ليس ثمة عدو للإنسان أكثر من فقده لصبره. وفي سورة مختصرة قصيرة ثمة تركيز على أربع صفات هي مفتاح تشكيل شخصية المؤمن في العصر إنه لفي خسر إلا الإيمان والعمل الصالح والمحافظة على ضبط النفس وتدريبها بالصبر والتواصي بالحق والحقيقة.
هذه الصفات إنسانية المنشأ هي عمود فقري في كل ثقافة والله لايحب الظالمين. أنا شخصيا اطلعت على ثقافات متباينة ورصدت كتابي (كليلة ودمنة الجديد) متتبعا آثار ابن المقفع فوضعت 200 قصة من التراث العالمي في أربع مجلدات عن القصص العالمية ودروس الإيام وعظاتها. وبين يدينا الآن قصة رائعة عن مزيج لايصل إليه إلا الأفراد القليلون من ضبط النفس والصبر والتخطيط البطيء مثل من يلعب لعبة الشطرنح. من هذه القصص وقعت على ثروة رائعة عند الكاتب روبرت غرين في كتابه القوة (Power) وقام بترجمة الكتاب البيجرمي على نحو جميل. وهذا الكتاب قبل ترجمته إلى العربية وقعت عليه في مجلة در شبيجل الألمانية حين أشاروا إليه واعتماد 48 قاعدة في لعبة القوة. من هذه القصص أضع بين يدي القاريء هذه القصة المعبرة عن جدلية المكر والصبر.
في العشرينات من القرن العشرين استطاع الامبراطور (راس تافاري) الذي اتخذ لاحقاً اسم (هيلا سيلاسي) توحيد الحبشة بين قبائل تتناحر وزعامات من رجالات الحرب لانهاية لهم. وكان ما يلفت النظر شكله الناعم وطبقة صوته المنخفضة. وبدأت تلك الزعامات بالتوافد عليه إلى العاصمة (أديس أبابا) لإعلان الاخلاص والطاعة للعرش الامبراطوري. وكان توافد الرجال بين مستعجل ومتردد أو متباطيء ولكن رجلاً محارباً شديدا هو (جازماخ بالخا) من (سيدامو) في الجنوب رفض الدخول مع الداخلين. وكان رجلا محاربا يخشى جانبه. وانتظره هيلا سيلاسي طويلاً بدون فائدة حتى كان اليوم الذي طلبه الامبراطور للحضور إلى العاصمة ليقابله فتظاهر بالامتثال وحضر ومعه جيش من المحاربين قوامه عشرة آلاف مقاتل حتى وصل قريباً من العاصمة فعسكر على بعد خمسة كيلومترات على أمل أن يأتي إليه الامبراطور شخصياً وإلا كانت البداية لإشعال فتيل الحرب الأهلية. إلا أن هيلا سيلاسي كان طويل البال لم يعهد عنه الغضب أو فقد الأعصاب وكان قد أعد له خطة محكمة تسير وفق مراحل مثل لعبة الشطرنج تماماً بمكر سياسي بارع. قام هيلا سيلاسي أولاً بإرسال من يفاوض له ويدعو بالخا للحضور إليه بدون خوف أو مكيدة. ولكن بالخا كان يعلم معنى حضوره انفراديا أن مصيره سيكون مثل أبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور فأبى الحضور إلا مع جنده فوافق هيلا سيلاسي وقال إنه شرف كبير أن يستقبل محارباً شهما مع جنوده الشجعان في قصر الحكم.
قام بالخا بانتقاء 600 من خيرة جنوده وأوصاهم أن لا يفرطوا في الشراب وأن يبقوا مستيقظين لأي بادرة خيانة. ثم سار بجنوده لمقابلة الامبراطور الذي أظهر له من الحفاوة والكرم الشيء الكثير. وعندما دخلوا القصر أظهر هيلا سيلاسي من ضروب الاحترام ما أشعر بالخا أنه من يقرر الأمور وأن سيلاسي يحتاج مساعدته بشكل ملح لتسيير أمور الدولة والحكم ومقتضيات السياسة. إلا أن بالخا لم يكن بذلك الأحمق فحذر هيلا سيلاسي أن عليه العودة إلى معسكره مع الغروب وأنه قد أعطى تعليماته لجيشه المرابط أن أي تأخر في الحضور يعني المكيدة وعليهم مهاجمة العاصمة. كان ارتكاس الامبراطور هادئاً وأظهر له أنه بعدم ثقته به يعني الكثير من جرح الكرامة. ثم دعاهم إلى تناول الطعام المعد بعناية. وعندما جاء دور العزف الموسيقى لم يكن هناك سوى تمجيد بالخا القادم من سيدامو.
هذه الخطوات أدخلت الى قلب بالخا أن هيلا سيلاسي خائف منه وأنه أمام هذا المحارب العنيد يطلب وده بأي ثمن. ثم بدأ يفكر في مصير الامبراطور هل سيرسله إلى حبس انفرادي لبقية عمره أو يقضي عليه. وقبل الغروب انصرف بالخا وجنوده مزهوا بقوته بين صرخات التحية وعيارات نارية تحية من أهل العاصمة. وعندما ألقى النظرة الأخيرة بدأ يفكر في كيفية الانقضاض على العاصمة في الأسابيع المقبلة. ولكن المفاجأة الكبيرة له كانت عندما رجع إلى معسكره ليجده خاوياً على عروشه فلم تبق خيمة أو رجل. وعندما سأل روع بالخبر فقد جاء جيش تابع للامبراطور يحمل الكثير من المال والذهب فاوض الجنود على تسليم أسلحتهم ومن امتنع مارس عليه التخويف وخلال ساعات مزقوا شر ممزق فتم نزع سلاح الأفراد وتفرقوا مع الأموال في البلاد. وعندما أراد بالخا العودة بمحاربيه الستمائة إلى الجنوب من حيث جاء بقوته قطع عليه نفس الجيش الطريق ولم يبق أمامه إلا أن يمشي باتجاه العاصمة وهناك كان الامبراطور بتحصينات كبيرة في انتظاره. وللمرة الأولى في حياته يستسلم بالخا. وعندما أجبره هيلاسيلاسي على دخول معبد يقضي فيه بقية حياته قال قبل هذه اللحظة الرهيبة إياك أن تستخف بخصمك (هيلا سيلاسي) فقد يبدو في خطوة الفأر ولكنه ينتقم كسبع ضاري.
إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب وهو مافعله سيلاسي مع خصمه الذي ظن أنه يأوي إلى ركن شديد فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة.
اقرأ المزيد
تقدم الرسول التركي المعمم قد وضع يده على مقبض سيفه المعقوف فدفع بالرسالة إلى القائد النمساوي ستارهمبرج (STARHEMBERG) ففضها على عجل؛ ليقرأ انذاراً مروعاً من قائد الجيش العثماني (قره مصطفى باشا)؛ يأمره فيها بالتسليم لأن السلطان العثماني قد قرر ضم النمسا لملكه، فمن امتثل حافظ على روحه وممتلكاته، ومن عصى شَطَرَه ومايملك بحد السيف!!.
كان ذلك في صيف عام 1683م بعد 35 سنة من نهاية حرب الثلاثين عاما المذهبية في أوربا، والتي قضت على ثلث الساكنة في ألمانيا (ستة ملايين من أصل 21 مليونا) وتم تدمير ثمانين ألف قرية ومدينة، ويراجع في هذا قصة الحضارة لويل ديورانت في فهم تفصيل الكارثة. وهكذا جاءت كارثة جديدة فوق رأس الأوربيين بعد كارثة حرب الثلاثين سنة.
كانت فيها العاصمة النمساوية محاصرة بجيش تركي قوامه ربع مليون جندي، وكان هذا الحصار الثالث (والأخير) من نوعه، الذي يخترق فيه العثمانيون وسط أوربا، ففي 12 أيلول سبتمبر بعد حوالي شهرين من الحصار؛ حيث فر فيها معظم الأهالي بمن فيهم القيصر النمساوي ليوبولد الأول، أمكن صد الهجوم وفك الحصار، وكان العنصر الرئيسي في هذا التحول جيش بولوني قاده الملك يوحنا سويبسكي الثالث، قفز لنجدة أهل فيينا في اللحظة التاريخية الحرجة فأنقذ ليس فقط النمسا، وتنفست أوربا كلها الصعداء من الخطر العثماني الذي انكسرت حدته تماماً بعد ذلك، بل وانكسر الميزان العسكري بكامله، فلم يرى العثمانيون بعدها انتصارات ذات بال؛ بل بالأحرى هزائم وعلى شكل كوارث، وتابع المخطط العثماني التاريخي مسيرته الانحدارية، حتى أسلمت دولة آل عثمان الروح مع مطلع القرن العشرين.
كان الانكسار العثماني على أبواب فيينا نقطة تحول في التاريخ الأوربي الحديث ففي الوقت الذي بدأت فيه مسيرة التراجع العثماني قفزت قوى جديدة الى المقدمة، فصعدت الامبراطورية النمساوية الهنغارية، لتنهار في النهاية هي وغريمتها العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وهذا التحول على أبواب فيينا لم يكن في أعماقه عسكرياً فحسب بل تحولاً حضارياً بالكامل، فالعقل الأوربي كان قد بدأ مسيرته قبل ذلك، وفي الوقت الذي كان السلطان العثماني (محمد خان الرابع) يُعزل من العرش عام 1687م، كان (اسحق نيوتن) منهمكاً في انتاج كتابه (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) (PRINCIPIA MATHEMATICA PHILOSOPHIA NATURALIS) الذي ترك بصماته على الفكر الانساني حتى هذه اللحظة. ولكن من أين تنبع أهمية كتاب اسحق نيوتن في فلسفة الطبيعة؟
في الوقت الذي كان الاتراك يحاصرون فيينا والحروب الدينية تعصف في أوربا، كان اسحاق نيوتن يقوم بتطوير حساب التفاضل والتكامل، ويكتشف قانون الجاذبية، ويستهويه الضوء فيريد معرفة أسراره، فأوربا التي صدت الخطر التركي في الربع الأخير من القرن السابع عشر، كانت غير أوربا التي اقتحمها العرب من الغرب في القرن الثامن الميلادي، وغير أوربا بعد ستة قرون التي اقتحمها الأتراك من الشرق هذه المرة في القرن الرابع عشر للميلاد، فقد بدأت روح جديدة في التدفق في مفاصل المجتمع الأوربي المسيحي، واسحاق نيوتن كان خلية من هذا الجسد الجديد الفتي، كما أن نيوتن لم يأت من فراغ ولم يتشكل فكره إلا من خلال وثبات فكرية سابقة، ففي عام 1543 للميلاد حدثت زلزلة عقلية مثلثة الزوايا في فهم الكون والجسم الانساني وجغرافية الكرة الأرضية، فــ (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه قبل موته بساعات قليلة برؤية كتابه حول دوران الكرات السماوية، فقلب التفكير الانساني حول الكون، فأصبحت الشمس لاتدور حول الأرض بل العكس، وتحولت الأرض إلى تابع بسيط حول الشمس، واستطاع (فيزاليوس) أن يقوم بأول تشريح لجسم الانسان وكان من المحرمات، كما تم تدشين الجغرافيا الجديدة للكرة الأرضية، فعرفت قارات جديدة وتحول بحر الظلمات الى المحيط الاطلنطي، مما دفع المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) أن يسمي هذا العام في كتابه قصة الحضارة بعام العجائب. ويجب الانتباه إلى عدم الخلط بين تاريخ 1543 وعام 1453 فعام العجائب كان مع منتصف القرن السادس عشر الميلادي أما منتصف القرن الخامس عشر فترافق مع استيلاء العثمانيين على لؤلؤة الشرق القسطنطينية ليتحول اسمها إلى مركز الاسلام أو مدينة الإسلام (اسلام بول أو استانبول).
كان نيوتن يتساءل لماذا يتشكل طيف قوس قزح من مجموعة من الألوان؟ ما لذي يجعل الضوء فجأة بمجموعة سبعة ألوان بعد أن كان أبيضاً أو لنقل بكلمة أصح عديم اللون؟ هل الضوء (مكون) من مجموعة ألوان فاذا امتزجت هذه الألوان تشكل الضوء الذي نعرفه؟ ثم ماهي طبيعة الضوء؟ مم يتكون في الحقيقة؟ وهل له سرعة؟
في الواقع إن الضوء كان ومازال (مستودع الأسرار) فمنه انطلق (نيوتن) في فهم ظاهرة الطيف اللوني (قوس قزح) ومنه انهارت الفيزياء الكلاسيكية فجاء المقتل من نفس المولد كما سنرى بعد قليل، ومنه انبثقت النظرية النسبية التي لاترى شيئاً مطلقاً ثابتاً في هذا العالم الا (ثبات) سرعة الضوء العجيبة فوصلت إلى قلب مفاهيم الزمان والمكان والطاقة والمادة، ومنه انبثقت (ميكانيكا الكم) من خلال حل معضلة (اشعاع الجسم الأسود).
اقرأ المزيد
بصوت رفيع متهدج وبلغة أدبية منمقة تحدث الامبراطور (هيروهيتو) الى شعبه صبيحة يوم الخامس عشر من شهر أغسطس (غشت) عام 1945 . كانت الكلمات قليلة ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: ( إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث ، يمتلك من قوة التدمير مالاعهد للانسان به ، ومالاطاقة لنا به ) وتابع الامبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان :
( وإنني أخشى ياشعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد ) ؟!
كان الامبراطور الياباني قد أدرك العهد الجديد الذي دخلته الانسانية ، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري ، فهذه القنبلة غيرت العالم ، والتاريخ ومصير الجنس البشري ، والفكر الانساني ، في ضربة واحدة وفجرت معها عصراً جديدا ؛ فدخل العالم حقبة جديدة ، وتكون خلقاً أخر ، ونشأة مستأنفة .
وختم الامبراطور كلمته : ( علي أن أقول لكم إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل مالاطاقة لنا به ؟! )
القاذفة ( اينولا جاي ENOLA GAY) والضابط ( باول تيبتس PAUL.W.TIBBETS.) :
كانت الساعة( 2.52 ) صباحاً عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع ( B ـ 29 تتحرك من جزيرة ( تينيان ) في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية ، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق ولاتدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات . يقود السرب الضابط ( باول تيبتس )( PAUL . W . TIBBETS ) وخبير الأسلحة ( ويليام بارسونز )( WILIAM PARSONS ) . كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس : علينا أن نبدأ الان .
كان الظلام يحيط بالطائرة التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس ( اينولا جاي )( ENOLA GAY ) . كان على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه اسطوانة الغاز الكبيرة ذات
( أنف مبعوج ) ولايزيد قطرها عن 60 سم ويتراوح محتواها الأساسي حوالي ستين كغ من مادة اليورانيم 235 المكثف ، الا أنها بالغلاف الفولاذي المحيط بها ارتفع وزنها الى أربعة أطنان . وبجانب الطائرة اينولا جاي حلقت طائرتان حربيتان أخريتان الأولى تحمل مخبراً كاملاً لدراسة استخدام ( السلاح الجديد ) والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها .
في الساعة 3.10 عمد ( بارسونز ) الى إغلاق زناد القنبلة بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة في هذه المهمة التي أخذت لقب ( بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13 ) وهتف : كل شيء على مايرام !! .
عند الساعة ( 4.55 ) حلَّق التشكيل الثلاثي بشكل حرف ثمانية باللغة العربية ؛ حيث تحتل القاذفة النووية ( اينولا جاي ) رأس التشكيلة ، وسأل المساعد بوب كارون ( BOB CARON ) هل سنشطر الذرة اليوم ؟ علق تيبتس : لقد بدأتَ تفهم الأمور !
كانت مدينة هيروشيما قد برمجت للمسح من ملف الوجود ، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى للرحيل الى العالم الأخروي ، وهذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف ، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما ؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى
الإعدادات الجنائزية
عند الساعة 6.30 بدأت الإعدادات الجنائزية لسكان العالم السفلي في مدينة هيروشيما ، فاستل ( بارسونز ) ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة ، ليضع بدلاً عنها حمراء اللون ، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقاً ، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد . عندها صرخ الضابط ( باول تيبتس ) للمرة الأولى بكل علانية ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية : إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا !!
عند الساعة 7.25 صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم الى 9500 ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد ( كلود ايثرليس CLAUDE EATHERLS ) الذي بثهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات أو وجود طائرات معادية في الجو ، صاح فيهم : ياشباب كل شيء على مايرام ... دمروا الهدف الأول على القائمة !! وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام لـ 140000 من البشر الذين تحت طير أبابيل الذرية يفتتحون يوماً جديداً في الحياة ، وليس عندهم أقل تصور ، لقصر المسافة بينهم وبين هوة الموت ، التي فتحت فاهها العريض لاستقبال جحافل الموتى بأبشع طريقة وسلاح .
إنها هيروشيما !!
صاح تيبتس : إنها هيروشيما !! ثم نظر الى بارسونز بعد أن هبطت القاذفة مخترقة فتحة من السحب وسأله : هل هي هدفنا بالضبط ؟ أجاب بارسونز بهز رأسه فهو يعرف المدينة ذات الأذرع الثمانية المستلقية بارتخاء تحتضن البحر ، وصاح تيبتس بطاقم الطائرة : أعدوا نظارات ( لحام الاكسجين ) الحماية ؛ فالوهج الذي سينطلق سيعي العيون كما أفادونا علماء لوس آلاموس !!
عند الساعة 8.13 هتف تيبتس بمساعده ( توم فيريبي TOM FEREBEE ) لقد جاء دورك الآن !! فتولى الآخر قيادة الطائرة ، التي كانت السرعة فيها تشير الى الرقم 460 \كم في الساعة .
كانت المدينة معروفة تماماً لتوم فيريبي ، فهو يعرف نهر ( الاوتا OTA ) الذي يتشعب منه سبعة فروع ، كأنها راحة اليد المفتوحة ، كما يعرف جسر ايواي AIOI ) المشهور ، ذو شكل حرف T باللغة الانكليزية .
في هذه اللحظة اقتربت القاذفة تماماً من نقطة الهدف ، وعند الثانية 17 بعد الدقيقة 15 من الساعة الثامنة باضت القاذفة البيضة الكبيرة ذات الاطنان الأربعة بين رجليها . مالت القنبلة أولاً الى الجانب ثم استقرت وأنفها المسطح نحو الأسفل وقد زودت بمظلتين . وعندما تحررت القاذفة من هذا الثقل عمدت الى الأعلى بكل قوة ، فالأوامر كانت تقول : ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون . وبدأ العد التنازلي للثواني 43 القادمة ؛ فالمفروض أن يحصل الانفجار على ارتفاع خمسين متراً وفي تمام الساعة 8.16 من صباح ذلك اليوم النحس ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر .
عند الرقم 43 أطل الفطر النووي برأسه
عندما وصل العد الى 35 ثانية وضع الطيار نظارة الوقاية ( التي تستخدم في لحم الاكسجين ) ولكنه لم يرى شيئاً فرماها جانباً ، وصاح هل ترون شيئاً ؟ أجاب أحدهم لاشيء على الاطلاق !! كان خوف الأمريكيين كبيراً أن تفشل التجربة خاصة وأن هذه القنبلة لم تجرب في منطقة آلامو جوردو (1) لثقتهم العالية أنها لن تخيب !!
كان اللويتنانت ( ملازم ثاني ) نوريس جبسون يعد بفارغ الصبر ، وعندما وصل الرقم الى 43 توقف وللحظة ظن أن التجربة فشلت ، ولكن في هذه اللحظة أشرقت الأرض بنور وهاج يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ؛ فالتمعت كل الطائرة ، وأبصر ( بوب كارون ) الذي كان في المؤخرة بزوغ حلقة مرعبة من الضوء ، صعدت كالعملاق الى الأعلى وكأنه الضوء القادم من كوكب آخر ، وانطلقت قوة عاتية قذفت بالطائرة الى الأعلى ، مما أطلق صفارات الإنذار داخلها ، وسمع تيبتس مايشبه طلقة المدفع من عيار 88 ملمتر ، بعدها بقليل رجت الطائرة قوة أخرى ، فصاح تيبتس : إنها قوة الضغط المعاكسة حافظوا على النظام .
وعندما كانت مدينة هيروشيما تمسح من الوجود كان ( بوب كارون ) يسجل : ( ارتفع عمود فظيع من الدخان الى الأعلى وبسرعة ، في وسط العمود نار حمراء . كانت الحرائق تلتهم كل شيء ... كانت كثيرة للغاية ... أكثر من يحصيها العدد ... والآن جاءت .. جاءت ... لقد تشكل مايشبه رأس الفطر الذي نراه في الحقول ... انظروا ... انظروا الى هذا المنظر العجيب ... )
مصطلح الفطر يستخدم للمرة الأولى في تاريخ العلم
صعق تيبتس من هول مارأى وقال : لم أكن أتوقع تدميرا كهذا تراه عيني ... ثم أرسل تلكس الى القاعدة الجوية في تينيان ( TINIAN ) : تحقق التدمير والنتائج ممتازة !! صاح بارسونز : ماذا أرسلت ؟ إن هذا لايكفي !! وعمد الى إرسال تلكس آخر : كانت النتائج ناجحة وذات أثر أكبر مما حصل في تجربة آلامو جوردو (2) الا أن الرعب تملك بقية طاقة الطائرة وارتسمت علامات الخوف على وجه لويس مساعد القيادة وأخذ يخاطب نفسه : رباه ماذا جنت يدانا .. ماذا فعلنا .. ماذا فعلنا .. !!
وأنه أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا
كان الطيارون الأمريكيون يفركون أيديهم من قوة الإنجاز وحسمه ، ووجه ليزلي جروفز ( LESLIE GROVES ) يطفح بالبشر والسرور ، الجنرال المشرف على المشروع العسكري ابن القس البروتستانتي في لوس آلاموس ، الذي لم يندم لحظة واحدة عما حصل حتى بقية حياته ، ووجه الرئيس الأمريكي ترومان يشع بالغطرسة والتجبر ، فبدأ يفرض في مؤتمر برلين مع ستالين شروطاً مستحيلة بعد أن سكر بخمر القوة . في نفس الوقت كان أهل هيروشيما يحترقون بالنار ذات الوقود ، يذوبون ويشوون ، ويموت بالجملة الأطفال والنساء ، الشباب والعجائز ، فالنار التي كانت تنزل شواظ من نار ونحاس ، ترمي بشرر كالقصور ، كأنها الجمال الصفر المتراقصة .... وكأن القيامة قد قامت ؟!
درجة الحرارة فوق مركز المدينة وصلت الى 300 ألف درجة :
عندما اشتعلت كرة النار على ارتفاع 550 متراً فوق مستشفى ( كا أورو شيماس )( KAORU - SHIMAS ) في مركز مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة صباحاً و16 دقيقة من يوم السادس من أغسطس عام 1945 م كان العالم يدخل حقبة جديدة ، ليس بفعل الحرارة الجهنمية التي وصلت الى 300 ألف درجة بحيث تبخر المستشفى بمن فيه من المرضى ، ولكن بفعل امتلاك طاقة الوقود الشمسي ، وهذا التطور يعتبر نوعيا في تاريخ الجنس البشري . فلقد كان تاريخ القوة حتى تلك اللحظة تصعيداً تدريجياً في الطاقة النارية ، ويعني خسارة فادحة في الجنس البشري مع كل نزاع ، أما هذه المرة فأصبح بإمكان الانسان أن يفني جنسه للمرة الأولى في تاريخه ، حين امتلك سقف القوة ، ووضع يده على طاقة النجوم ، وتحت ضغط هذه الحقيقة العلمية أكثر من مواعظ الأخلاقيين وتعاليم المصلحين ، دلف العالم الى السلام العالمي مرغماً مفاجئاً لايكاد يصدق ، فهو يعيش حيرة التناقض بين انشطار التاريخ بين مفهوم القوة والتطور العلمي وعتبته الجديدة .
هذه القوة العاتية التي استخدمت مرة واحدة فوق رؤوس البشر ولعلها الأخيرة ، توقفت القوة أن تكون سبيلاً لحل المشاكل ؛ في مستوى دول العالم الأول على الأقل ، حيث أصبحت الحروب اليوم موضة المتخلفين ، أو تأديب المتخلفين ، الذين لم يدخلوا العصر بعد ، وهذا يحمل تباشير أن يدخل الانسان المرحلة ( الانسانية ) في التاريخ ، ويبدأ عهد الانبياء فعلاً الذي نادوا به وبشروا بإمكانية إقامته ، وبذا كانت قنبلة ( هيروشيما ) نذيراً وبشيراً للبشر في آن واحد ، نذيراً بالفناء وبشيرا بالسلام .
البيكادون ( PIKADON ) الالتماع المدوي
كانت المدرِّسة ( كاتسوكو هوريبي ـ KATSUKO HORIBE ) بفعل ظروف الحرب قررت القدوم بشكل مبكر الى المدرسة الابتدائية ( هونكاوا ـ HONKAWA ) وكان الوقت ثواني قليلة بعد الدقيقة 16 من الساعة الثامنة صباحاً ، وقد اجتمع الطلبة وبدأت الحياة تضخ بنظمها المعهود (3) عندما قامت القيامة .
تقول المدرِّسة كاتسوكو إنها لم تسمع شيئاً على الإطلاق ولكنها لاحظت فجأة أن غرفة التدريس غرقت بضوء أزرق متوهج يكاد يعمي الأبصار ، ثم انفجر زجاج النافذة وطارت الشظايا البللورية ، لتغرز نهاياتها الحادة في رأسها وذراعها الأيسر . لم تشعر بشيء ولكنها ارتمت أرضاً ، وخلال لحظات ساد سكون قاتل ، ثم ساد ظلام عجيب ، وكأن النهار تحول الى ليل . كانت الصدفة لاأكثر هي التي أبقت على حياة المدرَّسة ( كاتسوكو هوريبي ) لإن زملاءها العشرة الذين جاؤوا بالترام على الموعد تحولوا في لحظات الى قطع من الفحم الأسود ( واختارت أمريكا المكان والزمان بدقة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر ، وأعظم عتبة من الخوف والمفاجأة فألقت القنبلة بدون سابق إنذار )
كذلك حالف الحظ المدرسة كاتسوكو في مركز الانفجار ؛ فالمفروض أن تكون نقطة الانفجار 250 مترا فوق جسر ايوئي ( AIOI ) والذي حصل أن مركز الانفجار حصل بارتفاع 550 مترا فوق مستشفى كاأورو شيماس كما ذكرنا ، الذي اختفى بالكلية وانمسح من الوجود بكل مافيه من أشياء وأناسي ، فتبخر الجميع في وهج حرارة وصلت الى 300 ألف درجة ، حولت في مدى نصف قطر 500 متر كل شيء الى رماد وهباب فحم ، وحتى 3.2 كم ارتفعت الحرارة الى 3000 درجة فعرضت كل من صادفته الى أبشع الحروق ، والى مسافة 14 كم احترق الورق ، وبذا تحولت هيروشيما تحت تأثي رالضغط والحرارة والاشعاع الى جهنم تتلظى ، فقضى نحبهم فورا ثمانون ألف انسان من السكان ثم تتابع عشرات الألاوف بعد ذلك ليقترب العدد الإجمالي الى قريب 150 الف انسان .
باتجاه نهر الموتوياس ( MOTOYAS )
عندما استعادت كاتسوكو وعيها اندفعت الى المدرسة باتجاه نهر الموتوياس لإنقاذ سبعة أطفال من حرق مرعب أكل وجوههم وحول ملابسهم الى أسمال ومزق ، صاحت بالأطفال : باتجاه النهر .. عليكم بالنهر !! كان النهر هو أملهم الوحيد ، ولكن ال120 مترا أصبحت طريقاً لاينتهي ، بين جثث محترقة ، وأكتاف تتدافع قد أصابها من الحرق ماحولَّها الى جموع شاردة مجنونة تزعق من الألم ، كما أن النهر بذاته أصبح مطوقاً من النا رمن كل جانب ، فمركز المدينة بالكامل قد استحال الى كتلة نارية ملتهبة ، تزداد بالاتساع ، واختفى الأطفال السبعة من ناظريها في الاتون الملتهب .
