مقالات بقلم خالص جلبي

ما هو الصنم؟ (1)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
هل الصنم هو قطعة حجر أم هو فكرة؟ ولماذا أصر الأنبياء على مبدأ التوحيد؟ ثم ماهو التوحيد مقابل الصنم؟ ولماذا حدث ذلك النزاع في المجتمعات بين الوثنية وعبادة الله الواحد؟ وهل التوحيد هو موضوع نظري تيولوجي أم سياسي خطير؟ سوف نحاول تشريح هذه المشكلة العويصة؟   جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد: (يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني واياهم وكانوا قد اشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج اليهم فقالوا ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد اجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه» فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن). ان هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فان (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه أعيد إحياؤه مرة اخرى بدون اسم الخوارج. ان حركة (الطالبان) مثلا تورطت في هذا الموضوع حين هدمت تماثيل بوذا ظنا منها أن الوثنية قطعة حجر؟  كما يشبه (النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) في لعبة (مصارعة ثيران) يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها داعش وأضرابهم (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوما بالهجوم لكي يموت بعد ذلك امام جمهور يصفق بحرارة، وهي صورة تعالجها وسائل الاعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة، رغم المامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الاعلام الرأسمالي ان يذهب اليه قبل ان يعرف انه الدجال). ان من السهل ازعاج الاخرين ولا يحتاج كسر قلوب عشرين شخصا اكثر من عشرين اهانة في عشرين دقيقة. ولا حاجة لان تستعدي عليك العالم اكثر من التعرض لمقدساته ولكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع الى ربك انك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتنجتون) صاحب نظرية (صدام الحضارات) يفرك يديه الآن فرحا وهو يرى (الطالبان) يتطوعون بتنفيذ المهمة مجانا بصدم العالم الاسلامي بالبوذي. وفي الوقت الذي يعيش الطالبان وداعش وأمثالهم خارج احداثيات التاريخ والجغرافيا ولا يعرفون ما هي المعاصرة فان مجلة (در شبيجل) الألمانية تنقل لنا انهم ليسوا أول من سن هذه السنة السيئة، بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الاول قام فيه البروتستانت عام 1529 في سويسرا وهولندا والمانيا تحت شعار: ايها الصنم ان كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك، وان كنت بشراً فيجب ان تنزف دما بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر مدير المتحف التاريخي في (بيرن): هل كان ما فعلوه جنونا ام ارادة الله حقا؟ وختم كلامه (انه سؤال للضمير في اوربا المسيحية والعالم الاسلامي). والمهم ان اعظم التحف الاثرية في الشمال الاوربي تم نسفها نسفا بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس) ووصف تلك النزعة التدميرية: (بانها تشبه تدمير طروادة في العصر القديم). واما التدمير الثاني وكان أشد هولا واعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الإسبان حيث لا تعلم اوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنجلر) ما حدث بهذه الاسطر المأسوية: (فحضارة المايا لم تمت جوعا بل قتلت قتلا وهي في اوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس اذا ما قطع احد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية، وموارد اضخم بكثير من الدول الاغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي اعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وانظمة ادارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية لا يستطيع الغرب ان يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك... لم تندثر نتيجة لحرب يائسة بل جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار الا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن احد حتى الآن من قراءتها. اما أشد مظاهر هذه المأساة ايلاما للنفس وترويعا لها كون هذا التدمير الساحق الماحق جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا او انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها).
اقرأ المزيد
نهاية فرعون (2)
موسى الذي كان من العبيد. موسى الذي تلقيه أمه في اليم خوفا عليه من القتل. يتربى في قصر فرعون بعد أن تتشفع زوجته ويلقي الله في قلبها حبه. ثم يهرب إلى الصحراء فيتعلم خشونتها ويرعى الغنم والإبل. يعود صحراويا بعد أن كان من طبقة السادة في القصر الحاكم. تحدث بينه وبين فرعون مناقشة مثيرة. تدور حول نقطة واحدة أن فرعون بعد أن جاء جده من الجنوب وطرد الهكسوس اعتبر بنو إسرائيل الذين تكاثروا في هذه الفترة الممتدة ليسوا من الشعب المصري وهم عبيد يجب تطهير الأرض منهم، خاصة أنهم لايعبدون آمون ولا يعتقدون بأوزيس وأوزورويس ولا أنوبيس حامي العالم السفلي ولايرون في الإهرامات مفخرة لعبادة شخص، ولايرون أن الحاكم هو الله. هذه كلها يجب وضعها في الحساب. بل حتى ثورة أخناتون يجب فهمها من التأثر بهذه الرؤى الشرقية عن الله رب العالمين لاشريك له من اصنام بشرية وحية. فرعون هو الله الحي على الأرض، وهذه العقائد من التثليث ورفع البشر إلى مقام الله هي التي قال عنها القرآن يضاهؤون قول الذين من قبل حين قالوا أن المسيح هو الله وأن عزيرا هو ابن الله. فهذا التناقض العقدي وعدم التسامح أمام الاختلاف الفكري رأى الفراعنة أنهم يجب تحقيق الانسجام في المجتمع المصري بأسره طريقة ممكنة هي التطهير العرقي بالتخلص من بقايا يوسف. كما أشار إلى ذلك الرجل الذي اعترض على قتل موسى وسجل موقفه في سورة كاملة من القرآن وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا يقول ربي الله. ثم يتابع في خطبة طويلة تحتاج إلى تفكيك سيكولوجي اجتماعي أن يوسف جاءكم بالبينات حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يهلك الله كل متكبر جبار وكل مسرف كذاب. الخطة الفرعونية من أجل تطهير المجتمع من أي اختلاف تأسيسا لحكم شمولي كما في الممالك الشمولية على وجه الأرض من بورما وكوريا وسوريا وكوبا فالفروق كما نرى بين سوريا وكوريا هي حرف فقط فالسين للاستبداد والكاف للكفر. حفلة مرعبة قام بها فرعون وولد فيها موسى فنجا من المذبحة بطريقة مقلوبة تماما. قلت لزوجتي فهذه هي القصة باختصار عن مذبحة بني إسرائيل القديمة، ولماذا جاء موسى؟ وماكانت مهمته تحديدا من أجل إخراج شعب من قبضة العبودية إلى فضاء الحرية كما يحصل لشعوب كثيرة على وجه الأرض، ومنها الشعب السوري الذي اجتمعت عليه أحقاد التاريخ من قم وعبدان وهزارة أفغانستان ومرتزقة باكستان وجنود القوزاق من موسكو وأزبكستان. علقت زوجتي المغربية ولكن حين استرد المصريون على يد أحمس الأول مصر وهرب الهكسوس إلى الشمال لماذا لم يفر معهم بنو إسرائيل وهناك في الأفق احتمال أن يعتبرهم الفراعنة أنهم يمثلون الطابور الخامس للهكسوس، ومصطلح الطابور الخامس ولد مع الحرب الأهلية الإسبانية عن أولئك المنافقين الذي يتظاهرون بالتقوى وهم يتعاونون مع المحتل الخارجي أو القوى الاستبدادية كما هو الحال في سوريا من الشبيحة والبلطجية والزعران والحرافيش. السؤال حين رأى بنو إسرائيل الخطر يحدق بمستقبلهم لماذا لم يفروا إلى الشمال ويرجعوا إلى الأرض التي خرج منها أجدادهم كما سيفعل موسى بهم لاحقا؟ لماذا ؟ لماذا؟ ألم يكن من بينهم عقلاء أو من يرى سحب المستقبل القاتمة؟ الجواب هو مايحصل مع الكثير من أفراد وجماعات بتعبير القرآن: أثاقلتم إلى الأرض. أذكر من فيلم الهلوكوست أن النازيين كانوا يسوقون اليهود إلى الإعدامات والمقابر الجماعية وهم مازالوا على أمل أنه ولو بمقدار نانو جرام من الأمل أن يرحموا فلا يقتلوا؛ وطبعا هذا يذكر بالمقولة التي نقلت في السيرة عن حيي بن الخطاب، وهو يقول لمن حوله من اليهود في واقعة غدر بني قريظة أفي كل موطن لاتعقلون. أثاقلتم إلى الأرض تحدث على مستوى الأفراد والجماعات. بنو إسرائيل طابت لهم حياة مصر يأكلون من بقلها وبصلها وقثائها وثومعا وعدسها وبصله، بل إن رائحة الثوم والبصل بقيت في مناخرهم وهم يعبرون البحر إلى أرض الحرية ياموسى ادع لنا يخرج لنا من بصلها وثومها وعدسها وبصلها فيجيبهم اهبطوا مصرا فإن لكم ماسألتم وضربتم عليهم الذلة والمسكنة. كانوا شعبا قد تروض على العبودية ضمرت عنده الأجهزة النفسية ولم يعد صالحا للمهام التاريخية، وكان على موسى الأولى أن يدفنهم في الصحراء، في عملية استنساخ ليخرج من أصلابهم من يتحمل المسئولية ويؤدي المهمة، ويبحث عن رجل صالح على شاطيء البحر عسى أن يفهم الجديد من أسرار الحياة. يعلق رسول الرحمة ص على مواقف الأنبياء: يعلق على موسى: لو صبر لأخذنا مزيدا من الدروس. وعلى لوط وهو يصرخ بالمثليين المتراكمين من حوله اتقوا الله ولاتخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ يطلبون منه أن يسلمهم الضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة: يصرخ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ يعلق رسول الرحمة ص على موقفه لقد كان يأوي إلى ركن شديد: الله. لانعرف أيضا ماموقفه من يونس وهو يخرج مغاضبا يظن أن لن يقدر عليه، ونوح وهو يدعو أن لايترك على الأرض من الكافرين ديارا.
