مع نهاية القرن الخامس الهجري عانى العالم الاسلامي من إعصارين مدمرين، الأول كان في الانحطاط الأخلاقي والسياسي، كنتيجة محتومة للانقلاب الأموي القديم، والثاني من تطويقٍ محكم، بين مطرقة المغول وسنديان الصليبيين. بل أكثر من ذلك حسب المؤرخ (توينبي) بتعبيره الإجهاز على الفريسة الإسلامية بثلاث محاور برتغالي شرقي وإسباني غربي والقوزاق الروس باتجاه ممالك التتر في القرم. أما الإعصاران فكانت خلفيتهما ثقافية بالدرجة الأولى؛ فالجهاز المناعي الفكري وخطوط الدفاع العقلية كانت قد انهارت خطاً بعد خط وخندقاً خلف خندق. حتى اختتم القرن السابع ومعه انطفأت الروح الحضارية الاسلامية، الموافق لمنتصف القرن الثالث عشر للميلاد، عندما انهارا جناحا العالم الاسلامي في فترة عقدٍ من الزمن (1) وحصل الانقلاب الكوني وبدأت الحضارة تكتب من اليسار الى اليمين، واستخدم الحصان العربي لغزو ونهب العالم الجديد في الامريكيتين. وحُبس العالم العربي خلف مضيق بحر الظلمات في زنزانة البحر المتوسط.
أزمة العقل المسلم في القرن الخامس الهجري:
في هذه الظروف المكربة صدم العقل الاسلامي الى أعمق أعماقه في سؤال ملح: ماالذي قاد الى الكارثة؟ وقف الامام أبو حامد الغزالي ليقوم بأهم عملين عقليين ماسحين، فيما يشبه جهاز الرادار العقلي، في البحث بين الانقاض، كما يفعل الباحثون عن الصندوق الأسود عند تحطم الطائرات. في بحث الخلل الأخلاقي، وخلفية الاعصار العقلي، فاستنفر نفسه لدراسة أربعة تيارات فكرية عاصفة كانت تجتاح العالم الاسلامي وقتها: الفلسفة اليونانية وتيارات الباطنية وفرق المتكلمين والاتجاه الصوفي.
كان ضغط المصيبة ماحقاً ساحقاً، بحيث انضغط عقل الغزالي فانحدر الى الشك. والشك دائرة مروعة وكأنها الثقب الأسود الشفاط، وهذا الذي حصل مع الغزالي. ومع تراكم سحب (الشك) اسودت معالم الطرق العقلية، وتسرب الشك الى كل المنافذ، وفي النهاية استولى الشك بالكامل على عقل الغزالي وطوقه بإحكام، حتى وصل الى الشك بكل شيء حوله، وتسربت عفونة الشك الى المدارك العقلية الاساسية مثل البديهيات الاساسية.
تساءل الغزالي: إذا كان المنام كله ضرباً من الوهم؟ فلماذا لاتكون الحياة كلها ضرباً أكبر في الخيال السقيم؟ يقول الغزالي: (فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولاتشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ماتعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالاضافة الى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك، كنسبة يقظتك الى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالاضافة اليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ماتوهمت بعقلك خيالات لاحاصل لها)(2)
محنة الغزالي الروحية:
وتطورت الصدمة العقلية الروحية عند الغزالي الى أن أدخلته المرض فارتمى في السرير وكاد أن يهلك، ويروي تجربته الروحية الفكرية بشكل مؤثر: (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين واربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار الى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن ادرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفة الي، فكان لاينطق لساني بكلمة واحدة ولا استطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولاتنهضم لي لقمة؛ وتعدى الى ضعف القوى، حتى قطع الاطباء طمعهم في العلاج وقالوا: (هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى الى المزاج، فلاسبيل اليه بالعلاج، الا بأن يتروح السر عن الهم الملم)(3)
الانهدام العقلي الكبير على يد الغزالي:
بقدر مابدأ الغزالي خطواته العقلية الأولى بجبروت في تأسيس المعرفة عندما أسس مبدأ اليقين في العلوم (4) بحيث لاتتزعزع المعرفة العقلية حتى لو برهن على عكسها بتحويل الحجر الى ذهب والعصي الى ثعابين، فالمعرفة العقلية هي أعمق وأبقى، والذي ترك كامل بصماته على العقل الأوربي؛ بقدر ماانتهى الغزالي نفسه؛ عندما سطر قلمه كتاب (تهافت الفلاسفة) في نهاية رحلته الى حالة فراغ كاملة بالانتحار الصوفي، مما اضطر ابن رشد لاحقاً؛ أن يتدخل بعملية فكرية جراحية اسعافية لعقل مسلم منتحر بنزف داخلي، قد انهار صاحبها بفعل النزف الفكري الى حالة الصدمة غير قابلة التراجع (IRREVERSIBLE SHOCK) فيكتب في الوقت الضائع للمباراة كتابه (تهافت التهافت)(5). لذا لم يستفد العالم الاسلامي من كتابات ابن رشد شيئاً، بل هي موضع شبهة وشك فهو من التراث المحترق.
مراجع وهوامش :
(1) من التصادف الغريب والمحزن لمصير العالم الاسلامي أن جناحيه قطعا في فترة عقد من السنين، فسقط كما يسقط الطير بلا جناحان. سقطت اشبيلية في الاندلس في عام 1248 م بيد الاسبان ودمرت بغداد بالمحراث المغولي الهابط من الشرق في عام 1256 م (2) كتاب (المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال) أبو حامد الغزالي ـ حققه جميل صليبا وكامل عياد ـ دار الاندلس ـ ص 85 (3) نفس المصدر السابق ص 136 (4) تأمل تعبيرات الغزالي المدهشة في التأسيس المعرفي (فلابد من طلب حقيقة العلم ماهي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لايبقى معه ريب ولايقارنه إمكان الوهم والغلط ، ولايتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنةً لو تحدي بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة؛ فلو قال لي قائل: لا .. بل الثلاثة أكبر من العشرة؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه الا التعجب من كيفية قدرته عليه! أما الشك فيما علمته فلا) نفس المصدر السابق ص 82 (5) يراجع في هذا كتاب (تكوين العقل العربي) للمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ مثلاً فصل العقل المستقيل في الثقافة العربية الاسلامية
اقرأ المزيد
الناس متفقون على توصيف الجنون والمجنون ليس بجهد كبير بل باتفاق ضمني. عندنا في المدينة التي نشأت فيها ومقابل دارنا تماما كان ثمة رجل عصابي اتفق الناس على تسميته (حسن مصروع). هنا الصرع ليست الحالة المرضية من فقد الوعي والتبول اللإرادي والسقوط المفاجيء والزبد في الفم بل حالة هستيرية من رجل يتصرف على نحو غريب خلاف ما اتفق عليه الناس. وحين نقرأ في القرآن كيف وصف نبي الرحمة بأوصاف ستة من أنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون وكذاب وأنه يريد أن يغير مااعتاد عيه الناس واتفقوا منذ قديم الزمان. هنا نرى الشيء العجيب في ذكر هذا العجيب. هنا القرآن يذكر هذه الصفات لكي يزيل عنه هذه الصفات ولكنه يعترف بأن المجتمع كان يكرر هذه التهم. وحسب الوردي عالم الاجتماع العراقي فإن الجنون له صفتان الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك. مثل من يقول أنا تغديت البارحة في المريخ. ومن القصص العجيبة في التاريخ هو عكس ماذكرنا تماما أي دعم الإلحاد ببراهين من الإيمان ويحصل هذا في ظروف الاضطهاد الديني كما وقع في أوربا يوما؛ ففي مواجهة اضطهاد رهيب، قد يضطر الإنسان في النهاية، أن يعلن جنونه على الملأ؛ كي ينجو بجلده من المحرقة؟ وهو ما فعله الراهب الدومينيكاني (توماسو كامبانيلا) في مطلع القرن السابع عشر، بعد محرقة (جيوردانو برونو) الذي خضع أي برونو لتحقيق جهنمي لمدة ثماني سنوات، وافتتح القرن السابع عشر بحرقه حياً، مثل أي فروج مشوي. والكلمات التي تجرأ على نطقها (كامبانيلا) كانت أثرا من موجة الإصلاح الديني، التي اجتاحت الشمال الأوربي، بعد أن أطلق (مارتن لوثر) حركة المعارضة (البروتستانت) على صورة خمسة وتسعين سؤالاً، علقها على جدار كنيسة (فيتنبرج Wittenberg)، يسأل فيها كيف يمكن لمجرم ارتكب كل الذنوب، أن يدخل الجنة بتذاكر اشتراها من مال حرام، ونبت لحمه في الحرام؟إلا أن الخطيئة القاتلة التي وقع فيها (كامبانيلا) كانت حين لم يقدر العواقب جيدا، وهو يتعرض لديناصور لاحم اسمه الكنيسة، ومخالبه من محاكم التفتيش؟!
