فهذه قواعد استخلصتها في فترة أكثر من نصف قرن، من أيام صعبة، وليالي ممضة، وصدمات هائلات، وخسارات فادحات، وتجارب مريرة، وخيبة أمل في الكثيرين، أو بالعكس أمل في مستقبل الإنسان. نتابع في هذا القسم ماتبقى منها:
15) ) كن واعيًا لمحيطك و تعامل معه كما هو، فلاضمانة لأي إنسان أو شيء في أيّ زمان و مكان، و العالم العربي في حالة مرض قريبة من حال السرطان. لنقل جثة تتفسخ.
(16) حاول أن تكون متحضراً، واحذر من أصول التخلف العشرة:الأصل في الأشياء الحرمة. و في الإنسان الإدانة. و في العقل الجهل. و في المكان عدم البيان. وفي الوقت الإضاعة و في الأصوات القباحة و في اللباس القذارة. و في المرأة الدونيّة و الإهانة. و في المخاطبة عدم الاحترام. و في المشي الزحام و خبط الآخرين. و في قيادة السيارات عدم الذوق، وعدم وضع اعتبار للآخرين. وفي التعامل مع الآخرين آليّة الإعدام و الإلغاء المتبادل
(17) لا تتطوع بنقل الأخبار السيئة و الحزينة و المنفّرة و المقبضة مالم يكن فيها إنقاذ نفس أو دفع خطر عظيم. في قصة البؤساء جاء موقف الراهبة التي لاتكذب كيف كذبت لأنقاذ حياة العمدة مادلين. وأجب عن كل سؤال بجوابٍ أصغر منه، خاصّة عند رجال الأمن (المخابرات) المبنيين على الوسواس الخنّاس. وورد في الحديث: (أن الله كرِه قيل وقال و كثرة السؤال) و لكن من يفهم؟ لأن كل جواب مطوّل عادةً لسؤال أطول. إذاً، شكَّل المنعكس الشرطي الإيجابي حيث يكون ظهورك فاجعله مقترنًا بخبر سارّ، وفكرة جيدة، وريحٍ طيبة، وخلقٍ مميّز.
18) ) احرص على حمام يومي و لو لخمس دقائق، و ريحٍ طيبة و لو رخيصة، و ثوبٍ نظيف ولو كان قديمًا، فليس العيب أن تلبس قديمًا بل العيب أن يكون قذراً.
(19) ليس العيب أن تكون جاهلًا، ولكن العيب أن تحرص ألا تتعلّم، فالله خلق الناس جميعًا من بطون أمهاتهم لايعلمون شيئًا. وجع لكم السمع والأبصار والأفئدة.
20) ) لاتَتفاءَلَ كثيرًا عندما تشرح أفكارك بأنها أصبحت واضحة، و كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشة: “التشاؤم علامة انحطاط والتفاؤل سطحية احرص على التفاؤل من رحم المعاناة “، لأن العقل يعمل على آلية عجيبة، فالعقل يُكرّس المفاهيم التي عنده، أكثر من إضافة مفاهيم جديدة تعدل ماعنده، ومنه كرّر القرآن أنه من تأتيه الآيات و النذر لاتُغني عنه شيئاً، و أن الناس كلما حدثهم أحد بشيء جديد مفيد قالوا: “إنا وجدنا آباءنا على أمّةٍ و إنا على آثارهم مقتدون”.
21) ) وطّن نفسك بالتدريب الشاق على بناء الذات حتى تلين النفس، فالنفس رهيبة، و عندها قدرة تملّص عجيبة من الواجب و المرّ، وتعمل هاربة من الواجب بحيث لايفطن لها صاحبها نفسه إلا بجهاد كبير، ولايقوم أو يصل إلى تطويع النفس إلا من كان ذو حظ عظيم من الصبر و الوعي و المران.
22) ) في مواجهة أيّ مشكلة درّب نفسك على أسوأ الاحتمالات بما فيها الموت، فكل ماعدا ذلك سيكون دون هذا التوقع، وفي العالم العربي يلعب المزاج الهوائي و الوساطة و عفونتها، و المفاجآت السلبية، الدور الكبير في مصير الأحداث.
(23) لاتربط نفسك بمن حولك: فالمسؤوليّة يوم القيامة فرديّة، وكسب الإنسان مماعملت يداه، وفي العالم العربي لا قيمة للوقت و الإنسان و الفكر، لذا تعوّد على حمل المعرفة معك في صورة كتاب أو بحث أو شريط صوتي حيثما ذهبت وراجعت، لأن القاعدة أنك ستضيع الكثير من الوقت حيثما توجهت، فلاتربط مصيرك بمن حولك ممن هم خارج التاريخ و الجغرافية و إحداثيات الزمان و المكان.
24) ) تذكر أن الكون يقوم على قاعدة التغيّر و عدم الدوام: فهذه هي الحقيقة الأولى في الفلسفة البوذيّة، وكل شيء في هذا الوجود ماضٍ في صيرورته التي لاتتوقف، و الحياة وحدها هي الشيء المستمر، و هي دائمًا تسعى إلى الإفصاح عن نفسها في صورٍ جديدة، و الحياة جسر و الجسر هو للعبور و ليس لبناء بيت فوقه.
(25) لاتقل عنبًا حتى يُصبح في السلّة: و تفسير هذا الكلام أن الإنسان عليه ألّا يُعلّل نفسه بالأماني و التّرهات، و يظن أن مايكتبه و يُحرره أو يتمناه أو يُوعَد بهِ قد تحقق، فلا يثِق بشيء حتى يتحقق، والفرق كبير بين الواقع و الأماني. اختصر القرآن المسألة بثلاث كلمات: أم للإنسان ماتمنى؟
(26) لاتُسلّم أعصابك لشيء لم يحدث: فعندما يسمع الإنسان خبرًا لم يتأكد منه فلا يعد نفسه أنه تأكد حتى يتأكد، ولايعِش على أعصابه كل الفترة دون مبرّر. فعندما جاء خبر مقتل الجساس للزير كان يشرب الخمر فقال: اليوم خمر و غدًا أمر .ومنه جاءت الآية تحذر من فاسق ينقل خبرا.
(27) إيّاك و ترك مهنتك إلى المجهول: بل انتقل من مهنة إلى مهنة، و من وظيفة لأخرى من دون ترك ثغرات في حركة الانتقال، أو البقاء معلّقاً في الهواء دون اتّزان، فهذه حكمة و الأخرى تهوّر يُورث الندامة، مع ذلك فالمغامرة جيّدة – أحيانًا – و ليس في كل حين.
(28) بإمكاننا أن نُعطي أبناءنا الحبّ، و لكننا لن نستطيع أن نعلّمهم كيف يُفكروا، هكذا قال جبران خليل جبران. وكل أم حريصة على ابنها، والحرص لايعني الصواب، وهناك بعض الأمهات يخرجن قتلة من حجم الأسد السوري والحلوف الكوري.
اقرأ المزيد
فهذه قواعد استخلصتها في فترة أكثر من نصف قرن، من أيام صعبة، وليالي ممضة، وصدمات هائلات، وخسارات فادحات، وتجارب مريرة، وخيبة أمل في الكثيرين، أو بالعكس أمل في مستقبل الإنسان. هذه القواعد في حدود 28 قاعدة جاءتني مثل الوحي في لحظات فسطرتها على عجل؛ تماما كما حدث معي في تطوير الدعاء العصري حتى فوجئت به في منابر مصرية منقولة منحولة عن برلماني مغربي تحدث لها ولم ينسبها لأصلها، ولا جديد في عالم العروبة الأصم الأعور الأبرص؛ بل إنني اكتشف من حين لآخر إما كتب لي تباع ولا علم لي بها، أو نسخ جديدة مزورة منقولة منحولة عن كتبي التي تعبت فيها ستين عاما. مع ذلك أقول فلتنتشر الإفكار ولو سرقة. وهذه القواعد مثلاً نقلها القاسم المشهور في إذاعة الأعراب، ولا أتذكر هل نقلها مع مصدرها أو لا . وكما أقول أنا فلتنتشر أفكاري ولو مسروقة فهي دليل أنها دواء وشفاء لما في الصدور. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
أذكر هذه القواعد اليوم وفي الحلقة غصة من مصير الفيلا التي بنيتها في الجولان السوري حين بنيت حيث قرية زوجتي الشركسية السابقة ليلى سعيد من قرية بير عجم (دفناها في ثلوج مونتريال) . قلت أتنقل بينها وبين كندا حتى صرفت عليها 500 مليون سنتيم بعملة المغاربة (نصف مليون دولار أمريكي) لتتحول في النهاية إلى فرع مخابرات لاعتقال الناس وتعذيبهم، وخلع أكتافهم، وتحطيم أسنانهم (كما فعلوا بي من قبل) ولسع أعضائهم التناسيلة بالكهرباء أو حرقها بالكحول والبنزين. وأمضي في التصور كيف تغص فيلتي الآن بمئات المعتقلين المعذبين بل ومسرحا لاغتصاب العذارى وأقداح الويسكي مع ضباط الموساد القريبة منهم حيث بنيت على سفح قريب من حدود بني صهيون. المهم أضع بين يدي القاريء اليوم هذه القواعد عسى أن تكون موعظة وشفاء لما في الصدور.