اقرأ المزيد
نهاية فرعون (1) 
كما كان اللقاء مخزيا لفرعون بالمباراة مع السحرة، كذلك كانت نهايته مثل أي طاغية. مع هذا فعلينا الاستدراك قليلا فهناك من الطغاة من انتهوا على الخازوق مثل القذافي، أوبالشنق مثل صدام، أو ضربا بالرصاص مثل شاوسسكو، أو بالاغتيال كما في السادات، وبالمقابل قد يموت على عربة حربية كما في الأسد الوحش الأب، أو مسيرة ملايين في جنازته مثل عبد الناصر الفاشل الأعظم في تاريخ العرب. وهناك نماذج مختلفة بين بين.  نحن نعرف أن شاوسيسكو كان في ضيافة ملالي أيرام قبل إعدامه بأربعة أيام ولما أخبروه أن أوربا الشرقية تتهاوى! قال نعم ولكن رومانيا شيء مختلف، وحين تتحول أشجار الصفصاف إلى أشجار تين يمكن أن يحدث في رومانيا ماحدث في بقية بلدان أوربا التي تتهاوي فيها العروش. والرجل كان معتمدا على مائة ألف من عناصر المخابرات (السيكوريتات) بأنفاق سرية تحت الأرض في العاصمة مجهزين بأفضل الأسلحة، وما حدث أنه أمر السيكوريتات بأن يجتمع الناس كما أمر فرعون من قبل بتعبير (وأن يشهد الناس لعلهم يتبعوا السحرة إن كانوا هم الغالبين). ومن أعجب ماحدث ورأيناه في تصوير حي مباشر أن الأطفال بدأوا يطلقون الصفير وأقبح الأصوات من الفم (السوريون يسمونها تعفيط) فانهدمت هيبته وهجمت الجماهير مثل الطوفان فما كان منه إلا أن فر بطائرة هيليكوبتر مجهزة ليوم الزلزلة ولكن تم لحاقه وإلقاء القبض عليه وزوجته إيلينا (كانت مغرمة بجمع شهادات الدكتوراة المزيفة من المعسكر الشرقي) وبمحاكمة سريعة تم قطع رأس الإفعى؟ وعلى العكس قد يموت صالحون بيد فاسدين كما في إعدام رئيس الجماعة الإسلامية في بنجلادش بأوامر امريكية لقيادة فاسدة، أو قتل مالكولكم أكس بيد أتباعه، أو حسن البنا بيد الملك فاروق أو غاندي بطلقة غادرة من هندوسي متعصب، أو مارتن لوثر كينج بطلقة السلامي في أمريكا من حاقد ومتآمر، وهذا يفتح الباب على أن الدنيا فيها ظلم وظلمات، وأن الآخرة هي دار لاظلم اليوم؛ فليطمئن المؤمنون. فتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا  في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. كان الموقف مزلزلا في إيمان السحرة، وهو أمر يحتاج إلى تفكيك نفسي عن انقلاب موقف الإنسان بل تغير موقف مجموعة من المتخصصين في إرهاب الناس كما قال القرآن: فاسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. بل حتى موسى أصابه ذلك الخوف الداخلي حين رأى العصي والحبال تتحول إلى أفاعي تقفز هنا وهناك في وجه القوم. تاملوا التعبير (فأوجس في نفسه خيفة موسى) هنا جاءته شحنة روحية: لاتخف إنك أنت الأعلى. وفي المباراة تحدوا وقالوا ياموسى مارأيك هل تبدأ أنت أم نحن؟ كان التوجيه دعهم يجربوا حظهم فمن يضحك أخيرا يضحك كثيرا. حين ألقوا حبالهم وعصيهم نظروا إلى فرعون ضاحكين وقالوا بعزة فرعون نحن الغالبون. من الملفت للنظر أيضا أنهم قبل اللعبة أسروا النجوى وبدأوا يهمسون لبعضهم مارأيكم فيما يحدث. بالطبع بينهم عقلاء وبينهم جواسيس فرعون من يحرض ويخبر ويعطي المال؛ فحين حضورهم طلبوا المال. قال لهم فرعون المال مضمون هناك ما هو أهم النفوذ. قالوا إئنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟ قال نعم وإنكم لمن المقربين. ربما تلقي هذه الفقرة الضوء أيضا على سحرة الفراعنة في كل عهد؛ فمثلا مايسمى علماء الدين، ووعاظ السلاطين، وفقهاء العصر، ومفاتي الجمهوريات، ومشايخ المحميات، هم أيضا سحرة العصر الجديد، وموظفون في معظمهم، مأجورين بالراتب والهدية والأعطية السلطانية، وحين يقف الحسونة والبوطي وكفتارو بجنب الطاغية فهم سحرة العصر الجديد الذين يتمتعون بالامتيازات والنفوذ. كنت في حلب حين روى لي ساحر من هؤلاء، أنه يتصل بالمخابرات و(المعلم = رئيس الفرع) ويرتب ترويض خطباء المساجد أن يكونوا عناصر مباشرة وغير مباشرة لنظام الطاغية. من الغريب في سحرة فرعون الذين كانوا في الخدمة كيف انقلب السحر على الساحر، وأعلن السحرة إيمانهم على رؤوس الأشهاد، وحين هددهم فرعون بأشنع أنواع القتل؛ قالوا اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا برنا ليغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى. هنا نحن أمام ظاهرة تستحق الوقوف أمامها، في انقلاب سريع ونوعي لموقف الإنسان، وأن لانزهد ولانيأس قط من انقلاب أي إنسان حين يواجه الحق أن يتحول إلى جانب الحق، وأن الإيمان أقوى من السحر وغلاب. وحين هرب موسى ومن معه لم يتجه صوب الساحل في الطريق الأقرب والأسهل ولكن باتجاه البحيرات الشرقية وصحراء سيناء شرق فرع الدلتا الدمياط. كانت هذه البحيرات التي يتوقعها الباحثون قبل الدخول إلى سيناء. وهي أول ماعبرها موسى بقومه، ولسوف يأتي اليوم الذي تحدد فيه رحلة العبور تماما، والطريق الفعلي الذي سلكه موسى القائد الرائع إلى أرض الحرية. وحين غرق فرعون فالجثة بقيت أياما في الماء فلا بد من أثر. وحسب (موريس بوكاي) الفرنساوي الذي أعلن إسلامه، يقول أنه درس جثة رمسيس الثاني وقاده بحثه إلى أنه هلك في الماء قبل أن يحنط. وقرأت البحث أنا شخصيا متأملا وكتابه عندي وبحثه عن الكتب المقدسة، ولكن أظن أن البحث يحتاج إلى المزيد من التتبعات، ولكن نهاية فرعون درس لكل فراعنة العالم، ولكن يبدو أن لافائدة فكل فرعون يظن أنه مختلف عن غيره. لقد خصص رب العزة بوابة خاصة في جهنم، لهؤلاء من الزعماء المؤلهين الكذابين؛ فوصف جهنم أن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم.  