قال الرجل يعلق على معتقدات الكنيسة: ' إن الكنيسة روجت لمثل هذه الخرافات كي تتحكم بالناس وتجعلهم خائفين'؟؟
وبالطبع فإن جملة من هذا الحجم، في وجه خصم شرس مسلح حتى الأسنان، بكل الإمكانيات، بما فيها ادعاء أن الله يمر من خلاله، على لسان المعصوم (البابا)، وهي المسألة التي كلفت التيولوجي السويسري (هانس كينج) خسارة مقعده في التدريس، بعد مرور 400 سنة على واقعة كامبانيلا حينما طرح الأخير، مسألة عصمة البابا في الميزان، بعنوان صاخب من كلمة واحدة (العصمة؟؟ Unfehlbarkeit).
وينقل عن السير (والتر رالي) من القرن السادس عشر (1554 ـ 1618م) قوله: ' ينبغي على الرجال العقلاء أن يكونوا خزانة ذات قعرين، لا تسمح من النظرة الأولى سوى رؤية سطحها الفوقي'.
ألقي القبض على الراهب (كامبانيلا) بتهمة الهرطقة والإلحاد؛ فنزل في أقبية مخابرات الفاتيكان، حيث محاكم التفتيش الجهنمية، في عام 1593م، ثم أطلق سراحه بعد ست سنوات عام 1599م.
وكانت جنوب إيطاليا خاضعة للحكم الأسباني يومها، ومعها جبروت الكثلكة، فأوحى إليه عقله أن يقاوم الغزاة، وينشئ جمهورية مثالية، فأخطأ للمرة الثانية بأشد من الأولى، وهكذا فبعد أن كان يواجه غولا واحدا، أصبح في مواجهة غولين؟!
تم إلقاء القبض على كامبانيلا من جديد، وحكم بالسجن المؤبد، وأخضع للتعذيب هذه المرة بآلة جهنمية اسمها (لا فيجليا La Veglia)، كان المتهم كما هو مع كامبانيلا يخضع لتعليق ذراعيه، وهو في وضع القرفصاء، على بعد إنشات من كرسي، تبرز منه مسامير حادة، غليظة جاهزة لشق اللحم شقا، فليس أمام التعيس إلا أحد اثنين: أن ينغرز في خازوق الأنصال، أو تنخلع أكتافه من فوق؟..
وهنا أدرك (كامبانيلا) أن عليه إن أراد أن يبقى على قيد الحياة أن يمارس إستراتيجية جديدة، وهكذا فقد بدأ يتظاهر بالهلوسة والجنون، فأخضعته الكنيسة لمزيد من التعذيب؛ كي تتأكد أنه (مجنون حقاً) كذا؟؟ وبقي أربع سنوات مصلوبا واقفا إلى جدار، فصمد لجهنم تحقيق الكنيسة، حتى اعتقدت في النهاية بأنه فاقد العقل تماما. بعدها بفترة سنوات كتب كتابه الأول في مدح (الملكية الأسبانية)، وأن ما فعلته من ذبح الناس وحرقهم على نار هادئة، ونهب أمريكا، كان عين العقل، وقمة التقوى، فصدقت الكنيسة أنه فعلا ولد صالح للكثلكة؟!
ثم ضرب كامبانيلا ضربته الأخيرة؛ فأخرج كتابا مثيرا بعنوان (هزيمة الإلحاد) وعرضه على شكل سؤال وجواب، وكان يعرض حجج اللوثريين والمارقين بقوة ووضوح، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص، فاحتارت الكنيسة في أمره، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات، ثم اقتنعت أن الرجل كاثوليكي صالح، وأنه فعل جهده في اعتناق المذهب الصحيح والذود عنه، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل، وتلقف الناس كتاب الرجل فلم يكن هزيمة للإلحاد، بل كان نبعاً الإلحاد، وهكذا أصبح أنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة.
وهذا يجعلنا نفهم أن معركة الكنيسة مع العلماء فتحت الباب لكل ألوان الإلحاد، جملة وتفصيلا، وضد أي دين، وبذلك نشأت الحضارة الغربية الحالية، وهي ممزوجة بروح إلحادية صريحة؛ فأعلن (نيتشه) موت الرب، وأعلن (سبينوزا) أن الله والطبيعة واحد، وأن الإيمان بالمعجزات كفر، وأعلن (ماركس) أن الدين أفيون الشعوب، وختمها (ميشيل فوكو) بموت الإنسان؛ فلم يبق وينجو أحد، وكل ذلك من حماقة الكنيسة وتعصبها العقيم الذميم.
اقرأ المزيد
بنيت الأهرامات لغرض الخلود، وتم ترقية تقنية التحنيط من أجل الخلود، وليس من خالد، وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، ولكن الشيطان دخل إلى آدم من هذا المدخل بإغرائه بالخلود، وهذه القصة مكررة في كل الثقافات حتى أيامنا الحالية.
كما أعلنت مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 16/ 2017 عن قهر الموت بالتقنية الحديثة، ومن هذه البوابة تقول الأساطير اليونانية أن الساحرة (سيرسا CERCA) أقنعت مجمع آلهة الأوليمب بمنح الخلود لـ (أوديسوس ODESIUS) الضائع عبر البحار والقفار، في رحلة العودة بعد اجتياح طروادة وتدميرها وحرقها بالنار ونهب تماثيل الآلهة الذهبية، بعيداً عن زوجته الحبيبة (بينلوبي PENOLOPY) كي يسقط في أحضان الساحرة الماكرة، وتصور ملحمة ( جلجاميش) من الألف الثالثة قبل الميلاد رحلته الى أرض (أتنابشتيم) البعيدة، يحضر منها زهرة اللوتس، كي تهب الخلود لصديقه (انكيدو) ولكن الحية في رحلة العودة تبتلعها، ولا ينجو جلجاميش من الموت، كما لا يعبر انكيدو الى الخلود، في جو حزين، من حيرة الإنسان أمام صدمة الموت؟
يجلس جلجاميش فيبكي وتجري الدموع على خديه ويستعيد كلمات (أتنابشتيم): (ليس هناك خلود. هل نبني البيوت لتبقى الى الأبد؟ هل يستمر فيضان الأنهار؟ ليس هناك خلود من قديم الزمان. النائمون والموتى كم يشبهون بعضهم.. أي جلجاميش إلى أين تتعجل المسير؟ إنك لن تجد أبداً تلك الحياة التي تبحث عنها؟! عندما خلق الإله الإنسان جعل الموت من نصيبه، ولكنه أبقى الحياة في حوزته، أما أنت يا جلجاميش فاملآ بطنك بأطايب الطعام. امرح وابتهج نهاراً وليلاً. البس الجديد واغتسل بالماء، داعب الطفل الصغير الذي يمسك بيدك، واجعل زوجتك سعيدة في أحضانك، فهذا كله أيضاً من نصيب الإنسان).
أمام هذه الظاهرة العصية تقف البيولوجيا والتاريخ والفيزياء تنظر المسألة من ثلاث زوايا. البيولوجيا تحاول التمرد على الموت بظاهرة السرطان؛ فيموت الإنسان وتبقى خلاياه المتسرطنة تتكاثر بجنون لا يعرف التوقف. وحاول الفراعنة بناء جبال مروعة من الأحجار المرصوصة تتحدى الزمن، عسى أن يتحرروا من قبضة الفناء الى عتبة الخلود، وقربت الفيزياء بواسطة النسبية بشقيها (الخاصة والعامة) فكرة الخلود، عن طريق سرعة الضوء والكتلة الكبيرة؛ فإذا قارب الإنسان سرعة الضوء توقف الزمن، وإذا استوى على مسطح عرضه السموات والأرض توقف الزمن، في تأطير غير مباشر لفكرة الخلود والاقتراب منها، كما أن القرآن أشار الى امتداد العمر في نموذجين: نوح الذي عاش تسعة قرون ونصف؛ ألف سنة إلا خمسين عاما، هذا في الدعوة، ولكنه لبث في قومه أكثر، ولا نعرف كم عمَّر الرجل بعد جزر الطوفانً، وابتلاع الأرض الماء، وإقلاع السماء بمائها المنهمر. كذلك نموذج مجموعة الشباب الذي هربوا الى كهف قصي تضمهم فجوة منه، في نجاة من مجتمع مشرك أحادي الرؤية، يقتل كل إمكانيةِ تفتحٍ للإنسان، تهرب منه حتى الكلاب (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) تجاوزوا في رقدتهم الثلاثة قرون، بطريقة التبريد KRYO من خلال قوانين فيزيائية كونية وبيولوجية (التقليب وعدم التعرض للضوء).