(1) لا يوجد مشكلة من دون حل، المشكلة عادةً ليست فيها بل في موقفنا منها.
2) ) كرّس قاعدة الفيلسوف (ابكتيتوس) : ليس هناك شرّ مطلق في العالم. فتقتير الرزق و ضيق ذات اليد و الحبس واضحة أنها محنة و ابتلاء، و لكن هل يخطر في بال أحدنا أن الغنى و الصحة و المركز الوظيفي امتحان من لون خفي غير مباشر لا يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة؟
3) ) لا تنطق بلا مسؤوليّة، فهناك من يُطلق الكلمات و هو يحسبها هواءً قذفه الحلق؛ فجملة مفيدة، أو تجشوءاً من المعدة لايستويان مثلاً قل الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون.
(4) لا تستبدّ بك اللحظة. في الوقت العصيب واللحظات الصعبة تذكر: أنها ليست نهاية العالم .. فهناك دوماً ما قبلها و ما بعدها. و الظروف الصعبة مثل السحب القاتمة، و لكنها تمرّ، فلا يدوم شيء سوى وجهه الكريم. وكل من عليها فان. وكل يوم هو في شان.
(5) اعتمد قاعدة مجتمع مضخة الماء وتذكر قانون الدفع المتتابع في المعاملات الرسمية. فأنت تعيش في العالم العربي في أشباح وأشباه مجتمعات. لذا اعتمد بناء العلاقات الشخصية والتلفون الخاص.
(6) اعرف دِين الإنسان من دَيْنه و صموده في التعامل المالي وليس العكس. فعمق التقوى من النزاهة المالية أكثر من طول اللحية. وعند منح الدين يجب اعتباره غير مردود، فإذا رجع بعد سنوات فهو غير طبيعي، لأن الطبيعي ألّا يعود و يُؤكل. و يجب عدم نسيان قاعدة جحا في الدين بين تقبيل اليد والرجل. فعندما طلب تلميذ جحا دينًا من أستاذه قال له: على شرط أن تُقبّل يدي؟ فتعجّب التلميذ من الطلب؟ فقال له جحا: لأنني سأقبّل قدمك كي أستردّ ديني.
ومن هذه القاعدة تتفرع 17 قاعدة سردتها في مقالة منفصلة يمكن مراجعتها.
`(7) تذكّر كل إنسان قابل للبيع والشراء إلا المتقّين، وقليلٌ مّا هم. و حتى تعرف تسعيرة إنسان مّا، فخلّ بينه و بين كميّة من المال تزيد وتنقص من دون رقيب إلا الضمير.
8) ) في مواجهة أيّ مشكلة تعوّد ألا تلوم أحدًا. إذا كنت جادّاً في اللوم فتوجّه به إلى نفسك فقط، لأنها مجال التغيير، و منها يُمكن تغيير العالم.
(9) لاتزهَد في (الممكن) و تحلم في (المستحيل) فهذا يجعلنا عمليًا في إجازة مفتوحة لإلغاء الجهد المكافئ. في حين أن استخدام الممكن يُقرّب فجوة التباعد من المستحيل. كثير من الأحيان المستحيل ليس مستحيلا بل نحن ماتصورناه.
(10) الكلمة ملكٌ لك قبل أن تنطقها، فإذا تكلمتها ملكتك هي.. إنها مثل طلقة البندقية. فاحرص على إطفاء الغضب و الانفعال، لأنها هي الطوفان المفجر لسدود الكلمات، و اعلم أن أعظم قوّة يصل إليها الإنسان هي ضبطه لنفسه. تعلم في لحظة الانفعال ألا تتصرف بل اختف عن الأنظار لأن أي تصرف لن يكون سليما.
11) ) لاتشترِ مالستَ في حاجةٍ إليه، لأنك ستبيع غدًا ما أنت في حاجةٍ له! ومما ينقل عن الكاتب العقاد أنه كان يبيع بضعا من كتبه المهمة من أجل تغطية لقمة عيشه.
(12) لاتزهد و لا ترغب.. و ابتغِ بين ذلك سبيلاً، و عِش في علاقاتك مع الأشياء و الأحداث و الأشخاص في حالة وسط بين الزهد و الرغبة، فلاتذهب نفسك حسرات على فوات شيء، ولا تطير فرحاً من تحصيل أي شيء. القاعدة في القرآن: لكيلا تأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم.
(13) توقّع كل الاحتمالات و تفاءل بالأفضل، و لكن تهيّأ للأسوأحسب دايل كارنيجي في كاتبه دع القلق وابدأ الحياة قاعدة تخيل الأسوأ ويمكن أن تنام .
(14) خطّط قبل وقوع الأحداث كي لا تُفاجئ باستقبالها و أنت غير مستعد.
اقرأ المزيد
السينما تعرض، ولكن الحقيقة التي جرت مازالت غامضة حتى اليوم، وهي من أعقد أسرار الحرب العالمية الثانية. وحتى (رودولف هيس) الذي نزل في الجزيرة بطيارته لم يفصح ذلك لتشرشل، ويمكن قراءة مذكرات الرجل من سجنه في برلين، قبل أن يعلن انتحاره، وفي الغالب نحره الروس كما فعل عبد الناصر مع صديقه المقرب عبد الحكيم عامر، نحروه على أعينهم ليتخلصوا منه؛ فهو أطول سجين في تاريخ السجون، وأراد الحلفاء إطلاق سراحه بعد أن وصل التسعين، ولكن الروس أبوا إلا المشنقة والمخنقة.
وقعت كارثة (دنكيرشن) في نهاية مايو من عام 1940 وما بين 26 مايو والرابع من يونيو تم إجلاء مئات الآلاف من البريطانيين على عجل، وأصبحت بريطانيا ذاتها مهددة بالزحف النازي، فقد كانت خطة (فرس البحر) جاهزة لغزو الجزيرة، ولكن مارشال الجو (جورنج) آثر أن يستفتح جهنم بالغزو الجوي، وهكذا كانت السماء فوقهم كالمهل والأرض كالعهن. ولكن عملية فرس البحر تأخرت، ثم أجلت ليوم الفصل الذي لم يأت، ثم نسفت الجزيرة البريطانية بصواريخ فاو 1 (V1 , V2) وفاو 2 فدكت الأرض دكا في لندن فكانت هباء منبثا، ولكن تدخل أمريكا وقانون (الإعارة والتأجير) هو ما أنقذ تشرشل وستالين الذي أصيب بالصدمة، واختبأ من الهول الأعظم، فقد كانت الجيوش النازية على مرمى حجر من موسكو، وكان مليونا من الأنام يموتون في لينينغراد (منهم والد رئيس الستازي الألماني سابقا STASIالمدعو بوطين حاليا) وستالينجراد المحاصرة من الجيش السادس بقيادة (فون باولوس)، وظهر في الجو أن النازية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من احتلال كامل القارة الأوروبية، والزحف باتجاه أمريكا بالقنبلة الذرية، التي تتكشف أسرارها كل يوم، أن النازية امتلكتها في اللحظات الأخيرة قبل النزع الأخير، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وإلا كنا اليوم نتحدث الألمانية، ونرطن بلغة التيوتون الجرمان أو لغة الساموراي. أسياد العالم كانوا ثلاثة؛ اليابان والألمان والفاشيين من جماعة موسوليني.
حسب (مالك بن نبي) أن التوقف في (دنكيرك) لم يكن تحت ضغط الجنرال (فون شتيدت) ولا (كلوج) الذكي؛ بل شيء لمع في ذهنه في رسالة وجهها إلى بريطانيا، أن الوقت أصبح ألمانياً، وعلى بريطانيا أن تسلم المستعمرات للسيد الجديد في أوروبا والعالم، وبالبريد المضمون المسجل على طبق من نار.