اقرأ المزيد
ورطة التسلح في الثورات
جاءتني هذه الرسالة من أخ فاضل في مونتريال كندا وهو من أفضل من اجتمعنا بهم في المهجر من مثقف مميز يشتغل على أبحاث في غاية الأهمية هي ماذا جرى بعد ابن خلدون؟ هل كانت رحلة التيتانيك إلى القاع أم أن الأمة كانت في رحلة صعود وهبوط وثمة لحظات متألقة في تاريخنا.  قال الرجل في رسالته: دكتور خالص أرجو أن تكون بخير وعافية في هذا الجو القاسي. لدي سؤال لحضرتك، أطال الله بعمركم ومتعكم بالصحة والعافية. ما هو الدافع الأساسي للإنسان للحياة؟ لماذا تكتب؟ لمن؟ وماذا تتأمل من ذلك؟ صراحة بعد المقتلة السورية لمدة عشر سنوات وجدت أن لا شيء تغير، لا في التفكير ولا في السلوك، ولا كأن شيئا قد حدث، كل كتابات الإصلاح والتغيير لم تنفع، ونصف قرن من كتابة حضرتك والشيخ جودت حول اللاعنف سقطت أمام أول رصاصة، لماذا نستمر في الكتابة والصراخ في هذه الصحراء؟ شاهدت فيلم همنغواي وهو يتحدث عن مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية، وكيف دُحرت القوات الديموقراطية والمتطوعين لنصرة الشعب الأسباني، وكيف انتصرت الفاشية، وأمسك فرانكو الحكم عاضا بأسنانه عليه، ودام هذا الوضع قريبا من أربعة عقود. دامت الحرب الأهلية الأسبانية ثلاث سنين (1936 ـ 1939) ومات فيها قريب من مليون إنسان، وجربت فيها أسلحة الحرب العالمية القادمة ولكن فرانكو بعد أن ذاق ماذاق من مرارة الحرب الأهلية لم يبق عنده متسع لا هو ولا أسبانيا لحرب جديدة ولذا اعتزل وبقي على الحياد في الحرب الكونية اللاحقة وكان عقلا منه وحكمة وهو العتل الزنيم. وماحصل في سوريا كان أطول من الحرب الكونية وهلك من الناس نسبة ومقدارا أكثر مما هلك من الأمم في الحرب الكونية، وهو يشهد سواء لأسبانيا أو سوريا أو الصومال ورواندا عن عبثية الحرب الأهلية وفظاعتها. وهكذا فالزمن يتدفق، والأقدار تتشكل، وفي النهاية يذهب الجفاء، وماينفع الناس يمكث في الأرض ويستمر خيرا وأبقى، ويذهب الطغاة إلى اللعنة وسوء الدار. وحاليا تتمتع أسبانيا بالديموقراطية ولاتذكر فرانكو إلا كما يذكر الطفل أيامه وهو يوسخ على نفسه، فيضحك أو يبكي سواء؛ فهي ضريبة عدم نضج الأمم، وفي القرآن قانون صارم أن الأمم تؤخذ بالعذاب فإما رجعت وأصلحت، وإما زيد من جرعة العذاب. فإن أصرت على نفس الخطأ هلكت، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. هذا القانون يتكرر في أكثر من موضع: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الكبر لعلهم يرجعون. روى لي صديقي سفيان في مدريد كيف أن بعض أفراد المعارضة بقي متخفيا أربعين سنة تحت الأرض خوفا من بطش الطاغية فرانكو. الوضع في سوريا يذكر بعملية المحافظة على فرانكو مع الفارق. أو حتى المحافظة على النازية (البعثية العبثية) وهتلر سوريا. أتذكر حينما دخلت ألمانيا للتخصص الطبي وللمرة الأولى والأخيرة رأيت (الشيف) رئيس القسم الجراحي (كارل توما) وكان عنصريا بغيصا رأيته فرحا بموت الطاغية فرانكو، وكان ذلك عام 1975م. أنا شخصيا زرت أسبانيا لاحقا وقد تحررتْ من الطاغية ووطأت بقدمي مكان قبره ومساعده الأيمن من الجبارين. ومن أعجب ما رأيت أن هذا الطاغية سخّر المعتقلين السياسيين لبناء أعلى صليب في العالم دليلا على تقواه وورعه. قصته تذكر بقصة مسجد الضرار الموجودة في آخر سورة التوبة حين يسخر المقدس لخدمة الحقارة. كان المسجد موطئا للتآمر فجاء نبي الرحمة فهدم المسجد على رؤوس الخونة ومزق ستار التقوى. هذا التلاعب بالمقدس يتكرر في أشكال شتى عبر التاريخ، ولعل رفع المصاحف على رؤوس الرماح كانت أفظع لعبة في تاريخنا، ومن جاء بها لم يكن أنزه الطرفين، وكانت النهاية من نتائج معركة صفين مدمرة حين أفرزت ثلاث اتجاهات شتى، كل يدعي وصلا بالحق المطلق، بين فريق انتهازي يؤمن بحكم القبيلة، وثاني يؤمن بحق العائلة المقدس، وثالث يرسم خطوط التاريخ بالدم، ومازال يتناسل وداعش هي نسخة مكررة عن هذا الفريق الثالث. كانت الكنيسة مع فرانكو في هذا المسعى لترسيخ العبودية، شاهدا على فعل الأديان المزيفة مع الشعوب المسحوقة. كانت الثورة ديموقرطية بانتخابات حرة وبطعم يساري واضح، وتجند الشيوعيون أيضا يومها لنصرتها منهم جماعة ستالين فاسأوا للثورة أكثر من نصرتها. نفس السيناريو حصل مع تسلح الثورة السورية وانزلاقها إلى الحرب الأهلية فتحولت الأرض السورية إلى ساحة حرب بين فصائل شتى، والتاريخ علمنا أن من تسلح احتاج إلى التمويل وتعني دولا تمنح مقابل أجندات معينة، وبذلك يموت الشهداء، وتسرق الثورات، وتسبح الأمم في الظلمات حتى حين. وهو السر خلف تحذير أرسطو قبل 2000 عاما من الثورات. ونقرأ أيضا في كتاب الكواكبي عن الشروط الثلاثية للتخلص من الطغيان من التدرج والسلمية وأن من انخرط في الفتنة يستبعد من التغيير الجديد. بيكاسو الرسام المشهور خلد لوحة غورنيكا حيث مسحت الطائرات الألمانية المدينة من علو، في التحام شيطاني بين فرانكو وهتلر الصاعد يومها، حين وقعت تفاحة السلطة في ألمانيا في يد الحزب الاشتراكي الوطني الألماني ماعرف لاحقا بالنازي (Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei)‏ NSDAP).). بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية نلاحظ سخرية الأقدار بالمحافظة على فرانكو سوريا وإعادة تصنيعه مع قتل مليون من الأنام وتشريد خمسة عشر مليونا. أو كأننا أمام دمار ألمانيا والمحافظة على هتلر على رأس النظام النازي. هل سيشهد الشعب السوري مأساة فرانكو لمدة ثلاثين أو أربعين سنة قادمة؟ قناعتي العميقة أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية، وكما حصل لأسبانيا وغيرها من التخلص من الديكتاتوريات المقيتة إلى مزابل التاريخ مع اللعنة وسوء الدار فستكون العاقبة في النهاية للتقوى. وحاليا تنعم أسبانيا بالديموقراطية وتبادل السلطة السلمي، بل ومحاكمة الملك السابق بتهمة الفساد. مع أن الملك السابق هو الذي أجهض محاولة ضباط اشرار من جماعة فرانكو حين اقتحموا البرلمان الأسباني المنتخب بالغدارات والرصاص. وهو ماسيكون في سوريا المستقبلية، بل وسنشهد أفول الأصوليات في المنطقة بعد تجربتها الضارة سواء السنية أم الشيعية وآخر من شكله أزواج.  