في داخل كل واحد منا حنين فلسفي الى فكرة الخلود، ما جعل الأميرة (صوفيا شارلوتنبرج SOPHIA CHRLOTENBURG) تُسِرُّ لفيلسوف التنوير (لايبنيتس LEIBNITZ) أثناء حوارات فلسفية عميقة، أنها تنتظر الموت كتجربة تغنيها في فهمها لمعنى الوجود وتنضم الى مكونات الشخصية، وتبقى الذاكرة الأخيرة، والتجربة النهائية، التي تنضم للتجارب والذكريات بدون عودة منها. إنها تتلهف على الموت؛ فهو سيبوح لها بالكثير من الأسرار، ويحل لها كثيراً من الاستعصاءات العقلية، والعقد غير المفهومة، من أسرار التاريخ، وألغاز العلم، التي لم يوفق الفيلسوف في حلها؟ رحلة الموت عندها تبقى شيقة جديرة بالإثارة، لما تتوقع فيه من كشف الغطاء فبصر الإنسان يومها حديد. هكذا كانت تسر لي زوجتي ليلى سعيد رحمها الله بنفس المعاني، أن أشياء كثيرة من أسرار التاريخ سوف تراها واضحة بعد الموت؟
وتقوم البيولوجيا حالياً بإثارة ضرب من الخيال مثير من خلال عالم (الشهادة) بإمكانية مد اليد الى أحد أسرار الخلية، ودفعها الى الشباب المتجدد، والعمر المديد، والصحة الوافرة، راهن عليها مليونير البترول من تكساس (ميللر كوارليز MILLER QUARLES) فدفع بسخاء مائة ألف دولار لتشجيع أبحاث شركة (جيرون GERON) في إنتاج هذا الترياق الجديد لتجديد نبع شبابٍ دائم لا يعرف النفاد.
هذا الاتجاه في البحث يخدم في كسر التحديات الأربعة : الألم ـ المرض ـ الشيخوخة ـ الموت. إنها أربع تحديات رسمت نفسها أمام الإنسان في التاريخ: الألم مع المرض والضعف مع الشيخوخة وانقطاع النفس وتسليم الروح مع الموت.
استطاع الإنسان من خلال نضاله الطويل أن يتحرر من الألم، ويقهر المرض في ساحات كثيرة، وهو الآن يمد يده لكشف اللثام عن أسرار انهدام الجسد، وجدلية الشباب والشيخوخة، في قفزة أخيرة لمعرفة ماذا يعني الموت؟ ولماذا الموت؟ ولماذا يراهن الدين على فكرة الخلود كنبع فلسفي للفكر الإنساني يعطي معنى للوجود.
هل يمكن أن نمسك بالقانون الذي يقوم بتجدد الحياة المستمر؟ في الواقع فإن الحياة تتجدد وتستمر بتجدد وانقسام وتكاثر الخلايا؛ فجسدنا قميص نسيجه الدقيق خلايا تصل الى 70 مليون مليون خلية، والخلايا أنواع في تجددها، منها الذي يتجدد في أيام مثل خلايا الجهاز الهضمي، ومنها كل 120 يوماً كما في الكريات الحمر، ومنها الذي لا يتجدد إطلاقاً كما في الخلايا العصبية، وإن كانت المسلمة الأخيرة قد تم كسرها، عندما تكاثرت الخلايا العصبية خارج الجسم ، فما الذي يقضي على تجدد (قميص الجسد) هل هو الاستعمال المتكرر فيفضي الى البوار؟! أم توقف قدرة التجدد بعد حين بتوقف التكاثر الخلوي؟ هذا إذا تأملنا الموت كنهاية طبيعية لرحلة سفينة استقرت على شاطئ الموت، وليس موتاً قاصفاً كغرق سفينة طوتها أمواج العاصفة؛ فغرقت في اليم، أو بالموت المفاجئ بالقتل وحوادث الطرق والتسمم؛ فهذه تخضع لسؤال مختلف حاول الخيال العلمي حل إشكاله، بإحضار الجسد المصاب، كما في حوادث السيارات وإعادة إصلاحه فيعود الى العمل؟! ويتبخر من الإمكانية المباشرة الحرق الكامل، أو الإذابة بالحمض، أو التفسخ اللا متناهي؛ فهنا يقوم الاستنساخ الجسدي بتوليد نسخة جديدة مشابهة تماماً تكفي فيه خلية يتيمة واحدة؟!
اقرأ المزيد
منذ أيام مسيلمة وسجاح راج سوق المشعوذين والمنجمين بل وفي كل عام يخرج علينا أناس يزعمون أنهم يقرأون المستقبل. بل مما علمت أن كل رئيس دولة معه منجم يشير عليه! ومما نقل عن الاسكندر إنه حين اراد اجتياح الشرق مر على مصر وكان ثمة كرة خيطان عليه أن يفكها فما كان منه إلا ان ضربها بالسيف فانفلقت ! فزع كهنة آمون وكان جوابه هذا هو الحل كما قال شاعرنا السيف أصدق انباء من الكتب. وما زال التاريخ الإنساني يمشي ببطء نحو العقلانية. وحاليا لولا وجود سلاح الفناء الكامل لدخلنا حربا كونية. مع ذلك فالجنس البشري مهدد بحماقات من نوع ترامب وبوطين.
نحن الآن ندخل عام 2021 ميلادية وسيكون رائعا لو أمكن قراءة المستقبل، وهو ما دأب المفكرون منذ القدم على محاولة سبر غور المستقبل؛ ففي القرن الثالث عشر للميلاد تصور الراهب الدومينيكاني (روجر بيكون ROGER BACON ) ( 1216 ـ 1292 م) من مؤسسي المدرسة السكولاستيكية، تخيل الناس وهي تركب عربات حديدة مبردة مقفلة تقطع المسافات على شوارع، تشنف الآذان بصدح فرقة موسيقية طول الرحلة، وهو واقع السيارات اليوم، كما تصور ذلك على قضبان حديدية، وهي القطارات التي وصلت الى مستوى الطيران فوق وسادات مغناطيسية بارتفاع عدة سنتمترات بسرعة 500 كم \ ساعة.
وفي القرن الخامس عشر دشن عبقري النهضة الإيطالية (ليوناردو دافنشي LEONARDO DA VINCI)(1452 ـ 1519 م) حزمة من الاختراعات العجيبة؛ من التلفون وغازات القتال السامة والتوربينات، وتصور (الباراشوت) على صورة هرم مقلوب مفرغ يتدلى منه انسان بحبل؟
وفي القرن السادس عشر قام الفلكي يوهان كبلر (JOHANNES KEPLER)(1571 ـ 1630 م) بوضع تصاميم النزول على سطح القمر، وهو مشروع أبوللو الأمريكي لاحقاً.
وفي القرن السابع عشر قام جون ويلكينس (JOHN WILKINS) بوضع تصميم الحاكي (الجرامافون GRAMMOPHON).
وبدأت موجة الخيالات العلمية (SCIENCE FICTION) تظهر على السطح بشكل مكثف منذ بداية الثورة الصناعية، لتبلغ ذروتها مع الرسو على سطح القمر.
وفي عام 1840 م وصف الشاعر الأمريكي (ايدجار آلان EDGAR ALLAN ) لأول مرة فكرة (السايبورج CYBORG) شبه الكلي؛ على هيئة بشر بأعضاء صناعية، على غرار فيلم (يد من حديد HAND OF STEEL ).
وبعده بخمس سنوات عام 1845 نشر الكاتب الفرنسي (ايميل سوفيستر EMILE SOUVESTRE) نظرة مستقبلية بعنوان العالم كيف سيكون (LE MONDE TEL QU, IL SERA) وتجري أحداث القصة عام 3000 م.
وحسب نظرة الفرنسي (سوفيستر) سيكون هناك (اوتوبيا) عالم مثالي بمصانع كاملة ذاتية الآلية، ومدن بشوارع تحت الأرض (تنشيء الآن في اليابان أو فكرة أنفاق المترو عامة) ومناخ ينظم باليد (قريب منه اليوم مكيفات البيوت) وأهم من ذلك تنبؤه بمناخ اجتماعي، منظم بصرامة، تتحكم فيه تربية جماعية، مما يحوله الى مجتمع حديدي بارد، في صلابة الحديد وبرودته، وتبخر العواطف الانسانية والعلاقات الحميمة.
وفي نهاية القرن التاسع عشر بدا عصر الازدهار لتخيلات المستقبل بكثافة أشد
ولعل أهمهم الكاتب الفرنسي جول فيرن (JULES VERN) في روايات متعددة له مثل الرحلة الى مركز الأرض، وعشرين ألف فرسخ تحت الماء، الذي مثله السينمائي الأمريكي (كيرك دوغلاس) في فيلم أخَّاذ، وطبعت الملايين من نسخ الروايات وبعدة لغات، ورواياته رائجة حتى اليوم. وفي بريطانيا وحدها ظهر قرابة 55 كتاباً عن الرحلات الى الكواكب بين عامي 1889 ـ 1915 م. وكتب المؤرخ البريطاني (هربرت جورج ويلز H . G . WELLS) كتابه المشهور حول حرب العوالم وآلة الزمان.