عقب (مالك بن نبي) على الحادث فقال: كلهم يتمتعون بعقلية استعمارية! كان الرجل مهووسا بسيطرة الاستخبارات فكان يقفل بيته بأعداد من الأقفال، ومما حدثني أن تيارا من اهتزازات خاصة سلطوها عليه، وبالطبع، فهي من هلوسات رجل ملاحق من المخابرات، هرب منهم إلى عبد الناصر طالبا اللجوء السياسي وليمدح الطاغية بكلمات تبرأ منها حين قال لي كان صنما لا يضر ولا ينفع. رحمة الله على الرجل ولعنة الله على الظالمين.
أنا شخصيا لمحت العديد من المواقف عن (العقلية الاستعمارية) أثناء رحلة تخصصي في ألمانيا، من بقايا هذه الروح الخبيثة، حين كنت أقرأ في العديد من الأمكنة كلمة أيها الأجنبي غادر أرضنا. (Auslaender RAUS) بكلمة أدق: انقلع!
وهناك من الأجانب من أحرق حيا على أيديهم. وفي يوم قتل من هؤلاء المجرمون زوجة مصري ثم أجهزوا على الرجل في قاعة المحكمة
ولكن ليس كل الألمان هم من حركة بيجيدا الحركة الوطنية الأوربية ضد أسلمة الغرب PEGIDA: Patriotische Europäer gegen die Islamisierung des Abendlandes).)
الشعب الألماني من لا يحترمه لا يحترم نفسه، ولكن اشتر منهم سيارة مرسيدس، فهم قوم يتقنون عملهم، ولكن لا تعش بينهم فرائحة الكثير منهم خبيثة، وعلينا أن لا نعمم كما علمنا القرآن و(كثير) منهم فاسقون؛ فلم يقل كلهم، بل وذكر عن قوم موسى أنه منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. هذه شهادتي عن القوم ويقولون إنهم تغيروا كما يروي لي صديقي أنس من الجديدة في المغرب، فهي زاوية رؤية عند آخرين.
أدعو ربي لهم بالتحول إلى (الإنسانية) كما في المجتمع الكندي الذي أعيش بين أظهرهم. بالمناسبة والشيء بالشيء يذكر، فهناك من المجتمعات العربية في الخليج، من هي أشد عنصرية من الألمان. ولو خيرت أنا شخصيا أين أعيش ولا ثالث؛ لقلت الألمان لأن هناك قانونا يحميك، أما بين الأعراب فلات حين مناص.
قال صاحبنا (ستاردي) الكندي من المحاربين القدماء في النهاية، وهو يمسح دمعة سالت على خده، نحن البشر أذكياء، وصلنا إلى القمر، ولكننا نعمل الأشياء الغبية، وعلى من رأى الفيلم أن لا يعتبره تسلية، بل درس للحياة عما تعنيه الحرب؟
السؤال هل يستفيد الجنس البشري من الحروب والأهوال؟ وهل يحفظها الجيل الجديد فلا يكرر الحماقة؟ الجواب لا.
في مؤتمر عربي تحدثت عن حماقة الحرب، وكان جل القوم متحمسون للضرب بيد من حديد خاصة كارثة اليمن الجديدة، التي ظن الفقهاء والمفكرون أنها مسألة أسابيع وها نحن في العام الثالث والعاشر منها ولانهاية للنفق. صدق من قال الحرب يمكن أن تبدأها ولكن نهايتها ليست في يدك لا متى ولا كيف؟
حين سمع القوم مني كلامي قام رجل فكر معتبر هو رضوان السيد وقال ليجبني جلبي عن الآية القرآنية: كتب عليكم القتال.
أصبحت في مواجهة ليس مع المفكر العربي، بل مع الله نفسه؛ فمن يزعم لنفسه مواجهة رب العزة والجلال، وإلا فسيكون أحمقا يجلب على نفسه الهزيمة. سكت، فلم أجب وقلت كما قال نوح: فدعا ربه إني مغلوب؛ فالزمن زمن جنون، وعلي أن أسكت بين المجانين ولو كانوا كتابا ومفكرين.
اقرأ المزيد
يأتيني يوميا من تفاهات اليوتيوب مايشكل مستنقعا من الأكاذيب والترهات، منها رجل عراقي يدعى خزعل مزعل يقول أنه يتقن ثمانية عشر لغة قديمة من الآرامية واليونانية القكية والحديثة والديموطيقية والهيروغليفية والآشورية والسريانية والسنسكريتية والكلدانية والسريانية والبابلية والمسمارية ولغة الانكا والساموراي والصينية ولغة عصر المسيح القديمة، ومسح الرجل كل التراث الإنسانية فلم يشاهد مكتوبا على الاهرامات والمسلات أن فرعون يذكر فيها هزيمته أو هزيمة والده أمام رجل يدعى موسى؛ فليس ثمة نبوات في التاريخ إلا خرافات وخزعبلات!
والواقع فالرجل محق في جانب أن التاريخ يكتب مكذوبا في الغالب؛ فكيف سيكتب رمسيس أو خوفو ومنحوتب وبيبي أنهم هزموا ونكل بهم. نحن هذه الأيام نطالع قصصا عجيبة عن وقائع هزمت فيها بريطانيا ولكنها تخلد انتصارات كما في معركة وباليكفالا في القرم أو غاليبولي عندما هزم تشرشل في وجه الاتراك عند مضيق الدردنيل فيما عرف بموقعة غاليبولي. ومن هذه الأكاذيب قصة انتصار بريطانيا في معركة دنكيرشن الذي عرضته هوليوود أنه انتصار بريطانيا ضد هتر والنازية فماذا جرى بالضبط عند القنال الانجليزي يومها؟
في كالجاري (Calgary) في كندا تقدم شيخ واهن هو كين ستاردي (Ken Sturdy) إلى صالة السينما، يتطلع بدهشة لما حوله بدون نظارات، مع تقوس خفيف في الظهر، إلا أنه يمشي منتصبا على رجليه بعكازة. تتدلى من صدره العديد من الأوسمة والميداليات. إنه من المحاربين القدماء يبلغ من العمر 97 عاما. جاء الرجل ليرى فيلم دنكيرك (Dunkirk) فقد اشترك في المعركة، وهو في عمر العشرين. ولكن ما أهمية هذه المعركة حتى يعمل له فيلما تشد له الرحال؟ وتوظف فيه ملايين الدولارات؟
الألمان يسمونها معركة دنكيرشن (Dunkirchen) نسبة إلى مدينة تقع إلى الشمال الفرنسي حذاء القنال الإنجليزي، حيث تم تطويق الجيش البريطاني بعدد مهول من الجند وصل إلى 400 ألف عسكري إنجليزي. طوقتهم القوات النازية عن اليمين والشمال عزين. يطمع كل امرئ منهم بالنجاة؟
أتذكر جيدا حين سمعنا لأول مرة خبر المعركة وكانت من المفكر الجزائري (مالك بن نبي) حين زارنا في دمشق عام 1971 قبل أن يفارق الحياة بقليل، وندخل نحن زنازين البعث لاحقا في الفرع 273 لصالح المخابرات العامة البعثية العبثية.
تحدث الرجل رحمة الله عليه عن ألغاز الحرب العالمية الثانية، وهذه المعركة كانت واحدة منهن؛ وليست الوحيدة من أسرار الحرب، فكل يوم يتكشف الجديد، بل وهناك من الأسرار ما مر عليه أكثر من سبعين عاما وقد يبقى في ملف الأسرار سبعين أخرى، من الأسرار المخيفة مثلا كهف لينين الذي عمل، ليصمد ولو في حرب ذرية وفيه وثائق مخيفة كان المجرم يمضي بخط يده في إعدام المئات من خيرة القوم، ومن أسرار الحرب أيضا تلك التي اطلعت عليه مؤخرا في وصول هتلر إلى أسرار السلاح الذري، بل وتجربة السلاح الذري بشكل محدود، بل وقع في يدي كتاب (سجناء العصر الذري لروبرت أوبنهايمر) ضاع من مكتبتي ربما من استعارة أحد الأشاوس الذي عمر مكتبه بكميات من الاستعارات، والمشكلة في هؤلاء المتخلفين الذين نحرص على إثرائهم بكتب قيمة فتضيع ولا من بديل وتعويض، تماما كما حصل معي في كتابي عن النسبية لبدر عبد الرحيم بعد أن درسته عددا، وكذلك كتاب علم المواريث للقلعجي.
ما حدث في معركة دنكيرك أن الجيشان الألمانيان أطبقا من الشرق والغرب على القوات البريطانية بالكماشة المعروفة منذ أيام هانيبال القرطاجي، حين قضى على جيش روماني من 80 ألف جندي بالتطويق، ثم الفرم التدريجي؛ فلم يرجع منهم إلا من نقل الفاجعة، لكل بيت في روما. منذرا بسقوط الجمهورية، حيث أصبحت علما في تكتيكات الحرب، فالتطويق يعني بكلمة مختصرة أن الجيش يقاتل من حوافه كما في دائرة تماسها من الخارج مع محيطها الخارجي فقط، فيهلك من في الداخل ازدحاما ولا يقاتل من الجيش إلا أقله وفي ظروف بائسة.
طُوَّقت القوات البريطانية بمجموعة الجيوش (ب) في الشرق بقيادة الجنرال (فيدور فون بوك Fedor von Bock)، ومجموعة الجيوش (أ) في الغرب بقيادة الجنرال (غيرد فون رونتشتيت Gerd von Ronstedt)؛ ما سماها الماريشال إيريك فون مانشتاين بضربة المنجل. لم يبق أمام البريطانيين في هذه المذبحة إلا القتل أو الأسر المهين أو الهرب إلى البحر ولكن كيف؟
هنا يتكلم القدر كما رواها لي مالك بن نبي!
لقد أمر هتلر قواته بالتوقف، وكتف يديه على صدره يتأمل القوات البريطانية، وهي تتسلل لواذا عبر البحر في ثماني ليال وتسعة أيام حسوما، فترى الوجوه خاشعة من ذل الفرار إلى الجزيرة.
لقد جند لها تشرشل يومها كل ما يعوم على سطح الماء؛ من زورق وسفينة وباخرة وبارجة لحمل هذه الكتلة البشرية من اللحم؛ فقد ألقوا عتادهم وسلاحهم ظهريا، ولاذوا بالفرار بأي سبيل. وكان يوم الفرار الأعظم في تاريخ جيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لقد ظهر سيد جديد في القارة الأوروبية اسمه هتلر.
هذا ما تعرضه السينما، وهذا ما وقف فيه صديقنا المحارب القديم الكندي السيد (كين ستردي) يحملق في المنظر، ويستعيد الذكريات باكيا، ويقول لمن حوله: كنت في العشرين من العمر في الكارثة، وهي ما ترونه مصغرا في الحجم. لقد مات الكثير ممن حولي من أصدقائي، وأنا تعرضت لإصابات نجوت منها.
اقرأ المزيد
ارسل لي المكرم الجنابي وهو رجل فاضل يشتغل على تجديد الفكر الإسلامي نقلا عن المدعو باسم كامل في رسالة يوجهها إلى حاكم الكويت أنه في طريقه لامتلاك أراضي عراقية ناسيا مافعله من قبل صدام بالتهام كامل الكويت. ولأن هذا يتعلق بجذر المسألة في التهام كل أخ أخيه مثل العنكبوت حينما تستفتتح ليلة العرس بالتهام زوجها الذكر مما ذكرني بمقالة هامة كتبتها عن أبجديات الديكتاتورية أضعها بين أيدي أخوة المجموعة.
أبجديات الديكتاتورية
وأذكر حين تتالت التعازي تترحم على جثة مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق وزير الموت والإعدامات. فأقول فعلا فإن الموت جيد. ومن يرى أحداث سوريا عليه أن يتذكر مقدمات الكارثة، وفي المقابلة التي أجرتها مراسلة مجلة در شبيجل الألمانية (سوزانه كوليبل Susanne Koelble) وثيقة هامة لمعرفة كيف تولد الكوارث. (در شبيجل عدد 8\ 2005م ص 112 ـ 114) بعنوان جدول ضرب الديكتاتورية أو مانسميه نحن ألف باء التعلم. روى مصطفى طلاس وزير الدفاع الأسبق لها أنه يتعرض لنوبات شنيعة من الكوابيس. وحينما يقارن المرء بين (كوريا) و(سوريا) فليس هناك في الواقع أكثر من تغيير حرف.
ويعترف الرفيق (طلاس) للصحيفة الألمانية أنه "لا يتذكر تماماً عدد (التواقيع) على أحكام الإعدامات التي كانت تنفذ في الثمانينيات؟
قال الرفيق (طلاس) قد تكون آلافاً مؤلفة، وعدد المشنوقين بلغ ربما 150 شخصاً في الأسبوع الواحد، وفي دمشق لوحدها؟
كان الجنرال يتحدث بصوت خفيض مع ضحكة ساخرة ويعقب: كما ترين أن ما حدث كان أمرا لا بد منه. فحافظنا على استقرار البلد فلم يعاني من انقلاب لفترة 34 سنة؟ (حتى جاء الزلزال؟)
ثم يلتفت إلى الصحفية وهو يروي لها (أبجديات الدكتاتورية) على حد تعبير الصحفية" لقد وصلنا إلى السلطة بقوة السلاح ومن أراد انتزاعها منا عليه أن يجرب حظه بقوة السلاح" و"من أراد أن يحكم فعليه إدخال الرعب إلى قلوب الناس؟".
ومن الجدير ذكره أن (طارق عزيز) العراقي قال نفس الجملة قبل أن تعصف به ضربات (الصدمة) و(الدهشة) ويموت لاحقا بالشهقة. فيصبح سلفا ومثلاً للآخرين.
إن هذا التقرير الذي أوردته المجلة الألمانية، وإظهاره إلى السطح يوحي (بشيء) في الظروف التي تمر بها المنطقة فهي تمور، ومن يقرأه يصاب بمزيج من الدهشة والحزن، يرويها رجل دلف إلى الشيخوخة وهن منه العظم، واشتعل الرأس شيبا، بكلمات باردة، في ممارسة فظاعات، لا مبرر لها سوى الاحتفاظ بسلطة زائلة، ولكنه يصلح نموذجاً لدراسة أثر المناخ الثقافي في خلق مزاج الإجرام، وطلاس هو في صدر كل واحد منا ينتظر فقط فرصة الانقضاض.
تقول (سوزانه كوليبل) كان الرجل جالساً على كنبة مريحة وخلفه لوحتان بأقلام طباشيرية لروضة جميلة اشتراها من مزاد علني في بريطانيا، وكانت للفنان (أدولف هتلر)؟ ومن تصدرت مجلسه لوحات النازية دليلا وهادياً كانت أفكار النازية قدوته، وهتلر وضح طريقة معاملة خصومه في كتابه (كفاحي) على نحو واضح: (البتر الكامل).
تقول الصحفية الألمانية: إنه خلال العقود الأربعة الفائتة تم سحق كل معارضة فأصبحوا بين مشرد ومسجون ومقتول، وحينما سئل الجنرال الذي ملك وزارة الدفاع 32 سنة وتقاعد عن السماح للمعارضة كان جوابه: هكذا بدأنا نحن الأمر من قبل، وهكذا تبدأ الأشياء، ويجب أن تقمع كل معارضة في مهدها ومنذ البداية، والعلاج الوحيد هو (البتر Amputation)؟
وحين سألته عن الحرية الموعودة التفت (طلاس) إليها وقال ؟ "لا تصدقي السياسيين ، فكلهم كذابون، ويجب أن يكونوا كذابين، ولو لم يكونوا كذلك ما بقي أحدهم منهم في السلطة"
قالت له الصحفية الألمانية: كيف تصف زميل الدراسة (رياض الترك) ـ وكان الاثنان في مدرسة الهاشمية في حمص ـ قال: كان ناشف الرأس عنيدا شيوعياً متعصباً ولكن اعترف أن الرجل كان مستقيما" وحينما سألت الصحفية (رياض الترك) بالعكس عن رأيه في الجنرال (طلاس) كان جوابه: "كان منذ تلك الأيام يحب أن يكون الزعيم دوما في المظاهرات وكل ما سعى إليه وحققه كان من خلال القمع والقوة"
والتاريخ يروي أن كلاهما وصل لما يريد، فأما (رياض الترك) فيعيش في شقة متواضعة ومن من أراد الزعامة والمنصب فقد وصل إلى هدفه، فسكن فيلا فخمة، تتدلى من سقوفها ثريات الكريستال، يتناثر على أرضها أفخم السجاد العجمي زرابي مبثوثة، ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين. ومن يعش عن ذك الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
وكل هذا المتاع من عرض الحياة الدنيا بناه من خلال قتل الناس فشارك في مسح نصف مدينة حماة وموجات الاعتقال الضارية لليساريين. أما رياض الترك (العنيد) فقد آثر أن ينام في قبو بارد في زنزانة مظلمة في فرع أمني لمدة 17 سنة لم ير فيها الضوء.
كل ذلك من أجل (الكلمة)؟!.
قالت الصحفية الألمانية لطلاس بحسرة: ولكن ما ذنب زميل دراستك حتى يعاقب بهذا الشكل؟ قال: كانت تعليمات الرئيس الشخصية هكذا؟ ثم رفع الجنرال يديه إلى السماء بشيء من الحيرة فقال: كان يكفيه أن يكتب رسالة اعتذار إلى الرئيس القائد فيطلق سراحه؟
وهو ما لم يفعله رياض الترك (العنيد)؟
قالت الصحفية للجنرال: وما ذا تقول في الإصلاحات؟ قال: حسنا ولكن يجب أن تتم بحذر زائد وبتدرج وتحت المراقبة وبيد الناس الذين يسيطرون على البلد؟ وتعقب الصحفية الألمانية في تقريرها: أن من جملة من يملك البلد (رامي مخلوف) وهو من العائلة المالكة الذي أصبح إمبراطور (التلفون الجوال) أو أولاد عبد الحليم خدام الذين أصبحوا مع أولاد الجنرال يملكون مفاتيح المال والسياسة.
إنها قراءة متعمقة في أبجديات الديكتاتورية وبتعبير الصحفية الألمانية (سوزانه كليبول) (جدول ضرب الديكتاتورية Diktatur Einmaleins der ) تقول الصحفية: وإذا سحقت المعارضة سحقاً فكانت هباء منبثاً فهل الضغط الخارجي هو السبيل الوحيد لتغيير الأوضاع بعد أن لم يبق معارضة ومعارضون؟
اقرأ المزيد
حسب عالم النفس (أبراهام ماسلو) من مدرسة علم النفس الإنساني، فإن حاجيات الإنسان يمكن أن تنتظم وفق خمس طبقات من هرم، بقاعدة عريضة من خمس حاجيات فيزيولوجية هي: الشراب والطعام واللباس والمسكن والجنس، والحاجة لها تمشي حدتها مقلوبة مع أولها وتخف مع آخرها، فبدون ماء نعيش ثلاثة أيام ولكن قد نعيش العمر كلها عزابا غير متزوجين..
ويرى عالم النفس الإنساني ماسلو أن سلم الحاجيات فوق قاعدة الحاجيات الأساسية البيولوجية، هي أربع حاجات جديدة:
الأمن، والانتماء، والحاجة الى التقدير، وتحقيق الذات.
والطابق الثاني مباشرة هو (الأمن الاجتماعي)... والحاجة الى الأمن هي في عدة اتجاهات، الأمن على الحاجات البيولوجية وجوداً، وأن لا تسلب منه كالغذاء والسكن، والأمن من العدوان عليه بكل أشكال الأذيات، واختصرتها الآية الموجودة في سورة الأنفال بثلاث كلمات (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهي مصادرة حريته وحياته وانتماءه الاجتماعي.
أي إنهاء الانسان بثلاث صور: التصفية الجسدية، أو التصفية الاجتماعية في صورتين النفي الداخلي بالسجن، والخارجي بمعاناة الغربة والهجرة بكل إشكالاتها، ولا يعرف الغربة إلا من عاناها، حينما يفقد الوطن، ومعه كل الاستقرار، وكأنه شجرة تم اقتلاعها من جذورها، فإذا رجع الى الوطن بعد الغياب الطويل لم يبق وطنه الذي عرفه، كما حصل معنا، فيصبح في وضع نفسي لا يحسد عليه، فلم يعد وطنه يعجبه، ولا الغربة تسعده، فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها.
ويبقى الكثيرون من المغتربين يهومون في هذه الدوامات حتى يغيبهم الموت، فيضع الموت والفناء حداً لفقدان التوازن هذا!!
وذهب عالم النفس الأمريكي (براين تريسي) صاحب كتاب (أسس علم نفس النجاح) أن 80% من سعادة الانسان تأتي من الفعاليات الاجتماعية فتسبق المال بذلك.
ويذهب (ماسلو) الى أن توفير (الأمن الاجتماعي) يشكل مباشرة الحاجة الأساسية التي تعطي حقن التوازن الروحي للإنسان عندما يرتبط بالمجتمع.
وهو ما سماه القرآن أيضاً (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) فالضمانات ضد (الجوع) و (الخوف) أعظم شيء يمكن أن يمنحه مجتمع لإنسان.
ومن الغريب أن هذه الضمانات لا توصل الى بر الأمان على وجه اليقين، بل لابد من إضافة أكسير خاص من طمأنينة الروح.
وأتذكر من فترة أقامتي الطويلة في ألمانيا كيف كنت أتعجب منهم؟ فأقول لهم: أنتم لا تعانون من الجوع والخوف، فأنتم تسبحون في بحر من الرفاهية، وعمل مضمون، وضمانات للمستقبل ضد الشيخوخة والبطالة والمرض وحوادث العمل، ولا خوف من الاعتقالات النازية، لرأي أو نشاط أو كلمة إلا بموجب مذكرة قضائية، وينام الانسان آمنا على سربه عنده قوت يومه مطمئن الى غده.
مع ذلك كانت الوجوه كالحة مكشرة لا تشع منها أنوار السعادة والطمأنينة الروحية؟!
وكنت أتساءل لماذا؟ ما هو السر خلفه؟
وأعترف أن السر لم ينكشف لي دفعة واحدة، ولا بشكل فجائي بل جاء بالتدريج من خلال القرآن، واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة، خاصة بالاطلاع على علم النفس، ومنها مدرسة علم النفس الإنساني..
ويعتبر (ماسلو) الطابق الثالث في هرم الحاجات هو الحاجة الى (الانتماء الاجتماعي) فقد يعيش سوري في ألمانيا، يأكل جيداً، ويعمل براتب مجزي، ولا يخاف من الاعتقال العشوائي من وراء تقرير كاذب تطوع به عميل سري، ولكنه مع هذا لا يمتلك الانتماء الى المجتمع الألماني.
والانتماء هو الذي يخلق روح المشاركة الاجتماعية، والإحساس بمشاكله، والدفاع عنه لحظة الخطر، وعندما تتفشى روح عدم الانتماء؛ ينقلب المجتمع الى (شبح مجتمع) يسهل اختراقه واحتلاله، كما حصل مع تبخر نظام صدام في وجه القوات الأمريكية، غداة التهام العراق في ربيع 2003م.
ويعد ماسلو في الطابق الرابع (الحاجة الى التقدير) التي يبنيها الفرد من خلال التواصل مع المجتمع، والانتماء إليه، والارتباط المصيري العضوي معه.
ويتوج الهرم في النهاية بـ (تحقيق الذات).
وهناك مايشبه ذلك في الطرح القرآني، الذي جاء في مثل أهل القرية من آخر سورة النحل؛ أن أهل القرية حققوا شروط الصحة الكاملة عندما اجتمعت ثلاث عناصر فيها هي: (الأمن) و(الطمأنينة) و(الرزق الرغد) وعندما كفرت حصل انهيار في هذا المركب الثلاثي، ليتحول الى حالة (تلبس) مزدوج من الخوف والجوع.
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) النحل الآية 112.
وكلمات القرآن دقيقة، واعترف أنها لم تتكشف لي بسهولة لولا مفاتيح علم النفس، فيجب التفريق بين (الأمن) و(الطمأنينة) فالأولى هي (أمن اجتماعي) والثانية (طمأنينة فردية روحية)..
وأظن أنني أمسكت بالمفتاح في فهم النكد النفسي في الغرب مع كل ظروف الرفاهية التي فيها يستحمون.
فهذا المركب الثنائي (الحصانة ضد الخوف والجوع) هو شرط جامع، ولكنه غير مانع لتحقيق الحاجيات الإنسانية الكاملة، كي يستوي هرم الحاجيات الإنسانية على سوقه تماماً.
إن شرطه الناقص هو تحقيق هذه (الطمأنينة) التي طلبها إبراهيم عليه السلام في معاينة قيام الموتى الى الحياة، (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وحواري عيسى في منظر المائدة وهي تتنزل عليهم، (وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا)، وهي ذلك المذاق التي يشعر بها المؤمنون بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وهي حالة النفس الراضية المرضية عند استقبال الموت وتوديع الحياة الدنيا (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
وهي الحالة التي حام حولها ودندن (ماسلو) في محاولة تجلية هذا البعد الجديد في حاجيات الانسان.