شعرت المدرِّسة هوريبي بأنها تموت واستولى عليها نوبة من الاقياءات المرة ، وعندما نظرت الى ملابسها كانت مقطعة قد غرقت بالدماء ، لم تعرف تفسير ماحدث ، هل هي نهاية العالم ؟ مابال هذه الجثث المحترقة ؟ مامعنى اكوام الموتى ؟ قصدت النهر فغطست فيه حتى الذقن هرباً من النار الحارقة ، حتى إذا انتعشت هرعت الى بقايا مدرستها التي كانت مبنية من الخرسانة المسلحة المتينة ، والتي كانت خلف نجاتها ، فرأت منظراً لاتنساه : كانت بقية زميلاتها من المدرِّسات قد تحولن الى قطع متناثرة من الجثث المتفحمة
وكأنه يوم الحشر والدينونة
كانت ( ساكائي ايتو SAKAE ITO ) في مجموعة من المتطوعين ، لتهيئة المدينة لمقاومة هجوم جوي ، تتذكر كيف شبت النار في معطفها فجأة بدون سابق إنذار ، وخلال لحظات عم الظلام ، ثم بدأ مطر أسود لزج قطراني يتساقط من السماء ، لم تفهم ماحدث ؟! ووجدت نفسها تحت أنقاض منزل !! وعندما نظرت باتجاه تلة ( هيجي ياما ـ HIJIYAMA ) رأت القمة بوضوح وكأنها قريبة . لم يبق هناك من المدينة مايعزل عن رؤيتها ، فالمدينة كنست !! واندفعت باتجاه جسر ( تسورومي ـ TSURUMI ) وهي تتساءل أي قنبلة هذه التي حولت كل المدينة الى أنقاض ، لم تسمع انفجارا أو ترى حفرة في الأرض !! هكذا اصطلح أهل المدينة على تسمية ماحدث بيكادون ، وهي اجتماع كلمتين ( البيكا ) وتعني الالتماع و ( الدون ) الصوت الخارق المدوي . كل من كان بالمدينة لم يشعر الا بالالتماع والتوهج ، ومن كان في البعيد رأى تألق الضوء وصوت الفرقعة .
كانت طوابير الناس المحترقة المتألمة المختنقة والمتبقية من ( الهولوكوست ) المحرقة الكبرى ، تزدحم في الجسر ، يغلفها منظر واحد مكرر ، حفاة عراة ، لم يتبق على أجسادهم تجنباً لاحتكاك الجلد المحترق المؤلم ، وقد تدلت قطع الجلد المحترقة المهترئة ، يلوح بها الهواء ، لم يعد يفرق بين الذكر والانثى ، الوجه من القفا ، يصرخون في طلب الماء ، يتأوهون من الألم ، يجرون أقدامهم بين الجثث المتناثرة ، قد احترقت شعورهم وتجعدت وتصاعدت رائحة الشواء منها ، وانتفخت وجوههم من الحرق ، فلم يعد بالإمكان التعرف على هوية المصاب ، والكل كأنه في حلم ، ماالذي حدث ؟ ماالذي دهى البلد ؟ هل هو سلاح ؟ هل هي نهاية البلدة كما في بركان فيزوف في إيطاليا الذي دفن مدينة بومبي في العصرالروماني ؟ أم هي نهاية العالم ويوم القيامة التي تحدثت عنها الكتب المقدسة ؟ لاأحد يفسر !! لاأحد عنده الإجابة !! كان الجميع يبحثون عن أي مصدر للماء لتخفيف آلام حروقهم ، فعمد البعض الى دفن رؤوسهم في أحواض الماء ، التي خصصتها الحكومة لإطفاء حرائق الحرب ، وبدأ البعض في تحريك رؤوسهم في هذه الأحواض ، إلا إن الموت فاجأهم فبقوا جثثاً فوق الأحواض ؟!!
وماتبقى منهم جاء وصفهم على لسان كاتب ياباني معروف هو ( يوكو اوتا ) مايلي : (( لم أتوصل بسهولة إلى فهم كيف استطاعت بيئتنا أن تتحول إلى هذا الشكل خلال لحظة ، وظننت أنه من المفروض أن يكون قد حدث شيء ما ، لاعلاقة له مطلقاً بالحرب ، إنه لاشك نهاية العالم ، كما كنت اقرؤها في الكتب عندما كنت طفلاً )) . أو مارواه شاهد عيان : (( بعد قليل شرعت مواكب المعوقين من جميع الأنواع والأشكال _ لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، تتهافت وهي تنزح من وسط المدينة ، باتجاه الضواحي المحيطة بها )) : (( كانت أذرعهم تتدلى ووجوههم _ ليس فقط جلود أيديهم وحدها ، بل أيضاً جلود وجوههم وجميع أطرافهم كانت تتساقط مهترأة ، ولو اقتصر الأمر على شخصين أو ثلاث لهان الأمر ، ولكن حيثما كنت أتوجه كنت أصادف مثل هؤلاء البؤساء ، كثيرون سقطوا أمواتاً على طول الطريق ، ولازلت أراهم ثانية وهم يتقدمون كالأشباح ، ولم يبد عليهم أنهم ينتمون إلى هذا العالم .. وبسبب جراح اولئك الناس لم يكن بالإمكان أن يعرف فيما إذا كنا نراهم من الوجه أو الظهر ))
مفاجأة إضافية : مرض الأشعة
نجى الدكتور ( ميشيهيكو هاشيا MISHIHIKO HACHIYA ) بإعجوبة بعد أن سقط منزله فوق رأسه ، ونزف من أربعين جرحاً في جسده ورأسه ، وعندما انطلق الى الشارع اكتشف نفسه عارياً !!
يقول الدكتور ( هاشيا ) كان منظر العري هذا متكرراً حيثما وقعت عيني على الكارثة ؛ فالضغط والحرارة والحرائق أطاحت بكل شيء بما فيها الملابس ، ولكن العورات مع الحرائق لم يعد المرء يفرق بين الذكور والإناث ؟! وفيما هو يُعالج في مشفاه الذي كان مديراً له ، أثارت فضوله العلمي ظاهرة محيرة لم يعرف كيف حدثت ؟ ماهو نوع السلاح المستخدم الجديد ؟ وعندما لاحظ أن مرضاه يتغوطون دماً على شكل إسهال مدمى ، تبادر الى ذهنه ؛ أن السلاح قد يكون من النوع البيولوجي ؟! ولكن مظاهر أخرى رافقت هذه الظاهرة ، من نقص المناعة وانخفاض عدد الكريات البيض ، الى حدود 500 كرية في المليمتر المكعب الوحد ( الطبيعي يتراوح بين 4000 ـ 7000 ) والتهاب الحلق الشديد ، وسقوط الشعر ونقص الشهية وتراجع الوزن وارتفاع الحرارة ، جعله يفكر ويطلق على هذه الظاهرة ؛ وكان محقاً في هذه التسمية وكان الأول الذي لفت النظر إليها ـ سماها ( مرض الأشعة ) ؟!
إذاً فهذا السلاح الجهنمي يفسر ظاهرة تساقط الأموات بدون توقف مع اختفاء النيران والدخان والحرائق ، بل وعودة الحياة الطبيعية الى مدينة هيرشيما . بل مازال الفريق العلمي حتى اليوم بعد مرور نصف قرن ، مازال يتتبع الآثار المدمرة للاشعاع الذري .
هذه المفاجأة غير السارة في تلويث البيئة بالأشعة جعلت السلاح النووي خطيراً للغاية ، ولم يكن في حساب الفيزيائيين ، الذين أقدموا على التلاعب بقوى الكون من أجل الانتصارات العسكرية .
خمسة صور فقط حُفظت للذاكرة الانسانية
كان المراسل الصحفي ( يوشيتو ماتسوشيجي YOSHITO MATSUSHIGE ) يعمل لصالح جريدة ( شوجوكو شيمبون CHUGOKU SHIMBON ) والتي مازالت الجريدة الرسمية في هيروشيما حتى اليوم . يقول كان عمري يومها 32 عاماً ( وه ومازال على قيد الحياة يرزق وعمره 82 سنة ، ومازال يمارس مهنته المحببة التصوير حتى اليوم ؟! ) عندما سقط منزلي فوق رأسي بعد ظاهرة البيكادون ؟! هُرع لاى متن دراجته ليرى ماحل بالمدينة ؟ وليعرف ماجرى لمحل الحلاقة الذي تعمل فيه زوجته ؟ ماوقعت عيناه عليه أن كل شيء تهدم ، ولكن كاميرته من نوع ( ماميا MAMYA ) كانت ماتزال تعمل ، فانطلق وهي تتأرجح على الدراجة ، ولم ينتبه الى جروحه لتي كانت تنزف ، كل ماستولى على تفكيره كان مصير صالون الحلاقة التي تعمل فيه زوجته . كان منزله يبعد 2700 متراً عن النقطة زيرو ( ZERO صفر ) لمركز الانفجار . مازال يتذكر ويقول : حقاً إنه شيء عجيب أن يجرح الانسان بدون صوت قنبلة ؟ وعندما وصل الى مركز المدينة رأت عيناه ماندم عليه بقية عمره أن يفعله ، عندما كان الشاهد والمصور الأول ، الذي خرج من الاتون النووي حياً ، ولم ينتبه الى أنه كان أول من رأت عيناه الهول ، ولكنه لم يصور سوى خمس صور يتيمة هي كل مابقت للجنس البشري نذيرا للبشر عن هول ماحدث ؟!
هذه اللقطات الخمس ، مازالت تتكرر ملايين المرات حتى اليوم ، بمثابة الشاهد الوحيد اليتيم عن آثار الحرب النووية ، كشاهد ليوم الفزع الأكبر الذي حل بهيروشيما ، ولم يعلم وقتها أن قنبلة ذرية انفجرت فوق رأسه لأول مرة في تاريخ الجنس البشري ، التي ربما لن يراها البشر مرة ثانية .
يقول المصور ( يوشيتو ) : كان ركاَّب الترام في منظ رمفزع حقاً ، فبعضهم قد تمزق وسقط ارضاً ، ولكن الكثيرين كانوا يجلسون في مقاعدهم ، قد حافظوا على هيأتهم كما كانوا ، وكأن شيئاً لم يحدث ، ووما لفت نظري يومها اثنان مازالت أيديهم تقبض على أحزمة الجلد ( القشاطات ) مثل مخالب الصقور ، وكأنهم أمسكوها لتوهم بعد أن أعلن الترام الصفير بدء التحرك الى المحطة التالية ، ولكن وجوههم كانت بشكل عجيب ؛ فكأنها طليت بفحم المداخن الأسود . كانت الوجوه الجميلة قد شوهت بكل السخام والقتام الفظيع . كانت المحافظ بجنب الناس بدورها متفحمة ، كانت المظلات وأشياء أخرى كثيرة من حاجيات الناس اليومية قد أكلتها النيران وحولتها الى قطع متفحمة شوهاء بلهاء .
كان الشيء المشترك والمريع ؛ يتابع المصور الياباني قصته : والذي ترك في نفسي أثراً لاتمحوه مرور الليالي ؛ تلك الوجوه والنظرات الفارغة من المعنى المحملقة في الأفق البعيد ، بعد أن عانقت الموت ، الذي جاءها من بعيد ، الذي عرفنا لاحقاً أنه جاء من لوس آلاموس . كأن الناس في متحف شمع ولكن بلون أسود قاتم ، قد انطفأت الحياة وتوقفت فيها .
ويبقى السؤال لماذا لم يصور تلك الوثائق التي لاتقدر بثمن للجنس البشري ؟ يجيب المصور الياباني ( يوشيتو ـ ماتسوشيجي ) : كان سببه التقاليد اليابانية ، التي تنهى عن عن النظر في وجوه الأموات والمصابين ، والتعليمات الصارمة العسكرية ، أن لاتصور المشاهد المروعة والمقيتة من الجثث المشوهة ، كي لايفت في عضد الناس ، وتنهار المعنويات .
كان العسكريون يريدون أن تستمر آلة الحرب نشيطة ، والناس تغذيها نارها التي تتلظى بالقرابين البشرية بدون انقطاع ، بل هل من مزيد .
وقبل هذا أن المصور لم يكن يدري أن مارأته عيناه كانت المشاهد الأولى من حرب نوعية جديدة قفزت فيها القوة الى سقف النجوم المستعرة ، وأنه دخل عصر الذرة .
النتائج فاقت كل التوقعات
في نفس هذا الصباح وعلى الشاطيء الآخر من الاطلنطي ، كان الرئيس الأمريكي (ترومان ) يجتمع مع ( ستالين ) على مائدة المفاوضات بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية ( بوتسدام ) في صدد تقسيم العالم والنفوذ في مرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية !! وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي ، وغطى السرور محياه ، ظهر ذلك في حركات يديه وعينيه ، بعد أن وضعت بين يديه البرقية ( العملية تمت صباحاً . التشخيص لم يكتمل بعد . يبدو أن النتائج مطمئنة . وفاقت كل التوقعات ) .
وعندما سطعت الشمس النووية ، وحلَّق ( الفطر النووي ) البئيس فوق مدينة ( هيروشيما ) ، وطوى تحت جناحيه أشباح وأرواح عشرات الآلاف من البشر ، عندها أدركت عائلة ( ويسل مان ) وسائق القطار ( ايدلين ) والمذعور ( لويس فاريس ) من قرية ( كوريثوثو ) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة ، بل وولادة عصر جديد . وتبين أن ماشاهدوه كان في الواقع تجربة أول انفجار نووي على ظهر الأرض ، في صورة تفجير قنبلة البلوتونيوم 239 .
بقي أن نقول أن منظر الفطر النووي حول راحلته ليبزغ مرة أخرى بعد ثلاثة أيام ، فوق مدينة أخرى ، كأن ماحدث في هيروشيما لم يكن كافياً ، فتكرر منظر الحرائق واللهب والتفحم والانفجار ، فالتهمت النار ذات الوقود مرة أخرى قريباً من مائة ألف انسان في مدينة ناغازاكي .
كان قرار الرئيس الأمريكي ترومان صارما واضحا : نقل ربع مليون انسان الى العالم الأخروي في أيام معدودة ، وانعطاف نوعي في تاريخ الجنس البشري .
في نفس يوم التاسع من آب الذي مسحت فيه مدينة ناغازاكي ، كانت مدينة هيروشيما تضمد جراحها ، وتكنس الخرائب التي لاتنتهي ، ويبدأ الترام فيها صفيره مرة أخرى ، وتدب الحركة والحياة فيها من جديد ، في أقل من 72 ساعة ، شاهداً على حيوية شعب بإرادة أقوى من السلاح الذري .
مراجع وهوامش :
(1) يعتمد بناء السلاح الذري الانشطاري على استخلاصه من اليورانيوم 238 في طريقين الأول : استخلاص اليورانيوم المكثف 235 وهو بمعدل سبع ذرات من كل ألف ذرة يورانيوم 238 أي أن كل 1000 ألف ذرة يورانيوم خام فيها 993 ذرة غير قابلة للانشطار ، وسبع ذرات 235 صالحة لبناء السلاح النووي منها كونها ذرات قابلة للانشطار غير مستقرة . والثاني التلاعب باليورانيوم 238 وقلبه الى 239 غير مستقر قابل للانشطار بدوره ، وأعطي لقب بلوتونيوم من الكوكب التاسع بلوتو !! وكما نرى فهناك طريقة صعبة مكلفة ، وثانية صناعية أسرع وأسهل وتضخ باستمرار وتتم عن طريق المفاعل النووي ، الذي ركبه انريكو فيرمي الايطالي للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري مع نهاية عام 1942 عندما أرسل برقيته الشهيرة الى الرئيس الأمريكي دولانو روزفلت يقول : لقد رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة !! بقي أن نقول أن قنبلة البلوتونيوم 239 هي التي أنتجها مخبر لوس آلاموس الذري وتم تجريبها في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 تموز يوليو عام 1945 وقصفت بها مدينة ناغازاكي ، أما قنبلة اليورانيوم 235 المخصب فلم تجرب لثقتهم بنجاحهما ، وتم تركيبها في مختبر أواك ريدج عند التنيسي وقصفت بها مدينة هيروشيما . ولم تكن الولايات المتحدة تملك أثناءها سوى عدد لايتجاوز أصابع اليد ، ولكن سر السلاح النووي أصبح في يدها وبالتالي يمكن تصنيع العدد الذي تريده قبل انتقال سره الى الآخرين كما حدث لاحقاً عندما فجر الاتحاد السوفيتي أول قنبلة له عام 1949 م قنبلة ( جو ) الأولى نسبة الى جوزيف ستالين ، وبدأت رحلة التسابق النووي التي عاصرناها كما عاصرنا نهايتها ، وتوقف العالم عن السير في رحلة القوة ، وبدء رحلة السلام ، ونزع فتيل الحرب ومعه السلاح النووي (2) من المفارقات العجيبة التي كشف عنها العلم النووي لاحقاً أن قنبلة هيروشيما كانت تزن 60 ستين كيلوغرام من اليورانيوم 235 المخصب ولم ينفجر منها سوى 700 غرام أقل من كيلوغرام واحد ـ لحسن حظ أهالي هيروشيما فلم يكن ليبقى منها شيء لو انفجرت كل طاقتها ـ بمعنى أن كمية التفجير بلغت 2% فقط من كميتها ؟! وأما قنبلة ناغازاكي فوزنت 6,2 كغ وتفجر منها 1.3 كغ بمعنى أن ماتفجر منها 21% لذلك عمد فريق التسلح النووي لاحقاً لتطوير نظام الحقن المدعم بجرعة إضافية ( BOOSTER ) من مادة التريتيوم لتحقيق أكبر كمية تفجير ممكن من المادة (3) اتخذ الرئيس ترومان قراره بالضرب المزدوج للمدينتين بتوقيع واحد على أن يكون متتابعاً مريعاً مفاجئاً بدون أي إنذار وفي وقت بدء الحياة ، كي تكون جرعة الصدمة والرعب في أقصى مداها وجرعتها . ( توثيق المعلومات تم أخذها من مجلة الشبيجل الألمانية وكتاب القصة السرية للسلاح النووي للكاتب الأمريكي مهندس الكمبيوتر جاك هانزن وكتاب مصير الكوكب الأرضي لجوناثان شيل ومصادر أخرى متفرقة )
اقرأ المزيد
عندما سقطت المانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية ، كان هاجس الحلفاء هو المدى الذي بلغته المانيا في تطوير سلاحها ؟ وما كُنْه السلاح السري الذي هدَّدَ به هتلر العالم ، عندما كان الرايخ الثالث يغرغر في سكرات الموت ؟ وهل قصد به السلاح النووي ؟ وكان همُّ الحلفاء مركزاً على وجه الخصوص على سلاحين ، فأما الأول فكانت ألمانيا قد بدأت في تطويره قبل نهاية الحرب بقليل وهو سلاح الطيارات بدون طيارين والصواريخ ( ف 1 و ف 2 _ V1 V2 ) الذي ذاقت منه لندن الويلات يومها ، وأما الثاني وهو الأكثر أهمية فهو السلاح النووي ، فبحمل المقذوف النووي على ظهر الصاروخ يمكن تدمير أي بقعة على وجه الأرض ، وبامتلاك سلاح من هذا النوع لايبقى فرق بين دولة صغرى وعظمى .
غنائم الحرب : المادة الرمادية الثمينة ( الأدمغة العلمية ) !!
في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي يقتلع القضبان الحديدية ويجمع بقايا المعامل الألمانية فيما عرف بعد ذلك بألمانيا الشرقية ( DDR ) كغنائم حرب ومعها العلماء ، كان همُّ الحلفاء _ وبوجه خاص الولايات المتحدة الأمريكية _ منصباً على الاستيلاء على المادة الرمادية أي الأدمغة العلمية ( والمادة المادية _ GRAY MATTER _ تعني قشرة المخ )(1) وخوف الحلفاء هل مايبرره ، وحرصهم دليل على قمة الذكاء ، لان التفوق العسكري هو تفوق تقني وعملية ذكاء قبل كل شيء ، وتنقل لنا أسرار الحرب خبرين من صراع الديناصورات الخفي ، الأول الاجتماع الذي قامت به وزارة الدفاع الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية مع فريق العلماء بقيادة الجنرال ( ميلش MILCH )(2) والثاني التنصت السري الذي مارسته استخبارات الحلفاء على الفريق العلمي الألماني الذي سقط في يد الحلفاء ابان سقوط الرايخ الثالث .
حوار العسكريين والعلماء في وزارة الدفاع الألمانية : حصل اجتماع هام ومصيري في وزارة الدفاع الألمانية قاده أحد الجنرالات النازيين المخضرمين ( ميلش ) حين وجه السؤال للفيزيائي المبدع ( فيرنر هايزنبرغ ) عن الطاقة النووية والقدرة التدميرية فيها ؟ وهزته الاجابة أنها في امكانية أن تمسح مدينة بكاملها من خارطة الوجود !! فأغرته الأجابة بمتابعة التفصيلات : ياترى كم حجم هذه القنبلة ؟؟ وكان الجواب صاعقاً : ربما لاتزيد عن حجم رأس ثمرة الأناناس ؟!! ( كان وزن قنبلة البلوتونيوم التي القيت على ناغازاكي 2.6 كغ ولم ينفجر منها الا 21% فقط !! ) فتابع يسأل : ولكن كيف الطريق الى امتلاك مثل هذا السلاح ؟ وكان جواب هايزنبرغ والفريق العلمي المرافق : إن الطاقة النووية هي الآن ليست أكثر من فكرة نظرية وصلت اليها الفيزياء النووية منذ فترة قريبة (3) وهي تقوم على انشطار نواة اليورانيوم ، وبموجب المعادلة النسبية ( الخاصة ) التي وحدت مابين الطاقة والكتلة ؛ فان كمية قليلة من مادة اليورانيم سوف تقود الى نتائج تدميرية لم تخطر بعد على قلب بشر ، الا أن الطريق لمثل هذا السلاح يحتاج الى سنوات طويلة قد تصل ربما الى العشرين سنة ، وشعر الجنرال النازي بكثير من الاحباط لطول الوقت والتكاليف ، وكانت الحرب العالمية الثانية قدحمي أوارها واشتد سعارها وتعالى نارها ، فاكتفى النظام النازي بدفع المشروع باتجاه التطوير بدون حماس كبير خاصة وأن ( القائد _ - FUEHRالفوهرر لايميل كثيرا الى هذه الكيمياء اليهودية (4)
الى أين وصلت رحلة التسلح النووي الألمانية مع نهاية الحرب ؟
عندما تم اعتقال مجموعة من العلماء الفيزيائيين الألمان كغنائم حرب (5) لايتجاوز عددهم ( الدزينة الواحدة ) مع سقوط ألمانيا النازية ، تم وضعهم في فيلا مريحة للغاية في بريطانيا مع كل تجهيزات الرفاهية الممكنة ، الا أن الفيلا كانت قد صممت بكيفية شيطانية على طريقة ( ارسين لوبين وشارلوك هولمز وقصص أجاتا كريستي ) حيث لاتوجد زاوية أو حائط أو طاولة أو جهاز بدون ميكرفون صغير أو لوحة تسجيل وتنصت ، وهذه الشبكة الفظيعة متصلة بمركز مراقبة مركزي ، يسجل كل حديث عابر ، أو خاطرة فكرة ، أو زفرة حسرة تصدر عن أي عالم من هذه المجموعة العلمية الهامة ، وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة ، وكان المشرفون على عملية التنصت خبراء متقنون للغة الألمانية ، واجتمعت أشرطة بطولٍ بلغ كيلومترات لانهاية لها في نهاية المطاف ، وبعد مراقبة استغرقت ستة أشهر كاملة (6) وفي نهاية الرحلة تبين للحلفاء كمية العمل الذي قام به الفريق العلمي الألماني والمدى المتواضع الذي وصل اليه البحث النووي ، الذي كانت أمريكا تمثل فيه ( المونوبول الدولي ) أي الاحتكار الدولي الكامل من طرف واحد ، فالفريق الألماني لم يتقدم شيئاً يذكر في مجال تطوير السلاح النووي خلافاً لنظام الصواريخ الذي استفادت منه الولايات المتحدة بعد ذلك لتطوير نظامها العابر للقارات .
كان الفريق العلمي الألماني الخاضع للتجربة مثل فئران المخابر يتكون من أدمغة في غاية الذكاء والنباهة والابداع مثل ( فيرنر هايزنبرغ ) صاحب نظرية الارتياب ومطور ميكانيكا الكم ، و( اوتو هان ) الذي انشطرت الذرة على طاولته ، و( كارل فريدريش فون فايتسكر ) الذي اهتدى للوقود النووي الذي تستخدمه الشمس في لهيبها الذي مر عليه خمسة مليارات سنة .
الفطر النووي يرتفع فوق هيروشيما :
بعد سقوط ألمانيا بأشهر قليلة كان السلاح النووي جاهزاً في المخبر الصحراوي في ( لوس ألاموس _ LOS ALAMOS ) في ولاية نيومكسيكو ، وفي صبيحة اليوم السادس عشر من تموز يوليو 1945م وعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً ارتفع الفطر النووي وتحررت الطاقة النووية من قمقمق الذرة كجني علاء الدين و المصباح السحري ، وهتف ( روبرت اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع : لقد تحولتُ الى مدمرٍ للعالم ، وراقب الفريق العلمي بذهول وللمرة الأولى هذا الفطر النووي البئيس والمرعب وهو يرتفع فوق رؤوسهم ، بطاقةٍ لم يصل اليها البشر ولا في أحلامهم ؛ فأما العسكريون فشدوا قبضة اليد تحت سكرة القوة ، وأما العلماء فأدركوا أن عصراً جديداً قد ولد ، كما حصل مع الذين رأوا قارون في زينته حيث دهش الذين لايرون أبعد من أرنبة أنفهم فغرهم وهم القوة والثراء الفارغ ، وأما العلماء فأدركوا أنه سراب خادع وخطر مبين !! ( قال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولايلقاها الا الصابرون )
ولادة العصر النووي ومغزاه الفلسفي :
كانت تجربة تفجير السلاح النووي في صحراء نيفادا في منطقة آلامو جوردو ذات أبعاد فلسفية ، فلأول مرة في تاريخ الجنس البشري العاقل تصل القوة الى مرحلة عجيبة ، ستتجلى بعد ذلك في كل مراحل انعطاف القوة ( سقوط الصين في يد الشيوعيين 1948 م _ حرب كوريا 1950 م _ ازمة قناة السويس 1956 م _ حرب فيتنام 1965 _ ازمة كوبا 1960 _ الحروب العربية الاسرائيلية 1967 و 1973 الخ ... ) وهي عدم القدرة على استخدامها ، وأن
القوة بدأت في فرملة وكبح والغاء القوة كوسيلة في تعامل البشر ، فالرئيس الأمريكي ترومان حينما وقع على مسح مدينتين يابانيتين وفي وقت واحد من خارطة الوجود ، أدرك بعدها مستوى الدمار الذي يملكه هذا السلاح الجديد ، فالسلاح النووي الآن أصبح ذات فلسفة وجودية ( انطولوجية ) يؤشر على انعطاف في مسرح الأحداث العالمية ومسيرة الجنس البشري ، أكثر منه قفزة جديدة في تطوير سلاح جديد ، فالسلاح النووي هذه المرة تجاوز أن يكون سلاحاً ، ليتحول الى قوة كمونية تحمل مخاطر انهاء الجنس البشري العاقل برمته من الوجود ، وكفت الحرب أن تكون غالبا ومغلوبا ، وانقلبت الى انتحار لكل الأطراف ، وهذا هو السر في التحول الخفي والبطيء في توقف عالم الكبار عن الصراع وتوديع أسلوب القوة ، هذا التحول لم يدركه بعد فريق كبير من صانعي القرار وسياسي العالم الثالث ، فشهوة امتلاك السلاح النووي وسيلان اللعاب باتجاهه ، أشبه بعجل السامري الذي أغوى بني اسرائيل ، فالسلاح النووي يشبه اليوم الأصنام التي لاتضر ولاتنفع ، أو مسدسات المطاط التي يلعب بها الأولاد، فهي أسلحة ليست للاستخدام ، وفي اللحظة التي ينتبه فيها انسان العالم الثالث الى حقيقة هذه الأصنام ، فسوف تخر صريعة لليدين والجنب ، وسيتوقف عن الخوف منها ومن سدنتها . الا أن هذا التحول مر في مراحل ، من الطريف أن نتناول تطورها خطوة خطوة ، فقنبلة هيروشيما كانت ذات قوة تدميرية رهيبة ( 15 _ 20 كيلو طن ) ولكنها مع كل هذا ليست شيئاً مع التطور الذي تلاها ( قنابل الميجاطن )(7) .