اقرأ المزيد
تيتانيك رقم 2
نحن نعرف عن الكثير من الكوارث خاصة تيتانيك التي مثلت فيلما. لكن سفينة تضم أضعاف غرق التيتانيك من الألمان الهاربين من الشرق يقترب عددهم من تسعة إنسان أغرقهم طوربيد روسي في ظروف الحرب العالمية الثانية. وأما كارثة الهاربين السوريين إلى النمسا بشاحنة مغلقة ليختنقوا فهي واحدة من العشرات، وشقيق صهري هرب إلى السويد في ملحمة رائعة اجتاز فيها حدود 14 دولة قبل أن يستقر مع الدببة في الشمال الأوربي الصقيع كله هربا من  طاغية دمشق. وقصص الهاربين من الشمال الأفريقي تتكرر كل يوم بحثا عن حياة أفضل، فالبشر يتناسلون ويحتاجون صحة وتعليم ووظائف وبيوت فيها يسكنون. ولكن الشفارة (لصوص العالم العربي) هم أقرب للجراد الذي يأكل الأخضر واليابس فلم يبق مواطن ومواطنة بل لصوص وهاربون. ومن القصص الأليمة التي وقعت تحت يدي فأحببت نقلها إلى القراء هي ما أطلقت عليه تيتانيك رقم 2 وهي مما روته الدكتورة كريستينا كاتانيو (Cristina Cattaneo) من قسم الطب الشرعي، في (جامعة مايلاند) في جزيرة صقلية، قرب مدينة ميليلي (Melilli) التي انهمكت ولمدة 12 ساعة، في تحري الجثث أمامها لتحديد أصحابها؟ هذه التوابيت والأجساد النخرة تعود لأكبر كارثة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية. حيث غرق زورق يحمل المناكيد الهاربين من أفريقيا نحو الجنة المزعومة في أوربا. الكارثة التي حملت إلى أعماق المياه الباردة وبطن سمك القرش أخذت أرواح أكثر من 800 إنسان مسكين فقير لم يسأل عنهم أحد إلا أهلوهم، التي دفعت الحكومة الإيطالية بعد مرور عام على الكارثة في رصد ميزانية لانتشال الزورق والجثث، أو ماتبقى منها لمعرفة أصحابها. عبد الله صديقي من (مركز أحد أولاد أزباير) في المغرب الأقصى قرب مدينة تازة في أقصى الشرق المغربي قال عن صديق له أنه أرسل آخر صورة له (فيديو مسجل) قبل أن يأخذه اليم وهو مليم، ولكن الكثرة الكاثرة من الضحايا لم يسعفهم حظهم وجيبهم، في اعتلاء متن الزورق بل زربوا زربا في بطن القارب، الذي ليس فيه مكان للحيوانات فضلا عن أناسي كثيرة. بدأت الرحلة التعيسة من شاطيء ليبيا مع نسمات السحر حيث شحن المقرودين على ظهر قوارب مطاطية بالمئات إلى عرض البحر على بعد 8 كم تحت الحراسة المشددة من مهربين ملثمين مسلحين حتى الأنياب. وانطلقت الرحلة اللامباركة والقوم يحلمون أنهم في ساعات سيكونون في أرض القياصرة، ولم يعلموا أن مصيرهم سيكون في بطن الحوت. بعد 13 ساعة من الإبحار حل الظلام وليس ثمة بصيص أمل في الأفق، ولا منظر اليابسة (تيرا .. تيرا) فأطلق اثنان من المهربين صرخة انقذوا ارواحنا (SOS) فأرسلت البحرية الإيطالية خلف من هو الأقرب لهم، ولم يكن ثمة إلا شاحنة كبيرة (147م) باسم الملك يعقوب؟ بعد ساعتين ظهر زورق اللاجئين على الرادار، ولكن ثمة حركة خاطئة في انتظار التعساء. فما الذي جرى؟ قال من نجا ورأى سكرات الموت أن الزورق عجل بحركته إلى الشاحنة الكبيرة فارتطم؛ فكان لهول الصدمة صداها وهزتها عند الركاب المحمولين بالكاد؛ فأصيبوا بالهلع فهربوا من مكان الارتطام بالمئات إلى الطرف المقابل، وإذ لم يكن ثمة توازن في قارب تهريب من هذا النوع؛ فقد مال، وأصابه ما أصاب التيتانيك فمال وهوى إلى القاع في خمسة دقائق. هنا وفي زحمة الهول كان المئات قد زربوا في القاع؛ فلم يكن ثمة نجاة، وأما من كان على السطح فرمى بنفسه فهلك 24 وسبح 28 فنجوا، أما بقية القوم فقد أصبحوا في عمق 370 مترا يحوم حولهم سمك القرش الصاخب الشاره. وهناك حيال ساحل ليبيا على بعد 135 كم كانت المقبرة الأولى فمستقر ومستودع. أنفقت الحكومة الإيطالية 9,5 مليون يورو لانتشال الزورق، بواسطة روبوت الأعماق بيجاسو (Pegaso) بعد أن حقن بمادة النشادر حتى تبرد الجثث بدرجة 5 فلا تزكم رائحتها الأنوف، وجاءت طبيبة التدقيق الشرعي (كاتانيو) ولمدة 12 يوما وليلة، وهي تقلب في الجثث، ذات اليمين والشمال، هل من رسم على الجلد؟ هل من بصمة؟ هل من ندبة؟ هل ثمة مايدل على صاحبها قبل المثوى الأخير؟. وتتوقع الطبيبة في الطب الشرعي الانتهاء من تعيين هويات الموتى مع الوقت؟. وللعلم فإن جزيرة صقلية حوت من القبور المجهولة الكثير ربما مذكرة بحملة هانيبال وتمرد سبارتاكوس أو ربما العراب الحديث ؟ وتقول الانثروبولوجية جيورجيا ميرتو (Giorgia Mirto) و سيمون روبينز (Simon Robins) من جامعة يورك (بريطانيا) إنه أمر لايليق بهؤلاء المساكين القاصدين الأرض الأوربية أن يدلفوا إلى مستودعات النسيان، بل لابد من وضع بنك معلومات حول هؤلاء الفارين؛ فهم ليسوا وحدهم بل ضاع في غمرات الموج عشرات الآلاف في البحر المتوسط، بين عام 2014 واليوم، لم يتم التعرف على هويات أصحابها إلا الثلث، ولقد أحصي غرق 1229 شخصا فقط في أسبوع  واحد. وكل هذه المأساة خلفها الحكومات الديكتاتورية وسكوت الغرب عليهم لمصالح يجنونها! لقد مثل فيلم وفيلم حول غرق التيتانيك لأنها تمت بصلة إلى الجنس الأبيض والطبقة الارستقراطية، أما الأفارقة الفقراء فلا باكي لهم.