والآن كيف يبدو هرم الحاجيات الإنسانية في العالم الإسلامي؟
اقرأ المزيد
العطش الى (القوة) والمزيد من امتلاكها مرض ذكوري. هذا ماقرره بروس كارلتون Bruce charlton) الخبير في علم (التطور). والذكور هم الذين يشنون الحروب. والذكور هم الذين يتحاربون فيَقْتلون ويُقتَلون. والذكور هم الذين أنشأوا المؤسسة العسكرية ورسموا قدر المجتمع بمرض التراتبية الهيراركيHierarchy) ) وخططوا كل نظام المجتمع على صورة (الثكنة) كما أشار الى ذلك (غارودي) في كتابه (في سبيل ارتقاء المرأة). والذكور هم الذين شوهوا التطور الانساني برمته برؤية العالم بعين حولاء ذكورية؛ فلايمكن أن يمشي المرء برجل واحدة إلا في أسطورة (شق وسطيح)، ولايمكن أن يرى بعين واحدة الا إذا انعدمت الرؤية الفراغية، أوتحول الى كائن خرافي بعين واحدة كما في قصة (الاوديسة) عند (هوميروس).
جاء في (السيرة) أن شقاً كان بنصف جسم فإذا مشى قفز على رجل واحدة، وأما سطيح فكان مسطحاً مثل حدوة الحصان بدون مفاصل. والمجتمع (الذكوري) هو الذي دفع المرأة الى شريحة دونية مستضعفة وهي كارثة كونية في كل الثقافات، وفي الثقافة الصينية يعني ضمير المتكم (أنا) المؤنث الى (العبد) وفي الثقافة الهندية تعتبر المرأة خاضعة للرجل من المهد الى اللحد فهو من كتف الاله (فيشنا) وهي من أقدامه. وفي اليابان لم يتقدم المجتمع الا بألغاء نظام الساموراي.
وبالمقابل فإن المرأة هي التي بدأت الثورة الزراعية كما قرر ذلك المؤرخ (ديورانت) فأطعمت عائلتها من جوع ودلف الجنس البشري الى الحضارة؛ فلولا الثورة الزراعية ماتجاوز الجنس البشري مرحلة (الصيد وجمع الثمار) بعد أن دامت مئات الآلاف من السنوات، فتخلصت العائلة من خوف الموت جوعاً ومنها نشأت المدن وازدحمت بالسكان وولدت الاختصاصات وتم تقسيم العمل كما شرح ذلك عالم الاجتماع (دركهايم).
كل ذلك كان وتم ببركة المرأة، ولكن الذكور بنوا الجيوش والحرب والطغيان ومازال. وإذا كان الحاكم ينفخ في الصور فيقول للعباد أنا ربكم الأعلى؛ فإن الزوج يقلده في البيت فيعلن أنه الأعلى لامعقب لحكمه وهو سريع الحساب.
والاستبداد السياسي هو التجلي الأعظم لتراكمات أخطاء البيت واحتكار النصوص بيد طبقة الكهنوت، وخنق التعبير تحت دعوى الخيانة أو الردة، والطغيان يتأسس من خلية العائلة ليظهر في النهاية على شكل تنين سياسي يقذف باللهب على عباد يرتعشون وجلاً خاشعة أبصارهم من الذل.
إن مصادرة الأمة على يد فرد وخلفه النخبة الحاكمة الخفية، سبقتها مصادرة الزوجة والولد في بيت الطاغية الذكر (الترانزستور) الزوج الأب. فإذا أنتجت العائلة الانسان الأخرس الخائف هيأت الجو الاجتماعي للخرس الجماعي المطبق وخشعت الأصوات للحاكم فلا تسمع الا همسا. وعليه فلايمكن (أنسنة) المجتمع بدون استعادة المرأة دورها الطبيعي.
علينا أن نقرر أن المرأة هي التي تحمل الحياة وتنجب الحياة وتحافظ على الحياة، كما جاء في الآية حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. وهي التي لاتمارس الحرب فإذا مارسته مثل (تاتشر) و (غولدا ماير) فهي عدوى من (وباء) ذكوري قاتل.
المرأة هي مصدر الحب فتخلع معنى على الحياة وتعطيها دفقة الاستمرار، ومع انطفاء الحب ينطفيء معنى الحياة ومبرر وجودها. لأن الحب مشاركة تتجلى في أعظم صورها بالزواج والانجاب وتترك بصماتها على الحياة في ذرية مباركة. والحرب كراهية وارتداد على الذات ونفي للآخر.
وحسب (دانييل جولمان) صاحب كتاب الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence) فإن جوزيف لو دو( joseph le doux) الذي اكتشف (دورة المخ العاطفية) أظهر أمرين: أن هناك ضرب من الذكاء لم ننتبه له حتى الآن وهو غير المتعارف عليه(IQ) كما أن المرأة بواسطة تركيب دماغها تشريحياً تتفوق على الرجل في هذا النوع من الذكاء.
والمرأة (موديل) متطور عن الرجل بحيث تحمل إمكانية أن يتطور الجنس البشري على نحو (انساني) أفضل زكاة وأقرب رحما، ولذلك كان الاستنساخ الجسدي من الأنثى كما حدث مع (دوللي) فمنها خلق وإليها يعود ومنها يخرج تارة أخرى. نحن نعرف من تقنية الاستنساخ أن الذكر لايدخل في العملية وإنما هي كود وراثي يستخرح من أنثى ثم يغطى بلباس من أنثى ثانية ليزرع في رحم أنثى ثالثة. وإذا كانت الأنثى في الاستنساخ هي صاحبة اليد العليما فهذا يقرب لنا أيضا خروج عيسى من رحن امراة بدون ذكر ولقاح جنسي.
وتفاءلت السيدة شفارتزر Schwarzer) ) بولادة المجتمع النسائي الانساني بحيث يمكن الاستغناء عن الذكور المخربين نهائياً للمستقبل أو استبدالهم بجنس معدل سلامي. وهي صاحبة مجلة (لا نريد بورنو POR ...NO..) ) وهو عنوان مثير ولكنها تلاعبت بحركة ذكية بالكلمة (بورنو) التي تعني (الاباحية) وحينما قسمت الكلمة الى شقين انقلب المعنى.
ويذهب الانثروبولوجي (بيتر فارب) في كتابه (بنو الانسان): (أن الذكر لايفترق عن الأنثى الا بعضلاته) ويستعرض في بحث موسع عن الفروق بين الذكر والإنثى ليقرر في النهاية أنها التستستيرون (Testosterone) أي الهورمون الذكري فهو الذي ينمي العضلات عند الذكور، فأذا تعارك ذكر مع انثى غلب الذكر، ويترتب عليها فروق جامحة من شعور المرأة بالحاجة إلى الحماية وهي النتيجة التي خلص فيها الباحث أن المرأة هي التي مكنت الذكر من اعتلاء سدة العائلة وكان يمكن أن لايكون، بل هو أمر يربى عليه الأطفال من الصغر أنهم أقوى وأفضل من الأناث فتنشا الأنثى في الحلية وهي في الخصام غير مبين.
اقرأ المزيد
أرسل لي الأخ الجنابي من تركيا وهو رجل يشتغل في تجديد الفكر الإسلامي معلومة تفيد أن آية العنكبوت استخدمت للتأنيث أي ان العنكبوت في الآية استخدمت مؤنثة وليس بلفظة التذكير (الذكر) وهو مايحصل في عالم الحشرات حيث أن من يبني البيت هو فعلا أنثى العنكبوت وليس الذكر.
ورجعت أنا من طرفي لتحري المعلومة فثبت أمران الأول ليس في صالح جماعة الإزعاج العلمي في القرآن والسنة (عفوا الأعجاز) وهو ان لفظة العنكبوت تستخدم مرة للذكر وأخرى للأنثى فيمكن أن تقول جاء العنكبوت وجاءت. أما الثانية فهي في صالحهم وفعلا فإن من يبني البيت هي الأنثى ولكن من أعجب عالم العناكب وتبلغ أنواعها 37 ألف نوع أنها تأكل صغارها بل تلتهم الذكر ليلة النكاح.
ومما لفت نظري في قناة الديسكفري عرض 13 نوعا من عالم الحيوانات والحشرات وكان ممن جاء ذكر العنكبوت والسر في خيوطها وقد كتبت عن ذلك أيضا مقالة. وعالم الحشرات فيه العجيب والغريب والمفيد. ومما أذكر أن الأفكار البسيطة قادت إلى كشوفات عجيبة مثل تحطيم حصيات الكلية بأمواج مافوق صوتية مما حرض عندي قدرة التصور عن أثر الموجات في الصخور. في هذا هناك آية تقول لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السموات والأرض بالحق. والمهم فقصىة خيطان أو خيوط العنكبوت لفتت نظر العلماء والدارسين ليكنشفوا فيها سرا عجيبا.
