها تحت المجهر ليس فقط من أجل القصة؟ بل من أجل المناهج المعرفية للوصول إلى الحقيقة.   نحن معه أيضا في قصة غمر المياه أنها لم تكن لكل الأرض، بل كانت محدودة في بقعة معينة، ولكن أين؟ فهذا هو السؤال الذي لايمكن فكه باللعب بالكلمات، كما خرج بذلك الشحرور أنها منطقة منخفضة من الأرض مطوقة بالجبال، ومن يجيب على مثل هذا السؤال ليس اللغة بل البحث الأريكيولوجي في طبقات الأرض، وهو ما أعلنته بعثة علمية درست الأرض والبحر الأسود، لتخرج بنظرية متواضعة، تقرب إلينا القصة القرآنية، وهي يمكن أن تكون صحيحة، وأين وقعت؟ وهل كانت المياه بهذا الجبروت، خلاف ماقاله الشحرور أن الأمواج لم تكن عاتية بل كانت أمواجا عادية، ولكن شكلها كان مقوسا، مثل ظهر الموجة لا أكثر، وهو شيئ يثير الضحك فعلا؟ أرجع إلى تفسيره وفهمه لقصة نوح فأقول طالما كان نوح من نوع (ماقبل تاريخي Prehistorically) أي قبل عصر الكتابة، فنتوقع أن الطوفان حدث مع بدايات الثورة الزراعية، أي عميقا في الزمن أكثر من ستة آلاف سنة، وهو موعد البشرية مع الحصاد والزراعة وبداية الجتمع الثقافي. وهو ما أعلنه البحث الأركيولوجي أن الطوفان ربما حدث قبل 7500 سنة وبقوة عارمة اكثر مما صورها القرآن والعهد القديم. والقرآن حين يتحدث عن صحف إبراهيم وموسى، فهو يؤرخ لبروز الرسالات العظمى، بعد زمن اختراع الكتابة، (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)، فإبراهيم عليه السلام خرج في حدود قبل 4000 سنة، وموسى قبل حوالي 3500 سنة، وهي الفترة التي تلت اختراع الكتابة قبل 5000 سنة، وهذا صحيح من دراسة التاريخ واللغات وعلم الفيلولوجيا، وليس من خلال اللعب بالكلمات كما فعل الشحرور رحمه الله، بل الرجوع إلى التاريخ الذي بدأ مع اختراع الكتابة، فنحن عرفنا من مكتبة نبوخذ نصر التي كشفها (هنري ليارد) في نينوى (الموصل) عن 25 ألف لوح مكتوب باللغة المسمارية، حقيقة ماجرى في تلك الأيام، ليس كذب الملوك بل فكرة ماذا كان يحدث؟ من وجهة نظر من كتب؟ والعثور على قطعة نقد معدنية لاعلاقة لها برشوة وصدقة، بل تؤرخ حقبة تاريخية أن هذا النقد كان موجودا. وينطبق هذا أيضا على الكتابة الهيروغليفية، ولغة المايا لولا حماقة الأسبان في تدمير آثارهم فلم يحل لغزها حتى اليوم. ثم نأتي إلى بعض الإفكار العجيبة في قصة نوح عند الشحرور حين يختار طريق اللعب بالكلمات، وهي قصة قديمة شرحها الفيلسوف النمساوي (فيتجنشتاين Wittgenstein) أنها لاتوصل إلى الحقائق قط. والآن لنقف أمام بعض المزحات من كلام الشحرور وسنعتبره نوعا من الطرافة لتحلية البحث والابتسام معها؟ فما هي ؟؟ مات الشحرور عند الأعراب في أبو ظبي حيث مركز الدراسات الاستراتيجية لحرب الاتجاهات الإسلامية، وبناء العلمانية العربية الجديدة بدين تفوح منه رائحة الديزل. وأوصى بنقل جثمانه إلى قلعة البعثيين ولايستبعد أن يصلي عليه البراميلي كما صلت (كريستيان لاغارد) مديرة الصندوق الدولي في جنازة نيلسون مانديلا في 13 ديسمبر 2013 ووصفته (قائدا شجاعا وصاحب رؤى) بعد أن أخبرنا (ارنست فولف) في كتابه عن (صندوق النقد الدولي ص ـ 75 سلسلة عالم المعرفة رقم 435) أن ثمن إطلاق مندلا من محبسه كانت خيانة حزبه والتستر على المافيا البيضاء التي تمسك بالبلد، ومن يريد الإنصات إلى أسرار التاريخ فليذهب وليقرأ كتاب (ستيفان تسفايج) عن (ساعات القدر في تاريخ البشرية). يقول الشحرور أن   ابن نوح أولا ليس ابنه بل كان الأب النبي (ديوث) عفوا من التعبير يدخل الرجال على امرأته؛ فتحبل من أحدهم فيولد ابن نوح ولا يعلم نوح؟كيف وصل شحرور إلى هذا المعنى قال ـ وباللعب في اللغة السحرية ـ أن الولد غير الابن؟؟ لنعتبرها مزحة لا أكثر! لننتقل الان إلى نكتة سمجة أيضا ولنضحك قليلا؟ قال من حمل نوح في السفينة كان الكافرون والمؤمنون؟؟ بكلمة ثانية نسف كل المعنى الذي بدأ فيه نوح رحلته بتدمير كل بنية المجتمع الوثني فلا يترك على الأرض منهم ديارا.. عفوا .. عفوا إن نوح لم يدعو عليهم إلا بعد مسرحية الطوفان ؟؟ لماذا ؟؟ الجواب خاف من الانتقام ؟؟ عجيب إليس كذلك .. إنها اللعب باللغة وهي لعبة رائعة يمكن أن نصل إلى أي شيئ فيها.. (راجع صفحة 675 حتى  690 من كتابه القرآن والكتاب). فار التنور معناها حمم بركانية، ومن غرق منهم ساقهم الماء إلى فوهة البركان (كان شاهدا أنثروبولوجيا على ماحدث)، كان الرجل يصور الحدث بكاميرا ديجتال! والبنين تعني البنيان وليس الذكور، وقد يكون معناها البنان؟ والنساء لاتعني النساء بل النسيئة التأخير (سورة آل عمران الآية زين للناس حب الشهوات من النساء) وقد تعني النواس والنوسة لاندري؟ وأرذل العمر لاتعني الشيخوخة بل التوقف عن العلم عند سن 25؟؟ وامرنا مترفيها تعني زادوا؟ والفرار لايعني الفرار بل خرق العرض؟ وجهارا لاتعني الجهر بل اللطف. ولايضربن بأرجلهن تعني الستربتيز. إن قصص الشحرور تذكرني بقصة الملا الكردي الذي كان يفسر نصا من الفقه، وينقله من العربية إلى الكردية.. يقول النص إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حية يبقى السمن حلالا! قال الملاالكردي للتلامذة بدقة (في اللغة الكردية باللفظ ويدركها الأكراد من قرائي= اجر ميشك كت رون آف رون حلال) إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً (انتبه لكلمة حية وحية)؟يقف طالب نبيه فيسأل يا ملا كيف دخلت فأرة وخرجت ثعبانا؟ يصيح الملا به اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر. والشحرور عنده هذه القدرة من تحويل الفيران إلى ثعابين وديناصورات؟ ويبقى عمر نوح وهو الأمر الذي لم يخوض فيه الشحرور، وكان سيمتعنا جدا لو وقف وقال؛ إن كلمة ألف سنة تعني مائة عام، وبالتالي فنوح عاش خمسين سنة، وهو متوقع من قصر العمر في تلك الأيام المحاطة بالحروب والمجاعات ونقص التغذية؟ وليس فتح البوابة كما فتحها العلم عن أسرار طول العمر بعد كشف الكود الوراثي عند الإنسان، فهذه لايمكن للغة أن تلعب فيها؟؟ على كل رجع الشحرور وراجع كتب نبوخذ نصر وقال أن ملوك الزمان في ذلك الوقت عاشوا كذا من الأيام وببالتالي نوح لم يعمر فترة عشرة قرون ويزيد. عفوا يمكن للشحرور أن يغني مثل الشحارير فيخرج كل شيء من الأنغام؟ إن منهج الشحرور يمكن وبواسطة السحر اللغوي أن يفتح لنا ابوابا لانهاية لها من المسرحيات المسلية. والآن إلى المنهج التاريخي الوقائعي، الذي يحاول فهم قصة نوح ومكانها في التاريخ، ومحاولة الإجابة على الأسئلة التي بدأنا فيها البحث خارج لعبة اللغة ومنها عمر نوح. القرآن والتاريخ: لايوجد كتاب اعتنى بالتاريخ وسننه واعتبره مصدراً للمعرفة مثل القرآن، ولايوجد كتاب في تاريخ الجنس البشري أكد على مفهوم القانون وسنة الله في خلقه كما فعل القرآن، ولايوجد كتاب وقف عند حوادث تاريخية بعينها يتكيء عليها ويستفيد مثلما جاء في القرآن. وبالمقابل لاتوجد أمة لم تستفد من كل هذه الثروة العقلية كما فعل المسلمون، في استعصاء عقلي عنيد غير مفهوم وغير مبرر ولاعقلاني جداً، حرَّكها من خانة دول المقدمة والعظمى والمركزية، الى خانة دول التخلف والقاع والاتباع والمحيط والاطراف، في لغز يحتاج فك طلاسمه الى بحث تاريخي عقلاني موسع لاكتشاف بدايات وآليات الخلل. ثلاث مفاهيم تأسيسية: فهذه ثلاث مفاهيم تأسيسية في جدلية القرآن والتاريخ. اعتبر القرآن أولاً التاريخ ليس مجرد حوادث تائهة طائشة عشوائية، لايضمها خيط، ولاينتظمها قانون، بل نظر الى التاريخ أنه تدفق وصيرورة، تمسك حركته مفاصل سننية، وتنير طريقه واتجاهه نواظم كونية غائية عظمى. واعتبر القرآن ثانياً التاريخ مصدراً للمعرفة، تماماً مثل الطبيعة والنفس، فهذه الحقول الأولية هي كلمات الله الأساسية، والنسخة الأصلية من كلمات الله، التي لاتقبل التزوير والتحريف والتبديل والتأويل المضطرب، والتفسير اللاعقلاني، فصخرة أو جبل، شجرة أم نهر، هرم فرعوني أم سور الصين، نقش مسماري أم هيكل عظمي، أدل على نفسه بنفسه من أي نص كتب عنه، مهما كان مصدره. وثالثاً وقف القرآن أمام أحداث تاريخية بعينها، يعتمدها كمقارنة؛ بين مايولد من بطون الأيام الحبالى، وما بين الحق الذي جاء به. هذا العرض المقارن يفتح الطريق أمام علوم قرآنية قد قصَّر العالم الاسلامي حتى اليوم في تأسيسها، لإنه شخر عبر القرون، وانفك عن الواقع، فكما رسخت ورست واستوت علوم، من أمثال القراءات والتجويد والأحكام والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، فإن الطريق لم يعبد بعد أمام دراسات من طراز الدراسات التاريخية القرآنية المقارنة، التي سنشرح طرفاً من طبيعتها في نماذج قادمة. وهكذا فإن ينابيع القرآن