اقرأ المزيد
التاريخ كمفتاح لفهم الطبيعة البشرية (1) 
سافر صديق لي قبل فترة وترك قطته عندنا في البيت، وكنت أعلم أن هذا القط أخذ من أمه ولم يكن زاد عمره عن أيام وعاش منذ ذلك الوقت مع البشر لكنه كان قطاً مثل باقي القطط، يأكل مثلهم ينظف نفسه مثلهم ويطارد الحشرات ويحاول ملاحقة الطيور، ولو وجد فأراً لا نقض عليه مثل أي قط آخر؛ فالقط المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن تتفاوت طبيعتهم، والقط لا يخسر طبيعته عندما يعيش لوحده بمعزل عن قطط أخرى؛ في حين أن الإنسان المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن يتشابها في التصرفات أو النظرة إلى الأمور، والطفل البشري لا يتعلم الإنسانية إلا بمعاشرته لأناس آخرين. لماذا أتحدث عن الفرق بين الإنسان والقطط أو الإنسان والحيان عموماً؟ الكل يتفق على أن هناك فرقاً بين الإنسان والكائنات الأخرى، لكن النقطة التي تبقى موضع الجدل هو كيفية أو آلية الفهم بين الحيوان والإنسان؟ ولندخل في الموضوع مباشرة فلكي نفهم الحيوان نحتاج لمعرفة بيولوجيا الحيوان، ولكن لفهم الإنسان لا تكفي الخريطة البيولوجية. ربما تساعدنا البيولوجيا لفهم وظائف الأعضاء كي نتمكن من معالجة الأمراض، ولكن البيولوجيا تساهم بشكل جزئي وبسيط في فهم الإنسان في جانبه الثقافي والاجتماعي. فحتى نفهم الإنسان نحتاج إلى معرفة التاريخ؛ فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عنده تاريخ، فالقطط والنمل والنحل لا تتمتع بميزة امتلاكها التاريخ؛ فهذه المخلوقات لها غرائز تمشي عليها منذ ملايين السنين على وتيرة واحدة ونظم منسق، لا تعرف التحويل والتبديل، وربما كانت مجتمعات النمل والنحل متجانسة وذات إنتاجية أفضل بكثير من المجتمع الإنساني؛ إلا أنه مجتمع راكد ساكن بدون تطور عبر التاريخ؛ في حين أن الإنسان عاش في الكهف قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده، ونفس المخلوق وصل إلى القمر قبل عدة سنوات؛ فالحيوانات تعيش بغرائزها وكأنها قطار على سكة الحديد لا يحيد، في حين أن الإنسان يخرج عن هذه السكة فيقفز منها ويطير عنها؛ فالمخلوق الذي يمشي على خط مرسوم له، ليس كالمخلوق الذي يشارك في صنع خطة، وهذه المشاركة هي أمانة الإنسان الكبرى التي أشار إليها القرآن؛ فالنمل والنحل والجبال والرياح اختارت أن لا تحمل هذا الثقل؛ فكل المخلوقات عدا الإنسان شاءت أن تسير وفق الخطة التي رسمت لها في الطبيعة، في حين أن الإنسان اختار أن يحمل أمانة ومسؤولية المشاركة في صنع خطته (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). التاريخ هو انعكاس لمحاولة الإنسان وهو يحمل الأمانة الثقيلة فيقع تارة وينهض أخرى، ينتعش أحياناً ويعاني أخرى؛ ففهم الإنسان يحتاج إلى معرفة مسيرة تاريخه المعقدة والمتشعبة وإن كانت حديثة العهد نسبياً. لماذا اعتبر هذا الموضوع جديراً بالبحث والاهتمام به؟ لأنه أن لم تعرف بعض الركائز التي يجب الوقوف عليها فلن نستطيع أن نفهم الإنسان بل ولن نقترب في كيفية فهمه، وبالتالي فلن نستطيع المساهمة في حل مشاكلنا كمجتمعات وأفراد، وهذا بالتالي معناه أننا مازلنا ظالمين لأنفسنا في اختيارنا لحمل هذه الأمانة الثقيلة. والآن مالفرق بين البيولوجيا والتاريخ...بين البشر والإنسان؟  ناقش المفكر الإسلامي علي شريعتي الفرق بين مصطلحي بشر وإنسان فالبشر (كينونة) أما الإنسان فهو (صيرورة) فقال أن جميع الناس متساوون في بشريتهم أي في كونهم من جنس البشر ولكنه ليسوا متساوين في الإنسانية لأن الإنسانية هي حالة من (الوعي) ولا تدل على جنس المخلوقات فالكل يولد بشراً ولكن (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) أي لا تعلمون الإنسانية فالبشرية بيولوجية وتولد معنا ولكن يجب أن نتعلم الإنسانية وهي مرتبطة بالحياة في مجتمع فالطفل الذي لا يرى أناساً آخرين ويعيش معهم لا يدخل الإنسانية ولتوضيح هذه النقطة سأروي لكم عن قصة (أفيرون الوحشي) هذا الطفل المسكين الذي كان بشراً ولكن لم يعرف الإنسانية ففي بدايات القرن العشرين وجد بعض الناس طفلاً في إحدى غابات فرنسا في حوالي الثانية عشرة من عمره ويبدو أن هذا الطفل ألقي أو ضاع في الغابة وعاش مع الحيوانات ووجد فيه العلماء ثروة علمية لا تقد فأرادوا دراسته ومراقبة قدرته على تعلم الأشياء كان الطفل يمشي على أربع ولم يكن يعرف الكلام وبعد جهود مكثفة انتصب قليلاً ولكنه لم يستطيع تعلم اللغة بل تعلم بعض الأصوات ولم يلبث أن توفي بعد أسابيع قليلة فيبدوا أن صدمة خروجه من محيطه قضت عليه فهو لم يعد في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع الدخول في المحيط الجديد هذا الطفل كان أشبه ما يكون بالحيوانات فنحن نقول هذا لأننا لا نرى فيه صفات إنسانية ولو نطقت الحيوانات لقالت هذا أسوأ من الحيوانات فهو لا يعرف كيف يأكل أو ينظف نفسه أو يدافع عن كيانه أما الحيوانات والحشرات فهي تعرف كيف تتصرف أينما عاشت أو ولدت وربما يتساءل البعض إذن ما هي الطبيعة البشرية؟
اقرأ المزيد
الحنين الفلسفي الى الخلود 
بنيت الأهرامات لغرض الخلود، وتم ترقية تقنية التحنيط من أجل الخلود، وليس من خالد، وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، ولكن الشيطان دخل إلى آدم من هذا المدخل بإغرائه بالخلود، وهذه القصة مكررة في كل الثقافات حتى أيامنا الحالية. كما أعلنت مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 16/ 2017 عن قهر الموت بالتقنية الحديثة، ومن هذه البوابة تقول الأساطير اليونانية أن الساحرة (سيرسا CERCA) أقنعت مجمع آلهة الأوليمب بمنح الخلود لـ (أوديسوس ODESIUS) الضائع عبر البحار والقفار، في رحلة العودة بعد اجتياح طروادة وتدميرها وحرقها بالنار ونهب تماثيل الآلهة الذهبية، بعيداً عن زوجته الحبيبة (بينلوبي PENOLOPY) كي يسقط في أحضان الساحرة الماكرة، وتصور ملحمة ( جلجاميش) من الألف الثالثة قبل الميلاد رحلته الى أرض (أتنابشتيم) البعيدة، يحضر منها زهرة اللوتس، كي تهب الخلود لصديقه (انكيدو) ولكن الحية في رحلة العودة تبتلعها، ولا ينجو جلجاميش من الموت، كما لا يعبر انكيدو الى الخلود، في جو حزين، من حيرة الإنسان أمام صدمة الموت؟ يجلس جلجاميش فيبكي وتجري الدموع على خديه ويستعيد كلمات (أتنابشتيم): (ليس هناك خلود. هل نبني البيوت لتبقى الى الأبد؟ هل يستمر فيضان الأنهار؟ ليس هناك خلود من قديم الزمان. النائمون والموتى كم يشبهون بعضهم.. أي جلجاميش إلى أين تتعجل المسير؟ إنك لن تجد أبداً تلك الحياة التي تبحث عنها؟‍! عندما خلق الإله الإنسان جعل الموت من نصيبه، ولكنه أبقى الحياة في حوزته، أما أنت يا جلجاميش فاملآ بطنك بأطايب الطعام. امرح وابتهج نهاراً وليلاً. البس الجديد واغتسل بالماء، داعب الطفل الصغير الذي يمسك بيدك، واجعل زوجتك سعيدة في أحضانك، فهذا كله أيضاً من نصيب الإنسان). أمام هذه الظاهرة العصية تقف البيولوجيا والتاريخ والفيزياء تنظر المسألة من ثلاث زوايا. البيولوجيا تحاول التمرد على الموت بظاهرة السرطان؛ فيموت الإنسان وتبقى خلاياه المتسرطنة تتكاثر بجنون لا يعرف التوقف. وحاول الفراعنة بناء جبال مروعة من الأحجار المرصوصة تتحدى الزمن، عسى أن يتحرروا من قبضة الفناء الى عتبة الخلود، وقربت الفيزياء بواسطة النسبية بشقيها (الخاصة والعامة) فكرة الخلود، عن طريق سرعة الضوء والكتلة الكبيرة؛ فإذا قارب الإنسان سرعة الضوء توقف الزمن، وإذا استوى على مسطح عرضه السموات والأرض توقف الزمن، في تأطير غير مباشر لفكرة الخلود والاقتراب منها، كما أن القرآن أشار الى امتداد العمر في نموذجين: نوح الذي عاش تسعة قرون ونصف؛ ألف سنة إلا خمسين عاما، هذا في الدعوة، ولكنه لبث في قومه أكثر، ولا نعرف كم عمَّر الرجل بعد جزر الطوفانً، وابتلاع الأرض الماء، وإقلاع السماء بمائها المنهمر. كذلك نموذج مجموعة الشباب الذي هربوا الى كهف قصي تضمهم فجوة منه، في نجاة من مجتمع مشرك أحادي الرؤية، يقتل كل إمكانيةِ تفتحٍ للإنسان، تهرب منه حتى الكلاب (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) تجاوزوا في رقدتهم الثلاثة قرون، بطريقة التبريد  KRYO   من خلال قوانين فيزيائية كونية وبيولوجية (التقليب وعدم التعرض للضوء). في داخل كل واحد منا حنين فلسفي الى فكرة الخلود، ما جعل الأميرة (صوفيا شارلوتنبرج SOPHIA CHRLOTENBURG) تُسِرُّ لفيلسوف التنوير (لايبنيتس LEIBNITZ) أثناء حوارات فلسفية عميقة، أنها تنتظر الموت كتجربة تغنيها في فهمها لمعنى الوجود وتنضم الى مكونات الشخصية، وتبقى الذاكرة الأخيرة، والتجربة النهائية، التي تنضم للتجارب والذكريات بدون عودة منها. إنها تتلهف على الموت؛ فهو سيبوح لها بالكثير من الأسرار، ويحل لها كثيراً من الاستعصاءات العقلية، والعقد غير المفهومة، من أسرار التاريخ، وألغاز العلم، التي لم يوفق الفيلسوف في حلها؟ رحلة الموت عندها تبقى شيقة جديرة بالإثارة، لما تتوقع فيه من كشف الغطاء فبصر الإنسان يومها حديد. هكذا كانت تسر لي زوجتي ليلى سعيد رحمها الله بنفس المعاني، أن أشياء كثيرة من أسرار التاريخ سوف تراها واضحة بعد الموت؟ وتقوم البيولوجيا حالياً بإثارة ضرب من الخيال مثير من خلال عالم (الشهادة) بإمكانية مد اليد الى أحد أسرار الخلية، ودفعها الى الشباب المتجدد، والعمر المديد، والصحة الوافرة، راهن عليها مليونير البترول من تكساس (ميللر كوارليز MILLER QUARLES) فدفع بسخاء مائة ألف دولار لتشجيع أبحاث شركة (جيرون GERON) في إنتاج هذا الترياق الجديد لتجديد نبع شبابٍ دائم لا يعرف النفاد. هذا الاتجاه في البحث يخدم في كسر التحديات الأربعة : الألم ـ المرض ـ الشيخوخة ـ الموت. إنها  أربع تحديات رسمت نفسها أمام الإنسان في التاريخ: الألم مع المرض والضعف مع الشيخوخة وانقطاع النفس وتسليم الروح مع الموت. استطاع الإنسان من خلال نضاله الطويل أن يتحرر من الألم، ويقهر المرض في ساحات كثيرة، وهو الآن يمد يده لكشف اللثام عن أسرار انهدام الجسد، وجدلية الشباب والشيخوخة، في قفزة أخيرة لمعرفة ماذا يعني الموت؟ ولماذا الموت؟ ولماذا يراهن الدين على فكرة الخلود كنبع فلسفي للفكر الإنساني يعطي معنى للوجود. هل يمكن أن نمسك بالقانون الذي يقوم بتجدد الحياة المستمر؟ في الواقع فإن الحياة تتجدد وتستمر بتجدد وانقسام وتكاثر الخلايا؛ فجسدنا قميص نسيجه الدقيق خلايا تصل الى 70 مليون مليون خلية، والخلايا أنواع في تجددها، منها الذي يتجدد في أيام مثل خلايا الجهاز الهضمي، ومنها كل 120 يوماً كما في الكريات الحمر، ومنها الذي لا يتجدد إطلاقاً كما في الخلايا العصبية، وإن كانت المسلمة الأخيرة قد تم كسرها، عندما تكاثرت الخلايا العصبية خارج الجسم ، فما الذي يقضي على تجدد (قميص الجسد) هل هو الاستعمال المتكرر فيفضي الى البوار؟! أم توقف قدرة التجدد بعد حين بتوقف التكاثر الخلوي؟ هذا إذا تأملنا الموت كنهاية طبيعية لرحلة سفينة استقرت على شاطئ الموت، وليس موتاً قاصفاً كغرق سفينة طوتها أمواج العاصفة؛ فغرقت في اليم،  أو بالموت المفاجئ بالقتل وحوادث الطرق والتسمم؛ فهذه تخضع لسؤال مختلف حاول الخيال العلمي حل إشكاله، بإحضار الجسد المصاب، كما في حوادث السيارات وإعادة إصلاحه فيعود الى العمل؟! ويتبخر من الإمكانية المباشرة الحرق الكامل، أو الإذابة بالحمض، أو التفسخ اللا متناهي؛ فهنا يقوم الاستنساخ الجسدي بتوليد نسخة جديدة مشابهة تماماً تكفي فيه خلية يتيمة واحدة؟!
اقرأ المزيد
أثر الجوع في الصحة
أرسل لي الأخ العقاد من جدة فيديو عن شاب مصري أن ثمة تجارب أجريت على الفئران (طبعا في أمريكا أم السحر) بحيث أطعموا بكميات كبيرة من الطعام فكانت النتيجة تحول الفيران إلى (كانيباليزم) أي بدأت تأكل بعضها البعض ويغتصب الفيران القوية الإناث ثم آل أمرهم إلى الانقراض ليختم (الداعية العصري) التجرية أنه لم يكن يفهم الآية من سورة الشورى حتى رأى التجربة! (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض). وهكذا قام هذا الداعية العصري بالاعتماد على أدلة الكافرين لنصرة الدين. وهذا المنحى الإيديولوجي يأخذنا أيضا إلى سراديب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فنكذب على الله ونفتري عليه. وهنا نرى أثر المسخ العقلي والتشويه العلمي ولكن أقنية الفيديو اليوم تنشر من التفاهات أكثر من المفيد من المقالات وأحيانا وبطريق الصدفة أنظر عدد المشاهدات عندي فأجدها مثلا 39 مشاهد ليكون بعدها الحديث عن رقاصة بطن وعندها مشاهدات بمقدار مليون مشاهدة وأحيانا أرى أرقام مليونية لأسئلة تافهة مثل من لايجوز التصدق عليه أو من يدخل جهنم فنحن هكذا أصبحنا بوابين لمعرفة من يدخل الجنة وممن نصيبه النار. وهكذا المهم أنه حقق مشاهدات مليونية وحصد من اليوتيوب مالا في مخالفة لما كان يردده الأنبياء وياقوم لاأسألكم عليه مالا. وهذا الموضوع حققت فيه أنا واطلعت على تجربة تروي أثر الجوع على الصحة فقد قفز العلماء قفزة جديدة في التفكير في محاولة تفكيك آلية تأثير الصيام، وكيف يملك الجوع قوة الشفاء؟  فوضعوا أيديهم على (أنزيم) تحرره الأنسجة مع الجوع هو (السيرتوئين Sirtuin)؛ فقالوا ماذا لو حقنا الجسم بهذه المادة السحرية؟ وبدون الجوع؟ فهل ستكون النتيجة واحدة؟ أي تحقيق أثر الجوع صناعيا بدون جوع. وهكذا بدأ الأطباء يجربون عقاراً يحقق نفس الأثر بدون الجوع المديد هو (الريزفيراترول Resveratrol). ولكن هل سيصل الفريق العلمي إلى قهر الشيخوخة والعمر المديد والصحة الوافرة فلا تكدر بمرض أو تعكر بهم وحزن وألم؟ وهل سيحققون طول العمر؟ مع صحة متدفقة وشيخوخة ناعمة، دون نصب، وهم في الغرفات آمنون؟ لقد أظهر الصيام المتتابع أنه يبقى الكائن بصحة جيدة، بل ويطيل العمر 50%؟! هذا ما أظهرته التجارب على العناكب والسمك والفئران، وأخيرا قردة الريسوس. فهل ينطبق على بني البشر؟ ما ينطبق على العناكب والسمك والجرذان والفئران؟ وتبدأ القصة من جامعة (ويسكونسين Wisconsin) من (ماديسون Madison) من مركز الأبحاث الوطني للحيوانات البدائية في أمريكا (Wisconsin National Primate Research Center) حيث انطلقت التجربة على القرود عام 1989م ولمدة 17 سنة متتالية ، بعد تحققها على كائنات بدائية مختلفة، وقامت التجربة على وضع 30 قردا، بعمر عشر سنوات، من نوع الريسوس (Rhesus Monkeys) في مجموعتين من الأقفاص، ضم كل قفص 15 قردا؛ فأما المجموعة الأولى التي ينتسب لها القرد (أوين Owen) فقد سمح لها أن تأكل لما فوق الشبع، وتلتهم كل طعام بدون تحديد الكالوري، فأكلوا كما جاء في الحديث: الكافر يأكل بسبعة أمعاء والمؤمن يأكل بمعي واحد.. وأما المجموعة الثانية التي ينتسب لها القرد (كانتو Canto) فقد حرمت من الطعام، وجُوِّعت وقُتِّر عليها، وحدد الكالوري بكمية أقل بـ 30% مما تحتاج، وهكذا صامت صوما مديدا لمدة سبع عشرة سنة ويزيد؟؟ مع هذا تمت مراعاة إطعام الفريقين من حاجته اليومية من المعادن والماء والفيتامينات. ولكن الطعام كان مباحا بدون حدود لمجموعة القرد (أوين)، ومحرمة ناقصة بمقدار الثلث لمجموعة القرد (كانتو). فأما الأول فملأ من شحم عضديه، وأما الثاني فبات يصوم ويشد على بطنه؟ وكان الباحث (ريشارد فاين دروخ  Richard Weindruch) يراقب العملية بصبر ودقة وإحصاء. وبعد كل هذه المدة؛ فقد بلغ كلا الفريقين من القرود في المجموعتين العمر الافتراضي 26 عاما، بحيث يمكن مقارنة شيخوخة كل فريق مع الأخر. وهنا بدأت الفروق جلية كما قال الباحث، فأما مجموعة أوين فقد ظهر فيها التجعد على الوجوه، مع تكوم الكروش، وتشحم الكبد، والضعف العام، والهمة الفاترة، وتساقط الشعر، والانكماش في المكان، والكسل في الحركة، وتهدل الجلد، مع عيون غائرة انطفأ فيها لمعان الحياة، في ظل شيخوخة طامة ونكس قاتل. كان منظر أوين من مجموعة (تحشية) الأمعاء، بما لذ وطاب بدون حدود عجيبا ، من كتف معلق، وعيون غائرة، وكرش مدلى، وإذا قدمت له موزة رفع ذراعه بصعوبة وتثاقل، ومد يدا ترتجف. أما (كانتو) من المجموعة الصائمة فكان رشيقا نشيطا، بدون كرش، بجلد مشدود، يقفز بفرح، ويسلم على الزوار بمرح، ويتناول طعامه برشاقة، ويقشر الموزة بخفة، ويلتهم محتواها بشغف، جلده مرن مطاطي، ووجه عامر طافح، وتلمع عيونه بالحياة.. وكان جل طعامه من الفاكهة... هذه التجربة الرائدة كان القصد منها الوصول إلى السؤال الأزلي الذي طرحه جنكيزخان على الحكيم الصيني؟ هل من طريق للأبدية؟  وهنا في الطب ليس من أبدية!!  بل جواب الحكيم الصيني للطاغية المنغولي؟ يا سيدي ليس عندي من أكسير للحياة الأبدية، ولكن بقدرتي أن أنصحك كيف تعيش حياة مديدة بصحة طيبة؟
اقرأ المزيد
مخطط الانحدار وإعادة البناء (3)
 النتيجة البعيدة وغير المباشرة لسقوط العاصمة البيزنطية:   في القرن الخامس عشر للميلاد سقطت بيزنطة وغرناطة بفاصل نصف قرن (1453م ـ 1492 م) ويبدو وكأن سقوط الحاضرتين كانتا لوحتان متعاكستان لوقائع متناقضة، فالقسطنطينية سقطت بيد الأتراك المسلمين، القوة الناهضة الجديدة، وغرناطة بيد الاسبان، رأس الحضارة الغربية المستيقظة، ولكن التحليل الأعمق يفضي الى تكامل الصورتين، والتحام السبب والمسبب؛ فسقوط العاصمة البيزنطية جاء جوابه في سقوط غرناطة، والاستجابة للضغط الجديد، عندما قُطعت طرق الشرق الأوسط الى الهند في وجه اوربا، فاستندت أوربا بكل ثقلها وظهرها الى المحيط (بحر الظلمات) ومن هذا الضيق جاء الفرج غير متوقع. المحيط الاطلنطي (بحر الظلمات) وسواه من المحيطات كانت مناطق تفصل السكان والحضارات، فحضارات أمريكا لم تتصل ببقية حضارات العالم ونمت لوحدها بطريقتها الخاصة، ولكن مع تطوير السفن العابرة للمحيطات على يد الملاحين العرب، تحولت هذه المحيطات الى جسور اتصال. ويمكن تشبيه السفن الجديدة عابرة المحيطات، مايشبه سفن الفضاء الحالية، بكل انجازاتها التكنولوجية الرائدة. البحر المتوسط بحر مغلق لايشابه بحر الظلمات (المحيط الاطلنطي) فسفن المحيط يجب أن تزود بتقنية ملاحية جديدة وآلات قياس ومعرفة متقدمة من خلال خرائط لاتجاهات الرياح وتيارات البحر، ومعرفة بأمراض البحر الناجمة عن السفر الطويل لأشهر متواصلة (مثل دراسة تكيف الانسان اليوم للبقاء فترة طويلة في القمرات الفضائية) وتزويدها بالمدافع والاسلحة الكافية والمناسبة لمقاومة انقضاض القراصنة، وخزانات المياه الكافية، وأطعمة تحفظ لفترة طويلة (تم اكتشاف الفيتامينات ومعرفة مرض الاسقربوط بنقص الفيتامين سي ـ C في الجسم بعدم تناول الخضراوات والفواكه الطازجة لفترة طويلة) وبواسطة سفينة المحيط العربية والحصان العربي، تم اقتحام قارات العالم الجديد، وضُم الى ممتلكات أوربا أربع قارات جديدة بمساحة تزيد مرتين عن مساحة سطح القمر، وآلاف الجزر الغنية في المحيطات اللامتناهية. لقد كانت الهجرة والاستكشاف للغربيين الفقراء مفيدة حقاً. وعندما تقدم الاستعماري الاسباني  المدعو (هيرناندو كورتس) لابادة حضارة الازتيك وخنق مليكهم واستباحة عاصمتهم الجميلة فوق بحيرة غناء، كان السلاح الحاسم الذي ظهر الى الساحة الذي أربك الهنود الحمر  وأثار فزعهم، هو الحصان العربي ولكن التاريخ يسجل ظهور الحصان العربي بدون فارسه. كان الاسبان يدفنون الحصان الميت سراً حتى لايتبادر الى ذهن الهنود إمكانية موت هذا الكائن. وظهر الفارس الاسباني مثل أسطورة نيسوس اليونانية، ذلك الكائن الخرافي الجبار، قطعةً واحدةً بجسم حصان ورأس انسان،  كما حصل مع الهكسوس في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، حينما اجتاحوا الحضارة الفرعونية العريقة بالحصان المدجن، ولم يتخلص المصريون من حكم الهكسوس الا بعد مائتي عام مريرة وبنفس سلاح الحصان، دبابة العصر القديم. عندما تقدم الزحف الاسباني بعد سقوط طليطلة الى الجنوب كان همُّ  الاسبان ومن بعدهم الانجليز، وضع اليد على المضائق فهي شرايين الحضارات القديمة، ومفاتيح التحكم، ومصادر الثروة والقوة. في القرن السادس عشر تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، على الرغم من هزيمة الأتراك البحرية في معركة ليبانتو 1571 م، وبرز قواد بحريون أتراك مشهورون من أمثال خير الدين برباروسا وتورغود، ينزلون الرعب في مفاصل وقلوب الأوربيين فترتبط أسماءهم  في الذاكرة الجماعية الغربية بالقرصنة (9) لكن الاسبان والبرتغاليين شقوا طريقهم الى عنق البحر المتوسط عند رأس جبل طارق ثم قفزوا الى الشاطيء المغربي، فاستولوا على سبتة ومليلة ومازالوا، وبذلك أحكمت المدفعية الاسبانية قبضتها على المضيق، فحبست العالم العربي عملياً في زنزانة البحر المتوسط، وقطعت الطريق على أية انطلاقة عربية الى بحر الظلمات، وعندما اُكتشف العالم الجديد وحصل النزاع البرتغالي الاسباني، حله البابا (حبياً) فقسم العالم بينهما الى نصفين بالتساوي بكل بساطة. وخسرنا المحيط والى الأبد على مايبدو.    خسارة المحيط وآثاره المأساوية وبداية انطلاقة الغرب قبل خمسة قرون:   على الرغم من وجود السفينة العربية العابرة للمحيطات، وعلى الرغم من إمكانية الوصول للقارات الجديدة التي وصل الى بعضها التجار العرب المسلمون كما في اندنوسيا ومالقا واليابان، فإن التوجه للعالم الجديد فات الحضارة العربية، وبه دشن عصر جديد حقاً. إن اختراق المحيط على يد المغامرين المستكشفين أولاً، ثم جموع الفلاحين الاوربيين الفقراء لاحقاً، كان استجابة للضغط العثماني في الشرق، بمحاولة الهرب باتجاه الغرب، تحت إغراء رائحة التوابل العطرة، تمولهم الشركات الاستعمارية بالمال والسلاح لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين واستبدالها بالعرق المتفوق الجديد، على الرغم من وجود مكان كاف للغازي والمغزو، ولكن سيطرة روح التطهير العرقي كانت أقوى جاذبية. كان هذا التوجه بركة عليهم، لأن العالم القديم المكون من ثلاث قارات قفز مرة واحدة الى سبعة، منها أربع قارات جديدة أُضيفت الى ملك ريتشارد قلب الأسد وأحفاده، في الأمريكيتين واوستراليا ونيوزلندا والقطب الجنوبي. ومع تدفق الذهب من المكسيك وفلوريدا، والفضة من البيرو، وفي مدى قرن واحد، تدفقت دماء ثمانين مليون من السكان المحليين، وتم تفريغ مائة مليون من سكان أفريقيا، لزرعهم كآلات عضلية في مزارع العالم الجديد لرفاهية الرجل الأبيض، في أعظم مذبحة عرفها الجنس البشري، لم يكشف عنها النقاب الا منذ فترة قريبة كما في فيلم (يرقص مع الذئاب) وكتاب (فتح أمريكا ـ مسألة الآخر) لاستاذ السوربون (تزفيتان تودوروف). كانت الموجة الأولى لاقتحام المحيط لاتينية (برتغال واسبان) لم تلبث أن أعقبتها الموجة الجرمانية (الانجلوساكسون) من الانجليز والألمان، بفعل القصور الذاتي والتعصب الديني وعدم تطوير النظام البرلماني في البيئة اللاتينية، باستثناء فرنسا التي عوضت تأخرها مع انفجار الثورة الفرنسية وانفجار الحرية الفكرية ومنظومة القيم الجديدة معها، التي تخلصت من الكنيسة والاقطاع في ضربة واحدة موفقة، وشقت الطبقة الوسطى البورجوازية الطريق الى الديموقراطية الجديدة بين توازن رأس المال وطبقة العمال. أما الصنف الأوربي الثالث (السلاف) فقد بقوا بعيداً عن غارة المحيط فدفعوا ثمن تأخرهم، كما رأينا في الصرب الحاليين الذين يذكروننا بعقلية صليبيي القرون الوسطى.
اقرأ المزيد
مخطط الانحدار وإعادة البناء (2)
في عام (1099 م) قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفاً من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الاسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب. ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي (تدمير بغداد 1258م) وذراع الكماشة الغربي كانت أوربا الفقيرة القذرة. فأما الاعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله الى رصيد اسلامي (النهضة التيمورية في الهند) وأما ذراع الكماشة الغربي فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيراً، ولعله لن يعرف في المستقبل حرباً تدوم (171) عاما بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوربا الأميُّون. يضاف لها حملة ثامنة عام 1948 ببناء مملكة بني صهيون. وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الاسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت، ولكن من زاوية لاتخطر على بال أحد، ولاتوحي مظاهرها بذلك.  سقوط مدينة طليطلة كمؤشر لانكسار الميزان التاريخي:  إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ  في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاماً (1085 للميلاد) عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية ( طليطلة ـ توليدو حالياً TOLIDO) بيد الفونسو السادس بعد حصار دام سبع سنوات. وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقاً على عروشهم البئيسة أمام الزحف الاسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب الى الدولة القوية المرابطية جديدة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين (يوسف بن تاشفين) ليقول المعتمد بن عبَّاد حاكم اشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الاسبان وسنديان المرابطين: إن لم يكن بد من التحول الى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الاسبان. كان (المعتمد بن عبَّاد) شريفاً على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي. وبقي قبره في (أغمات) خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي .. مات (المعتمد) قهراً وغماً في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده (اعتماد) التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب. معركة (الزلاقة) وأثرها في مصير الجزيرة عام 479 هـ ـ 1086م:   في عام (1085 م) سقطت (طليطلة) وفي عام (1086 م) كان سيف العجوز يوسف بن تاشفين ذو الثمانين عاماً، ينزل كالصاعقة على رؤوس الاسبان فيحطم تجمعهم في معركة (الزلاَّقة) ولكن ابن تاشفين يدرك فوراً بعد دخوله الجزيرة أنه لن يستطيع إيقاف مسلسل الأحداث، وأن المسلمين خسروا زمام المبادرة التاريخية، فالجسم الاسلامي مريض، وطليطلة لا أمل في استعادتها، وأبناء الجزيرة الاندلسيين تحولوا الى أيتام في مأدبة اللئام، وكان المرض الأموي القديم قد فعل فعله وآتى أكله أيضاً في الجزيرة، منذ أن نجح في إيقاف المسيرة الراشدية في العالم الأسلامي، وتحويل الدولة الاسلامية الى امبراطورية بيزنطية، فاستوى المرض وبدأ  الجسم الاسلامي في الترنح والسقوط، بفعل انهيار جهاز المناعة الداخلي قبل الهجوم الاسباني بفترة طويلة. معركة (الزلاقة) في عام 479 هـ الموافق 1086م التي دارت رحاها على حدود دولة البرتغال الحالية، حَجَّمت الامتداد الاسباني ومسحت دول الطوائف الهزيلة التي عاشت لجيلين لمدة ثمانين عاماً (399هـ ـ 479 هـ) في ضربة واحدة، وفرملت السقوط النهائي للاندلس لمدة أربعة قرون لاحقة، حتى جاء موعد كسوفها مع كريستوف كولمبس عام 1492 م. بعد سقوط طليطلة صمدت الجزيرة حتى مرحلة وفاة الفيلسوف (ابن رشد) الذي مات عام 1198م للميلاد بعد أن كافأه أهل مدينته بالطرد مرتين، مرةً من المسجد هو وابنه وكانت من أحزن ما لاقاه، ومرة بنفيه الى قرية (الليسانة) اليهودية، ليقضي فيها بقية عمره وهو في السبعين من العمر. وعندما نضب العقل الاسلامي الجماعي الى هذا القدر الحزين، جاءهم الطوفان الاسباني هذه المرة، ليمسح مدينة قرطبة بالكامل بعد موت الفيلسوف بجيل واحد فقط ( 1238م)، وليطرد أهل قرطبة كلهم من المسجد، ويُدخل في مسجدها الجامع بشكل محشور عجيب، مثل الشوكة في اللحم. كنيسة مصطنعة لايصلي فيها أحد ومسجد يؤمه السواح فقط. كل من يمر اليوم في قرطبة يبكي عند المحراب الذي لايصلي فيه أحد، والكنيسة الخرساء التي يحدق فيها السواح الأوربيون بنظرة بلهاء بدون معنى، ويتأمل العربي المسلم وجوه أهل قرطبة فيتذكر أهل دمشق. قبل توحلها وتحولها إلى مملكة قرود. هذه المرة لايسمع اللغة العربية ولا الأذان ويتعجب من اختفاء أمة كاملة من خريطة الوجود. نقطة التحول التاريخية (منتصف القرن الثالث عشر الميلادي)   إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الاسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الاسلامي (اشبيلية) وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد الحصادة المغولية القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزَّار دموي من طراز (هولاكو) يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لايعرفن ضوء الشمس. وكما جلس العباسيون على جثث الأمويين النازفة المغطاة بالسجاد، يأكلون عشاءً فاخراً، ويشنفون آذانهم بسماع ألحان حشرجة أنات الموتى الأخيرة، فإن حياة آخر خليفة عباسي كانت في كيس (خنشة = جوال خيش) يقضي نحبه على نغم طبل مختلف، بالخنق والرفس بالأقدام، ويساق الوزراء وأعضاء الأسرة الحاكمة والأعيان والفقهاء الى مقبرة المنظرة فيذبحون كالشياه، وتنعي بغداد يومها حوالي ثمانمائة ألف قتيل، وتتحول أكوام الكتب الى جسر يصلح لمرور الجندي التتري على نهر دجلة. إن التدمير المغولي خاصة لشبكة الري في جنوب العراق، والذي قامت عليه حضارة سومر، لم يصلح حتى يومنا الحالي.
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram