قرأت لأخي الدكتور أحمد كنعان تحليله الجميل عن مر ض الطائفية في سوريا. وقرأت فيما سبق للكاتب اليساري العظم وهو ينقد الفكر اليساري ويشير إلى شيء اسمه العلونة السياسية في سوريا.
وأخطر ماحدث مع الربيع العربي أن سوريا تدمرت ليس في الأبنية ولكن في النسيج الاجتماعي فتمزقت شر ممزق. وفي القرآن سورة كاملة تحمل اسم حضارة قامت وبادت في اليمن. حين قال القرآن: فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لايؤمنون! واليوم لم يبق الفلسطينيون مشردين بل لحقهم السوريون أيضا على قائمة التمزق والتشرد.
والفرق بين النسختين أن الفلسطينيين عدوهم واضح من بني صهيون ولكن المرض السوري أدهى وأمر من السرطان الداخلي. فالاحتلال أمره سهل مثل احمرار الجلد بالالتهاب السطحي فيتظاهر بالألم الموضعي والاحمرار والحرارة ومعالجته هينة. أما السرطان فهو على العكس تماما ينتشر بدون ألم ويتسرب خفيا لواذا وينتشر على غفلة مثل الورم القتاميني (وحمة أو شامة الجلد) وإذا اكتشف مبكرا فعلاجه الاستئصال الواسع، وإن تأخر قضى على المريض فلا عودة. كذلك هو حال السرطانات الاجتماعية كما هو الحاصل في سوريا. تضم قائمتها الحالية البتر والهرب والديكتاتورية الطائفية البغيضة. لحسن الحظ الأفراد يموتون ولكن المجتمعات لاتموت بل تنهض من رقدة الموت ولو بشكل مختلف وهو الذي سيحصل مع سوريا حتى نهاية القرن الحالي. وحين تفجر الربيع العربي دخلت سوريا منعرجا خطيرا في الانزلاق إلى مستنقع أشد هولا من كل مامر من التسلح والاحتراب الدموي. المستنقع هو الطائفية وليس المرض الوحيد. وعلينا وضعه تحت مبضع التشريح لفهمه. وكان ابن خلدون بارعا حين وضع عنوانا لمقدمته في اعتراف غير مباشر للتعددية حين قال كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
الطائفية مرض مثل الخراج الخفي. موجود في أكثر من قطر عربي. والكل يعلم به. والكل يكذب فلا يعترف به إلا همساً للرفاق والإخوان. والكل يكذب على الكل. والكل يصرّ على الأسنان للانتقام يوم لا ينفع مال ولا بنون.إلا من رحم ربك اللطيف المنان؟
ومن ينطق به يحاكم بتهمة الطائفية فيندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه ويقول يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا؟
وأفضل علاج له الاعتراف به. كما أن أفضل علاج للخرَّاج فتحه للخارج. وإلا فتح نفسه للداخل فأصيب المريض بتسمم دموي فمات به.
ولكن هل اعترف البابا الكسندر السادس أنه مصاب بالزهري؟
والعالم العربي مصاب بمرض الطائفية وآخر من شكله أزواج. من أمراض (القبلية) و(احتقار المرأة) و(الإيمان بالغدر) و(تأليه الزعيم) و(عبادة القوة).
لقد دخلت مستوصفا قميئا في الجولان (خان أرنبة حيث احترب يوما جيشان) فرأيت 17 صورة للثالوث المقدس من الآب والابن والروح القدس، وهي صور مكررة في معظم مطارات العروبة، في إحياء لمركب الأقانيم الوثني في ديار تزعم أنها إسلامية؟؟
ويتحول نظام الحكم إلى شكل فرانكنشتاين ليس فيه مقومات الحياة، إلا أن يقتل؛ كما قتل بيده من أوجد فرانكنشتاين، كما حصل مع دوللي النعجة المستنسخة.
ووضع العرب هذه الأيام يذكر بجو دول الطوائف في الأندلس، أو جو الفرق المذهبية قديما، بين (معتزلة) و(شيعة) و(خوارج) و(مرجئة) و(قدرية) في خمس شعب، لا ظليل ولا تغني من اللهب.
فأما الشيعة فقد رفعوا من قدر علي وذريته؛ فزعموا أن القمر نزل في حضنه، وأن في دمه كريات حمر مختلفة مقدسة. وأما الخوارج فكفروا الجميع وقَتَلوا وقُتِلوا.
وأما المرجئة فهم أولئك السياسيون الملاعين والعسكر الخائبين، الذين يرون أن الله يغفر الذنوب جميعا، ولو قتل القاتل أمة من الناس؟ يكفي أن يلوك الإنسان كلمات سخيفات بلسان مصاب بالآفت (القلاع). وأما القدرية فقالوا بالحرية الإنسانية المطلقة، ودوروا القمر والشمس بأصابعهم، وعلى هذا الفكرة ذبح الجعد بن درهم.
وأما المعتزلة فحاولوا تحريك العقل، في وسط يموت، فماتوا مع الأموات، إلى يوم الدين..
واليوم تنهض هذه المذاهب بكل أمراضها وعيوبها، من التوابيت، وترجع إلى الحياة، ونحن مذهولون من هذه الرؤية غير المتوقعة، لجثث تدب فيها الحياة مذكرة بالزومبي.. ونقول يا ويلنا من بعثهم من مرقدهم؟؟؟
وما جري في العراق وسوريا وباء طام، يهدد كل المنطقة بطوفان نوح، من المذابح الطائفية والمذهبية، فبعد أن سبح العرب طويلا في قذارات النتن القومي البعثي، يتحول زورقهم المنكوب، إلى مستنقع أشد هولا وقذارة؛ من المذابح الدينية، باسم الله والصليب، وعلي والحسين، والحاكم بأمر الله الفاطمي، في رحلة انقلاب في محاور الزمن، نكسا إلى العصور الوسطى الظلماء.
وهكذا فبدل دخول الحداثة؛ ينتكس العرب على وجوههم، عميا وبكما وصما، مأواهم جهنم الطائفية، كلما خبت زدناهم سعيرا.
وإذا كان صدام قد حول البعث العراقي، إلى ماكينة للعبادة الشخصية بتجنيد المرتزقة والعشيرة، فقد فعل البعثي الأخر من فصيلة السنوريات في سوريا الأسد بتجنيد الطائفة والعصابة من الأزلام إلى ماكينة للعبادة الفردية.
يضاف إلى كل حزمة الأمراض السابقة من الأمراض تسلط ديناصورات أمنية تقذف بشرر كالقصر تذكر بملائكة العذاب عليها تسعة عشر.منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
اقرأ المزيد
نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة واكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم.
ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه. (الجينات) الشيفرة السرية للخلق تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. الجينات في الخلايا تحدد العمر والاستعداد لمرض السكر والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه. علينا أن نتنفس والا اختنقنا، أن نأكل ونشرب والا هلكنا. وأن نمارس الجنس والا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية فلانستطيع الانتقال بسرعة الضوء في استحالة يفرضها قانون النسبية باستهلاك طاقة لانهائية وتوقف كامل في مربع الزمن. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال الى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي الى الحياة بدون ارادتنا، ونخرج منها بدون ارادة ورغبة بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته لانتحكم في وقت المجيء اليه في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة الى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف الى مستودعات النسيان فلاتسمع لهم ركزا.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الانسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لاشيء اذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه واللانهائي الذي يغمره.
نحن لانستطيع ركوب آلة الزمن فنعود الى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومين بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن أسرى (ثقافة) ننتسب الى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه. من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا. كذلك كان الانتساب الى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في راوندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في افغانستان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو أو وسوريا في مملكة القرود يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج ترجع رفاهيته الى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين، ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي قد يكون رهين الاعتقال، لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، لايستطيع فتح فمه الا عند طبيب الاسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الارجنتين، أو لاجئا سياسيا في السويد والمانيا، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والابكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البايولوجيا فقد يفر عراقي الى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتننق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الانسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات، والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت، وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والاذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: من ظهر الأرض الى قبر السجن، ومن دفء الجماعة الى برد العزلة، أومن شاطيء الحياة الى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.
هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات وزنزانة الزمن وقفص الثقافة ومعتقل المجتمع.
مع هذا فلايتقدم المجتمع الا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الانسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا وتطور. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة. ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دروة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها الى لمواجهة حادث مروع.
العجل يمشي بعد الولادة بساعات والارانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الانسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي.
نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين ولكن الانسان وضع قدمه على القمر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الانسان يقودها (لاوعي) أعمى.
ثقب العين صغير ومنه يرى الانسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى الا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايرى منه عشر معشار مالايرى، لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الانسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون.
كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابن أفضل منه.
اقرأ المزيد
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد اختصرها في ست عناصر رئيسية توَّجَها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ماسماه: بالسلام العقلي (PEACE IN MIND) ويرى أن أهم مظاهره هي أن ينام الانسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو مايذكرنا بالقرآن الكريم الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و (الحزن): (ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في تكرار ملحِّ في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس الى هذه الحقيقة الملِّحة؟ وماهي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ ومامعنى تشديد القرآن على إيصال الروح الانسانية الى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي.
لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الانسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الانسان للماضي وماطُوي في ملف الأحداث المنصرمة (لكيلا تأسوا على مافاتكم) وأما الخوف فهي السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الانسان؛ فتحرمه الهدوء النفسي والاتزان في التفكير.
وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي ، فلايحزن الانسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه ، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف ، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها ، فيسقط ضحيةً لشعور القلق.
أما الحزن فهو إفرازٌ تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداثٍ قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلاً هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود الى شعور تالي مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): إن كل شعور يقود الى شعور آخر (فالشعور بالخيبة مثلاً يولد العدوانية) وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة) وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عضٍ أو جُرحٍ أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة.
إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور ( قلق الموت) من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع أو بعد الموت، من مصيرٍ مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والذهاب الى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآها الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) مرده الى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات.
يقول الفيلسوف: (ليس الموت مفزعاً والا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت) فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عاني وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهاراً باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لاعودة منها على الاطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاماً ورفاتا؛ قد عاد الى دورة الطبيعة متحللاً الى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت الى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الانسان على الأرض؛ فكانت مصير ثمانين مليار من البشر حتى الآن.
إذاً حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسياً، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني ، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس مايشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS).
وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لاتتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورةٍ متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.
اقرأ المزيد
في 6 ديسمبر _ كانون أول عام 1965 م أبحرت حاملة الطائرات الأمريكية ( تيكون ديروجا _ TICONDEROGA ) عندما كانت نار الحرب محتدمة في فيتنام ، وهي تحمل على ظهرها العديد من الطائرات المزودة بالقنابل الهيدرجينية ( الالتحامية الحرارية النووية من عيار الميجاطن ) وكان ذلك ضمن الاستنفار النووي الأمريكي خوفا من تطور نووي غير محسوب ، فحدثت واقعة نووية تم التكتم عليها في وقتها ، وهي سقوط احدى الطائرات من نوع ( سكاي هوك ) تحمل في بطنها قنبلة هيدرجينية ، من عيار واحد ( 1 ) ميجاطن من على ظهر حاملة الطائرات الى قاع البحر (1) لتستقر في عمق 4880 متر في ظلام المحيط ، تحمل 33 رطلاً من البلوتونيوم ، باتجاه الساحل الياباني قريباً من اوكيناوا على بعد 130 كم بين تايوان والجزيرة اليابانية الكبرى شيكوكو ، وطوى البنتاغون سر القنبلة الثمينة الضائعة يومها ، وليس هذا هو السر النووي اليتيم ، فقد تم إماطة اللثام في الفترة الأخيرة أن مدينة ناغازاكي ضربت بقنبلتين وليس بقنبلة نووية واحدة كما هو معروف تاريخياً الا أن احداهما لم تنفجر ؟!!
قنبلة نووية من عيار ميجاطن في قعر المحيط :
والذي كشف الواقعة هو كاتب أمريكي اسمه ( ويليام أركين _ WILLIAM ARKIN ) الخبير في القضايا الاستراتيجية حيث نشر كتابا أشار فيه الى مايزيد عن 1200 واقعة نووية من هذا النوع في البحار ، منها 11 مفاعل نووي ضمن غواصة نووية هوت الى القاع ومنها 48 رأسا نوويا غرقت في قاع البحر من الشكل الذي بين أيدينا ، وبعد مضي عشرات السنوات عرف أهل الجزيرة بأن أمام ساحلهم وفي قاع البحر يرقد شر سلاح عرفه الجنس البشري ، ولكن البنتاغون هدَّأ أهل الجزيرة ، بأن فترة الاثني عشر سنة قد انتهت (2) ولذا فلاخوف من بأس القنبلة الراقدة في أعماق المياه الباردة ، ولاندري ماهي مشاعر سمك القرش وهو يحوم سابحاً ، حول هذا الضيف الغريب غير المرغوب فيه ، حيث لاأمل من مغادرته ضيافة قاع المحيط؟!!
القنبلة النووية المفقودة ؟!!
ومن جملة الأسرار التي خرجت للسطح أيضاً في الفترة الأخيرة أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين من نوع الرجل السمين ( FAT MAN _ البلوتونيوم 239 ) بدلاً من واحدة ، وان كان بعض الخبراء قد شكك في الواقعة ، وتم تسليمها الى السوفييت عن طريق اليابانيين ، قبل دخول الجنرال الأمريكي ( مارك آرثر ) الجزر اليابانية بأيام قليلة ، وكان حرص اليابانيين على ذلك أن لاتنفرد أمريكا بسر السلاح النووي (3) وربما كان مخطط ضرب المدينة بقنبلتين ، بسبب جغرافية المدينة المحاطة بالجبال ، ولذا كان تأثر ناغازاكي أقل من تأثر مدينة هيروشيما بالكارثة النووية نسبيآً . وسواء ضربت ناغازاكي بقنبلة واحدة أو اثنتين فان المحصلة النهائية أن عهدا جديداً قد انبثق ، وأطل العصر النووي برأس الفطر المرعب ، وهو يحلق فوق مصير الجنس البشري ، تماماً كما في الأساطير التي نعرفها ماحصل مع علاء الدين والمصباح السحري .
قصة علاء الدين والمصباح السحري والجني :
تروي الأساطير أن علاء الدين الفقير أغراه الساحر بالدخول الى مغارة سحيقة ليخرج منها مصباحاً عتيقاً ، والذي حصل أن علاء الدين عندما وقع على المصباح رآه قد علاه التراب ، فلما أراد تنظيفه خرج من فوهة المصباح جنياً هائلاً يفعل الأعاجيب ، انتشر كالدخان ينتظر الأوامر من صاحب المصباح ، ولكن ميزة العصر الجديد الذي أخرج الجني ( النووي ) من القمقم أنه ليس مصباحاً واحداً يتيماً ، كما أن السحَّارين يزداد عددهم باضطراد ، ليس كوريا الشمالية واسرائيل آخرهم ، ولذا فإن العالم يعيش أزمة نووية حتى اليوم ، فهو استطاع ترويض الجني ( النووي ) ومازال ممسكاً به ، ولكن كثرة السحرة والمصابيح التي بها يمسكون والجن المختبيء فيها ، يجعل العالم الذي نعيش فيه عالم الجن وعبقر وعالم الخوف وعدم الاطمئنان للمردة الجدد ، الذين أعادوا الينا روح الأساطير وقصص الجان مرة أخرى . وفي الواقع يجب أن لانضحك أو نستخف بالأساطير ، لانها مخزن الحكمة الانسانية ، كما تحكي رغبات الانسان الخفية والمظلمة والتي تحرك اللاوعي عنده ، من مثل امتلاك قوة لاتخطر على بال أحد .
دور الأسطورة في الذاكرة الجماعية للجنس البشري :
ليس المهم في الأسطورة أنها تمثل حقيقةً أم لا ؟ المهم فيها أنها تمثل وقود تحريك الانسان ، فالسيارة تحتاج للبنزين لتمشي ، أما الانسان فيمكن أن يتحرك ويمشي بل ويقتل بالوهم ، فالذاكرة الجماعية للصرب مثلاً مازالت تتغذى من معركة ( أمسل فلد _ AMSELFELD )(4) التي جرت في كوزوفو عام 1389م ، كما أن الخيال اليهودي مازال يشحن من تهديم ( تيطس _ TITUS ) للمعبد عام 60 للميلاد ، وهذه الظاهرة لاتخلو منها أمة ، ومنها تتغذى ذكريات الأطفال ، وتشحن بها الذاكرة الجماعية للأمة ، وتُخَلِّد بها الأمة ذكريات أبطالها بكيفية ما ، وفي تراثنا هناك الكثير من الأساطير التي مازال ( الحكواتي ) يرويها في الحارات الشعبية في دمشق والقاهرة والقيروان ، من أمثال قصص ( حمزة البهلوان ، والأميرة ذات الهمة ، وعلي الزيبق ، وتغريبة بني هلال ... وماشابه ) وقصة علاء الدين والمصباح السحري تدخل تحت هذه المنظومة المعرفية ، وقصة سندباد لم يبق طفل في العالم لم يشاهدها فقد مثلَّها اليابانيون بأفلام الكرتون وترجمت الى شتى لغات العالم . وهذا يعني أن عشق الانسان للقوة وغرامه بتطويرها تكمن في العمق الرهيب للاوعي الانساني منذ قرون طويلة ، ولذا كانت المحرك العميق خلفه للتطوير بدون توقف ، ولكن هراوة الغابة غير السلاح النووي ، والقوة النارية ليست كالفطر النووي ، والذي حصل في هذا التطور الفريد ، والقفزة النوعية المذهلة للقوة ، والتي عاشها جيلنا فقط ، ولم يهضمها العقل الجماعي الانساني بعد ، يجعله يقتات من مشاعر الأسطورة ، وأحاسيس الغابة ، والاعتماد على مبدأ الهراوة . والذي حصل بكل بساطة هو تطور ثوري جديد في مفهوم القوة ، قاد الى عكس مفعوله ونقيض ماأُريد له ، حيث ألغت نفسها بنفسها ؛ فالقوة أصبحت كائناً خرافياً مثل قوى الأساطير التي سمعناها عن الجني الذي انطلق من مصباح علاء الدين ، وبات الخوف من جهاز الرعب هذا داعياً لتفكيكه من جديد ، ولكن رحلة الصعود تكون أسهل من رحلة النزول أحياناً ، واسترداد الثقة بعد كسرها بين بني البشر أصعب بما لايقارن مع فقدها .
الكائن الخرافي ( الاسطوري _ الحقيقي ) الجديد :
لم يفهم ساسة العالم ( بُعد ) ومدى التطور الجديد للقوة بما فيهم ( كلينتون ) الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها ، وأوعز في نفس الوقت ، الى المخابر الجديدة بتطوير تقنيات جديدة ، لاتعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي كما سنشرحه بشكل تفصيلي لاحقاً ، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض ، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم ؛ بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم ، وبكلفة إجمالية تصل الى اربعين مليار دولار تنفق في مدى العشر سنوات القادمة ، للمحافظة على التفوق النووي ، ويعرف هذا المشروع الان ببرنامج البحث والانتظار العلمي ( STOCKPILE STEWARDSHIP AND MANAGEMENT PROGRAM ) ويرمز له اختصاراً ( SSMP ) . أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة لتفجير قنابل عيار ( المائة كيلو طن ). الا إن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة ، كما يفكر الانسان ، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير ) الجنرال فيكتور فيرنر ، عندما نتصور انساناً يدب في المدينة ، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان ، فإنه لن يبقى أنساناً حتى لو حافظ على شكله الانساني ، فامتلك رأساً انما بقدر غرفة كبيرة ، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر !! (5) أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف في كتابه ( البيروستويكا ) حيث أشار الى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة ، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية ، فقال (( ولأول مرة في التاريخ أصبح هناك حاجة حيوية لادراج المعايير والقواعد الأخلاقية _ الجمالية الانسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية )) (6)
مأزق العصر النووي :
ولذا فان العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة ، وأدخل مفهوما ً فلسفياً جديداً في علاقات البشر والدول ، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي ، وانتبه الى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على ( مشروع مانهاتن ) في ( لوس آلاموس ) الفيزيائي الأمريكي ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري ، في منطقة ( آلامو جوردو ) ، عندما تصور علاقات القوى ( كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد اذا اشتبكا في صراع فان الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعاً ) وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق ( آيزنهاور ) عام 1956 م في احدى رسائله : (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة او اختيار الموت ))(7) وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف الزعيم السوفييتي عندما قال في النمسا في يوليو تموز عام 1960 (( نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فاذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح ، وإذا نحن بدأنا حرباً لتسوية المنازعات بين الدول ، ومنها مايبغض الرأسمالية ومنها مايبغض الشيوعية ، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض ))(8) وقريباً من هذا الكلام كرَّره جورباتشوف بعد ذلك بثلاثين سنة في كتابه البريسترويكا (( استحالة حل التناقضات الدولية حلاً عسكرياً نووياً ينتج ديالكتيكاً جديداً للقوة والأمن ، اذ لايمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية ، لاباستخدام السلاح ولابالتهويل المستمر لـ ( السيف والترس ) كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة )) (9) ليخلص في النهاية الى أن (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وايديولوجية أو أي أهداف أخرى ، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً ، كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم ، فالوظيفة السياسية للحرب كانت دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها ( عقلاني ) أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون ، لان الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما . ان النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )(10) وكان هذا الانعطاف وهذا ( الفهم ) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص ، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه .
رحلة السلاح النووي في نصف القرن السابق :
حتى عام 1960 كان السباق المحموم هو في إطار تضخيم وتكبير السلاح النووي ، من خلال تطوير ماعرف بالجيل الثاني ( القنبلة الهيدرجينية ) وحتى عام 1958 م فجرت أمريكا 118 قنبلة ، في جنوب المحيط الهادي قضت فيها على كل حياة حيوانية ونباتية ، وفي عام 1954 فجرت سلسلة من القنابل تحت الاسم السري ( كاسل ) في جزر المارشال منطقة ( بيكيني _ أتول ) حيث تم تفجير سبع قنابل هيدروجينية بشكل متلاحق ، تحت تصفير وتزمير العسكريين وفرحهم الشديد بألعاب العيد النووي !! وفي الأول من آذار عام 1954 م هتف الجنرالات لتفجير قنبلة جديدة كان المتوقع أن تكون بقوة 6 ميجاطن فانكشف الغطاء عن جبروت نووي بلغ 15 ميجاطن ( أقوى من هيروشيما بألف مرة ؟! ! ) فارتجت الأرض من تحتهم وحلق في السماء مارد علاء الدين النووي الجديد يطل برأسه من ارتفاع 25 كم ، وأرسل الجنرال المتحمس يصف الاعصار النووي على الشكل التالي : (( اندفع الفطر النووي محلقا الى ارتفاع 25 كم في عنان السماء وبسرعة مخيفة انطلقت الغمامة النووية ترغي وتزبد لتشكل ثلاث كرات من الكريستال اللامع ، وعندما وصل الانفجار الى أوجه التمعت السماء فجأة بلون أزرق بنفسجي في تضاعيف التشرد الأيوني المقدس !! ) (11 ) فجُن جنون السوفيات فانطلقوا لايلوون على شيء في تطوير أعظم منها ففجروا في نهاية الستينات قنبلة بلغت قوة ( 58 ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ 3800 مرة !! ) فصرَّ جنرالات البنتاجون حنقاً على أسنانهم وقرروا المضي في مشروع لم يحلم به ابليس اللعين ، بتفجير قنبلة من عيار ( مائة ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ6600 مرة !! ) كل هذا قبل اتفاقية عدم التفجير في الهواء والماء التي ذكرناها والاحتفاظ بالتفجير تحت الأرض فقط .
المسموح به فقط اقلاق عظام الموتى تحت الأرض ؟!!
في السبعينات تم الاتفاق على السماح بمتابعة لعبة الموت وتجارب التفجير تحت الأرض فقط ، لتقفز الاتفاقية بعد ذلك على تحديد قوة التفجير بما لايزيد عن ( 150 ) كيلوطن ( أقوى من هيروشيما بعشر مرات !! ) وكان كل ذلك في ضباب الحرب الباردة قبل أن تدفن الأخيرة في جنازة خاشعة في باريس ، مع التسعينات من هذا القرن بعد أن زُلزل العالم عدة مرات وبلغت القلوب الحناجر ، وفي السبعينات حصل تطوران هامين في التطوير النووي الأول : هو في اتجاه التصغير ( MINIMIZING ) والثاني في التلاعب في اتجاه الطاقة حيث تم انتاج قنبلة النيوترون ذات التأثير الاشعاعي .
انتاج قنابل فاكهة التفاح !!
كانت القنبلة الهيدرجينية الأولى التي أخذت اسم ( مايك ) والتي أنتجت في خريف عام 1952م ذات حجم مرعب ، بطول ستة أمتار وبقطر 8.1 متر وبوزن 65 طن ، وهي التي عرفت بالسلاح الاستراتيجي ، ولم يمكن حملها على ظهر طائرة في ذلك الوقت ، بل شحنت على ظهر بارجة حربية ، وفي عام 1956م استطاع الأمريكيون حمل أول قنبلة هيدرجينية على ظهر طائرة حربية من نوع ( ب _ 52 ) وكانت القوة الجوية الضاربة لأمريكا مكونة من ثماني طائرات من هذا النوع ، ولكن التطوير الجديد مشى بعكس هذا تماماً ، بانتاج ماعرف بالاسلحة التكتيكية ، حيث أمكن تصغير القنابل الى حجم الفاكهة الصغيرة ، أي أصغر من قنبلة هيروشيما ذات القوة التدميرية ( 15 كيلوطن ) ، وهكذا أصبحت الخيارات منوعة بين القنابل ( الاستراتيجية ) والـ ( التكتيكية ) ونشأ رعب جديد من هذا الطيف من الامكانيات ، حيث قفز الى الإمكان حدوث حروب تستخدم فيها الاسلحة التكتيكية الصغيرة ، ولكن الاستراتيجية النووية أظهرت مرة أخرى ، أنه مع العصر النووي أن السحر قد انقلب على الساحر ، لانه لايوجد هامش واضح بين السلاح التكتيكي والاستراتيجي ، فيمكن الانزلاق بأبسط ممايتصور الانسان من الحرب التكتيكية الى الحرب العظمى التي لاتبقي ولاتذر ، تحت تأثير أعصاب انفلتت ، وأحقاد تفجرت ، ودماء سالت؛ فالانسان مازال يحمل في جمجمته بقايا تلافيف دماغ التماسيح وسمك القرش ، كما نكتشف بين الحين والآخر عن مدى رقة وتفاهة قشرة الحضارة في القشرة الدماغية في تلافيف دماغ الانسان ، والا كيف يمكن أن نفهم صواريخ كابول ، واغتصاب خمسين ألف امراة في البوسنة من سن السبع سنوات الى السبعين على يد الصرب ؟!!
تطوير نظام الصواريخ ونتائجه البعيدة :
وبقي لتتويج رحلة السلاح النووي تطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية ، ومن هنا تطور علم الفضاء وارسال الأقمار الصناعية ، التي أتت بالخير لنا من حيث لايشعر العسكريون ، حيث ينتظر الجنس البشري الآن ، امكانية ربطٍ هائلة للجنس البشري من المعلومات والاتصالات ، وتهيئة الجو لبناء الدولة العالمية الواحدة وإنتاج الانسان العالمي الثقافة الجديد ، وإيقاف الحروب نهائيا واجتثاث فقر ومجاعات العالم ، وفتح الامكانية لارتياد الفضاء واكتشاف الحياة في كواكب النظم الشمسية الأخرى .
المفاجأة الكبرى في نظام الصواريخ :
بين اختراع أول سلاح نووي وبين الوضع العالمي الجديد قفزات لاتخطر على بال ، بين عقيدة الهجوم النووي الأول ، فمن يهاجم أولاً يربح بالقضاء الكامل المبرم على الخصم ، وتبين مع الوقت مدى سطحيته وعدم جدواه وامتلاءه بالثغرات ، فتحولت العقيدة الى الردع النووي ، أي في الحين الذي يهاجم أحد الأطراف ، فإن الطرف الثاني يطلق صواريخه النووية _ وهو يغرغر في سكرات الموت _ التي سوف تصل الى الخصم في فترة أقصاها عشرين دقيقة ، فتأخذ الخصم مع نزع الروح معا ً الى قبر مشترك ؟!! ثم تطورت عقيدة ثالثة تقول بعدم جدوى وأمان أي وسيلة أمام الحرب النووية ، فالأمر لايحتاج لهجوم أو دفاع ، بل يكفي الانتحار النووي ، فتفجير أحد الأطراف قنابله التي يملكها هو بالذات ، وفوق رأسه بالذات ، سوف تقود العالم الى شتاء نووي رهيب ، ينقرض فيه الجنس البشري ، كما انقرضت الديناصورات بظروف مشابهة .
كذلك فان الياباني ( شينتارو ايشيهارا )(12) لم يضن علينا بكشف السر عن سبب الاريحية والاخلاقية المتميزة ، التي جعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تكف عن التسابق النووي !! وكان السر في نظام الالكترونيات المتطور ، الذي خرج من أيدي الديناصورات الكبرى ، ليصبح مصير تطويره في يد دولة غير نووية هي اليابان !! فالصواريخ حتى تصيب أهدافها بخطأ محدود يعتمد بالدرجة الأولى على نظام الكمبيوتر المتطور ، و( الميكرو شيبس ) التي تُخَفِّض امكانية الخطأ الى أمتار قليلة أصبحت انتاجاً يابانياً ، فحتى يمكن تدمير القنبلة الهيدرجينية _ المختبأة في ( السيلو _ SILO )(13) مباشرة وبضربة رأس لرأس ، وفي فوهة البئر النووي تماماً ، المحصن ضد الزلازل ، بجدار من الخراسانة الاسمنتية المسلحة حتى ستين متراً ، كما في المخابيء النووية الأمريكية الموجودة بشكل رئيسي في كاليفورنيا في قاعدة ( فاندنبرغ ) _ لابد من امتلاك الكمبيوترات اليابانية ، وهكذا فان قصة انقلاب السحر على الساحر أخذت بعدا ً جديداً ، حيث ظهر مرة أخرى قصر نظر العسكريين ، ومدى رجاحة عقل العلماء الذين انتبهوا الى روح العصر الجديد ، فاقتراب العالم تدريجيا ً من السلم ، كان العلم هو المطور الأكبر خلفه ، أكثر من أي اعتبار آخر أو أية موعظة أخلاقية .
هوامش ومراجع :
(1) مجلة الشبيجل الألمانية حيث أوردت تقرير الخبير الأمريكي بالتفصيل عن مجموع الواقعات النووية ويراجع في هذا كتاب عندما بزغت الشمس للكاتب _ نشر دار الكتب العربية _ دمشق ص 189 فصل الجيل الثاني من السلاح النووي (2) تعتبر مادة نظير الهيدرجين ( التريتيوم _ TRITIUM ) ذات حياة تصل الى ( 3.12 ) عاماً وهذا يعني أنه لابد من حقن القنبلة مرة أخرة بهذه المادة حتى تحافظ القنبلة على مفعولها ، وهو مبدأ الجرعة الداعمة كما هو في اللقاح الطبي ؟!! (3) أشارت الى هذا الخبر المجلة الألمانية شديدة الدقة ( الشبيجل ) في عددها رقم 10 من عام 1992 م حيث ذكرت اسم الترجمان والحزبي الشيوعي الروسي ( تيتارنكو _ TITARENKO ) الذي كانت مشتركاً في اللقاء الذي عقد بين القيادة اليابانية ( بالصور ) وبين القيادة الروسية اثناء استسلام الجيش الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي كشف اللثام عن رسالة تيتارنكو التي أرسلها الى القيادة الروسية يومها هو الروسي المتخصص في التاريخ العسكري ( ايجور موروسوف _ IGOR MOROSOW ) والذي كتب مؤرخاً للحرب بكتاب أخذ عنوان ( الحرب التي لاتنسى ) وتم عرض فيلم وثائقي في ألمانيا بـ 16 حلقة عن الحرب تحت نفس العنوان (4) معركة أمسل فلد ( AMSELFELD ) جرت عام 1389 م حيث هزمت فيها القوات الصربية أمام الجيش العثماني بقيادة السطان العثماني مراد خان الأول وقتل في هذه المعركة كلا القائدين فأما الملك الصربي ( لازار ) فقتل في المعركة بعد الأسر ، وأما السلطان العثماني فأثناء تفقده ساحة المعركة من جريح صربي متظاهر بالموت _ يراجع في هذا كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية _ عن معركة قوص أوه _ تأليف محمد فريد بك المحامي _ دار النفائس ص 135 (5) كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير) تأليف الجنرال فيكتور فيرنر _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ ترجمة الدكتور هيثم كيلاني _ ص 21 (6) بيروسترويكا _ م . س . غورباتشوف _ الفارابي _ ص 200 (7) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي ص 14 (8) حول منع الحرب _ تأليف جون ستراتشي _ ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد _ الدار المصرية للتأليف والترجمة _ ص 16 (9) نفس المصدر السابق ص 200 (10) نفس المصدر السابق ص 199 (11) مجلة الشبيجل عدد 13 عام 1990 ص 278 (12) كتاب اليابان تقول .. لا شينتارو ايشيهارا _ ترجمة د. أسعد رزوق _ دار الحمراء _ ص 17 _ 20 ( 13 ) المخبأ النووي للصاروخ الذي يحمل العديد من الرؤوس النووية وقسم منها وهمي .
اقرأ المزيد
هل تقود الحروب إلى السلام فعلاً ؟ أم يفضي العنف إلى السعادة ؟ أم أن تدمير الخصم وتطويع إرادته ينهي الصراع ؟ أم أن الكراهيات المتقابلة والخوف من الاستئصال المتبادل يفضي إلى وضع مستقر ؟ هناك مذهبان في العالم لاثالث لهما : يقوم الأول على العنف وتدمير الآخر وإلغائه ، والثاني على احترام الإنسان والحفاظ عليه ، وكلا المذهبين خلفهما عواطف متباينة ، فالأول يُسقى بالحقد والثاني يُغَذَّى بالحب ، والحقد عملياً هو الانكفاء والارتداد على الذات ولذا فهو مدمر لإنه يحذف الآخر ، والحب مشاركة ولذا فهو حياة ونماء ، وسوف يقص علينا علم النفس خبراً من هذا الموضوع .
كيف يمكن مقابلة العنف بالسلام ، ولايُقابَل بما تفرضه الغريزة البحتة والقائلة : من يضربني كفاً ضربته اثنان ، وكِلْتُ له الصاع صاعين ، وتركته عبرة لمن يعتبر !! هذه هي الثقافة التي يتشربها الإنسان في العادة ، وتبثها العادات والتصرفات اليومية ، وتكرسها أفلام هوليوود ، ويتكرر ترسيخها في أذهان الأطفال من خلال لعب ( أدوات الموت ) من المسدسات والدبابات وماشابه من أفلام الكرتون من أمثال ( غراندلايزر ) وسواها .
كتب إلي أخ فاضل فقال : (( إلا أن النقطة التي استعصى علي فهمها هي مسألة العنف ، والسؤال الذي لم أجد له إجابة أبداً كيف تحاور الكلمة الرصاصة ؟ نعم قد أحاور من يرغب في حواري ولكن كيف أحاور من يرغب في استئصالي بغض النظر عن فكرتي التي أحملها ، وقد تابعت لك عدة مقالات تتحدث فيها عن نبذ العنف وعبثية الحرب فياحبذا لوسلطت مزيداً من الأضواء على هذا الجانب )) .
عندما وضعت سؤال الأخ الفاضل تحت المجهر للتحليل _ وأعتبر أن تساؤله هذا يمثل شريحة ليست بالقليلة من القراء _ فإنني أثير مجموعة النقاط التالية في أول بحثي :
1 - تقول الأولى : إن هذا الموضوع مختلط ونظراً لنوعية تعقيده فإنني _ على الرغم من قلة زادي فيه _ أخذ مني طاقة فكرية كبرى حتى وصل إلى مرحلة البللورة المتألقة _ على الأقل في ذهني _ وأفاض على قلبي من ضروب السعادة والتحرر من العقد وتوديع التقليد ، ماجعلني أشعر بما يشبه الولادة الجديدة والنور الجديد ( وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) . حيث أن هذه المشكلة أقضت مضجعي وشغلتني منذ مايزيد عن عشرين عاماً ، حتى انتهيت إلى وضوح في هذه الفكرة وتماسك في بنائها ويقين في محتواها ، ولاأزعم أن هذا هو اليقين المطلق بل هو حصيلة البحث الذي وفرت له طاقتي الفكرية منذ ربع قرن من الزمان ، ولذا فإنني أكتب في هذا المجال بشعور المتخمر والسعيد والشغوف في إعلان هذا التوجه.
2 - وتقول الفكرة الثانية : إن وضع العالم العربي هو _ ولنكن صريحين _ فيما يشبه الحرب الأهلية المهدِّدة في أي مكان في أي زمان ، فما اشتعل في لبنان ودمر في الصومال وتكرر في أفغانستان واليمن والجزائر والعراق وسوريا وليبيا ، إن هي إلا عينات أو لنقل بالتعبير الطبي ( خراجات ) قابلة للتفتح والانفجار في أي مكان ، وليس هناك من بلد عربي بمنجى من هذا الخطر المدمر الماحق ، والذي يظن نفسه أنه في جزيرة ( الأمل ) كما جاء في مسلسل الأطفال ( عدنان ولينا ) فهو في سراب خادع ووهم كاذب ، وسوف تلد الأيام الحبالى ماأقول به ، ويشاطرني فيه الكثير من أصحاب الفكر والقلم ، وهذا يوجب على أهل الفكر والمثقفين المساهمة في تحليل هذا المرض وتسليط الضوء على هذه الظاهرة المرعبة التي تأكلنا يومياً . ولانظن ونسرف في التفاؤل أن مصير ( راوندا ) بعيد عنا ، فالشروط لحدوث حريق مثل هذا قائم في أكثر من بلد عربي ، وإن في قصصهم عبرة لإولي الأباب .
وتقول الفكرة الثالثة : إن ظاهرة العنف مرض عام في أي بلد عربي ؛ فهي بلاسما ثقافية يسبح فيها الجميع ، وجو مسموم يتنفس فيه الكل ، ومرض عام لكل الفرقاء المتنازعين ، والاتجاهات المختلفة تقريباً ، وإن اختلفوا ففي التوقيت فقط ، فهم بهذا تبنوا الغدر وشرعوه . هذا الوباء بل الطاعون الفكري والإيدز الاجتماعي هو ثقافة مكررة تنتج نفسها ( وذرية بعضها من بعض ) ولذا فالانفجارات موجودة في كل بيت وزاوية ودولة . إن مرض الكوليرا عندما يجتاح بلداً ما ؛ فهو عندما يأتي لشخص ما لايسأله عن هويته العقائدية وانتماءه العرقي وانتسابه القبلي أو الطائفي ؛ بل يصيبه المرض كظاهرة بيولوجية بحتة ، والأمراض الاجتماعية شبيهة بهذا ، إلا أن ( وحدة ) المرض الاجتماعي أي الكينونة الإمراضية الناقلة والمسببة للمرض هي هنا ( الفكرة ) تماماً كما في ( وحدة ) الأمراض البايولوجية فهي ( البكتريا أي الجرثوم أو الفيروس ) . لذا ففي الواقع إننا في العالم العربي نسبح في بلاسما ثقافية موحدة مشربة بالعنف سواء اعترفنا بهذا أم لا ، يتجلى هذا من خلال ( علاقات القوى ) بين الزوج وزوجته ( 1 ) والأب وابنه ، والضابط بالجندي ، والموظف بالمراجع ، والطبيب بالمريض ، والشرطي بسائق السيارة ، والعسكري بالمدني ، والدولة بالفرد ، والأعلى بالأدنى ، فكلها في معظمها علاقات إنسانية مشؤومة ، ونظراً لأهميتها فقد عالجها القرآن في أكثر من ثماني مواضع ، واستخدم فيها مصطلح ( استكبار - استضعاف ) أو مايسمى في المصطلح الطبي العلاقة ( السادية - المازوخية ) ( 2 ) .
وتقول الفكرة الرابعة : إن هذه العلاقة الإنسانية المشؤومة ( المستكبر - المستضعف ) ( 3 ) أو ( السادية - المازوخية ) هي في حقيقتها وجهان لعملة واحدة ، وإذا أردنا تفهم هذه الظاهرة فيمكن ملاحظة كيفية أخذ ( اللقطات ) في الكاميرا ، فإن الفيلم ( الأسود - السلبي ) هو الذي يكون أساس اللقطة ، ثم وبعد التحميض يخرج الفيلم الملون ، ونحن إذا أردنا المزيد من الصور ( نسخ إيجابية جديدة ) فإننا نرجع دوماً إلى الأصل ( الأسود وغير المعبر والمشوه ؟! ) ، وهكذا يمكن فهم علاقة ( المستكبر - المستضعف ) أو العلاقة ( السادية - المازوخية ) فهما وجهان لحقيقة واحدة ، أصلها هو الأسود بمعنى أن ( المستكبر ) هو الوجه البارز والملون والمبهرج ، ولكنه في حقيقته هو ( الأسود المستضعف ) ، وكذلك فـ ( السادي ) هو في أعماقه ( مازوخي ) ، وكما في الفيلم قبل وبعد التحميض ، كذلك الحال في مرض الاستكبار والاستضعاف ، فالاستضعاف هو الذي يولد الاستكبار ، هو أسه وأساسه وجذره ومنبعه الذي يولده بدون توقف ، فإذا أردنا فهم المشاكل الاجتماعية ، وهذا المرض الاجتماعي الرهيب بالخاصة ، والذي سلط القرآن عليه الضوء لمعالجته فيمكن فهمه من خلال مثل الفيلم الأسود وتحميضه . وهكذا فانهيار الجهاز المناعي هو الذي يهيء الوسط للمرض ، وتفكك الأمة الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي ، والبيت القذر هو الذي يفرخ الصراصير والجرذان ، والمستنقع هو الذي يولد البعوض ، والأمم الهزيلة هي التي تصنع فرعونها ، والحضارات تنهار بعلة الانتحار الداخلي ( 4 ) . ويترتب على هذا نتيجة في منتهى الخطورة وهي أن التغيير يجب أن يبدأ من تحت : في البناء المخفي ، في طبقة الوعي الداخلية ، في الفيلم الأسود الذي لم يحمض بعد ، في الأمة أو حسب تعبير القرآن ( تغيير مابالنفوس ) ( 5 ) .
وتقول الفكرة الخامسة : وإذا استقامت هذه الفكرة عندنا أمكن لنا تحليل العديد من المواقف والمشاهد اليومية في ضوء هذه الفكرة ، وإذا أردنا الإنسان ( الحر ) مثل بلال فيجب أن نتخلص من هذا المرض ( السادي - المازوخي ) وبالتالي الوصول إلى حالة الامتلاء النفسي والتواضع ، فلاتبطر القوة صاحبها ، ولاتسكره خمرة الانتصار ، ولاتستبد به اللحظة ، ولايعلو مع امتلاك المال ، ولايفقد توازنه إن جلس خلف طاولة كبيرة أو تسلم منصبا ً حساساً ، وبالمقابل لايصبح ذليلاً حقيراً حينما يحرم من القوة ، أو يخسر المال ، أو تتدهور الصحة ، أو يواجه مشكلة ما ، بل حتى مواجهة الموت !! وهذه كانت رسالة الإسلام القديمة الحديثة إيجاد المجتمع العادل من خلال إيجاد الإنسان العادل من خلال إحكام التوازن الأخلاقي عنده .