انفلات السر النووي من يد الولايات المتحدة عام 1949 م :
في ايلول سبتمبر من عام 1949 كانت طائرة التجسس الأمريكية ب _ 29 تحوم في منطقة صحراء ( سيمي بالاتنسك _ SEMIPALATNSK ) في كازخستان ، فوق الاتحاد السوفيتي على ارتفاع 15 كم ؛ فاصطدمت بغمامة شعاعية تم التأكد أنها من عقابيل تفجير نووي ، ومع تبليغ البنتاغون دقت أمريكا أجراس الخطر ، حيث علم أن النظام الشيوعي فجر أول قنبلة نووية تحمل اسم جوزيف ستالين ( القنبلة جو 1 ) فبدأت الرحلة الجديدة باتجاهين : تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي والحرب الباردة ، وجاءت الساعة الذهبية لمنافس ( اوبنهايمر ) الهنغاري ( ادوارد تيللر _ EDWARD TELLER ) الذي عمل مع اوبنهايمر في مشروع ( مانهاتن _ MANHATTEN PROJECT ) لتطوير السلاح النووي الانشطاري الذي جرب في آلامو جوردو من صحراء نيفادا . فادوار تيللر كان يضحك من مشروع ( الألعاب النارية ) التي تستخدم في أيام الأعياد ؟!! يقصد بها تفجير بضع آلاف من مادة ( ت . ن . ت ) وهي التي حققتها القنبلة الذرية الأولى حيث بلغت قوة التدمير في حدود 20 عشرين ألف طن ( 20 كيلو طن ) . كان تيللر يطمح الى ( قنبلة السوبر _ SUPER BOMB ) القنبلة الالتحامية الهيدرجينية التي يقوم عليها استعار الشمس وغليانها ، حيث تصل القوة التفجيرية الى حدود الميجاطن = قوة تفجير من عيار مليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بخمسين مرة ) وكان ذلك في موعد مع اكتوبر من عام 1952 بعد سبعة أعوام من تفجير قنبلة اليورانيوم 235 الولد الصغير ( LITTLE BOY ) و قنبلة البلوتونيوم 239 الرجل السمين ( FAT MAN ) .
مشروع مايك ( MIKE ) الجهنمي ( القنبلة .. السوبر ) :
عندما كلف البنتاغون تيللر بالانطلاق في مشروع الماموت الجديد ، والذي كان قد مات منذ أيام العمل في لوس آلاموس لانتاج القنبلة الانشطارية الأولى فرك الهنغاري يديه فرحاً كونه سيحقق حلمه القديم ، فقنبلة الهيدرجين تقوم على مبدأ مختلف ، فهي تنتج من التحام ذرات الهيدرجين لانتاج مادة الهليوم ، وكان كلاً من العالمين ( هانس بيته ) و ( كارل فريدريش فون فايتسكر ) قد وصلا الى فهم ديمومة الشمس في بث الطاقة وعمر الشمس التقريبي بناء على ذلك ، فالشمس لاتنتج وقودا تقليدياً ، بل هي تقوم على التحام ذرات الهيدرجين لانتاج ذرات مادة الهليوم ، وبذلك تبلغ الحرارة على سطح الشمس حوالي ستة آلاف درجة ، وهو سطح الفرن الخارجي ، أما محل الطبخ الرهيب في قلب الفرن فتبلغ الحرارة حوالي 15 خمس عشرة مليون درجة ، والقنبلة الهيدرجينية النووية الالتحامية تقلد الشمس فتشعل هذا الفرن فوق رؤوس الناس على الأرض !!
مبدأ القبضة الفولاذية المضاعفة ( F . F . F . F . = fission . fission . fussion. fission)
( انشطار _ انشطار _ التحام _ انشطار ) :
انطلقر ادوارد تيللر بكل حماس لهذا المشروع ولكنه فوجيء بمصاعب فنية جمة ، حتى أنقذه في ذلك عالم رياضي شاب موهوب هو ( ستانيسلوف أولام _ STANISLAW ULAM ) من خلال تطوير مبدأ اشعال قنبلة نوووية انشطارية في حوض محكم ، يحوي مادة نظائر الهيدرجين ( الدويتريوم والتريتيوم ) المبردة السائلة في وعاء داخل الوعاء ، فيضغطها من الخارج ، بنفس الوقت يقود التفجير الأول الى تفجير قنبلة نووية انشطارية ثانية ، كالجزرة المغروسة داخل وعاء نظائر الهيدرجين ، فتصبح مادة الهيدرجين تحت ضغط مرعب من قنبلتين نوويتين في نفس الوقت ، من الخارج والداخل على حد سواء ، وتحت هذا الهرس الساحق الماحق تبدأ نويات الهيدرجين في الاندماج والتحول الى مادة الهليوم واطلاق الطاقة النووية الرهيبة ، ويكون بانتظار هذا التحول الجهنمي ، الذي ينتهي في أجزاء من المليون من الثانية ، قشرة يورانية ( مادة اليورانيوم ) تنتظر الأشعال ، فتبدأ في الانفجار هي بدورها ، فاذا نحن أمام انفجار ثلاث قنابل انشطارية وانفجار قنبلة التحامية معاً ، فلا غرابة من وصول الطاقة الى عشرات الميجاطن أحياناً !! وهذا الذي حدث مع قنبلة مايك الأولى التي بلغت طول ستة أمتار وقطر المترين ووزن 65 طن ، بحيث لم يمكن حملها على ظهر طائرة الى جزر المارشال للتجريب ، بل نقلتها بارجة حربية .
وفي مارس آذار من عام 1954 م تمت تجربة جديدة وكان من المتوقع أن قوة التفجير في حدود ستة ميجاطن فتبين أنه 15 ميجاطن ( أقوى من قنبلة هيروشيما بـألف مرة ؟!! ) فانخسفت الجزيرة الى قاع البحر ، وانطبخت الأسماك والحيتان في قاع المحيط ، ودمرت الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة برمتها ، وأصابت صيادين في زورقٍ ياباني على بعد 80 كم فتأذوا جميعا ً بالأشعة ، ولكن العسكريين كالعادة صفقوا وصفروا فرحاً بنشوة القوة ، حيث أصبح بأمكانهم مسح الأرض ومن فيها ، وتبين أن هذه القنبلة ( السوبر ) بالأمكان تصعيد طاقتها التدميرية بدون حدود ، حتى لربما نصل الى فهم لغز اختفاء الكوكب بين المريخ والمشتري ، وبقاء نفايات غبار وحطامٍ من صخور لربما هي النهاية البئيسة لكوكب سابق ، ارتكب أهلوه حماقة نووية ؟!! (8)
الجنون النووي الكامل ( قنبلة الجروباتز بعيار 58 ميجاطن والبنتاغون يخطط لــــ 100 ميجاطن ) ؟!
في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تطور ترسانتها النووية لم يقف الاتحاد السوفيتي متفرجاً ، بل قفز بسرعة رهيبة نحو الأمام ففجَّر في نهاية الستينات قنبلة لم يكن أعظم وأشد بطشاً منها ، فاقت كل أحلام جنون القوة . كانت قوة التفجير ( 58 ) ميجاطن أي أشد من قنبلة هيرشيما بــ ( 3800 مرة = ثلاثة آلاف وثمانمائة مرة ؟!! ) فارتعب منها جنرالات الجيش الأمريكي ، وتخلخلت منها مفاصل استراتيجيي البنتاغون ، فدعوا الى حملة لاتبقي ولاتذر ، وأسرعوا الى اجتماع طاريء وبدأوا في التفكير لانتاج قنبلة لم يسمع بها ولا أبالسة الجحيم : هذه املرة من عيار 100 مائة ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بــ ( 6600 ) ستة آلاف وستمائة مرة (9)؟! ولكنهم أدركوا أن هذا الخط لايفضي في النهاية الا الى الجنون المطبق ، واستنزاف كل الموارد ، وتلويث البيئة ، وانتاج لعب ليست للاستخدام ، حتى كانت أزمة كوبا التي نجا منها العالم بأعجوبة !!
العالم يقف على حافة الانهيار النووي في أزمة كوبا في الستينات :
يذكر روبرت كنيدي في مذكراته تلك اللحظات عندما تم وضع الترسانة الأمريكية في حالة الانذار القصوى بتاريخ 24 تشرين أول 1962 م في الساعة العاشرة وبضع دقائق عندما اقتربت سفينتان حربيتان سوفييتان تواكبهما غواصة لعدة أميال من المنطقة التي فرض عليها الحصار البحري ( اعتقد أن الرئيس الأمريكي جون كنيدي قد مرت عليه لحظات عصيبة من القلق الذي يعصف به متسائلاً : هل أصبح العالم على حافة الهاوية فعلاً ؟ هل ارتكبنا خطأ ؟ هل كان هذا خطأنا ؟ هل أهملنا حلاً عُرض علينا ؟ هل ذهبنا بعيداً بهذا الطريق ؟ كان الرئيس قد حمل يده الى وجهه وأخفى بها فمه ، كان يطبق قبضة يده ويفتحها وكانت قسمات وجهه مشدودة ونظراته حزينة مكفهرة وكنا نتبادل النظرات فوق المنضدة فاعتقدنا لعدة ثواني أنه ليس من أحد غيرنا في المكان وأنه لم يعد الرئيس ، وكانت الساعة قد دنت من اتخاذ القرار النهائي وانفتحت أمامنا الهوة وليس من مهرب ؟ هذه المرة وجب علينا الجزم واعطاء الكلمة المباشرة ليس في الاسبوع القادم حين كنا نقول سنقرر في الاجتماع القادم ليس غداً ولاحتى بعد ثماني ساعات حين كنا نقول ابعثوا برسالة جديدة الى خروتشوف نحاول اذعانه للصواب والحق كلا ولاشيء من كل هذا . كان ممكناً في تلك اللحظات فعلى بعد 1500 كم من هنا وفي هذه الامتدادات الشاسعة من المحيط الاطلسي يجب اتخاذ القرار في الدقائق التالية فقد صعد الرئيس جون كنيدي الأحداث لكنه سيفقد السيطرة عليها من الآن وصاعداً ) (10)
مراجع وهوامش :
(1) الدماغ البشري مكون من قشر بسماكة عدة مليمترات وفيه النورونات العصبية أي الخلايا العصبية مركز التفكير والنشاط الذهني بعدد يصل الى مائة مليار خلية عصبية ولون هذه الطبقة رمادي ، وأما لب الدماغ فهو ذو لون أبيض وهو كم مرعب من الاتصالات ( الكابلات العصبية ) لهذا الرقم من الخلايا (2) نقلت مجلة الشبيجل الألمانية في خمس حلقات السلسلة الكاملة للاسرار الخفية لانتاج السلاح النووي ، كما أن وزارة الطاقة الأمريكية فتحت المجال للباحثين بعد مرور الفترة الزمنية الكافية مما جعل مهندس الكمبيوتر الأمريكي ( جك هانزن ) يكتب كتاباً كاملاً في هذا عن القصة السرية لانتاج السلاح النووي الأمريكي (3) وصل الكيميائي الألماني ( اوتو هان _ OTTO HAHN ) قبل الحرب العالمية الثانية بقليل وبشكل تجريبي الى امكانية شطر الذرة ، وبذلك نسف المسلمة اليونانية القديمة عن الجزء الذي لايتجزأ ( الذرة ) (4) اشترك الكثير من العلماء اليهود في تطوير السلاح النووي ويكفي أن نعلم ان رأس المشروع النووي العلمي في أمريكا كان روبرت اوبنهايمر وهو يهودي ، ولاغرابة أيضاً من تطوير المشروع النووي الاسرائيلي على يد عالم يهودي كيميائي ذو أصول ألمانية ( بيرغمان ) (5) كتاب الجزء والكل حوارات في الفيزياء الذرية _ فيرنر هايزنبرغ _ حيث يذكر العالم الفيزيائي كيف سقط أسيرا في يد القوات الأمريكية وكيف كان يتوقع هزيمة ألمانيا في الحرب وهو الألماني ، كون الحرب تكنولوجية بالدرجة الأولى ، وكيف بقى في ألمانيا من أجل بناء جيل مابعد الحرب ، فهو الذي ساهم في بناء مؤسسة ( ماكس بلانك ) في تطوير البحوث العلمية الالمانية في فترة مابعد الحرب (6) مجلة صورة العلم الألمانية ( BILD DER WISSENSCHAFT ) (7) الميجاطن هي القوة التفجيرية لمليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بما لايقل عن خمسين مرة وهي عيار واحد ميجاطن فقط وهي تكفي لمسح مدينة في حجم دمشق أو القاهرة ؟!! (8) بحساب أبعاد الكواكب عن الشمس تم الاهتداء الى قانون عجيب في الأبعاد ، حيث ظهر أن منازل الكواكب ( الزهرة _ عطارد _ الأرض _ المريخ الخ ) تمشي وفق مسلسل عددي يبدأ بالصفر ، ثم يتدرج بضرب الرقم 3 في اثنين واضافة اربعة الى كل رقم بعد ذلك ، فتصبح الأرقام هكذا : ( 4 _ 7 _ 10 _ 16 _ 28 _ 52 _ الخ ) فاذا ضرب الرقم الناتج بتسعة حصَّلنا مسافة بُعد كل كوكب بملايين الأميال بشكل تقريبي ، فالزهرة تبعد 36 مليون ميل ، والأرض تسعين وهكذا ، ولكن ثغرة القانون ظهرت بين رقمي 16 و 52 فعند الرقم 28 لم يظهر أي كوكب ، ولكن البحث الفلكي المكثف أظهر بعد ذلك وجود ليس كوكب بل ( كويكبات ) أي بقايا كوكب محطم مندثر ، فهل كان كوكبا عامرا بالحياة فارتكب أهلوه حماقةً نووية فتفجر كوكبهم ؟؟ تراجع فكرة القانون بالتفصيل في كتاب قصة الايمان _ نديم الجسر _ توزيع دار العربية _ ص 308 (9) مجلة ( P . M ) الألمانية ( 10) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ تأليف جون ناثال _ ترجمة موسى الزعبي _ مكتب الخدمات الطباعية دمشق 1986 م ص 14 .
اقرأ المزيد
في 6 ديسمبر _ كانون أول عام 1965 م أبحرت حاملة الطائرات الأمريكية ( تيكون ديروجا _ TICONDEROGA ) عندما كانت نار الحرب محتدمة في فيتنام ، وهي تحمل على ظهرها العديد من الطائرات المزودة بالقنابل الهيدرجينية ( الالتحامية الحرارية النووية من عيار الميجاطن ) وكان ذلك ضمن الاستنفار النووي الأمريكي خوفا من تطور نووي غير محسوب ، فحدثت واقعة نووية تم التكتم عليها في وقتها ، وهي سقوط احدى الطائرات من نوع ( سكاي هوك ) تحمل في بطنها قنبلة هيدرجينية ، من عيار واحد ( 1 ) ميجاطن من على ظهر حاملة الطائرات الى قاع البحر (1) لتستقر في عمق 4880 متر في ظلام المحيط ، تحمل 33 رطلاً من البلوتونيوم ، باتجاه الساحل الياباني قريباً من اوكيناوا على بعد 130 كم بين تايوان والجزيرة اليابانية الكبرى شيكوكو ، وطوى البنتاغون سر القنبلة الثمينة الضائعة يومها ، وليس هذا هو السر النووي اليتيم ، فقد تم إماطة اللثام في الفترة الأخيرة أن مدينة ناغازاكي ضربت بقنبلتين وليس بقنبلة نووية واحدة كما هو معروف تاريخياً الا أن احداهما لم تنفجر ؟!!
قنبلة نووية من عيار ميجاطن في قعر المحيط :
والذي كشف الواقعة هو كاتب أمريكي اسمه ( ويليام أركين _ WILLIAM ARKIN ) الخبير في القضايا الاستراتيجية حيث نشر كتابا أشار فيه الى مايزيد عن 1200 واقعة نووية من هذا النوع في البحار ، منها 11 مفاعل نووي ضمن غواصة نووية هوت الى القاع ومنها 48 رأسا نوويا غرقت في قاع البحر من الشكل الذي بين أيدينا ، وبعد مضي عشرات السنوات عرف أهل الجزيرة بأن أمام ساحلهم وفي قاع البحر يرقد شر سلاح عرفه الجنس البشري ، ولكن البنتاغون هدَّأ أهل الجزيرة ، بأن فترة الاثني عشر سنة قد انتهت (2) ولذا فلاخوف من بأس القنبلة الراقدة في أعماق المياه الباردة ، ولاندري ماهي مشاعر سمك القرش وهو يحوم سابحاً ، حول هذا الضيف الغريب غير المرغوب فيه ، حيث لاأمل من مغادرته ضيافة قاع المحيط؟!!
القنبلة النووية المفقودة ؟!!
ومن جملة الأسرار التي خرجت للسطح أيضاً في الفترة الأخيرة أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين من نوع الرجل السمين ( FAT MAN _ البلوتونيوم 239 ) بدلاً من واحدة ، وان كان بعض الخبراء قد شكك في الواقعة ، وتم تسليمها الى السوفييت عن طريق اليابانيين ، قبل دخول الجنرال الأمريكي ( مارك آرثر ) الجزر اليابانية بأيام قليلة ، وكان حرص اليابانيين على ذلك أن لاتنفرد أمريكا بسر السلاح النووي (3) وربما كان مخطط ضرب المدينة بقنبلتين ، بسبب جغرافية المدينة المحاطة بالجبال ، ولذا كان تأثر ناغازاكي أقل من تأثر مدينة هيروشيما بالكارثة النووية نسبيآً . وسواء ضربت ناغازاكي بقنبلة واحدة أو اثنتين فان المحصلة النهائية أن عهدا جديداً قد انبثق ، وأطل العصر النووي برأس الفطر المرعب ، وهو يحلق فوق مصير الجنس البشري ، تماماً كما في الأساطير التي نعرفها ماحصل مع علاء الدين والمصباح السحري .
قصة علاء الدين والمصباح السحري والجني :
تروي الأساطير أن علاء الدين الفقير أغراه الساحر بالدخول الى مغارة سحيقة ليخرج منها مصباحاً عتيقاً ، والذي حصل أن علاء الدين عندما وقع على المصباح رآه قد علاه التراب ، فلما أراد تنظيفه خرج من فوهة المصباح جنياً هائلاً يفعل الأعاجيب ، انتشر كالدخان ينتظر الأوامر من صاحب المصباح ، ولكن ميزة العصر الجديد الذي أخرج الجني ( النووي ) من القمقم أنه ليس مصباحاً واحداً يتيماً ، كما أن السحَّارين يزداد عددهم باضطراد ، ليس كوريا الشمالية واسرائيل آخرهم ، ولذا فإن العالم يعيش أزمة نووية حتى اليوم ، فهو استطاع ترويض الجني ( النووي ) ومازال ممسكاً به ، ولكن كثرة السحرة والمصابيح التي بها يمسكون والجن المختبيء فيها ، يجعل العالم الذي نعيش فيه عالم الجن وعبقر وعالم الخوف وعدم الاطمئنان للمردة الجدد ، الذين أعادوا الينا روح الأساطير وقصص الجان مرة أخرى . وفي الواقع يجب أن لانضحك أو نستخف بالأساطير ، لانها مخزن الحكمة الانسانية ، كما تحكي رغبات الانسان الخفية والمظلمة والتي تحرك اللاوعي عنده ، من مثل امتلاك قوة لاتخطر على بال أحد .
دور الأسطورة في الذاكرة الجماعية للجنس البشري :
ليس المهم في الأسطورة أنها تمثل حقيقةً أم لا ؟ المهم فيها أنها تمثل وقود تحريك الانسان ، فالسيارة تحتاج للبنزين لتمشي ، أما الانسان فيمكن أن يتحرك ويمشي بل ويقتل بالوهم ، فالذاكرة الجماعية للصرب مثلاً مازالت تتغذى من معركة ( أمسل فلد _ AMSELFELD )(4) التي جرت في كوزوفو عام 1389م ، كما أن الخيال اليهودي مازال يشحن من تهديم ( تيطس _ TITUS ) للمعبد عام 60 للميلاد ، وهذه الظاهرة لاتخلو منها أمة ، ومنها تتغذى ذكريات الأطفال ، وتشحن بها الذاكرة الجماعية للأمة ، وتُخَلِّد بها الأمة ذكريات أبطالها بكيفية ما ، وفي تراثنا هناك الكثير من الأساطير التي مازال ( الحكواتي ) يرويها في الحارات الشعبية في دمشق والقاهرة والقيروان ، من أمثال قصص ( حمزة البهلوان ، والأميرة ذات الهمة ، وعلي الزيبق ، وتغريبة بني هلال ... وماشابه ) وقصة علاء الدين والمصباح السحري تدخل تحت هذه المنظومة المعرفية ، وقصة سندباد لم يبق طفل في العالم لم يشاهدها فقد مثلَّها اليابانيون بأفلام الكرتون وترجمت الى شتى لغات العالم . وهذا يعني أن عشق الانسان للقوة وغرامه بتطويرها تكمن في العمق الرهيب للاوعي الانساني منذ قرون طويلة ، ولذا كانت المحرك العميق خلفه للتطوير بدون توقف ، ولكن هراوة الغابة غير السلاح النووي ، والقوة النارية ليست كالفطر النووي ، والذي حصل في هذا التطور الفريد ، والقفزة النوعية المذهلة للقوة ، والتي عاشها جيلنا فقط ، ولم يهضمها العقل الجماعي الانساني بعد ، يجعله يقتات من مشاعر الأسطورة ، وأحاسيس الغابة ، والاعتماد على مبدأ الهراوة . والذي حصل بكل بساطة هو تطور ثوري جديد في مفهوم القوة ، قاد الى عكس مفعوله ونقيض ماأُريد له ، حيث ألغت نفسها بنفسها ؛ فالقوة أصبحت كائناً خرافياً مثل قوى الأساطير التي سمعناها عن الجني الذي انطلق من مصباح علاء الدين ، وبات الخوف من جهاز الرعب هذا داعياً لتفكيكه من جديد ، ولكن رحلة الصعود تكون أسهل من رحلة النزول أحياناً ، واسترداد الثقة بعد كسرها بين بني البشر أصعب بما لايقارن مع فقدها .
الكائن الخرافي ( الاسطوري _ الحقيقي ) الجديد :
لم يفهم ساسة العالم ( بُعد ) ومدى التطور الجديد للقوة بما فيهم ( كلينتون ) الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها ، وأوعز في نفس الوقت ، الى المخابر الجديدة بتطوير تقنيات جديدة ، لاتعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي كما سنشرحه بشكل تفصيلي لاحقاً ، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض ، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم ؛ بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم ، وبكلفة إجمالية تصل الى اربعين مليار دولار تنفق في مدى العشر سنوات القادمة ، للمحافظة على التفوق النووي ، ويعرف هذا المشروع الان ببرنامج البحث والانتظار العلمي ( STOCKPILE STEWARDSHIP AND MANAGEMENT PROGRAM ) ويرمز له اختصاراً ( SSMP ) . أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة لتفجير قنابل عيار ( المائة كيلو طن ). الا إن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة ، كما يفكر الانسان ، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير ) الجنرال فيكتور فيرنر ، عندما نتصور انساناً يدب في المدينة ، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان ، فإنه لن يبقى أنساناً حتى لو حافظ على شكله الانساني ، فامتلك رأساً انما بقدر غرفة كبيرة ، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر !! (5) أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف في كتابه ( البيروستويكا ) حيث أشار الى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة ، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية ، فقال (( ولأول مرة في التاريخ أصبح هناك حاجة حيوية لادراج المعايير والقواعد الأخلاقية _ الجمالية الانسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية )) (6)
مأزق العصر النووي :
ولذا فان العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة ، وأدخل مفهوما ً فلسفياً جديداً في علاقات البشر والدول ، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي ، وانتبه الى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على ( مشروع مانهاتن ) في ( لوس آلاموس ) الفيزيائي الأمريكي ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري ، في منطقة ( آلامو جوردو ) ، عندما تصور علاقات القوى ( كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد اذا اشتبكا في صراع فان الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعاً ) وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق ( آيزنهاور ) عام 1956 م في احدى رسائله : (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة او اختيار الموت ))(7) وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف الزعيم السوفييتي عندما قال في النمسا في يوليو تموز عام 1960 (( نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فاذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح ، وإذا نحن بدأنا حرباً لتسوية المنازعات بين الدول ، ومنها مايبغض الرأسمالية ومنها مايبغض الشيوعية ، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض ))(8) وقريباً من هذا الكلام كرَّره جورباتشوف بعد ذلك بثلاثين سنة في كتابه البريسترويكا (( استحالة حل التناقضات الدولية حلاً عسكرياً نووياً ينتج ديالكتيكاً جديداً للقوة والأمن ، اذ لايمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية ، لاباستخدام السلاح ولابالتهويل المستمر لـ ( السيف والترس ) كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة )) (9) ليخلص في النهاية الى أن (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وايديولوجية أو أي أهداف أخرى ، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً ، كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم ، فالوظيفة السياسية للحرب كانت دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها ( عقلاني ) أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون ، لان الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما . ان النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )(10) وكان هذا الانعطاف وهذا ( الفهم ) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص ، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه .
رحلة السلاح النووي في نصف القرن السابق :
حتى عام 1960 كان السباق المحموم هو في إطار تضخيم وتكبير السلاح النووي ، من خلال تطوير ماعرف بالجيل الثاني ( القنبلة الهيدرجينية ) وحتى عام 1958 م فجرت أمريكا 118 قنبلة ، في جنوب المحيط الهادي قضت فيها على كل حياة حيوانية ونباتية ، وفي عام 1954 فجرت سلسلة من القنابل تحت الاسم السري ( كاسل ) في جزر المارشال منطقة ( بيكيني _ أتول ) حيث تم تفجير سبع قنابل هيدروجينية بشكل متلاحق ، تحت تصفير وتزمير العسكريين وفرحهم الشديد بألعاب العيد النووي !! وفي الأول من آذار عام 1954 م هتف الجنرالات لتفجير قنبلة جديدة كان المتوقع أن تكون بقوة 6 ميجاطن فانكشف الغطاء عن جبروت نووي بلغ 15 ميجاطن ( أقوى من هيروشيما بألف مرة ؟! ! ) فارتجت الأرض من تحتهم وحلق في السماء مارد علاء الدين النووي الجديد يطل برأسه من ارتفاع 25 كم ، وأرسل الجنرال المتحمس يصف الاعصار النووي على الشكل التالي : (( اندفع الفطر النووي محلقا الى ارتفاع 25 كم في عنان السماء وبسرعة مخيفة انطلقت الغمامة النووية ترغي وتزبد لتشكل ثلاث كرات من الكريستال اللامع ، وعندما وصل الانفجار الى أوجه التمعت السماء فجأة بلون أزرق بنفسجي في تضاعيف التشرد الأيوني المقدس !! ) (11 ) فجُن جنون السوفيات فانطلقوا لايلوون على شيء في تطوير أعظم منها ففجروا في نهاية الستينات قنبلة بلغت قوة ( 58 ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ 3800 مرة !! ) فصرَّ جنرالات البنتاجون حنقاً على أسنانهم وقرروا المضي في مشروع لم يحلم به ابليس اللعين ، بتفجير قنبلة من عيار ( مائة ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ6600 مرة !! ) كل هذا قبل اتفاقية عدم التفجير في الهواء والماء التي ذكرناها والاحتفاظ بالتفجير تحت الأرض فقط .
المسموح به فقط اقلاق عظام الموتى تحت الأرض ؟!!
في السبعينات تم الاتفاق على السماح بمتابعة لعبة الموت وتجارب التفجير تحت الأرض فقط ، لتقفز الاتفاقية بعد ذلك على تحديد قوة التفجير بما لايزيد عن ( 150 ) كيلوطن ( أقوى من هيروشيما بعشر مرات !! ) وكان كل ذلك في ضباب الحرب الباردة قبل أن تدفن الأخيرة في جنازة خاشعة في باريس ، مع التسعينات من هذا القرن بعد أن زُلزل العالم عدة مرات وبلغت القلوب الحناجر ، وفي السبعينات حصل تطوران هامين في التطوير النووي الأول : هو في اتجاه التصغير ( MINIMIZING ) والثاني في التلاعب في اتجاه الطاقة حيث تم انتاج قنبلة النيوترون ذات التأثير الاشعاعي .
انتاج قنابل فاكهة التفاح !!
كانت القنبلة الهيدرجينية الأولى التي أخذت اسم ( مايك ) والتي أنتجت في خريف عام 1952م ذات حجم مرعب ، بطول ستة أمتار وبقطر 8.1 متر وبوزن 65 طن ، وهي التي عرفت بالسلاح الاستراتيجي ، ولم يمكن حملها على ظهر طائرة في ذلك الوقت ، بل شحنت على ظهر بارجة حربية ، وفي عام 1956م استطاع الأمريكيون حمل أول قنبلة هيدرجينية على ظهر طائرة حربية من نوع ( ب _ 52 ) وكانت القوة الجوية الضاربة لأمريكا مكونة من ثماني طائرات من هذا النوع ، ولكن التطوير الجديد مشى بعكس هذا تماماً ، بانتاج ماعرف بالاسلحة التكتيكية ، حيث أمكن تصغير القنابل الى حجم الفاكهة الصغيرة ، أي أصغر من قنبلة هيروشيما ذات القوة التدميرية ( 15 كيلوطن ) ، وهكذا أصبحت الخيارات منوعة بين القنابل ( الاستراتيجية ) والـ ( التكتيكية ) ونشأ رعب جديد من هذا الطيف من الامكانيات ، حيث قفز الى الإمكان حدوث حروب تستخدم فيها الاسلحة التكتيكية الصغيرة ، ولكن الاستراتيجية النووية أظهرت مرة أخرى ، أنه مع العصر النووي أن السحر قد انقلب على الساحر ، لانه لايوجد هامش واضح بين السلاح التكتيكي والاستراتيجي ، فيمكن الانزلاق بأبسط ممايتصور الانسان من الحرب التكتيكية الى الحرب العظمى التي لاتبقي ولاتذر ، تحت تأثير أعصاب انفلتت ، وأحقاد تفجرت ، ودماء سالت؛ فالانسان مازال يحمل في جمجمته بقايا تلافيف دماغ التماسيح وسمك القرش ، كما نكتشف بين الحين والآخر عن مدى رقة وتفاهة قشرة الحضارة في القشرة الدماغية في تلافيف دماغ الانسان ، والا كيف يمكن أن نفهم صواريخ كابول ، واغتصاب خمسين ألف امراة في البوسنة من سن السبع سنوات الى السبعين على يد الصرب ؟!!
تطوير نظام الصواريخ ونتائجه البعيدة :
وبقي لتتويج رحلة السلاح النووي تطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية ، ومن هنا تطور علم الفضاء وارسال الأقمار الصناعية ، التي أتت بالخير لنا من حيث لايشعر العسكريون ، حيث ينتظر الجنس البشري الآن ، امكانية ربطٍ هائلة للجنس البشري من المعلومات والاتصالات ، وتهيئة الجو لبناء الدولة العالمية الواحدة وإنتاج الانسان العالمي الثقافة الجديد ، وإيقاف الحروب نهائيا واجتثاث فقر ومجاعات العالم ، وفتح الامكانية لارتياد الفضاء واكتشاف الحياة في كواكب النظم الشمسية الأخرى .
المفاجأة الكبرى في نظام الصواريخ :
بين اختراع أول سلاح نووي وبين الوضع العالمي الجديد قفزات لاتخطر على بال ، بين عقيدة الهجوم النووي الأول ، فمن يهاجم أولاً يربح بالقضاء الكامل المبرم على الخصم ، وتبين مع الوقت مدى سطحيته وعدم جدواه وامتلاءه بالثغرات ، فتحولت العقيدة الى الردع النووي ، أي في الحين الذي يهاجم أحد الأطراف ، فإن الطرف الثاني يطلق صواريخه النووية _ وهو يغرغر في سكرات الموت _ التي سوف تصل الى الخصم في فترة أقصاها عشرين دقيقة ، فتأخذ الخصم مع نزع الروح معا ً الى قبر مشترك ؟!! ثم تطورت عقيدة ثالثة تقول بعدم جدوى وأمان أي وسيلة أمام الحرب النووية ، فالأمر لايحتاج لهجوم أو دفاع ، بل يكفي الانتحار النووي ، فتفجير أحد الأطراف قنابله التي يملكها هو بالذات ، وفوق رأسه بالذات ، سوف تقود العالم الى شتاء نووي رهيب ، ينقرض فيه الجنس البشري ، كما انقرضت الديناصورات بظروف مشابهة .
كذلك فان الياباني ( شينتارو ايشيهارا )(12) لم يضن علينا بكشف السر عن سبب الاريحية والاخلاقية المتميزة ، التي جعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تكف عن التسابق النووي !! وكان السر في نظام الالكترونيات المتطور ، الذي خرج من أيدي الديناصورات الكبرى ، ليصبح مصير تطويره في يد دولة غير نووية هي اليابان !! فالصواريخ حتى تصيب أهدافها بخطأ محدود يعتمد بالدرجة الأولى على نظام الكمبيوتر المتطور ، و( الميكرو شيبس ) التي تُخَفِّض امكانية الخطأ الى أمتار قليلة أصبحت انتاجاً يابانياً ، فحتى يمكن تدمير القنبلة الهيدرجينية _ المختبأة في ( السيلو _ SILO )(13) مباشرة وبضربة رأس لرأس ، وفي فوهة البئر النووي تماماً ، المحصن ضد الزلازل ، بجدار من الخراسانة الاسمنتية المسلحة حتى ستين متراً ، كما في المخابيء النووية الأمريكية الموجودة بشكل رئيسي في كاليفورنيا في قاعدة ( فاندنبرغ ) _ لابد من امتلاك الكمبيوترات اليابانية ، وهكذا فان قصة انقلاب السحر على الساحر أخذت بعدا ً جديداً ، حيث ظهر مرة أخرى قصر نظر العسكريين ، ومدى رجاحة عقل العلماء الذين انتبهوا الى روح العصر الجديد ، فاقتراب العالم تدريجيا ً من السلم ، كان العلم هو المطور الأكبر خلفه ، أكثر من أي اعتبار آخر أو أية موعظة أخلاقية .
هوامش ومراجع :
(1) مجلة الشبيجل الألمانية حيث أوردت تقرير الخبير الأمريكي بالتفصيل عن مجموع الواقعات النووية ويراجع في هذا كتاب عندما بزغت الشمس للكاتب _ نشر دار الكتب العربية _ دمشق ص 189 فصل الجيل الثاني من السلاح النووي (2) تعتبر مادة نظير الهيدرجين ( التريتيوم _ TRITIUM ) ذات حياة تصل الى ( 3.12 ) عاماً وهذا يعني أنه لابد من حقن القنبلة مرة أخرة بهذه المادة حتى تحافظ القنبلة على مفعولها ، وهو مبدأ الجرعة الداعمة كما هو في اللقاح الطبي ؟!! (3) أشارت الى هذا الخبر المجلة الألمانية شديدة الدقة ( الشبيجل ) في عددها رقم 10 من عام 1992 م حيث ذكرت اسم الترجمان والحزبي الشيوعي الروسي ( تيتارنكو _ TITARENKO ) الذي كانت مشتركاً في اللقاء الذي عقد بين القيادة اليابانية ( بالصور ) وبين القيادة الروسية اثناء استسلام الجيش الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي كشف اللثام عن رسالة تيتارنكو التي أرسلها الى القيادة الروسية يومها هو الروسي المتخصص في التاريخ العسكري ( ايجور موروسوف _ IGOR MOROSOW ) والذي كتب مؤرخاً للحرب بكتاب أخذ عنوان ( الحرب التي لاتنسى ) وتم عرض فيلم وثائقي في ألمانيا بـ 16 حلقة عن الحرب تحت نفس العنوان (4) معركة أمسل فلد ( AMSELFELD ) جرت عام 1389 م حيث هزمت فيها القوات الصربية أمام الجيش العثماني بقيادة السطان العثماني مراد خان الأول وقتل في هذه المعركة كلا القائدين فأما الملك الصربي ( لازار ) فقتل في المعركة بعد الأسر ، وأما السلطان العثماني فأثناء تفقده ساحة المعركة من جريح صربي متظاهر بالموت _ يراجع في هذا كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية _ عن معركة قوص أوه _ تأليف محمد فريد بك المحامي _ دار النفائس ص 135 (5) كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير) تأليف الجنرال فيكتور فيرنر _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ ترجمة الدكتور هيثم كيلاني _ ص 21 (6) بيروسترويكا _ م . س . غورباتشوف _ الفارابي _ ص 200 (7) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي ص 14 (8) حول منع الحرب _ تأليف جون ستراتشي _ ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد _ الدار المصرية للتأليف والترجمة _ ص 16 (9) نفس المصدر السابق ص 200 (10) نفس المصدر السابق ص 199 (11) مجلة الشبيجل عدد 13 عام 1990 ص 278 (12) كتاب اليابان تقول .. لا شينتارو ايشيهارا _ ترجمة د. أسعد رزوق _ دار الحمراء _ ص 17 _ 20 ( 13 ) المخبأ النووي للصاروخ الذي يحمل العديد من الرؤوس النووية وقسم منها وهمي .
اقرأ المزيد
بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري ، فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون ، فهو الذي قوض دولاً بكاملها ، وأفنى شعوباً بأسرها ، ومسح مدناً من وجه الأرض ، وصدع حضارات عظيمة ، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع ، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً ، ولكن أحداث الهند الأخيرة حملت معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي ، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء ويسافر فيه الناس قريباً من سرعة الصوت . والآن ماالمرعب في هذا المرض ؟ ماهي قصته التاريخية ؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له ؟ بل ماهي فلسفة انتشار المرض عموماً ؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الافرنجي والايدز ؟! دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع ، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد. في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً ، رائعة الجمال ، بديعة الألوان ، لمرضى يموتون في شر حال وأسوء مصير ، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً : إنه الموت الأسود .. (الطاعون PLAGUE) !! . كانت اللوحة أكثر من رائعة ، تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن ، تناثر فيها مرضى ( الطاعون ) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة ، وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة ( الموت الأسود ) ، وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات مدَّ يده يطلب العون ومامن معين !! في حين وقف القائد الفرنسي ( نابليون بونابرت ) بين جنوده في مستشفى ( يافا ) مقطب الجبين ، عابس الوجه ، خائر القوى ، قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس .
هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لايستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض ( الطاعون ) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة . دمر الطاعون دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا ( الجنرال ) المخيف .. الموت الأسود ( الطاعون ) !! . وقف ( الجزاَّر ) حاكم عكا ( 1 ) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابوليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة ، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده ( القسطنطينية ) فنابوليون كان يرى أن ( استانبول ) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه ، هذه المرة كان الجنرال ( طاعون ) بجانب حاكم عكا ( الجزار ) كما كان الجنرال ( شتاء ) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً ( عام 1812م ) ( 2 ) يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر ( 1798م ) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة فاستولى على يافا وتابع طريقه إلى عكا ، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولى مدبراً ولم يعقب ، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة : (( وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا .. ووصل بونابرت في 16 مارس ( 1799م ) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها ( فولتير ) لكتاب ( روح الشرائع ) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب .. وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً .. حينئذ صمم على العودة إلى مصر بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه ، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد : (( لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم ، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة )) وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب ووصلوا إلى يافا في 24 منه فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصداً ، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم ، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ماصاروا إليه وماكانوا يشعرون به من العذاب .. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات والإجهاز عليهم وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل موتهم )) ( 3 ) ؟!! كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لاتحصى ، يسقط من عدو مجهول لايراه ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن !! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب ؛ يغلي من الحرارة ، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب ، زائغ النظرات متشنج الأطراف مربد الوجه مكفهر القسمات يزحف إليه الموت بسرعة ، ينفث قشعاً مملوءً بالدم ، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ ( الموت الأسود ) فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه ؟! هكذا مات الملايين من البشر في أبأس وأشنع موتة عرفها الإنسان ، وهذا يعلمنا حكمة الحياة : إن الحياة جميلة جداً ولكن الطبيعة تسحق الفرد بدون أن تبالي بنفس القدر من الحرص على المحافظة على النوع. إن هناك علاقة جدلية بين التاريخ والمرض ، فكما تتفشى الأمراض مع الحملات العسكرية والحروب المجنونة ، فإن انتشار الأمراض يصنع التاريخ بدوره ، فيقود إلى النكسات العسكرية وتوقف الحملات الحربية(4) على النحو الذي رأينا في حملة نابوليون بونابرت ، بل يقود إلى خلخلة الامبراطوريات وتصدع الحضارات ، وهو الذي لاحظه ابن خلدون حين كتب يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية وترافقه مع انتشار الطاعون الذي نزل في منتصف المائة الثامنة فتحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وجاء للدول فقلص من ظلها وأوهن سلطانها وتداعت إلى التلاشي : (( هذا إلى مانزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 5 ). كان المرض المرعب يأتي بهجمات مزلزلة عبر التاريخ ، ويعشش لعشرات السنوات ، فيمسح مدناً بكاملها من خريطة الوجود ، ثم يغيب في بطن التاريخ مرة أخرى ، فلايعرف الناس كيف جاء ولا كيف ولى وانقشع ظله الرهيب !!.جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود مايلي : (( ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى ، فقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر ، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر ، وثلاثين سنة من السادس عشر وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان ... ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألف ماتوا في هذا الوباء ، وفي باريس خمسين ألفاً ، وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً ، وربما كان المجموع ( ربع سكان العالم المتحضر ) وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض .. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية ، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل ( الفلاجلان ) الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم .. واستمع اناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين ، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة ، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة ، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة )) ( 6 )
ويبقى عام 1347 هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوربا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع ، وتتصحر أوربا عملياً ، بل وتعاني من إمكانية نقل التراث المعرفي للإجيال القادمة ، وتحتاج إلى مايزيد عن مائتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني !! ( 7 ) .
من أين جاء هذا الوباء المخيف ؟؟ كيف تولد ونشأ ؟؟ هل من حادثة أيقظته ؟؟ أو حرب أثارت حفيظته فقام يفتك بالناس ؟؟ كيف انتشر كل هذا الانتشار في المعمورة يحصد أرواح الناس بمنجل لايعرف الرحمة وكأن الناس في موعد مع حصاد هذا العالم ؟!!
تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب ( انسكلوبيديا تاريخ العالم ) عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوروبا ( 8 ) وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم !! فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م ؟؟
بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانيء وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة ، إلى مدن أوربا القذرة التي لاتعرف نظام التصريف الصحي ، ولانظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات !! ( 9 )
هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من اهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا ، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب ، فقاموا بشن أول حرب ( بكتريولوجية ) ربما في التاريخ الإنساني ، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة ؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون ؟!! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون ، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافيء التي وصلوها ، وبذلك نشروا المرض في كل أوربا ، فلم ينتهي عام 1352 م إلا وكانت مدن أوربا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة ، والطاعون ليس أكثر من مرض ( الرشح ) الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر ، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة !!
وكما حملت السفن جرذانها ، فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة ، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لاترى إلا بالمجاهر مكبرةً آلاف المرات ، والتي لم تكن لا أوربا ولا العالم قد سمع بها ، وكان على العالم أن ينتظر طويلاً كي يبدأ الهولندي ( لوفنهوك ) بائع القماش صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا ، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب أقرب من حبل الوريد ولكن لانبصرها . بل كان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة ، فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية .
ومع استفحال المرض تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض ، فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض الذي دخل الدم والأحشاء والعظام . كل أنواع النباتات والطحالب ، نقيع لحاء الشجر ، القذر والعذرة ، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة ، كتابة الرقي للأرواح والنجوم والكواكب ، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح ، الفصادة والحجامة ، الدوش البارد والساخن ، مركبات اليود والبزموت والزرنيخ والزئبق ، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون ، الحقن والزرع ، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت ولاعصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم للخلاص من هذا المرض الذي يسري في جسد ابن آدم مسرى الدم ، واليوم يمكن السيطرة عليه بجرعة من السولفا أو الستربتومايسين أو التتراسيكلين الخ .. ولكن هذه المركبات هي عصارة أرضية رهيبة من التقنيات والتراكم العلمي .
لم يكن مرض الطاعون هو الوحيد في معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ ، فسلسلة الأمراض في هذا الموضوع لاتنتهي ، بين الجذام الذي كان يفضي بصاحبه إلى الإعدام الاجتماعي ، من خلال مزرعة عزل بشرية ، أو الكوليرا التي كانت تنقل إلى المقابر آلاف الجثث في هامبورغ في نهاية القرن التاسع عشر ، أو مرض الزهري ( SYPHILIS ) ( مرض الحب الفرنسي ) الذي عصف بالبشرية مايزيد عن أربعة قرون بدون معرفة المتسبب الأساسي في هذا المرض ، وبالطبع كانت الأرواح والكواكب متهمة في إحداث هذا المرض ، حتى كشف الغطاء أمام عيني ( شاودين ) في مطلع هذا القرن ، ومن خلال تطوير المخبر والمجهر ، الذي هو بدوره حصيلة القفزة العلمية برمتها ، حيث رأى تلك ( البريميات - اللولبيات الشاحبة ) والتي تشبه حبل المعكرون الملفوف أو السلك الملفوف لفتح أغطية وسدادات الأوعية الزجاجية ، ثم المثير في الوصول إلى الدواء من خلال رحلة رهيبة لاتصدق لاكتشاف الدواء النوعي الذي يخلص البدن من الجرثوم ولايفعل للجسم شيئاً ، كما حصل مع ( باول ايلريش ) في 606 من المحاولات كي يلوى مركب ( الزرنيخ ) حتى يصبح شافيا ً وبجرعة واحدة ( مركب السلفارسان ) وعندما أعطي اسمه ( 606 ) كان رمزاً للمحاولات المئوية المكررة قبل الوصول إلى الرصاصة السحرية لقتل الجرثوم !! ( 10 ) .
إن مرض الطاعون ( PEST) الذي يطل علينا بقرنه اليوم من القارة الهندية يعطينا حزمة من الحكم والأفكار والتأملات :
1 - تقول الفكرة الأولى : إن هذا المقالة لاتستهدف الترويع ، كما لاتبغي الاستخفاف ، كل ماتريده وضع المرض في إطاره الطبيعي والتاريخي والإمراضي ، بل والثقافي الحضاري ، فهي إذن لم تكتب للأطباء والمتخصصين في المخابر أو المتبحرين في علوم المناعيات وجراحة الكروموسومات وفصائل الجراثيم وقبائل الفيروسات ، بل هي كتبت بالدرجة الأولى من المنظور الثقافي والفلسفي ورفع مستوى الوعي . في مدى خطر هذا المرض ومعنى انتشاره بعد أن خاله الناس جميعاً أنه أصبح في ذمة التاريخ يرقد في بطون الكتب . وبالطبع يفتح هذا الباب أمام فلسفة انتشار المرض ويقظته من رقاده بعد كل هذا الهجوع عبر القرون ، فإذا به مثل ( دراكولا ) ينهض شبحاً يمتص دماء ضحاياه ليحولهم إلى أشباهه ( 11 ) .
2 - وتقول الفكرة الثانية : إن بعض الناس لايتصورون طبيعة الحياة الشاقة التي كان الناس يحيوها فيما مضى ، بل ويعشق بعضهم فيما لو أتيحت له ( آلة الزمان ) أن يدخل التاريخ ، ليعيش حقبة يهواها ؟! لنتأمل ذلك : لنتصور أن صاحبنا دخل فترة منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حيث الطاعون يقصف الأرواح ولاأثر لصاد حيوي بسيط !! صداع بسيط بدون حبة أسبرين واحدة !! رائحة المدن القذرة بدون نظام التصريف الصحي !! مدن مظلمة في الليل بدون أبسط إضاءة !! المرأة تغسل بيدها كل شيء وبمواد تنظيف لاتكاد تذكر !! سفر طويل مرهق لأقرب مدينة يعلو الإنسان فيها الغبار والإنهاك وطرق محاطة باللصوص وقطاع الطرق !! تبتر الأطراف المصابة بضرب الإنسان على رأسه حتى يدوخ ثم تبدأ عملية القطع المرعبة ليتلوها بعد ذلك الكوي بالزيت المغلي !! ( كان اكتشاف امبروز باريه طريقة الزهراوي في ربط الأوعية بدون غطس الطرف في الزيت المغلي تخفيفاً كبيراً ونصراً طبياً مبيناً ) ، التهاب الزائدة الدودية معناه الموت غالباً ، وموت الأم الحامل مع جنينها أمر مكرر ، شوارع موحلة وثياب ليس فيها رائحة الأناقة ، وطرق موحشة .
هل لنا أن نتصور العكس أي لو أرسلنا صاحبنا إلى المستقبل أو لو أتينا بفرد من الماضي من أيام الطاعون ليُعافى بحقنة من صاد حيوي بسيط رخيص الثمن متوفر في أصغر صيدلية في قرية نائية !! إن صاحبنا لو ذهب إلى المستقبل فلن يعود لإنه سيعيش مع عالم خالي من الحروب والمجاعات والاضطهاد يحقق الإنسان فيه ذاته وينسجم مع اخيه الإنسان .
3 - وتقول الفكرة الثالثة : إذا كان الجرثوم ينتقل عن طريق التنفس على الشكل الذي سمعناه وهو شكل في منتهى الخطر وقاتل ، فإن هناك طاعون اجتماعي لايقل في خطره وينتقل أيضاً عن طريق الجهاز التنفسي ، فكما انتقل هذا المرض ( PLAGUE ) عن طريق الرذاذ التنفسي ، فإن الطاعون الاجتماعي ينتقل من الحبال الصوتية عبر الموجات الصوتية ، الأول يستهدف الجهاز التنفسي ، والثاني يتمركز في الجهاز الواعي العقلاني ، الأول يدمر الصحة البيولوجية ، والثاني يدمر الصحة النفسانية ، الأول وحداته ( عصيات يرسين ) الغليظة سلبية التلوين والثاني ( وحداته ) الفكرة الضارة ، الأول سهل بسيط بسبب أحادية المسبب ، والثاني خطير أخطر من الفيروس الذي يتقلب في أنواعه بسبب تنوع أفكار التدمير ، الأول سهل الكشف كما وصل إليه العالم ( يرسين ) و( كيتازاتو ) والثاني صعب الكشف بل لايطلب المصاب فيه إلى الكشف عنه لعدم شعوره أنه مريض ؟! بل إن أعظم تحدي يواجه الإنسان ليس عالم ( البيولوجيا ) بل عالم ( السيكولوجيا ) لنوعية قوانينه التي لم يتوجه الاهتمام الإنساني بعد لاكتشاف ديناميكيتها ، وإلا فكيف نقارن بين رؤية جرثوم تحت المجهر ورؤية طيف الحسد مثلاً ، هل يمكن ياترى لأي جهاز راصد أن يقيس لنا ( الطيف اللوني ) للحسد مثلاً ، أو مدى توتر ذبذاته ، أو كم وزنه ، أو ماهي موجاته في الدماغ وكذلك الكبرياء والكذب والنفاق وحب الظهور والزعامة والانتفاخ المغرور ، وهذا يوصلنا إلى أن ( الطاعون الاجتماعي ) أصعب في الضبط ، وأفظع في الانتشار ، وأرهب في الإصابة ، وإلا مامعنى اغتصاب خمسين ألف امرأة في البوسنة بمن فيهن طفلة السبع سنوات وعجوز السبعين ؟ مامعنى إبادة حضارة الازتيك والمايا والإنكا ؟ مامعنى ذبح مليون إنسان في راوندا ؟ مامعنى تدمير كابول بأيدي أبنائها ؟ أليس كل هذا مؤشرات لــ ( طواعين ) اجتماعية ؟؟؟؟ .
4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن القذارة مصدر العلل أياً كانت هذه القذارة ، بيولوجية أم نفسية أم اجتماعية !! والقرآن أشار إلى كل هذه الانحرافات المهلكة ، فطلب نظافة الثوب والبدن ( وثيابك فطهر ) وطهارة القلب والمسلك ( وذروا ظاهر الأثم وباطنه ) ونظافة المجتمع من الفساد ( أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) ، واعتبر القذارة الاجتماعية سبب تدمير المجتمعات الداخلي ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) ، وهذا يعني جهداً متواصلاً للحفاظ على وسط الطهارة ، فالحياة تقوم على ( وضع ديناميكي متحرك ) وليس ( وضع استاتيكي جامد ) ، الحياة تقوم على مبدأ ( الصيرورة والتطور ) وليس مبدأ ( التوقف والجمود والتحنط ) ، فمع الموت تقف الحياة عن التشكل وإمكانياتها عن المتابعة ، وهكذا على الإنسان أن يعيش في جو نظيف في كل مستوى ، بالنظافة الدائمة لثوبه بالغسل ، وبدنه بالحمام ، وروحه بالصلاة وبالتنمية الجدلية للنقد الذاتي ، ومجتمعه بالوعي المتقد والسلوك الرشيد والقدوة الحسنة وتفشي روح السلامية والحوار المثمر ، والثقة بأن الكلمة كائن حي مؤثر ، فيها قوة الاندفاع الذاتية في قدرة الاصلاح الاجتماعي .
5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن الكون الذي نعيش فيه تنتظمه قوانينه النوعية بدءاً من الذرة وانتهاءاً بالمجرة ، فهي في مستوى البايولوجيا الجراثيم والأمراض والتوازن الهورموني والاستتباب المعدني والإحكام الفيتاميني ، وهو في مستوى الذرة ( ميكانيكا الكم ) ، وفي عالم المجرات ( النسبية ) ، وفي النظام الشمسي قانون ( الجاذبية والكهرطيسية ) ، وهكذا تمسك القوانين النوعية وجودنا بإحكام ، فالإرادة الآلهية أقامت الكون على ( النظام ) و ( البرمجة ) و ( الغائية ) و ( الجمال ) و ( الحق ) ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ، ولم يكن الكون يخضع لـ ( الصدفة ) أو ( الضرورة ) أو ( العبثية ) أو ( الفوضى ) . وإذا كان الأمر كذلك فإن الجاهل يدفع ( فاتورة ) المخالفات ، فالتقي سوف تتحطم عظامه حين يسقط من شاهق مهما كان تقواه ، والهنود سوف ينتشر عندهم ( الطاعون ) بسبب تفشي القذارة ، ودفع الأوربيون ثمن الإباحية سابقاً في مرض الزهري والعقبول ، ويدفعونها مع الأفارقة اليوم في مرض ( الأيدز ) ، والسرطان الاجتماعي يشبه تماماً السرطان البيولوجي في فوضوية النمو ، فإذا أرادت خلايا أن تنمو كما يحلو لها وتزينها لها مصالحها الخاصة فإنها سوف تتورم ، ولكن على حساب التدمير المشترك المضاعف لها وللمجتمع الذي تنتسب إليه ، وكما يذهب الجسم المتسرطن بكل خلاياه ( الورمية والسليمة ) على حد سواء إلى القبر ، كذلك الحال مع الجسد الاجتماعي المتسرطن حيث يدفع الصالحون قبل الطالحون فاتورة الانقراض الاجتماعي .
هوامش ومراجع :
( 1 ) راجع في هذا كتاتب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي جزء 2 ص 288 دار الجيل بيروت _ عن كتب بونابرت لأهل مصر عن سبب رجوعه عن حصار عكا . ( 2 ) انسحب نابوليون من عكا في 20\5\1799م كذلك انسحب من موسكو في 19 \ اكتوبر من عام 1812م . ( 3 ) كتاب تاريخ نابوليون الأول تأليف طنوس الحويك الجزء الأول منشورات دار ومكتبة الهلال ص 131 - 134 . ( 4 ) كان انتشار الطاعون في أوربا سبباً في توقف حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا ، وسبباً لاعتناق بريطانيا البروتستانتية من خلال زواج الملك هنري الثامن زوجة جديدة غير زوجته ماريا الحولاء المصابة بالداء الفرنسي والتي لم تنجب له أولادا ً . ( 5 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 . ( 6 ) قصة الحضارة - ويل ديورانت _ مجلد 22 - ترجمة عبد الحميد يونس - الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية ص 122 و123 و124 . ( 7 ) عندما فاجىء أهل لندن عام 1665م قضى على سبعين ألفاً من سكان لندن البالغ عددهم 400 ألف نسمة ؟!! عن كتاب الأمراض الإنتانية تأليف مدني الخيمي _ فصل مرض الطاعون ، ويراجع في هذا أيضاً كتاب عندما تغير العالم سلسلة عالم المعرفة الكويتية . ( 8 ) ( ENZYKLOPAEDIE DER WELT GESCHICHTE PAGE 409 HOLLE VERLAG UWE K . PASCHKE ) ( 9 ) لم تعرف أوربا نظام الحمامات إلا بشكل متأخر وحتى الآن توجد بعض البيوت في ألمانيا ليس فيها حمام ، وكان صاحب القلعة الكبيرة ( الإقطاعي ) له كرسيه الخاص لقضاء الحاجة فتؤخذ من تحته لترمى في الوقت الذي كانت الحمامات شيئاً طبيعياً في الحياة الإسلامية . ( 10 ) كتاب قصة الميكروب - تألف بول ديكرويف - ترجمة أحمد زكي - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1969م - ص 366. ( 11 ) حشيت ثقافة المواطن الأوربي العادي بقصة مصاص الدماء دراكولا الذي مات ولكنه يخرج من عالم الأموات شبحاً يمص دماء الناس فيتحول الضحية إلى دراكولا جديدة وهكذا .