ولكن بدأت صورة العالم المستقبلي الخلاَّب في الانكماش يجللها الفزع، عندما كتب ويلز قصته (العالم يعيش حراً THE WORLD SET FREE) عام 1914 م يصف فيها النتائج المروعة لتفجير القنبلة الذرية، ولم يخب ظنه فقبل موته اكتحلت عيناه برؤية ماوصفه بقلمه من آثار تفجير السلاح النووي فوق رؤوس اليابانيين ؛ فكان أكثر المتنبئن صدقاً ولكن في الاتجاه السلبي القاتم .
ثم ظهرت روايتان الأولى : لجورج أوريل (GEORGE ORWELLS)(عام 1984 م) التي يصف فيها نظام توتاليتاري مرعب يمسك برقبة العالم، مسلح بكل التقنيات الحديثة، الى درجة التحكم في عواطف الحب بين الأنثى والذكر، مثله فيلم قصة المزرعة (THE FARM). والثانية: رواية (الدوس هكسلي ALDOUS HUXLEYS) عن العالم الجديد الجميل، وفيه أشارة الى فكرة الاستنساخ التي نجحت في عام 1996 م وتم عرضها على الرأي العام العالمي للمرة الأولى في فبراير عام 1997 م على يد ايان ويلموت الاسكتلندي، قبل أن تقتل من نفس الفريق العلمي للآثار غير المشجعة.
هاتان الروايتان فجرتا المخاوف الانسانية في القرن العشرين لإمكانيات حدوث تحولات مريعة في المجتمع تبرر تشاؤمية الفيلسوف الدنماركي ( كيركجارد ) التي أطلقها قبل أكثر من 150 سنة بأن كل تقدم علمي سيوجه سلباً الى صدورنا لاحقاً ، في انهيار كوني لافكاك منه ولاخلاص. وهو ماحاوله الفيلسوف الألماني المحدث (يورغن هابرماز JUERGEN HABERMAS) من مدرسة فرانكفورت ، شق الطريق فيه الى عالم مابعد الحداثة ، في محاولة إنقاذ مايمكن إنقاذه من العقلانية الغربية.
اقرأ المزيد
ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة) و(الشهداء 20 مرة) و(الشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد)(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)(عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيها الناس من الموت في سبيل الله حصرا، بل على نحو أدق التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
ومنه جاء كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة، بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد، فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما ليس للألفاظ منها، وثانياً بالخطأ فيما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام؟
وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ.
ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة، ويكسب القاموس لفظة، كما يقول (النيهوم)، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟ والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة.
ستكتب شهادتهم ويسألون؟
وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى. وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه وتعلقه بفكرته والإخلاص لها بغض النظر عن صحة الفكرة.
وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة.
وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي، ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب، كما حدث في لبنان وراوندا والجزائر.
كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات أو مصالح تافهة أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد.
ولا يوجد أرض مقدسة في نظر الإسلام؛ فالقدسية لا تخلع على التراب، ولكن تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر عالم الغيب و(الشهادة).
وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة. فليس كل من يموت من اجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة). ومات الكثير من الشيوعيين والفاشيين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة أو أن الفاشية منتهى التاريخ.
وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة.
وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخَّن سيجاره قبل الموت وضحك لمن حوله، وقال: هل هي سوى موتة، وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا.
وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) عندما يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من اجل أفكارك؟ كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!.
وفي الفلسفة المسيحية ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره.
وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه. فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها.
والرجلان بين يدي رب العزة الآن يختصمان.
ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب، الذي فتح بالسكين على السرطان؛ فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان.
ونفس سيد قطب يقول إن "كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة"؟!
ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل؛ فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة تعدى الأمر فلم يعد مزحة بسيطة بل رعب مخيف.
ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية؟
فهذا قانون...
وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر... .
وكل محظور مرغوب...
وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما.
وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام.
وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟
وسقط سور الصين من اجل محظية جنرال.
وهنا تحضرني قصة؛ ففي مناسبة ما يسمى (يوم الشهداء) تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء، بحضور مجموعة من الأمهات المفجوعات، كما كان يفعل الترابي مع حملات الجنوب، التي كان قرابينها خمسين ألفا أو يزيدون، قبل رفع الراية البيضاء للسلام، في يد سياسيين كذابين، حتى جاء دور رجل فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء فلم يكن أولادكن سوى قرابين بشرية لأصنام هؤلاء؟؟؟
فاحمرت الأحداق واشتدت القبضات، ولكنه نجا من أيديهم، وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار.
أما الرجل فكان داعية السلام جودت سعيد ....
اقرأ المزيد
كان الهدف الأول من فلسفة القرآن تخليص الضمير من أزمة الفناء في ظاهرة الموت فمامعنى الموت؟ ولماذا خلق الموت؟
نحن نعلم أن وسوسة الشيطان لآدم كانت في اثنتين: شجرة الخلد وملك لايبلى. الخلود مع بقاء الشباب وملحقاته من ملكيات القوة والصحة والمتعة من الطعام والشراب والأمن والجنس العائلة والمال. وفي الأساطير اليونانية يروى أن ملكة الحب افروديت عشقت شابا فطلبت من زيوس رب الآلهة في الأولمب أن يمنحه الخلود! وإذ اجتمعت الالهة واتخذت قرارها بمنحه الخلود غلطت أفروديت غلطا رهيبا لأنها لم تقلد الشيطان حين وسوس لآدم ليس فقط بالخلد بل ملك لايبلى! هنا بدأ العشق يذوي مع تقدم السن للمعشوق وتراكب الهرم والضعف والشيخوخة والمرض والخرف بل بدأ يثرثر بدون توقف على عادة المسنين الذين يحبون أن يسمع لهم أحد ترهاتهم. أنا شخصيا كنت أتمنى من والدي أن يشرح لنا الفترة التي عاشها وهي القرن العشرين؟
كان يتضايق من سؤالي حتى كان ذلك اليوم الذي قال نحن عشنا ولم نعش! وهو مخطيء بهذا لأن أشياء كثيرة من التحولات مرت به ويجب أن يسجلها. هنا ترد فكرة خطيرة أن كل واحد منا يظن أن الاخرين فعلوا شيئا وهو لم يفعل شيء؟ في الواقع فنحن وكل واحد منا قارة متنقلة من الأحداث والمشاعر والذكريات ولكن لانتفطن لهذا الحقيقة. المهم كانت النتيجة أن آلهة الأولمب اجتمعت مجددا لتمسخ المعشوق إلى صرصار الليل الذي لايكف عن حك رجليه وأجنحته؛ فهذه كانت النتيجة التي انتهت اليها افروديت حين طلبت الخلود بدون شباب. وهو تفسير حالة صاحبنا الذي شاخ وأين صار؟ وهنا تحضرني قصة الأستاذ الجامعي عندما بدأ الموت يطبق عليه فبدأ يحاور تلميذه الصحفي (ميتشم ألبم) في كل يوم ثلاثاء في تجربة فريدة لتسجيل مشاعر الميت وهو يودع الحياة وسلم الأولويات في الحياة وينقل حكمته من الحياة لمن بعده.
من الأمور العجيبة التي تم تسجيها على مدار ثلاثة أشهر أن الإنسان يتطهر وينظف وتبدأ أولويات حياته تتغير بالكامل. فما كان مهماً أصبح تافهاً وما كان مهملاً قفز إلى الواجهة. وهكذا بدأ لقاء الثلاثاء الأسبوعي الذي دام لأشهر. كان موري يذكر طالبه بفكرة عند البوذيين تتطلب تخيل عصفورة على كتفنا، وسؤالها مع بداية كل نهار: "أيتها العصفورة! هل هذا هو اليوم الذي سأموت فيه؟" كان موري يقول لآلبم أن تذكره اليومي للموت سيجعله أكثر إنسانية وأكثر شفافية. وهذا يذكر بالكاتب الفرنسي (فيكتور هيوغو) والذي شبه موت المسن بسفينة تصل إلى الميناء، بينما شبه موت الشاب بسفينة تتحطم في عرض البحر. موت الشباب يشبه أيضا رواية مثيرة تتوقف في منتصف الحبكة، صاعقة كل من حولهم بحزن عميق وشعور بخسارة مباغتة. عندما نواجه الموت وأن هذا سيكون بعد أيام نشعر أنه علينا إعادة ترتيب الاهتمامات والأولويات. فتبدأ أمور تصغر في العين إلى نقطة رياضية وكانت كبيرة بحجم الجبل ، وتبدأ أمور أخرى تكبر وتعظم بقدر المحيط وكنا لا نأبه لها أو نهتم.
إن إدراكنا للموت يجعلنا نتصرف ونفكر بشكل مختلف. وإن وجود الموت كمفهوم حيوي في ثقافة ما يكّون أفرادا أكثر إنسانية. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. إن الثقافة الغربية لا تشجع على التفكير في الموت، ولهذا بدأ العديد من الكتاب الغربيين يعيدون النظر في الموت، ويدركون أهميته كفكرة مركزية في حياتنا. وعندما كنت في ألمانيا شعرت أن غرق الناس في الحياة والتمتع بخضراءها وحلوها شيء مستولي على القلوب ولذلك فإن فاجعة الموت يتلقونها بصدمة غير عادية فهي تمثل انقطاعا لشيء يبدو أنه يجب أن لا ينقطع وهو غفلة كبرى عن هذه الظاهرة المستحكمة، وأكثر ما شغل قلوب الجبارين بدءً من الإمبراطور (شين) الذي أسس الصين ومرورا بجنكيزخان وانتهاء بالطاغية ستالين كان قلق الموت قد استولي عليهم وطلبوا الحكماء والفلاسفة حلاً لهذا الإشكالية.
ويروى عن الفيلسوف الذي استقدمه جنكيزخان من مسافة 4000 كم من بكين حتى افغانستان حيث كان يذبح العباد بالجملة أن أول سؤال وجهه إليه عن إكسير الحياة فقال له أما الموت فلا سلطان لي عليه ولكن إن أردت أن أجعلك تعيش بشكل جيد قلت لك سري ومبلغ علمي فأصيب الجبار جنكيزخان بالحزن وعندما رأى الفيلسوف مايحدث من فظاعات في معسكر الطاغية طلب منه أن يخلي سبيله.
وقصة العصفورة البوذية تعكس أيضا مركزية الموت في الإسلام. وجاء في الحديث مامعناه: "اعمل لدنياك وكأنك تعيش أبد الدهر، واعمل لآخرتك وكأنك تموت غدا." وقام (ستيفن كوفي) الكاتب في علم التنظيم والنجاح، ومستشار الرئيس الأمريكي (بيل كلنتون) في الإدراة الفعالة، باستعمال الموت في تدريب تلاميذه. ففي كتابه (سبع عادات فعالة للناس الناجحين)، يخبرنا كيف سأل طلبته بأن يتخيلوا موتهم بعد ثلاثة أشهر، وطلب منهم أن يكتبوا مذكرات تفصيلية لهذه الفترة التي يجب أن يعيشوها وهم يفكرون بالموت المقترب.
وكانت المفاجئة للطلبة عندما اكتشفوا أن أولوياتهم قد تغيرت وأن مشاعرهم قد تبدلت. فهم أصبحوا يكتبون الرسائل للأقرباء والأصدقاء ويتصلون أكثر بجداتهم وأمهاتهم. وفي هذا الكتاب يطلب كوفي من قراءه أن يتخيلوا ما يريدون أن يقال عنهم يوم جنازتهم، ويشرح أن كل ما نريده أن يقال عنا في هذا اليوم هو أولوياتنا في الحياة. وروت لي ابنتي عن صديقة لها توفيت بالسرطان في ميعة الشباب فطلبت من الواعظ قبل موتها أن يتحدث عن البعث في جنازتها بدل الموت.
وعندما بدأ كلمته عن البعث نزولا عند وصيتها قال للحضور إنه يصعب عليه التحدث عن البعث لأناس يتألمون على موت عزير لهم. ولكن في النهاية، قال لهم إنه فهم لماذا طلبت منه هذا، فقد شعر بقوة الإيمان والحياة وهو يتحدث عن البعث. يجب أن نفكر في البعث عندما نواجه الموت، ويجب أن نتذكر الموت عندما نواجه الحياة.
اقرأ المزيد
نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة واكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه. (الجينات) الشيفرة السرية للخلق تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. الجينات في الخلايا تحدد العمر والاستعداد لمرض السكر والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه. علينا أن نتنفس والا اختنقنا، أن نأكل ونشرب والا هلكنا. وأن نمارس الجنس والا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية فلانستطيع الانتقال بسرعة الضوء في استحالة يفرضها قانون النسبية باستهلاك طاقة لانهائية وتوقف كامل في مربع الزمن. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال الى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي الى الحياة بدون ارادتنا، ونخرج منها بدون ارادة ورغبة بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته لانتحكم في وقت المجيء اليه في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة الى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف الى مستودعات النسيان فلاتسمع لهم ركزا.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الانسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لاشيء اذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه واللانهائي الذي يغمره.
نحن لانستطيع ركوب آلة الزمن فنعود الى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومين بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن أسرى (ثقافة) ننتسب الى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه. من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا. كذلك كان الانتساب الى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في راوندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في افغانستان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو أو وسوريا في مملكة القرود يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج ترجع رفاهيته الى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين، ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي قد يكون رهين الاعتقال، لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، لايستطيع فتح فمه الا عند طبيب الاسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الارجنتين، أو لاجئا سياسيا في السويد والمانيا، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والابكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البايولوجيا فقد يفر عراقي الى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتننق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الانسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات، والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت، وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والاذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: من ظهر الأرض الى قبر السجن، ومن دفء الجماعة الى برد العزلة، أومن شاطيء الحياة الى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.
هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات وزنزانة الزمن وقفص الثقافة ومعتقل المجتمع.
مع هذا فلايتقدم المجتمع الا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الانسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا وتطور. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة. ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دروة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها الى لمواجهة حادث مروع.
العجل يمشي بعد الولادة بساعات والارانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الانسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي.
نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين ولكن الانسان وضع قدمه على القمر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الانسان يقودها (لاوعي) أعمى.
ثقب العين صغير ومنه يرى الانسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى الا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايرى منه عشر معشار مالايرى، لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الانسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون.
كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابن أفضل منه.
اقرأ المزيد
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد اختصرها في ست عناصر رئيسية توَّجَها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ماسماه: بالسلام العقلي (PEACE IN MIND) ويرى أن أهم مظاهره هي أن ينام الانسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو مايذكرنا بالقرآن الكريم الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و (الحزن): (ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في تكرار ملحِّ في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس الى هذه الحقيقة الملِّحة؟ وماهي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ ومامعنى تشديد القرآن على إيصال الروح الانسانية الى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي.
لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الانسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الانسان للماضي وماطُوي في ملف الأحداث المنصرمة (لكيلا تأسوا على مافاتكم) وأما الخوف فهي السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الانسان؛ فتحرمه الهدوء النفسي والاتزان في التفكير.
وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي ، فلايحزن الانسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه ، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف ، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها ، فيسقط ضحيةً لشعور القلق.
أما الحزن فهو إفرازٌ تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداثٍ قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلاً هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود الى شعور تالي مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): إن كل شعور يقود الى شعور آخر (فالشعور بالخيبة مثلاً يولد العدوانية) وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة) وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عضٍ أو جُرحٍ أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة.
إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور ( قلق الموت) من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع أو بعد الموت، من مصيرٍ مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والذهاب الى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآها الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) مرده الى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات.
يقول الفيلسوف: (ليس الموت مفزعاً والا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت) فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عاني وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهاراً باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لاعودة منها على الاطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاماً ورفاتا؛ قد عاد الى دورة الطبيعة متحللاً الى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت الى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الانسان على الأرض؛ فكانت مصير ثمانين مليار من البشر حتى الآن.
إذاً حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسياً، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني ، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس مايشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS).
وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لاتتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورةٍ متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.