وتقول الفكرة السادسة : إنني أقدر تساؤل الأخ واختلاط الموضوع ، وتشابك المفاهيم وضغط المعاصرة ، وثقل مفاهيم التراث ، كل هذا يفرض علينا وعيا ً حاداً ، وتأملاً تاريخياً ، ومطالعة علمية لاتنضب من أجل تحرير هذه المفاهيم ، والأخ في تساؤله إنما يعبر عن ضغط مجموعة من المفاهيم في الوسط الثقافي الذي نسبح فيه ، والطرح الذي تقدمتُ به يخلق إشكاليةً لابد من حلها ، ولذا أحببت في مقالتي هذه أن أضع يدي محاولاً تلمس هذه الفكرة في دينامية النفس وكيفية عملها ، وكيف يفعل العنف ويؤثر ، وكيف تعمل الأفكار السلامية ؛ تلك التي أشعر أن العالم العربي يحتاج إليها اليوم أكثر من المصاب بصدمة نزف الدم والمحتاج لنقل الدم لإنقاذ حياته ، فوضع العالم العربي لم يعد يحتمل الانتظار أمام كوارث العنف اليومية التي تتفجر مثل القنابل الموقوتة في كل مكان ، وعلينا أن نتقدم بهذا الطرح بدون خجل أو خوف من أجل إعلان ماأسميه ( ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي ) لكل الأطراف من عرقية واثنية ودينية ، وجنسية للمرأة والرجل ، لكل من يعيش في هذا المجتمع أين كان موقعه ، للحكم والمعارضة ، للدولة والفرد ، ذلك أن آلية الإعدام والإفناء المتبادل تفعل فعلها المدمر بين كل الأطراف الاجتماعية اليوم . وربما مانحتاج إليه أكثر من الصلح مع إسرائيل هو صلح الإنسان العربي مع الإنسان العربي ، والدولة العربية مع جارتها العربية .
وتقول الفكرة السابعة : إن درس ( أفغانستان ) البليغ يعطينا توسعاً وتعميقاً لهذا المفهوم الذي نطرحه ، فالمشكلة كما نراها ليست فقط عربية ، وإن كان حظ العرب منها كبيراً ، بل هي إسلامية ، بل هي عالمية ، لإنها إنسانية في جوهرها ، ولذا فإن الطرح الذي أتقدم به يشكل خلاصاً إنسانياً محلياً وعالمياً في تقديري ، وهو طرح لن يتضرر منه أحد بل سيربح منه الجميع ، فلن يخسر أحد أرضاً أو زعامة أو مالاً ، بل يربح الجميع كما يفعل الأوربيون اليوم حيث يتحدون ولايخسر أحد شيئاً بل يربح الجميع . وفصائل المجاهدين الأفغان فعلوا ببعضهم اليوم وفي وقت قريب نسبياً ، مالم يفعله الشيوعيون والروس مجتمعون ، وهي بأيديهم ومن عند أنفسهم وظلموا أنفسهم و ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟؟ قل هو من عند أنفسكم ) ( 6 ) كلها لإن النفوس تشربت العنف ، ومارست القتل ، وشربت الدم ، ولم يخالط قلوبها الحب ، أو سيطر على عقولها مفهوم السلام ، الذي أود شرح ديناميته بعد قليل . فعلينا مع درس أفغانستان ألا نبحث عن ( كبش فداء ) و ( علاَّقة مهازل ) نلقي عليه اللوم ونتهمه أنه الذي يتآمر علينا ، فالمسؤول عن الدمار اليوم ليس الشيوعيون والروس ، أو الاستخبارات الأمريكية ، أو الصهيونية والموساد ، أو الصليبية العالمية وقوى التنصير ، أو الماسونيين وقوى النورانيين الخفية ، هذه المرة انكشفت عورتنا ، وبانت عيوبنا الذاتية بغير غطاء ، وأن العجز هو مرض عميق متأصل في العالم الإسلامي ، ونحن المسؤولون عنه ، وأن تدمير كابول اليوم يتم بيد المسلمين أنفسهم و ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) ، ولكن ( جعبة ) العاجز حاملة ماهو أدهى من جعبة ( حاوي السيرك ) الذي يخرج الأرانب والثعابين من المنديل ، فيمكن إلقاء اللوم على الشيطان ، أو لامانع من إدخال الأرادة الألهية أحياناً التي أرادت هذا الدمار لكابول ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . وهذا التوجه هو في أعماقه نفس طريق اللاعودة ، طريق اللعنة الأبدية التي دخلها الشيطان لإنه ألقى اللوم على الله في ضلاله ( بما أغويتني !! ) في حين أن طريق ( الآدمية ) ودخول الجنة دشنها آدم باعترافه بالخطأ من خلال عملية نقد ذاتي قاسية ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) .
وأريد أن أشير إلى أن الروس والحلفاء معاً ينسحبون من الأرض الألمانية بدون طلقة رصاصة واحدة من ( مجاهد ) كما لايزهق بعضهم أرواح بعض بعد الانسحاب ، كما حققوا وحدتهم بدون صواريخ على المدن أو حرائق في مصافي البترول . واليابان هو البلد الوحيد الذي ضُرب بالسلاح الذري في تاريخ الجنس البشري وربما لن يتكرر ذلك مرة أخرى ، واستسلم بدون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية ، هو الذي ( تترجاه ) أمريكا اليوم أن يتسلح ، فيرد بكل اللطف الشرقي المعهود ، أنه ملتزم بالفقرة الثالثة من وثيقة الاستسلام التي تنص على عدم عودة اليابان إلى التسلح في المستقبل ، مع العلم أن اليابان لو أرادت الوصول إلى السلاح النووي لامتلكته في شهر واحد لايزيد بسبب القاعدة التكنولوجية التي تمتلكها ، ذلك السلاح الذي يتلمظ ويتبارى في شرائه وتكديسه كثير من دول الأطراف ، بل تستفيد منه كثير من دول ( الامتيازات ) كما نسمع اليوم عن تهريب البلوتونيوم ، فباب الخلاص للأمم كما نرى ليس مثل ( باب الحمصي ) ( 7 ) ولايحتاج دوماً لطلقات المجاهدين ، الذين أفرزوا مشاكل لاتنتهي من خلال تشرب العنف وتسريبه للعالم الإسلامي .
وتقول الفكرة الثامنة : إن حركة الخوارج قديماً وبإجماع الأمة ، لم يعتبر المسلمون حربهم أو خروجهم جهاداً في سبيل الله ، في الحين الذي كانوا يلقبون أنفسهم بالمجاهدين والشراة ( أي الذين شروا أي باعوا أنفسهم في سبيل الله ) بل واعتبروا كل من عداهم كافراً مارقا ً يستباح دمه ( 8 ) وعرضه ولاتؤكل ذبيحته ؛ كونه مشركاً ، كل هذا تولد من صراع سياسي ضاري ، وكانوا يعتبرون أنفسهم أنهم يمثلون الإسلام النقي ، ودشنوا حركتهم بقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وكان إخلاصهم لإفكارهم بدون حدود ، وتضحيتهم لما يعتقدون به شيء مرعب ، مع هذا لم ينفعهم إخلاصهم لإن وعيهم وفقههم لم يكن في مستوى هذا الحماس والاندفاع الذي اشتهروا به ، وخير من وصفهم هو نفس الإمام علي حينما اعتبرهم طلاب حق أخطأوا الوصول إليه فقال فيهم : (( ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ؟؟!! )) . ومانراه اليوم من بروز هذا التوجه في مصارعة الأنظمة ومناطحة الحكومات من خلال الصراع الدموي العنيف والمسلح ، هو في الواقع ( إحياء ) لمذهب ( الخوارج ) من حيث أرادوا أصحابها أو لم يريدوا ، وبكلامي هذا لااريد إدانة طرف أو تزكية آخر ، لإننا كلنا نسبح في مستنقع العنف وندفع فواتيره اليومية ، وكله ينبع من ثقافة إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به فضلاً عن إيجاده إن لم يكن موجوداً أخي السائل : إنك عندما تدخل إلى روع الاخر أنك لن تسمح له بالوجود ، مع أن الله منحه الوجود بالأصل ومنحه كرامة أن خلقه بشراً سوياً وليس عشباً أو قطاً ؛ فإنه لن يسمح لك بالوجود أيضاً ، والوصول إلى كسر حلقة العنف والعنف المضاد هو برمي السلاح كلية ومرة واحدة إلى الأبد كما فعل ابن آدم الأول ، وإلا كيف تنشأ الحروب بين الدول أو الحرب الأهلية ضمن الدولة الواحدة ؟ إنها تنشأ من عقدة أو حلقة فظيعة من هذه السلسلة ، لنتأمل ذلك .
*************************************
كيف تنشأ الحرب الأهلية مثلاً ؟ إنها تبدأ من تخمر وتفشي فكرة ( الدفاع عن النفس ) في وسط مشحون بالتوتر والهلوسات العقلية عن الآخر !! كما هو الحال في معظم مناطق تفجر النزاعات العرقية . إن استيلاء فكرة واحدة على الطرفين هي التي تدفع الطرفين لافناء بعضهما بعضاً ، الأول تستولي عليه فكرة ( قبل أن يقتلني علي أن أقتله !! ) والثاني يقول ( سوف يقتلني وأولادي لذا يجب أن ادافع عن نفسي واهلي !! ) فالمرض ناشيء من هذا الشعور الطاغي والمشترك والمتسلط على الفرقاء المتنازعين ، و( تشابهت قلوبهم ) والبداية المروعة بدأت وكانها بريئة ومبررة ومعقلنة تماماً أي مبدأ ( الدفاع عن النفس ) وهو مقبول ومهضوم من كل شخص أو فريق إذا اقتنع به ، ولكننا ننسى أن كلاً من الطرفين ينطلق من فكرة ( الدفاع ) ليصل إلى ( الهجوم ) ولاتوجد اليوم في العالم كله ( وزارات هجوم ) بل كلها ( وزارات دفاع ) ؟!! وحين يحصل الهجوم من أي طرف فإنه ينطلق تحت ضغط الدفاع تماماً ، أو الضربة الاستباقية للدفاع ، فهي ليست هجوماً بل دفاعاً ، أو كما يقول المثل الشعبي ( اتغدى به قبل أن يتعشى بي ) أو حسب مبدأ هتلر الشهير ( الهجوم خير وسيلة للدفاع )
********************************
إننا لو استطعنا كسر هذه الحلقة المعيبة ومن ( طرف واحد ) وأدخلنا إلى قناعة الآخر ( من خلال تاكيد المفهوم وتكراره واتخاذ المواقف المناسبة ) ؛ بأن الطرف الأول لن يدافع عن نفسه حتى لو هوجم ، فإن النتيجة سوف تكون أن الآخر سوف يتوقف عن الهجوم وتخمد حدة اندفاعه فهذا هو جذر سيكولوجية العنف والسلام ، فطالما لايوجد خطر ( حس الدفاع المشترك المتبادل ) فسوف يتوقف هذا المرض عن التفشي وإحداث الكوارث ، ولماذا يهاجم مسالماً أعزل ؟
قد يركب رأسه ويقوم بالهجوم !! هنا تبرز الآلية الثانية في عملية تحرير النفس من مركب ( الاستضعاف _ الاستكبار ) التي أشرحها على الشكل التالي :
إن عدم الرد على الأذى والعدوان باتخاذ موقف عدم الدفاع عن النفس ، سوف يدخل إلى الماكينة الهجومية للطرف الآخر الفرملة الأولى ، ومن خلال الدفع بالتي هي أحسن سوف تحرض عند الطرف الآخر آلية تنبيه الضمير والخير التي هي في كل إنسان فينا ، فكل فرد هو ملك وشيطان بنفس الوقت ، فإذا لم تنفع الآليتان في وضع كمية الفرملة المناسبة ، تدخل عند ذلك آلية جديدة متقدمة لوضع الفرملة النهائية المتدرجة لكل حركة العنف المتقدمة .
إن الذي يستقبل ضربات الطرف الاخر يتصرف على نحو مضاعف ؛ الأول بعدم رد الأذى بمثله ، وعدم شحن النفس بالحقد والكراهية تجاه الطرف المعتدي ، كل الهدف هو فرملة التصرف فقط ، ولذا لايتراجع السلامي عن موقفه بل يدعوه إلى الحوار ، فهو بهذه الالية النفسية المزدوجة يقوم بعكس مايريد العنيف ، العنيف يريد إلغاء الطرف الاخر ، يريد كسر إرادته وتطويعها تمهيداً في النهاية لإلغائها ، تمهيداً لتوليد الوسط المشؤوم ( السادي - المازوخي أو التابع والمتبوع ) ( 9 ) أما الطرف السلامي فهو ومن خلال عدم الرد وعدم الحقد والدعوة للوصول إلى الحقيقة وعدم التراجع ، يفسح المجال أمام وجود الآخر والاحتفاظ بأرادته وعدم إعدامها ، وبالتالي المحافظة على الطرفين ، وهكذا فالأول يريد الربوبية المحرمة ، والثاني يريد العبودية لله رب العالمين وتآخي البشر ووحدتهم وتساويهم .
إن الطرف المعتدي إذا استمر في اندفاعه واستمر الاخر في عدم بسط يده حتى لو أراد الأول قتله كما جاء في قصة ولدي آدم في القرآن ، فإن جوا ًنفسياً عجيباً سوف يحدث ، وهذا الذي كشف عنه علم النفس الحديث ( 10 ) فالمهاجم سوف يدخل في مرحلة نفسية أولى تتسم بالدهشة والسبب هو عنصر المفاجاة ، فالجندي اعتاد أن يهاجِم ويُهاجَم ، ولكنه غير معتاد على الهجوم فلايصادف دفاعاً !! ولذا فالنشاط السلامي يستخدم تكتيكاً ذكياً بإدخال عنصر المفاجأة في اللعبة !! ثم يبدأ الفصل الثاني في اللعبة وهو أخطرها إن لم يكن السلامي قد تدرب تماماً واقتنع بالفكرة حتى مخ العظام ، فكما يتدرب الجندي في الثكنة العسكرية ، فإن أمام السلامي تدريباً من نوع مختلف ، باستثناء أنه غير مؤذي وأكثر بركة في نتائجه ، ويمكن لكل شرائح الأمة المشاركة فيه بما فيه النساء والأطفال ، ودخول المرأة هذا النشاط الاجتماعي سيجعل الحياة تدب فيه ، باعتبار أن المرأة هي نبع الحياة والمحافظة على الحياة وهي مصدر طاقة الأمومة والحب ، وسبب قوة سلاح هذه المقاومة هو توجهها إلى ضمير الخصم من أجل إدخال النشاط إليه ؟! .
إن العنيف مع استمرار هجومه قد يقنع نفسه أن خصمه حقير وتافه ( من نفس شجرة إلغاء الآخر ) ولكن صمود وعدم تراجع السلمي وعدم حقده والاستمرار على دعوة الحوار سوف يحول موقف العنيف تدريجيا ًبحيث يتشرب الموقف تدريجياً بآلية المحاكاة ، حيث تحصل ( عدوى ) في الموقف ، سوف يشعر العنيف أنه قد يخسر المعركة ولكن بعد قليل سوف يتبين له أن طبيعة المعركة الآن مختلفة فليس هناك إلغاء للأرادات بل حالة ( التئام وتكامل ) في الأرادات . وبذا ينتهي الصراع ليدخل الاثنان في عملية بناء سلمية وفي جو ديموقراطي ، لإنه لاديموقراطية مع العنف ، فإذا أردنا حصد الديموقراطية في العالم العربي علينا بزرع روح السلام ونبذ فكرة العنف .
***************************************
وفي النهاية أريد أن أقول للأخ السائل لقد كشف علم النفس الحديث أيضاً عن آليات عمل النفس في جو الصراع التقليدي ونوع الصراع الجديد الذي أطرحه ، إن صح تسميته بالصراع لإن نصفه من العالم القديم ونصفه الاخر من عالم السلم العالم الجديد ، الذي أخبر الله عنه الملائكة حينما رأت جانب العنف في الإنسان فقال لها مبشرا ًبالإنسان الجديد ( إني أعلم مالاتعلمون ) .
عندما ينشب الصراع على طريقة ( كلاوسفيتز ) الضابط الألماني صاحب كتاب ( فن الحرب ) من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة ، أي إخضاع إرادة الخصم لإرادتنا . ياترى ماذا يتشكل عند هزيمة الطرف الاخر في الصراع والحرب ؟؟ هل نظن أن السلام يولد من جوف الحرب ؟؟ هل يمكن لشجرة الحنظل أن تنبت تمراً ؟؟ ولشجرة الحسك أن تنتج تيناً ؟؟ هيهات هيهات لما توعدون !!! .
إن الحرب لم تقد إلى السلم مطلقاً ، وهي مظاهرة جوفاء فارغة وسطحية ومؤقتة في انتظار جولة الحرب الجديدة ، وهذا الكلام ينطبق أيضا ً على الشرائح السياسية المتصارعة داخل البلد الواحد ، وأصبع الإدانة توجه أيضاً إلى عالم الكبار الذين أوقفوا الحروب بين بعضهم ليس قناعة بالسلام ، بل خوف الدمار الذري !!
إن المهزوم سوف يحمل الحقد في انتظار الثأر المخبأ في ضمير الغيب ! وسوف يكون الثأر مروعاً ومنتجاً بدوره لثأر مضاد ، وهكذا تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال ، في حين أن عدم هزيمة إرادة أحد الطرفين والدخول في تكامل من أجل توليد عالم جديد ليس فيه مكان للحقد هو السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم ، الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانت . إن القرآن لم يقص علينا هذا الأسلوب عبثاً في صراع ولدي آدم في فجر التاريخ الإنساني ، فهو طرح أسلوبين لاثالث لهما كأسلوب لحل المشاكل ، الأسلوب الأول هو إلغاء الآخر إلى درجة قتله ، والثاني الذي زكَّاه القرآن وأثنى عليه هو رفض الدفاع عن النفس من أجل كسر حلقة العنف الشيطانية ( ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) .
**********************************
إن الثبات على هذا الموقف وحتى الموت سيجعل النهاية أن نفس القاتل يندم على فعلته ، لإنه سوف يكف أن يكون ( بطلاً ) بل سوف يتحول إلى ( مجرم ) . إننا بآلية ( الدفاع ) سنحرض عنده آلية الدفاع الغريزية فسيقتلنا وهو يقوم بعمل ( بطولي ) مبرر ؟! أما بعدم دفاعنا فسنحول عمله إلى ( جريمة ) !! والفرق كبير بين الشعور بـ ( البطولة ) والشعور بـ ( الجريمة ) ومذبحة الحرم الإبراهيمي مثلاً جعلت اليهود ليس في إسرائيل لوحدها بل حتى في مونتريال في كندا يمشون مطأطيء الؤوس خجلاً ، وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع ، عن أولئك الذين قتلوا صبراً ظلماً عزَّلاً مصلين ، بل إن تكتيك داوود القديم حيث يعيد التاريخ دورته بعد ثلاثة آلاف سنة ، حيث ينقلب داوود إلى المدرع ( جالوت ) = إسرائيل النووية الجديدة ، وينقلب جالوت القديم إلى داوود الجديد ، ليستخدم نفس المرقاع و ( الحجر ) لدحر جالوت الجبار ، أقول هذا التكتيك ( الداوودي ) وروح الشهادة ، أسهم في دفع القضية الفلسطينية أكثر من كل عمليات التفجير والاغتيالات والحروب العربية مجتمعة .
يجب أن ندرب انفسنا على عدم قتل الاخرين ، بل الاستعداد للموت من اجل افكارنا إذا تطلب الأمر ، وبذلك نحول أنفسنا إلى ( شهداء ) والآخرين القاتلين إلى ( مجرمين ) ، وميكانيزم الشهادة عجيب ، لإن المقتول ظلماً هو الذي يتحول إلى قديس يعصر القلب ويدمع العين ويحرض إرادة الآخرين لسلوك نفس الطريق الذي سلكه صاحبه ، وراجع قصة أصحاب الأخدود تعطيك الخبر اليقين ، ومذبحة ( صبرا وشاتيلا ) حركت الضمير العالمي كله بل وحركت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم ، بسبب موتهم بغير دفاع ، خلافاً للقتل المتبادل في كل الحرب الأهلية اللبنانية . مع أن الذين قتلوا في الحرب الأهلية هم أضعاف أضعاف المذبحة ، كل هذا بسبب تحريك الميكانيزم الإنساني ، الذي يجب أن نثق به ، ونعلم أنهم مغروس في أعمق أعماقنا فطرتنا ويستيقظ في الحادثة الإنسانية .
وجرت سنة الطبيعة أن البذرة حتى تنبت لابد من دفنها بالتراب أولا ً . إن القاتل سوف يندم في النهاية ( فكان من النادمين ) والندم هو التوبة ، لإنه لن يقدر أن يبقى تحت الضغط الساحق الماحق لفكرة كونه ( مجرماً ) ، إنه في النهاية سوف يحمل أفكارنا التي قَتَلنا هو من اجلها ، وبذا تدخل أفكارنا الخلود ؛ لإنها لم تمت مع موت صاحبها وهذا هو خلود الشهداء بخلود أفكارهم ومواقفهم ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ؟!!