ومما أتذكر من فرقة شهود يهود أن القرآن يذكر الحشرات والحيوانات فرأوها عيبا وهي أمور رائعة من لفت النظر إلى مايوجد في الكون من حولنا. فالنمل والنحل والهدهد والطير كلها عوالم يقول عنها الله وما من طائر يطير بجناحيه ولا دابة في الأرض إلا أمم أمثالكم وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون.
ويشير القرآن الكريم إلى أن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، لكن العلم الحديث يوضح أن خيوط العنكبوت هي أصلب من الفولاذ، فكيف يمكن فهم المسألتين؟ لقد استطاع الباحثون في جامعة «بيرويت» الألمانية تصنيع خيوط العنكبوت، بالصفات نفسها من المتانة والمطاطية كما في الطبيعة. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف فقد تعرفوا للمرة الأولى إلى تفاصيل مهمة في كيفية صناعة العنكبوت لخيوطها المميزة، وقلدوها في المختبر تماماً كما تفعل العنكبوت. \
لكن كيف تصنع العنكبوت خيوطها؟
حسبما لاحظ الباحثون، فإن أول ما تفعله العنكبوت هو صناعة كرات من بروتينات حرير خصوصية (في حدود سبعة بروتينات كما أشارت لذلك قناة ديسكوفري) وتخزنها في غدة خاصة للغزل، وعند الحاجة تعصر الغدة هذه البروتينات، لتنكمش على نفسها آنذاك، ومنه يتشكل الخيط، وتقوم العنكبوت، وبواسطة الساق الخلفية، باستخراج الخيط من قناة الغزل.
والمدهش ليس في عملية الغزل وإنما الطريقة والكيفية التي تحضر بها العنكبوت مادة الحرير. هذا ما قاله الباحث توماس شايبل، رئيس فريق الدراسة، حيث أوضح أن بروتينات الحرير يتم تحضيرها، بحيث إنها لا تنكمش مع بعضها بعضاً في الوقت نفسه، بل تكون جاهزة للطلب عند صناعة الخيط. وتعتبر خيوط العنكبوت من أكثر عناصر الطبيعة ثباتاً وقوة، وهي بإمكانها، على سبيل المثال، أن تحسن آليات أكياس امتصاص الصدمة في السيارات، وأن تدخل في صناعة صدريات ممتازة ضد ضربات الرصاص يلبسها رجال الشرطة وأمن مكافحة الإرهاب، بل وحتى لحماية صدور الشخصيات المهمة في المناسبات الخطيرة.. لكن تبقى مشكلة حماية الجماجم وهي الأهم! وحسب تحري قوة الخيط يمكن لخيط مضفور من خيوط العنكبوت، بسمك أصبع اليد، أن يوقف طيران بوينج 777 في قمة اندفاعها.
ويذكر في التاريخ أن جنكيزخان كان يحمي صدور مقاتليه المهمة بقمصان من خيوط العنكبوت. والمؤكد أن هذه الخيوط يمكن استخدامها في العلاج الطبي للجروح، بسبب تأثيرها الشافي للإصابات، وكذلك من أجل تصفيح الشرايين الصناعية داخلياً كدعامة حافظة. لقد أسس الدكتور توماس شايبل صناعة جديدة لشركته «آمسيلك» لإنتاج الحديد البيولوجي «بيوستيل».
وقد وقفت طويلاً بين كلمتي خيط العنكبوت وبيت العنكبوت، ورجعت إلى محرك البحث «جوجل»، لأجد أن الكثيرين وقفوا أيضاً أمام هذا التعارض الظاهر. ومن اللافت للنظر في الآية الكريمة حول بيت العنكبوت أنها أردفت بآية أخرى تقول إن الأمثال تضرب للناس وما يعقلها إلا العالمون. رُوي عن أحد الصالحين قوله، إنه إذا مر على مثل من الأمثال في القرآن، وهي كثيرة عن النمل والنحل والطير والهدهد والفيل والبقرة.. كان يبكي ويردد: الويل لي إن لم أفهمها، فأنا لست من العالمين.
وفيما يتعلق بالفرق بين البيت والخيط، هناك جدل يجب استيعابه، فقد يكون الخيط من أمتن ما يمكن والبيت من أضعف ما يمكن، وفي القرآن أنه يخلق من الموت الحياة وبالعكس، ومن القوة ضعفاً وبالعكس، ومن بين فرث ودم لبنا سائغاً للشاربين. وشخصياً، ما زلت على قول الرجل الصالح، إذ أبكي على نفسي لأنني لم أصل إلى قرارة الفهم الذي يريحني في هذه الآية الكريمة.
اقرأ المزيد
إن ميزة التفكير العلمي الاستعداد لكل الاحتمالات بما فيها نهاية الكون والجنس البشري. ليس بحماقة إسرائيلية نووية أو حتى غير إسرائيلية، ليس من حماقات البشر باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بل بتعرض الأرض لمذنب كما حصل مع انقراض الديناصورات قبل 66 مليون سنة، حينما ضرب أمريكا الوسطى مذنب بقوة خمسة ملايين قنبلة نووية.
وفي تقديري أن هناك خطة للوجود أو هكذا يخيل إلي؛ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. وفي حقبة قديمة عم دخان كثيف غشى الناس بعذاب أليم بعد انفجار بركان في أندنوسيا، فلم يبق من البشر سوى 75 ألف نسمة. ومع ذلك تابع البشر طريقهم.
وحسب تحليل الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) في كتابه (نحو السلام الشامل)، فإن الاضطهاد كان خلف الانشقاق المتتابع لمجموعات البشر، مثل مجموعات النحل عندما تنفصل عن خلاياها وتنشئ خلايا جديدة؛ بل حتى طوفان نوح يبدو في الإضاءة الأنثروبولوجية الجديدة من كشوفات مدينة (سينوب) على ساحل البحر الأسود في تركيا أنه كان شرارة نقل الثورة الزراعية من حواف بحيرة حلوة فاجأها طوفان مدمر كسر عتبة البوسفور وحولها إلى بحر مالح، فهربت شعوب المنطقة التي كانت تملك أسرار الزراعة، وبدأت الحضارة قبل ستة آلاف سنة.
ومن خلال هذا المنظور، فهناك أمل وتفاؤل أن الجنس البشري على الرغم من المعاناة القاسية ـ والتي هي بدورها شرط للنمو ـ أن يولد طبقا عن طبق باتجاه الاستمرار والنمو والدخول في مرحلة الحضارة رقم 3، حيث كانت الحضارات سابقاً تنمو منعزلة عن بعضها البعض ولا تعرف عن بعضها شيئا، كما كانت مفاجأة وصول الأسبان إلى حضارة الازتيك في أمريكا الوسطى. والآن نحن ندخل مرحلة الحضارة رقم 2؛ أي الحضارة العالمية لندخل مرحلة الحضارة رقم 3؛ أي اكتشاف حضارات أخرى في كواكب أخرى. ونحن نعرف اليوم وللمرة الأولى أن هناك كوكبا يبعد عنا خمسين سنة ضوئية، وعن طريق تقنية (ترنح النجم) يمكن كشف الكثير من الكواكب السابحة حول نجوم أخرى وفيها حياة، وبذلك يمكن الوصول إلى حضارة المجرة في ضوء وجود 100 مليار نظام شمسي، مع احتمال وجود حياة على كل 10 ـ 50 نظام شمسي. وكما حدث في رحلة البولونيزيين لاكتشاف المحيط، حيث تم التوسع على شكل قفزات بمعدل قفزة جيل كل 200 سنة، وهذا يعني أننا خلال خمس ملايين من السنين سوف نستعمر كامل المجرة. ورقم خمس ملايين سنة ليس بشيء إذا علمنا أن الشمس عندنا ما زال أمامها خمس مليارات سنة لاستهلاك وقودها.
وفي كتاب (آفاق المستقبل) للمفكر الفرنسي (جاك أتالييه) يقول، إن البداوة ستعود على شكل جديد من الترحل المستمر بأدوات بسيطة، ولكنها كافية مثل الموبايل والبريد الإلكتروني والكمبيوتر الشخصي المتصل بالإنترنيت، وحتى البيوت سوف تستغني عن الرخام والمرمر، كي تصبح أكثر عملية تناسب عصر البداوة الجديدة؛ فكل شيء للاستهلاك والاستبدال. والبريد الإلكتروني اليوم لا يحتاج لصندوق بريد ومفتاح. وهذا التنقل مفيد من جهتين: تحقيق الآية القرآنية بوجود السائحات (مسلمات مؤمنات عابدات تائبات سائحات). وتكرار لما حدث في صلح الحديبية، حيث كان الناس يتقاتلون والجو في غاية التوتر والحواجز السيكولوجية شديدة الكثافة. وتقول الرواية إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، عندما بدأ منطق الحوار. والآن عن طريق الإنترنيت والهجرة الهائلة من العالم الإسلامي ـ حسب مبدأ كانط ـ حيث يزحف عشرات الألوف من المسلمين فارين من الوطن الإسلامي فقراً واضطهاداً من جمهوريات الخوف والبطالة وهم يحملون معهم الإسلام.
صحيح أن الكثير سيموت في بطن سمك القرش الإسلامي، ولكن ستخرج نسخة جديدة معدلة من الإسلام المستنير، ليس من نموذج ابن لادن، بل من نموذج علي عزت بيجوفيتش؛ فهناك نسخ منوعة من الإسلام "وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" و"تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، حيث يعم الإسلام الأرض، وقبل عشرين سنة كان في إيطاليا عشرة آلاف مسلم واليوم أصبحوا مليونا حسب رواية السفير الإيطالي الذي اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه بعد أحداث سبتمبر، وفي ألمانيا أكثر من خمسين ألف من الألمانيات انتظمن في جمعية أخذت اسم (أخوات محمد). وفي أمريكا يعتنق الإسلام سنوياً عشرين ألف أو يزيدون. حسب رواية قناة الديسكفري.
في رحلة الجنس البشري حصل خطأ كرموسومي، حيث استولى الذكور على المجتمع، وكان له تأثير سلبي كما يحصل مع انعدام الرؤية الفراغية، عندما يصاب بالحول أو العور، وهكذا تمت هندسة المجتمع على الحرب، وتشكلت كما يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه) مؤسسات يدعو عنوانها للضحك؛ فكلها تحمل اسم (وزارات الدفاع) وهذا يحمل بشكل مبطن النية السيئة وإساءة الظن بالجوار أنه يبيت الغدر فوجب الدفاع. ولكن مع برمجة هذه الروح، فلا يهم كثيرا من يهجم ومن يدافع، لأن الحروب تنشأ في هذا الجو وتحت مبرر بريء هو الدفاع عن النفس. والقاتل والمقتول في النار. ومع الحرب والجيش والثكنة تشوه كامل تركيب المجتمع وهندسته، ودفعت المرأة إلى كائن قاصر يفرض عليه الوصاية، ويفصل وينظر إليه كجيب جنسي. وتم تطوير السلاح إلى حده الأقصى، حتى وصل الأمر إلى نقل وقود النجوم من باطنها بعشرة ملايين درجة إلى سطح الأرض. ولكن الخطأ لا يصبح صحاً. كما أن الشجرة الخبيثة لا تؤتي أكلها بإذن ربها، بل اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. ولذا وصل الذكور النكدون إلى نتيجة القرد الذي انهرس ذنبه في شق الخشب، حينما أراد تقليد النجار في عمله، فتدخل في ما لا يعنيه، فناله ضرب النجار وألم الذنب المعصور. وهذا يعني أن هذا الخلل الكروموسومي يحتاج إلى جراحة جينات متقدمة، ولكن لا بد منها. وإذا كانت جراحة المستقبل هي جراحة الجينات بعد أن تم فك الشيفرة الوراثية الكامل للإنسان على يد (كريج فنتر). كذلك، فإن جراحة اجتماعية هي أكثر من ضرورة لإعادة تركيب المجتمع الإنساني، حيث تعود الرؤية الفراغية الكاملة، ويرتفع العور فبصرك اليوم حديد.
اقرأ المزيد
القطيع فيه 400 رأس من الغنم :
ومن هذه الروح ( الحدسية ) التي تتذوق الجمال المباشر في العلاقات الخفية بين الأرقام والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ، وإذ مر بجانبهم قطيع من الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد الأغنام التي تسرح في المرج . وكان الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!
موقفه الفلسفي من الرياضيات :
ومن هذا الفهم الرياضي في علاقات الأرقام والأشكال الهندسية الفنية ، وصل الى كشف هام آخر في العلاقات الرياضية ، سيخرج منه بعد ذلك بخلاصة فلسفية في قضية اللانهايتين وجدلية الانسان ، أما في المستوى الرياضي فوصل الى مبدأ يقول إن بين المراتب العددية اختلافاً لانستطيع أن نقول عنه الا أنه لامتناهي ، وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهر له عام 1654 م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ، الذي رأى فيه الأرقام على أشكال هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقداراً متصلاً لايكبر إن أضفنا له مقداراً أياً كان من مرتبة هندسية فوقه ، فلايمكن جمع النقاط الى الخطوط ، ولا الخطوط الى المساحات ، ولا هذه الى الحجوم ، أو بتعبير آخر لاحساب للجذور أمام المربعات ، ولا للمربعات أمام المكعبات ، ولا لهذه أمام مربعات المربعات ، فأمام الكميات العليا علينا أن نهمل الكميات الدنيا كما لو كانت عدماً مطلقاً )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجة المشكلة الانسانية الكبرى ، في خمسة اسقاطات : مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم اللانهايتان ؛ فإذا كانت هناك خنادق يتعذر اختراقها أو القفز من فوقها في الرياضيات ، أو تشكل الفضاءات بينها مسافات لانهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس الانسانية والمجتمع .
مشكلة العدالة الانسانية أو العدل الكوني :
تمثل العدالة الأرضية أكبر التناقضات الانسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط ولا السطوح الى الحجوم ، فهو في مشكلة العدالة الكونية يقيمها على جدلية ثلاثية بين الانفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء لايلزم دائماً الابتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجية العنيفة دون تردد ، والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس . وأثر الخوف واضح كل الوضوح لو توطدت سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ، وبواسطة العنف تم لجم الناس بالرعب فاعتادوا النظام ، فأساس الدولة هو عنف وخوف ، عنف خارجي وخوف داخلي ، ولايظهر هذا العنف والخوف الا في مواجهات فجائية ، والذي يعطي الاستمرارية لهذا الوضع هو اعتياد الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ، فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضى مع الخوف . وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة . الدولة وفق تأسيس النظام الداخلي تحرم القتل وتعاقب عليه وتعتبره رأس الكبائر وأعظم الجرائم . ولكن نفس الدولة تأمر بالقتل في الحروب والثورات ، وتشجع عليه وتكافيء ، وتعتبر أنَّ من يُقتل من طرفها شهيد ، وأنَّ من يُقتل من الطرف الآخر مجرم . في علاقة معكوسة في الدولة المقابلة . فالشهيد هناك مجرم هنا والعكس بالعكس .
علاقة الشهيد _ـ المجرم :
فعلاقة ( الشهيد ـ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخلاقية وعقلانية لها . وعندما تحدث الحروب يتم قتل الانسان بكل سهولة بالأوامر ، حتى أن الجيوش تستخدم سلاحاً خاصاً لاستمرار المجزرة ، بحيث أن الذي لايَقْتِل يُقتل ، كما صور ذلك الكاتب الأمريكي ( ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعاً أيها السلاح ) .
لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضيَّف الواحد الآخر فنجاناً من القهوة ، فلا توجد عداوة بينهما ، ولكن في الحرب يقتل الانسان أخيه الانسان بالأمر فقط مع عدم معرفته سلفاً فضلاً عن وجود عداوة أو حقد سابق . فالقتل يتم على الجغرافيا أو الهوية الشخصية . على الجغرافيا في الحروب الاقليمية فيُقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبل الذي يفترق عنا ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام الاتصالات كما في أجهزة الدش ) ويُقتل على الهوية في الحروب الأهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ، يمثل الآخر ، يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر الأرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛
العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة :
كأنَّ العدالة إذاً في طريقها الى نفق مسدود ؟!
يرى باسكال أن الانسان في جدلية لاطريق الى حلها ، وهو شقي لأنه لايلقى حكماً عادلاً ويرضخ للظلم ، ولكنه بنفس الوقت عظيم لأنه لايرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن بإمكانية العثور عليها ، فالانسانية في جدلية محيرة وفي وضع غير قابل للحل ، وينتقل من موقف الى ضده ، لايرضى بالواحد ولا الآخر .
اقرأ المزيد