اقرأ المزيد
مع فجر الحضارة أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب ، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة ، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة ، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لانتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع ، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود ، والعدم يلف الكون ، والانتحار ينتظر الجميع ، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة . لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة ، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة : ياأبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم ، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد ، أو سباق الماراتون ؟؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته ، كما اعترف للقاريء بأنني استغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة ، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام !!
قلت لصديقي الدكتور عماد : هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون ؟ هز رأسه بالنفي ، قلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس ( دارا ) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون مما جعل العدَّاء اليوناني ( فيديبيدس _ PHEIDIPPIDES ) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين ( كم ) واسبرطة التي تبعد ( 224 كم ) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة وطلب المساعدة الاسبرطية من جهة أخرى ، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل ، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي .
وصف المؤرخ ( ولز ) ( H . G . WELLS ) عبور كزركسيس ( XERXES ) لمضيق الدردنيل ( HELLESPONT ) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان : (( حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال ، قال عن نفسه إنه لسعيد ، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع فسأله عمه أرطبانوس فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك : أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة ، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين )) ( 1 )
وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الأغريق بحراً وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس ( MARDONIUS ) في معركة بلاتيا عام ( 479 قبل الميلاد ) براً على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس ، وكانت معركة بلاتيا ( PLATAEA ) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً ، لإنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية ، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الاغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها ، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة ؟
رحلة القوة
نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح ، فهذا له بحثه الخاص ، والمقالة حصرت نفسها في تطورأداة
القوة وطريقة استخدامها ، ومانريد تسليط الضوء عليه هو ( رحلة القوة ) كيف بدأت ؟ كيف نمت ؟ كيف تطورت ؟ وأين وصلت اليوم ؟ أي إننا نطبق منهج ( الجنيالوجيا ) ( GENIALOGY ) على علم الحرب (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))( 2 ) ، فهي محاولة لفهم كيفية بدء ( خلق ) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح ؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة !! . يمكن بللورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الأحدى عشر القادمة :
1 - المرحلة الأولى : يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي ، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما ، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً ( أسلوب لأقتلنك ) ، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة ، مقابلاً أسلوب ( القتل ) بأسلوب جديد مدهش هو ( التخلي عن القوة من طرف واحد ) ، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية .... ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر .
2 - المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة ، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي ( التعددية ) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات ( لأقتلنك ) ، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح ، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش ( الذكورية ) ، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة ، لإن مرض الحرب دخل في تركيب احلضارة فيما يشبه الخطأ ( الكروموسومي ) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا ( مرض ) . إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت ( دورة الحرب ) تأخذ نظماً تاريخياً ، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف .
3 - المرحلة الثالثة : أصبحت ظاهرة الجيوش ( الذكورية ) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة ( الدفاع ) عن المجتمع ، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وامبراطوريات التوسع إلى مايلي :
أولاً : تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة .
ثانياً : تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص ، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري .
هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة ، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان ، أو الحرب ( العالمية ) القديمة بيم روما وقرطاجنة ، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب ، والثانية إلى ( العدمية ) فوق التراب وبذا ماتت الاثنتين عملياً !! (3)
4 - المرحلة الرابعة : كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين ( الأول ) : هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم ( هدنات ) لأخذ النفس ومتابعة الحرب ، من خلال قانون العنف والعنف المضاد ، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في القوة ، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد ( رد الفعل ) أي نصل لـلاتجاه ( الثاني ) : فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة ، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة ، فلو أردنا تصوير مايحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس ، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري ، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف ، أو هي حلقات الماء بألقاء حجراً فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية . أو انتشار موجات الصوت أو الضوء !! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة ، أو هي خدعة مؤقتة ، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس ( كذا )
5 - المرحلة الخامسة : كان أمل القوى المتصارعة دوماً ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود ، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار ، ويلغي حتى وجوده الخاص ، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير ( أداة البطش ) وهكذا أغرى قديماً مثلاً الدولةَ الآشورية براعةُ الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع ( العربة الحربية الآشورية ) ذات الأنصال الباترة حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش ، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه !! ، وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة ، ومع امتداد هذه الذراع البطَّاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم ، فكلما زاد ( كمال ) أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب ، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا ، فحكمت بدون رحمة ، ودمرت ولم تأبه ، وسوَّت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب ، وحملت شعوباً بأكملها إلى معسكرات الاعتقال ، ومايزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع ( نبوخذ نصر ) .
كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين ، إلا أن الحملات التي لاتنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور ، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لاتنتهي ، استنفدت
في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ ( توينبي ) عن مصير النزعة الحربية ( الجثة في الدرع ) ( 4 )
6 - المرحلة السادسة : تحت شعور ( السيطرة ) على مقدرات الناس تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن ، وسُخر العلم لذلك ، وهكذا حدث تناقض عجيب ، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب ، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له !! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافاً لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع ، كل ذلك تحت معلومات كاذبة ، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به ، وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب ، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئاً يذكر ( 5 ) ، بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان ، أنه لم يكن هو المستهدف به بالدرجة الأولى بل الإعلان الأمريكي لمرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية ، لإن اليابان كان في حكم المهزوم . ويقع الاتحاد السوفييتي في رأس قائمة الذين يجب إرعابهم ؟! .
7 - المرحلة السابعة : انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة ( الصدم ) و ( القذف ) والوقاية من خلال جهاز ( الدروع ) ، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية أثناء الهجوم كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة ، وكما يحدث تماماً أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس ، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة ، فالخيالة الخفيفة ، فالخيالة المدرعة ، وأخيراً العربات المدرعة . ( 6 ) وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم ، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع ، فراكب الحصان المدرع ، فراكب العربة المدرع ، والذي غلب ( كزركسيس ) في معركة ( بلاتيا ) كان نظام ( الفالانكس الأغريقي ) ( PHALANX ) عام ( 479 ) ق . م . الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ ( المطرقة الثقيلة ) ، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني والد ( الاسكندر الكبير ) الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة ، حيث تم صقل جهاز الفالانكس بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل ، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان ، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاماً لتطحن جيوش داريوس في معركة ( أربيلا ) عام 333 ق . م . استطاع الاسكندر بجيش لايتجاوز ( 47 ) ألف مقاتل أن يحطم جيوش ( داريوس ) كما تفعل المطرقة في صدم وعاء من الفخار !! فعلى الرغم من جيش داريوس الهائل والمكون من قرابة مليون من الجنود !! والفيلة والعربات ذات الأنصال ( العربات الآشورية ) فإنها لم تصمد أمام جهاز ( الفالانكس ) الأغريقي والمكون بشكل رئيسي من المشاة المدرعين ، المزودين بالحراب الثقيلة الطويلة ، في أرتال منظمة تعمل كالمطرقة في الاختراق وتتحرك في مجموعات تشبه كل مجموعة ( القنفذ ذو الأشواك ) . ثم جاء دور ( الليجيون - LEGION ) الروماني الذي تسيد الصراع لقرون لاحقة بفضل التطوير الجديد على نظام ( الفالانكس ) الاغريقي ، فأضاف السيف الاسباني القصير المعمر وأنقص طول الرمح ليطور الرمح الخاص به بطول قدمين ( PILUM ) ، إلا أن نظام الليجيونات الرومانية تم هزيمته واختراقه سواء بمبدأ ( الكماشة ) الذي طبقه هانيبال في معركة ( كاني - CANNAE ) ( 7 ) بحيث أصبح لفظ كاني دليلاً على الكماشة الفظيعة !! أو عن طريق الجرمان الذين طوروا ( الفأس مخترق الدروع - الفرانسيسكا ) أو أخيراً على يد الخيالة القوط في معركة ( أدريانوبل - ADRIANOPLE ) عام ( 378 ) م حيث تسيد راكب الحصان الذي يستخدم سلاح الصدمة ( الرمح والقوس ) للفترة التالية . ثم جاء الدور من جديد ليُلغى دور الخيالة الخفيفة وأقواسها الممتازة على الرغم من براعة أصحابها كما حصل لجيش ( العاصفة ) القديم المتمثل في جيوش جنكيزخان التي لم تقهر ، كان ذلك بواسطة ظهور الخيالة المدرعة والتي أرعبت الناس حينما ظهر الملك ( شارلمان ) يلمع بالحديد المخيف تحت اشعة الشمس حينما حقق انتصاره في معركة ( بافيا ) عام 814 م ؟! ثم جاءت هزيمة الدروع من داخلها فقد أثقلت الفارس إلى الدرجة التي لم يعد الحصان قادراً على حمل كل هذا الحديد ، وكان منظر سقوط الفارس المدرع من ظهر الفرس على الأرض يثير الشفقة لإنه لايعود بعدها يستطيع حراكاً كما يحصل مع الحيوان البحري إذا اخرج من الماء !! وعندما بدأ ترقيق الدروع فاجأتها أسهم القوس المتصالب والقوس الطويل في كلٍ من معركة ( هاستنجز ) عام 1066م تلك التي انتصر فيها الدوق ويليام واحتل فيها بريطانيا ، أو في معركة كريسي عام 1346 ميلادي حيث كان بإمكان السهم اختراق الدرع والفخذ وتسمير الفارس في سرجه الخشبي !! وعندما أراد الفلاحون السويسريون التخلص من الأقطاع الألمان طوروا سلاحهم الخاص بهم والذي يُرى في المتاحف الآن ( الهالبارد ) ذو نهاية ثلاثية : رمح للطعن وفأس لضرب الخوذة ثم خطاف لنتر الفارس من ظهر الحصان . ثم جاءت القفزة النوعية في تطوير الأسلحة النارية فمع البارود بطل دور قلعة ( الإقطاعي ) ومعه النظام الإقطاعي ، إلا أن البندقية الأولى وحاملها ( الموسكيتير ) وجد صعوبة في التكيف معها بين الحشي والإشعال والإطلاق لمرة واحدة ، حتى جاء القائد المبدع فريدريك لينجز انتصاره الرائع في معركة ( لوثن ) من خلال الاستخدام الجيد للسلاح الناري ، وأمكن تطوير أمد الرصاصة وقوة انطلاقها من خلال أمرين تطويل السبطانة و ( حلزنتها ) ، ولبطء الحشي في المراحل الأولى تم إضافة ( السونكي ) كي تأخذ البارودة وظيفة الرمح والبارودة بنفس الوقت !! واستمر تطوير نظام ( لأقتلنك ) ، وعندما أمكن الوصول إلى ( الماشين غن - الرشاش ) استطاع الجنرال كيتشنر دحر المهديين ورماحهم في السودان ، كما قُتل من خيرة جنود كيتشنر في الحرب العامة الأولى ستين ألفاً في إحدى الهجمات برشاشات الألمان المتمركزين في وحول ( السوم ) ، ويعتبر نابوليون المعلم الكبير في استخدام النظام المدفعي وبه شق الطريق لأمجاده في حروب أوربا قبل أن يهزم في واترلو ، ومع تطوير الطيران والرشاشات والمدفعية ثم الدبابات وأخيراً الغازات السامة بدأت معارك الحرب العالمية الأولى تتحول إلى مسالخ بشرية فعلية ، حيث قتل في إحدى المعارك في ( السوم ) في مدى أربعة أشهر مليون و265 ألفاً من الشباب الأوربي بين ألماني وفرنسي وبريطاني . ثم ( ختامها مسك ) ؟! اختتمت الحرب العالمية الثانية بتطوير الصاروخ والسلاح النووي ، وبتركيب الثاني على ظهر الأول لم يبق مكان على وجه الأرض ينعم بالامن ، وبذا انقلب السحر على الساحر .
8 ـ المرحلة الثامنة : كانت الحروب في العصور الوسطى تعتمد الجنود المرتزقة ، فأعدادهم قليلة والمعارك تعتمد الفروسية ، وتكاليف ساحات المعارك يبقى بين حملة السيف ، ومع الثورة الفرنسية والأمريكية حصل انعطاف في تركيبة الجيوش ، فأصبحت شعبية وبالتالي بدأ المدنيون يعانون من الحروب بشكل مباشر وغير مباشر ، وبدأ مايسمى ( الحرب الشاملة ) ، وأصبح أكثر الضحايا بين المدنين وهكذا تغيرت الصورة وانقلبت الآية .
9 ـ المرحلة التاسعة : في صباح يوم 16 تموز - يوليو من عام 1945 ميلادي وفي تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً ، حصل انعطاف ( نوعي ) في امتلاك القوة ، حيث وضع الإنسان يده على الوقود الكوني هذه المرة ، حيث تم تفجير قنبلة ( البلوتونيوم 239 ) التجريبية ، وكانت قوة التفجير التجريبية في ذلك الصباح البارد حوالي 15 ألف طن من مادة ت . ن . ت . ، وطبق هذا السلاح بكل أسف في إبادة البشر مثل فئران التجارب تماماً وكانت كل قنبلة ( مع أن كل محتواها لم ينفجر تماماً كما تبين بعد ذلك ) قد مسحت مدينة عظيمة بمعظم سكانها ، مع أن قدرة التدمير كانت متواضعة ؟! وقد يتساءل القاريء وكيف كانت متواضعة ؟ والجواب أن الجيل الثاني من السلاح النووي طور قوة التفجير حتى وصل بقنبلة تجريبية إلى ( 58 ميجاطن ) أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 3800 مرة ) ؟؟!! واعتمد الجيل الثاني على مبدأ الالتحام ( لمادة الهيدرجين ولذا سميت هيدرجينية ) وليس الانشطار ( انشطار مادة اليورانيوم 235 أو 239 ) كما كان مع الجيل الأول . وكان وراء القنبلة الأخيرة الاتحاد السوفيتي فأراد البنتاغون إنتاج قنبلة بقوة 100 ( مائة ) ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 6666 ) مرة ، وعند مناقشة الموضوع شعر الجميع أن هذا الطريق الذي يمشون فيه ليس إلا ( جنون مطبق ) و ( انتحار جماعي ) و ( تلويث للبيئة ) وتهديد جدي للإنسانية ، التهديد هذه المرة بالفناء الماحق المترع بالعذاب ، حيث لاتوجد كرة أرضية ثانية نجرب عليها أو ننتقل إليها بعد خراب الأولى ؟! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) . ثم مشت الرحلة إلى جيل ثالث من القنابل النووية ، ثم مالت النفوس إلى إنتاج ( تفاح ) من الحجم الصغير أي عيار كيلو طن واحد فقط كما هي مع الألغام المزروعة في الجولان السوري ، أو تلك التي تحمل في المعارك التي ينبغي تطويقها لتطلق من مدافع بسيطة ؟؟ هذه المعلومات هي يوميات بسيطة لاستراتيجي الدفاع والأمن والتسلح العالمي اليوم ، وكما ذكرتُ فهذه المعلومات هي لرفع مستوى ( الوعي ) عند إنساننا ، كي يدرك طبيعة العالم الذي نعيشه ، وأن عهد البطولة قد ولى ، وملف الحروب قد طوي ، وأن أشعار ( أبو تمام ) لم تعد تطرب ( السيف أصدق أنباءً من الكتب ) .
10 ـ المرحلة العاشرة : عندما كتب ابن خلدون في مقدمته عن عدم اعتماد الأخبار لمجرد نقلها عن الثقات ، بل يجب عرضها وقارنتها مع ( أصول العادة ) و ( قواعد السياسة ) و ( طبيعة العمران ) الخ ... قام بستة تطبيقات على ذلك ، منها أن جيش موسى في التيه لايعقل أن يبلغ ( 600 ألف مقاتل ) واعتمد ابن خلدون مشكلة الاتصالات في الجيش في تفنيد الخبر ، فكيف يقاتل جيش لايعرف طرفه مايحدث في الطرف الآخر ؟! وهو محق بالنسبة لعصره ، ولو بعث ابن خلدون في أيامنا الحالية لما تعجب من حملة ( بارباروسا ) التي قادها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي بخمسة ملايين جندي ، والسبب هو أن مشكلة الاتصالات أمكن حلها والسيطرة عليها .
إن تحقق هذه الإمكانيات قفز بالحرب قفزة ( نوعية ) ، فمع التراكم المعرفي والتقنيات الحديثة ، لم تعد الحرب كائناً بسيطاً ، بل تحولت إلى كائن خرافي ، ولم تعد الحرب ( حرباً ) بالمعنى الحرفي للكلمة . يقول صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة الجنرال فيكتور فيرنر : (( إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل ؛ ذلك أن حجم التدمير وسرعته اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط ، وإنما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب ، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ، ووزنه 200 كلغ فإنه يبقى إنساناً بالرغم من أنه غير عادي . ولكن هل يمكن أن نعتبره كائناً بشرياً إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه عدة أطنان ؟؟ )) ( 8 )
11 ـ المرحلة الحادية عشر : ثم رأت أعيننا شيئاً لم يخطر على قلب بشر في العالم القديم ، فلو قام من قبره الآن داريوس أو الأسكندر الكبير أو نابوليون أو جنكيزخان لفركوا عيونهم من هول الجبروت الذي امتلكه الإنسان المعاصر ، ثم سوف يتحول عجبهم إلى مايشبه الجنون فلايكاد يصدقون رؤية الظواهر التالية :
الأولى : سقوط أعظم امبراطورية ، تملك أعظم سلاح امتلكته قط أي قوة مرت على وجه البسيطة حتى اليوم ، فالاتحاد السوفيتي هوى صريعاً لليدين والجنب ، وفي قدرته تدمير الكوكب الأرضي أربع مرات ؟!
الثانية : صعود قوى لاتملك أي سلاح ، بل هي مجردة من السلاح ومشروط عليها أن لاتتسلح مثل اليابان وألمانيا ، وهذا يعلمنا أن الصعود لايحتاج لقوة ، فهل يدرك الأفغانيون هذا الدرس من التاريخ ؟! أو هل تفهم الحركات الإسلامية المتلمظة للقوة منطق التاريخ ؟؟!
الثالثة : إن المشكلة التي تواجه مالكي البلوتونيوم والسلاح النووي اليوم هو كيفية التخلص منه وليس تركيبه ؟؟
إن هذه المرحلة التي عاصرناها شيء عجيب حقاً فقد رأينا ثلاث أمور كل واحدة أعجب من أختها ؛ رأينا توقف ظاهرة الحروب عند من يملك العلم والمعرفة واستمرارها عند المتخلفين ، ورأينا اتحاد الأوربيين الذين اقتنعوا بأن الحرب لاتحل المشكلات بل تخلق المشكلات سواء منتصراً أو مهزوماً ، ورأينا انتهاء الحرب الساخنة والباردة ووُدعت الأخيرة بجنازة خاشعة في باريس إلى المقبرة عام 1989 م .
فإذا استطعنا هضم الأفكار السابقة في مجمل بانوراما القوة فيمكن طرح الأفكار التالية :
1 ـ تقول الفكرة الأولى : إن الجنس البشري جرب حظه من الحروب وامتلاك القوة ، ووصل ليس فقط إلى نهاية الطريق المسدود ، بل مشى كالأعمى يتلمس الطريق في هذا الكهف المظلم ، حتى لمس الجدار الصاعق الحارق فاحترقت يداه فهو مايزال يعالج يديه المحروقتين ، وسمع دمدمة الشياطين في جهنم ( الفناء النووي ) خلف الجدار !! وهذا أكثر من درس للمغفلين والحمقى الذين يريدون دخول مخاضات عبرها غيرهم ، ووصلوا إلى هذه النتيجة من عبثية الحرب وعدم جدوى امتلاك الأسلحة بما فيها خرافة السلاح النووي ، ولعل عدم امتلاك العرب لهذا الصنم سوف يوضع في تاريخهم كرواد إنسانيين .
2 - وتقول الفكرة الثانية : إن الذين وصلوا إلى نهاية الرحلة واحسوا بعدمية هذا الاتجاه أخذوا يرجعون عنه ، ونحن مثلنا كما يقول المثل السوري ( يطعمك حجة والناس راجعة !! ) فإذا فات موسم الحج أبينا إلا أن نقيم كل يوم موسم حج للعنف والقوة ؟! وهذا يوحي بأن هناك فريق من الناس خارج التاريخ والجغرافيا ، وتشوش عليهم الفرقعات التي تحدث هنا وهناك ، بل يمضي بعضهم إلى اعتبار أن الحروب ستبقى إلى قيام الساعة ، والعالم المعاصر يحتفل بتدشين إغلاق هذه الدكاكين العتيقة .
3 ـ الفكرة الثالثة تقول : إن نفس القوى العظمى التي أدركت هذه الحقيقة تحاول أن تعمي على عيون وعقول الآخرين كي ( تزغلل ) الرؤية عندهم ، وهكذا مازالت أسواق الأسلحة قائمة ( بما فيها البلوتونيوم المهرب ) وهم يدركون تماماً أنهم يبيعوننا عتاداً ميتاً ولى وقته وانقضى ، ويفعلون هذه من أجل المحافظة على امتيازاتهم في العالم ، فالعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين منها 10% تأكل خيرات 90% وشريحة مقلوبة بنفس النسبة أي تشكل 90% ولكنها تمنح 10% من خيرات العالم ؟؟!! وبالطبع فهذا وضع مرضي يجب التخلص منه ، وهي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى ، فسوف نبقى ندفع فواتير ( نعال الجمال ) حتى نرشد ( 9 )
4 ـ والفكرة الرابعة تقول : إن الذين يريدون إشعال الحروب يخطئون مرتين وليس مرة واحدة ، الأول أنهم انقادوا ودخلوا الحقل الذي لايسيطرون عليه ، بل يسيطر عليه الآخر ويعرف أسراره ، فنهاية الحرب لن تكون بأيديهم ، بل بيد من يملك تمويلها ، فينصر من يرى أن من مصلحته نصره والعكس بالعكس ، وهذا تناقض عجيب يعيشه العالم هذه الأيام حيث لايقاتل من يستطيع ، ويقاتل من لايستطيع ولايملك مقدرات نهاية الحرب !! وهكذا فإن من يدخل الحرب يدخل مكان اللعبة التي لايعرف أسرارها بل يتحول هو إلى أحد رموز اللعبة ، وللخلاص من هذا وجب إما الخروج الكامل من اللعبة أو عدم دخولها ابتداءً .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .
بقلم الدكتور خالص جلبي
هوامش ومراجع :
( 1 ) معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) - هـ . ج . ولز - المجلد الثاني - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ص 367 . ( 2 ) سورة العنكبوت - الآية 20 ( 3 ) راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر في كتابه أفول الغرب عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما - الجزء الأول ( 4 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ - جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية ( 5 ) كشفت مجلة صورة العلم الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر ، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت ، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء ، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار _ لحسن الحظ _ في موضوع السلاح النووي ، ولكن بنفس الوقت فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ ف 1 وف 2 الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب الثانية ( 6 ) راجع في هذا كتاب الأسلحة والتكتيكات - ونترنغهام وبلاشفورد- سنل - ترجمة المقدم حسن بسام - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 7 ) معركة كاني عام 216 قبل الميلاد سحق فيها القائد القرطاجي جيشاً رومانياً ضخماً وبلغ قتلى الرومان فيه حوالي خمسين ألفاً من أصل ثمانين ألف مقاتل ، واعتمد مبدأ الكماشة على تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين حيث ينسحب القلب إلى الداخل وينفرج الجناحان ، فيجر معه الجيش الروماني إلى الداخل في الحين الذي تطبق فيه الأجنحة من الجانبين والخلف وبالتالي يتحول الجيش المقاتل إلى كتلة مختنقة تقاتل فيها الحافة فقط ، ويتحول جيش هانيبال إلى مفرمة لحم !! ( 8 ) الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير - الجنرال فيكتور فيرنر - ترجمة هيثم كيلاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 21 ( 9 ) يروى أن وصياً كان يعرض على القاصر كل سنة أمواله وفي نهاية الحساب يقول : وقد دفعنا يابني ثمن كذا وكذا لنعال الجمال ، ففي إحدى السنوات قال الغلام : ولكن ياعماه ماأراه أن الجمال لاتنتعل الأحذية ، قال الوصي أردت امتحانك فقد رشدت فهذه أموالك أعيدها إليك . والفرق بيننا وبين القصة أننا لن نسترد مادفع ثمناً للأحذية .
اقرأ المزيد
لم تولد فكرة السلاح النووي الاسرائيلي في ( المدراشا )( 1 ) بل ولدت في ( الفانين زي )( WANNENSEE ) ( 2 ) . لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل ، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م ، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م ؛ حينما خطط ( هايدريش ) الرهيب مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليون من اليهود في أوربا ، ولم يولد الجنين النووي الاسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا ، ومن الغريب _ وهذه آلية معروفة في علم النفس _ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته ، فهذه مأساة إسرائيل ( اسبرطة ) الجديدة ، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني ( تيطس ) ( 3 ) ومحارق النازية في ( آوسشفيتز _ AUSSCHWITZ _ ) و ( تيريبلنكا ) . فالنازيون خططوا لـ ( الحل النهائي ) الجرماني ، ومؤسسوا الصهيونية خططوا لـ ( الحل النهائي ) الاسرائيلي خيار شمشون . ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم فلنسمع قصته المثيرة .
قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلاً _ وهو محق في هذا _ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن ( يفهمون ) في العالم العربي : يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوباً من القهوة !! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب ، هل تنظر متفرجاً بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء ؟ وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق ( المجنون ) من أجل الردع والتوازن ، أي أنه ينصح بالمضي في نفس الطريق الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد ( العتيق ) . وعقب الزميل الثاني : الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل ، أما الزميل الثالث فأضاف أنا مع أفكار السلام ( النظرية ) ولكن الواقع أثقل في الميزان ، والذي أوصل أوربا إلى السلام هو الردع المتبادل ، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل .
*************************************
هذه الأفكار التي أنقلها إلى القاريء تمثل ( عينة ) من فهم العالم الذي نعيش فيه ، كما تمثل تشرب البيئة لـ ( ثقافة العنف ) التي يستحم فيها العالم جميعاً ، هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلاً لأشخاص بأعينهم ، بل إفراز ثقافة ، وتعبير وسط اجتماعي ، وفهم لطبيعة علاقات البشر ، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه . لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين _ فضلاً عن السياسيين _ لزيادة معلوماتهم ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة ، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث ، هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقاريء العادي كي تمنحه ( وعي ) العالم الجديد الذي نعيش فيه ، مسارات القوة ، تطور التكنولوجيا النووية _ بما فيها الاسرائيلية _ دورة التاريخ وعبرة الماضي ، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم .
*****************************************
لايمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه ، معلقاً في الفضاء ، مفصولاً عما حوله ، مالم يدخل ضمن ( القانون الجدلي ) الخاص به ، ضمن شبكة علاقاته ، فكل ( حدث ) هو ( نتيجة ) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو بنفس الوقت ( سبب ) لما سيأتي بعده ، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات ، ولايشذ عن هذا القانون بل ويصدق عليه أكثر حدث ( شمشون الجبار ) الذي بين أيدينا ؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال ( ايرنست بيرغمان ) و ( بن غوريون ) و ( عاموس ديزحاليط ) ولدوا وعاشوا في ( الهولوكوست ) ( 4 ) ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى ، وحذرهم غير متناه ، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود ، بما فيها الغرب ممثلاً بفرنسا التي بنت لهم مفاعل ( ديمونا ) ونظام الصواريخ ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الاسرائيلي ( 5 ) ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء . وأكثر من هذا فحتى مشروع ( مانهاتن ) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من ( شبح ) أن هتلر يُصَنِّع السلاح النووي ، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئاً يذكر ، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك ( 6 ) وكان في مشروع ( لوس آلاموس ) _ المخبر الذري الذي ضم الفيزيائيين النوويين في ذلك الوقت _ طائفة من العلماء اليهود الذين اندفعوا أيضاً للعمل تحت ضغط هذا الشعور ، يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو ( روبرت اوبنهايمر ) ، ولاننسى أن نذكر أن نفس آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت ، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي ( سيلارد ) الهنغاري الهارب ، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام ، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله : الرياضيات خالدة والسياسة زائلة !! .
**********************************
لابد قبل الدخول في البحث من شرح كلمة ( خيار شمشون ) ( SAMPSON OPTION ) ومن أين جاءت ؟ فهذا المصطلح تم طرحه في لقاء ( المدراشا ) الذي أشرنا إليه في قبو الموساد ( الاستخبارات الإسرائيلية ) حيث تم استعماله في ذلك اللقاء التاريخي الحاسم ، وأصل هذه الكلمة من العهد القديم ( التوراة ) وخلاصتها أن شمشون كان جباراً عاتياً ، وكان يكفيه أن يقتل ألف شخص بلحي ( فك ) حمار ، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة ، فأرسلوا له فتاة جميلة هي ( دليلة ) كي يُغرم بها ويَدُلَّها على قوته ، ويفضي إليها بسره ( قوتي في خصائل شعري السبعة فإذا حُلقتْ ذهبت قوتي ) فلما نام على ركبة دليلة خرج الكمين فقص شعر شمشون ليتحول إلى قط وديع ، وإمعاناً في إذلاله أعموه بأن سملوا عينيه ، ثم سَخَّروه في الطحن بدلاً عن حمار الرحى ، ثم عرضوه لكل الإهانات الممكنة أمام الناس ، وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لايعلمون (( وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح ، نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون ، فدعا شمشون الرب وقال ياسيدي الرب اذكرني وشددني ياالله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ، وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره وقال شمشون : لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته )) ( 7 ) فمغزى هذه القصة إذن هي المثل الشعبي المعروف ( علي وعلى أعدائي ) أي أن مصممي السلاح النووي الإسرائيلي أدركوا من نقطة البداية ، أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط ، هي لحظة التهديد بالفناء ، فإذا واجهوا خطر الفناء فإنهم لن يعيدوا قصة ( الماسادا ) قصة الانتحار الجماعي مرة أخرى ، هذه الفكرة كانت ومازالت محور التفكير الاسرائيلي ( لن تتكرر مآسينا مرة أخرى ) و ( لن تتكرر محارق آوسشفيتز ) ، هذه هو ( الدينمو) الفكري ، والنظارة اللونية التي ترى إسرائيل بها العالم .
********************************
لنسمع القصة من بدايتها إذن ............
إن الذي دشن القصة لم يكن ( ارنست ديفيد برغمان ) ولا ( أهارون كاتزير ) ولا ( شالحفين فراير ) الأدمغة العلمية اليهودية ، الذس دشن المشروع فعلاً هم ( هملر ) و ( هايدريش ) و ( أوزفالد بول ) !!! ( 8 ) ففي صبيحة يوم بارد هو العشرين من يناير كانون ثاني عام 1942م في ألمانيا النازية وعلى ضفاف بحيرة برلين ، تم لقاء على غاية الأهمية بين أقطاب الحكم النازي ، هذا اللقاء السري الذي أعد بعناية فائقة وبسرية مطلقة إلى درجة إنه لم يخلف وراءه أية مخطوطات أو وثائق ورقية ، كان قائد اللقاء ( هايدريش ) مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو والحرس الخاص ( اس اس )( SS ) في هذا اللقاء تم طرح ( فكرةً ) ترتعد لها المفاصل ، وهي تنظيف أوربا من كل يهودي ( 9 ) وهذا يحمل ضمناً القضاء على حوالي ( 11 ) مليون يهودي موزعين على الشكل التالي : ( 131800 ) يهودي مازالوا يقيمون في أراضي الرايخ الأصلية ، وخمسة ملايين في الاتحاد السوفيتي ، وثلاثة ملايين في أوكرانيا ومليونان وربع في بولندة وثلاثة أرباع المليون في فرنسا وثلث مليون في بريطانيا ( 10 ) . كتب ويليم شيرر عن هذا اللقاء : (( وقد دعا هايدريش إلى اجتماع ضم ممثلي كافة الوزارات المختلفة والوكالات المتفرعة عن الحزب النازي والفرقة لخاصة ، وعقده في وانسي ضاحية برلين الجميلة في العشرين من كانون ثاني عام 1942م ، وقد لعبت الوقائع المدونة لهذا الاجتماع دوراً مهماً في بعض المحاكمات الأخيرة التي أقيمت في نورمبرغ ، وعلى الرغم من النكسات الراهنة التي منيت بها القوات المسلحة الألمانية في روسيا فقد اعتقد الموظفون النازيون أن بلادهم قد كسبت الحرب وأن ألمانيا ستتحكم عما قريب في جميع انحاء أوربا بما فيها انكلترا وإيرلندا ، ولهذا فقد أبلغ هايدريش هذا المؤتمر الذي ضم نحواً من خمسة عشر موظفاً من كبار الموظفين أن نحو من أحد عشر مليوناً من اليهود سوف يشملهم الحل النهائي للمشكلة اليهودية في أوربا )) ( 11 )
هذه الأجواء هي التي فرخت السلاح النووي الإسرائيلي قبل أن يولد في صحراء النقب ، فأفران الغاز في آوسشفيتز هي التي قادت إلى أفران المفاعل النووي في ديمونا . ولكن جرت العادة أن العقل يتعطل عن التفكير في الرعب الشديد والحزن الشديد وهذا ماحصل للعقل اليهودي المعاصر المحاصر بذكريات الإعدام الجماعي وغرف الموت بالغاز !!
******************************
لم يمر اجتماع ( المدراشا ) بدون معارضة سواء أخلاقية أم تقنية ، خاصة من أولئك الذين عاشوا ( الهولوكوست ) فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك ؟! وقد صدرت عدة أفكار معوقة لفكرة الانطلاق النووي ، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول ( بلغت 15000 دكتوراة ) وأفضل الأيدي الماهرة ، وزبدة الصناعات ، وجبلاً من الدولارات ، ثم في سبيل سلاح لن يستخدم ؟؟ هل هناك حماقة أكبر من هذا ؟! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ورقة تقدم بها دماغ مهم هو ( بنيامين بلومبرغ ) تفيد أن العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاماً ، كما ورد عائق تقني آخر برز في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي فضلاً عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية . لذا انتهى الاجتماع على ثلاث خيارات بين متابعة البحث العلمي ، وإيجاد قطع تجميع السلاح ، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم ؟؟ وهذا الذي كان .
*************************
بدأ حفارو القبور النوويين بالعمل الصامت في إزاحة مئات الأطنان من التربة في صحراء النقب لايراهم إلا الغربان في السماء ، وحشرات النهار وأفاعي الليل البهيم ، يبنون طبقاً تحت طبق حتى بلغت ثمانية . كانت التقنية الفرنسية تصب عصارة فكرها وأحدث تقنياتها ، وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة ( يو - 2 ) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس ، ولكن الإدارة الأمريكية كانت بين من يغض الطرف ومشجع ومتذمر إلا أنه لم يكن هناك أمر لإيقاف هذه العمل أو التأكد منه بجدية .
وفي عام 1986 روى رجل اسمه ( فانونو ) كان يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل ( ديمونا ) وزعم أن عنده صوراً التقطها بنفسه ( 57 صورة ملونة ) لكل أجزاء المفاعل ، عندها ادرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطاً بعيدة في إنتاج السلاح النووي ، وكلف هذا فانونو أن تصطاده الموساد في لندن ويحكم بالسجن لمدة 18 عاماً . وفي عام 1991 نشرت مجلة الشبيجل الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ ( الرحم النووي ) في ديمونا . بعد الهجوم الثلاثي على مصر وانسحاب إسرائيل من سينا ، قايضت فرنسا قبول إسرائيل بقبول الانسحاب مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل ( ماركول ) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي الرون . وبدأ المشروع يغلفه السرية والصمت المطبقين . وفي أوائل عام 1968 بدأ إنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كغ اسبوعياً ، وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج مالايقل عن خمس قنابل نووية سنوياً وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى . ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت اسرائيل في مطلع عام 1970 مالايقل عن عشرين رأس نووي ، وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي ، ثم مشى التطوير في نفس بانوراما القوة الدولية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة سواء في اتجاه التكبير أو التصغير .
وكما كان المفاعل يبنى تحت الأرض ، كان هناك وفي نفق آخر في منطقة ( هربات زكريا ) وبمساعدة تقنية فرنسية ( شركة داسو ) يتم تطوير نظام الصواريخ (( ذهل يغال ألون لما رآها وصرخ : كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وهاهي اسرائيل تبني صواريخ نووية ، إننا شعب عظيم ، لقد انبعثنا أحياء بعد أن كنا أمواتاً ، في جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين . إننا سبارطة عصرنا )) ( 12 ) هل ماقاله يغال ألون صحيحاً ؟؟ في الواقع لقد تحول داوود إلى جوليات المدرع بعد مرور ثلاثة آلاف سنة !!
*************************
وفي الوقت الذي كانت الرؤوس النووية تنضج في إسرائيل لتحمل من النقب إلى حيفا حيث تركب تهيأة ليوم الفصل ؛ يوم شمشون الجبار ، كان العالم يمضي في طريق القوة بكل عنف ، وإذا أردنا أن نأخذ بانوراما للاستراتيجية النووية الجديدة ، فإنها تبدأ مع قنبلة هيروشيما ، حيث تم إلقاء قنبلة انشطارية من قوة ( 15 ) كيلو طن ، أي ( 15 ) ألف طن من مادة ت . ن . ت شديدة الانفجار ويمكن تقسيم رحلة الصعود النووي إلى المراحل التالية :
1 - كانت البداية مع السلاح الانشطاري بشكليه ( اليورانيوم ) و ( البلوتونيوم ) ، ويتم استخلاص اليورانيوم ( 235 ) من خام اليورانيوم ( 238 ) إلا أن البلوتونيوم ( 239 ) هو تركيبي وتم الوصول إليه من خلال المفاعل النووي الذي نجح في إنشائه للمرة الأولى الإيطالي ( انريكو فيرمي ) والقنبلة التي أُلقيت على هيروشيما كانت قنبلة يورانيوم ( 235 ) ( سميت الولد الصغير وحجمها بقدر اسطوانة الغاز الكبيرة ) وبدون تجريب ، في حين أن قنبلة ناغازاكي كانت قنبلة البلوتونيوم ( 239 ) وأخذت اسم ( الرجل السمين ) بسبب انتفاخها ، وبلغ وزنها 2 طن واختلفت تقنيتها تماماً عن قنبلة الولد الصغير ، وهي التي جربت في صحراء نيو مكسيكو ، في منطقة ( ألاموجوردو ) وأعطيت لقب ( ترينتي ) أي الثالوث المقدس !! وكانت القدرة التدميرية لاتزيد عن عشرين ألف طن من مادة الـ ت . ن . ت . لكلا القنبلتين ، ومع تركيب المفاعل النووي أصبح هذا ( التنور ) يخرج من ( الأرغفة النووية ) مايشاء !! فلاغرابة أن أصبح مخزون الدولتين العظميين مايزيد عن خمسين ألف رأس نووي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي عدة مرات !!
2 _ مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفيتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949 وأعطاها لقب ( جو 1 ) نسبة إلى جوزيف ستالين ، فجُن جنون البنتاغون واستدعوا ( ادوارد تيللر ) للمضي في مشروع جهنمي كبير لاتعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء ، في الحين الذي تم استدعاء الرأس العلمي ( روبرت اوبنهايمر ) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيت وتهمة الجاسوسية .
وفي آذار من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن ( أقوى من قنبله هيروشيما بألف مرة !! ) فقنبلة هيروشيما متواضعة جداً فهي من عيار ( 18 ) كيلو طن أي ألف طن ، أما هذه فهي من عيار ( مليون طن ) من المادة المتفجرة ، كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود ، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق ( درجة ثالثة ) حتى بعد 45 كم من مركز الانفجار ؟! وتُوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفييتية من عيار 58 ميجاطن أي أقوى من قنبلة هيروشيما ب( 3800 ) مرة !! وفكر البنتاغون بمشروع أشد هولاً ( تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن ) ، ولكن الطرفان شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق !!
3 - في المرحلة الثالثة تم الوصول لما اعتبروه قنبلة نظيفة وماهي بنظيفة ( القنبلة الشعاعية النيوترونية ) حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية ( البشر ) دون المعدات والأبنية والمنازل لإنها أثمن من الإنسان !!
4 - في المرحلة الرابعة بدأوا في اتجاه تصغير القنبلة فبدلاً من الكيلو طن ؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم انتاج قنابل من عيار 30 - 100 طن من المادة المتفجرة ، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما ، أي بروز السلاح النووي التكتيكي ، ويمكن لهذه ( التفاحات ) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها ، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي ، بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة ، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة ( التقليدية ) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام ( بدايات ) السلاح النووي ( التكتيكي ) ليصل في النهاية إلى السلاح النووي ( الاستراتيجي ) تحت مبدأ ( التصاعد الآلي ) الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال ( بيير غالوا ) ( 13 )
5 - كانت الحاجة ماسة إلى ( نظام نقل ) للرأس النووي ، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم ، والتي كان قدوضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيداً عن قاذفات الحلفاء ، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي ، ومع إرسال ( اسبوتنيك ) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي أصبح بالأمكان حمل رأس نووي بدلاً من قمر صناعي !! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات ، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق !! فالغواصات النووية السوفيتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والاطلنطي كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 - 6 دقائق .
6 - كان التكتيك الأول هو ( الهجوم ) فتحول إلى ( الدفاع ) ثم بطل كلاهما وشرح ذلك كما يلي : ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم ، ولكنن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب ، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم ، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما ً عليه ، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاسترتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها ، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب ، فبرزت عقيدة ( الانتظار النووي ) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي ، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي !! ولكن بأربعة شروط : 1 - الصواريخ المضادة المحمية 2 - التمكن من اختراقات العدو المهاجم 3 - الكمية الكافية 4 - العمل الآلي . ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة الأول : ( السيلو ) أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى ، وليس هذا فقط بل خرسانة مسلحة لسبعين متر ويزيد تحيط بالصاروخ النووي ، بحيث لاتؤثر فيه حتى الزلازل ، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة ( البئر ) النووي المختبيء في الأرض وبقنبلة هيدرجينية ، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم ، ومن هنا ندرك عمق كلام ( شينتارو ايشيهارا ) الياباني الذي كشف النقاب في كتابه ( اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا ) حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان . الثاني : المنصات المتحركة والثالث المحمول في الغواصات النووية .
ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتباً وأفنوا اعمارهم يمكن عرض حزمة الأفكار التالية :
1 - الفكرة الأولى تقول : إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية ، ورحلة القوة النووية . وأن العصر ( الحراري النووي ) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ، ولا عصر المدفع والبارجة ، والذي تفطن لهذا هم العلماء ولا السياسيون ، لإن كثيراً من السياسيين لايرون أبعد من أرنبة انفهم ، وهو ماانتبه إليه غورباتشوف في كتابه ( البيروستريكا ) فطرح فكرة ( الانتحار النووي ) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أُهاجِم أو أُهاجَم يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة ، وإن في قصة ( شيرنوبيل ) لعظة . وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي ، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون ( المعرفة ) سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه ، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب ، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين ، عجزاً عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها .
2 - الفكرة الثانية تقول : أصبح السلاح النووي مثل ( الصنم ) الذي لايضر أو ينفع ، فالناس يعظمونه ويهابونه ، وهو سلاح ليس للاستخدام ، ثبت هذا في أحلك الظروف وأكثرها احتياجاً ، مثل حرب ( كوريا ) و ( فيتنام ) ، وماحدث مع بني إسرائيل في هذا الصنم هو ماحدث مع السامري الذي أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى !!
3 - الفكرة الثالثة تقول : أن المضي في رحلة التسلح ستنتهي بالإفلاس والارتهان للآخرين كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي يفكك سلاحه الذري ، ويبيع البلوتونيوم ، ويصدر علماء الذرة ، وأن الذي طلَّق القوة هو الذي يبني المستقبل ويكتسح الأسواق كما في نموذج اليابان .
4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال ( معركة حضارية ) ، فالانتاج النووي يحتاج لقاعدة تكنولوجية علمية متقدمة ، وهزيمة الجيوش العربية المتكرر أمام اسرائيل هي هزيمة الشرق أمام الغرب المتفوق تكنولوجياً ، لإن إنجاز اسرائيل وعقول اسرائيل هي غربية كانت ومازالت ، وليست اسرائيل أكثر من امتداد ( جيب ) غربي للمنطقة .
5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن مشكلة العالم العربي هي ليست اسرائيل بالدرجة الأولى فهي ليست أكثر من ( ميزان حرارة ) لكشف حرارة الجسم العربي المعتل ، ومايخيف أكثر من الخراج الإسرائيلي وسلاح شمشون هو النزاع العربي العربي ، وفي اللحظة التي يشعر فيها الغرب أن العالم العربي نهض كما نهض الصين فسوف يتخلى عن فورموزا الشرق الوسط .
6 - وتقول الفكرة السادسة : إذا كانت هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة فلماذا تنتج ؟ هل يجهلون أنها لاتضر ولاتنفع ؟ أغلب الظن أنهم يعرفون كل أبعاد اللعبة ، ولكن الذي لايعرف ينقلب إلى الأشياء المسخرة ، والذي يعرف قانون تسخير الأشياء هو الذي يتسخر له الكون أشياؤه وأناسيه يقول المفكر ( فؤاد زكريا ) في كتابه ( خطاب إلى العقل العربي ) : (( ويظل بعد ذلك سؤال محير هل هم يجهلون هذا ؟ أغلب الظن أنهم لايجهلون ، وإنهم على وعي بأن الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة ( عقلياً ) ، مادامت تؤدي إلى عكس المقصود منها ، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر ، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب الحرب ، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة ، أما إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب فسوف يكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه ، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج ( لعب ) مميتة لن يستخدمها أحد . وأغلب الظن أن هذا بعينه هو المقصود : فأسلحة الدمار الشامل تنتج من أجل الإنتاج ، لامن أجل الاستخدام ، لإن الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد ، أما الاستخدام فسيكون الجميع خاسرين ، ومن هنا كان واجبنا نحن شعوب العالم الثالث أن نحدد موقفنا من هذه المسألة مادمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة ، لإننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسية من حقائق الكون) (14)
الهوامش والمراجع :
( 1 ) ( المدراشا ) مجمع الموساد ( الاستخبارات الاسرائيلية ) جنوب تل أبيب ( 2 ) ( الفانن زي _ WANNENSEE _ ) بحيرة برلين وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية لاستئصال اليهود من العالم ( 3 ) ( تيطس ) القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م ( 4 ) الهولوكوست أصبح تعبيراً معروفاً عن محرقة اليهود في التاريخ وبخاصة معسكرات الإبادة النازية ( 5 ) في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الاسرائيليين قال لهم : إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة وأنها ثانياً لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل وثالثاً يعرف الاتحاد السوفييتي ذلك . راجع سيمور هيرش \ خيار شمشون مكتبة بيسان ص 140 ( 6 ) يراجع في هذا كتاب ( سجناء العالم الذري ) الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم ( اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم ( ايرفين ) والحقيقي في مشروع ( مانهاتن ) هو ( روبرت ) من أن الألمان انتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان !! ولم يثبت هذا تاريخياً ( 7 ) سفر القضاة - العهد القديم ص 408 - 409 وقصة الماسادا انتحر فيها 900 من اليهود المحاصرين دفعة واحدة أثناء هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيطس عام 73 بعد الميلاد ( 8 ) ( هملر ) رئيس الجستابو الاستخبارات النازية و ( هايدريش ) مساعده الأيمن و ( أوزفالد بول ) الحاكم النازي البولندي وأحد الرؤوس الإجرامية في الحرب العالمية الثانية ، كانت نتيجة الثلاثة بالانتحار للأول والاغتيال للثاني والشنق للثالث راجع تاريخ ألمانيا الهتلرية - وليم شيرر - الجزء الرابع ص 52 ، وأما العلماء الثلاثة اليهود المذكورين فهم الرؤوس العلمية التي تسلمت رئاسة المشروع النووي بالتالي ( 9 ) استخدمت الكلمة الألمانية بالضبط ( تنظيف ) = SAUEBERUNG ) وهناك من فلول النازيين اليوم من نسمع خبر إحراقهم للأجانب كما هي في حادثة إحراق العائلة التركية أخيراً في ألمانيا !! ( 10 ) تاريخ ألمانيا الهتلرية جزء 4 ص 63 ( 11 ) شركة ( سان غوبان ) الفرنسية هي التي بنت المفاعل النووي الاسرائيلي بقوة 24 ميجا واط ، وكان يعمل بقوة أربع إلى خمس أضعاف طاقته أي حتى 120 ميجاواط أما شركة ( داسو ) فقد بنت لهم نظام الصواريخ _ راجع كتاب سيمور هيرش \ خيار شمشون ( 12 ) سيمور هيرش ص 138 ( 13 ) كتاب استراتيجية العصر النووي - الجنرال بيير غالوا \ ترجمة اللواء الركن محمد سميح السيد \ دار طلاس \ ص 10 .( 14 ) عن كتاب ( خطاب إلى العقل العربي ) - فؤاد زكريا - كتاب العربي - ص 164 .
اقرأ المزيد
كتب ( آينشتاين EINSTEIN ) أبو ( النسبية ) عن الأناس الفعَّالين يقول : (( إن معرفة الحقيقة مرةً واحدة لاتكفي ، والأهم منها هو المحافظة عليها بعناد كي لاتتعرض للضياع وتطويرها باستمرار فتبقى حيةً ناميةً بالتجديد الدائم . إن الحقيقة تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء ، مُهَدَدَّاً في كل لحظة بالدفن في لجة التراب ، بفعل عواصف الرمل المتربصة بها . الأيدي النشيطة التي لاتعرف الكلل ، والتي تمسح التراب عن التمثال بشكل متواصل ، هي التي تبقيه متألقاً تحت ضوء الشمس ))(1). وإذا كان آينشتاين (2) قد تكلم في معرفة ( الحقيقة ) فإن فيلسوف التنوير من القرن الثامن عشر ( ليسنغ LESSING) تكلم عن ( البحث عن الحقيقة ) فقال : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ؟ إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) ( 3 ) ، ففي هذا الجو النهم للمعرفة ولدت النظرية النسبية فما هي هذه النظرية التي قلبت المفاهيم وماهي ذيولها الفلسفية ؟ لنستمع إلى القصة المثيرة .
سألني الدكتور ( ط ) وهو يحدقني بنظراته التي تشع ذكاءاً كالعادة : لك عندي مجموعة من الاستفسارات !! ومضى الليل إلى منتصفه ونحن يخوض في فضاءات معرفية مختلفة ، ونبحث بنهم مع آخرين في اختراقات المعرفة الجديدة ، ولكنه وقف أمام سؤال ليقول : أريد تعليقاً شافياً لقضية ( الجن والمس ) فماذا في جعبتك عنها ؟؟!
كان جوابي على هذه المسألة متعدد المحاور ولكنني بدأتها بالفكرة التالية : أريد أن أخبركم أولاً أن ماأنجزه العقل البشري حتى الآن عجزت عنه الجن والمردة ( 4 ) انظروا إلى شاشة التلفزيون هذه أمامكم ، التي لم يحلم الإنسان فيها إلا من خلال أسطورة ( سندباد والجن الأزرق ) ، حيث نرى الساحر وهو ( يعزِّم ) على الكرة الزجاجية ليرى من خلالها الأحداث البعيدة ، إن هذا الجهاز ينقل لكم أحداث العالم كلها وبسرعة الضوء ، ماذا تقولون لو جاء رجل من الماضي قبل ألف سنة ثم دخل هذه الخيمة الآن ليرى هذه الشاشة _ وفي هذه اللحظة كان الفريق الأهلي يدخل هدفاً مما جعل معظم الحضور يصيحون صوتاً واحداً جول .. جول !! _ وعندما اختنقت كلماتي تحت هتاف الحماس لـ ( الكورة ) _ التي احترم قطعاً المتحمسين لها ، بدون إدراك سر الحماس فيها إلى درجة الاقتتال _ انتبه الدكتور ( هـ ) إلى أهمية الفكرة فهتف صائحاً : كان سيصاب بما يشبه الجنون !! .
وتابعت البحث في محور ثاني ، فهناك قصة جميلة من ( القرآن ) تنقلنا إلى إدراك الفرق بين عمل ( الجن ) وأهل ( العلم ) وهي قصة تحمل طيفاً من المعاني الرائعة ، وهي قصة ( سليمان والهدهد والعرش والجن والصرح ) ( 5 ) ولكن قبل الدخول في القصة والتي أشارت إلى ( سرعات ) غير عادية نتساءل في ( عالم السرعات ) ماهي السرعات التي تنطلق بها الحيوانات أو الآلات أو حتى الأمواج ؟ هل هناك حدود قصوى للسرعة لايمكن تجاوزها ؟ وإذا كانت هناك سرعات قصوى فمن هو هذا الكائن الذي يحقق مثل هذه السرعة ؟ ثم كم هو مقدار هذه السرعة ؟ ثم هل أمكن قياس مثل هذه السرعات الخارقة مثلاً ؟ هذه الأسئلة ونظائرها تمثل أرقاً فلسفياً قديماً ، استطاع العلم الحديث أن يحل بعض ألغازه ، ويفك شيئاً من أسراره ، وكان ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ، وكان هذا الكشف مدعاة لانبثاق نظرية هزت العالم ، وقوضت بنيان العالم الفيزيائي القديم ، وطوحت بنظريات أساسية حافظت على صلابتها لقرون بل آلاف السنوات ، فأما النظرية الجديدة فهي ( النسبية _ RELATIVITY THEORY _ ) وأما التي تهاوت فكانت فكرة الزمان والمكان لـ ( نيوتن وأقليدس ) .
في عام 1907 تقدم إلى جامعة برن في سويسرا شاب يبلغ من العمر 26 عاماً ، خجول الوجه ، قليل الكلمات ، بسيط الملابس ، يبدو عليه فقر الحال ، ببحث غريب لايثير الانتباه في ( الديناميكيا الكهربية للجسم المتحرك ) . كان عنوان البحث لايبعث على التفاؤل إلى درجة أن الذي قُدم إليه رفض طلب الفتى وصرفه من وجهه !! وكان هذا البحث المرفوض هو خلاصة الثورة الفيزيائية الحالية والتي عرفت فيما بعد بـ ( النظرية النسبية الخاصة ) ، وعندما بدأ البحث تنتشر رائحته عمدت جريدة نمساوية إلى القول بظهور مشعوذ يدعي إمكانية ( انضغاط الزمن ) بـ ( حيلة رياضية ) فيمكن أن تكون الساعةُ ساعةً ، ويمكن أن لاتكون كذلك ، ويمكن أن يكون الزمن في مكان دونه في مكان آخر ؟! فالزمن لايتدفق بنفس السوية في كل الكون ، بل قد يكون الماضي حاضراً لآخرين والمستقبل ماضياً عند مجموعة ثانية ، لإن الزمن هو ترابط الحوادث ، المرتبطة بدورها بعامل السرعة ؟! ومع زيادة السرعة يتباطيء الزمن حتى التوقف عندما تبلغ السرعة سرعة الضوء ( 6 )
إن سرعة الإنسان سخيفة حتى في مستوى عدَّاء ( الماراتون ) الشهير ( فيديبيدس ) الذي ركض ( 224 كم ) بين مدينتي ( ماراتون ) واسبرطة القديمة للتحذير من الاجتياح الفارسي الوشيك لبلاد اليونان فهو لايزيد عن 15 - 20 كم \ ساعة ، في حين أن سرعة الحصان لاتزيد عن 70 كم \ ساعة ، ويبدو أن الفهد البري هو أسرع الحيوانات قاطبة إذ تعقب المكتشف الأمريكي ( روي تشابمان آندروز ) فهداً هندياً قريباً من نيبال بسيارته وبقي يزيد في السرعة فلم يستطع اللحاق به ولم يتعب الفهد الرشيق ، وربما بلغت سرعته حوالي 120 كم \ ساعة ، وتبقى الطيور هي المتفوقة بين كل كائنات الكرة الرضية فهناك مجموعة من الطيور تصل سرعتها حتى قريبا ً من سرعة الطائرات ( مايزيد عن 350 كم \ ساعة)(طير الفرقاطة) ، ويعتبر سمك (أبو سيف) أسرع الكائنات البحرية إذ يصل في سرعته حتى حوالي 100 كم في الساعة ، إلا أن القرآن يفتح عيوننا على ( سرعات ) تتفتح لها ( الشهية العلمية ) تماماً ، تقوم بها ثلاث كائنات واعية هي ( الملائكة ) التي يكشف القرآن النقاب فيها عن سرعة الضوء ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) ، كما يشير القرآن إلى اختلاف الزمان بين مكان وآخر ، فـ ( اليوم = الزمن ) هو في مكان ( خمسين ألف سنة ) ولكنه في مكان آخر ( ألف سنة ) من الزمن الذي نتعامل به ( مما تعدون) (7) ، و ( الجن ) محدودي السرعة بعدة مئات من الكيلومترات في الساعة ، وكائنات عندها (إمكانيات علمية) لها سرعة الضوء بل وإمكانية نقل المواد على الطريقة التي عرضت في فيلم ( الهرب ضد الزمن - RUNNING AGAINST THE TIME - ) ( 8 ) حيث تم تكثيف المواد سواء الفيزيائية أو البيولوجية من خلال ( داتا = وحدات معلومات ) رهيبة ونقلها عبر الزمن إلى زمن آخر . وبالطبع فإن الفيلم الأخير هو من أفلام الخيال العلمي لاأكثر ، ولكن الإنجازات الإنسانية العظيمة جاءت كلها من خيالات ، وصاحبنا ( آينشتاين ) جاءت نظرية ( النسبية ) عنده من خياله وهو طفل (أن يركب شعاع الضوء). إن القصة وترميزاتها بين ( سليمان والهدهد والعرش والصرح ) تنعش العقل بإمكانيات لم يصل لها حلم الإنسان ، بل وحتى كل التصورات العلمية الحديثة ، باعتبار أن سرعة الضوء ثابتة لاتتغير كما لايمكن تجاوزها ، شرحت متابعاً المحور الثاني في حديثي ، كان السباق بين ( عفريت ) من الجن يريد إحضار العرش في مدى ساعات ( قبل أن تقوم من مقامك ) وبين من يملك إمكانية ( علمية ) ( عنده علم من الكتاب ) والذي عرض خدماته في إحضار العرش بسرعة الضوء ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) ، وأنا في حديثي هذا أنحو مع المفكر ( فؤاد زكريا ) إلى الحذر من قصة ( إقحام الآية في كشف علمي ) ( 9 ) ولكنني أميل إلى ماطرحه المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) عن ( القرآن ليس كتاباً علمياً ولكنه يخلق المناخ العلمي لتفتح الأفكار الرائدة ، وفي صفحاته إشارات خفية لحقائق علمية مذهلة ) ( 10 ) . كانت إذاً إمكانية ( الجني ) في سرعةٍ وصل إليها الإنسان بل ( تجاوزها ) في الوقت الراهن ، فهو أحضر حمولة بسيطة ( العرش ) وخلال ساعات ، والبشر اليوم يرسلون الصواريخ التي تخترق الجاذبية الأرضية بسرعة تجاوزت 12 ألف كم \ ساعة ، ولكن الإمكانيات البشرية لم تصل حتى اليوم إلى قدرة ذلك الذي عنده ( علم من الكتاب ) . لم تصل إلى مستوى عمله مرتين : ( الأولى ) لم تصل إلى سرعته ؛ لإنها سرعة الضوء ، لإن ( النسبية ) تضع ( استحالة ) في الوقت الراهن أمام الوصول إليها ، و( الثانية ) إمكانية نقل أي شيء عبر هذه السرعة التي تمثل أعظم سرعة في الوجود حيث يتحول من يصل إليها إلى ( كتلة لانهائية ) ويستهلك من الطاقة ( طاقة لانهائية ) وينضغط في ( الطول ) وينكمش إلى الصفر ، كما يتوقف ( الزمن ) عند ذلك !! بل إذا زادت السرعة عن سرعة الضوء انقلبت الأحداث بشكل معكوس فيقوم الأموات من القبور ، وتلد البنت أمها !!
إنني أريد التنويه في بحثي قبل الغوص فيه إلى أحشاءه من أجل استعراض التركيب ( التشريحي ) له ثم ( الفيزيولوجي ) ، إلى أن هذا البحث لم يكتب لفيزيائي الكون ، أو الهندسة الذرية ، كما لم يكتب للمتبحرين في الفلك ، أو الغارقين في الرياضيات ، ففي جعبتهم مايجعل مثلهم لايستفيد من مثلي _ وإن كان البحث يهمهم ويستهويهم _ ، هذه المقالة وضعت لنفسها هدف مخاطبة القاريء العادي بغية ( التثقيف ) وأخذ بانوراما الأحداث العالمية الضخمة ، والتحولات المصيرية ، والأفكار المفصلية ( البنيوية ) ، لإننا سنرى بعد قليل الذيول الفلسفية لهذا ( العلم ) الذي جاء به ( الكتاب ) من أجل اكتشاف قوانا الداخلية الخفية المودعة ، كي نعمل في الحقل المفيد ، وليس الحقل الأسطوري الخلاب والمريح والسالب لنظرية ( الجهد الإنساني ) .
تابعت الحديث في خط محوري ثالث ، وفي ( الحقل المفيد ) في فكرة ( إن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلاً خارقاً للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر ) ( 11 ) ففلسفة القرآن كلها تقوم على ( عدم ) اعتماد المعجزة أسلوباً للأقناع ، وإذا كانت ( هموم ) أهل قريش منحصرة في أن يصبح بيته من ( زخرف ) أو تتنزل الكتب من السماء ، أو أن تتدفق الأرض بالماء إلى آخر الطموحات الصبيانية ، فإن القرآن اعتمد سياقاً واضحاً من أجل تحرير العقل الإنساني من الخرافة ، فلا يتعلم السحر فهو قريب من الكفر ( فلا تكفر ) ، ويتجنب نصائح الكهان ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما انزل على محمد ) ، وأن لايتصل بالجن لإن لهم عالمهم الخاص بهم ( وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ) ، وهو بهذا قطع أصل شجرة ( الحقل غير المفيد ) وغير العلمي ، وتحرير البشر من سلطان البشر . ورفع الإنسان إلى مستوى العلم الذي به يرتفع بغير حدود ، وبه يتحرر ، وبه يمتلك القوة الفعلية .
ومضيت في شرح المحور الرابع وصديقي الدكتور يصغي بشغف المفكرين وتواضع العلماء : وإذا كان المجدي هو اتجاه ( العقل و ( العلم ) وتوديع ( الهوى ) و ( الظن ) ؛ فإن العلم يروي لنا أعظم قصة من الثورات العلمية التي دشنها الإنسان في قصة النسبية وسرعة الضوء ، لإنه لم يكن لهذه النظرية ان تشق الطريق لولا توديع الفكر ( العتيق ) ( 12 ) ، والعميق والرائع في النظرية النسبية والانقلابي ، هو عطشه العميق لاكتشاف العلاقات الكبرى بين قوانين الوجود ، وهكذا استطاعت النسبية أن تدمج المكان بالزمان ، ليتحول مفهوم ( الزمن ) إلى البعد الرابع ، وتتحول علاقة الزمان - المكان إلى كينونة واحدة ، وليدمج بين الطاقة والمادة ، فتتحول كل منهما إلى الأخرى وفق معادلة صغيرة ، لم يعد هناك زمن مطلق كما اعتبرته الفيزياء التقليدية ، كما نُسف مفهوم المكان المطلق ، لذا لاغرابة أن اعتبرته ( أي آينشتاين ) المجلة النمساوية ؛ مشعوذاً يريد أن يثبت تغير الزمن بحيل رياضية . ولكن كيف يمكن فهم تغير الزمن ؟ هل اليوم مثلاً في كوكب آخر هو غير اليوم على الأرض ؟ الجواب نعم فإن ( سنة ) الكوكب عطارد هي 88 يوماً ، ويومه قريب من ذلك ، فلافرق بين اليوم والسنة على ظهره ، فهو يدور حول نفسه بقدر دورانه حول الشمس ( 13 ) في حين أن سنة الكوكب ( بلوتو ) 238 سنة ( مما نعد نحن ) ثم أن الزمن يتعلق بالسرعة ، فالسرعة تضغط الزمن ، فكلما ازدادت السرعة انضغط الزمن أكثر ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء ، وهي مستحيلة لأي سرعة غير سرعة الضوء حسب معطيات العلم الحالي ، توقف الزمن !! . جاء في كتاب آينشتاين والنظرية النسبية للدكتور محمدعبد الرحمن مرحبا : (( ويستتبع القول بالزمان المحلي نتائج يصعب على العقل قبولها . إذ أنه لما كان هذا الزمن يتناول جسم الإنسان كله فيمكننا أن نستنتج أن الشخص المتحرك حركة بطيئة ( يشيخ ) قبل الشخص المتحرك حركة سريعة . بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة النور يعيش خارج الزمن ، أي لايشيخ أبداً . وكيما نوضح ذلك بطريقة محسوسة ونصور التحول العظيم الذي طرأ على علم الفيزياء نقتبس المثل الآتي من ( لونجفين ) ( 14 ) فقد تخيل هذا العالم رحالة فلكياً غادر الأرض بسرعة تساوي 1\ 20000 من سرعة الضوء ، وقفز في المستقبل قفزة إلى الأمام ليرى ماتكون عليه الأرض بعد سنتين من سنيه هو ، ولما آب راجعاً إلى مستقره على الأرض وجد أن السنتين اللتين قضاهما عبر الفضاء ذهاباً وإياباً تعدان قرنين من عمر الأرض ، ووجد الأرض آهلة بسكان جدد وعادات جديدة ووجد حضارة لاعهد له بها قبل منطلقه )) ( 15 ). استطاع آينشتاين بومضة عبقرية أن يكتشف علاقات الكون الأساسية ويربطها ببعض ، فالمكان ذو ثلاث أبعاد : طول وعرض وارتفاع ، ولكن الزمن هو بعد رابع ، إلا أننا لانستطيع تصوره بسبب طبيعة تركيب عقولنا ، والمركب ( الزمان - المكان ) مرتبط بدوره مع السرعة ، وأعظم سرعة في هذا الوجود هي سرعة الضوء ، فآينشتاين اعتبر أنه لاشيء ثابت في هذا الوجود إلا سرعة الضوء ، وسرعة الضوء فقط ، وبذلك مسح في أول ضربة نظرية الأثير القديمة ، وأعطى التعليل الراسخ للتجربة التي قام بها عالمان جليلان هما ( ميكلسون ومورلي ) ( 16 ) أجرياها بكل دقة من أجل قياس سرعة الضوء في كل الاتجاهات ، وهكذا فالضوء ينتشر وبسرعة ثابتة ومهما كانت سرعة حركة المصدر ، وتبين أن سرعة الضوء رهيبة ، حيث بلغت ( 300 ) ألف كم \ ثانية ، فلاغرابة إذاً إذا اعتبر ديكارت أن سرعة الضوء غير متناهية ، أو فشل غاليلو في قياس سرعته ، لإنه كان كمن يقيس الكرة الأرضية بالشبر !! وهكذا فالضوء يلف الكرة الأرضية سبع مرات ونصف خلال ثانية واحدة ، فلاغرابة أن نتحدث مع من هم في أقصى الأرض بنفس اللحظة ، كما يصل ضوء القمر في ثانية وثلث فقط ، في حين أن ضوء الشمس يغمر الأرض بعد انطلاقه بثماني دقائق . ونظراً للأبعاد الكونية الشاسعة فقد استخدمت هذه الوحدة في القياس ، فكلمة ( سنة ضوئية ) تعني المسافة التي يقطعها الضوء في مدة سنة كاملة ( أي ستة ملايين مليون ميل أو حوالي 9 مليون مليون كم ) وعلينا أن نعلم أن قطر المجرة اللبنية التي ننتسب إليها هي في حدود 100 ألف سنة ضوئية ، وهي مجرة متواضعة فمجرة المرأة المسلسلة مثلاً يصل إلى 150 ألف سنة ضوئية !! وأقرب مجرة إلينا تبعد حوالي مليونين من السنين الضوئية ، ولأخذ فكرة عن سعة الكون الذي نعيش فيه ، فماعلينا سوى وضع التصور التالي والمنقول عن كتاب الكون لكارل ساغان ( ص 167 ) : في قبضة اليد الواحدة من رمل الشاطيء حوالي عشرة آلاف حبة ، وفي الكون من النجوم ماهو أكثر من كل رمال الشواطيء في بحار الدنيا أجمعين. انطلقت النظرية النسبية من علاقة السرعة بالأشياء الأخرى ، وبذلك سجلت النسبية الخاصة الخطوات الأولى لعلاقة السرعة بالكتلة والزمان والمكان ؟ ماذا يحدث لو زادت السرعة في علاقتها بالكتلة ؟ ترى النسبية أنه مع السرعة يحدث تبدل في ثلاث اتجاهات ( الأول ) تزداد الكتلة و ( الثاني ) هو انضغاط الزمن و ( الثالث ) هو انضغاط الطول ، فإذا زادت السرعة مثلاً لعمود يبلغ طوله مترا حتى بلغت نصف سرعة الضوء انضغط الطول إلى حوالي 86 سم ، فإذا وصل إلى حوالي 90% من سرعة الضوء لم يبقى من المتر إلا 45 سم ، فإذا وصل إلى سرعة 99 % من سرعة الضوء انكمش المتر إلى 14 سم فقط ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء أصبح الطول صفراً !! ولايشعر بهذا الشيء من هو داخل العملية ، بل يشعر بها المراقب من الخارج فقط ، كما أنها تنطبق على كل شيء في هذا الوجود ، وهذه أمور لايستطيع العقل تصورها ، ولكنها قضايا فجرتها النظرية النسبية ، وبذلك نفهم النسبية ولماذا أخذت هذا الاسم ، فكل مافي الكون في حركة وبسرعة مختلفة ، فالأرض تدور حول نفسها بسرعة ربع ميل في الثانية ، وهي تدور بنفس الوقت حول الشمس بسرعة 5.18 ميل في الثانية ، والشمس وكواكبها سائرة باتجاه نقطة في المجرة بين مجموعة هرقل ( الجاثي ) ومجموعة اللورا وبسرعة 12 ميل في الثانية ، ومجرة الدرب الحليبية التي ننتمي إليها تدور حول نفسها دورة كاملة كل ربع مليار سنة وبسرعة 120 ميل في الثانية ، ومجرتنا تبتعد عن أخواتها المجرات الأخرى بسرعة تصل إلى ( 600 - 40000 ميل في الثانية ) وكل في فلك يسبحون ، لم يبق ثبات لشيء مطلقاً ، فلا الأحجام تبقى أحجاماً ، ولا الأبعاد أو الزمان أو المكان ، فكل مافي الكون هو في حالة ( يزيد في الخلق مايشاء ) و ( كل يوم هو في شأن ) و ( يخلق مالاتعلمون ) ، فالزمان الذي يتدفق مفكك الأوصال في هذا العالم الذي نعيشه ، وتياره الذي يجري مختلف من مكان إلى آخر ، فالزمن في مكان من الكون هو غير الزمن في مكان آخر ، ويتبع هذا تغير كل شيء من الأبعاد والأحجام والأوزان والحركات ، وكل هذا يتبع السرعة التي يتمتع بها الكوكب او المكان الذي يتدفق فيه الزمن ، بل هو حتى في الكرة الأرضية اليوم ليس كالغد ، فبعد خمسة مليارات سنة سيكون يوم الأرض 36 ساعة ، كل هذا بفعل تباطؤ حركة الأرض بفعل الاحتكاك ( 17 ) ، إذاً يبقى فهم العالم ووضعه بشكل نسبي حسب مكان المراقب ، هذا التحول العقلي هو الذي ألهم صاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد أن يقولا أن هناك ثورة في المفاهيم أطاحت بالنظام القديم ، وشقت الطريق إلى فهم جديد للعالم بل رسم معالم حضارة جديدة (18). وأما أهم أمرين فتحت الطريق إليهما النظرية النسبية ، التي بدأت تتأكد مخبرياً ، فهما أولاً : ( نظرية الانفجار العظيم ) في كيفية تشكل الكون الأولي ، وثانياً : ومن خلال معادلة علاقة الطاقة بالمادة الانطلاق في المشروع النووي ، حيث أمكن انتاج طاقة لم يحلم بها حتى ( الجن ) التي أرقت مضجع صديقي الدكتور ، فلأول مرة يضع الإنسان يده على الوقود الكوني !! كان هذا من خلال بحث قام به عالمان هما ( كارل فريدريش فون فايسكر ) والثاني ( هانس بيته ) ، حيث ومن خلال معادلات آينشتاين ، تم الوصول إلى كشف السر عن نوع الوقود الذي يحترق في الشمس وأنه وقود غير تقليدي ، فلو كان مخزون الشمس من الفحم مثلا ً لاستُهلك في مدى 300 عاما ً لايزيد ، ولكنه من نوع القنابل الهيدرجينية ، التي تنفجر بدون توقف ، قاذفةً أحياناً شواظاً من لهب يتجاوز الـ 500 ألف كم خارج الجحيم الشمسي المستعر .
كيف لاتنتهي الشمس مع كل ضخامة الوقود الذي تستهلكه . السبب أن الشمس تبلغ في القطر 3.1 مليون كم ، وكتلتها أكبر من الأرض بـ 330 ألف مرة ، وتستهلك في كل ثانية 4 مليون طن من غاز الهيدرجين ، ومع أن مااستهلكته في مدى خمسة مليارات سنة شيء ضخم ، مع هذا عندها من المخزون مايعادل 98% من كتلتها الحالية ، فكتلتها تصل إلى 2 بليون بليون بليون طن ( 19 ) وهذا يثير سؤالاً مهماً مفعماً بالمسؤولية ، عن إمكانية استمرار الحياة لخمس مليارات سنة أخرى على الأقل على الأرض ، والجريمة المروعة في السلاح النووي أو تلوث البيئة حينما تُوقف الحياة عليها بحماقة يرتكبها السياسيون .
قادت النسبية إلى إدراك بانوراما جديدة لعلم الكوسمولوجيا ، كيف بدأ ؟ ماهو تركيبه ؟ وأين يتجه ؟ ومع أن آينشتاين نفسه قد أدرك منذ البداية أن المعادلات تقوده إلى عالم ( ديناميكي ) متمدد ، إلا أنه يقول هو نفسه أنه ارتكب اكبر حماقة في حياته ، حينما أراد إمساك المعادلات في قالب ( استاتيكي ) جامد فادخل ماأطلق عليه ( الثابت الكوسمولوجي ) . والذي حدث أن آخرين استخدموا معادلاته ليصلوا بها إلى تصور جديد لشكل الكون (المتوسع) ، وإذا كان الكون يتوسع فهذا يقود بشكل معكوس إلى أنه من قبل كان أصغر ، فإذا مشى التصور مقلوبا ً وصلنا إلى نقطة بدأ منها الكون ، وقد تم الكشف عن ذلك بواسطة ظاهرة ( الزحزحة الحمراء ) بواسطة العالم الفلكي (أدوين هابل) الذي عرف أن كل المجرات تبتعد عن بعضها في سرعة مخيفة ، وتم تحديد عمر الكون من خلال ذلك بين 15 وعشرين مليار سنة ، كما تم تحديد عمر النظام الشمسي الذي ننتسب إليه بحوالي ثماني مليارات من السنين . ولكن نقطة البدء الكوني هي التي تشكل التحدي العقلي الذي لم يحل حتى الان ، حيث تتوقف القوانين الكونية عن العمل ، فلايبقى زمان أو مكان أو طاقة أو مادة أو أي وجود لأي قوانين كونية ، إنها الحقبة ( المتفردة ) التي لايناسبها إلا كلمة الخلق من العدم !!. ومن علاقة الطاقة بالمادة استطاع آينشتاين أن يضع قانوناً بسيطا ً للغاية ، ولكن نتائجه كانت مروعة ، فالطاقة والمادة هما وجهان لحقيقة واحدة ، حتى الضوء هو كتلة مادية ولكنها متناهية في الدقة ، والطاقة تساوي المادة المتحولة ولكن مضروبة في مربع سرعة الضوء ، فإذا عرفنا أن سرعة الضوء 300 ألف كم في الثانية الواحدة كان معنى هذا أن الطاقة تساوي مايعادل 90 مليار من المادة المتحولة ، وهذا يحمل خبرين ( نذيرا وبشيرا ) فهي عالم الوصول إلى الطاقة الرخيصة ، وإذا توفرت الطاقة لم يبق نزاعات إنسانية ، فالبشر لايتخاصمون على ( الهواء ) ولكنهم يتقاتلون على مصادر المياه والبترول ، فإذا حلت مشكلة الطاقة الرخيصة إلى درجة المجان ، ربما حل القسم الأكبرمن المشاكل الإننسانية ، وأما النذير فهي أخبار هيروشيما وناغازاكي !! . وهنا فذلكة في عالم المادة والروح ، فالضوء يبقى محدود السرعة لإنه ( مادة ) ولكن رقيقة للغاية ، أما الروح الإنسانية فعندما غادرت عالم المادة لم تعد سرعة تقيدها ، وهذا ماسيكشف العلم القادم عن أسراره .
شيء هام من ذيول الفكرة النسبية لم يتم التاكيد عليه ، وإن تمت الإشارة إليه أحياناً ، وهو معنى روحي كبير وفلسفي ضخم ، ولايقل عن الفتوحات المادية ، وهو علاقة الزمن بمتحولات أخرى دشنتها ( النسبية الخاصة ) بعلاقة الزمن بالسرعة ، ودشنتها ( النسبية العامة ) بعلاقتها بالكتلة فاعتبرت الأولى أن الزمن يتباطؤ كلما ازدادت السرعة ، إلى درجة أن الزمن قد يتوقف إذا وصلت السرعة إلى حد سرعة الضوء ، ومعنى توقف الزمن بكلمة أخرى دخول ( الخلود ) أو على حد تعبير العالم الفرنسي لونجفين توقف الشيخوخة ، فإذا عاش الإنسان على كوكب غير الأرض بسرعة كبيرة كسب من العمر المزيد فالمزيد ، ولكن دخوله سرعة الضوء يجعله يستعصي على الفناء ، لإن الزمن لن يأكله بعد اليوم بعد أن توقف أن يعمل . وعندما نسمع عن تحول بيولوجي لأهل الجنة ( التحول إلى طبيعة نورانية الذي يعني اكتساب سرعة الضوء أي توقف الزمن ) ( 21 ) فإن هذا يقرب إلى وعينا أكثر طبيعة الخلود والصمود أمام الموت والزمن .
وأما في النسبية العامة فإن حياة الإنسان على كوكب ذو كتلة كبيرة تدخله نفس العملية من التاثير على الزمن ، وهكذا فالحياة على المشتري الذي يكبر الأرض أكثر بألف مرة ، يمنح الإنسان حياة أطول ، فإذا عاش على ظهر كوكب من النوع الذي قال عنه القرآن ( عرضها السموات والأرض ) كان معناه مرة أخرى توقف الزمن أن يفعل فعله المميت المدمر ، والدخول بالتالي عالم الخلود ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين ) وبذلك أدخلتنا النسبية إلى إمكانية الخلود مرتين وقربت إلى وعينا مفاهيم روحية مستعصية على العقل كي نصل إلى ذلك المزيج الرائع من العلم والإيمان .
بقلم الدكتور خالص جلبي
19 \ 5 \ 1415 هـ الموافق 24 \ 10 \ 1994 م
هوامش ومراجع
( 1 ) ALBERT EINSTEIN - JOHANNES WICKERT - RORO PAGE 7
( 2 ) معنى كلمة آينشتاين باللغة الألمانية ( حجر واحد ) ! ( 3 ) ( ليسنغ ) راجع مقدمة كتاب الأمراض القلبية - مدني الخيمي - طباعة جامعة دمشق - ص 7 وقد نسب القول المذكور إلى ( غتلدلنغ ) ( 4 ) اكتشف ابن خلدون قانوناً هاماً في مقدمته عندما فند أقوال الذين زعموا أن الأهرامات شيدها العمالقة ، خاصة حينما يزعم إلى الرشيد أنه أراد هدم إيوان كسرى فعجز عن ذلك فكيف بالبناء ، وكفذك لما حاول المأمون هدم الأهرام ، في حين أن ابن خلدون لم ير فيها سوى إنجاز بشري وهندسي رائد _ راجع المقدمة ص 177 وص 346 ( 5 ) تراجع القصة بكاملها في سورة النمل ( 6 ) يراجع كتاب آينشتاين والنظرية النسبية - عبد الرحمن مرحبا - دار القلم بيروت - ص 80 ( 7 ) يراجع في هذا المجلد الثاني من موسوعة المعرفة ص 200 عن سرعة الحيوانات ، وأما فيما يتعلق بسرعة الملائكة والتي تبلغ سرعة الضوء فيمكن حسابها بزمن ( خمسين ألف سنة مما تعدون ) فهي حاصل ضرب 50000 في 365 في 24 ساعة في 60كم \ ساعة على أساس سرعة الحصان ( 60 - 70 كم \ ساعة - راجع موسوعة المعرفة مجلد 2 - ص 200 ) التي كانت أقصى سرعة بلغها الإنسان في وقت نزول القرآن ( مما تعدون ) وجداء الضرب هذا يبلغ = 000و000و280و26 كم ( 26 مليار و280 مليون كم ) وهي المسافة التي يقطعها الحصان في خمسين ألف سنة ، فإذا قسم هذا الرقم على الثواني التي يحويها اليوم الذي هو 24 ساعة ( مما تعدون ) بلغت 86400 ثانية ، فإذا قسم الرقم الأول على الثاني تحت قانون السرعة = المسافة تقسيم الزمن بلغت السرعة التي يشير إليها القرآن سرعة الضوء تقريباً وهي 300 ألف كم في الثانية الواحدة ( الرقم بالضبط = 304166 كم في الثانية الواحدة ) !! وهكذا فيوم العروج الروحي يستغرق نفس اليوم على ظهر الكرة الأرضية ، ولكنه يحقق بهذه السرعة مسافة تقاس بالسرعة الضوئية ، وهي مطابقة ملفتة للنظر ، ولكن الأهم منها أن العالم الإسلامي برمته لم ينتبه إلى أقل من هذا من كنوز القرآن !! وجاء اختلاف الزمن في آيتين الأولى من سورة السجدة حيث يعرج ( الأمر ) من الأرض إلى السماء بسرعة تبلغ ألف سنة من حساب الكرة الأرضية ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) السجدة - 5 - أما آية العروج الأخرى فهي في سورة المعارج ( تعرج الملائكة والروح إليه في كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) الآية 4 ( 8 ) تقوم خلاصة هذا الفيلم على اختراع عالم ٍ لآلة بإمكانها دفع الإنسان عبر الزمن وفكروا في إنقاذ حياة الرئيس الأمريكي ( روبرت كيندي ) بحمايته من القتل كي يتم تغيير التاريخ وعدم تورط أمريكا في حرب فيتنام ، ولكن الذي حدث هو موت من أرسل !! فلما أرادوا إنقاذه شعروا أن أفضل شيء أن لايغيروا شيء ورجعوا إلى مذهب الخيام والجامعة داوود ( الكل باطل وقبض الريح ) وكأنهم انتهوا مع الفيلم إلى مذهب الجبرية !! ( 9 ) يراجع في هذا كتابه الصحوة الإسلامية في الميزان ( بحث التخلف الفكري وأبعاده الحضارية ص 46 - 47 ) ويعرض فيها أفكاراً قيمة ويتساءل وهو محق في هذا لماذا لم يتوصل المسلمون إلى كشف علمي من خلال آية قبل أن يصل إليه العلم ( 10 ) يراجع في هذا مؤلف مالك بن نبي رحمه الله ( دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ) وكذلك كتاب شروط النهضة ( 11 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - دار آسيا - ص 145 ، وهذه الفكرة تولدت من فكرة عظيمة محورية وهي فكرة إلغاء النبوة حيث يرى فيلسوف الإسلام أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ، وبذلك يكون مجيء الإسلام للعالم ، هو إعلان ( مولد العقل الاستدلالي ) حيث تكف المعجزة عن العمل في حياة الناس ، كما كانت مع موسى في انشقاق البحر وإحياء الموتى لعيس ، فالقرآن دشن فلسفة واضحة بعدم اعتماد هذا الأسلوب ، وهو معنى مكرر في كل ثنايا القرآن . ( 12 ) يعتبرصاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد ( روبرت أغروس وجورج ستانسيو ) أن نظرية النسبية قادت إلى التخلي إلى الأبدعن فكرتي الزمان والمكان المطلق - عالم المعرفة عدد 134 - ص 21 ( 13 ) الكون الأحدب ص 37 وعبد الرحمن مرحبا ص 75 ( 14 ) أبرز العلماء الفرنسيين الذين نشروا النظرية النسبية وروجوا لها في فرنسا ( 15 ) عبد الرحمن مرحبا ص 80 ( 16 ) تمت في كليفلاند عام 1881 م وكررت في كل فصول السنة وفي كل الاتجاهات وتبين ثبات سرعة الضوء - مرحبا ص 65 ( 17 ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان - د . عبد المحسن صالح - عالم المعرفة - ص 23 ( 18 ) العلم في منظوره الجديد ص 16 و 15 و 19 ( 19 ) التنبؤ العلمي ص 22 ( 20 ) الحديث : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لايبولون ولايتغوطون ولايتمخطون ولايتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء )) مروي في الصحيحين ( زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم - الشنقيطي - المجلد الأول ص 71 رقم الحديث 201 ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة .
اقرأ المزيد
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين ، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لاتفارقنا يوماً واحداً ، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة ، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة ، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما ، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد ، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت ؟ أو أنه كائن من نوع غير ( بايولوجي ) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت ؟ وإذا كانت ( سنة أو قانون ) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه ( المجتمع ) وتشكل مصيره ، فقد بات علينا معرفة هذا ( البعد الجديد ) في الحياة الإنسانية ، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك ؟ وبأي آلية ؟ وفي أي ظرف ؟ وتحت أية شروط ؟ ( لكل أمة أجل )
مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي:
اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم : إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت ، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم .
صدمت وبعمق ، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS ) ( 1 ) يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان ، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه ، مع هذا يبقى المريض مريضاً ، أي أنه مازال حياً يرزق ، ولو أنه محكوم بالإعدام .
لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد ، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده !! فمن أين جاء بتحليله هذا ياترى ؟؟ إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات ( INDEX ) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع ، ولادة أو موتاً ، صحة أو مرضاً ، عافية أو اعتلالاً ، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص ( DIAGNOSIS ) فاعتبر الجسد الاجتماعي ( جثة ً ) .
قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت : إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات مافيه الكفاية على موت الفرد ( عضوياً ) من انعدام النبض ، وتوقف ضربات القلب ، وغياب التنفس ، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد ، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة ، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة ، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة ، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة ( الصمل الجيفي ) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل ، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك ، الذي يتمزق في كل لحظة :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل
واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل
أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل
قد طالما أكلوا دهراً وماشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب : بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب ؟!! مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل ؟!
ماهو المجتمع بالفعل ؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي ؟
لايمكن أن نفهم ( موت المجتمع ) مالم نفهم ماهو ( المجتمع ) بالأصل ؟ فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن ( النوعي ) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته ، وموته من حياته ، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو ( شبكة علاقات ) تنظم نشاط الأفراد ( 2 ) ، فإذا أردنا تصور ( الشبكة الاجتماعية ) أو ( النسيج الاجتماعي ) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد ، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة ، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد ، وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع ، حيث تترابط مايزيد عن ( 100 ) مليار خلية عصبية ( النورونات - NEURONS ) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف ، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط ، بحيث يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في رأسه ، من زاوية الاتصالات ؛ أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا . وتتعاون هذه ( النورونات ) من خلال ( نظام التحام ) بين كل خلية وأخرى ، تسري فيها سيالة عصبية ، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه ، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة ، والنسيج الاجتماعي أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها ، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود ، المتوتر أو المسيَّب ، النشيط أو الخامل ، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها ، وينبنى على هذه الفكرة أمرين هامين :
1 - الأمر الأول : إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لإنها من صناعتهم
2 - الأمر الثاني : إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة ، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد ، وهي ( الظاهرة الورمية ) التي تحدثنا عنها في بحث السرطان الاجتماعي ، حيث يؤدي ضخامة الفرد ( العقدة في الشبكة الاجتماعية ) إلى قطع الأوتار الاجتماعية ، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة ( السرطان ) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص ، غير عابئة بما يحصل للجسم ، ولكن السرطان كما عَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه ، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية ، يقضي على وجوده بالذات .
يقول مالك بن نبي : (( بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات ، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا ، بينما شبكة علاقاته مريضة ، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد ، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب ( الأنا ) عند الفرد من ( تضخم ) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية ، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم ، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً ))( 3 )
المجتمع يعتبر شبكة علاقات وليس كماً من الأفراد
كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية ، فالسكر السداسي ( الغلوكوز ) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا ، مكون من ذرات من الفحم الأسود ( الكربون ) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد ، مكون من ذرات من ( الكربون الأسود ) المضغوط بشكل جبار . والذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة ، هو طبيعة ( التركيب الداخلي ) لذرات الكربون ، فأصبحت ( يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار ) والمجتمع بدوره هو ( طبيعة تراص ) خاصة بين أفراده ، فإذا بقي ذرات كان سخاماً أسوداً ، وشحاراً قاتماً ، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة ، أو لمعان تفوق عبر التاريخ . فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة ، وأعطى ذرة الألماس الصلابة المخيفة والتألق المدهش الفذ ، هو طبيعة التركيب الداخلي ، مع أن ذرات الكربون بالأصل سواد وقتام ، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية ، بل يعتبر الفحم ( شبه معدن ) وليس معدناً ، فهو ليس في صلابة الحديد ، أو ندرة الذهب ، أو ثقل الزئبق ، أو إشعاع اليورانيوم ، فالذي يعطي التركيبَ القوةَ الضاربة ، أو النوعية الممتازة ، أو التميز والتفوق ، هو كيفية ( اجتماع ) عناصره الأولية . وكذلك المجتمعات ، فالذي يَسِمْ المجتمع بالقوة أو الضعف ، بالتميز أو السطحية ، بالتفوق أو الانحطاط ، هو نوعية علاقة ذراته ( أشخاصه ) الداخلية . وبذلك تفوق المجتمع الياباني وتأخر المجتمع العربي ، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين بالمجتمع الغربي كانت متقاربة ، فارتفع المجتمع الياباني وحلق ، في حين أن المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة ، ويعجز عن السيطرة على حل مشاكله ، وبين عامي 1960 م و1990 م حقق المجتمع ( الكوري ) قفزة نوعية وبقي المجتمع ( الغاني ) يتجرع غصص التخلف ، مع أن مستوى دخل الفرد كان واحداً في نقطة البدء !! ( 4 ) .
إذاً المجتمع هو تركيب ( STRUCTURE ) تماماً كما في التراكيب الكيمياوية العضوية ، وهو بالتالي ليس ( مجموعة ذرات ) و ( كومة أشخاص ) ونحن نعلم من الكيمياء العضوية ، أن تغيير فاعلية مركب ، من وضع إلى وضع ، يتم من خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية ، ويبقى ( الكم الذري ) كما هو بدون نقص أو زيادة ، فينقلب المركب الخامل إلى فعاِّل وبالعكس ، والدواء إلى سم زعاف ، والسم إلى ترياق ، كما حصل مع باول ايلريش ( PAUL EHRLICH ) بعد ( 606 ) من المحاولات ؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض الأصبغة ، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياقٍ وعقارٍ ، لمعالجة داءٍ فتكَ بالجنس البشري أكثر من ( 400 ) عاماً ( الافرنجي _ SYPHILIS )( 5 ) .
كيف يبدأ المرض في المجتمع ؟؟
كيف يتحول المركب إذاً ؟ كيف ينقلب في وظيفته ؟ بل وكيف يمرض المجتمع ؟؟؟؟ كلها تحدث بنفس الآلية ( تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية ) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا إلى ( قوارض اجتماعية ) تلتهم الشبكة الاجتماعية ، انحدر المجتمع صوب الفناء والموت ، وبنفس الآلية التي يموت فيها الأفراد . ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة جيداً ؟ فماالذي يحدث عند موت الفرد ؟ دعنا نتأمل ظاهرة ( الفك والتركيب ) في أي موجود تحت أيدينا من مثل الكرسي أو الطاولة أو السيارة ؟؟ وكيف نسمي الطاولة ( طاولة ) ؟ أم كيف نمنح لقب الكرسي لـ ( الكرسي ) ؟ أو السيارة لـ ( السيارة ) ؟؟ إن هذا يرجع ليس لـ ( القطع أو الأجزاء ) التي تشترك في تركيب الطاولة أو الكرسي فضلاً عن السيارة !! فلو أمسكنا بالكرسي و( فككَّنا ) الأجزاء عن بعضها ، لم تعد الطاولةُ ( طاولةً ) ولا السيارةُ ( سيارةً ) ؟! والسبب هو أن السيارة تأخذ ( وظيفتها ) و ( شكلها ) الذي يمنحها الاسم ، من ( اتصال القطع ) و ( تلاحم الأجزاء ) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة لنقل الركاب والأمتعة . كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه ، فإذا التأمت قطعه ، وتضافرت عناصره الأولية ، لتؤدي وظيفة ( الجلوس ) عليه ، استحال إلى كرسي ، أما قطعه الأولية فليس لها اسم ، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع ومعقدٌ للغاية ، والذي يحدث في الموت ، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه ، وتعود إلى سيرتها الأولى ، أو للسيارة عندما تُفكَّك وترجع إلى وحداتها الأولية ، وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال ( قد علمنا ماتنقص الأرض منهم )(6) فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لاينقص منه شيء ، وبَدَنُنَا في الواقع مكون من برميل ماء ، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير ، وقبضةٍ من الكلس ، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب ، وحفنة من الفوسفور ، وآثارة من اليود والنحاس ، وبقيةٍ تافهة من الفوسفور المتقد ، وكميةٍ من الغازات التائهة !!
فنحن كـ ( مواد أولية ) في ( ثمننا ) لانساوي شيئاً مذكوراً ، ولكننا في تركيبنا الإنساني لايصل إلينا ( سعر ) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في منتهى الغباء !! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى دورة الطبيعة ، ولاغرابة عندما نسمع أبو العلاء المعري ينشد :
رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٌ من تزاحمِ الأضداد
خفِّف الوطءَ ماأظن أديم الأرض إلا من هذه الأجســــــاد
إن العنصر الواحد مثل حديد الدم ، أو فوسفور المخ ، أو يود الدرق، أوكلس العظام ؛ مصيره في النهاية إلى التراب ، إلى دورة الطبيعة ، ليعاد تشكيله واستخدامه من جديد ، في غاية جديدة ، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر ، قد يكون بشراً جديداً ، أو أنسجة حيوان ، أو محتويات خلية نباتية ، فأجسادنا الزائلة جاءت من الطبيعة ، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ( 7 ) ، والذي حصل مع الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين ، سبقت إحداهما الأخرى ، فأما الخلل الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو ( توقف الوظيفة ) فيتحول الإنسان إلى صورة جامدة ، لايبكي ولايضحك ، لايتألم ولايحس ، لايتكلم ولايسمع ، فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي ( تحلل الشكل ) فالميت مثل النائم ، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله ، بل يبقى اللحم حاراً ولساعاتٍ بعد الوفاة ، كما تبقى بعض الخلايا حية ، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما ، ثم يسيطر الموت فتبدأ ( علاقات ) الأنسجة بالتفكك و ( ارتباطات ) الخلايا بالتمزق النهائي ، كي يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية . والمجتمع عندما يبدأ الانهيار في مرحلة الموت يمر مايشبه هذه المراحل من ( شلل الوظيفة ) لينتقل بعدها إلى مرحلة ( اندثار الشكل ودماره الكاملين ) .. ليتحول في النهاية إلى ( كومة ) من الأناسي و ( خردة ) من البشر لايجمعها رابط ، أو يضمها مثل أعلى ، أو يحدوها قيم عليا ، أو ينتظمها تنسيق مشترك ، فيعيش كل فرد لنفسه ، أو يتحول الإنسان من ( الشخص ) إلى ( الفرد ) فيخسر ذلك ( البعد ) الذي منحه أياه المجتمع ، حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية ( المعادلة الاجتماعية )( 8 )
موت الأفراد وموت المجتمعات حسب القرآن
ومن الملفت للنظر أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين ، فذكر موت ( الفرد ) ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات ( لكل أمة أجل ) ( 9 ) فالأجل هنا جماعي وليس فردي . فالآجال إذاً نوعان : منها ماهو خاص بالفرد والآخر بالمجتمعات ، كلٍ من نوعية متباينة ، وهذا يعني بكلة ثانية أن الأمم تموت ، والدول تنتهي ( 10 ) والشعوب تفنى ( 11 ) والحضارات تباد وتنهار ( 12 ) بل إن حديث القصعة أشار أيضاً إلى طرف من هذا ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) فيتحول المجتمع الإسلامي إلى مواد غذاء وتموين لبناء أجساد أخرى ، عندما يختل تركيب التكوين الداخلي الاجتماعي ، فتتحول طاقات الأفراد المنسابة عبر الأقنية الاجتماعية إلى مصادر تفجير لها ، فتتمزق أقنية الوصل الاجتماعية ، ويتهتك النسيج الاجتماعي .
جاء في كتاب ميلاد مجتمع : (( ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع مالم يسبق تكييفها ، أعني مالم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا تعيد تنظيم هذه الطاقة وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع - إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما ))(13) . كما أسعفنا القرآن بأمثلة عن مجتمعات باتت مريضة تمشي باتجاه الموت ، وكيف تم التصرف تجاهها ، بين فتية أهل الكهف ، الذين انطلقوا لتأسيس مجتمعهم الخاص بهم وضنوا حتى بالكلب أن يبقى في المجتمع السابق !! وبين موسى ( ص ) وهو يواجه أعظم حضارة في عصره ، حيث حدد مهمته على وجه الدقة ، من أنه لايريد إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه ، إنه يريد شعبه ، الذي ينتظره أن يُدفن في الصحراء أولاً من خلال ( التيه ) كي يخرج من أصلابهم جيل لايعرف غير الشمس والحرية ، وهو الذي لن يرتعد من ( القوم الجبارين ) الذين توهمهم آباؤهم كذلك . والمثل الثالث في انفلاق مجتمع المدينة الساحلية إلى ثلاث مجموعات أمام تحدي الانحراف ، نجى فيها الفريق الصغير نواة الأمة الجديدة ، بترابط جديد للقيم ، أما بقية المجتمع فتشوه الترابط الداخلي عنده ، ليتحول إلى مجتمع ( القردة الخاسئين ) ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ولاغرابة لإن كروموسومات القردة تشبه 99% من كروموزومات الإنسان ، ولكن الاختلاف في البناء الداخلي ولو باختلاف 1% يقلب البناء رأساً على عقب ، ويحول البشر السوي إلى قردٍ خاسيء !!
شهادة التاريخ في موت المجتمعات :
إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ ، وبقيت الأهرامات تشهد على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع ( بيولوجياً ) ولم تُغيَّب عناصره الأولية في التراب ، ومازال الإنسان الفرعوني ( المصري ) يعيش ، ولكن كعنصر أولي يشارك في حضارة مختلفة ، فعندما مات المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و ( طوب ) أو ( لبنات ) امتصها مجتمع زاحف نامي متفوق ، كوَّن بها نفسه من ( لبنات ) المجتمع الميت ، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وهكذا تحول المجتمع ( الفرعوني ) إلى مجتمع ( روماني ) ، ثم مات بدوره ليتحول إلى مجتمع ( إسلامي ) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى ، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ) مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والازتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني الخ ... (( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )) ( 14 )
تحليل يومي تشريحي لحركة المجتمع :
ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع والكيمياء العضوية والبايولوجيا بل وحتى علم الأدوية ، نتوجه لتسليط الضوء على فكرة ( السلسلة الذهبية ) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي ، وتقطع شبكة الربط الحضارية !!
مامعنى أن ( معاملة ) ما في أي قطاع اجتماعي لاتمشي إلا بطريقة ( الدفع المتتابع المستمر ) مع شيء من المقبلات من ( الوساطة ) ؟؟!! إن هذا المرض خطير للغاية ، ومؤشر لأزمة اجتماعية ، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي _ إن شِئنا أم أبينا _ وحتى تنجز تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية ، يقودها الأفراد الاجتماعيون ، من خلال معادلة ( حق - واجب ) أي أن الواجب الذي يؤديه فرد في سلسلة ( آ ) ستكون له حقاً
في سلسلة ( ب ) مثل العلاقة بين ( علاج طبي لمريض ) و ( استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور ) و ( نقل رسالة بريدية ) فالعملة أي ( الخدمة الاجتماعية ) هي عملة ذات وجهين ( حق - واجب ) فما كان حقاً لفرد هو واجب للتأدية في ذمة آخر .
هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل ( حلقات السلسلة ) بمافيهم الفرَّاش وحامل الأوراق ، لإنه يكفي أن ( تنام ) المعاملة في ( درج ) أو يضطرب التعقيم في مرحلة طبية ، أو يهمل أي موظف الخدمة الاجتماعية ، أن تضطرب السلسلة كلها وتحل الكارثة !! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية . فإذا كانت ( السلسلة الاجتماعية ) مكونةً من عشر حلقات بين الرئيس ، ومساعده ، والسكرتير ، والموظف المتلقي ، وحامل الأوراق ، والمدقق ، والناسخ ، والضارب على الآلة الكاتبة ، وصاحب الكمبيوتر ، والجالس خلف سنترال التلفون . يكفي أن تضطرب ( حلقة واحدة ) وحلقة واحدة فقط لاغير ، من هذا السلسلة كي يختلَ العمل بأكمله ، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي ، فعندما يكون الموظف متسلِلاً بدون إذن ( 15 ) والساعي مهملاً ، والمدقق نعساناً ، والناسخ فوضوياً ، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً ، والقاعد خلف السنترال نائماً ؟! يكفي الخلل في ( حلقة مفردة يتيمة ) ولو كانت كل ( السلسلة ) من الذهب الخالص و24 قيراط ، أن تحل الكارثة وتقع المصيبة ، وتتوقف السلسلة أن تمر بها ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وبذا ينطفيء الضوء الاجتماعي ، ويذهب نوره ، وتحترق الآلات ويعم الخراب ، وتسود الفوضى ، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع ... نفسي نفسي .
إن هذه الحقيقة المرة والموجعة هي الإصابة العصبية الاجتماعية الكبرى ، والتي تحول المجتمع إما إلى ( مشلول ) بانقطاع العصب ، أو متشنج مضطرب بإصابة العصب الجزئية ، مشلول عندما يعطب العصب بالكامل فلايمرر السيالة العصبية الاجتماعية ، ومتشنج بعدم تناسق عضلات الفعل الاجتماعي في اضطراب مرور السيالة العصبية حسب نسبتها ومقدارها
موت المجتمع لايعني بالضرورة فناء الأفراد
إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهقة إلى أبعد الحدود ، مزعجة إلى حد المرض ، مضيِّعة للوقت بدون مبرر ( لإننا ملوك الزمان ) بل وتأكل الكرامة الإنسانية أحياناً ، فلا موظف يبقى خلف طاولته ، ولاعامل يبقى مرتبطاً إلى عمله ، والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها اللهَ في نهاية المطاف على السلامة ، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد( أليس للعجائب ) و( عبقر ) للجن ، وإنجازها وكأنها إزاحة جبل ، والسر في هذا هو تقطع ( نقط الاتصال والالتحام الاجتماعية ) بين ( حلقات ) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها ، فلا تعود ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك ، وحديد صدأ ، والصدأ على كل حال يعني التفكك والعودة إلى حالة ( الخام الطبيعي ) ، فإذا اضطربت ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وتقطعت حلقاتٌ متعددة ، من سلاسل شتى ، كان مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج الاجتماعي ، وكان معناه أن المجتمع يبدأ يكف أن يكون مجتمعاً ، بل يتحول إلى ( مُجمَّع هزيل ) و ( مافيات اجتماعية ) وحوضاً مرعباً لسمك القرش وقنافذ البحر والاخطبوط الاجتماعي ، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الاوقيانوس ( المحيط ) اللاجتماعي المتخبط ، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى ، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق ، وعليه أن يولد من جديد ، إما بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع ( البشر الخام ) في الجاهلية ، حيث لم يكن يهم ( طرفة بن العبد ) إلا قدحاً من الخمر ، وقتالات طائشة ، وممارسة الزنا مع بنات الهوى ( 16 ) أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة ، واندثار ثقافة المجتمع ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم ) وقد حدث هذا في التاريخ ويتكرر .
مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع الكهربائي والالكتروني :
ماالفرق بين مجتمع ومجتمع ؟؟ هناك ثلاث أنواع من المجتمعات فيما لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية !! مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع ( الكهربائي ) و ( الالكتروني ) ، فعندما لاتمشي المعاملات إلا بطريقة ( الدفش المتتابع المستمر ) !! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء ) فالماء يتدفق طالما بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي ، فإذا توقفت عن( الدفش ) انقطع الماء وتوقف الخير !! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بملمتر واحد ؛ لاتصل إلى هدفها بدون ( الدفعة الأخيرة ) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لاشيء ، فلا تولد أو ترى النور بدون الحقنة الأخيرة !! أما المجتمع ( الكهربي ) فهو الذي يتحرك بكبس الأزرار ، فتمشي المعاملة لوحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير ، بسبب قوة كل حلقة من ( السلسلة الذهبية ) ، وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما حركَّها ، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم ، وهي من أسرار تفوقهم وقوتهم ، فلاتحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة ، فضلاً عن نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية ( تخليص المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري ؟؟!! ) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات ( النبض الالكتروني ) فهي تلك التي تتربع على عرش الالكترونيات ، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان ، من مثل المجتمع الياباني ( 17 ) وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء ) إلى ( الفعل الكهربي ) فضلاً عن ( التوهج الالكتروني ) فإنه يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية ، فإذا أدى أحد ( حلقات ) السلسلة عمله بفعل ( جذبي بانتكاس داخلي ) قعد المجتمع وانشل ، وإذا تحول إلى روح ( الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي ) تحول إلى مجتمع ( حركة الكهرباء ) فإذا قفز إلى روح ( المبادرة ) أصبح بسرعة الومض الالكتروني !! ولله في خلقه شؤون .
ثمن الانهيار الاجتماعي
مع تمزق شبكة المجتمع يدفع كل عناصر المجتمع الثمن ومع كل فوائده المركبة ، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي ، والسبب بسيط هو أن ( الماكينة الاجتماعية ) لاتعمل ، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى أسفل ، فتتباطيء ويتوقف الانتاج ، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية ، فهي تبرد مع الوقت ، والتحرك باتجاه المحيط ، أي أن الفعل الاجتماعي يتحول من فعل ( واعي إرادي ) إلى عمل ( فيزيائي ) وشتان بين الإرادة والمعدن ، والحي والجماد ، والفعل والانفعال ، والطبيعة والإنسان ، في حين أن المحافظة على الشبكة الاجتماعية يجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها ، ممتعة لكل فرد ، حلوة لكل من يشارك في نشاطها ، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم ( الاستقامة ) والفائض في الحياة الاجتماعية ( غدقا ) ( وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً ) ( 18 )
مثل انكليزي معبر :
يقول المثل الانكليزي أن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص أسماؤهم ( كل واحد ) و ( أي واحد ) و ( لا أحد ) والرابع كان اسمه ( بعض الناس ) ، وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز . فُسئل ( كل واحد ) كي ينجزه ، إلا أن ( كل واحد ) كان يتوقع من زميله ( بعض الناس ) أن يقوم به ، إلا أن ( بعض الناس ) غضب لإن المهمة كانت مهمة الزميل ( كل واحد ) ، إلا أن ( كل واحد ) فكر أن ( أي واحد ) يمكن أن يؤديها ، ولكن الزميل ( لا أحد ) تحقق أن ( أي واحد ) يمكن أن يفعلها ، وبذلك كانت المحصلة أن ( كل واحد ) لام ( بعض الناس ) لإن ( لا أحد ) فعل ماكان يجب أن يفعله ( أي واحد ) !!!
THIS IS A STORY ABOUT FOUR PEOPLE NAMED ( EVERYBODY ) , ( SOMEBODY ) , ( ANYBODY ) , AND ( NOBODY ) .
THERE WAS AN IMPORTANT JOB TO BE DONE AND ( EVERYBODY) WAS ASKED TO DO IT . ( EVERYBODY) WAS SURE ( SOMEBODY) WOULD DO IT . ( ANYBODY ) COULD HAVE DONE IT . ( SOMEBODY ) GOT ANGRY ABOUT THAT , BECAUS IT WAS ( EVERYBODY) ,S JOB . ( EVERYBODY ) THOUGHT ( ANYBODY) COULD DO IT BUT ( NOBODY ) REALIZED THAT ( EVERYBODY) WOULD,NT DO IT . IT ENDED UP THAT ( EVERYBODY ) BLAMED ( SOMEBODY) WHEN ( NOBODY ) DID WHAT ( ANYBODY ) , COULD HAVE DONE .
قصة الملك وشعبه المحب :
وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له ، بأن نصب في الميدان العام للبلد حوضاً كبيراً ، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل ، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً ، لإن كل واحد فكر بنفس الطريقة : (( وماالذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير !! ))
مراجع وهوامش:
( 1 ) الإنذار مصطلح طبي عن توقع حالة المرض للمستقبل ( 2 ) جاء في كتاب ( ميلاد مجتمع ) لمالك بن نبي - ترجمة عبد الصبور شاهين - إصدار ندوة مالك بن نبي - ص 15 : (( المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد ، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني ، يتم طبقاً لنظام معين ، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ماتقدم على عناصر ثلاثة : 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها )) ( 3 ) كتاب ميلاد مجتمع - المصدر السابق - ص 40 (( فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية ، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام ، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي )) ( 4 ) يراجع كتاب ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) تأليف باول كندي - النسخة الانكليزية ص 193 ، ويذكر المؤرخ أن دخل الفرد كان في البلدين عام 1960 م 230 دولار في السنة ليصبح اثني عشر ضعفاً للكوري ويبقى الغاني راوح مكانك ( 5 ) يراجع قصة الميكروب تأليف ( بول دي كرويف ) - ترجمة أحمد زكي - لجنة التاليف والترجمة والنشر - بحث الرصاصة المسحورة ص 339 ( 6 ) سورة ق الآية 4 ( 7 ) سورة طه الآية رقم 55 ( 8 ) يراجع في هذا التحليل القيم لاوسفالد شبنجلر في أفول الغرب عن مفهوم كم البشر الذي تضم خليطه المدن العالمية الكبرى بدون أي رباط قيم ( 9 ) راجع الآية رقم 49 من سورة يونس : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون وراجع الآية رقم 19 من سورة ق : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ( 10 ) أشار ابن خلدون في مقدمته أن الهرم إذا نزل بدولة فلايرتفع لإن لها أجل طبيعي راجع المقدمة ص 293 - 294 ( 11 ) راجع القصة المروعة لفناء شعب الوبيخ في شمال قفقاسيا من خلال القصة الدرامية ( آخر الراحلين ) ( 12 ) راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن انقراض 23 حضارة من أصل 28 حضارة مرت على ظهر البسيطة ( 13 ) مالك بن نبي المصدر السابق ص 100 ( 14 ) ميلاد مجتمع - ص 8 : ولقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت ، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت مثل المجتمع الغالي بعد معركة اليزيا والمجتمع القرطاجني بعد معركة زاما والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على بومبي ، وحضارة الازتيك عاشت في أمريكا الوسطى والانكا في أمريكا الجنوبية وكلاهما دمرهما الأسبان ، أما شعب الوبيخ فقد دُمر بيد روسية عثمانية مشتركة !! راجع قصة آخر الراحلين ( 15 ) تأمل الآية من سورة النور رقم 62 - 63 وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يستأذنوه .... قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ( 16 ) يراجع في هذا معلقة طرفة بن العبد ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ...... وجدك لم أحفل متى قام عودي .. شربة الخمر التي يعلوها الزبد+ الكر في الحروب الفارغة + والبهكنة ( الفتاة الناعمة ) للمتعة الرخيصة ( 17 ) يراجع في هذا كتاب آفاق المستقبل - جاك أتالي - عن تحول القلب الصناعي في المحيط الهادي باتجاه طوكيو وكذلك كتاب ( اليابان الذي يستطيع أن يقول لأمريكا لا ) تأليف عضو الدايت الياباني ( شينتارو إيشيهارا ) ( 18 ) السورة الجن الآية 16 .
اقرأ المزيد