أنا صوت صارخ في البرية .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .. هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لإنها صوت الحفاظ على الجنس البشري (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )
هوامش ومراجع :
( 1 ) تقول الأمثال العامية وهي معين لاينضب للثقافة اليومية ، أن ليلة الدخول في العرس ( ليلة الدخلة ) يجب أن يسيطر فيها وعلى مسرح العائلة ومنذ اللحظة الأولى الرجل ( الذكر الفحل ) ؛ فيقطع رأس القط من الليلة الأولى !!! تعبيراً عن الرجولة وسيطرة الذكر وانعدام المشاركة في البناء الجديد ، فهي صورة وأد خفي في الواقع لإنها إلغاء إرادة الأنثى التي تنتقم فيما بعد عندما يشيخ الذكر من خلال أولادها ، وهناك ثقافة عجيبة غير مكتوبة وهي قتل الفتاة غير المتزوجة في الانحراف الجنسي وترك الشاب بدون عقوبة ، مع أن الشريعة الإسلامية واضحة لأبعد الحدود في هذا الموضوع فهي لم تشرع القتل للفتاة ولاالسكوت للشاب بل الجلد للاثنين ، ومن هنا نرى أن الثقافة غير الناطقة والتي تدمغ سلوكنا اليومي شيء عجيب من حيث لاندري ، وإذا كان هذا المثل واضحاً جداً فهناك من الأمثلة ماهو أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء ، مما يتطلب مراجعة قاسية وكبيرة لثقافتنا التي تراكمت عبر العصور . ( 2 ) السادية تنسب إلى المركيز دي ساد وهي حالة التمتع بالأذى عند إنزاله بالآخرين ، والمازوخية عكس ذلك وهي التمتع بالألم عند استقباله من الآخر ، وهناك حالات عجيبة من الشذوذ الجنسي لها علاقة بهذا المركب ، بحيث أن صاحبها لايصل لقمة اللذة الجنسية إلا بالوضع المازوخي مثلاً بالضرب بالكرباج أو التقييد بالسلاسل وما شابه ، وفي العادة فإن المازوخي سادي وبالعكس ، وهذا معنى عجيب في اختلال النفسية الإنسانية وإصابتها بهذا الضرب من الأمراض . ( 2 ) تأمل الآية من سورة سبأ رقم 31 : (( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استُضعفوا للذين استكبَروا لولا أنتم لكنا مؤمنين )) ( 4 ) يراجع في هذا البحث القيم الذي كتبه المؤرخ البريطاني ( ج . أ . توينبي ) في كتابه الموسوم ( مختصر دراسة التاريخ ) تحت بحث انهيار الحضارات . ( 5 ) الآية من سورة الرعد ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) رقم 11 . ( 6 ) الآية من سورة آل عمران رقم 165 . ( 7 ) تروي النكتة السورية وهم يتندرون كثيراً على الحمصيين مع أنهم من أذكى وأطيب أهل سوريا ، وهناك تنافس بينهم وبين الحمويين بسبب قرب المدينتين من بعض ، أن حموياً طلب من نجار حمصي أن يصنع له باباً ، فلما جاء لأخذه كان الحمصي في الصلاة ، فما كان من الحموي إلا أن أخذ الباب فاشتد الحمصي في أثره لأخذ أجرته وثمن الباب فالتقيا في فلاة واسعة ، فما كان من الحموي إلا أن أغلق الباب ، فبدأ الحمصي في قرع ااباب : افتح الباب افتح ، والنكتة معبرة ولكننا في كثير من مشاكلنا ننسى كل الفلاة ونريد فقط الدخول من باب الحمصي !! . ( 8 ) الصحابي أو التابعي الذي حدثت معه هذه الواقعة المشهورة هو واصل بن عطاء وجاءت بشكل مفصل في كتاب الكامل في اللغة والأدب للمبرد 2 \ 122 ( نقلا ً عن كتاب أدب الاختلاف في الإسلام _ تأليف طه جابر العلواني _ إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي _ الطبعة الخامسة عام 1992 الموافق 1413 هـ _ ص 12 ) : (( يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج فقال واصل لإهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا : شأنك فخرج إليهم فقالوا : ماأنت وأصحابك قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده ، فقالوا قد أجرناك قال : فعلمونا فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا قال : ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن )) ( 9 ) تأمل الآية من سورة البقرة رقم 166 : ( إذ تبرأ الذين اُتبعوا من الذين اتبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) . ( 10 ) راجع البحث الممتع ( سيكولوجية واستراتيجية المقاومة اللاعنفية ) للكاتب ريتشارد غريغ ، وكتاب نحو اللاعنف لخالد القشطيني ، وكتاب تجاربي مع الحقيقة لغاندي ، وكتاب قانون الحب والعنف لتولستوي ، وكتاب العصيان المدني لهنري ثورو ، وكتاب نحو السلام الدائم لعمانويل كانت .
اقرأ المزيد
إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما ، فإن العكس صحيح أيضاً ، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي ، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض : فطالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا ، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين ، وطالما كانت أسرار التغيير تحت أيدينا فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا ، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده قبل أن يكون من مصدر آخر !! وأعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي : أن لايلوم أحداً ، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ ، وأن لايلعن الظروف ، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف ، تمهيداً للسيطرة عليها ، وأخيراً فإن علينا أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير ، لإن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره ، والتسخير هي الخدمة المجانية ، وهي متاحة لجميع البشر .
مازالت أحداث البوسنة ماثلة في ذهني وبجنبي الأخ معاذ وفي وجهه مظاهر الألم وهي مشاهد مكررة مع اختلاف المواقع. أتذكره حين قال : عندما أسمع أخبار ( بيهاج ) أشعر وكأن أحشائي تتمزق من الداخل ؟! ورد الأخ عماد : إن مايحدث شيء غير معقول ، وتتابعت التعليقات في توزيع ( اللوم ) على الأمم المتحدة أو رؤوساء الدول الأوربية أو موقف أمريكا المتردد ؟؟!! هذه عينة جيدة من آلام المسلمين اليومية ، ولكن هل يمكن فهم كارثة بيهاج بدون كارثة البوسنة ، بل هل يمكن فهم مايحدث في البوسنة بدون الاجتياح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، وهل يمكن فهم عقدة الصرب بدون معركة ( أمسل فيلد - AMSELFELD ) التي حدثت في عام 1389 م ، أو حتى قبل ذلك منذ الشرخ التاريخي بين الكنيسة الشرقية والغربية عام 879 م على أرض البلقان ( 1 ) أم هل يمكن فهم الأحداث الحالية بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني ، ضمن صيرورة الحضارة الإسلامية ؟ وأن مايحدث اليوم لايشذ عن القانون التاريخي الذي يفيد بالعلاقة الجدلية بين الأحداث ، فكل حدث هو نتيجة لما قبله ، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده من الأحداث . وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلايمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها ، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها .
في نهاية القرن الثامن الهجري ( الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي ، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط ، يسطر بحثاً في التاريخ ، غريب العنوان طويله ( 2 ) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل ، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون ، فيصل إلى فهم حركة التاريخ ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية ، بهذه الكلمات القليلة (( وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً ، فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 3 ) هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي . وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس ( قانوني - سنني ) مرهف ، فهو يحاول فهم علل الأشياء ، ويدخل إلى بطن الأحداث ، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (( فإن التاريخ في ظاهره لايزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ))
هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابياً ونوعياً في تاريخ الفكر كله ، فهو نزل إلى الحوض التاريخي ، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها ، ليس كقطع ممزقة ، ونثارات مرمية ، وحوادث لايجمعها خيط ، أو ينتظمها قانون ، بل كواقع بشري يخضع لـ ( سنة الله ) في خلقه ، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها ، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق ، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية ، وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ ، فلاغرابة أن اعتبره المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي _ والعلماء يقدرون بعضهم _ بأنه (( أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان - IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE )) ( 4 ) أو أن يعتبره ( فلنت ) : (( إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون ، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه )) ( 5 )
إن فكر ( ابن رشد ) و ( ابن خلدون ) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم ، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه ، ولهذا لم يتابع أحداً هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش ، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن ؟! والذي استفاد من هذا الفكر ( السنني ) هم رواد النهضة الغربية ( 6 ) خاصة في إيطاليا ، حيث أطلق تياراً عقلياً تحررياً ، بدأ ينتبه إلى فكرة ( السنن ) في إدراك الوجود ، و( البحث التجريبي ) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة ( الاستقرائية - INDUCTION ) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة ( الاستنباطية - DEDUCTION ) ( 7 ) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود ، فكانت طريقة ابن خلدون الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين ( العودة إلى الواقع ) لإن أي ( صخرة ) هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أياً كان مصدره ، أي بربط الفكر النظري بالواقع ، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ؟ لاكيف يجب أن تكون كما فكر من قبل أرسطو وإفلاطون ( 8 ) وهي نقلة نوعية في الفكر .
هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار ( الطبيعة والتاريخ ) من مصادر المعرفة ( 9 ) هي روح إسلامية وهي بنفس الوقت ثورة على التفكير اليوناني القديم ، ففكرة ( السنة ) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن ، والسنة ليست في التفاعل الكيمياوي ، أو الخواص الفيزيائية لمعدن ما ، بل ولا في البايولوجيا ، عنى القرآن بالسنة ( النفسية الاجتماعية ) ، واعتبر أن هذه السنة ثابتة ، فلا تتغير ولاتتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 10 )
وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون ( السنة ) فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى ، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه ؟؟ هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية ، فالقانون يفرض نوعا ً من ( الحتمية - DETERMINISM ) على العقل ، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البايولوجيا ، كما أن قانون الذرة هو غير قانون المجرة ، وقوانين ( ميكانيكا الكم ) هي غير قوانين ( النسبية ) ، وغير القوانين ( النفسية والاجتماعية ) ، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره ، ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية ، لذا أصبح المجتمع متطوراً وقابلاً للتغيير .
يقول مالك بن نبي (( إن كل قانون يفرض على العقل نوعاً من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون ، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً ، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم . فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لاينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببية ضيقة النطاق ... وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لاتتقبل التغيير حسب طبيعتها تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير ، لإن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس )) ( 11 )
وإذا كانت ( السنة أو القانون ) تسيطر على الوجود بكل قطاعاته بدءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة ، من الالكترون حتى النفس الإنسانية ، ومن الجزيء الكيمياوي حتى المجتمعات ، فكيف يمكن فهم قانون تغيير مابالنفوس ؟؟
إن النفس الإنسانية لاتشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود ، ولكن قطاع التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البايولوجي ، فــ ( وحدة التأثير - UNIT ) هنا هي ( الفكرة ) إضافة أو تعديلاً أو ابتداءً ، واعتبرت الآية القرآنية أن إمكانية تغيير مابالنفس ممكناً ، والواقع يمدنا بشواهد يومية على ذلك ، بل إنها ربطت تغيير الواقع ، ومن خلال سنة الله في خلقه ، بتغيير رصيد مابالنفوس (( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم )) ( 12 ) ، ففي هذه الآية الرائعة والتي تشكل بناءً أساسياً وفكرة مفصلية في منظومة المعرفة الإسلامية ( الابستمولوجيا ) تنقدح ( حزمة ) من الأشعة الفكرية !!
يقول الشعاع الفكري الأول : إن الإرادة الآلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على أساس مجموعة من السنن المحكمة ، ومن هذه السنن ( الجهد الإنساني ) ، فالله لايغير الواقع الاجتماعي ، مالم يتدخل الفعل الإنساني ، على كل تفاهته وضعفه ، فلولا الماء المهين الذي نمنيه ( نحن ) ماتمت عملية الخلق التي لاحدود لروعتها ، وهذا تكريم إلهي للإنسان على دوره في هذا الوجود من خلال وظيفة الاستخلاف التي أُنيط بها .
ويقول الشعاع الفكري الثاني : إن هذا القانون دنيوي أرضي فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في راوندا أو ألمانيا ، لاختار قطعاً ألمانيا ، والسبب بسيط هو وجود الضمانات ، فمنذ اليوم الأول من ولادة الإنسان ، تكون حظوظه أن لايموت في الأمراض ، أو أن لايقتل بحرب أهلية ، أو أن لايموت جوعاً ، أو أن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة ، أو أن يحصِّل تدريساً عالياً ، ولا يعني هذا أن كل من يولد في راوندا يكون فقيراً ، أو من يولد في الصومال مريضاً ، أو من يولد في أفغانستان مقطوع الساقين بقذيفة مدفع ، ولكن احتمالات كل هذه وبنسبة تتراوح تزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي للمجتمع ، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى الجبهات ، أو لو ولد يهودياً أن قضى نحبه في إحدى معسكرات الاعتقال النازية . لذلك كان المسؤولية والحساب في الآخرة فردية ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( 13 ) في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 14 ) ، وفي حديث السفينة عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية ( 15 ) فعندما تنطلق القوارض ؛ من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً ، فإن الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء ، بمافيهم القوارض الفاسدة الحمقاء التي لاتبصر أكثر من أرنبة أنفها ، بتضخم الذات المريضة السرطانية على حساب المجتمع ( مثل تلك المناظر اليومية المؤذية والعدوانية ، من الوقوف أمام إشارة المرور ، فيتحرك المخالف الذي ركب على رقبة الناس وسرق وقتهم ، عندما يزمر له طابور السيارات المصطف خلفه ؟! ) .
ويقول الشعاع الفكري الثالث : إن هذا القانون بشري ، يضم تحت شموليته كل البشر مؤمنين وملحدين ، مسلمين وكافرين ، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات : المستوى الأول : إن الكون مسخر ( كمونياً ) بالقوة ، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين تسخيره ، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها ، فهو حقل متاح للجميع ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( الإسراء : 20 ) وهكذا طير الأمريكيون الحديد في الهواء ، وأطلق اليابانيون الإعصار الالكتروني من قمقمه ، ويفتك الصرب اليوم بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون . المستوى الثاني : ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوي في هذا الكون الذي نعيش فيه ، وليس هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن ، والإخلاص بدون حدود ، والحذر من الأخطاء بدون نوم ، ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم ، كما عذب اليهود والنصارى من قبل (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق )) ( 16 )
ويقول الشعاع الفكري الرابع : إن هذا القانون اجتماعي وليس فردي ، فلو أراد فرداً أومجموعة صغيرة أن تغير مابنفسها ، فقد يحصل العكس ، فقد تتعرض للسحق تحت قانون ( الدجاجة الجريحة ) الذي ذكره المؤرخ البريطاني توينبي ، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة المجروحة ، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت ؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين : داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم ، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة ، في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً ، لإن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق ، الحسرة على المزيد والقلق على ماهو موجود ، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ، أن لايكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق اللصوص ؟!
ويقول الشعاع الفكري الخامس : إن لفظة ( ما ) في آيةٍ استبدلت بلفظة ( نعمة ) في آية أخرى ، وبذلك فيمكن للنعم أن تتغير لتصبح ( نقماً ) !! والعكس صحيح ؛ من خلال تغيير مابالنفوس ، والنعم كثيرة لايحصيها العدد ، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة وظروف العمل المريحة والأمن الاجتماعي ، ومقابلاتها من انتشار الأمراض ، وفساد التعليم ، وسوء نظم القضاء والخيانات الزوجية ، والتوتر في ظروف العمل ، والخوف الاجتماعي ، وجمعت الآية القرآنية نموذجين متواجهين (( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ( النحل : 112 ) وليس هناك من ( نعمة ) أعظم في المجتمع من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش وراحة البال ، وكنت أتعجب من ( الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة ) مع كل رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي ، واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي ( قوت اليوم ) في مجتمع يوفر ( الضمانات ) للأفراد الذين يعيشون فيه ، ضمن ( الطمأنينة الروحية ) وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل الشوكولاتة الاجتماعية ( وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) فهذه الطمأنينة هي التي كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع الرفاهية ، والعكس صحيح بفقر عالم ( الأشياء ) فالعلماء تفيض قلوبهم بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من الدولارات ، لإنهم ( لايملكون الأشياء كما لاتملكهم الأشياء ) .
إذا ً كيف يحصل التغيير الاجتماعي ؟؟
إن جواب هذا يتعلق بفكرتي ( الكتلة الحرجة ) و ( المثلث الاجتماعي ) .
فكرة المثلث الاجتماعي :
حتى يمكن السيطرة صحياً وفي منطقة ما ، فلايشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء بل يكفي قدراً معيناً ، وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى ويتعلق بمجموعة من العوامل ( عدد السكان _ الأمراض المتوطنة _ الحالة المعيشية _ التعليم _ المواصلات الخ .. ) فكيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما ؟ فأقول تقريباً للموضوع مايلي : حتى يمكن إشباع المجتمع صحياً والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما ؛ لابد من وجود ( كتلة اجتماعية حرجة ) تقوم بالدور الصحي ، هذه الكتلة الحرجة تنتظم ( مثلثاً ) ذو أضلاع ثلاثة يجلس في الضلع الأول ( الأشخاص الفنيون ) ( الأطباء والممرضون والفنيون .. الخ ) ، ويكون في الضلع الثاني ( المؤسسات الصحية ) ( المشافي المستوصفات المخابر مراكز البحث العلمي الخ .. ) ، وأما الضلع الثالث فيحوي ( الأفكار ) وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي ، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد ، فلا يكفي بناء مشفى وشراء لأحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية ، ذلك أن الحضارة ليست شراءً للأشياء ، بل هي عملية بناء ، والشراء مهما كانت الأموال خلفه ( سينفد ) ( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ) ( النحل : 96 ) وتختصر في ثلاث كلمات ( بناءٌ لها وصيانتها والقدرة على تطويرها لإنها تمتلك السر الحضاري وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف ) .
إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية . وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية وانتهاءً بأعلاها . و كذك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية بما فيها المؤسسة العسكرية .
وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لايخرج أيضا ً عن القاعدة الصحية التي ذكرناها فيما سبق أي وجود المثلث الذي يضم ( أشخاص + مؤسسات + وعي فكري مطابق ) . فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية من خلال تشكيل الكتلة الحرجة والشبكة الاجتماعية المتوترة . وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لابد من تهيئة عناصره الأولية ، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هي الإنسان الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره .
فكرة الكتلة الحرجة : يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى ، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لاينقصون عنها ولافائدة من زيادتها إن لم تربك ( كتلة حرجة CRITCAL MASS ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية ، لإن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى ، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوماً ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود ، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية ( التورم غير الصحي والموت بعد حين ) وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي ( خبيثة - MALIGNANT ) ، وفكرة الكتلة الحرجة كونية سواء في المادة الصلبة أو السوائل ، في البايولوجيا أو النفس ، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي ، فهو قانون انطولوجي وجودي . ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا ً ، من أن التراكم ( الكمي ) يحدث انقلاباً ( نوعياً ) مع الزمن ( 17 ) ولمزيد من فهم الفكرة نقول : من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن ، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج ، ولايكفي مجرد الإضافة ، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً ، أي يختلط بدرجة التجانس ، وتستمر هذه ( الإضافة ) وهذا ( التفاعل ) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أشبع إلى ( الدرجة الحرجة ) بحيث أننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح .
إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة ، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى ( الكتلة الحرجة ) فلاتنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية ، بل لابد من كتلة حرجة ، بحيث تضغط كتلتان من مستوى ( ماتحت الحرج ) كي تصبحان بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة ؛ فيحصل الانفجار المهول . هذه ( الكتلة الحرجة ) تعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي . ويسري هذا القانون على النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة ( التأثر الحرج ) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ( 5 : 83 ) . ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لاتحدث إلا بــ ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد ، فلايتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100سنتجراد . وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي ، فلايحدث الغليان مالم يصل إلى الدرجة الحرجة .
وهكذا فـ ( الماء ) حتى يغلي لابد له من ( الدرجة الحرجة ) و( القنبلة الذرية ) تحتاج لانفجارها إلى ( الكتلة الحرجة ) و( الجبن ) حتى يُحفظ يحتاج لــ ( الوسط الحرج ) والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة سواء ( نوعياً ) أو ( كمياً ) حتى يتم الإصلاح المنشود .
ولتبسيط الموضوع أكثر نقول ، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة مايحكمون به على تشبع الوسط بالكمية الحرجة ، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة ، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً بل وتنبؤاً عن تغير المجتمع .
والآن إلى أخطر قطع البحث ، إلى قاعة العمليات الجراحية : للتداخل على استئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية ، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية . لابد قبل العمل الجراحي من معرفة ( تشريح الخارطة النفسية ) فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى ( المعرفة المحيطة بالتشريح - ANATOMY ) كذلك لابد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية ، ونحن هنا لانحتاج إلى معرفة ( كنه وحقيقة النفس ) فهذه يبدو لاجدوى منها ولن نصل إليها - على الأقل في القريب العاجل _ مايهمنا هو كيفية عمل النفس ( ديناميكية النفس ) ، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها ، وهذه تحت السيطرة الإنسانية ، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية ، بجراحات دقيقة .
إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة ( الوعي ) وشريحة ( اللاوعي ) ، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار ، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر ، هو مدى تشبع النفس بالفكرة ، أو على حد تعبير القرآن ( الرسوخ ) ، فالفكرة قد يكون وزنها ( ميكروغرام ) وقد يكون وزنها ( ميجاطن ) !! فعندما تترسخ الفكرة وتهضم جيداً تتحول إلى اللاوعي ، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل ، فلايعرف الراحة كما يتصور البعض ، حتى في النوم كما ثبت من الدراسات الالكترونية المتقدمة ، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها ، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش ، فهو ( يعالج ) المعضلات حتى لو تركها الإنسان ، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة ( حسب التجلي ) وهو مايحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء . وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات ، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً . فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات ، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي ، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان ، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي ، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية . حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير ، و ( العواطف ) هي تعبيرات اللاوعي ، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولانعرف عنها شيئاً ، ولكنها توجهنا بشكل مرعب ، فالصربي الذي يقتل المسلم اليوم ، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية
بدماء معركة ( أمسلفيلد ) في كوزوفو قبل 600 عاماً ، قد امتلأ ( اللاوعي ) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة ، ومعالجة كيمياوية ضد السرطان مكثفة ، واختراق فكري شعاعي لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن . والمثل الصربي واضح ، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبأة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية .
كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل ، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولط إلى 220 ، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ، ولكن ( التردد الكهربي ) داخلنا هو عادة في فولتاج ( الوعي - اللاوعي ) وليس العكس ، بمعنى أن الأفكار تمشي أولاً إلى الوعي ( باستثناء الأطفال والعوام التي قد تمر الأفكار مباشرةً الى اللاوعي عندهم كما في تشكل السلوك بالتقليد ) حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي ، فأصبحت في اللاوعي ( خبرة ) و ( تحرر ) الوعي لاستقبال أفكار جديدة ، وهي في حالة سيالة متصلة ، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت ( العواطف ) فأفرزت ( السلوك ) فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس .
وإذا كنا من أجل ( أجهزة ) معينة نضطر لتحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولط إلى 220 فولط ، كذلك يمكن نقل سيالة ( اللاوعي ) إلى ( الوعي ) وهو مايفعله المحللون النفسيون أحياناً ، فإذا ظهرت تلك ( العفونات ) المختبأة بدون ( أكسجين عقلي ) إلى الضوء والهواء الطلق تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال . وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم . هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان ، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ .
تقول الأسطورة أن عملاقاً أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة ، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول ، فهرع إليه لينتقم منه والأرض تهتز تحت أقدامه ، فلما سمع الثاني وقع الأقدام أصيب بالرعب ، فهدأته زوجته ، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى الأمر هي بآلية ( الأفكار ) لا بآلية ( العضلات ) ، وغطته باللحاف باستثناء قدميه الضخمتين ، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر ، اعتذرت عن عدم وجود زوجها ورجته أن لايرفع صوته حتى لايوقظ ( ابنها النائم ) فلما التفت فرأى الأقدام الفظيعة البارزة قال في نفسه إن كان هذا غلامه فكم يكون الأب ، فأصيب بالرعب وولى الأدبار ( 18 ) ؟؟!! .