المعرفية لن تنضب في شق الطريق الى فضاءات معرفية متجددة. هذا إذن هو المفتاح للدخول إلى النص القرآني باعتماد العلوم الإنسانية المساعدة. وليس باللعب بالكلمات. التاريخ يتحرك وفق قوانين نوعية التاريخ إذاً يتحرك وفق قوانين نوعية، والتاريخ مصدر للمعرفة، والتاريخ دراسة مقارنة؛ فهذه محطات عقلية تأسيسية للمعرفة، ومفاتيح كبرى لحركة تجديد العقل الاسلامي، وإضاءة القرآن على نحو غير متوقع. هذا التوجه في القرآن كمفتاح لبناء العقل السنني، وتوليد العقل الاستدلالي، وتهميش وتحييد الاسطوري والخارق والخلاب، ودخول الباب لفهم أحداث التاريخ وفق قوانين تحمل إمكانية وكمونية التكرار في سياق كوني منتظم، والإشارات القرآنية لإحداثٍ تشكل مفاتيح لفهم حركة التاريخ الانساني بانعطافاتها المصيرية، في مثل قصة يوسف في القرآن، والعصر الذي عاش فيه، ولماذا استخدم القرآن لفظ (الملك) ولم يستخدم لفظ (فرعون) ويراجع في هذا سورة يوسف حيث تكرر استخدام كلمة الملك على لسان يوسف، في حين استخدمت لفظة فرعون على لسان موسى، مما يوحي بعصرين مختلفين لنظامي حكم متباينين، ونحن نعرف أن مصر تعرضت لاجتياح عسكري من الشرق الأوسط على يد الهكسوس، الذين جاؤوا من سوريا الحالية بتقنية حربية متطورة، باستخدام الحصان والعربة الحربية، ولم يكن الدولاب معروفاً عند المصريين بناة الإهرام، فكل حملة بناء الاهرامات تمت بدون عربات أو عجلات أو حصان، كما لم يكن الحديد وتصنيعه أو الاسمنت قد أصبح في متناول اليد، وإنما اعتمدت عضلات الانسان وذكاءه، واستمر حكم الهكسوس ربما 150 عاما إن لم يكن اكثر؛ صعد يوسف فيها الى منصب حكومي رفيع يعادل رئيس الوزراء الحالي، وتم طرد الهكسوس لاحقاً على يد المصريين من الجنوب، بعد التمكن من تقنية الهكسوس على يد بسماتيك، وانصب غضب الفراعنة على الطابور الخامس العبراني الذي انتشر وتكاثر في زمن حكم الهكسوس عدداً وثراءً ونفوذاً، يكفي أن نعرف لاحقاً أن أحد أغنى أغنياء العالم كان عبرانياً هو قارون، ولكنه كان متعاونا مع السلطة الفرعونية على حساب معاناة الشعب العبري، كما جاء في التعبير القرآني (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم) ويدخل تحت هذا المضمون الهزيمة العسكرية الساحقة التي مني به الفرس، في مطلع الربع الأول من القرن السابع الميلادي، في سلسلة تطاحن عسكري، من نوع الحروب العالمية في العصر القديم، يجعلنا نفهم لماذا وفي هذا الوقت بالذات وفي هذا المكان بالتحديد، في فك أسرار التساؤلات العقلية الخمسة لماذا ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ ومن؟ ويراجع في هذا سورة الروم (غُلِبَتْ الروم = بالضم والكسر ُ أي قهرت بيزنطة وهزمت) وسوف نرى أيضا في بعض هجومات الاستشراق (مثل كتاب مخطوطات القرآن) تلك التي يزعم بها صاحبها الذي يحمل اسم عيسى (المسيح) وخلفه مؤسسات مالية عملاقة يقول فيها أنها (غًلَبَتْ= بالفتح والفتح حيث يصبح المعنى مقلوبا بالكامل بين أن يَغْلِب أو يُغْلَب أي أن بيزنطة هي التي انتصرت) وهنا ينقلب المعنى مدورا، ولكن السياق هو الذي يحكم أين ترسو الآية بين أن يكون الفرس قد أطيح بهم أو الروم؟ فالآية تقول أن الروم يُهْزَمُون ثم ينتصرون وفي ذلك الوقت يفرح المؤمنون لأنهم آهل كتاب وليسوا وثنيين. نفس القصة والقانون ينطبق أيضا على الاية التي ذهب لها الشحرور في قرآنه الجديد أن معنى النساء ليس النساء بل (نسيء) في محاولة متعثرة بل ومدمرة للنص القرآني، وهي محاولة مكررة منه لكثير من أيات القرآن، فيما يشبه وضع لغم أرضي تحت النص القرآني لنسفه بالكامل؛ فهو يريد أن ينقذ المرأة بزعمه أن تكون متاعا فيقول إن كلمة النساء هنا لاتعني النساء بل (نسيء) (انتبه ليس من الإساءة) ! ويمكن أن تراجع الآية في أول سورة آل عمران، ثم استعراض 57 موضعا في القرآن الكريم وهي تذكر كلمة النساء، وموضعين لكلمة النسوة، ولنتصور أن فرعون في آية يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم أن الآية تقول ويستحي نسيئهم ! أو الاية يانساء النبي تعني يانسيء النبي! أو الآية تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم أنها تعالوا ندعوا نسيئنا ونسيئكم. إنه السخف لا أكثر ولا أقل. ومنه يقول القرآن أيضا في سورة آل عمران وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وماهو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. إنها محاولات خايبة مدمرة لتوليد قرآن جديد ليقولوا هذا من عند الله. وعلينا أن نفهم أن الحرب ضد الإسلام تلك التي تدشنها مراصد الصراع الفكري (بتعبير مالك بن نبي) هي من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان عن الفتنة وهو حديث جدا جميل علينا تذكره دوما، ونحن نواجه قرآين جديدة بتأويلات تزعم أنها تدافع عن القرآن، وهي يجب أن تفعل هذا لتكون مثل الحرباء. تتلون كما قال إقبال عن مناة أنها شابة فتية في كل عصر. (تلون في كل حال مناة شاب بنو الدهر وهي فتاة). أما الحديث فهو:  كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وآله وسلم- عَنِ الخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ{نَعَمْ}، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِك الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟قَالَ: {نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ}، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُه؟ قَال:{قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَديِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ}، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْد ذَلِكَ الخَيْرِ مَنْ شَرٍّ؟ قَالَ: {نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْها قَذَفُوهُ فِيهَا} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: {هُمْ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِألْسِنَتِنَا} قُلْتُ: فَمَا تأْمُرُنِي إِن أَدْرَكَنِي ذلك؟ قَالَ: { تَلْزَمْ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإِمَامَهُمْ} قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَام؟ قَالَ: {فَاعْتَزِلْ تِلْكِ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ. مع كتابة هذه الأسطر قامت قيامة الشحرور فهو في دار الحق يواجه ربه. الشحرور  صاحب كتاب القرآن والكتاب وأن الكتاب غير القرآن. ونحن بهذه الأسطر نضع فكره تحت مسبار النقد ولايهمنا جثمانه. وكثيرون ممن قرأوا لي اختلط الأمر عليهم. فنحن هنا لسنا في صدد الشماتة بالرجل بل نرجو له الرحمة كما علمنا القرآن: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا! والنقد الذاتي هو صادم موجع ولكن لابد منه من أجل تقطير الوعي في عيون النيام والغافلين، أو أنصاف الأميين من متلقي ثقافة المشافهة من اليوتيوب. ومن أجل رسم خارطة طريق لكيفية الوصول إلى محاولة الوصول إلى فهم التاريخ والنصوص، لابد من اعتماد ماسميته (الأدوات المعرفية المساعدة). فنحن حين نأكل، أو نجري عملية جراحية، أو نبني بيتا؛ فنحن أمام أدوات نستخدمها من ملعقة وشوكة وسكين في الطعام، ومبضع وملقط وكاوي كهربي في الجراحة، ومثلها في بقية المهن والنشاطات الإنسانية، فعلينا استيعاب هذا الأسلوب في الوصول إلى درك الحقائق أو هكذا أزعم. ولأن مصدر القرآن هو المطلق فيجب التقدم إليه بإدوات شتى في محاولة متواضعة من الاقتراب من فهم النص أو هكذا أزعم. يقول الفيلسوف (ليسنج): لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه والبحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم خيرني؟ إذن لجثوت على ركبتي متواضعا وقلت يارب بل أعطني التي في يسراك لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك. وعلى هذا النسق ينقل عن الشافعي من تراثنا في الجدل العقلي إنني على حق ويحتمل الخطأ وأنت على خطأ ويحتمل أن تكون على حق. ومما أذكر من مجلة 15 ـ 21 التونسية نقلهم لاثنين من تراثنا أقبلا على الحوار فقال أحدهما للآخر هل لك في المناظرة؟ قال الآخر نعم ولكن على عشرة شروط: أن لاتغضب ولاتعجب ولاتشغب ولا تجعل الدعوى دليلا ولا تقبل على غيري وأنا أحاورك ولاتجوز لنفسك تأويل آية ونص على مذهبك إلا جوزت لي تأويلها على مذهبي وأن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف وعلى أن يكون سعي كلا منا أن يكون الحق ضالته والرشد غايته. وفي المغرب اقترح علي صديقي خليل من الجديدة أن يقيم موسما للمناظرة مع مفكر مغربي ينادي بالانفتاح العقلي وتحريك المرض العنصري؛ فكما كان المرض في الشرق من شيعي وسني وكردي وعلوي وتركماني فهو في المغرب أمازيغي وعربي، وهو مرض سرطاني قاتل. وبالطبع فهناك من يخرج رأسه ويعلن هذا، ولكنهم لايتمتعون بدهاء نموذج آخر في الصراع الفكري. وفي القرآن أن الانحرافات ثلاث: كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، وأن يشتري به المثقف ثمنا قليلا، كما هو في الحال في دول (الجازوال) التي تنفق على الحرب بمال منهمر، وفي مؤسسات مشبوهة تحمل أسماء من نوع (مؤمنون ولكن بدون حدود)، كما هو الحال في صاحبنا الشحرور الذي يرى البوذي والمسيحي أنه مسلم. وهو خلط لم يقل به القرآن، ولكن قرآن الشحرور قابل للتلون بكل لون طالما كان اللعب بالكلمات ممكنا، كما في كلمة نساء الموجودة في القرآن في 59 موضعا ليقول أن معنى النساء ليس نساء بل (نسيء) فكل كلمة تعني ولا تعني أي شيء! الآن لنتصور أن القرآن يقول يانساء النبي (أنها يانسئ النبي) ويمكن للقاريء أن يجرب المواضع الخمسين ويطبق عليها قواعد القرآن الشحروري. ألا إن الحرب الفكرية أكبر بكثير مما نتصور تقودها المخابرات العالمية وبإماكن تنطق بلغتنا من أجل توليد الثورة المضادة وتكريس الطواغيت في عالم العروبة المريض. وصديقنا الشحرور دخل على النص القرآني بأداة اللغة فكان مثل حاوي السيرك يخرج أرانب بيضاء من القبعات السوداء. ونحن في الطب إذا أردنا معرفة قصور الدرق أو نشاط البروستات أخذنا عينة من دم المريض فعرفنا أنه مصاب بخمول في الدرق، أو هورومون (PSA) لمعرفة الميل للتسرطن. وكذلك سوف نفعل بعينات من الدم الثقافي عند صديقنا الشحرور. أيضا هنا ثلاثة أفكار جوهرية في مناقشة الرجل. ـ أولها الإنصاف لأي فكر واحترامه كائنا من كان ولو كان من صديقنا الماركسي شحرور. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل إنسان له دينه الذي ينتسب إليه. ـ وجرت العادة عندنا نحن الأطباء أن نتتبع قصة المرض والمريض بمعنى معرفة سيرة هذا الرجل ومن اين نبع. أنا شخص اعرف الساحة الفكرية العربية والسورية جيدا أو هكذا أزعم وأعرف المفكرين الإسلاميين وعلماء الفقه والشريعة والساحة الفكرية لست عنها بغافل ولذا كما يفعل الإطباء علينا تتبع سيرة الرجل وهو ماسنفعله في حلقة خاصة في البحث. ـ الأمر الثالث أن مراصد الصراع الفكري كما يسميها ماللك بن نبي تخوض حربا ضروسا. ليس النظام السوري المافيوزي واحدا فيها بل هناك مراصد للصراع الفكري ومعاهد للدراسات الاستراتيجية تتبنى الرجل. وعندما سألتْ ابنتي هل هو غافل عنها؟ قلت لا أظن فالخلفية الفكرية التي يحملها هي في أعماقها كارهة للإسلام ومحاربة له. ولكن طرق الحرب اختلفت فنحن في ساحة حرب فظيعة وقودها الناس والحجارة والأسلحة والأفكار الشريفة وغير الشريفة؛ فالكل سواء  عند أئمة الاستكبار العالمي، وإلا كيف نفهم قتل مليون سوري، وتهجير نصف الشعب. وأمام هذه الأحجار الثلاثة علينا أن نفهم أن اللعبة أكبر بكثير من المغفلين من أنصاف الأميين الذين يتثقفون مشافهة باليوتوب. ولذا سوف نحاول أن نستعرض طريقة خاصة في محاولة الوصول إلى درك الحقائق، أو هكذا أزعم، وهي اعتماد الأدوات المعرفية المساعدة وليس اللعب بالكلمات كما قال يوما الفيلسوف النمساوي فتجن شتاين (Wittgenstein) أن اللغة لاتزيد عن لعبة. نتابع في الدراسة المقارنة بين منهج الشحرور باللعب بالكلمات، وبين استخدام الأدوات المعرفية في هدف الاقتراب من فهم الوقائع ومنها هذا التطبيق الهام لفهم التاريخ. الدقة في التقدير الميتافيزيقي التاريخي: لماذا يبزغ عصر الاسلام في هذا الوقت والمكان على وجه الدقة؟ في تقدير ميتافيزيقي؛ يجلي التاريخ بعضاً من أسراره التاريخ بعد حين، فلو انبثق الاسلام قبل قرن من ولادته لعاصر قوى مختلفة وامبراطوريات متماسكة نسبياً. إذن لانستطيع أن نفهم شروق شمس الاسلام بدون فهم تاريخي (راداري) معمق، يعرف أن خروج الاسلام في هذه اللحظات التاريخية، سوف يواجه امبراطوريات محطمة واهنة، استنزفتها حروب مدمرة، فقام الاسلام يكنس بقايا حطام الامبراطوريتين في الشرق الأوسط، أكثر منه مواجهة هذه القوى. لايمكن فهم مثل هذه الأمور بدون التشبع بالوعي التاريخي، وإن العرض الذي قام به المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه تاريخ البشرية يعطي تصورا عن الوضع، بحيث يمكن فهم دلالة الآية القرآنية (الله أعلم حيث يجعل رسالته فهذه التساؤلات تفتح الطريق لإدراك أنعطافات التاريخ المصيرية. في مواجهة أعظم حضارة في العصر القديم: وتشكل قصة موسى عليه السلام نموذجاً مختلفاً وهو يواجه أعظم حضارة في عصره؛ أمريكا العصر القديم، وهو واضح التصور ودقيق العبارات مع فرعون، أنه لايريد تغيير المجتمع المصري أو التبشير فيه، وكان يمكنه أن يفعل ذلك، فهو صاحب رسالة. كانت كلماته واضحة وعباراته مقتضبة أن أرسل معي بني إسرائيل، ليس لإن سدس الشعب المصري، الذي هو كتلة الشعب العبراني، في أسفل قاع المجتمع يؤدي دور الآلة العضلية للإنجاز الحضاري بتنظيم عقلاني فرعوني. ليس لإن موسى عليه السلام يتوقع منه إذا خرج به من أرض مصر، سيكون ذلك الشعب وتلك الأمة التي يبني عليها الآمال. إن موسى أوعى من أن يقع في مثل هذا الفخ، مع جيل اعتاد ضرب السياط على ظهره، وأخلاق العبودية. إن هدف موسى لن يظهر واضحاً في مصر، بل سيكشف عنه النقاب بعد العبور، ومشاكله من صناعة عجل الذهب، والتعدي على هارون أخيه، وارتكاب الفواحش، والحنين الدائم لرائحة البصل والثوم المصري، فجهازهم الهضمي لم يتعود الطعام المريء الممتليء بالبروتين والعسل (المن السلوى) بل مازالت الأمعاء معتادة على الخضراوات المصرية ، كما لم ينفعهم، لاسيل المعجزات التسع في مصر، ولاتشقق الصخر في الصحراء فيخرج منه الماء، أو تحريك السحب والغمام  تظللهم من حر شمس صحراوية لاهبة. كان موسى ينتظر أن يدفن هذا الجيل في الصحراء، كي يخرج من ذراريهم خلال أربعين سنة جيل صحراوي جديد خشن، لايعرف الا لفح الشمس، والهواء الطلق، واليد العاملة، والحرية والكرامة، في نموذج جديد مختلف جداً عن جيل العبودية في مصر. كان جيل العبور إذاً ليس الأمة التي أرادها موسى، بل كانت المادة الخام، التي سوف تفرز الجيل الجديد، الذي لن يعاصره موسى، بل يشهد تهيئته فقط، ليتحرك به يشوع باتجاه الأرض المقدسة. وتبقى في النهاية قصة الطوفان الذي يدشن لأحداث كونية مفزعة من حجم جراحات مناخية لطوفان لايبقى ولايذر، وموت جماعي بالغرق لإمم كاملة، كي يحمل قبطان العالم الجديد النبي نوح عليه السلام، البذور الصالحة من بقايا العالم القديم المهدم، كي يبني عالماً جديداً مختلفاً. هل الدُسر هي المسامير؟ استوقفتني في سورة القمر منذ فترة طويلة لفظة (دسر) أفادتني بعض كتب التفسير أنها المسامير المعدنية، فنوح عليه السلام نجار فهو يهيء السفينة لينجو من الغرق الأعظم، بألواح من خشب ومسامير وقار، ولكن المسامير تعني اكتشاف الحديد وتصنيعه، وهذه لم تعرفها الحضارة الفرعونية مثلاً إلا في القرن الثامن قبل الميلاد. وبقايا الفراعنة لم تقدم لنا مادة في طوفان من حجم كوني ضرب الحضارة المصرية، ولكن ملاحم وأساطير بلاد الرافدين نقلت بشكل واضح ومكرر، عن ظاهرة طوفان كوني مريع من حجم فلكي حدث في المنطقة، فهل كان الطوفان ياترى فقط في منطقة محددة يجب التنقيب عن حدودها؟ ظهر هذا واضحاً في ملحمة جلجميش التي كشف النقاب عنها البحث الاركيولوجي من مكتبة نبوخذ نصر الآشوري، في بقايا مدينة نينوى، مدينة الموصل العراقية حيث ظهرت مكتبة عملاقة صفحاتها ألواح من الطين قد حفر عليها مايشبه عمل المسامير، مما جعلها تأخذ لقب الكتابة المسمارية ، المكتبة الآشورية هذه أشارت بشكل واضح الى طوفان أهلك الحرث والزرع والنسل، ولم يُبق على شيء في منطقة بلاد الرافدين. منذ الألف الثالثة قبل الميلاد استقر في الوعي الجماعي الانساني قصة طوفان مهول عم المعمورة. تم الكشف عن هذا في حفريات نينوى في منتصف القرن التاسع عشر، على يد شاب انجليزي اسمه اوستن هنري لايارد  AUSTIN HENRY)  LAYARD)  كان في طريقه، في رحلة سياحية باتجاه سيلان عام 1839 م، فأثارت انتباهه حفائر نينوى (الموصل في شمال العراق الحالي) مما جعله يصل لاحقاً الى الكشف عن تراث أدبي حافل من مكتبة الملك (نبوخذ نصر) باللغة الآشورية، فيها إشارة الى قصة الطوفان، وكان (هنري رولنسون) الذي كان يعمل ملحقاً عسكريا في السفارة البريطانية في إيران، ثم المقيمية البريطانية في بغداد لاحقاً ، قد فك أسرار اللغة الفارسية القديمة من النقوشات التي حفرها الملك الفارسي (دارا الأول) على حجر (بهستون) في كرمان شاه، ويشبه كشف حجر رشيد في إثارته وأهميته، الذي فك ألغازه (شامبليون) الفرنسي في جهد استغرق عشرين عاماً، واخترق الحضارة الفرعونية فأنطقها وبعثها الى الحياة تروي سحر القرون. هذا هو أسلوب فهم التاريخ وليس اللعب بالكلمات التي قد تفيد كل شيء أو لاشيء على الإطلاق؟ الزلزال الذي يعصف بالمنطقة ليس من طبيعة جيولوجية بل فكرية. حاليا في دول الخليج الأكثر تشددا تحصل ردة مخيفة ولأمور كانت في السر فقفزت إلى العلن، وهي تخضع لقانون رد الفعل؛ بفارق أن ردود الفعل الاجتماعية تختلف عن قوانين الميكانيكا. كما أن الإسلام يعاني من ثلاث مخاضات مخيفة، وهي تذكر بالعصر الذي عاشه أبو حامد الغزالي حين كانت الزحوف المغولية والصليبية تعصر المنطقة بين المطرقة المغولية والسندان الصليبي. ولم تكن دولة بني صهيون قد ولدت بعد. ويقول في هذا (محمد عبدة) أن المنطقة حين تنفست الصعداء كان ارتخاء مريضا لأن الغارة التي بعدها ستكون أِشد هولا. حين تم استعمار معظم العالم الإسلامي من الهند حتى المغرب. نحن حاليا مبتلون بثلاث بلايا: الفكر العلماني الذي يقول بالقطيعة المعرفية، أي أن كل متعلقات الإسلام أصبحت للتاريخ، يمثل هذا اتجاه أركون الجزائري وليس الوحيد. والثاني تيارات الخوارج الدموية الجديدة (داعش) التي تفرز نموذجا يخدم أعداء الإسلام أكثر من الإسلام. وهناك تيار خفي لكنه أشدهم خبثا كما هو الحال في السرطان. أو مرض الايدز بالفيروسات القلوبة أو العكوسة (HIV = Retrovirus). قد يتساءل القاريء وماهي الفيروسات القلوبة أو العكوسة؟ حين أعلنت وزيرة الصحة الأمريكية عام 1982 م عن المرض للمرة الأولى كان الظن أنه مرض بسيط سوف يتم تحديد هويته والقضاء عليه كما تم استئصال الجدري من كل العالم عام 1977م حين أعلن عن آخر حالة في الصومال. لفهم ملعنة وخبث فيروس الأيدز علينا فهم الآلية الأمراضية لاندلاع الأوبئة؟ فالجراثيم المعندة سابقا ومعها الفيروسات تهاجم الجسم وتدخل إلى الأخلاط الداخلية فيستنفر الجسد نفسه ويقضي عليها. أما فيروس الأيدز فهم يدخل بنية الخلية حيث الكود الوراثي (DNA) فيصبح قطعة منه. هنا يقوم الجسم المسكين بالتكاثر وهو يحمل معه الفيروس مخبئا وكأنه قطعة من تركيب الكود الوراثي. الطريقة الثالثة الجديدة في تدمير بنية العقل المسلم ليس بالتطرف المجنون ليعطي تطرفا إباحيا كما يحصل في دول النفط. كما أنه ليس في مواجهة واضحة كما في العلمانيين جماعة القطيعة المعرفية وأن تاريخنا هو ظلمات بعضها فوق بعض. بل الدخول إلى بنية القرآن وهو ماتبقى لهم بعد الهجمة على الحديث النبوي وتلغيمه من الداخل ونسفه. فهذه هي طريقة الشحرور التي زعم فيها أنه سيأتي بقرآن أخر للقرآن يبدله بدون تبديل. وهي طريقة خبيثة مدروسة تماما في مراصد الصراع الفكري في المنطقة، وتقودها مؤسسات تنفق بمال منهمر لتوليد فكر جديد هو قرآن بدون قرآن، أو حركات إسلامية كما في (اللامؤمنون بدون حدود عفوا مؤمنون بلا حدود). وهو أيضا حسب مفاهيم الشحرور أن المسلم ليس هو من نعرفه بل كل أصحاب الديانات مسلمون فهناك المسلم البوذي والكونفوشيوسي بل والشيوعي أيضا. والطريق لذلك هو أن نأتي بكلمات القرآن، ونقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله. تأمل معي الآية من سورة آل عمران: وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بالطبع علينا أن لاننسى في النهاية أبطال الإعجاز العلمي الذين يريدون خياطة فكر انتهت صلاحيته وهو مايسميه مالك بن نبي الإفكار القاتلة والأفكار الميتة. حاولت أنا الانتباه إلى الدخول على القرآن الكريم في مشروع ضخم من أجل وضع مدخل جديد لفهمه وبين يدي هذا النموذج الذي تحدثنا عنه في الأبحاث الاركيولوجية وهكذا فمثلا رولنسون فعل نفس الشيء مع حجر دارا بجهد استغرق اثني عشر عاماً، اضطره أحياناً أن يشد نفسه بالحبال ويتدلى مثل القرود على ارتفاع 300 قدم، معرضاً نفسه لأشد الأخطار في نهم علمي لايعرف الاشباع، دفعه لمتابعة عمله في العراق، ليميط اللثام عن القصة الكاملة للطوفان، من خلال مكتبة مكونة من خمسة وعشرين ألف لوح من الطين المحروق قد نقشت فيه حروف غريبة بمايشبه وخزات المسمار مما جعلهم يسمونها اللغة المسمارية. ومما جاء في اللوح الحادي عشر من  المكتبة الآشورية وصف رهيب للطوفان: (هبت الرياح ستة أيام وست ليال طغى السيل والعاصفة والطوفان على العالم . ثار السيل والطوفان معاً كالحشود المتحاربة. وعندما أشرق اليوم السابع انحسرت عاصفة الجنوب، هدأ البحر وسكن الطوفان، نظرت الى سطح العالم وقد ران عليه الصمت، أصبح البشر كلهم طينا. كان سطح البحر يمتد مسطحاً كسقف البيت، فتحت كوة فسقط النور على وجهي، عندئذ انحنيت طويلاً، جلست وبكيت، جرت الدموع على وجهي، إذ كان الماء طاغياً في جميع الأنحاء. عبثاً تطلعت بحثاً عن الأرض، ولكن على مبعدة أربعة عشر فرسخاً ظهر جبل، وهناك رست السفينة، ثبتت السفينة على جبل نيصير، ثبتت ولم تتزحزح(( ملحمة جلجميش ( THE EPIC OF GILGAMESH ) حققها ونقلها الى الانجليزية ن . ك . ساندرز ( N . K . SANDARS  ) ترجمة محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ قاضي ـ  دار المعارف بمصر ـ ص 90)ولعل اليهود من سبي بابل حملوا معهم هذه الأساطير فجاء ذكرها بشكل واضح في العهد القديم، باختلاف أن المياه التي تدفقت لم تكن أسبوعا، على الرواية الكلدانية للطوفان، بل دام تدفق المياه أربعين يوماً، وهكذا تم تسجيل طوفان مرعب في الذاكرة الجماعية للجنس البشري. رواية العهد القديم: وإذا كان الطوفان في ملحمة جلجميش قد استغرق اسبوعا من تدفق المياه بدون توقف، فهي في العهد القديم أربعين يوماً، وبالطبع لايمكن مقارنة الدقة والبلاغة الموجودة في القرآن مع النص الذي سنورده نتابع الجدل حول طوفان نوح لنفهمه بصورة أكبر من اللعب بالكلمات للوصول إلى درك الحقائق. فلقد جاء في العهد القديم ـ سفر التكوين ـ الاصحاح السابع ص 13 مايلي: "وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض . وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض . وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا ًعلى الأرض. فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض. فتغطت جميع البلاد الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه. فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف علىالأرض وجميع الناس. كل مافي أنفه نسمة روح حياة من كل مافي اليابسة مات. فمحا لله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والدبابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً" أما القصة التي يعرضها القرآن لقصة الطوفان فقد جاءت  بعرض يؤكد الخراب المرعب الذي ترتجف له المفاصل، من طوفان تتحرك أمواجه كالجبال، وتحولت السماء الى مصبات مائية كونية تصب دفعة واحدة، في الوقت الذي تنسطم كل تصريفات الأرض الصحية، ليس لتشفط الماء الى أعماقها، بل لتتدفق المياه منها بشكل مقلوب جداً، في إشارة عجيبة لبدء تنفيذ العملية من تنور هو بالأصل للخبز، لتتدفق منه المياه في مشهد صارخ على انقلاب الحياة العادية بالكامل. في حالة إشباع مائي للأرض لم تعرفه من قبل ولامن بعد. حدث كوني من هذا الحجم وسفينة معالجة في الغالب بألواح الخشب وألياف (الدسر) تربطها (جاء في كتاب لسان العرب لابن منظور الأفريقي ـ الجزء 4 ص 284 و 285عن لفظ دسر: والدسار خيط من ليف يشد به ألواح السفينة وقال الزجاج كل شيء يكون فيه نحو السمر وإدخال شيء في شيء بقوة ... وفي تصوري أنه إذا تم استخدام مسامير فكانت من نوع الاسافين الخشبية بسبب عدم معرفة الحديد في ذلك الوقت الغارق في القدم) والقار تطلى به لمنع تسرب الماء، كله يشير الى حدث (ماقبل تاريخي)(PREHISTORIC) والمعلومات الجديدة التي تدفقت اليوم من خلال تعاون مجموعة كبيرة من العلماء من خبراء المحيطات والجيولوجيين، التي تنقب كل شبر في الأرض، وصلت في نهاية ديسمبر من عام 1996 م الى اختراق معرفي جديد في قصة الطوفان. ولايعني هذا معلومات يقينية نهائية، بحيث تركب الآية القرآنية عليها، فهذا فضلاً عن أنه ابتسار للعملية التاريخية، وتهالك على تصديقات لم تقل الأرض فيها كل الحقيقة، ولكنها تنفع في تقريب قصة الطوفان، الذي تحدثت عنه كل الكتب القديمة والاساطير وانتهاء بالقرآن في عملية إجماع غير معهودة لحدث من حجم فلكي، وشهادة لذاكرة جماعية انسانية، تعرضت لحدث كوني غير قابل للمحي من الذاكرة الجمعية. هنا نحن أمام جدل جديد للاقتراب من الحدث. فليس كلمات القرآن هي التي ستقودنا إلى ماحدث بالضبط بل اتباع المنهج القرآني كما جاء في سورة العنكبوت: قل سيروا في