اقرأ المزيد
في عام 450 قبل الميلاد عاش الفيلسوف ( زينون ZENON) في مدينة ايليا الواقعة في جنوب ايطاليا وأثار تناقضاً عقلياً لم تفارق مخيلة الفلاسفة وتفكيرهم عبر العصور، حتى أدركت مغزاه العميق الرياضيات الحديثة المتمثلة في ميكانيكا الكم، فما هو الشيء المثير في قصة هذا الفيلسوف الذي مات وارتاح في قبره، ولكنه لم يدع الفكر الانساني يرتاح حتى مطلع القرن العشرين؟! بل ماهو هذا المصطلح العجائبي: (ميكانيكا الكم) ؟؟ وأين ولد وعلى يد من؟ وماهي ظروف ولادته؟ وأثره على الفكر الانساني؟ والآثار الفلسفية التي انبنت عليه؟ ولكن لنبدأ بالقصة المسلية، قصة السهم الذي لايطير، والعدَّاء الذي يريد السباق فتتَّسمر قدماه في الأرض، وإذا أراد بطل طروادة (أخيل) أن يلحق بالسلحفاة، عجز عن ذلك مهما حاول وبذل؟!! وثق أيها القاري أنني لاأمزح كما أن الفلاسفة هم أكثر الناس جدية ومنهم صاحبنا الفيلسوف (زينون)
إن السهم الذي ينطلق لايطير، والقذيفة التي تندفع تبقى مسمَّرةً في مكانها، والعداء الذي يركض في الملعب واقف في مكانه؟!! هذه الكلمات قد يتوقف القاريء عندها ليعيد قراءتها والتأكد منها هل هناك خطأ مطبعي؟ لا... إن العبارة قد انُتقيت على وجه الدقة؛ فالفيلسوف كان يعني مايقول وهو يرى الكون يضج بالحركة من حوله!! فكيف وصل الى هذه النتيجة العجائبية؟
إن السهم حتى يطير والعدَّاء حتى يركض، أو أخيل حتى يلحق بالسلحفاة فإن النتيجة واحدة، فلا السهم يطير ولا العداء يتحرك قيد انملة في الركض فهو مسمر في مكانه، ولن يلحق أخيل بالسلحفاة مهما حاول وبذل من جهد!! ولكن كيف؟؟
طرح زينون الموضوع على الصورة التالية: حتى ينطلق العدَّاء ليقطع مسافةً ما، فإنه لابد له من قطع نصف المسافة، ولكن نصف المسافة بذاتها حتى تُقطع لابد من قطع نصفها أيضاً، أي ربع المسافة السابقة، وهكذا فنحن بدون توقف مع حركة (نصف النصف) الى مالانهاية؟! بكلمة ثانية فإن العدَّاء حتى يبدأ في الانطلاق وفي كل مرة مازال أمامه بدون توقف نصف نصف المسافة، فيبقى مسمَّرا في مكانه لان رحلة اللانهاية ليس لها توقف؟!! ينطبق هذا أيضا على حركة السهم فهو في اللحظة الواحدة يشغل مكاناً واحداً، فلايستطيع أن يشغل مكانين في نفس الوقت، أي هو ساكن فيه، إذ لو كان متحركاً لانتقل في الحيز، ونظراً لان مجموع حركات السهم هي مجموع (هذا السكون) كان معناه أن السهم لايتحرك؟!! كما أن أخيل الذي يريد أن يلحق بالسلحفاة البطيئة لن يصل اليها مهما حاول لان أمامه أن يقطع دوما نصف (نصف) المسافة التي بينهما، ولكن السلحفاة هي دوما أمامه مهما تكن المسافة تافهة، لانه سينحبس في نصف النصف التي تفصله عن السلحفاة بدون نهاية!! .
ولكن مهلاً ياسيد (زينون) أن مانراه أن السهم يتحرك فيجرح ويقتل، وقذائف الروس قطعت أجسام المسلمين في سوريا وسواهما من المدن، كان (زينون) يجيب بكل هدوء: نعم وأنا معكم في أن مانراه أمامنا من حركة السهم وأثره واقع، ولكنني اعتبره بحكم الوهم لانني لا أجد سنده العقلي مبرهناً كما أن الحجج التي اتقدم بها لاتدحض!! فالتحليل العقلي البارد كما ترون يقودني الى أن السهم لايتحرك والعداء مسمَّرٌ في مكانه وأخيل لن يلحق بالسلحفاة؟ فالمكان كما ترون مكون من نقط لاتنتهي، والزمان مكون من آنات لاتخلص، ولما كان الجسم المتحرك بين نقطتين يكون أثناء حركته بينهما خارج المكان؛ فإن الحركة تصبح ممتنعة لانعدام المكان الذي تحدث فيه.
ولفك هذا الارباك العقلي لفهم الكون والحركة فيه تعددت الاجابات بدءً من ارسطو حتى ايامنا الحالية، مرورا بفلاسفة المسلمين الاشاعرة الذين قالوا بالجزء الذي لايتجزأ، فتقسيم زينون يجب أن يتوقف عند حافة ما من أجل تمرير الحركة من نقطة الى أخرى، وانتهاءً بالفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) الذي طرح فكرة (الكانتور في اتصال الكم الرياضي) لفك معضلة زينون، عندما نتصور وجود عدد لانهائي من النقط بين نقطتين، فإن هذا يفضي الى اجتماع النقاط فتتصل الحركة. فمشكلة الحركة التي أثارها زينون قديماً ليست بهذه السهولة أو السخف، بل تقوم على جدل عميق، وهي في الواقع محاولة لفهم الحركة وكيف تحدث من خلال التأسيس العقلي لها، فزينون أراد أن يثبت لمن حوله أن الحركة تحدث ليس على الطريقة التي يظنون ، بل لها منطق خاص ، وهذا هو الذي جاءت به (ميكانيكا الكم) حديثاً؛ فالعالم الفيزيائي (هايزنبرغ) الذي جاء بمبدأ (الارتياب أو عدم التحديد: UNCERTAINTY PRINCIPLE) أو اللاحتمية (INDETERMINISM) أدرك أن زينون كان على حق واختصر المشكلة على النحو التالي في الفيزياء الذرية: لانستطيع أن نعين وعلى وجه الدقة مكان وسرعة الالكترون ؛ فعندما نريد تعيين مكانه نُخفق في معرفة سرعته ، وإذا عرفنا سرعته غاب عن أعيننا وكأنه الشبح فتبخر فلانعرف أين اختبأ ؟! أو بكلمات زينون القديمة: لايمكن للجسم أن يشغل حيزا ويكون متحركاً في نفس الوقت.
اقرأ المزيد
ماحدث في بيروت بتاريخ 4 غشت 2020 يذكر بحدث الصحراء الجزائرية بفارق أن التفجير الفرنسي كان على الأرض الجزائرية وفي الصحراء، أما ماحدث في بيروت فبين الناس وفوق بيوتهم، وهو في الغالب صراع بين بني صهيون والأصابع الإيرانية.
13نتابع حديثنا عن السلاح النووي ففي فبراير (شباط) 1960 م كان السكون يخيم في الصحراء الجزائرية ولايعكر هذا الهدوء سوى الريح التي تصفر فوق الرمال الممتدة عبر الأفق، وفجأةً يمزق هذا الهدوء إعصار مدمر ورعد مجلجل، ويرتفع عمود هائل من النار عبر السماء، وترتسم في الأفق كرة نارية هائلة، لايلبث أن يتلو ذلك ارتفاع غمامة من الدخان تأخذ شكل رأس الفطر. إنها فرنسا تجرب السلاح النووي الأول لها، ليس فوق التراب الفرنسي، بل على الأرض الجزائرية، فالجزائر بلد التجارب من كل الأنواع، فهو المستودع الخلفي لنفايات فرنسا! كما حصل لاحقا في سلسلة التجارب الفرنسية في جزر المحيط الهادي (مورورو) بعد خمس وثلاثين سنة من التجربة الأولى، على الرغم من غضب أهل الأرض وحنقهم جميعاً!
كل المنطقة المحيطة بالانفجار تحولت الى موتٍ كامل ودمارٍ مطبق، فالرمال الناعمة نُفخت في الاتجاهات الأربعة، وتقعر باطن الأرض بفوهة قبيحة، وبرزت ندبةٍ واسعة لاتعرفها الأرض منذ العصر الجوراسي، وتشوه وجه الطبيعة الجميل. تفحمت النباتات جميعاً، واحترقت الحيوانات بنارٍ تتلظى. وماكان في مركز الانفجار أو قريباً منه تبخر الى السماء بفعل درجة الحرارة التي ارتفعت الى مايزيد عن عشرة ملايين درجة! وماكان بعيداً عن مكان الظاهرة الكونية الجديدة قضى نحبه من هول الاشعاعات؛ فهذا السلاح يقضى عل الحياة باللهب الحارق، أو الضغط الساحق، أو الشعاع الماحق، فهي طاقة لم يحلم بها حتى أبالسة الجحيم!
إلا إن العسكريين الواقعين تحت سكرة القوة ونشوة الجبروت، فغروا أفواههم من الدهشة حينما وقعت أعينهم على عقربٍ صحراوي في مكان الانفجار، يتحرك بكل اطمئنان، غيرُ عابيءٍ بكل مايحدث حوله، قد رفع زعنفته بنهايتها السمية المدببة، ملوحاً بها يتحدى الجنرالات الفرنسيين!.
ولكن كيف نجا هذا الشقي من العاصفة النارية والأشعة الخارقة التي التمعت فوق جحره ولم تؤثر في قوته بحال؟ فهو يمشي ولاتظهر عليه أية مظاهر للتعب أو الترنح أو الأعياء! وبعد مرور كل هذه السنوات لم يصل العلماء الى الجواب الذي يروي الغليل عن سر قوة العقرب الصحراوي الجزائري الذي صمد في وجه الإعصار النووي! الا إن المعلومات التي أمكن جمعها حول هذا الحيوان المدرع ذو الزعنفة السامة منذ تجربة الاعصار النووي قادت الى معرفة مدهشة بخصائص هذا الحيوان الذي عكف على دراسته العالم الفرنسي (فاشون vachon) لأكثر من ربع قرن، فهذه المقاومة الخارقة للحرارة والأشعة الناجمة عن تفجير السلاح الحراري النووي، قد تكون المفتاح لتطوير مادة دفاعية في جسم الانسان تقيه من الكوارث النووية للمستقبل، خاصة الجيل الثالث من السلاح النووي (النتروني) ومن أجل فهم هذا السر الخفي في جسم هذا الحيوان المرتبط بالذاكرة الانسانية بالخبث والغدر واللدغ، فقد تبين من دراسة طراز حياته وعاداته اليومية، التي تمت في متحف باريس قسم التاريخ الطبيعي، أنه يمتاز بصفات لايكاد يصدقها الانسان، فالعقرب (اللدَّاغ) منحنا الكثير من الدروس الملهمة والحكم القيمة.
1- أولاً: فهذا العقرب الذي يصل طوله الى حوالي عشرين سنتيمتر، لايجاريه في صومه وزهده فقراء الهنود المستلقين على المسامير الحادة لفترةٍ الطويلة، كما لايصل الى تحمله في الحرمان من الطعام والشراب أشد النساك، ولاأكثر من يمارس الصيام، فهو يستطيع أن يتابع صومه لمدة ثلاث سنوات كاملة بدون طعام أو شراب.
2 ـ ثانياً: كما أنه يستطيع كتم أنفاسه تحت الماء متربصاً هادئاً بدون أي أكسجين لمدة يومين بالكامل!
3 ـ ثالثاً: واذا غطس في الثلاجة في درجة الحرارة تحت الصفر، ونقل بعدها الى درجة حرارة الصحراء ذات الستين درجة؛ فإنه يحافظ على حيويته، ويستطيع الارتكاس بنفس السرعة فيقفز للدغ والدفاع، فهو يتكيف بشكل مدهش مع كل التبدلات المريعة في درجة الحرارة.
4 ـ رابعاً: واذا وضع في حمام من الجراثيم ذات الذيافين الفظيعة التي تنهك الانسان وتورثه المرض فانه يَمُرُّ بها، كما لو كان يأخذ حماماً لطيفاً، بدون أي مرض أو عطب، ولايتأثر بدنه البتة.
5 ـ خامساً: وأما تحمله لجرعة الاشعاع النووي فهي تصل الى ثلاثمائة ضعف (300) من الكمية السمية القاتلة من الاشعاع ، تلك التي يقضي الانسان بها نحبه ، ويصبح بعدها رميم.
ويعود الفضل في مقاومته للاشعة النووية ، الى أن مايدور في أحشائه ليس دما أحمرا كالذي نملكه نحن بني الانسان، بل هو عصير (مصل) أصفر يقوم بدور أساسي في ترميم الخلايا المُدَمَّرة من الاشعاع النووي، ويبدو أن هذه الخاصية الدفاعية قد تشكلت عنده منذ فترة طويلة، فهو كائن يعيش على الأرض منذ حوالي خمسمائة مليون سنة.
ويبدو أن هذه الفترة السحيقة التي عاشها وهو يواجه كل أنواع الاشعاعات الكونية طورت فيه جهازاً دفاعياً متميزاً . وتمت التجربة على الجرذان بحقنها بـ ( سيروم ) العقرب المُخَفَّف والمُعَدَّل ، ثم عُرِّضَتْ للأشعة النووية فارتفعت عندها المقاومة بشكل هائل وبسرعة . ويتفق الباحثون المتخصصون في ( العقارب ) اليوم أن كلَ السرِ مختبيءٌ في التركيب الجيني له ، ولذا فان فك هذا السر في مدى عشر السنوات القادمة سوف يقفز باتجاه حل هذا اللغز ، خاصةً بعد تجاوز الحرب الباردة وكثرة استخدام الطاقة في الأغراض السلمية ، فيمكن تطوير لقاح خاص ، لايقدر بثمن لحماية العاملين في المؤسسات النووية .
فلسفة الضار والنافع ؟!!
ليس مانحبه أو نكرهه هو المقياس للصحة والخطأ ( وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) فمشاعرنا خدَّاعة ، وأبصارنا زائغة ، وقلوبنا متقلبة ، وليس شعورنا بالبرد أو الحر هو مقياس الكون ، فدرجة حرارة 37 التي يعوم فيها جسمنا ويسبح ؛ هي درجة من سلم حراري يتأرجح على شكل طيف من 273,15 تحت الصفر وهي درجة الصفر المطلق لكالفن ، الى درجة حرارة باطن الشمس التي تصل الى 15 مليون درجة !! ونحن نخطيء كثيرا حينما نقيم الكون على صورة ثنائية وليس على صورة الطيف ، وقصة العقرب التي أوردناها تبرز المعنى الفلسفي لجود العقرب في الطبيعة ، فلم يعد ذلك الكائن الضار والخبيث والغدَّار ، بل أصبح ملهم الحكمة ، ومصدر المصول الطبية الواقية ، وأحد أسلحتنا الدفاعية في ترسانة الحرب ؛ ضد الأخطار المحيقة بنا ، فتحول بهذا المنظور الى صديق حميم بعد أن كان العدو اللدود ، ولايعني هذا أن ينام الانسان معه في فراش واحد !! بل أن يحافظ عليه ضمن إطاره في الطبيعة . كما أننا نرى الطبيعة في صورته بلون مختلف ، فالطبيعة كلها ذات كيان متكامل ومترابط ، متفاهم ومتوازن ، ويجب أن نفهمها كذلك ، فالبعوض بجانب الضفادع ، والعناكب بجانب الحشرات ، والذباب بجانب النمل ، والأشجار بجانب الحيوانات تنفحنا الاكسجين بعطاء مستمر ، بدون مَنِّ ٍولا أذى بشكل متوازن ، فهناك حلقة كونية جبارة محكمة التماسك ، متوازنة الأطراف ، تعدل بعضها بعضاً في لحظات الخلل ، لم نفهم سرها الخالد حتى اليوم ، وهكذا أُميط اللثام الآن عن بعض أسرار العقرب المسكين ( الذي صُبت عليه كل قصائد الذم والهجاء .. حب الأذية من طباع العقرب .. الخ ) كما لانفهم حتى اليوم تدخلنا وكسرنا لحلقة الطبيعة ، واعتداءاتنا المتواصلة عليها ؛ إلا بين الحين والآخر وبشكل درامي ، كما حصل مع تخريب الغابات وانفلات فيروس ( الايبولا الدموي ) (2) الرهيب ، يعلن الدفاع عن البيئة ويحصد من لايحترم هذا القانون ، فحتى الغابة لها قانونها ، واذا كان هذا العقرب الحكيم ، هو الذي يقاوم الأشعة الكونية المؤذية ، ويرمم فيه العصير الأصفر الذي يتدفق في مفاصله كل تخربات الخلايا ، التي تدمرها أشعة جاما المنطلقة مع الانفجارات النووية ، فإنه على مايبدو يعمل بحكمة أكبر من الانسان في التهيؤ للتربع على جمهورية المستقبل : ( جمهورية الصراصير والأعشاب والعقارب ؟!! ) عندما يرتكب الانسان حماقته النووية فيقضي على نوعه .
جاء في كتاب الحكماء الثلاثة من فلسفة بوذا مما يفضي الى هذا المعنى ، تحت المبدأ الخامس : (( الحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لاحصر لها وهي قابلة للفناء ، وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من صور الحياة ، والرحمة هي وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها في هذا الأطار ، وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين ، وأنها التناسق الأبدي ، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة ، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه ))(3) .
واذا كانت الديناصورات قد اختفت من ساحة الأرض قبل خمس وستين مليون سنة ، فلايستبعد أن ينتهي الجنس البشري في حماقة كبرى من هذا النوع ، وان كانت كل المؤشرات تدل على أن الخطر النووي في طريقه للتقلص الآن .
جمهورية من الصراصير والأعشاب ... والعقارب ؟!!
كتب الدكتور ( فرنون . م . ستيرن _ VERNON . M . STERN )
وهو عالم اختصاصي بالحشرات في جامعة كاليفورنيا ( ريفر سايد ) في كتابه ( الزراعة وتربية المواشي ) عن قدرة الحشرات مثل الصراصير على الصمود في العاصفة النووية ، بحيث أنها تتكاثر بشكل جيد بعد ذلك ، في الوقت الذي يسرع الجنس البشري للهلاك : (( وستكون الأعشاب آخر مايهلك .. ويبدو أن الولايات المتحدة لن تكون أكثر من جمهورية من الأعشاب والحشرات )(4) وحسب الدراسات الفرنسية الأخيرة فسوف تسود العقارب على مايبدو ظهر البسيطة بقدرتها غير العادية على مقاومة الأشعة النووية الفتاكة . والحديث عن الأشعة النووية المهلكة لم تكن في حساب آباء القنبلة النووية عندما انفجرت المرة الأولى فوق رؤوس اليابانيين . وعندما انتهى الحريق النووي فوق هيروشيما وناغازاكي ؛ فإن أثر القنبلة لم ينته حتى يومنا الحالي ، فتشوهت الأجنة في أرحامِ مَنْ لم يقتل من النساء ، وأسرعت أمراض السرطانات تفتك في البقية الباقية من الذين لم يطوهم الحريق الكبير !! (5) وعندما تم تطوير ماعرف بالجيل الثاني من السلاح النووي ، الذي عرف بالسلاح النووي الحراري ، والذي يقوم على مبدأ الالتحام الهيدرجيني ، ومنه أخذت القنبلة اسمها ( الهيدرجينية ) اشتدت وطأة هذه الظاهرة ، أي أثر الأشعة والغبار النووي المتساقط ، فبدأ التفكير في تطوير الجيل الثالث من السلاح النووي ( 6 ) أي ماعرف بالقنبلة النظيفة ، ولم تكن نظيفةً بحال ؟!! ( كونها تنظف البيئة من الانسان فتحافظ على الأبنية والآلات وتفني البشر في مدى ساعات الى أيام ) وهو أيضاً مالم يفكر به حتى ابليس اللعين ؟!!
القنبلة النظيفة .. لقتل الأحياء فقط ؟؟ !! ( قنبلة النيوترون ) :
قفز السباق النووي بعد مرحلة الجيل الثاني أي جيل القنابل الالتحامية الى تفكير جهنمي من نوع جديد ، فتفتقت عبقرية الشر هذه المرة عن سلاح جديد يحافظ على الأشياء ويمحو الانسان من ظهر الأرض ، في مدى ساعات الى أيام ، بعد موت مرعب مليء بالمعاناة ، والسبب الذي دفع العلماء الى ابتكار هذا السلاح هو ظاهرة الغبار النووي المتساقط ( FALLOUT ) فبعد قنبلة هيروشيما ظهر التأثير الثالث للقنبلة النووية ، وبشكل غير متوقع ، فبدأ الناس يموتون على الرغم من عدم تعرضهم المباشر للدمار ، ولم يمكن تفسير هذه الظاهرة فوراً فالجنرالات كانوا مشغولين بنشوة الظفر وتأليه القوة ، وكان أول من سماها هو الدكتور الياباني ( ميشيهيكو هاشيا _ MISHIHIKO HASHIYA ) فأطلق عليها بحق ( مرض الأشعة ) عندما لاحظ على مرضاه الاسهال المدمى ونقص الكريات البيض وتحطم جهاز المناعة وانهيار الانسان والموت بعد ذلك (7)
يعتبر العالم ( سام كوهن _ SAM COHEN ) أحد الذين شقوا الطريق الى الجيل الثالث من السلاح النووي ، فالقنبلة النووية في العادة تولد ثلاث أنواع من الطاقة : الحرارة
والضغط والأشعة ، بنسبة مايزيد عن 50% ضغط ، ومايزيد عن 35% حرارة ، والباقي في صورة تدمير شعاعي ، فتم التلاعب في طريقة الانفجار ، بحيث يتم زحزحة الطاقة باتجاه توليد قدر أكبر من الأشعة المهلكة للانسجة الحية ، وهكذا فبدلاً من توليد الطاقة الشعاعية بنسبة 5% تقفز الى حوالي 30% وأكثر فتصبح القنبلة ذات آثار مهلكة بصورة شعاعية بالدرجة الأولى ، فيقتل الجنود في ساحات المعارك في دباباتهم وخلف دروعهم وهم لايشعرون ؟!! (8) ولذا فإن هذه القنبلة تناسب أماكن حشود الجنود والبشر لكنس الأرض منهم ، ووضع اليد على مخلفات الأجهزة والمعدات الحربية ، فهي أهم من اللحم الآدمي الرخيص .
حلقة الدمار المريعة لقنبلة النيوترون :
اذا سقطت قنبلةٌ نيوترونية فوق بقعة من الأرض وعلى ارتفاع 150 مائة وخمسين متراً ، تجلت آثارها على الشكل التالي : في قطر ( 120 ) مترا تعمل ( آلية الضغط ) أولاً فتتفتت المدرعات ويتبخر الناس ؟! وأما في مدى ( 400 ) اربعمائة متر فتتفجر البنايات المسلحة وتتطاير الى بقايا من أحجار وتراب وشظايا من الزجاج في الهواء !! وأما في حدود ( 700 ) سبعمائة متر فسوف يصاب الجنود داخل مدرعاتهم بالشلل الكامل ؛ فتتعطل ملكات القتال ، ليموتوا في مدى أربع وعشرين ساعة بشكل عذاب مرعب لايطاق ، وأما في مدى 900 متر فسيجتاحهم الشلل ليتلوه الموت بعد 2 _ 6 أيام ، وأما في حدود 1200 متر فسيكون مصيرهم الموت الجماعي بالانسمام الشعاعي ، وفي الكيلومترين الباقيين فسيموت الناس غير المحميين في حفلة مروعة من الموت الجماعي بالسم الشعاعي ، الذي لايرونه ولايحسون بهم فيأتيهم العذاب من حيث لايشعرون ؟!!
هوامش ومراجع :
(1) مجلة ( P . M ) العلمية الألمانية العدد التاسع _ عام 1992 م تاريخ 21 أغسطس _ ص ( 50 ) حيث ظهرت صورة العالم الفرنسي الذي أجرى أبحاثه (2) اندفع من الغابات فيروس قاتل جديد هو ألعن من فيروس الأيدز بمرات وأفردناه بمقالة خاصة في جريدة الرياض _ المقالة رقم 47 مما كتبت حتى الآن في الجريدة _ العدد 9845 تاريخ 24 محرم 1416 هـ الموافق 22 يونيو حزيران 1995 بعنوان ( الايبولا ) عصر الفيروسات القاتلة _ ويقتل هذا الفيروس المصابين به في مدى ساعات بانحلال دموي معمم ( 3 ) كتاب الحكماء الثلاثة _ سلسلة اقرأ _ رقم 123 _ الطبعة الثانية عام 1967م _ تأليف أحمد الشنتناوي _ دار المعارف بمصر _ ص 106 _ حيث جاء هذا المبدأ من أصل 12 مبدأ حصرت فيه الحكمة البوذية (4) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ تأليف جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي وعيسى طنوس _ ص 72و 74 ( 5 ) كانت مقالتي رقم 51 في جريدة الرياض بالتفصيل عن هذه الظاهرة _ مقالة الحريق الأعظم في هيروشيما _ عدد 9915 تاريخ 21 ربيع أول 1416هـ الموافق 17 أغسطس 1995 م ( 6 ) كما نرى في القنبلة النووية فقد مشت في ثلاثة أجيال : الأول الذي يقوم على مبدأ الانشطار من نوع قنبلة هيروشيما وناغازاكي ، حيث صنعت الأولى من مادة اليورانيوم 235 والثانية من مادة البلوتونيوم 239 ، والجيل الثاني : يقوم على مبدأ الالتحام بين ذرات الهيدرجين لانتاج مادة الهليوم ، وهي تقليد لما يحصل في الشمس من نار وطاقة ، وتحتاج هذه القنبلة الى عود ثقاب من قنبلة انشطارية لانتاجها ؟! وأما الجيل الثالث فهو استخدام أحد صور الطاقة ( الحرارة والضغط والأشعة ) وهي في قنبلة النيوترون الأشعة ، بحيث تكثف طاقة الأشعة فتتحول القنبلة في أعظم تأثيراتها الى الأثر المدمر للأشعة ( 7 ) نجا الدكتور المذكور من الموت بأعجوبة في الحريق الأعظم في هيروشيما ، بعد أن سقط منزله فوق رأسه ونزف من أربعين جرحاً في جسده ورأسه ، وعندما انطلق الى الشارع اكتشف نفسه عارياً فلم يترك الحريق عليه من ملابس ، يقول الدكتور هاشيا : كان منظر العري هذا متكرراً حيثما وقعت عيني على الكارثة فالضغط والحرارة والحرائق أحاطت بكل شيء ، بما فيها الملابس ولكن العورات مع الحرائق لم تعيد تميز الذكور من الأناث !! ( وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ) وفيما هو يعالج مرضاه بعد أن شفي أثارت فضوله هذه الظاهرة المحيرة كيف حدثت ؟ وماهو نوع السلاح الجديد المستخدم حيث لم يكن قد عُرف بعد أن السلاح النووي قد ألقي فوق رؤوس الناس ، حتى لم يكلف الناس انفسهم في تصوير هذه المشاهد الفلكية التي لن تتكرر بعد اليوم ، فقنبلة هيروشيما ألقيت مرة واحدة ولم تتكرر ، وكانت أحدى الكبر نذيرا للبشر ، وعندما لاحظ أن مرضاه بدأوا يتساقطون الى الموت خطر في باله أن سلاحاً بيولوجيا قد استخدم ، ولكن تكرر الظاهرة ودراستها التفصيلية كشفت عن أثر مدمر في التركيب الخلوي والجيني للانسان ربما يبقى ينخر الى ثلاثين جيلاً ( 8 ) مجلة العلم الأمريكية عن التسلح والأمن والمترجمة للالمانية ( RUESTUNG UND SICHERHEIT ) ( مجلة الطيف _ SPECTRUM ) بحث المدخل .
اقرأ المزيد