مراجع وهوامش :
( 1 ) وقعت عام 1389 ميلادي حيث انتصر فيها العثمانيون بقيادة معركة أمسل فيلد السلطان مراد خان الأول على الصرب الذين كان يقودهم الملك لازار ، ومن غرائب الأحداث التاريخية أن كلاهما قتل في هذه المعركة ، فأما السلطان العثماني فغدراً من جريح في المعركة ، وبعدها سقطت البلقان بما فيها صربيا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون _ راجع كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف محمد فريد بك المحامي ص 135 - ومازال الصرب حتى اليوم يحتفلون بذلك التاريخ المر ، ويندبون قتلى تلك المعركة التي مضى عليها مايزيد عن ستة قرون ؟! وأما النزاع الديني فيراجع في هذا كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص 161 وكان منشأ الخلاف أن الكنيسة الشرقية اعتبرت أن روح القدس هو من الآب فقط في حين أن الكنيسة اللاتينية قالت إنه مشتق من الاثنين الآب والأبن ؟! ( 2 ) كتاب التاريخ لابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) ( 3 ) المقدمة ص 33 ( 4 ) مقدمة كتاب التحرير لمقدمة ابن خلدون ص 8 ( 5 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ص 162 ( 6 ) يراجع في هذا بالتفصيل كتاب عندما تغير العالم - كتاب عالم المعرفة رقم 185 _ تأليف جيمس بيرك _ ترجمة ليلى جبالي (( وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) ( AVERROISM ) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية )) ص 94 - 95 ( 7 ) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 562 ( 8 ) ، وتقوم الطريقة الاستنباطية على وضع المقدمة والقياس عليها وهي مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة ( كل انسان فان . أحمد انسان . أحمد فان ) في حين أن الطريقة الاستقرائية تعمل من تحت لفوق بالعكس ، فهي تجمع الوقائع ثم تخرج بالقانون الذي ينتظم الوقائع ويفسرها ، والفرق الجوهري أن المنطق الأرسطي الصوري يبقى في الإطار النظري في حين أن منطق البحث التجريبي ، والذي انطلق به المسلمون من روح القرآن ، هو الانطلاق من الواقع واستخراج قانونه الذي يفسره . يراجع كتاب ( منطق ابن خلدون ) للدكتور علي الوردي ص 21 والمثل المضحك عن ( أسنان الحصان ) حيث اجتمع رهط من تلامذة أرسطو يتناقشون في أسنان الحصان ، فاختلفوا وكل مكنهم أراد إثبات وجهة نظره ( نظرياً ) فلم يكلف أحدهم خاطره ويلوث يده بفتح فم الحصان والنظر في نوعيتها !! ( 9 ) يراجع كتاب تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ( غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ ) ص 146 ( 10 ) فاطر 42 ( 11 ) كتاب ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) تأليف جودت سعيد _ تقديم مالك بن نبي - ص 11 ( 12 ) لاتوجد سوى آيتان في القرآن في هذا المعنى الأولى من سورة الرعد المذكورة أعلاه ، والثانية من سورة الأنفال استبدلت لفظة ( ما ) بلفظة ( نعمة ) فقالت : ذلك بأن الله لم يك مغيراً ( نعمة ) أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) ( 13 ) الأنعام 94 ( 14 ) الأنفال 25 ( 15 ) الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ًولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وماأردوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ( 16 ) المائدة 18 ( 17 ) يراجع المقدمة ص 29 ( 18 ) حتى يغيروا مابأنفسهم ص 91
اقرأ المزيد
( معلومات مثيرة من مؤتمر تكسون حول الادراك والوعي الانساني ومنطق الطير )
في اللقاء العلمي الضخم الذي انعقد في مدينة تكسون ( TUCSON ) الأمريكية (ولاية أريزونا )(ARIZONA ) القريبة من الحدود المكسيكية في منتصف أبريل ـ نيسان من عام 1996 م الذي سافر إليه كمٌ ضخم من الفلاسفة والاخصائيين في البيولوجيا العصبية والباحثين في آليات عمل الدماغ وعلماء النفس ، تقدمت ثلاث سيدات باحثات في آليات السلوك في تطبيقات ميدانية حول فهم الوعي والنطق عند الحيوان وبداية التفاهم معه باللغة الانسانية ، وكان أكثر ماشدَّ انتباه الحاضرين ببغاء يحمل اسم ( اليكس )( ALEX ) يستطيع العد حتى رقم ستة ويستطيع التفريق بين الألوان ، كما ظهر شمبانزي يمتلك قاموسا لغويا حتى 256 كلمة ، وتقدمت السيدة الثالثة ببحث حول دلفين يتجاوب مع أنغام صفارة الكمبيوتر . كان السؤال المثير والمحير عند الفلاسفة والباحثين في آليات الوعي والادراك عند الانسان والذي سيطر على جو المؤتمر : هل يمتلك الطير منطقاً ؟ هل يوجد وعي عند الحيوان ؟ (1) أم هل يتفرد الانسان باللغة التي هي العمود الفقري للوعي ؟ )
قصة الببغاء المثير اليكس ( ALEX ) :
بدأت المحاضرات في اللقاء العلمي بشكلها الاكاديمي الرتيب ، فَعُرضت مشكلة الوعي وحرية الارادة عند الانسان ، تأثير اللاوعي ، بزوغ عصر الكمبيوتر العصبي (2) وانشغل الباحثون في قراءة تدفق التيارات الكهربية القادمة من الدماغ في النوم وخلال الأحلام ، فالدماغ لاينام على مايبدو ، كل مايحدث هو تغيير طبيعة نشاطه ، كما تناقش الحاضرون حول عمل الخلايا العصبية وآليات اتصال النهايات العصبية بالخلايا ، وكيفية مرور التيارات الكهربية ؟ وعمل الافراز الكيمياوي في الخلايا العصبية ؟ ماهو الوعي الانساني عموما ؟ وأين هي الارادة ؟ وهل لها مركز محدد ؟ (3) ولكن التحدي الأكبر الذي حاول العلماء التقرب من فهمه هو المشكلة القديمة الحديثة : الوعي الانساني وكيف يتم؟ في هذا الجو فوجيء الحاضرون في المؤتمر بتقدم السيدة ايرينه بيبربيرج ( IRENE PEPPERBERG ) وهي تحمل على يدها ببغاء رمادي اللون يذكر بقصة جزيرة الكنز والكابتن سيلفر الذي لايفارقه ببغاؤه الجميل . مالبثت أن صاحت فيه : اليكس .. عُدْ للسادة ماذا تعرف من أرقام .. لم يكرر كلماتها كما هي عادة الببغاوات ، بل بدأ في العد واحد .. اثنين .. ثلاثة .. حتى الستة . أمسكت السيدة (ايرينه) مفاتيح ملونة بيدها ثم طلبت منه : اليكس كم مفتاح أحمر اللون في يدي ؟ فصاح بلغة مشبعة بلهجة أهالي الوسط الغربي لأمريكا ؛ لهجة مدربته ايرينه : اثنين . وكم مفتاح بلون أزرق ؟ أجاب ثلاثة !! وعدد المفاتيح الصفراء ؟ أجاب بثقة : واحد .. ومالون هذا المفتاح ؟ أجاب : أخضر .. كانت إجاباته صحيحة دوماً .
منطق الطير الجديد :
صُعق الحاضرون لأجوبة الببغاء الحكيم ، هذه المرة لم يظهر غبياً يكرر الكلمات فقط كما هو معروف عن الببغاوات عادة . وبدأت الأرض تميد تحت أقدام السادة النخبة الذين شاركوا في المؤتمر ، فالوعي والنطق عند هذا الطير اخترق بعداً نوعياً جديداً . شعر العلماء المختصون في فهم الوعي الانساني هذه المرة بنوع من الاحساس الخفي بعدم الأمان في المسلمات القديمة ، بتفرد الانسان بالنطق بين الكائنات ، فالطير يملك منطقه الخاص ، الذي يحتاج مثل النبي سليمان عليه السلام من يفك ألغاز حروفه . وبدأ الحاضرون يتناقلون كلمات الببغاء متعجبين متسائلين كيف وصل الى هذه العتبة ؟
أين وصل قاموس ( اليكس ) الببغاء ؟
كان قاموس ( اليكس ) اللغوي قد وصل الى مائة كلمة (4) يفرق بين الألوان السبعة ، يهتدي الى خمسة أشكال من مثل المربع والمدور والمثلث والكروي ، استطاع الوصول بالعدد الى رقم ستة ، ويستطيع التفريق بين الأشياء حسب الشكل والحجم واللون ، فهذا صندوق كبير ، وذلك مفتاح أخضر ، وهذه كرة مدورة ؟!! وكان الاستنتاج مزلزلاً : هذا الطير يمتلك من الوعي مايقترب به من مستوى الذكاء الانساني لطفل عمره خمسة سنوات !!
السيدة ( ايرينه بيبيربرج ) بدأت نشاطها المهني منذ حوالي عشرين عاماً كباحثة في آليات السلوك ، بزيارة الى محل يبيع الحيوانات والطيور ، حيث صادفت ببغاء رمادي اللون ، انطلقت من إمكانياته في تقليد الأصوات الانسانية ، الى فضاء معرفي جديد .
كان مشروع الباحثة ( بيبربرج ) الطموح ليس صدح الكلمات وترداد الأصوات ، فهي قصة قديمة معروفة عند الببغاء ، ولكن برنامجها كان في إدخال الطير الى دائرة الوعي والفهم و( مغزى الكلمات ) التي يكررها أو تعرض عليه ، فعصرت دماغها للتفكير في ابتكار وتطوير طريقة حديثة تدرب فيها الطير على دخول هذه البوابة الجديدة ، أو بالعكس الدخول الى دائرة الطير الداخلية ، الى وعيه الداخلي إن كان ثمة وعي يمتلكه ، فالمشكلة مع الحيوان أنه عالم قائم بذاته (5) لايملك لغتنا لنتفاهم معه ، بل يجب التمكن من لغته لمخاطبته ، أو إدخاله الى عالم اللغة الانسانية كي يُعَبِّر عما يدور في نفسه ؟
طرائق التدريب لتفتيح منافذ الفهم :
كانت السيدة المساعدة في المختبر تُمَرِّر أمام عيني الطير شيئاً ما قطعة فلين .. جوزة .. مفتاح .. ثم تسأله ماهذا ؟ وفي الوقت الذي تكون الاجابة صحيحة يتلقى الثناء والتشجيع وتدفع له القطعة . بسرعة اكتشفت الباحثة ( بيبربيرج ) أنها أيقظت الكوامن الخفية عند هذا الطير ، وحرضت عند هذا الببغاء الفضولي للمعرفة ، آلية التعبير عن العالم الخارجي ، وفي النهاية كان ينعق بالكلمات فلين .. مفتاح .. كرة .. بصوته الصادح المزعج .
بصبر بالغ ودأب بدون حدود وبمئات الجلسات المكثفة ، كرست العالمة نفسها للحديث مع هذا الطير لاكتشاف طاقات الفهم ومنافذ الادراك عنده وتطويرها ، وكانت الخاتمة مثيرة للغاية حيث بدأ بنفسه في الرد على بعض الاسئلة المعقدة ، فعندما تعرض أمام عينيه ثلاث مفاتيح حمراء اللون واثنان زرقاء ، لايكتفي بالرد فقط بأن هذه حمراء أو زرقاء ، بل يجيب على سؤالها : ماالذي يفرق هذه المفاتيح عن بعضها البعض ؟ يجيب الببغاء اليكس فوراً وبدون تردد : الألوان !! حَدَّق الحضور في مؤتمر ( تاكسون ) مذهولين وتذكروا قصة الهدهد الحكيم مع النبي سليمان عليه السلام ، عندما حَدَّثه باكتشافه مملكة سبأ في اليمن ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين )(6) وطرح السؤال نفسه مباشرة ؟ إذا استطاعت فعلاً الخبيرة ايرينه بيبربيرج وحالفها الحظ ، أن تفتح بوابة عالم الفكر عند الحيوان والطير ، الذي كان قد حُجز للانسان سابقاً ، واعُتبر رمز تفرده ، بعد أن فشلت معايير أخرى لتفرد الانسان (7) وطرد منه أي كائن آخر ، فالحيوانات ( صفت على الدور ) ومن سيكون الحيوان القادم الذي سيُعترف له بامتلاكه الوعي ياترى ؟ السلاحف ؟ الدببة ؟ أم النمل الذي سميت سورة من القرآن باسمه .
وقف الفلاسفة في المؤتمر يتساءلون إذا أردنا إنكار الوعي جملة وتفصيلاً عن الببغاء اليكس ، فكيف يمكن أن نعلل ذلك ؟ وماذا يفرق حقاً الببغاء ، حينما يفرق بين الألوان بهذه الطريقة عن جواب طفل عمره خمس سنوات ؟؟
كان تساؤل الفلاسفة وبحاثة الدماغ بمثابة نقطة تحول في تاريخ دارسي سلوك الحيوانات والطيور ، الذين لم يأخذوا اعترافا علمياً بجدية النتائج التي وصلوا إليها . لذا فإن فريق البحث العلمي المرافق للباحثة بيبيربرج انتشى وهو يرى ذهول العلماء اللامعي الاسماء وبعيدي الصيت ، وهم يتأملون هذا الطير الفصيح ، وهو يجمع بين صفتي النطق والتفكير ، التي كانت خاصية محصورة بالانسان ، وحجراً محجورا عن غيره ؟!!
ماذا يجري في عالم الطير والحيوان ؟
عندما أردت حفظ علبة الحلوى بعيدا عن النمل وضعتها في مكان عال لايصل إليه النمل في تقديري ، إلا أنني اكتشفت في اليوم التالي أن علبة الحلوى ( الحلبية ) كانت مثيرة لشهيتهم أكثر من شهيتي ، فاجتمع جيش عرمرم من النمل داخل العلبة وهو يعمل بهمة بالغة في سلب مايستطيع من الحلوى المفضلة ، وهذه الملاحظة جعلتني أفكر في أنه لابد من طريقة ما يتفاهمون بها على الحلوى ومكانها حتى يتجمعوا عليها !! فهناك إذاً درجة من التفاهم والوعي الداخلي عند طائفة النمل ، فلاغرابة أن كتب الجاحظ سبعة مجلدات حول الحيوان وسلوكه في سابقة علمية ملفتة للنظر ، وأجمل مافيها تجربة النظَّام على الحيوانات وأثر الكحول على الأسد والظبي الذي كان من أظرف ماشاهد؟!!
لقد تكدس لدى الباحثين في سلوك الحيوانات أكواماً رهيبة من الملاحظات من عالم الطير والحشرات ، توحي جميعها بهذا المنحى من وجود درجة من الوعي عندها ، وكان موقف العلماء السخرية من هذه الملاحظات وأنها أقرب لرواة القصص أو دعاة العلم الشعبيين ، ولكنها لاتمت بصلة للبحث العلمي الرصين . ومن الأفضل ترك مثل هذه الأمور لهواة الحيوانات أو قصص كليلة ودمنة أو لجماعة الرومانسيين .
ملاحظات ملفتة للنظر من عالم الحيوان :
إن الذين يدافعون عن نظرية الوعي عند الحيوان يعتمدون مجموعة من الملاحظات العجيبة ، فالدجاج البري عندما يجتمع في حفل الزواج والتكاثر في موسم اللقاح ، تقوم الانثى بالبحث بين المتقدمين للزواج منها بكل دلال ، ولفترة طويلة درس الباحثون عبثاً عن القرائن التي تدفعها لاختيار الذكر المناسب . كان خيار الانثى عجيبا فهي لاتختار الأقوى في العضلات ولا الأجمل في الشكل ، ليس أكثرهم زعيقاً ولا أكثرهم انتفاشاً بريشه ، ولاالذي تدلت حنجرة الذكورة أمامه ، كل هذا لم يكن الحاسم في اختيار الزوج ، وينكشف السر فقط في وقت لاحق بعد أن يكون مصير الزواج قد بُتَّ فيه حيث يكتشف الباحثون مذهولين أن الانثى كانت أكثر حكمة من كل تقديرات الباحثين ، أو الأشكال الخارجية للذكور المتقدمين للزواج ، لأنها اختارت أفضلهم صحة وأطولهم عمرا كي يعني بها وبفراخها .
ماهي القرائن التي اعتمدتها هذه الزوجة الحكيمة ؟ وكيف تنبأت سلفاً بطول العمر ودوام الصحة للزوج المقبل ؟ إنها ضرب من الأحجية المغلقة حتى الآن في وجه الباحثين !!
ذكاء الاخطبوط :
كذلك تمتلك الحيوانات عديمة الفقار طاقة ذكاء غير عادية ، كما هو الحال في الاخطبوط الذي روى عنه ( جول فيرنيه ) الروائي الفرنسي قصته المشهورة ( عشرين ألف فرسخ تحت الماء ) ومثَّله الأمريكي المشهور كيرك دوغلاس ، أو في الصورة المثيرة التي عرضها الكاتب الفرنسي المرموق ( فيكتور هوغو ) في قصته الرومانسية المبكية ( عاصفة وقلب ) فهذا الحيوان الذي تمتد أذرعته الرهيبة لايُقتل بقطع أذرعته ، بل بضرب رأسه الذي يمتلك أكبر دماغ بين الحيوانات اللافقرية . ولاحظ الباحثون قدرة هذا الحيوان على التعلم والتمييز بين الكرات البيضاء والحمراء ، عندما يطوق بأحد أذرعته الكرة ويكافيء على ذلك ، فالسلوك ينمو مع مضاعفة التعزيز . وليست هذه كل القصة فحيوان آخر من نفس الصنف يتعلم من خبرة زميله بمجرد معايشته للواقعة والسعيد من وعظ بغيره .
حذر الجراذين من السموم :
بدأ بعض الباحثين في السلوك في التردد من استخدام لفظ الثقافة والتعلم ونسبها فقط للانسان ، فلم تعد تتداول في أوساطهم ، عندما لاحظوا أن الجرذان فيها من الحذر والحكمة بحيث تتجنب الطُعم المسموم . ليس هذا فقط بل القيام بما يشبه الدروس التلقينية لأولادها كي تستفيد من خبرتها ، فتتجنب السموم المهلكة ولو كانت رائحة الجبن منها قوية !! .
جدلية الغريزة والوعي :
ولكن على الرغم من كل هذه الخبرات الميدانية الموحية ومهما كانت قيمتها في الحفاظ على حياة الحيوان ، فإن الفريق الثاني الذي يدافع عن تفرد الانسان بالوعي والحرية والارادة والبيان في اللغة ، يرى أن الحيوانات تبقى أسيرة غريزتها في عبوديةٍ لافكاك منها .
لاشك أن التذكر وقدرة التعلم وتجنب المهالك والسلوك الجماعي المعقد والحواس المتطورة ، ليست بالقليلة في عالم الحيوان ، ولكنها كلها مبرمجة في التصرف لاتحيد عنه قيد شعرة ، وبالتالي فإن الوعي لايتولد من حياة في مثل هذه القيود .
قصص ودروس من حياة النحل الذكي :
ومن المهارات المدهشة في عالم الحيوان مايتصرف به النحل عندما يقوم برقص في غاية الابداع ، لتخبر النحلة رفيقاتها على وجه الدقة ، أن هناك شجرة للزيزفون على بعد 800 متر في الجهة الجنوبية الغربية من المملكة ، وعلى وجه التحديد في مكان تصل إليه بكل سهولة ، أو عندما تبحث الخلية المهاجرة عن مكان تلجأ إليه ، فعندما تكون المملكة كلها مدلاة فمايشبه عنقود العنب ، تنطلق 500 نحلة مثل الجواسيس تعس في الأرض ، حتى تعثر على المكان المناسب ، وقد يطول هذا التحري أياماً . المهم المكان المناسب بدون تعريض حياة الخلية المهاجرة للخطر .
غباء بدون حدود عند الدبور :
مع كل هذا الذكاء عند النحل والتخطيط الجيد فإنه لايتعدى البرنامج المغروس في دماغها الذي لايتجاوز حجم رأس دبوس ، ولاظهار هذه الرتابة والمحدودية في التصرف فإن العالم الفرنسي ( جان هنري فابري )( JEAN - HENRI - FABRE ) قام بتجربة على الدبور الذي يهيء الطعام لنسله بقتل الصرصور بسمه ثم سحبه الى العش ، وهناك أمام العش يبقي جثة الصرصور كما هو ثم يقوم بتهيئة العش وتنظيفه قبل إيداع الطعام فيه .
قام العالم بدفع جثة الصرصور سنتمترات قليلة عن مكانها ، فوجيء الدبور باختفاء الفريسة ، فلم يبحث طويلاً عن هذا المقلب ومن وراءه ، كل مافعله البحث عن صرصور جديد وقتله وإحضاره مجددا الى النفق ، وهكذا بدون أي تفكير وتمحيص عن سر الخدعة ومن يخطط لها؟ أعاد العالم الفرنسي العملية عشر مرات الى عشرين الى أربعين مرة بدون أن يستفيد الدبور من أخطاءه . كان الدبور يكرر العملية مثل الآلة بدون كلل وملل وتذمر ، وكان صبره بدون حدود مع شقاوة الانسان ؟!
ولكن أين تنتهي الغريزة وأين يبدأ الوعي ؟
بل قبل كل شيء كيف يمكن العثور على الوعي وأين مركزه في الدماغ ؟ حتى لو ثقبنا جمجمة الحيوان فلن نستطيع معرفة ورؤية الوعي والتفكير وتفسير سلوكه !!
المدرسة السلوكية في علم النفس _ اتجاهات في علم النفس :
من هذه النقطة بالذات نشأت ( المدرسة السلوكية )( BEHAVIORISM ) في علم النفس ، فمدارس النفس تطورت على شكل موجات متلاحقة ، بدءً من مدرسة ( التحليل النفسي )( PSYCHOANALYSIS ) الذي لمع فيه فرويد النمساوي وبقية رجال المدرسة الألمانية يونج وآدلر وميننجر ، أو مدرسة ( الجشتالت )( GESTALT ) التي برز فيها فيرتهايمر وكوهلر وكيرت كوفكا وكولر ، أو الموجة الثالثة المدرسة الارتقائية التي عنيت بظاهرة ارتقاء الانسان وألمع رجالها عالم النفس ( جان بياجييه ) السويسري ، ويمكن أن يضم الى هذه المدرسة الفلاسفة الفنومنولوجيون ( المعنيين بدراسة الظاهرة الانسانية )(8) وعلماء النفس الوجودي بدءً من كيركجارد وسارتر ولينج ورولوماي ، وكانت ( المدرسة السلوكية ) الموجة الرابعة وهي التي رأت أن الانسان وعاء مغلق فلايمكن فهمه الا من خلال تصرفاته ، فيجب أن ينصب البحث على تصرفاته في محاولة لفهمه ، مثل الآلة تماماً الى درجة التحكم في تصرفاته ، حينما نفهم القانون الذي يحكم تصرفاته ، وأشهر رجال هذه المدرسة بافلوف الروسي وواطسون وباندورا والعجوز المخضرم ( سكينر ) صاحب كتاب ( تكنولوجيا السلوك الانساني ) قبل أن تظهر الموجة الخامسة في ( علم النفس الانساني ) التي رأت أن أفضل فهم للانسان هو دراسة الانسان ، بعيداً أن يكون شحنة غريزة ، أو حركة آلة سلوكية ، وأبرز رجالها أمريكيون مثل ابراهام ماسلو وروجرز وبيرلز أو فيكتور فرانكل الذي دشن نظريته في كتابه الرائع ( الانسان يبحث عن المعنى )(9) وسيكون لنا عودة خاصة للغوص في ديناميات السلوك الانساني ومدارس علم النفس لتسليح عقلية القاريء العربي المسلم بمنجزات العصر العقلية في هذا الاتجاه ، في حملة إدخال العقلية العربية روح العصر ومنجزاته .
المدرسة السلوكية وإنكارها الوعي الانساني :
تعرض المدرسة السلوكية وجهة نظرها على الشكل التالي : إذا كانت النحلة ترقص فتدل على شجرة الزيزفون ، والدبور يحفر النفق لنسله القادم ، والدجاجة تختار العريس المناسب الأطول عمرا والأفضل صحة ، والجرذ يروي خبرته لأولاده في تجنب الجبن المسموم والمصيدة المتربصة ، والببغاء يحاور العلماء مذكرا بقصة الهدهد والنملة في القرآن ، كلها تحت آليات معقدة من السلوك المبرمج ، فما هو الجديد في سلوك الانسان الذي يزيد في التعقيد لاأكثر ولاأقل ؟ القضية هي في الدرجة كما في فولتاج الكهرباء الخفيف والعالي ولكن طبيعته واحدة فما يسمى الوعي الانساني ليس أكثر من وهم ( ILLUSION )؟!! .
يقول العالم الأمريكي ( ب . ف . سكينر )(B . F . SKINNER ) الحجة في المدرسة السلوكية موضحاً قواعد هذا الفهم : (( مانحتاجه هو تكنولوجيا للسلوك ، فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة اذا مااستطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء ، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية ، أو السير نحو عالم ينعم بالسلام بشيء شبيه بالتقدم المطرد الذي تقترب به الفيزياء من الصفر المطلق برغم أن كليهما ( السلام والصفر المطلق ) افتراضان بعيدا المنال)(10) ولكن هذا الموقف المتطرف ابتعد عنه العلماء والباحثون تدريجياً وخف الحماس للمدرسة السلوكية وخمد بريقها منذ فترة طويلة ، ولنا عودة موسعة لمدارس علم النفس في المستقبل ، ويرى البيولوجيون أن الوعي وسط يمكن بحثه بنفس أدواته . ولكن جذوره مغروسة في بقية الكائنات التي يجب دراسة الوعي ومستواه فيها .
رأي العالم دونالد جريفين وخندق اللغة :
إذا كانت جذور الوعي الأولى مغروسة في الطير والحيوان ، فإن إشراقة الوعي الانساني المتدرجة والفهم والادراك المتميز يجب أن تكون في رأس القائمة المهمة لأبحاث السلوك ، هذا مايدعو إليه العالم الأمريكي ( دونالد جريفين (( DONALD - GRIFFIN ) الباحث في علم السلوك ، ولكن الخندق الذي لايمكن القفز من فوقه هو والذي يفصل الباحثين عن مشروع عملهم هو بكلمة واحدة اللغة !!
اللغة .. سحر البيان وقفزة الانسان النوعية :
في الوقت الذي ينفذ علماء النفس الى تضاعيف الروح الداخلية بواسطة اللغة ، فإن الباحثين في السلوك أمام جدار شبه أصم وليس عليهم سوى استخراج الخلاصات من تضاعيف السلوك : اللغة الجديدة . قد تطلق الحيوانات بعض الأصوات ولكنها محدودة ، ويبدو أن البيان اختص به الانسان فتفوق الى أعلى عليين ، فقرود البحر الخضراء يتنوع عندها الزعيق بين ثلاثة أنواع ، في محاولة تنبيه المجموعة الى خطر نمر مفترس أو نسر محلق أو أفعى زاحفة ، كما أن القرود من نوع البابون تتفاهم ببعض الأصوات بحيث تلتقي معا في أماكن محددة ، ولكن هذه الأصوات القليلة الهزيلة لم تمنح حتى الآن مفتاحاً لدخول العالم النفسي للقردة كي يتم فهم تضاعيف النفس الداخلية . هذا الباب المغلق حاولت السيدات الثلاث في مؤتمر تكسون اقتحامه وتجلية ضبابه .
الفضاء المعرفي الجديد في فهم سلوك الحيوان والطير :
قدمت السيدة الأولى ( سافيج _ روم باو )(SAVAGE - RUMBAUGH ) التي تعمل في جامعة جورجيا ؛ شمبانزي صغير قفز في مفرداته اللغوية فوق مستوى الببغاء اليكس فوصل الى 256 مفردة لغوية . كلها بلهجة الخرسان ، حيث فشلت كل محاولات رفعه لمستوى أن ينطق ، ويعرف العلماء البيولوجيون اليوم أن اللغة تعتمد على أمرين لايملكها الشمبانزي أصلاً : المراكز العقلية في الدماغ المسؤولة عن القواعد ( الجراماتيك ) وتفسير المعاني ، وجهاز التصويت في الحنجرة ، فالمراكز الدماغية هي ( بروكا ) و( فيرنيكيه ) في الدماغ ، الموجودتين في الفص الجداري في قشر المخ الأيسر عادة ، منطقة بروكا التي كشفها الجراح باول بروكا في القرن الماضي المسؤولة عن القواعد اللغوية ، ومنطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، أو ماتسمى المنطقة الحركية والحسية ، وعندما تعطب هذه المناطق لسبب أو آخر فإن المريض يتوزع بين عدم القدرة على النطق ، كما في إصابات الفالج الدماغي ، هو يريد أن يتكلم وتحضره الكلمة ومعناها ولكن لسانه يخونه فلا يقدر أن ينطق ، أو أنه يسمع الكلمات ولكنها تطير بجانب أذنه بدون أي إدراك لمعناها ، أما جهاز التصوت ففي القرد ارتفعت عنده الحنجرة ، فهو يستطيع التنفس والأكل معاً ، ولكن حنجرته تحولت الى عود مختنق فعجز عن اللحن الجميل ، أما في الانسان فغطست الحبال الصوتية للأسفل ؛ فتحول الصدر والرئتين الى عود جميل يصدر أعذب الأنغام .
اعتمدت الباحثة فقط على لغة الاشارات . ويستطيع الشمبانزي الآن المدعو ( كانزي )( KANZI ) أن يتكلم فيشير الى كلمتي ( أنا جائع ) أو ( الكرة في الغرفة ) و( العصا في غرفة النوم ) كما يستطيع التعبير عن رغباته بصورة أخرى ، فيخبر مدربته ماذا يريد أن يلعب ؟ الى أين يمضي ؟ أو ماذا يشتهي ؟ حتى أنه يفهم بعض النماذج النحوية اللغوية . ويقوم بإطاعة الأوامر بشكل حاذق كما لو أخبر اذهب الى غرفة النوم وأحضر منها الكرة ثم أعط فلان وردة ، فإن الكرة الموجودة بقريه لايلمسها بل يحضر ما ُأمر به على وجه الدقة فيحضر كرة غرفة النوم (11). أما دايانا رايس ( DIANA - REISS ) من جامعة روتجرز ( RUTGERS ) ولاية نيوجيرسي فإنها تدرب دلفيناً على الاستجابة لصفارة الكمبيوتر في محاولة للحديث معه ، ولكنها لاتعرف على وجه الدقة ماذا يفهم منها ضمن عالمه المغلق ، كل مالاحظته هو حماسه لتلقي هذه الترحيبات من العالم العلوي ومحاولة تقليدها .
ولعل أكثر الباحثات حظاً هي السيدة ايرينه بيبربرج بفضل تدريبها لطير يقلد الأصوات الانسانية بالأصل ، فلايحتاج الى لوح إشارات أو كمبيوتر يزمر ، ولعلها الصدفة الكونية السعيدة في الدخول الى عالم الوعي عند الكائنات من خلال هذا الطير ، الذي ينطق ويدل على قضايا رمزية مجردة كالألوان والأشكال والأعداد .
جلال الدين الرومي والببغاء والتاجر الهندي :
وكما كان الفيلسوف المتصوف جلال الدين الرومي يطرح أفكاره من خلال قصة التاجر الهندي والببغاء ، فيروي على لسان الببغاء بشكل رمزي أفكاره من خلال القصة (12) فإن مؤتمر تكسون الذي جمع هذا الخليط من علماء النفس وباحثو الدماغ والفلاسفة ، فإن السؤال الجوهري أمامهم ، بعد أن رأوا جرأة هذا الطير في اقتحام عالم الوعي وفهم المجردات مثل الأعداد هو توضيح سؤال جديد آخر ؟؟ ماهو حقاً لغز الوعي الذي اجتمع الكل له وانفض الجميع بدون ملامسته أو فهم كنهه .
مراجع وهوامش:
(1) تأمل الاية من سورة النمل التي يصرح فيها النبي سليمان عليه السلام أنه يعرف لغة الطيور ( وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) سورة النمل الآية رقم 16 كما يذكر بعدها أنه ضحك من حديث النمل عندما تم أعلان النفير العام بالانسحاب الى الاعشاش تحت الأرض (2) على الحدود النمساوية الألمانية في مدينة جراتس ( GRATZ ) في المعهد التقني الالكتروني والطبي الحيوي ، يتم حالياً تطوير الكمبيوتر العصبي حيث يمكن أن يعمل بالارادة الانسانية بدون الفارة وبدون برامج ، بحيث يقرأ أفكارنا مباشرة بواسطة الأمواج الكهربية الدماغية التي تتدفق بشكل تيارات متلاحقة من مائة مليار من الخلايا العصبية المتوقدة في قبة السماء الدماغية كتوقد النجوم في قبة المجرة _ تراجع مجلة ب . م . ( الألمانية )( P . M ) العلمية عدد 3 \ 1996 م ص 10 _ 17 (3) أجرى الدكتور وايلدر بنفيلد ( WILDER PENFIELD ) في كندا دراسة استغرقت منه حوالي نصف قرن لرسم خارطة كاملة لقشر الدماغ من خلال تطوير تقنيات حديثة على مرضى في حالة الوعي وتم تحديد معظم المناطق وأماكن عملها . الشيء الوحيد الذي كان يتملص من اليد هو عدم القدرة على تحديد مكان واضح لعمل الارادة الانسانية ، وخرج في نهاية أبحاثه في عام 1975 م بكتاب بعنوان لغز الدماغ ( THE MYSTERY OF MIND ) يراجع في هذا كتاب العلم في منظوره الجديد بحث العقل ص 35 _ تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو _ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 (4) أشارت مجلة الشبيجل الألمانية عدد 20 عام 1996 م الى الواقعة في قسمها العلمي تحت عنوان أبحاث السلوك : بوابة الى عالم آخر _ ص 188 _ 190 (5) تأمل الآية القرآنية من سورة الأنعام ( ومامن دابةٍ في الأرض ولاطائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ) الآية رقم 28 (6) سورة النمل الآية رقم 22 (7) اعتبر مثلاً أن الانسان تفرد باستخدام الأدوات وتم العثور على العديد من الحيوانات التي تستخدم الأدوات في غذائها كما في ثعالب البحر عند سواحل كندا في المحيط الاطلسي حيث يغوص في الماء فيصطاد السرطان ثم يضع الحجر على بطنه ثم يضرب السرطان به _ براجع في هذا كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم لمعرفة رقم 67 فصل قرد أم ملاك ص 7 (8) كتاب الانسان وعلم النفس _ تأليف عبد الستار إبراهيم _ سلسلة عالم المعرفة رقم 86 بحث الاتجاهات النظرية العامة لعلماء النفس ص 54 (9) كتاب الانسان يبحث عن المعنى وهو كتاب أكثر من رائع يهز قارئه تماماً فهي خبرة جاءت من جحيم المعتقلات النازية وفيها خسر زوجته الشابة _ تأليف فيكتور فرانكل _ نشر دار القلم _ ترجمة طلعت منصور (10) تكنولوجيا السلوك الانساني _ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 _ ترجمة عبد القادر يوسف _ ص 6 وأصل الكتاب باللغة الانكليزية ماخلف الحرية والالتزام ( BEYOND FREEDOM AND DIGNITY BY B . F . SKINNER )(11) مجلة الشبيجل عدد 43 عام 1995 م ص 152 (12) كتاب ( المثنوي ) الذي استفاد منه المفكر والفيلسوف الاسلامي محمد إقبال ، وكان يكرر دوما هذه العبارة في المثنوي : ذا حديث ماله من آخر فلنعد الى حديث ذلك التاجر .
كيف نطق الإنسان ؟
تيك ( TIK ) هل هي الكلمة الأولى التي تمكن الانسان من نطقها ؟ هذا مايدعيه على الأقل باحث أمريكي معاصر في دراسة اللغات وعلم الالسنيات ، ولكن هذا لايفسر على الإطلاق لماذا بدأ الانسان في النطق ؟ وكيف بدأ رحلة التعبير ؟ ومتى بزغ عصر الكلمة ؟ فاختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تدب على البسيطة . ما أهمية التعبير ؟ وماهي أهمية اللغة في علاقة الانسان بالواقع ؟ مامعنى الترميز ؟ ماهي وظيفة اللغة ؟ مامعنى النطق عند الانسان ؟ وماعلاقة التصويت باللغة ؟ بل ماهي فلسفة اللغة ؟ ومامعنى الاسماء التي تعلمها آدم ؟ إن كل هذه الاسئلة الضخمة والمصيرية فجرت في الوقت الراهن مجموعة من العلوم الجديدة كان أهمها علم الالسنيات ( LINGUISTICS ) .
عندما أراد القرآن توثيق فكرته ، قال عنها إنها تشبه في الحق الذي تحمله نطق الانسان ( فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثلما أنكم تنطقون )(1) فما هو هذا النطق الذي اعتمدته الآية كمصدر لتوثيق الحق ؟ وماهي الاسماء التي عجزت عن علمها الملائكة وأنبأ بها آدم ؟
تجربة الفرعون بساميتك الأول ( PSAMMETICH I ) :
استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون لم تغادره ليلاً نهاراً مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا فهل سينطقون باللغة الأصلية للانسان ؟ وهل ستكون نفس اللغة الهيروغليفية أم ستكون متباينة ؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون ؟ كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن فانطلق الفرعون ( بساميتك الأول ) بعد أن استولت عليه الفكرة تماماً الى ميدان التجربة اللغوية ( الالسنية ) .
يذكر المؤرخ اليوناني ( هيرودوت )( HERODOT ) عن هذه التجربة المثيرة أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما الى عائلة راعي تحت رقابة مشددة ، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما ، وكان الفرعون يتفقدهما شخصياً ليرى نتائج تجربته ، ولعل هذه التجربة الالسنية الأقدم في هذا الاتجاه ، لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية (2) وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهم نطقوا شيئاً يشبه لفظة ( بيكوس )( BEKOS ) وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعبٍ ينطق هذه اللفظة ، ذكروا له الشعب ( الفريجي )(PHRYGIER ) الذي يعيش في آسيا الصغرى ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية (3) وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي ؟!! فهل لغة هذا الشعب هي فعلاً أصل كل اللغات ؟ لو صدق هذا لحُلت هذه المشكلة بأبسط السبل ، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئاً في عمر الزمن مع الانسان ، الذي أثبتت عظامه المرمية في طبقات الأرض في شرق أفريقيا ، أنه يعود ليس الى خمسة آلاف سنة ؛ بل خمسة ملايين من السنين ؟!! هذه الفكرة التي استولت على الفرعون المصري قديماً تحركت مرة أخرى في العصور الوسطى ، على يد حاكم مستنير حكم صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي ، محب للعلم ، متأثر بالثقافة العربية ، ويتكلم لغة الضاد ، لغة الثقافة العالمية في ذلك الوقت ، أراد أن يعرف بدوره أصل اللغات هل هي اللغة العربية أم العبرية أم السنسكريتية أم سواهم ؟
تجربة القيصر فردريك الثاني :
يذكر العالم الأمريكي ( بيتر فارب )( PETER FARB ) صاحب كتاب بنو الانسان ( HUMAN KIND ) تجربة قاسية أجراها هذا الملك الموهوب الفنان الشاعر وبنفس طريقة الفرعون السابق ، فدفع عدداً من الأطفال حديثي الولادة الى من يهتم بأمر الغذاء والنظافة دون أن يتكلم معهم بحرف من نداء أو مناغاة . وكانت النتيجة صاعقة لأن الأطفال _ خلافاً لما روى هيرودوت المؤرخ اليوناني _ ليس فقط أنهم لم ينبسوا ببنت شفة ؛ بل قضوا نحبهم فماتوا بالجملة ، متأثرين من هذه التجربة المدمرة !! (4)
تجربة ملك سكوتلاند يعقوب الرابع ( JAKOB - IX - OF SCOTLAND ) :
تروي المجلة الألمانية المعنونة ( معجزة التطور )( P . M . P . DAS WUNDER DER EVOLUTION ) قصة مشابهة أخرى مثيرة قام بها ملك سكوتلاندا قديماً ، بعد ثلاثة قرون من تجربة الملك فريدريك الثاني حاكم صقلية ، لاكتشاف جذر اللغات واللغة الأصلية ، التي تحدث بها الانسان ، تحت وهم أن نطق الانسان كان بالأصل موحداً ، وأن اللغة في حالة كمٍ ثابت غيرِ متطور ، ويزعم مراقبو التجربة أنهم أي الأطفال تكلموا في خاتمة المطاف اللغة العبرية ، ولاغرابة لأن أهل كل ثقافة يعتبرون لغتهم هي سرة العالم وأصل اللغات وسر الكون وأنهم أفضل ماخلق الله ، ولكن تجربة الصبي ( فيكتور ) التي برزت الى السطح في القرن التاسع عشر هزت الأوساط العلمية ، ونحن نعرف اليوم طائفةً من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الالسنية .
قصة الصبي فيكتور والدكتور ايتار :
جاء في المجلة العلمية الألمانية ( الاتصالات )( P. M . P . KOMMUNICATION )(5) أن طفلاً عاش في الغابة وحيداً في ظروف غامضة ، قريباً من مدينة أفيرون الفرنسية ( AVEYRON ) حتى بلغ الثانية عشر ، ثم استسلم في الشتاء القارس ليد الناس في عام 1799 م في ظروف صعبة طلباً للدفء والغذاء ، وخضع بعدها لفحص وتدريب متواصلين من إجل إدخاله الحظيرة الانسانية ؛ فالطفل كان كالحيوان تماماً (( كان طفلاً قذراً الى حد يثير الاشمئزاز ، وكان يهز جسمه جيئة وذهابا كما لو كان قردا في حديقة الحيوان ، وتعتريه حركات تقلصية ، كما كان يعض ويخدش بأظافره من كان يحاول إطعامه دون أن يظهر محبة نحو أي انسان ))(6) ولكن الشيء المزلزل في القصة كان موضوع اللغة ؛ فالفلاسفة الفرنسيون الذين عاينوا ظاهرته المحيرة وعدم قدرته على النطق والتواصل مع الانسان ؛ افترضوا أنه أبله قاصر العقل ، ولكن الدكتور ( جين مارك كاسبار إيتار ) خالفهم في ذلك لعدم وجود سابقة من هذا النوع ، فركز كل جهوده على فهم هذا الانسان الجديد ، واعتمد طريقة الخطأ والصواب ، وحاول جهده في ابتكار العديد من الطرق في محاولة ( تحضير ) هذا الطفل ورده الى المجتمع الانساني وتمكينه من اللغة التي هي سمة الانسان الأولى .
الخلاصة المزلزلة في علم الاجتماع :
استطاع الدكتور ( ايتار ) بعد سنوات من الجهد المكثف أن يعلمه بعض الانماط الانسانية ، فبدأ يحسن الجلوس وارتداء الملابس وتناول الطعام وقضاء الحاجة ، ولكن الشيء المعند الذي لم يستجب له مع كل المحاولات هو النطق ، فهذا الطفل ذو الاثني عشر عاماً تقريباً بدأ يفهم بعض الألفاظ الفرنسية ، ولكنه لم يستطع التكلم بها رغم كل المحاولات ، ووصل بذلك الدكتور ايتار الى هذه الخلاصة الصاعقة ، أن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة لم يعد بالإمكان إصلاحها قط فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذا العالم بدون قوة جسدية ، وبدون أفكار تولد معه ، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه الى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول الى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة الا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءً )(7)
الانسان يسبح بين معادلتين : المعادلة البيولوجية والاجتماعية :
إذاً فقصة حي بن يقظان وروبنسون كروزو تبقى للاستهلاك غير المجدي ، فالصبي حي بن يقظان الذي تصوره الفيلسوف الاندلسي قديماً ( ابن طفيل ) الذي عاصر الفيلسوف ابن رشد ، كان في وهمٍ كشفه علم الاجتماع حالياً ؛ أن المجتمع هو الذي يجعل الانسان بشرا سويا ، وبدون المجتمع لايتكون الانسان ، ولايصبح الانسان انساناً ، واللغة التي ننطقها تشبه قاعدة ( الدوس )( DOS ) في الكمبيوتر ، والتي على أساسها يمكن تعلم اللغات بدون حصر ، بل يصبح تعلم كل لغة جديدة أسهل من التي قبلها ، خلافاً لما يتوهمه البعض من العبقرية المفرطة عند من يتكلم ثمانية لغات ، ففي منطقة الجزيرة في سوريا يوجد مالايقل عن سبعة لغات ، تزحف بجانب بعضها البعض في التعامل اليومي ، من الكردية والعربية والتركية والسريانية والكلدانية والآشورية والارمنية ، بالاضافة الى مالايقل عن عشرة لهجات محلية بين لغة أهل الداخل واللهجة المحلية ولهجة البدو ، يضاف إليها بضع لغات محدودة جانبية ، مع كل الفرق الدينية بما فيها الفرقة النسطورية ( المسيحية ) المنقرضة التي تحمل اسم الكلدان اليوم ، فمدينة ( القامشلي ) تشبه بهذا التنوع المذهل من اللغات واللهجات والاثنيات والأديان المتحف الحي .
إن الصبي ( حي بن يقظان ) الذي كان يبني عليه فلسفته المفكر الاندلسي ( ابن طفيل ) سوف يفاجيء أن ممثل روايته سيكون أقرب الى الحيوان ، بل سيبدو كحيوان بئيس ، لأنه عاش لوحده مع الغزالة، فالانسان يأتي الى الدنيا بالمعادلة البيولوجية ، ولكنه يصبح انساناً بالمعادلة الاجتماعية .
المجتمع يشكل الثقافة _ يعلِّم اللغة _ يمنح الحظوظ الدنيوية : وأكثر من ذلك فإن المعادلة الاجتماعية تتنوع من مجتمع لآخر ، ولذا فحظوظ الانسان في الدنيا هي من المجتمع الذي ينتسب إليه أكثر من كفاءته الشخصية ، فجراح الأوعية في أمريكا يأتيه دخل يصل الى قرابة مائتي ألف دولار في السنة على الأقل ، ولكنه في مصر لايصل الى عشر معشار هذا المبلغ ، وينطبق هذا الكلام على حاملي جنسية البلد وتنقلهم في العالم ، حيث يتمتعون بهذه الامتيازات سلباً أو إيجاباً ، التي منحهم أياها المجتمع الذي أعطاهم عضوية الانتساب للبلد . فكما أن المجتمع يجعلنا بشراً أسوياء ، كذلك المجتمع يمنحنا حظوظاً مختلفة في هذه الدنيا ، فالذي يولد في بنغلادش غير الذي يولد في ألمانيا واليابان ، وهذه مرتبطة بدورها بقَدر المجتمع في مرحلة ما ، فالذي يولد في المجتمع الألماني الآن ، غيره الذي يولد في مطلع القرن العشرين في هامبورغ في ظروف عمل قذرة ، أو في أيام الحروب العالمية ليموت في ساحات المعارك المهولة مثل الجبهة الروسية في الصقيع القاتل . المجتمع هو الذي يعطينا اللغة ، هو الذي يمنحنا الحظوظ الدنيوية . هو الذي يشكلنا ثقافياً . فالذي يولد في اليابان سيتكلم اللغة اليابانية ويؤمن بالعقيدة البوذية أو الكونفوشوسية ، ومن يولد في بافاريا في ألمانيا سينطق الألمانية ويدين بالمسيحية في أحد جناحيها الكثلكة أو البروتستانتية في الأغلب ، ومن يولد من رحم امرأة يهودية سيتشكل سيكولوجياً في الأغلب بكل التراث اليهودي وإشكالياته ، ومن يولد في جنوب العراق سيكون شيعياً ، ومن يولد في شمال العراق سيكون تركمانياً أو كردياً ، ومن يولد في الاناضول قد يقتل في إحدى هجمات جيش العمال الكردستاني من أجل بناء دولة كردية ، من حيث يعلم أو لايعلم ، وهذه ليست فكرة قدرية بل هي حقيقة دامغة ساحقة ، فالمجتمع يشكلنا إن أردنا أم لا ، رغبنا أم رفضنا تحت قوة خفية ساحقة ماحقة لارد لها . ولعل هذا يلقي ضوءً على بعض أسرار آية التغيير في القرآن ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) حينما يعتبر أن التغيير الاجتماعي لايتم بشكله الفردي بل بكم جماعي وكتلة حرجة أي تشكل تيار اجتماعي مسيطر ، بل إن الفرد الذي يسبح ضد التيار يتعرض للتمزيق والتدمير بحس الدفاع الاجتماعي وهو أمر طبيعي ، فالآية واضحة أن التغيير لايتم بصورة فردية ( حتى يغير ) بل لابد من الكم الجماعي ( حتى يغيروا ) ونفهم من نهاية الآية أن الزلزال الاجتماعي حينما يقع فلامرد له ولامفر منه ( وإذا أراد الله بقوم سوءً فلامرد له ومالهم من الله من وال ) على صورة القدر الاجتماعي الذي شرحناه. إن هذه الحقيقة مزلزلة وتقلب الرأس فعلاً ، فالانسان يتشكل ويصبح انسانا ً فقط عندما يتصل بالمجتمع ، والانسان ينطق باللغة فقط عندما يعيش ضمن الوسط الانساني ، فاللغة والنطق هما مزيج من الوراثة والكسب الاجتماعي ، فالقرد لوعاش بين البشر لن ينطق ، كما أن الانسان لو عاش خارج الجماعة بين القرود لن ينطق ، وتأتي حقيقة رهيبة أخرى من قصة الصبي ( فيكتور ) وهي أن المرحلة التي تزرع فيها اللغة في دماغ الانسان ، حاسمة للغاية وهي السنوات الأولى من عمر الطفل ، فالطفل ينطق قبل أن يقرأ ، ويتعلم اللغة سماعياً ، وعندما يتجاوز هذه المرحلة فلايتعلم اللغة ؛ فإنها تفوته والى الابد بغير رجعة .
نظرية العالم الأمريكي ( جرينبيرج ) حول أصل اللغات :
والآن هل هناك لغة ( أم ) ترجع إليها كل اللغات ؟ إن كل أمة ترى أن لغتها هي سرة العالم ومحور التاريخ ، ولكن الفيلسوف افلاطون ذهب الى أن كل لغة هي اختراع انساني قائم بذاته ، واليوم لاتوجد نظرية موحدة حول وجود ( لغة أم ) ترجع إليها كل اللغات ، إلا أن عالم الالسنيات الأمريكي ( جوزيف جرينبيرج )(JOSEPH - GREENBERG ) وهو من علماء اللغة المرموقين يدافع عن نظرية ( وحدة الجذر)( MONOGENETIC ) قام بمسح عملاق لذخيرة الألفاظ وبعض القواعد النحوية الثابتة في مئات اللغات ، في محاولة لوضع ضابط بين كل هذه اللغات العالمية التي تم مسحها . إن التصنيف الذي اقترحه جرينبيرج ليس بدون نزاع بين علماء الالسنيات ، ولكن العالم الأمريكي يصر على أن لغات العالم التي تصل الى خمسة آلاف لغة في المتوسط ، تعود كلها في النهاية الى لغة أم مشتركة واحدة كما نعود نحن في النهاية الى أم واحدة ، بل ذهب في تصوره الى أبعد من ذلك فقال إن الكلمة التي لها أصل في كل اللغات هي لفظة ( تك ) وهي حسب الترجمات المنوعة بين اللغات تصير الى معاني لانهائية وكلها موجودة ككلمة في كل اللغات من واحد... الى بعض .. أصبع ... ذراع .. والى معنى أشار بأصبعه !!
اللغة كمٌ نامي متطور عبر الزمن :
ونظراً للوقت الرهيب الذي مر على الانسان عبر الأحقاب ، ونظراً لارتباط النطق بالدماغ وجهاز التصويت المكون من الحنجرة والحبال الصوتية والبلعوم والأنف ، فإن الأثر الانثروبولوجي الذي يتم العثور عليه من العظام والجماجم لايستطيع الإفصاح بشكل أكيد عن سر النطق عند الانسان متى بدأ ؟ وكيف بدأ ؟ وكيف كانت مسيرته على العموم ؟ نظراً لارتباط النطق بأعضاء تفنى وتندثر بعد موت صاحبها . ولكن الذكاء الانساني احتال على المشكلة مرة أخرى بشكل غير مباشر ، كما روينا سابقاً في قصة الكربون 14 وساعة البوتاسيوم الأرغون الكونية ، أو كما فعل الباحث الانثروبولوجي الهولندي ( فريد سبور )( FRED - SPOOR ) الذي يقوم في جامعة لندن بدراسة مشكلة انتصاب الانسان ، من خلال دراسة الأذن الباطنة في الجمجمة التي تملك جهازاً رائعاً بالغ الاتقان مسؤول عن آلية الاتزان عند الانسان، وبالتالي تشير الى انتصابه من عدمه ، حيث درس حوالي عشرين جمجمة ، وكلها دلت على تشابه ( الانسان المنتصب )( الهومو_ ايريكتوس ) معنا ، خلاف باقي الكائنات ، ويعود الى حوالي مليون ونصف من السنين (8).
دراسة الجمجمة بالكمبيوتر تدل أيضاً على تطور الدماغ مع الزمن من خلال انطباعاته التي تترك أثرها على باطن عظام الجمجمة ، ونظراً لوجود مراكز النطق في القشرة الدماغية اليسرى وأعضاء التصويت في أسفل الجمجمة ؛ فيمكن الاستدلال بشكل غير مباشر على الحدث الانثروبولجي عبر الزمن .
اللغة والواقع _ اللفظ والمعنى :
بقي أن نقول أنه مع الزمن تكسرت اللغات وتفرعت الى مالانهاية ، واللغة كائن ينمو مع الزمن سواء في المحتوى أم الشكل ، وأمة لاتطور لغتها تعتبر في حكم الأمة الميتة ، لأن تطور اللغة يعني الحياة ، فالحركة والنمو دليل الحياة ، والجمود والتحنط دليل الموت والفناء (9) ونظراً لهذا التطور المستمر في اللغة فلاغرابة من نشوء نظريات مختلفة حول أصل اللغة ، هل كانت من لفظة تيك أو تونج أو سونج أو سواها ، فإمكانية الوصول الى اللغة الأولى النموذجية ( PROTOTYPE ) هي في حكم المستحيل ، والأقرب أن اللغة هي أمر اصطلاحي ، وأن اللفظة لاتشع بالمعنى بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، فالكلمة كالقمر تعكس المعنى ، والمعنى كالشمس التي ترسل أشعتها ، أو على حد تعبير الفيلسوف المتصوف ( الغزالي ) الذي عاش في القرن الرابع الهجري ( 450 _ 505 هـ ) في كتابه المستصفى من أصول الفقه : أن من أراد أخذ المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد المغرب وهو يستدبره ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا (10) ولنا عودة لهذا البحث لاحقاً في فهم علاقة اللغة بالواقع ، فهناك دراسات في الوقت الحاضر تمشي باتجاه توليد المعاني من الألفاظ بدون حدود كما في السيرك والبهلوان الذي يخرج من قبعة الاخفاء مايريد من مناديل وأرانب ، مثل كلمة ضرب في القرآن ، أو اتجاه أن اللغة عندما تشكلت كانت انفعالاً كاملاً للواقع الحقيقي (11) بمعنى أن معرفة اللغة بجذورها الأولى سيقودنا لفهم أسرار الكون دفعة واحدة ، وفي تقديري أن الطريقة الأولى على الرغم من إغراءها لاتقود الى الحقيقة ، والثانية فيها عدم الأخذ بعين الاعتبار تدرج مرور الحقيقة الخارجية الى صورة ذهنية ؛ فالتعبير عنها الى الآخرين فكتابتها ، فالوجود الموضوعي يمر بــ ( فلترة )( FILTERATION ) ذات أربعة مستويات ، وكلها تدرجات وانكسارات محفوفة بمخاطر الانزلاق العقلي الكبرى ، فرؤية الشيء لاتعني أبداً أن الصورة الذهنية تساوي الحقيقة الخارجية ، والا لماذا حرق الناس من أجل رأيهم أن الشمس لاتدور ؛ بل الأرض هي التي تمشي في مدارها حول الشمس ؟! كذلك فإن تصوراً من هذا النوع سينهي الخلاف الانساني دفعة واحدة ، طالما كانت رؤية الوجود الموضوعي يقود الى تصور ذهني واحد لجميع الناس ، إن القضية ليست بهذه البساطة كما نرى إذاً.
إن منتقدي نظرية جرين بيرج حول أحادية الجذر يرون أن اللغة متعددة الجذور ، وأنها نشات في أماكن شتى في العالم ولاعتبارت اصطلاحية ، حيث انتقل الانسان من لغة الاشارات باليدين الى الترميز ، ومازالت حركات أيدينا وتعبيرات وجوهنا بواقي تلك اللغة القديمة البدائية قبل انتقال الانسان الى الترميز المجرد .
ولكن كيف يتكلم الانسان حقاً ؟ وماهي أدوات التصويت ولماذا يتكلم الانسان وتخرس بقية الكائنات ؟
نظرية عالم اللسانيات نعوم تشومسكي(12):
يرى العالم الأمريكي تشومسكي (NOAM - CHOMSKY ) عالم الالسنيات أن السر يكمن في إضافات خاصة للانسان مكنته من التصويت ، فالنطق يعتمد جهازين واحد للانتاج وآخر للإطلاق ، الأول عقلاني منظِم في منطقتين ، واحد لتنظيم القواعد الجراماتيك ، والثاني لتفسير المعاني . وجهاز التصويت فيزيائي بحت ، يعتمد إطلاق الصوت وتقطيعه وصدمه ونفخه في أماكن شتى بين الحلق والفم ، الرغامى والبلعوم ، الأنف والشفاه وتجاويف الجمجمة ، وهذه قد غُرست فينا بشكل جيني مختلف عن كل الكائنات ، فأما جهاز انتاج النطق أي كمبيوتر الكلمات فهو الدماغ ، ولقد عُرف أن الفص الجداري الأيسر يملك منطقتين منفصلتين لتنظيم الكلام ، الأولى مختصة بالتنظيم القواعدي والنحو والصرف وهي المعروفة بمنطقة (بروكا BROCA ) نسبة للجراح ( باول بروكا ) أول من أشار إليها عند أصابة الانسان بها والآثار المأساوية المترتبة على ذلك ، فهي تعطي الأوامر للحلق والحبال الصوتية بتقطيع الهواء ولللسان بالتقعر أو التجوف ، الاندفاع للأمام أو الاختباء للخلف ، وللفم بالفتح أو الانقباض ، وللأسنان بالتقارب أو التباعد ، في سيمفونية من أعجب ماخلق الله ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون ) فالنطق يبدأ من الرئتين مثل المنفاخين في قذف الهواء ، ليمر الهواء على حبال تهتز فتعطيه تردد وتر العود في الشدة المطلوبة ، لينصدم بعد ذلك على مسارات مختلفة تعطيه الأنغام بدون نهاية . أما المنطقة الثانية الحسية في قشر الدماغ الأيسر فهي منطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، وكلا المنطقتين مترابطتين بجسر مدهش من التعاون فالدماغ يعمل كوحدة كلية ، ولنا عودة تفصيلية في بحث الدماغ وعلاقته بالنطق واللغة والتفكير .
الاعتراضات على نظرية تشومسكي :
اعتبر نعوم تشومسكي أن الانسان يتفرد باللغة ، وأن اللغة حققت له تفوقاً نوعياً ، ولكن الاعتراضات توافدت في صورة تجارب ميدانية ليس آخرها مؤتمر ( تكسون )( TUCSON ) الأخير في ولاية أريزونا ، الذي عقد في أبريل من هذا العام ، عندما تقدمت السيدة ( ايرينه بيببربيرج )( IRENE - PEPPERBERG ) ببغاء يعد حتى الستة ويفرق بين الألوان والأشكال في صورة تجريدية ، كما أن فريقاً من العلماء أخذ الصغار الرضع للشمبانزي ، وبدأ في تربيتهم مثل الأطفال تماماً وبعد جهود سنوات استطاعت القرود تناول الطعام في صحون ، وقضاء الحاجة في تواليت ، وغسل أدوات الطهو ، ولكن كل الجهد المصبوب لم يصل الى درجة النطق عند الشمبانزي ( فيكي )( VICKY )سوى أربعة كلمات ( ماما .. بابا .. كاسة .. أعلى )( MAMA .. PAPA .. CUP .. UP.. )
تجربة آلان وبياتريكس جاردنر مع الشمبانزي واشو :
عمد الباحثان ( جاردنر )( ALAN&BEATRIX - GARDNER ) بعدها الى تجربة جديدة بعد الفشل الذريع في أي نطق للشمبانزي باعتماد طريقة التكلم مع الصم البكم ( لغة الاشارات )( AMERICAN - SIGN - LANGUAGE = ASL ) واستطاعا تحقيق إنجاز كبير في هذا الصدد وكذلك السيدة ( سافيج راوباوم ) من جامعة جيورجيا مع الشمبانزي كنزي ، فأما شمبانزي الزوجان جاردنر ( واشو )( WASHOE ) فقد وصل الى 132 مرادفة ، وأما كانزي وهو انجاز جديد فقد قفز الى 256 كلمة ، ولكن الشيء المؤكد في هذا الانجاز أن إمكانية الشمبانزي توقفت عند هذا الحد بمايشبه الاختناق ، في مستوى عقل طفل لايزيد عن عامين ، في جمل محدودة للغاية من مثل : أنا جائع _ الكرة هناك وهكذا . فالحيوان دخل الى عالم الكلمة ولم يبقى الانسان متفرداً الا في المدى والكم ، فالببغاء أخذ عقل طفل في الخامسة والشمبانزي فهم طفل في السنتين .
كيف تخرج الكلمات ؟
يرى الباحث الأمريكي ( فيليب ليبرمان )( PHILIP - LIEBERMAN ) في علم الأصوات (PHONETIKER ) الذي يعمل منذ ثلاثين سنة على فهم آلية تطور اللغة أن تمفصل ( ARTICULATION ) جهاز النطق والتمكن من إخراج الكلمات شيء سحري حقاً ، فخلق الانسان اعتمد قاعدة في غاية الجمال ، فجهاز التصويت لم يلجأ الى فتح ثقوب جديدة في الرأس ، بل استفاد من نفس فتحات الطعام والشراب ، ففي الوقت الذي تستفيد الحيوانات الثديية من الفم في الطعام والحلق للتنفس ، فإن حلق الانسان برزت فيه صفة تقدمية للغاية وهي دفع الحنجرة للأسفل ، وتحويلها الى جهاز نطق على حساب ( الشردقة ) في الطعام ، فالانسان لايستطيع أن يتكلم ويأكل بنفس الوقت خلافاً للقرود التي تسطح عندها الفم والبلعوم وصعدت الحنجرة الى الأعلى ، فالقرد يتفوق علينا بأنه يستطيع المضغ أفضل ، ويأكل ويشرب في نفس الوقت الذي يتنفس فيه ، في حين تراجعت هذه الصفة عند الانسان لينمو جهاز النطق الرائع من نفس مستودعات الأكل والشرب ، ليصبح كياناً واعياً ناطقاً يعبر عن نفسه ويحقق الاتصال بغيره ويفكر بواسطتها فاللغة لها ثلاث حقول جبارة : إمكانية أن يخرج مابداخل الانسان الى خارجه بالتعبير ، وبواسطة الاتصال مع بني جنسه من خلال الترميز برزت الحضارة للوجود ، واللغة ثالثاً هي أداة التفكير وفهم العالم كما أشار الى ذلك الفيلسوف الألماني هومبولدت (HUMBOLDT )(13) مابين رحلة نفثة الهواء من الصدر الى استقرار المعنى في الذهن يعمل جهاز عملاق من التنظيم العصبي حتى يتم تدفق الحروف وتآلف الكلمات وانسياب الجمل وتتابع الأفكار ، تتعاون فيه سبع عشرة عضلة في اللسان وثلاثة أعصاب في الرأس وحزام متدفق من السيالة العصبية ، مع مركز مستقر في نصف الدماغ الأيسر ينظم تدفق الحروف ، من خلال تنظيم عملية التصويت لأخراج النغم المناسب والكلمة المتزنة ، فالكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا نطقتها ملكتك هي ، والكلمة مسؤولية وليست خروج هواء بل هي إفراز عصارة الفكر ، ولذا تباينت ثقافة عن ثقافة في اختيار الكلمات وتحمل مسؤوليتها .
هوامش ومراجع
(1) سورة الذاريات الآية رقم 23 (2) ذكرت القصة بالكامل في المجلة الألمانية العلمية ( P . M . PERSPIKTIVE - DAS WUNDER DER EVOLUTION - 044 \ 96 ) ص 72 (3) جاء هذا التعريف في القاموس الألماني ( WAHRIG - DEUTSCES - WOERTERBUCH ) ص 2722 (4) كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم المعرفة _ رقم 67 _ ص 12_13 يقول صاحب الكتاب (( وكان هدفه من إجراء هذه التجربة معرفة ماإذا كان الأطفال سيتكلمون اللغة العبرية التي كانت الأقدم أو اليونانية أو العربية أو اللغة المحلية في صقلية التي يتكلمها آباؤهم وأمهاتهم ، ولكن جهده ذهب عبثاً إذ مات جميع الأطفال الذين دفع بهم الى التجربة ، ذلك أنهم لم يستطيعوا العيش بدون تدليل المرضعات ورؤية وجوه باسمة وسماع كلمات أو أصوات تشعرهم بالحب والحنان ))(5)المجلة المذكورة ( الاتصالات ) عدد 12 عام 1989 م ص 37 المقالة عن النطق عند الحيوان والانسان بقلم ( P . J . BLUMENTHAL )(6) راجع القصة المثيرة في الكتاب السابق بنو الانسان ص 10 (7) نفس المصدر السابق ص 11 (8) مجلة الشبيجل عدد 42 عام 1995 م ص 238 (9) في مشروع عابد الجابري المفكر المغربي في كتابه دراسة بنية العقل العربي يصل الى هذه المحصلة المؤسفة من توقف فضاء النمو في اللغة العربية (10) كتاب المستصفى من أصول الفقه _ الغزالي _ الجزء الثاني ص 23 (11) يراجع في هاتين النقطتين كتاب شحرور القرآن والكتاب وكتاب محمد عنبر جدلية الحرف العربي (12) يعتبر نعوم تشومسكي عالم مرموق في اللسانيات ، كما أنه ناقد اجتماعي سياسي قوي ، ولعل كتابه ردع الديموقراطية أو فبركة القرار من الكتب التي تكشف عورة الديموقراطية الغربية (13) كتاب فلسفة اللغة _ تأليف الدكتور محمود فهمي زيدان _ نشر دار النهضة العربية ص 57 (( عند همبولدت الذي رأى أن اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل أفكارنا الى الآخرين ولكننا لانستطيع إدراك العالم أو معرفته الا عن طريق اللغة وهذا الادراك مستحيل بدون استخدام اللغة )) ويعلق المؤلف على ذلك بقوله : ان الانسان بلغ انسانيته حين استخدم اللغة فالنطق ليست مهمتها توصيل المعلومات بين فرد وآخر وإنما هي التي تحدد تصورات العقل .
لغات التعلم الثلاث ( 1-2 )
( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة )
يظن الانسان أنه يتعلم اللغة من المدرسة ، ويظن أن نقل الأفكار والمعرفة تتم بالكلمة المطبوعة ، ونقول عن الانسان أنه أميِّ من لايحسن توقيع اسمه .
المسلمات الثلاث كلها خاطئة . اللغة يتعلمها الطفل بالسماع قبل كتابة حرف واحد ، وهي الطريقة المثلى لتعلم لغة جديدة . وهناك قبل اتقان اللغة سماعياً مرحلة أعمق وأهم وهي لغة لاتنطق بل يتعلمها الطفل من سيما الوجوه . فاللغة كما نرى تتدرج في ثلاث مراحل ، باختراق ثلاث حواجز ، تركبها طبقاً عن طبق .
طبقة اللغة العميقة تتقن بالاشارات وتعبيرات القسمات بدون حرف واحد . الطبقة الثانية أقرب الى السطح وتتقن من البيت والبيئة بالتصويت ، بلفظ الحرف قد اعتلى متن الفيزياء وموجات المادة . الطبقة السطحية الظاهرة تتم عن طريق المدرسة بإتقان رسم الحرف والكلمة ونظام الخطاب بواسطة الكتابة المقروءة . الأولى تشكيلية والثانية تركيبية فوق الأولى والثالثة عائمة سطحية ظاهرة يراها الجميع . الأولى تفرز السلوك وتشكل العواطف العميقة . الثانية تبني عالماً جديداً يعتمد الصوت والحنجرة والألفاظ ، الثالثة هي حقل الخلاف الانساني لإنها سطحية عائمة تتملص وتتفلت بعنف وقوة ولاتعبر تماماً ولايتفق الناس حولها . لابد من تفكيك الكلمات وإدراك نظم الخطاب . كتب فيلسوف الحداثة الفرنسي ( ميشيل فوكو ) كتاباً كاملاً بعنوان ( نظام الخطاب ) وقبله كتب الجاحظ كتابه اللامع ( البيان والتبيين ) من أصل أربع كتب تعتبر أجود كاتب في اللسان العربي القديم ، ( مثل الكامل للمبرد والأمالي للقالي ) . نظام الخطاب والكلمات المكتوبة هو مايتصارع البشر حوله ، فيما يعرف بمشكلة النصوص ، كونها مكتوبة بالكلمة المقروءة .
لاتعتبر ( لغة المدرسة ) أكثر من نهاية المطاف في رحلة اللغة بثلاث عتبات ، طبقاً فوق طبق . استطاع الانسان نقل الأفكار فيزيائياً بالصوت ، ولقن الطفل الكلام ؛ فاللغة سماعية ، وتعلم اللغة عند الطفل يعتمد الأذن قبل رؤية حرف واحد ، ويبقى تعريفنا للأمي قاصراً ، فالذي لايجيد الكتابة يكون قد مخر عباب أوقيانوس اللغة ( سيميائياً ) وبالصوت .
المعرفة ( السيميائية )
هناك ( لغة فكرية ) ليس لها اسم ولايلتفت إليها الناس ، وهي أهم مراحل تكوين الطفل عقلياً ، يبدأ الطفل فيها رحلة تكوينه العقلي ، لغة لاتعتمد الصوت ولا الرسم ، لاالنطق ولاالكتابة ، بل عمل ( السيمياء ) والايحاء ، أو في تعبير القرآن ( فلعرفتهم بسيماهم ) ثم يضيف ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ؟!!
اللغة تشتغل هنا ليس من ( الموجة الأساسية ) للقول بل من ( اللحن الجانبي ) فقد يقول أحدهم ( السلام عليكم ) وكلماته وتعبيرات وجهه تقول ليتني لم أرك ولم أجتمع بك . فهنا يتشكل نوع جديد من ( المعرفة ) في ( سيما الوجوه ) و( اللحن الإضافي ) في ذبذبة الصوت ، وإفرازات السلوك المتناقضة .
عالم الكلمات السحري
نحن هنا أمام حاجزين عجيبين لعالم الكلمات السحري . هناك لغتان أضافيتان غير المنطوقة المتعارف عليها ، وغير المكتوبة التي يتنازع البشر حول تفسير نصوصها .
في حرب الخليج الأخيرة لم تحل الأزمة باستنطاق النصوص ، كما لم تقد المؤتمرات التي انعقدت في كلا الجانبين الى أي انفراج ، والذي حلها في النهاية ( بيزنطة ) بدون نصوص ، ولحاجة في نفس يعقوب قضاها . مازال نص الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بالقوة مفتوح لعالم كامل من التأويل بإضافة حرف واحد فقط ، هل الانسحاب من أراضي ( عربية ) أو من الأراضي ( العربية ) . حرف ( الـ ) العجيب هذا في النص الانكليزي ( THE ) قلب ظهر المجن وفتح الباب لتفسيرات لانهائية ، في شهادة صاعقة عن مشكلة ( استنطاق النصوص ) .
نحن نعرف أن أول صراع في الاسلام تم فيه استدعاء النصوص ، ولم يكن الذي رفع المصاحف على رؤوس الرماح بأنزه الطرفين وأتقاهما .
غضبت عائشة (ر) عندما سمعت كلمة التحية من اليهود وهم يدخلون مجلس رسول الله (ص) وغضب هارون الرشيد من التحية واطراءه بالعدل ؟! السبب هو ( لحن القول ) فاليهود لفظوا ( السلام ) بابتلاع حرف اللام خفية فأصبحت اللفظة ( السام ) بمعنى الموت ، فردت عليهم عائشة وعليكم ( السام واللعنة ) فقال المعلم الأكبر ( ص ) لقد رددت عليهم بقولي ( وعليكم ) فكان الجواب يغطي كل الاحتمالات بذكاء وخلق وافتراض حسن النية بالآخرين . المرأة البرمكية التي حيت هارون الرشيد قالت له تمدحه ( حكمت فقسطت ) ؟! بإسقاط حرف ( الألف ) فتحولت الكلمة من ( أقسطت ) الى ( قسطت ) من العدل الى الظلم ؟! إن الله يحب المقسطين بمعنى العادلين ولكنه يحكم على القاسطين أنهم كانوا لجهنم حطبا ؟!
الفرق هائل بين ( السام والسلام ) وبين ( المقسطين والقاسطين ) إنها لعبة خطرة تراهن على لحن القول . وتبقى اللفظة بريئة فنحن من يشحنها بالمعنى ، أو نفرغها ونعيد تعبئتها من جديد ، في آلية تجري في كل لغة انسانية .
النفس في حالة مخطط لايعرف الراحة
اعتبر القرآن ( الإيمان ) شبيه بهذا ؛ فطالما حصل التصميم على عدم مراجعة الموقف
و اعتماد ( الأحكام المسبقة ) وتعطيل آلية ( النقد الذاتي ) وأغلاق منافذ الفهم ( صم بكم عمي فهم لايعقلون ) فلن ينفع فيه أي نص أو آية أو معجزة ( ولوجاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ؟! الكفر هو التغطية والستر . من هنا عبر القرآن عن المزارعين الذين يغطون الحبة بالتراب أنهم ( كفار ) ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . تعطيل منافذ الفهم والمراجعة والتأمل يدخل الانسان هذه الحلقة النفسية المعيبة التي يسميها القرآن (الكفر) ويراها علم النفس ( وضع نفسي ) قابل ان ينزلق باتجاهه أي انسان ، كثقب أسود متربص للشفط في كل حين . الحديث حثنا على الدعاء دوماً أن لاتموت قلوينا . اعتبر القرآن بالمقابل حالة الإيمان أنها وضع نفسي تنشرح فيه النفس ( أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه )( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) . الإيمان والكفر حالة نفسية . النفس في حالة تذبذب ورجرجة لاتتوقف وفي مخطط صعود ونزول ، وعلى الانسان أن يسأل نفسه دوماً في أي نقطة من المخطط تسكن نفسه ؟ هل هو في حالة انشراح في معظمها ؟ إن الميل أو الاتجاه ( TREND & TENDENCY ) يحكم على الوضع ، ويوم القيامة هناك نظام كمبيوتري خاص يحاسب الانسان بموجبه نفسه بنفسه ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
مراحل التشكل الفكري عند الطفل
من الأهمية أن نعرف كيف تتشكل ( الخرائط الذهنية ) عند الطفل ومراحل تأسس اللغة وجدليتها مع ( الفكر ) و( الواقع أو التاريخ ) ؟؟
يمر الطفل وهو يتكون ( فكرياً ) بثلاث مراحل جوهرية :
1 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( السلوك ) فيقرأها الطفل من كتاب الوجوه والتصرفات
2 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( الكلام ) فتنتقل الفكرة على متن الصوت فيزيائياً .
3 ـ مرحلة تلقي ( الأفكار ) بواسطة الكتاب والقراءة ؛ فيحدث التحول العقلي ونقل المفاهيم بنبضات الضوء الكترونياً .
تبدأ المرحلة الأولى بعد الولادة مباشرة ، عن طريق التأثر بالمحيط ، وينقل الطفل رغباته بلغة لاتعتمد الحرف ، مثل تعلم قضاء الحاجة بالبكاء ، ثم يتم امتصاص المفاهيم عن طريق قراءة ( كتاب الوجوه ) فيتأمل السحنة الغاضبة والتعبير الحاقد ، تكشيرة العبوس وتقطيب الوجه ، استرخاء الضحك وبشاشة الابتسام ، ارتفاع الأصوات الغاضبة ، أو هدوء وروحانية الأصوات الراضية . كلها تنتقل على ظهر الموجة الفيزيائية الضوئية ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الانسان عربية كانت أم ألمانية ؛ فنحن نعلم أن المتكلم غاضب وإن كنا لانعرف لغته التي ينطق بها ، والطفل يمتص معنى الحرام والعيب والمحظور والجيد من المواقف والتصرفات أكثر من الكلمات والحروف ؛ فهو دائم التحديق في وجوه من يحيط به خاصة الوالدين ؛ فيمتص السلوك المقبول والمرفوض ، من الانفعالات ومؤشرات تعبيرات الوجوه وتلويح اليدين . ويبقى تصرف الطفل في معظمه ارتكاساً للمحيط ، هل يعزز تصرفه أم يثبطه ؟؟ وكلها تحدث بطريقة لاتعتمد الوعي ، بل الايحاء والتقليد .
الطفل دائم التطلع الى وجوه القوم المحيطين به يقرأ التعبيرات ويفسر السحنة ؛ بصرف النظر عن نوع الحروف والكلمات ؛ فإذا تصرف الطفل أدنى حركة درس ارتكاس الوسط المحيط به ، وكله يتم بآليات اللاوعي ، فهي لغة سلوكية ، ويتم الفهم فيها والإرشاد بالتصرف لابواسطة اللغة .
نحتاج الى الى ابتكار اسم جديد لهذا الاسلوب في التلقي غير اللغة ، والبعض يسميه نظام الفكر ، ويمكن أن نسميه اللغة التحتية ، أو الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والقيم .
هذه المرحلةتشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت التشريح المجهري فيمكن فك أسرار حديث الفطرة ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ؟!
هذه اللغة التحتية تتغلغل وتستحكم في الطفل قبل أن ينطق خلال السنتين والثلاث الاوائل الحاسمة من عمر الانسان .
نمو الحنجرة التشريحي سبب النطق
نحن نعرف اليوم من علم ( الانثروبولوجيا ) و ( التشريح ) أن النطق عند الانسان قريب العهد بسبب تشريحي بسيط هو نمو ( الحنجرة ) . الطفل والقرد كلاهما لايستطيع التصويت والنطق . أكثر ماكشف في عالم القردة إطلاق صيحات محدودة لاتتجاوز الخمسة تنبيهاً لمخاطر الغابة . الطفل بعمر السنة تبقى حنجرته أقرب الى حنجرة الشمبانزي قبل ان تكبر وتبدأ بالتصويت . حجم الدماغ ونمو الحنجرة هو الذي قاد الى النطق وانبثاق العقل . الطفل عندما يولد يكون دماغه بنصف حجمه الأصلي بسبب بقاءه تسعة أشهر فقط في الرحم ، حتى يولد مكتمل الرأس والدماغ لابد له من ضعف المدة وحوض انثوي خرافي الحجم . هذا السبب البيولوجي يفسر تأخر النطق عند الطفل وعجزه الكامل عند الولادة . العجل يمشي بعد ولادته بلحظات ، والأرانب تزحف بعد ولادتها بساعات وتركض خلال أيام . التطور الروحي الحركي عند الانسان يستغرق سنوات ؛ فهو عند الولادة أضعف مخلوقات الله قاطبة ، في تناقض وجودي يدعو للتأمل . القرود بسبب انخفاض حنجرتها تستطيع الأكل والصياح معاً ، بسبب زحف الحنجرة عند الانسان للأعلى يجب أن يكف الانسان عن الكلام عند الطعام والا ( تشردق واختنق ) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم . بين نفخ الرئتين واهتزاز الحبال الصوتية وانطلاق الهواء بين اللسان والحلق والأضراس ، وعمل الأجواف المجاورة في البلعوم كحجرات طنين ، مكَّن الانسان من النطق والترميز من خلال لغة مفتوحة ، وعلم آدم الأسماء كلها . ولكن هذه هي اللغة الصائتة المنطوقة . اللغة الأخرى هي اللغة الصامتة تشكل البنية التحتية لنظام الخطاب .
جبل الجليد الثقافي
البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار .
المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة )
الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة
هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟! لكن ( الكتبة والفريسيين ) لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون .
المرحلة التشكيلية في حياة الطفل
إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل .
لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .
لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون .
قارة جديدة في عالم الوعي
المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث .
ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها .
المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة .
حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة
مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية .
إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية .
الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس .
نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو )
المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب .
قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة
كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) .
الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد .
العمليات الجراحية على الثقافة
كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها .
كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة .
جدلية الكلمة
الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك ))
نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) .
قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام )
وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت .
تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت .
تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة .
نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .
لغات التعلم الثلاث ( 2-2 )
( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة )
جبل الجليد الثقافي
البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار .
المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة )
الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة
هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟! لكن ( الكتبة والفريسيين ) لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون .
المرحلة التشكيلية في حياة الطفل
إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل .
لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون .
لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون .
قارة جديدة في عالم الوعي
المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث .
ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها .
المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة .
حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة
مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية .
إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية .
الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس .
نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو )
المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب .
قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة
كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) .
الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد .
العمليات الجراحية على الثقافة
كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها .
كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة .
جدلية الكلمة
الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك ))
نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) .
قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام )
وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت .
تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت .
تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة .
نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .
البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية
البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية مصدرها ثلاث كلمات باللغة الإنكليزية هي: Neuro-linguistic-programming وتختصر بثلاث حروف هي: NLP. والذي تقدم بهذا المصطلح هما عالمان في اللغويات هما: (جون غراندر) وعالم الرياضيات (ريتشارد باندلر) في عام 1975م في كتاب بعنوان (بنية التخيل Structure of Magic). وهذا العلم في الواقع ليس جديداً تماماً فقد اشتغل عليه (الفلاسفة) و(الصوفية) و(المربون) و(مدارس علم النفس) منذ فترة طويلة. وخلاصته هي فهم تشريح العقل الإنساني وكيف يتصرف الإنسان ومن أين ينبع السلوك؟ وصولاً إلى شيء خطير يزعمه الكثيرون هو (التحكم) بالسلوك الإنساني. واعتبر عالم النفس الأمريكي (سكينر) من مدرسة (علم النفس السلوكي) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الإنساني Beyond Freedom and Dignity) أن "العقل لا يزيد عن خرافة وأن الكرامة وهم"؟ وهو يذكر بفكرة عالم الاجتماع العراقي (الوردي) عن العقل الإنساني أنه عضو يحقق وظيفة البقاء ولا يبحث عن المنطق والعدالة والحق كما يردد ذلك المتحاورون في الفضائيات. ويقول الوردي أن العقل الإنسان جعل لابن آدم مثل ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة كي تمكن الحيوانات من متابعة البقاء. وكل الحديث عن الحقيقة النهائية والعدل المطلق والعقلانية خرافات؟
وعالم النفس (سكينر) يريد الوصول بهذا إلى نوع من العلم نتحكم من خلاله بالسلوك الإنساني كما نتحكم في مسار قمر صناعي نطلقه إلى الفضاء. وبالطبع فإن ادعاءً كبيراً كهذا يدخلنا إلى شيء خطير في تحويل الإنسان إلى إنسان آلي (روبوت)، ويصبح سلوك الإنسان لا يزيد عن إفراز هورموني يمكن التحكم فيه.
ويرى عالم النفس (بريان تريسي) في كتابه (أسس علم نفس النجاح) أن الإنسان يشبه (الكمبيوتر) مع الفارق الهائل في التعقيد، ولكنه مثل أي جهاز يحتاج إلى كتاب (تعليمات التشغيل Manual Instruction) كما هو الحال عندما نشتري (فاكسا) فنتحكم به ونعرف أسراره عن طريق كتاب التشغيل.
وتقول الدراسة أن 3% فقط هم الناجحون في الحياة ويرفع (تريسي) الرقم إلى 5% ويدعي الفريق الذي قام بالمقارنة بعد عشرين عاماً من الدراسة أن حصيلة النجاح الذي حققته مجموعة 3% كانت تفوق عمل 97%. والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد أي الاستعداد للتشكل، وهي الفكرة التي طرحها (ديفيد هيوم) في كتابه (عن الطبيعة البشرية) أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن (ايمانويل كانت) قال بشيء اسمه (المقولات العقليةCategorical Imperative) أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. ولولا هذا لكانت رؤية البقرة للعالم ورؤيتنا واحدة، ولكن حصيلة هذه الرؤية مختلفة جذريا بين الإنسان والحيوان ومصدر الإرسال واحد.
ويعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءً من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشيفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر (الجينات) تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر (جيني). ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن (الجينات) أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم (الضغط الدموي) ليست (جيناً Gen) واحداً مفرداً بل حوالي 200 جيناً في ضفيرة متبادلة التأثير.
و حتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة لوحة الفيديو الداخلي ، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه لا يقل عن مائة مليار خلية (عصبية). ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات (لانهائية) إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط.
وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً.
وتذهب مدرسة (اريكسون ملتون) في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما (اللغة الرمزية) فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف (قصص ألف ليلة وليلة) كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي (مباشرة) فتعالجه على نحو (غير مباشر).
والهندسة النفسية تحاول فك هذا اللغز الإنساني لفهم جدليته المحيرة. وقديما حاول الإمام الغزالي فهم مراتب الوجود فقال بأن الحقيقة تمر من خلال مستويات تضعف فيها المرة بعد المرة كما يمر الضوء عبر أوساط شفافة مختلفة فيتعرض للانكسار في كل وسط يتخلله. فبين الحقيقة الخارجية وكتابتها مراحل من (المفلترة المشوشة) قبل أن تصل إلى مرحلة النطق اللغوي وتختم باللغة المكتوبة في النهاية.
ومن هنا فإن طبيعة الاتصالات بين (الكتابة) أو (النطق) أو (المقابلة الشخصية) تدخل الخلل إلى صحة المعلومات على نحو مأساوي. بسبب أن (الكلمة) ناشفة بريئة ولكن (النطق) يحمل (لحن القول). والرؤية تحمل قسمات الوجه وما تخفي السريرة "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول". فهنا تدخل على الخط لغة جديدة هي (اللغة السيميائية).
وقام فريق بحساب مقدار وصول المعلومة أي (المردود الاقتصادي) الفعلي للحقيقة المشوهة من خلال الكلمة (المكتوبة) أو (النطق) أو (المقابلة المباشرة) فكان على الترتيب 7% ثم 38% ثم 55% ويعني هذا أن المعلومة مع كل المحاولات لا تنفرغ عصبيا بشكل كامل، وربما سيحدث هذا للمستقبل إن استطعنا أن نفعل هذا كهربيا بتفريغ كامل شحنة الأفكار والتصورات من دماغ إلى دماغ أو من الكمبيوتر إلى الدماغ وبالعكس. مع ملاحظة أن ما يستقبله الدماغ هو قسم ضئيل من الحقيقة لأنه يتغذى بالحواس الثلاث الأساسية ويرمز لها VAKمن أصل ستة حواس وهي مختصر للرؤية والسمع والحركة(Visual Auditory Kenthetic). وهي محدودة بشق بسيط من كون حافل بالموجات.
والخلاصة التي نصل إليها ثلاثة أمور: إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدعي. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة.
والمهم فهناك من يدعي هندسة نفسية يمكن بواسطتها التحكم في الإنسان؟ ونحن نعرف من تاريخ العلم أن علم نفس (الفرينولوجيا) تحمس له العلماء كثيرا ولم يكن يتطلب أكثر من تمرير اليد على الجمجمة وتعرجاتها للحكم على ملكات الإنسان وطبيعة كيميائه ومزاجه. ثم ظهر أنها لا تزيد عن دجل.
اقرأ المزيد