الأرض. صديقنا الشحرور قام باللعب على الكلمات كما يفعل حاوي السيرك فيستخرج من القبعات السوداء ارانب بيضاء؛ فأخبار الأرض هي النصوص الجديدة التي تتكلم. كانت النصوص المكتوبة هي التي تتكلم، ولكن النص الجديد الذي تكلم الآن تحدث بلهجة ولسان جديدين: من باطن الأرض، والحفريات وبقايا الرسوبيات، ونحت الطبيعة، وتآكل الشواطيء، وحديث الاوقيانوس، وبقايا الحيوانات المحفوظة في براد الطبيعة. تروي قصة عجيبة حدثت قبل 7500 سنة في نهاية العصر الحجري، مع العصر الحجري الحديث، بعد الثورة الزراعية وقبل انطلاق الحضارات، عن تحول جغرافي، وانقلاب كوني، وقصة بداية اشتعال زناد انبعاث الحضارات من رقدة المجتمعات البدائية، ففي هذه الحقبة كان الجنس البشري قد شق الطريق الى الثورة الزراعية وبدا في اختراع الأدوات البدائية الأولية، وتكاثر حول بحيرة عظمى في منطقة خضراء غناء هي البحر الأسود، الذي لم يكن يومها بحراً بل بحيرة حلوة المياه، أقل حجما بقليل من البحر الأسود الحالي، وإذا نظرنا الى الخريطة فسوف نرى أن البحر الأسود ينفتح بمضيق البوسفور، حيث تجلس على  حافته الغربية مدينة القسطنطينية التي سيصبح اسمها استانبول، ليفتح بعدها على بحر صغير هو بحر مرمرة، ثم ليضيق مرة أخرى ليشكل المضيق التاريخي، الذي عبره الملك الفارسي (كزركسيس) للهجوم على اليونان المعروف بالهلسبونت: الدردنيل حالياً، أو الذي سيهجم منه الحلفاء على تركيا في الحرب العالمية الأولى، في هجوم خائب على جزيرة غاليبولي، كلف الحلفاء مئات الآلاف من القتلى. التشكل الجغرافي إذاً بحر مرمرة ومضيقان للأعلى والأسفل؛ الأول البوسفور الذي يشكل عنقاً يتصل بالبحر الأسود، والثاني قناة ضيقة تصل الأسود بالمتوسط. ولكن قبل ثمانية آلاف سنة لم يكن الوضع الجغرافي هكذا، حيث لم يكن هناك وجود للبحر الأسود، بل كانت بحيرة مفصولة عن المتوسط بعتبة صخرية ضيقة بدون فتحة، تمتد خلفه البحيرة العظمى الحلوة بشعوب تتكاثر على شطآنها، تتمتع بحياة راقية في مستوى شعوب تلك الأيام، بعد أن قفز الانسان من حياة الغابة والجوع، الى انتاج الطعام والتحول من حياة الصيد وجمع الثمار الى الثورة الزراعية، وتشكيل المدينة، وتنظيم العمل  وتخصصاته، وبداية شق الطريق الى الحضارة. تحول كوني مفاجيء وفجأة يحدث تحول كوني بارتفاع مستوى مياه المحيطات غالباً من ذوبان جليدي كوني. قبل 7500 سنة بشكل صدمة، مما يحرك مستوى المياه وحركتها، بفعل تغير درجات الحرارة، لتتحرك أمواج عملاقة عاتية قادمة من البحر المتوسط الى مضيق الهلسبونت (الدردنيل) فبحر مرمرة، لتضرب بكل عنف العتبة الصخرية حذاء البوسفور، ثم تحد ث الكارثة ويتم خرق البوسفور، ليصبح مضيقاً سوف تجلس عليه لاحقاً بعد آلاف السنوات من طوفان نوح أجمل عواصم الدنيا. نتابع في نهاية الجدل بين منهج دراسة التاريخ من وقائع الأرض وبين اللعب بالكلمات؛ فيخسر الواقع حقيقة، ويربح القاموس كلمة على حد تعبير (النيهوم). في الواقع الدخول إلى النص القرآني بفكرة علمانية ثم تلغيم النص القرآني فينسف هي طريقة في غاية الخبث، وربما تعلمها نا الشحرور من المادية الماركسية حين كان في روسيا يدرس على يد أستاذ روسي مستشرق اسمه (خرا  كوفيسكي). إذن نحن أمام النص إما في طريقة دراسة ماحصل بالنص والكلمات وإما الرجوع إلى التاريخ ووقائع الأرض. ومن هنا تبدأ قصة الطوفان الذي طرح للنقاش كسيناريو محتمل، الذي وصفه العالمان الأمريكيان اللذان وصلا الى تأكيده عن طريق عمل قامت به سفينة بحث روسية في البحر الأسود عام 1993 م، كل مافيه أنه يشبه طوفان نوح الموصوف بفارق أنه أسوء بكثير مما جاء في الكتب المقدسة، فالماء حسب العهد القديم يرتفع 15 ذراعاً ولكنه في السيناريو الجديد مايزيد عن 150 متراً. مع مطلع العام  الميلادي الجديد 1997 تم الاعلان عن كشف آركيولوجي مثير تقدم به فريق علمي جيولوجي آركيولوجي أمريكي (العدد الأول من مجلة الشبيجل الألمانية لعام 1997 م ص 138) وقد قدم البحث في نهاية العام 1996 كل من العالمين الأمريكيين (ويليام راين) (WILLIAM RYAN) و(والتر بيتمان)(WALTER PITTMAN) أثار ضجة علمية في نقابة الأبحاث الأمريكية، لبقايا طوفان اجتاح منطقة القوقاز واوكرانيا وبلغاريا والمنطقة المحيطة بالبحر الأسود الحالي، واندفع بكل جبروت، عندما ارتفع مستوى المياه فجأة في المحيطات والبحار قبل 7500 سنة في نهاية العصر الحجري، أو مايعرف بالعصر الحجري الحديث، وكانت منطقة البحر الأسود بحيرة داخلية مغلقة، تعيش على ضفافها قبائل شتى تنعم برغد العيش، طورت نظام الزراعة وشيئاً من الأدوات البدائية، وأمام هذا الاجتياح المرعب لمنسوب المياه صدمت الأمواج العاتية العتبة الحجرية في غرب تركيا لتخرقها وتشكل مضيق البوسفور، ولتتدفق كميات هائلة من المياه وكأنها تغلي في قدر، لتملأ البحيرة بقوة اندفاع وعنف يزيد عن قوة تدفق شلالات نياجارا ب400 مرة، ليتحول البحر الأسود الى مايشبه (البانيو) الذي امتلأ بالماء و (طفطف) من حوافه، بحيث أن المياه زحفت تفترس بغير رحمة حواف البحيرة بمعدل كيلومتر يومياً، لتصل الى عمق مائة كيلومتر عندما هدأ الطوفان، مما جعل المناطق المحيطة بالبحيرة تتحول كلها الى عالم سفلي تحت الماء، ولتغرق مستودعات غلال حبوب الجنس البشري في تلك الأيام، بالماء المنهمر من أبواب السماء، والمتفجر عيوناً من الأرض، كما وصف القرآن، لتغمر مساحة مائة ألف كيلومتر بارتفاع 150 مترا، في حوض مالح اقتلع كل أثر للحياة من المياه الحلوة، التي كانت عامرة تدب بالحياة في أعماقها بما فيها الديدان، كما دلت على ذلك أعمال الحفر وتحليل الرواسب البحرية، التي قام بها علماء المحيطات والاركيولوجيا والاختصاصيين بالاساطير والميثيولوجيا الشعبية، من التي نقلتها  سفينة روسية حفرت في عمق البحر الأسود. المنطقة الوحيدة التي شمخت ونجت من إعصار الطوفان كانت منطقة القرم، وأما الشعوب التي استوطنت هناك في منطق غناء محيطة بالبحيرة القديمة الجميلة ذات الشواطيء اللازوردية الخضراء، فكانت بين خيار الغرق أو النجاة بالهرب من المنطقة كلها، وكانت هذه الحركة ذات أثر إيجابي كما ذهب الى ذلك العالم الاركيولوجي البريطاني دوجلاس بايلي (DOUGLASS BAILEY) الذي رأى أن هذه الاعصار الكوني بين الغرق والموت الجماعي، وبين الهجرة حذر الموت، قادت الى انتشار تقنية زراعة الأرض، ونقلت بدايات الحضارة الى مناطق متفرقة من الكرة الأرضية، وسارعت في بزوغ الحضارة. فهذا الطوفان المدمر كان زناد الاتقاد لمشعل الحضارة. بقي أن نقول في آخر المطاف أن حرب الخليج ضد صدام جلبت معها أخبار جهنمية عن أحبار اليهود العلماء، الذين يعيشون على عقلية التوراة قبل 7500 سنة، حيث  تم إماطة اللثام عن أخبار سرية، من تفكير اسرائيلي مدروس بدقة (نشرت هذا الخبر مجلة الشبيجل الألمانية وقتها، حيث إزيح النقاب عنها عندما  وضعت الحرب أوزارها) عندما ازداد وخز  رشق أبر الصواريخ، والاندفاع الى استخدام أسلحة الدمار الشامل، أن يفكروا جدياً في اصطناع طوفان نوح جديد من حجم أفظع هولاً وأشد نكرا، فاستنفرت اسرائيل سلاحها النووي، وخططت لضرب السد العراقي على دجلة،  بحسابات دقيقة، لإنتاج طوفان نوح من مستوى عصري، فلو تم ضرب السد العراقي الواقع في المنطقة الشمالية من بغداد؛ فسوف تتدفق كمية من المياه تكفي لإحداث موت جماعي بالغرق لمليون ونصف من السكان، بحيث تغرق الموصل وماحولها بالكامل، ليصل منسوب المياه في النهاية حذاء بغداد الى حوالي المترين؟‍‍! (بالمناسبة أثناء احتلال داعش للموصل تحركت مخاوف مشابهة) فأرسلنا عليهم سيل العرم إن سد مأرب الذي يتحدث عنه القرآن بأن أهله  كانوا يعيشون على جنبه بين جنتين عن يمين وشمال، تحولت بعدها بفعل تدفق سيل عرم الى بقايا من أعشاب جافة وشوك مؤذي وأكل خمط وإثل وشيء من سدر قليل، الذي انفجر عليهم عندما فجروا وحادوا عن الخطة الكونية، بضرب من الذنوب والأخطاء لانعرفها على وجه التحديد، مالم نشق الطريق الى الدراسة المقارنة التي أشرنا إليها؛ فبإخطاء قليلة ينهار السد،  ويندفع الماء المحتقن، يكفي أن يُخرق بمقدار أصبع، وينام الناس عن الخطر ليتدفق عليهم، ومعه انهيار حضارة بكاملها يمزقون شر ممزق تحت رحمة الطوفان. وأنا شخصيا لم أفهم الآية القرآنية حتى زرت اليمن وسد مأرب الذي بني في موضعه سداً جديداً ولكن أضيق مسافة وبكلفة مائة مليون دولار، وقامت جامعة دارمشتات من ألمانيا بإعادة تركيب خطة البناء السابق بالكمبيوتر والقدرة الهندسية الحضارية التي يملكها أهل اليمن منذ ذلك الوقت، وصليت بجانب السد وقرأت آيات سورة سبأ فانفتحت المعاني تماماً أمام عيني .
اقرأ المزيد
الكون...هذا السر العظيم
لتصور الكون وسعته التي تأخذ بالألباب، ليس أفضل من المثل الذي أورده (كارل ساغان) عن عدد النجوم التي ترصع قبة السماء: " تحتوي حفنة من الرمل على نحو عشر آلاف حبة، أي أكثر من عدد النجوم الذي نستطيع رؤيته بالعين المجردة في ليل صافي الأديم، ولكن عدد النجوم التي يمكننا رؤيتها ليست سوى أصغر جزء من عدد النجوم الموجودة فعلاً. وما نراه ليلاً هو مجرد عدد قليل متناثر من أقرب النجوم إلينا، في حين أن الكون غني دون حدود. فالعدد الإجمالي للنجوم فيه هو أكبر من كل حبات الرمل في شواطئ كوكب الأرض كلها" ! وحتى نحيل كلام ساغان إلى أرقام فنقول يوجد مائة مليار مجرة، وفي كل منها مائة مليار نجم في المعدل، وهكذا يوجد في كل المجرات عدد من النجوم يبلغ تقريباً عشرة مليارات تريليون، أي رقم عشرة مرفوع إلى القوة 22، أي واحد وأمامه 22 صفراً. فتبارك الله أحسن الخالقين. لا غرابة إذاً أن يقول عالم الفلك الذي يزن كلماته بهذه الرنة الخاشعة:" الكون هو كل موجود وما وجد وما سيوجد، وإن أبسط تأمل لنا في الكون يحرك مشاعرنا فتمر قشعريرة في العمود الفقري، ويخفت الصوت، ويسيطر إحساس بالدوار كما في تذكر الأشياء البعيدة، أو السقوط من شاهق فنحن نعلم أننا نقترب من أعظم الأسرار". (1) والسؤال: هذه النجوم التي هي شموس متقدة منيرة من أين يأتيها هذا التوقد الذي لا يقف؟ وكم عمر هذا الاشتعال الرهيب الذي تمثل شمسنا نجماً متواضعاً فيه؟ إذا علمنا أن إحدى الشواظات الرهيبة المنطلقة من الشمس وصلت مئات الآلاف من الكيلو مترات؟ ما هو نوع الوقود المستعمل؟ وكم ستعمر شمسنا؟ بل وكم عمرت حتى الآن؟ وهل للنجوم أعمار؟ بل وهل للكون عمر مطلقاً؟ وهل شاخت شمسنا وبلغت أجلها؟ وهل الكون يمشي نحو الانهيار والانحدار؟ كلها أسئلة تأخذ بعضها برقاب بعض إلا أن الكوسمولوجيا الحديثة ومن خلال الوصول إلى الانفجار العظيم حلت بعض أعظم الأسئلة الكبرى في تاريخ مغامرات العقل الكبرى. إن معلومات علماء الفلك في الوقت الراهن عن بداية الكون تشبه أفلام الخيال العلمي؛ فالكون حسب وجهة نظرهم بدأ حيث لم يكن زمان ولا مكان ولا مادة ولا طاقة، وحيث تتعطل قوانين الوجود الرئيسية ليبدأ في التشكل بعدها الزمان والمكان والمادة والطاقة المعروفة بخمس أشكال، ولتبدأ قوانين الوجود بالعمل بل بالوجود، وحدث كل هذا في جزء من مليار مليار مليار مليار من الثانية (عشرة مرفوعة إلى 36 صفرا)، لتندفع كتلة نارية مروعة في كل الاتجاهات، حيث بدأت الاتجاهات في التشكل!! لتتشكل بعدها المجرات ومنها مجرتنا درب التبانة، وكان هذا قبل    13,7 مليار سنة حسب آخر المعلومات. أما مجرتنا فبدأت في التشكل قبل حوالي ثماني مليارات عام، وتشكلت الأرض قبل حوالي 4.6 مليار سنة، وبدأت الحياة على الأرض قبل 3.8 مليار سنة، أما عديدات الخلايا فبدأت تدب على الأرض قبل 530 مليون سنة، في حين أن الحياة الإنسانية بدأت قبل سبعة ملايين سنة حسب أحدث الكشوفات. وبدأت الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف سنة، أما الحضارة فبدأت في الانطلاق قبل ستة آلاف سنة، في حين أن الكتابة اخترعت قبل خمسة آلف سنة، وركبت المطبعة قبل 500 عام، واكتشفت الطاقة البخارية قبل 200 عام، واستخدمت الكهرباء قبل 120 سنة، أما الطاقة الذرية فاستخدمت في المجال السلمي قبل ثلاثين سنة فقط، والفيديو والكمبيوتر قبل عقود بسيطة. إذا كانت هذه هي البانوراما العامة للتطور الكوني فإلى أين يمشي الكون؟ إن استعار النجوم وتوقدها لا يقوم على وقود تقليدي حيث أدت الأبحاث التي قام بها العالمان (هانس بيته) و(كارل فون فايتسكر) أن يثبتا أن الوقود الذي تستهلكه الشمس هو وقود غير تقليدي، إذ لو استهلكت الشمس ما يعادل كتلتها من الوقود التقليدي لنفد خلال 300 سنة. وهكذا فإن الاحتراق الذي يتم في باطن الشمس هو انفجارات ذرية رهيبة ليست من النوع الانشطاري بل من النوع الالتحامي أي التحام ذرات الهيدروجين لإنتاج ذرات هليوم. وهكذا فليس عنصر الهليوم الوحيد الذي نتج من طبخ النجوم عبر الأحقاب، بل تشكلت بقية العناصر مثل الفحم والحديد والسيليكون والأوكسجين..الخ.. ويرى الكوسمولوجيون بأن هذا الطبخ الرهيب في باطن النجوم كان يولد في كل مرة طاقة تقود إلى اندماج جديد. واستمر هذا حتى رحلة تشكيل الحديد. وأما ما بعد ولادة عنصر الحديد فحدث العكس. أي أن العناصر تشكلت بطاقة خارجية. وهكذا تشكلت عناصر الأرض بدءاً من أبسط العناصر وهو الهيدروجين ووزنه الذري واحد، وانتهاءً بأثقلها وهو عنصر اليورانيوم ووزنه الذري 238. والعنصر الأخير غير مستقر ومنه صنعت القنابل الذرية. من أشكاله غير المستقرة أي اليورانيوم 235 والآخر الذي تم صناعته أي البلوتونيوم 239. ومن الأول 235 تم ضرب مدينة هيروشيما القنبلة التي أعطوها اسم (الولد الصغير) في 6 آب- أغسطس عام 1945. ومن الثاني أي مادة البلوتونيوم صنعت القنبلة التي أخذت اسم (الرجل السمين) تم ضرب مدينة ناغازاكي في 9 آب- أغسطس من نفس العام. فإذا كان الكون كله قد تركب من العنصر الأولي أي الهيدروجين ذو الوزن الذري واحد ومنه وعلى شكل سلم موسيقى تتابع تشكل بقية العناصر في رحلة زمنية فهذا ينبئ بأن الكون له بداية أي أن المادة ليست أزلية. كذلك فإن العالم الروسي الفلكي الفيزيائي (جورج غاموف) جمع الأدلة عن ظاهرة عجيبة تقول بتمدد الكون. وكان ذلك من دورة حياة النجوم، حيث تم كشف النقاب أن النجوم لها حياة تماماً كما هو الحال في حياتنا الإنسانية، فهي تولد وتكبر ثم تشيخ وتموت ثم تتفسخ، وظاهرة (الثقب الأسود) وهي ظاهرة أشد عجبا قال بها للمرة الأولى (سيمون لابلاس) العالم الفكي الفرنسي الذي عاصر نابليون، ما هو إلا نجم بالغ الكبر شاخ واستهلك وقوده النووي ثم راح في التقلص تحت قوة جاذبيته الكبيرة في الانكماش إلى حد يفوق كل تصور.ويمتص تحت جاذبيته كل شيء بما فيها فوتونات الضوء. ويتحول في النهاية إلى كتلة بالغة الصغر بالغة الانجذاب يشفط إلى داخله تحت تأثير الجاذبية كل مايحوم حوله. فلا يفلت منه شيء جاوره إلا ابتلعه. وبذا ينقلب الثقب السود إلى شفاط كوني مخيف، لا يهرب منه شيء حتى النور، ولا يعرف الثقب الأسود إلا بهذه الخاصية أي امتصاصه المرعب المتربص في مكان ما من الكون. إن الثقب الأسود يشبه القط الأسود المتربص للافتراس في ليلة حالكة السواد ليس فيها نور.  لقد توصل (جورج غاموف) إلى أن الكون بدأ بانفجار مخيف تشكلت فيه بالدرجة الأولى الجزئيات دون الذرية، ثم وتحت تأثير الضغط والحرارة تشكلت الذرات ليتشكل الكون الفسيح الذي نعيش على ظهر ذرة منه. كما أن قوى الكون الأربع الرئيسية وهي الجاذبية والكهرطيسية وقوى النواة القوية والضعيفة، يبدو أنها كانت في بداية هذا الإعصار الكون مندمجة في قوة واحدة موحدة وتحت قانون (توحيدي) وهو ما أشار إليه الفيزيائي الكوسمولوجي (ستيفن هوكنج) صاحب كتاب (قصة قصيرة للزمان).(2) وإذا كان الكون في قبضة قانون واحد فهل يمكن تفسير كل الظواهر الكونية بقانون واحد توحيدي؟ إن هذه الفكرة هي بمكان عظيم ولقد قضى آينشتاين بقية عمره بعد إنجازاته في النسبية في محاولة ضم الكون وضغطه تحت قانون واحد عبثاً، مستخدماً كل براعته في دخول أدغال المعادلات الرياضية. إن نجاح ماكسويل كان مغرياً في القرن السابق حينما ضغط قوانين الكون الخمسة في أربعة، فبعد أن كانت ظاهرة الكهرباء والمغناطيس منفصلتين استطاع ماكسويل أن يدمج القوتين في قوة واحدة، وكانت النتائج العملية رائعة لهذا الدمج، والذي تتمتع بآثاره في عالم الإلكترونيات في الوقت الراهن. كذلك فكرة دمج (الطاقة بالمادة) حيث أصبحت الحقيقتان وجهين لعملة واحدة. ثم فهم الضوء على أنه يتظاهر بشكل فوتونات أي أجسام مادية كما يتظاهر بالشكل الموجي، كله شق الطريق لفهم الكون بشكل أبسط.  وما يحلم به الفيزيائيون اليوم هو دمج (النسبية) بـ (ميكانيكا الكم). ومازال الصدع بين المجالين كبيراً. لقد دخل آينشتاين في محاورات ساخنة مع مدرسة ميكانيكا الكم (3) التي تتناول العالم دون الذري. أي عالم (الميكرو Micro) الدقيق الصغير. في حين تنطلق (النسبية) إلى تفسير (العالم الأكبر Macro). واليوم تنطلق نظرية جديدة هي (نظرية الأوتار الفائقة)(4) في محاولة لدمج هذين العالمين، قوانين العالم الأكبر مع الأصغر كي يتم فهم الكون بشكل موحد. هذا اللغز العجيب الذي يرويه علماء الفيزياء تحت ظاهرة الحقبة (المتفردة) في قضية الانفجار العظيم هي حديث الكوسمولوجيين. ولكن ألا يمكن اختصارها بكلمة واحدة: (الخلق الإلهي)؟!! لنستمع إلى شهادة رجل كوسمولوجي وهو يحاول تطويق مفاهيم الفكر القديم عالم نيوتن وداروين وهكسلي وهو الفلكي الفرنسي (سيمون لا بلاس) صاحب المؤلف الفلكي الضخم (ميكانيكا الأجرام السماوية)، الذي كان برفقة نابليون في حملته على مصر، وحاول رؤية الكون من فوق الهرم. ذكر الرجل في حوار دار بينه وبين نابليون أنه كان يحاول فهم الكون  أنه قائم بنفسه و لا يحتاج لفهم وجوده إلى أي علة خارجية. وعندما توجه نابليون إليه بالسؤال: وأين مكان الله في نظامك السماوي؟ قال لا حاجة لنا به. الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بدأ يتصور العالم على شكل ساعة كبيرة، تسير وفق قوانين حتمية، إلى درجة أنه يمكن أن نعرف ماذا سيحصل لنا حتى الممات، وبالطبع فهي تمثل نصف الحقيقة، لأن الكون يقوم على القانون، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولكن السؤال الكبير هو: ما هو نوع القانون الذي يسير دورة الكون. إن ميكانيكا الكم مثلاً أدخلت ثغرة لم تسد حتى الآن في فهم العالم، على الأقل في مستوى العالم الذري، أي العالم الأصغر، في أن لا مكان لـ(الحتمية) و(الموضوعية). وهذا الانهيار المريع لقوانين الفيزياء التقليدية جاء من الذيول الفلسفية لمبدأ (الارتياب) الذي وضعه الفيزيائي والفيلسوف الألماني (فيرنر هايزنبرغ) كما توصل إليه البريطاني (بول ديراك) وكان ذلك عام 1928م والاثنان شباب صغار. ومبدأ الارتياب ولد بدوره من نتائج ميكانيكا الكم.التي كانت موضع النزاع مع آينشتاين حتى الحظة الأخيرة من حياته. إن مبدأ (الارتياب) خلخل عالم نيوتن القديم في مستوى الذرة. كما أن (النسبية) طوحت بمفهوم الزمان والمكان المطلقين، وجاءت فكرة الانفجار العظيم لتكمل عملية الهدم، وبذلك انهار العالم المادي القديم بالكلية، وبدأ العالم في التشكل من جديد. لننقل شهادة عالم فلكي في محاولة تصور الانفجار العظيم. هو (جايانت نارليكار) في مقالته التي نشرت في مجلة اليونسكو عدد سبتمبر 1982م. يقول الرجل: (هل نشأ الكون حقاً من انفجار عظيم؟ وبالنظر إلى أن الكون يتمدد في الوقت، فإننا في حاجة إلى نظرية دينامية تروي لنا ما فعله الكون في الماضي وما سوف يفعله في المستقبل، ولعل نظرية النسبية العامة لآينشتاين هي أبسط النظريات المتاحة لدينا اليوم وأكثرها ملاءمة لهذا الغرض، ذلك أن نماذج الكون المبنية على أساس هذه النظرية تقودنا إلى مفهوم أصل الكون القائم على الانفجار العظيم، وطبقاً لهذه النماذج نجد أن كثافة الكون وثابت هابل يزيدان كلما غصنا في أغوار تاريخ الكون وعدنا في الزمان إلى الوراء لدرجة أن كلتا هاتين الكميتين تصل إلى ما لا نهاية عند حقبة محددة من الزمن السحيق هي حقبة الانفجار العظيم. وينزع الفيزيائيون عادة إلى الارتياب في صحة إطارهم النظري إن هو أدى بهم إلى نتائج لا نهائية كهذه النتائج، بل إن نظرية آينشتاين تزيد الطين بلة لأنها تربط كثافة المادة وحركتها بالخواص الهندسية للمكان والزمان ومن ثم يستحيل تحديد هذه الخواص في حقبة الانفجار العظيم، ونتيجة لهذا الانهيار الكامل للتعبيرات الفيزيائية والرياضية يشار إلى حقبة الانفجار العظيم بـ" (الحقبة المنفردة)...وظهور هذا (التفرد) إنما يعكس نقص فهمنا للأمور أكثر مما يشكل وصفاً للواقع الفيزيائي، وتقرن الحقبة المتفردة بأصل الكون، ويتعطل قانون بقاء المادة والطاقة أثنائها لأن المادة كلها والإشعاع كذلك الموجودة في الكون كان يتعين خلقها آنذاك".(5) لاحظ معي التعبير الأخير للكاتب "لأن المادة الموجودة في الكون كان يتعين خلقها آنذاك، فلا يمكن تفسير الأمور إلا بفكرة الخلق، أي إنشاء الأشياء من العدم (إن ربك هو الخلاق العليم). بالطبع فإن هذه النظرية صدرت في وجهها مجموعة من الاعتراضات وما تزال، إلا أنها في مجموعها مازالت متماسكة بشكل عام، وهذه هي طبيعة العلم أي الحذف والإضافة، وأبرز الاعتراضات التي صدرت لإنقاذ أزلية المادة هي التي قام بها السير فريد هويل وبوندي وجولد من جامعة كمبريدج وهي (فرضية استقرار الكون) وبموجبها تم افتراض تولد الهيدروجين التلقائي في جميع أرجاء الكون، إلا أن الكشوفات التي قام بها كل من أرنو بنزياس وروبرت ويلسون عالمي اللاسلكي بمختبرات شركة بل في الولايات المتحدة والتي نالا بموجبها جائزة نوبل للسلام عام 1987 دعمت بشكل جوهري نظرية الانفجار العظيم، حيث عثر العالمان على موجات ضعيفة منبعثة من أرجاء الكون، وعند قياس درجة هذا الإشعاع وجد أنه 2.5 فوق درجة الصفر المطلق (6) ولقد اعتبر هذا الإشعاع الكوني هو من بقايا الانفجار العظيم. كذلك جاء اعتراض آخر على نظرية الانفجار العظيم بفكرة (الكون النوساني) أي أن الكون يشبه الأكورديون فهو قد مر بعدد لا نهائي من الانفجارات والانكماشات، وكان ذلك من أجل استنقاد أزلية المادة مرة أخرى، وهذا يعني أن الكون هو في حالة مخاض دائم، وانهيارات متتابعة، بين التمدد والانكماش، أي بين انفجارات عظيمة لا نهاية لها، ولقد نفيت هذه بدورها بموجب القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ويعلق ستيفن فاينبرج مؤلف كتاب (الدقائق الثلاث الأولى) على ذلك بما يلي "بعض التخصصات في علم الكونيات تشدهم نظرية نوسان الكون فلسفياً، خصوصاً وأنها تتجنب ببراعة شأن نظرية استقرار حال الكون مشكلة النشأة الأولى، غير أنها تواجه صعوبة نظرية شديدة واحدة، ففي كل دورة من تمدد الكون وانكماشه تطرأ على نسبة الفوتانات إلى الجسيمات النووية، أو على الأصلح درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي، زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم، وفي هذه الحالة في حدود ما نعلم سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل، وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه، ويعلق صاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد على ذلك بما يلي:"وتستند حجة فاينبرغ في هذه المسألة إلى نتيجة محتومة مترتبة على إحدى الخواص الجوهرية للمادة وهي القانون الثاني للديناميكا الحرارية ويقول هذا القانون أن المادة إذا ضغطت سخنت وارتفعت درجة تعادلها الحراري الانتروبيا وهكذا كلما زادت عدد (الانكماشات العظيمة) للكون ازدادت حرارته ودرجة تعادله الحراري، وحيث أن درجة حرارة الكون ودرجة تعادله الحراري محدودتان في الوقت الراهن فلا بد من أنه كانت له بداية، ومن المفترض أن يبدأ كل انفجار عظيم في إطار نوسان الكون، بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الانفجار الذي سبقه، من هنا لزم أن تكون درجة حرارة الكون في ختام سلسلة طويلة من الانفجارات العظيمة والإنكماشات العظيمة أعلى كثيراً من درجة حرارة 2.5 فوق الصفر المطلق.(8) لذلك فإن النظرة العلمية الجديدة ترى الوجود بمنظار جديد فلم يعد الكون مادة أنتجت بفعل الصدفة والضرورة، أو أنه أزلي أبدي ولا يحتاج لتفسير من خارجه، بل هو خلق الله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. النظرة العلمية الجديدة ترى أن الكون بمجموعه بما في ذلك المادة والطاقة والزمان والمكان والقوانين وجد في وقت واحد. هكذا يقول مؤلفا كتاب العلم في منظوره الجديد:"ولكن لا بد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن، فالعدم لا ينتج عنه إلا العدم والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام لأنه كان للمادة بداية، وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة، ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي، ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل، فإذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلا بد من أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود، وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وأزلي خلق كل الأشياء وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة الله". (9) إنني لا أريد استعجال الأمور واستباق الأحداث، وإن كانت الدلائل كلها تمشي كل يوم نحو تأكيد هذه القضية، ولكن المفاجآت الجديدة، والاعتراضات الكثيرة، والحذف والإضافة، التي تتدفق كل يوم مع سيل المعلومات الذي يشكل نهراً يزداد عرضه كل يوم، وكل نظرية أو فكرة يجب أن تهيئ نفسها لكل الاحتمالات حتى تستوي على سوقها، إنما نسوق وصف العتبة التي يقف عندها العلم اليوم "ولتعلمن نبأه بعد حين". المراجع والهوامش: (1) كتاب الكون-كارل ساغان-ترجمة نافع أيوب لبس-عالم المعرفة الكويتية-رقم 178. (2) كتاب قصة قصية للزمان-ستيفن هوكنج-ترجمة عبدالله حيدر-الناشر أكاديمياً. (3) في عام 1900م كان العالم الألماني (ماكس بلانك) أول من أشار إلى فكرة (ميكانيكا الكم) من خلال تفسير ظاهرة الجسم الأسود، وخلاصة الفكرة تقوم على تفسير لماذا يتحول لون السلك المحمي من الأحمر إلى الأبيض مع ارتفاع درجة حرارته، وتبين أن اللون يعتمد على (كم) الطاقة المنبعث من الوهج، وهكذا فالطاقة يتم إرسالها بشكل كميات منفصلة وليس بشكل مستمر. (4) نظرية (الأوتار الفائقة) جديدة في ميدان الفيزياء النووية، وهي ترى بنيان الكون يقوم على أوتار بلغت دقة متناهية، وهي التي تشكل البناء الذري، فهي عالم آخر أدق من البروتونات، وترى أن بداية الكون تشكلت ليس من أربعة أبعاد فقط كما تراه النسبية بل عالم ذو عشرة أبعاد، انفك عن بعضه في عوالم متنوعة تمشي بشكل متواز، منها عالمنا ذو الأبعاد الأربعة!! وهذه الفكرة أشارت إليها أيضاً مجلة صورة العلم الألمانية حيث يذهب التفكير العلمي اليوم أن كوننا لو تم تصوره كبالونة تنتفخ وتتمدد، فإن هناك بالونات-أو غير بالونات لا ندري تماماً طالما ليس عندنا قدرة الوصول إليها-أخرى في كون لا نحيط ببدايته ولا نهايته!راجع كتاب (ما بعد آينشتاين) تأليف ميشيو كاكو-ترجمة فايز فوق العادة-إصدار دار (اكاديميا). (5) رسالة اليونسكو-عدد 280. (6) الصفر المطلق هو ,15372 تحت الصفر وهي الدرجة التي لا تنزل دونها الحرارة وهي من ثوابت الكون كما هو الحال في سرعة الضوء التي تبلغ 300000كم/ثانية. (7) عن كتاب (العلم في منظوره الجديد) تأليف روبرت آوغروس وجورج ستانسيو-ص62. (8) نفس المصدر السابق ص 63. (9) نفس المصدر السابق ص 65.
اقرأ المزيد
هل يوجد في الإسلام قتل للمرتد؟
الطريق باتجاه واحد فقط (الجزء الأول) تم عقد مؤتمر مصيري في اليابان حول التعريف بالإسلام، حيث اجتمعت في صالة المؤتمرات الضخمة في طوكيو شخصيات يابانية علمية، وسياسية مرموقة، واجتماعية ذات مناصب، ورجال أعمال ورؤساء شركات عملاقة، وبعض الوزراء، ورجال الدين الشنتي والكونفوشيوسي. جلس الكل يستمعون بإنصات بالغ إلى المحاضرات التي يلقيها الوفد الإسلامي القادم من الشرق الأوسط للتعريف بدين الإسلام. وخلال ثلاثة أيام متلاحقة من المحاضرات المكثفة المملوءة بالحيوية والحماس، تم استعراض عدالة الإسلام، ومكانة المرأة، وفكرة الحاكمية، ونظام الشورى، والتربية الروحية، والحرية الفكرية في الإسلام. كان اليابانيون يهزون رؤوسهم في كل مرة بالاستحسان والإعجاب، وفي نهاية المؤتمر تم توزيع كتيبات صغيرة بالتعريف بالإسلام، وشروط دخوله، وكيفية النطق بالشهادتين، وأركان الإسلام الخمسة. كان كل شيء يمشي بهدوء لولا أن قطع جو الاستحسان سؤال تقدم به أحد المفكرين اليابانيين فقال: قرأت في نهاية الكتيب حكماً لم أفهمه على وجه الدقة، وبدا لي فيه شيء من الغرابة واللاعقلانية؟! أجاب رئيس الوفد الإسلامي: تفضل بسؤالك يا أخ (سوموتاـ كيم سونج) فالإسلام مبني على العقلانية وحرية الفكر؛ والتفكير فريضة إسلامية، فلا نرضى من أحدٍ من الأخوة اليابانيين الراغبين في الدخول في الإسلام بأقل من القناعة الكاملة. الياباني (مستفسرا وعلى وجهه علامات التعجب): تشترطون للدخول في الاسلام أن الذي يدخله يلتصق به إلى الأبد فلا خروج منه ولا فكاك ولا طلاق، وكأنه طريق باتجاه واحد إلى الأبدية لا عودة منها، ثم هب أنني أردت أن أغير رأيي لسبب أو آخر، فالطريق عندكم باتجاه واحد كما يبدو لي. هل فهمت هذا الشرط بشكل صحيح؟ رئيس الوفد الإسلامي (بشيء من حس الدفاع): نعم أيها الأخ الشيء الذي فهمته صحيح لسبب بسيط، فالذي يدخل الاسلام ويعتنق هذا المبدأ العظيم، لا يمكن له أن يجد أفضل منه بحال من الأحوال، فنحن قمنا له بعملية اقتصادية موفرة للجهد إلى أبعد الحدود. لذا لا يقبل الاسلام بالردة: أي الخروج منه وجاءت في هذا النصوص صريحة، فهذا كما ترى ليس رأيي أنا بالذات، بل هو حكم الله المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. الياباني (محتداً): ولكن هذا الشرط يقوم عليه حكم غاية في الصرامة، فالذي يحاول الخروج منه لسبب أو آخر مهدد بالقتل؟! هل فهمت هذا الأمر بشكل صحيح؟ رئيس الوفد الاسلامي (وبشيء لا يخلو من الارتباك): اسمح لي يا أخ سوموتا أن أشرح لك الموضوع حتى لا تقع في الحرج والخوف. نعم يقتل المرتد الذي يخرج من الاسلام بعد اعتناقه، لأننا نعطيه كامل الفرصة لدراسة الاسلام من كل الوجوه، فيجب أن يتحراه تماماً قبل دخوله. ألا تفعلون نفس الشيء في السوبر ماركت حينما يشتري الإنسان البضاعة فيكتب صاحب المحل: البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تبدل. فالإسلام هكذا صفقة تمت وانتهت بعد تحري كامل ووثيق لبضاعة الاسلام. ياباني آخر يتساءل (ويلتفت لمن حوله): ولكن هذه بضاعة وليست ديناً أعيش به ما حييت فبإمكاني أن أتلف هذه البضاعة، لا ستخدمها، أعطيها لآخر، أما هذا الدين فإنني أتلبس به فلا يمكن أن أعلن خروجي بحالٍ من الأحوال إلا بخروجي من الدنيا!! رئيس الوفد (بشيء من التبرير): أيها الأخ الفاضل نحن بهذا الإجراء نريد قطع الطريق أمام من يريد التلاعب بالدين، فهناك أناس يريدون أن يتظاهروا بالإسلام كما حصل في صدر الاسلام، حينما استخدم اليهود هذا التكتيك لصرف الناس عن الاسلام، وذكر القرآن ذلك (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) فعندما يُظهر رجل الحماس للإسلام ويعتنقه، وبعد فترة قصيرة يبدأ في ترويج الإشاعات: إنني بعدما دخلت في هذه الجماعة واعتنقت دينها تبين لي كذا وكذا من الأخطاء والقباحات، فإنه بترويج مثل هذه الاشاعات يقوم بعملٍ تخريبي مضاعف ضد الاسلام، فهو من جهة يصرف الآخرين عن الدخول في الاسلام فيجهض انتشاره، كما أنه ثانياً يزعزع الكثيرين ممن دخلوا في هذا الدين، فيبدأون في التفكير بالخروج منه وبسرعة، فقام الاسلام أمام مثل عمليات التخريب هذه ودفاعا عن ذاتيته بإجراء حاسم قاطع دفاعي لقطع الطريق على مثل هذه المحاولات، فالذي يريد أن يتلاعب فيدخل ويخرج منه متى ما يشاء كان عقابه الموت بقطع الرقبة، حتى لا يفكر أحد بالتلاعب بالدين بعد ذلك، فهذا الإجراء كان ليس ضد الفكر وحرية العقيدة بل ضد عمليات التلاعب بالدين كي يؤخذ الأمر مأخذ الجدية، وهذا الذي فعله الاسلام لاحقا حينما قتل أهل الردة وجماعة من عرينة. ياباني ثالث (يهز رأسه نفياً وهو غير مقتنع بالإجابة): ولكن تلك الظروف غير ظروف العالم اليوم، والمسلمون اليوم يعدون فوق المليار، ولا يمكن لمثل هذه الأساليب التأثير في عقول شعوب وأمم تشربت بالإسلام، كما أن هذا الإجراء على كافة الأحوال يهدد حرية الاعتقاد دخولا وخروجا، وأنا سمعت عن دينكم من بعض المفكرين غير المشهورين أنه لا يوجد إكراه في الدين في نص القرآن، فيحق للإنسان أن يؤمن متى ما يشاء ويكفر متى ما يشاء، فيحق له الدخول والخروج من أي دين في أي زمان أو مكان تحت أي ظرف فماذا تقول؟ رئيس الوفد (بصرامة): النص صريح فلو أردت الخروج بعد الدخول قطعنا رقبتك. بالطبع نحن لسنا متعطشين للدماء بقدر إقامة شرع الله. فلا تُقتل فوراً بل هناك عملية استتابة، فإن تُبْتَ عن الكفر تركناك، فإن أبيت الا ترك الاسلام واعتناق الكفر تقربنا بدمك إلى الله. ياباني من مؤخرة القاعة (بشيء من الاستغراب): ولكن هب أنني تظاهرت بأنني لم أخرج من الاسلام أو تبت حسب مصطلحاتكم وأنا أبطن الكفر، فأنتم حولتموني بهذه الطريقة الى ما هو أقبح من الكفر وهو النفاق، فالمنافق هو كافر مكثف خبيث مختبيء تحت الأرض، ألم يكن أنفع لكم وأجدى أن أُظهر الكفر علناً، بدل أن أخفي النفاق مثل الجمر تحت الرماد، أو الأفعى المتظاهرة بالموت تحمل السم الناقع باللدغ المفاجيء، ونحن حسب التقنية الراقية الموجودة في مختبراتنا الطبية نخاف من الجراثيم المختبئة المعروفة باللاهوائية، والغانغرين فيها لعين للغاية، فهي أخطر بمالا يقارن من الباكتريا التي تعيش في الضوء والهواء وعلى السطح علناً فماذا تقول يا سيدي؟ رئيس الوفد الاسلامي (بإصرار وبشيء من رفع الصوت والحدة): الرأي ليس رأيي كما قلت لك، بل هو رأي رب العالمين، فهذا ما قاله الحديث الصحيح، ثم لم أفهم سبب تركيزك المبالغ فيه على هذه النقطة بالذات، وبهذا القدر من الكثافة، وتغض النظر عن كل محاسن الاسلام التي شرحناها لكم. ياباني آخر من مجلس الدايت (البرلمان الياباني) بقوة ووضوح: السبب بسيط لأن هذه القضية مصيرية ومتعلقة بحرية اعتناق العقيدة التي سُفك لها من دماء البشر ما يعادل الاوقيانوس، حتى حققت البشرية هذا المكسب في حرية الرأي وحرية العقيدة اعتناقا وتركا، وبنينا مؤسساتنا الديموقراطية بأنهار من الدموع والعرق، فأنتم بهذا الاتجاه الفظيع قطعتم الطريق أمام حرية الضمير عند الانسان. ولكن مع هذا يبقى عندي تساؤل في نفس اتجاه النص الذي تتسلح به وتحتكر الحقيقة الايديولوجية لنفسك، فأنت تقول إن النص يقول هكذا، ولكن من خلال اطلاعي البسيط على القرآن رأيت أن دينكم واضح في هذه النقطة، فهو يعلن مبدأً عظيماً هو: (لا إكراه في الدين) فهو ينفي كل صور الإكراه والإلزام والضغط والفرض، في أي دين أو مبدأ أو مذهب خروجا ودخولا، لأن صور الإكراه متعددة فمنها ما هو الإكراه على اعتناق دين، ومنها الاكراه على عدم ترك أو الخروج من دين فهي صورة إكراه كما ترى. رئيس الوفد (بشيء من التفاخر والاعتداد بالنفس): نعم لا يوجد في ديننا أي إكراه، فنحن لانكره أحداً بالقوة أن يدخل في ديننا، ولكننا نغلق عليه الطريق إذا أراد الخروج.
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram