- -

هل كان طول آدم ستون ذراعا؟ الأرض والنصوص  
وصلني بالانترنت صورا عن قوم (عاد وثمود) من جماجم وعمود فقري وهياكل بشرية. ليس هذا هو المهم بل حجم البشر الواقفين بجنبهم وكذلك آلات الحفر؟ فقد ظهر  حجم الجمجمة أكبر من حجم الرجلين الواقفين حذاءها؟ كما ان آلة الجرف الضخمة ضاعت أمام حجم الهيكل؟ قالت لي زوجتي المغربية التي ذهلت من المنظر مارأيك؟ تابعت هل هي حقيقة أم فبركة؟ جوابي طبعا أنها من لعب الفوتو شوب.   وحاليا بلغت السينما درجة من التزويق واللعب بالمناظر، أن أظهرت انشقاق البحر وكأنه أمامنا، والديناصورات وهي تلتهم البشر، والبحر وهو يبتلع مدينة لوس أنجلس في كاليفورنيا. هنا نحن أمام ظاهرة تحتاج إلى التحليل؟ فلماذا يحرص الناس على تعميم هذه الصور في النت؟ حاليا هناك طوفان من المعلومات والوعاظ الشعبيين والشكاكين وأصحاب الدكاكين السياسية. يكفي أن تفتح اليوتيوب لتغرق في محيط لانهاية لشواطئه؟ فوجب وضع الفلترة العقلية لما يرى الإنسان ويسمع؟ ليست فقط هذه الصور التي يمكن فضحها بسهولة، بل هناك تناقل معلومات مغلوطة أو مفبركة أو مضخمة أو محرفة، من كل فاكهة زوجان. لماذا نشر هذه الصور الآن بالتحديد؟ قلت لزوجتي هذه ليست جديدة علي؛ فلقد شاهدتها منذ فترة، حتى جاءني من كشف طريقة التلاعب بالصورة، ولكن أصحاب (النصوص) يريدون نسبها إلى أحاديث يجب أن (تراجع) أن خلق آدم كان أطول من عمارة شاهقة؟. ولكن المدهش هو بالأفلام التي تنتج من مكان لتروج في مكان؟ وهي في الصراع السياسي شيء مذهل؛ فالحرب السياسية أحيانا تدار بالفؤوس، ولكن في كثير من الأحيان باللعب بالرؤوس. مامعنى أن البشر الأقدمين كانوا عمالقة؟ هكذا يروج البعض أن قوم عاد وثمود كانوا عمالقة؟ يتعرض ابن خلدون في مقدمته لمثل هذه الأفكار ويقول: إن الحنايا في بقايا قرطاج، وأهرامات مصر، دفعت البعض إلى الظن أن من أقامها هم قوم من العمالقة، ليصل إلى تقرير (قانون) هام في علم الاجتماع، ذو ست زوايا في اعتماد الإخبار ليس على النقل، بل النقد والتحري. قال الرجل في مقدمته (اعلم أن الإخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والذاهب بالحاضر؛ فلا يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وهو ماوقع لكثير من أئمة النقل والتفسير). ومنه نفهم البعد الاستراتيجي في الآية المفتاحية الموجودة في سورة العنكبوت، أن علينا ليس البحث في (الكتاب) بل السير في الأرض (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق). إذن هذه الصور من عمالقة عاد وثمود يجب أن لاينظر لها من خلال النصوص، بل من خلال البحث الانثروبولوجي (علم الإنسان) وتفقد طبقات الأرض. هل فعلا ثمة هياكل بقدر ناطحات سحاب أم هو (فرية) علمية تكاد السموات تنشق منها وتخر الجبال هدا؟ وبالمناسبة فإن غالبية من (ساروا في الأرض) كانوا من الغربيين، ولم يكونوا من العالم الإسلامي، وقديما كان العكس هو الصحيح، كما نعرف من (ابن بطوطة) في كتابه عجائب الأسفار أو (القلقشندي) ومن رسم خرائط العالم (الادريسي) وابن خلدون وعشرات من الباحثين، أما العالم الحالي فقد تم تشكيله بعد أن خرج العرب من لعبة التاريخ، وبذلك صنع العالم المعاصر الذي نعيش فيه من بناة لاعلاقة لهم بالعالم الإسلامي عموما. (دارون) مثلا ركب سفينة البيجل لينتهي بفكرته عن الخلائق وكيف تمت. (هومبولدت) الألماني عس في غابات الأمازون ليكتشف الخلائق، و(ماركس) كشف قانون فائض القيمة في الاقتصاد، و(فرويد) عالم ماتحت الشعور، و(فون بابن) قانون ضغط البخار، و(طوريشيللي) الضغط الجوي، و(ماكس بلانك) ظاهرة إشعاع الجسم الأسود وانتهاء بقوانين ميكانيكا الكم، و(آينشتاين) النسبية الخاصة والعامة، و(دونالد جوهانسون) الانثروبولوجي هو من عس في حرارة الحبشة المخيفة، في مثلث عفار، ليهتدي إلى هيكل لوسي التي عاشت قبل 3,2 مليون سنة، ليس هذا فقط بل أين المختبر الذي يقول أن هذا العظم عمره ثلاثة ملايين من السنين أو ثلاث سنوات؟ هذه أيضا تقنيات طورها الغرب باجتهاد ومتابعة؛ بل حتى الصور التي تعمم هي من خلال النت، الذي هو مشروع أمريكي بامتياز، وكتبت مجلة در شبيجل الألمانية، عن جيل الشباب الجدد في (وادي السيليكون) قريبا من سان فرانسيسكو أنهم أباطرة الحكومة العالمية القادمة، بتطوير نظام المعرفة والاتصالات بحيث ينتهي احتكار الحكومات لصالح خبراء الديجتال. هذه إذن هي طبيعة العصر الذي نعيش فيه. ومانعرف عن هياكل البشر حتى اليوم هو ماكشفه علماء الانثروبولوجيا (وهو أيضا علم حديث تطور من رحم علوم أخرى) أن الإنسان أصبح له على وجه الأرض بشكله المستقر حاليا، والذي ننتسب إليه، وسمي جدنا آدم تيمنا به (الإنسان العاقل العاقل) ربما مائتي الف سنة يزيد وينقص، ولكنه هو الشكل المودرن المتقدم وقبله مرت اشكال أخرى ولكنها اختفت جميعا. ما أريد الوصول إليه أننا إذا أردنا الطيران إلى المستقبل؛ فيجب أن نركب جناحين من العلم والسلم. بكل أسف الوسط العام من الثقافة شاحب يعاني من فقر دم، ولايزيده الوعاظ الشعبيون إلا ضلالا. أملي كبير أن يعتنق مثل هذه القبسات شباب ينظرون إلى مستقبل أفضل بعقل تنويري مؤمن متسامح يبني قاعدته المعرفية طبقا عن طبق.
اقرأ المزيد
كيف حفظت القرآن ؟ 
لم يكن هدفي قط حفظ كتاب الله، ولكنه تحقق على نحو غريب، أقصه للقاريء والمستفسر، فائدة للباحثين، وتذكرة للحافظين. أول سورة حفظتها كانت سورة (مريم)، أما سورة (المؤمنون) فكان حفظها في معتقل المخابرات العسكرية في القامشلي، قبل التقدم إلى امتحان البكالوريا بشهرين؛ فكاد الامتحان أن يضيع علي لولا  لطف الله؛ فمكثنا في أقبيتهم أربع عشرة يوما عددا، فخرجت وأمامي 43 يوما للامتحان؛ فنجحت وكنت الأول في المحافظة (الحسكة). حفظت سورة المؤمنون برفقة الدكتور (عبد الجبار يوسفان)، الذي كان معنا معتقلا هو طبيب مميز في البلدة حتى اليوم. وما زلت أتذكر تخوفي يومها أن تضيع السنة لأنني كنت قد حضرتها على نحو مكثف، ولما انتهى الامتحان كنت من الجهد ماجعلني استلقي على ظهري شهرا كاملا.   وآخرها كانت سورة (يونس) على ظهر بناية (حسان جلمبو) (يسمونه في دمشق الملحق) الذي تخرج مهندسا لاحقا، وانتهت حياته في جحيم تدمر على مابلغني؟ والدتي (جاهدة شيخموس وصفي) رحمة الله عليها كانت معجبة جدا بسورة مريم. ربما لجرسها الموسيقي. كانت تشجعني فأرسلتني لأخذ مواعظ دينية عند سيدة اسمها (زكية) إذا لم تخني الذاكرة. كانت امرأة بسيطة تقية بدون علم. وهكذا حفظت أول سورة في حياتي ولحبي لها فقد سميت ابنتي الثانية بها فهي مريم الموجودة حاليا في نيويورك وهي تمارس السياسة وإعادة الاعتبار للمرأة في دنيا العرب. كنت في المرحلة الإعدادية (الصف الثامن = مايعادل الثاني إعدادي). كانت البرية والخلاء أصدقائي المقربين  (نسميه الجول بتعطيش الجيم بثلاث نقط). وهكذا كانت أول سورة دخلت مستودعات الذاكرة عندي هي (سورة مريم). لم يكن يخطر في بالي ولا للحظة أن المشروع سوف ينتهي بحفظ كامل القرآن؛ لأكتشف في النهاية أن الحفظ هي المرحلة السهلة، ولكن (الحفاظ) على ماحفظ هي المرحلة الأصعب، فهناك الكثيرين ممن حفظوا فنسوا؛ أو اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. ثم تأتي المرحلة الأعظم مما مر وهي تدبر القرآن وفهم آياته وكلماته. بالمناسبة من أجل المحافظة على الحفظ يحتاج يوميا تكرار أربع ساعات؟ البارحة كنت استمع لعالم شيعي (القبانجي) يزعم التجديد الديني، وهو يتكلم عن القوس والقاب، وأن القاب هو زاوية أو نهاية القوس. كان كلامه في موضوع القرب والبعد. قلت هو ما أبحث عنه؛ لأن العديد من الكلمات في القرآن يجب الوقوف أمامها. مثلا الطير الأبابيل مامعناها بالضبط؟ هل هي طيور من نوع خاص؟ أم كناية عن الكثرة؟ مثلا الكهف والرقيم؟ نعرف الكهف فماهو الرقيم؟ ثم لم نعرف شيئا عن مصير الكلب بعد أن رجع السبعة إلى الحياة؟ وفي هذا الاتجاه هناك مئات المواضع في القرآن، تحتاج أن يسلط عليها الضوء؟ بعد أن انتهيت من حفظ سورة مريم وفرحت والدتي بهذا الخبر، قلت لها إن حفظ (سورة البقرة) فيها حديث ينفع للوالدين، وهكذا توجهت لأعظم سورة، ولكن بعد المرور على سورة (فصلت). لم يكن حفظي بالترتيب أو من البداية للنهاية كما في معاهد تحفيظ القرآن؟ كانت سورة فصلت مقررة علينا في الصف التاسع (ثالث إعدادي). كان الجميل في السورة مقطع روعة عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا كيف تتزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأنهم أولياء الله. هذه الصفحة من السورة أشجع فيها من يريد أن يزيد من حفظ القرآن، أن يركز على هذه الصفحة، وفيها دفع السيئة بالحسنة؟ ياحسرة على العباد. أحيانا أسمع تصرف الناس عكس الآية قلت إنه دفع الحسنة بالسيئة، على صورة مقلوبة لما جاء في القرآن. بعد تجربتي مع حفظ القرآن رأيت أمكنة تصلح جدا للتلاوة وبشكل مكرر ومؤثر، أما آية التداين والربا والميراث وما شابه فهي أقرب للمتخصصين، كما ألفت النظر إلى أن (التورط) في حفظ  القرآن بدون فهمه، ولو بشكل بسيط،  لايعني أكثر من نسخة مكررة للمطبوعات، كما نقل يوما عن (محمد عبده) حين بلغه أن فلانا حفظ كتاب الله، فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة. أما الفهم والتفكيك والتحليل، بل واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة؛ فهو شيء مختلف، ويعطي المعنى لماذا نزل هذا الكتاب المبين هدى للناس. حاليا طريقتي في التعامل مع القرآن أصبحت مختلفة، مثلا على مدى أيام وأنا أقرأ سورة الرعد واكتشف أسرارها، وليست هي السورة الوحيدة، ثم إنني اكتشف كل يوم العديد من يشكك في القرآن الكريم، أو أنه مفهوم على نحو مغلوط، ولعل أشهر من كتب على حد علمي من الوسط  السني هو (الشحرور) ومن الوسط الشيعي (القبانجي) وقد كتبت حول (الأخير) بحثا مطولا نشرناه في جريدة الأخبار في المغرب. كلا الرجلين أي (الشحرور والقبانجي) اجتهدا وهو أمر مزكى ومبارك، وإن كان أسلوب الثاني لايخلو من السخرية، التي لا أظن أنها ستخدمه في اتجاهه، أما الشحرور فكان ملتزما أكثر، وهو يقول كما قال أيضا المصري (جمال البنا) أنه ليس ثمة نسخ في القرآن، ولكنه اعتمد أداة اللغة لفك مغاليق القرآن، ولا أظنه وصل إلى أساسات تفيد الضمير المسلم الحالي، باستثناء دعوته للمراجعة، كما فعل البنا المصري والقبانجي.
اقرأ المزيد
عيوب اللغة والأدوات المعرفية المساعدة  
القرآن منبع للطاقة، والتزود منه يحتاج إلى موصلات للطاقة مثل وصل الأسلاك إلى البطارية. وهذه الأسلاك يجب أن تعمل بكفاءة ومن نوعية جيدة ونظيفة من الصدأ. أذكر تماما حين بنيت بيتي في الجولان كيف شرح لي المهندس أبو طه أهمية أن تكون الأسلاك بغلظ 6 ملمتر. هنا في كندا التوصيلات الكهربية شبه أبدية. ليس فقط الأسلاك بل تقريبا كل أدوات البناء.   وفيما يتعلق بالنص القرآني فهو مكتوب بلغة عربية (بلسان عربي مبين) فهو حقيقة ضخمة، ولكنها حقيقة مضغوطة في قناة من لغة عربية، ولكن لا يمكن تمريرها بغير هذا الطريق. حقائق لانهائية من المطلق رب العزة والجلال يتحدث بها إلى العباد في لغة محدودة وكلمات محدودة فكيف يمكن ضغط اللامحدود في المحدود؟ هنا تتبدى المعجزة اللغوية والقوة اللفظية المتعالية والنور الهادي إلى صراط مستقيم. أنا شخصيا أحفظ القرآن ولكنني في كل قراءة أفهم الجديد من تضاعيف النص. ومعنى هذا الكلام أن فهم هذه الظاهرة يتطلب قلبا مستعدا لتلقي الحقيقة. وأي حاجز بين القلب والظاهرة يمكن أن يعيق الاتصال. وأفضل اتصال لفهم ظاهرة كونية هي الاتصال المباشر بها، بدون حجب ووسائط رديئة التوصيل.وقديما أراد موسى رؤية الله كظاهرة مادية فخر موسى صعقا. فلما أغاق قال سبحانك تبت إليك. وما حصل مع موسى حصل مع قومه حين قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. وعلينا أن نتفهم هذه الطلبات فإبراهيم لم يطلب رؤية الله لا أعرف لماذا ولكنه كان يبحث عنه في تضاعيف الكون من الكوكب والقمر والشمس. ولكنه أراد أمرا مختلفا حين طلب كيف تدب الحياة في الموت الهامد؟ هنا لم يحصل له ماحصل في سورة البقرة من ضرب لحم البقرة الميتة الميت فينهض ويدل على القاتل. بل جاءت من شكل طيور مختلفة تقطع وتوزع وإذا بها تهرع إلى بعضها البعض فتطير. يسأل أحدنا ألم يكن إبراهيم موقنا بهذه الحقيقة والجواب نعم ولكن المشاهدة غير الفكرة المتخيلة. هنا تقول البرمجة اللغوية العصبية أن الحضور في الصورة والنطق تنقل لنا الفكرة بحوالي 60 بالمائة أما الكتابة فلا تنقل أكثر من 20 بالمائة. وهناك من يتقن الكتابة فله سحر ولكنه ليس كذلك في النطق وهذه تحتاج إلى مران. وأنا أعرف البعض ممن يبرعون في النطق ولكن إنتاجهم الكتابي لاشيء. وهنا علينا أن نتذكر أن مايبقى هو المخطوط وأنا شخصيا كتبت عشرات السنوات فأبدعت ولكن النطق استعين به فيما كتبت وأحاول نقل تراثي الورقي إلى الصوت والصورة فلا أدري كم سأنجح؟ وفي القرآن توجد إشارة إلى طائفة من الناس سماهم القرآن (الراسخون في العلم) والرسوخ في العلم رحلة لا نهاية لها. واللغة لها ثلاث مشاكل جوهرية (عيوب) تحرم من الوصول إلى الحقيقة؛ هي التعميم والتشويه والحذف؛ فأما التعميم فمثل من يقول كل شيء غالٍ، والصحيح أن البعض غال والبعض رخيص وهناك مابينهما حركة في الرخص والغلا. وأما التشويه فقول المرء مات المريض، فمن هو؟ وما اسمه؟ وكيف مات؟ وسبب الوفاة؟ فكلها نواقص فادحة تحتاج إلى الكثير من الترميم. وأما الحذف فمثل القول كتاب رائع، فلماذا كان رائعا وما الذي جعله كذلك؟ ولكن بقدر عيوب اللغة بقدر استخدامها بين البشر كأداة تواصل، مثل ظاهرة الرعد والبرق؛ فهي تمر عبر سلك كهربي. وهكذا فأفضل طريقة للاتصال بالقرآن الاتصال المباشر به بدون حجب ووسائط، ولو كانت كتب تفسير! فهي ولدت في عصر مشبعة بروح العصر حتى الثمالة، مثل تفسير ابن كثير الذي انتهت صلاحيته مثل أي دواء، ولنتصور أننا نتناول الأدوية التي فسدت وانتهى وقتها (صلاحيتها) أو الدم الذي انتهت صلاحيته مع ك لحاجة المريض النازف له؟ ومنه سبب الشلل في العقل الإسلامي، ويجب المرور عبر العصور لاكتشاف الظاهرة القرآنية حسب تعبير مالك بن نبي الذي كتب فيها كتابا كاملاً. ونظرا لأن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة كونية مثل الشمس والقمر وفلق الصبح والغسق؛ فإن أي كلام عنها يأخذ طابع الذاتية أكثر من الموضوعية. وبقدر الخلفية الثقافية بقدر الاقتراب من الظاهرة. ولكن مهما فهم ووصف الإنسان هذه الظاهرة فهو يرى جزءًا منها مثل لو وقف مجموعة من الناس أمام صخرة ليصفوها؛ فهي مجموعة لا نهائية من الحقائق حتى وهي صخرة؛ فقد يحللها الكيماوي ويصف تاريخها الجيولوجي ونوعية الفلزات المعدنية التي تحتويها. كما قد يصفها الشاعر بعين حالمة. ويراها المؤرخ شاهدا على مرور حملة عسكرية بجانبها. ولكن الصخرة تبقى أكثر من ذلك؛ فقد تكون حجرا من المريخ كما قد تكون مكانا لنمو فطريات نادرة. ويبقى السؤال كيف الدخول إلى هذه القناة المحدودة من اللغة لفهم ظاهرة كونية غير محدودة؟ هنا يتطلب الأمر البحث والاستعانة بأدوات معرفية وعلوم إنسانية مساعدة، تماما كما يفتح الجراح البطن، أو ينقب عالم الانثروبولوجيا في الأرض بحثا عن قطعة عظم وسن، أو يحدد عالم الاركيولوجيا عمر الأحافير، أو يستخدم صيادو الكنوز في الأعماق السونار.بكلمة أخرى مختصرة، إن الإنسان يخوض البحث كمن يدخل كهفا مليئا بالكنوز بإضاءة خاصة، وبقدر الإضاءة بقدر الاهتداء للكنوز، وهي هنا مثل خامات الأرض وعروق الذهب، تحتاج إلى عمليات إضافية كي يصل الإنسان إلى جوهرها النقي ومعدنها الخالص.
اقرأ المزيد
دعم الإلحاد تحت عباءة الإيمان، قصة الراهب الدومينيكي توماسو كامبانيلا
الناس متفقون على توصيف الجنون والمجنون ليس بجهد كبير بل باتفاق ضمني. عندنا في المدينة التي نشأت فيها ومقابل دارنا تماما كان ثمة رجل عصابي اتفق الناس على تسميته (حسن مصروع). هنا الصرع ليست الحالة المرضية من فقد الوعي والتبول اللإرادي والسقوط المفاجيء والزبد في الفم بل حالة هستيرية من رجل يتصرف على نحو غريب خلاف ما اتفق عليه الناس. وحين نقرأ في القرآن كيف وصف نبي الرحمة بأوصاف ستة من أنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون وكذاب وأنه يريد أن يغير مااعتاد عيه الناس واتفقوا منذ قديم الزمان. هنا نرى الشيء العجيب في ذكر هذا العجيب. هنا القرآن يذكر هذه الصفات لكي يزيل عنه هذه الصفات ولكنه يعترف بأن المجتمع كان يكرر هذه التهم. وحسب الوردي عالم الاجتماع العراقي فإن الجنون له صفتان الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك. مثل من يقول أنا تغديت البارحة في المريخ. ومن القصص العجيبة في التاريخ هو عكس ماذكرنا تماما أي دعم الإلحاد ببراهين من الإيمان ويحصل هذا في ظروف الاضطهاد الديني كما وقع في أوربا يوما؛ ففي مواجهة اضطهاد رهيب، قد يضطر الإنسان في النهاية، أن يعلن جنونه على الملأ؛ كي ينجو بجلده من المحرقة؟ وهو ما فعله الراهب الدومينيكاني (توماسو كامبانيلا) في مطلع القرن السابع عشر، بعد محرقة (جيوردانو برونو) الذي خضع أي برونو لتحقيق جهنمي لمدة ثماني سنوات، وافتتح القرن السابع عشر بحرقه حياً، مثل أي فروج مشوي. والكلمات التي تجرأ على نطقها (كامبانيلا) كانت أثرا من موجة الإصلاح الديني، التي اجتاحت الشمال الأوربي، بعد أن أطلق (مارتن لوثر) حركة المعارضة (البروتستانت) على صورة خمسة وتسعين سؤالاً، علقها على جدار كنيسة (فيتنبرج Wittenberg)، يسأل فيها كيف يمكن لمجرم ارتكب كل الذنوب، أن يدخل الجنة بتذاكر اشتراها من مال حرام، ونبت لحمه في الحرام؟إلا أن الخطيئة القاتلة التي وقع فيها (كامبانيلا) كانت حين لم يقدر العواقب جيدا، وهو يتعرض لديناصور لاحم اسمه الكنيسة، ومخالبه من محاكم التفتيش؟! قال الرجل يعلق على معتقدات الكنيسة: ' إن الكنيسة روجت لمثل هذه الخرافات كي تتحكم بالناس وتجعلهم خائفين'؟؟ وبالطبع فإن جملة من هذا الحجم، في وجه خصم شرس مسلح حتى الأسنان، بكل الإمكانيات، بما فيها ادعاء أن الله يمر من خلاله، على لسان المعصوم (البابا)، وهي المسألة التي كلفت التيولوجي السويسري (هانس كينج) خسارة مقعده في التدريس، بعد مرور 400 سنة على واقعة كامبانيلا حينما طرح الأخير، مسألة عصمة البابا في الميزان، بعنوان صاخب من كلمة واحدة (العصمة؟؟ Unfehlbarkeit). وينقل عن السير (والتر رالي) من القرن السادس عشر (1554 ـ 1618م) قوله: ' ينبغي على الرجال العقلاء أن يكونوا خزانة ذات قعرين، لا تسمح من النظرة الأولى سوى رؤية سطحها الفوقي'. ألقي القبض على الراهب (كامبانيلا) بتهمة الهرطقة والإلحاد؛ فنزل في أقبية مخابرات الفاتيكان، حيث محاكم التفتيش الجهنمية، في عام 1593م، ثم أطلق سراحه بعد ست سنوات عام 1599م. وكانت جنوب إيطاليا خاضعة للحكم الأسباني يومها، ومعها جبروت الكثلكة، فأوحى إليه عقله أن يقاوم الغزاة، وينشئ جمهورية مثالية، فأخطأ للمرة الثانية بأشد من الأولى، وهكذا فبعد أن كان يواجه غولا واحدا، أصبح في مواجهة غولين؟! تم إلقاء القبض على كامبانيلا من جديد،  وحكم بالسجن المؤبد، وأخضع للتعذيب هذه المرة بآلة جهنمية اسمها (لا فيجليا  La Veglia)، كان المتهم كما هو مع كامبانيلا يخضع لتعليق ذراعيه، وهو في وضع القرفصاء، على بعد إنشات من كرسي، تبرز منه مسامير حادة، غليظة جاهزة لشق اللحم شقا، فليس أمام التعيس إلا أحد اثنين: أن ينغرز في خازوق الأنصال، أو تنخلع أكتافه من فوق؟.. وهنا أدرك (كامبانيلا) أن عليه إن أراد أن يبقى على قيد الحياة أن يمارس إستراتيجية جديدة، وهكذا فقد بدأ يتظاهر بالهلوسة والجنون، فأخضعته الكنيسة لمزيد من التعذيب؛ كي تتأكد أنه (مجنون حقاً) كذا؟؟ وبقي أربع سنوات مصلوبا واقفا إلى جدار، فصمد لجهنم تحقيق الكنيسة، حتى اعتقدت في النهاية بأنه فاقد العقل تماما. بعدها بفترة سنوات كتب كتابه الأول في مدح (الملكية الأسبانية)، وأن ما فعلته من ذبح الناس وحرقهم على نار هادئة،  ونهب أمريكا، كان عين العقل، وقمة التقوى، فصدقت الكنيسة أنه فعلا ولد صالح للكثلكة؟! ثم ضرب كامبانيلا ضربته الأخيرة؛ فأخرج كتابا مثيرا بعنوان (هزيمة الإلحاد) وعرضه على شكل سؤال وجواب، وكان يعرض حجج اللوثريين والمارقين بقوة ووضوح، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص، فاحتارت الكنيسة في أمره، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات، ثم اقتنعت أن الرجل كاثوليكي صالح، وأنه فعل جهده في اعتناق المذهب الصحيح والذود عنه، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل، وتلقف الناس كتاب الرجل فلم يكن هزيمة للإلحاد، بل كان نبعاً الإلحاد، وهكذا أصبح أنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة. وهذا يجعلنا نفهم أن معركة الكنيسة مع العلماء فتحت الباب لكل ألوان الإلحاد، جملة وتفصيلا، وضد أي دين، وبذلك نشأت الحضارة الغربية الحالية، وهي ممزوجة بروح إلحادية صريحة؛ فأعلن (نيتشه) موت الرب، وأعلن (سبينوزا) أن الله والطبيعة واحد، وأن الإيمان بالمعجزات كفر، وأعلن (ماركس) أن الدين أفيون الشعوب، وختمها (ميشيل فوكو) بموت الإنسان؛ فلم يبق وينجو أحد، وكل ذلك من حماقة الكنيسة وتعصبها العقيم الذميم.
اقرأ المزيد
ما هو الصنم؟ (3)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
من جديد نلقي المزيد من الضوء على أخطر مشاكل المجتمعات حين تنحرف فتعبد الأصنام البشرية والحجرية فتقع في براثن الوثنية. ان اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نورا فما له من نور. الا انه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). أو كما يقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).  لا يمكن لأي سيارة ان تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل. ان وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية اذا سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التى جاء من اجلها الانبياء وعليه مات بعضهم او طورد الى حافة الصلب فرفعه الله اليه؟ يقول جودت سعيد (ان البشر حين يعظمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من امريكا الى اصغر ديكتاتور)... ولفهم الطاغوت قص الله علينا قصة اكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات اكبر الاثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفرا بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر. وقصة فرعون مع موسى من اطول قصص القرآن واكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من امر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون اكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى اكثر من مائة مرة وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. انها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات. والمسلمون يلعنون فرعونا خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الاوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) و(كافور الاخشيدي) في شاهد عما تفعله الثقافة في تعطيل اقدس النصوص وان معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (امام عبد الفتاح امام) يسجل هذه الفقرات المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية): (عندما امعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم اشد سوءا وكلما اوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على ما يسوء حتى وصلت الى البدايات الاولى عند البابليين والفراعنة، دون ان اجد مرحلة استطاع فيها المواطن ان يقول بملء الفم هذه بلادي وانا انعم فيها بانسانيتي وكرامتي، واتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت). وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى ان هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (واذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس افكارا بل ينصب اصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى ان الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة ان تواجهه بما ليس فيه. واذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد ان تكون حكومته استعمارية). ولذا فان ما حصل كان سقوطا: (في احضان الوثنية مرة اخرى.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد ان كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز اصبح يقتني الاصوات والمقاعد الانتخابية). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو ان هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن (عبيد الطاغوت) يقتربون في اشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً. اذاعت جريدة (نجم المساء) البريطانية في 31 مارس (اذار) من عام 1846، انه سيكون في الاول من ابريل (نيسان) معرض هام وكبير لكل انواع الحمير في صالة عرض فخمة في غرفة الزراعة بـ(اسلنجتن)، وفعلا جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة، واخذوا في الانتظار فلما امتد الوقت لم يظهر احد ولم يكن هناك في القاعة الا من حضر عند ذلك ضحكوا على انفسهم الى درجة الاغماء، لأنهم عرفوا ان كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الاول من ابريل المترافق بكذبة نيسان. هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
اقرأ المزيد
ما هو الصنم؟ (2)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
علينا فتح النقاش فعلا حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجرا او بشرا او (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوما بانه متعال ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة. لذا وصف الفيلسوف (محمد اقبال) ان الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الازمنة: (تبدل في كل حال مناة... شاب بنو الدهر وهي فتاة). قد يكون الصنم (تمثالا) لامعا يمنح البركات، يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون انه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشرا) متعاليا فوق الخطأ ودون النقد، كلماته حكم خالدة، وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع، وصوره مرفوعة بكل الالوان والاحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لا تقبل المراجعة فرضها (كهان) يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لا يفهمها المواطن اكثر من فهم زمع الكهان. أبسط الاصنام ما نحت من الحجر، واعقدها (الايديولوجية) لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما انزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الاصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من عل بوجه مكفهر ويد ممدودة الى جماهير مطحونة تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى، واذا تنفست كان الجو عابقا بجزيئات (رجال الأمن). عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب انهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة مطورة بدهاء عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وأشباهها في عالم العروبة وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن. يخطئ من يظن ان (الصنم) مرتبط بتمثال من حجر. كما يخطئ من يعتقد ان المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور ان معركة الانبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن ان الفرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنما لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق: (ان البعرة لتدل على البعير وان الأثر ليدل على المسير. سماء ذات ابراج، وارض ذات فجاج، وبحار ذات امواج، ألا تدل على وجود اللطيف الخبير) واختصر القرآن ذلك فقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون). كما ان معركة التوحيد التي خاضها الانبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الارض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم ادوات (علم الكلام) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هدد فيها الانبياء بالرجم والهجر والاخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمنا لذلك، وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع ان يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات ويتحول اهله شيعاً. انه لا يهم ان يكون الصنم من حجر او تمر او شعار أو حزب أو عائلة او طائفة او طبقة بل نظرتنا اليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا (السدنة) الذين يقفون خلفه يوحون الى الجماهير زخرف القول غرورا انه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق. ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم اليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف للفتوحات. انها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. ان هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). ان عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له صلى الله عليه وسلم: (انهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم). وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله الى الارض طالب بـ(كلمة السواء) ان لا يتخذ الناس بعضهم بعضا اربابا. وهي ما وصلت اليه الديموقراطية اليوم اي ان يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع افقي. ورأينا الرئيس الأمريكي (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب امام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. أو ترامب وهو يطرد من الكابيتول ومعه أربع جثث، انها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. انها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها. أين الأصنام اذاً هل هي حقا في افغانستان أم سوريا ولبنان ومصر وعبدان؟
اقرأ المزيد
ما هو الصنم؟ (1)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
هل الصنم هو قطعة حجر أم هو فكرة؟ ولماذا أصر الأنبياء على مبدأ التوحيد؟ ثم ماهو التوحيد مقابل الصنم؟ ولماذا حدث ذلك النزاع في المجتمعات بين الوثنية وعبادة الله الواحد؟ وهل التوحيد هو موضوع نظري تيولوجي أم سياسي خطير؟ سوف نحاول تشريح هذه المشكلة العويصة؟   جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد: (يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني واياهم وكانوا قد اشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج اليهم فقالوا ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد اجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه» فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن). ان هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فان (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه أعيد إحياؤه مرة اخرى بدون اسم الخوارج. ان حركة (الطالبان) مثلا تورطت في هذا الموضوع حين هدمت تماثيل بوذا ظنا منها أن الوثنية قطعة حجر؟  كما يشبه (النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) في لعبة (مصارعة ثيران) يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها داعش وأضرابهم (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوما بالهجوم لكي يموت بعد ذلك امام جمهور يصفق بحرارة، وهي صورة تعالجها وسائل الاعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة، رغم المامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الاعلام الرأسمالي ان يذهب اليه قبل ان يعرف انه الدجال). ان من السهل ازعاج الاخرين ولا يحتاج كسر قلوب عشرين شخصا اكثر من عشرين اهانة في عشرين دقيقة. ولا حاجة لان تستعدي عليك العالم اكثر من التعرض لمقدساته ولكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع الى ربك انك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتنجتون) صاحب نظرية (صدام الحضارات) يفرك يديه الآن فرحا وهو يرى (الطالبان) يتطوعون بتنفيذ المهمة مجانا بصدم العالم الاسلامي بالبوذي. وفي الوقت الذي يعيش الطالبان وداعش وأمثالهم خارج احداثيات التاريخ والجغرافيا ولا يعرفون ما هي المعاصرة فان مجلة (در شبيجل) الألمانية تنقل لنا انهم ليسوا أول من سن هذه السنة السيئة، بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الاول قام فيه البروتستانت عام 1529 في سويسرا وهولندا والمانيا تحت شعار: ايها الصنم ان كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك، وان كنت بشراً فيجب ان تنزف دما بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر مدير المتحف التاريخي في (بيرن): هل كان ما فعلوه جنونا ام ارادة الله حقا؟ وختم كلامه (انه سؤال للضمير في اوربا المسيحية والعالم الاسلامي). والمهم ان اعظم التحف الاثرية في الشمال الاوربي تم نسفها نسفا بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس) ووصف تلك النزعة التدميرية: (بانها تشبه تدمير طروادة في العصر القديم). واما التدمير الثاني وكان أشد هولا واعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الإسبان حيث لا تعلم اوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنجلر) ما حدث بهذه الاسطر المأسوية: (فحضارة المايا لم تمت جوعا بل قتلت قتلا وهي في اوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس اذا ما قطع احد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية، وموارد اضخم بكثير من الدول الاغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي اعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وانظمة ادارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية لا يستطيع الغرب ان يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك... لم تندثر نتيجة لحرب يائسة بل جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار الا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن احد حتى الآن من قراءتها. اما أشد مظاهر هذه المأساة ايلاما للنفس وترويعا لها كون هذا التدمير الساحق الماحق جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا او انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها).
اقرأ المزيد
نهاية فرعون (2)
موسى الذي كان من العبيد. موسى الذي تلقيه أمه في اليم خوفا عليه من القتل. يتربى في قصر فرعون بعد أن تتشفع زوجته ويلقي الله في قلبها حبه. ثم يهرب إلى الصحراء فيتعلم خشونتها ويرعى الغنم والإبل. يعود صحراويا بعد أن كان من طبقة السادة في القصر الحاكم. تحدث بينه وبين فرعون مناقشة مثيرة. تدور حول نقطة واحدة أن فرعون بعد أن جاء جده من الجنوب وطرد الهكسوس اعتبر بنو إسرائيل الذين تكاثروا في هذه الفترة الممتدة ليسوا من الشعب المصري وهم عبيد يجب تطهير الأرض منهم، خاصة أنهم لايعبدون آمون ولا يعتقدون بأوزيس وأوزورويس ولا أنوبيس حامي العالم السفلي ولايرون في الإهرامات مفخرة لعبادة شخص، ولايرون أن الحاكم هو الله. هذه كلها يجب وضعها في الحساب. بل حتى ثورة أخناتون يجب فهمها من التأثر بهذه الرؤى الشرقية عن الله رب العالمين لاشريك له من اصنام بشرية وحية. فرعون هو الله الحي على الأرض، وهذه العقائد من التثليث ورفع البشر إلى مقام الله هي التي قال عنها القرآن يضاهؤون قول الذين من قبل حين قالوا أن المسيح هو الله وأن عزيرا هو ابن الله. فهذا التناقض العقدي وعدم التسامح أمام الاختلاف الفكري رأى الفراعنة أنهم يجب تحقيق الانسجام في المجتمع المصري بأسره طريقة ممكنة هي التطهير العرقي بالتخلص من بقايا يوسف. كما أشار إلى ذلك الرجل الذي اعترض على قتل موسى وسجل موقفه في سورة كاملة من القرآن وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا يقول ربي الله. ثم يتابع في خطبة طويلة تحتاج إلى تفكيك سيكولوجي اجتماعي أن يوسف جاءكم بالبينات حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يهلك الله كل متكبر جبار وكل مسرف كذاب. الخطة الفرعونية من أجل تطهير المجتمع من أي اختلاف تأسيسا لحكم شمولي كما في الممالك الشمولية على وجه الأرض من بورما وكوريا وسوريا وكوبا فالفروق كما نرى بين سوريا وكوريا هي حرف فقط فالسين للاستبداد والكاف للكفر. حفلة مرعبة قام بها فرعون وولد فيها موسى فنجا من المذبحة بطريقة مقلوبة تماما. قلت لزوجتي فهذه هي القصة باختصار عن مذبحة بني إسرائيل القديمة، ولماذا جاء موسى؟ وماكانت مهمته تحديدا من أجل إخراج شعب من قبضة العبودية إلى فضاء الحرية كما يحصل لشعوب كثيرة على وجه الأرض، ومنها الشعب السوري الذي اجتمعت عليه أحقاد التاريخ من قم وعبدان وهزارة أفغانستان ومرتزقة باكستان وجنود القوزاق من موسكو وأزبكستان. علقت زوجتي المغربية ولكن حين استرد المصريون على يد أحمس الأول مصر وهرب الهكسوس إلى الشمال لماذا لم يفر معهم بنو إسرائيل وهناك في الأفق احتمال أن يعتبرهم الفراعنة أنهم يمثلون الطابور الخامس للهكسوس، ومصطلح الطابور الخامس ولد مع الحرب الأهلية الإسبانية عن أولئك المنافقين الذي يتظاهرون بالتقوى وهم يتعاونون مع المحتل الخارجي أو القوى الاستبدادية كما هو الحال في سوريا من الشبيحة والبلطجية والزعران والحرافيش. السؤال حين رأى بنو إسرائيل الخطر يحدق بمستقبلهم لماذا لم يفروا إلى الشمال ويرجعوا إلى الأرض التي خرج منها أجدادهم كما سيفعل موسى بهم لاحقا؟ لماذا ؟ لماذا؟ ألم يكن من بينهم عقلاء أو من يرى سحب المستقبل القاتمة؟ الجواب هو مايحصل مع الكثير من أفراد وجماعات بتعبير القرآن: أثاقلتم إلى الأرض. أذكر من فيلم الهلوكوست أن النازيين كانوا يسوقون اليهود إلى الإعدامات والمقابر الجماعية وهم مازالوا على أمل أنه ولو بمقدار نانو جرام من الأمل أن يرحموا فلا يقتلوا؛ وطبعا هذا يذكر بالمقولة التي نقلت في السيرة عن حيي بن الخطاب، وهو يقول لمن حوله من اليهود في واقعة غدر بني قريظة أفي كل موطن لاتعقلون. أثاقلتم إلى الأرض تحدث على مستوى الأفراد والجماعات. بنو إسرائيل طابت لهم حياة مصر يأكلون من بقلها وبصلها وقثائها وثومعا وعدسها وبصله، بل إن رائحة الثوم والبصل بقيت في مناخرهم وهم يعبرون البحر إلى أرض الحرية ياموسى ادع لنا يخرج لنا من بصلها وثومها وعدسها وبصلها فيجيبهم اهبطوا مصرا فإن لكم ماسألتم وضربتم عليهم الذلة والمسكنة. كانوا شعبا قد تروض على العبودية ضمرت عنده الأجهزة النفسية ولم يعد صالحا للمهام التاريخية، وكان على موسى الأولى أن يدفنهم في الصحراء، في عملية استنساخ ليخرج من أصلابهم من يتحمل المسئولية ويؤدي المهمة، ويبحث عن رجل صالح على شاطيء البحر عسى أن يفهم الجديد من أسرار الحياة. يعلق رسول الرحمة ص على مواقف الأنبياء: يعلق على موسى: لو صبر لأخذنا مزيدا من الدروس. وعلى لوط وهو يصرخ بالمثليين المتراكمين من حوله اتقوا الله ولاتخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ يطلبون منه أن يسلمهم الضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة: يصرخ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ يعلق رسول الرحمة ص على موقفه لقد كان يأوي إلى ركن شديد: الله. لانعرف أيضا ماموقفه من يونس وهو يخرج مغاضبا يظن أن لن يقدر عليه، ونوح وهو يدعو أن لايترك على الأرض من الكافرين ديارا.
اقرأ المزيد
تيتانيك رقم 2
نحن نعرف عن الكثير من الكوارث خاصة تيتانيك التي مثلت فيلما. لكن سفينة تضم أضعاف غرق التيتانيك من الألمان الهاربين من الشرق يقترب عددهم من تسعة إنسان أغرقهم طوربيد روسي في ظروف الحرب العالمية الثانية. وأما كارثة الهاربين السوريين إلى النمسا بشاحنة مغلقة ليختنقوا فهي واحدة من العشرات، وشقيق صهري هرب إلى السويد في ملحمة رائعة اجتاز فيها حدود 14 دولة قبل أن يستقر مع الدببة في الشمال الأوربي الصقيع كله هربا من  طاغية دمشق. وقصص الهاربين من الشمال الأفريقي تتكرر كل يوم بحثا عن حياة أفضل، فالبشر يتناسلون ويحتاجون صحة وتعليم ووظائف وبيوت فيها يسكنون. ولكن الشفارة (لصوص العالم العربي) هم أقرب للجراد الذي يأكل الأخضر واليابس فلم يبق مواطن ومواطنة بل لصوص وهاربون. ومن القصص الأليمة التي وقعت تحت يدي فأحببت نقلها إلى القراء هي ما أطلقت عليه تيتانيك رقم 2 وهي مما روته الدكتورة كريستينا كاتانيو (Cristina Cattaneo) من قسم الطب الشرعي، في (جامعة مايلاند) في جزيرة صقلية، قرب مدينة ميليلي (Melilli) التي انهمكت ولمدة 12 ساعة، في تحري الجثث أمامها لتحديد أصحابها؟ هذه التوابيت والأجساد النخرة تعود لأكبر كارثة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية. حيث غرق زورق يحمل المناكيد الهاربين من أفريقيا نحو الجنة المزعومة في أوربا. الكارثة التي حملت إلى أعماق المياه الباردة وبطن سمك القرش أخذت أرواح أكثر من 800 إنسان مسكين فقير لم يسأل عنهم أحد إلا أهلوهم، التي دفعت الحكومة الإيطالية بعد مرور عام على الكارثة في رصد ميزانية لانتشال الزورق والجثث، أو ماتبقى منها لمعرفة أصحابها. عبد الله صديقي من (مركز أحد أولاد أزباير) في المغرب الأقصى قرب مدينة تازة في أقصى الشرق المغربي قال عن صديق له أنه أرسل آخر صورة له (فيديو مسجل) قبل أن يأخذه اليم وهو مليم، ولكن الكثرة الكاثرة من الضحايا لم يسعفهم حظهم وجيبهم، في اعتلاء متن الزورق بل زربوا زربا في بطن القارب، الذي ليس فيه مكان للحيوانات فضلا عن أناسي كثيرة. بدأت الرحلة التعيسة من شاطيء ليبيا مع نسمات السحر حيث شحن المقرودين على ظهر قوارب مطاطية بالمئات إلى عرض البحر على بعد 8 كم تحت الحراسة المشددة من مهربين ملثمين مسلحين حتى الأنياب. وانطلقت الرحلة اللامباركة والقوم يحلمون أنهم في ساعات سيكونون في أرض القياصرة، ولم يعلموا أن مصيرهم سيكون في بطن الحوت. بعد 13 ساعة من الإبحار حل الظلام وليس ثمة بصيص أمل في الأفق، ولا منظر اليابسة (تيرا .. تيرا) فأطلق اثنان من المهربين صرخة انقذوا ارواحنا (SOS) فأرسلت البحرية الإيطالية خلف من هو الأقرب لهم، ولم يكن ثمة إلا شاحنة كبيرة (147م) باسم الملك يعقوب؟ بعد ساعتين ظهر زورق اللاجئين على الرادار، ولكن ثمة حركة خاطئة في انتظار التعساء. فما الذي جرى؟ قال من نجا ورأى سكرات الموت أن الزورق عجل بحركته إلى الشاحنة الكبيرة فارتطم؛ فكان لهول الصدمة صداها وهزتها عند الركاب المحمولين بالكاد؛ فأصيبوا بالهلع فهربوا من مكان الارتطام بالمئات إلى الطرف المقابل، وإذ لم يكن ثمة توازن في قارب تهريب من هذا النوع؛ فقد مال، وأصابه ما أصاب التيتانيك فمال وهوى إلى القاع في خمسة دقائق. هنا وفي زحمة الهول كان المئات قد زربوا في القاع؛ فلم يكن ثمة نجاة، وأما من كان على السطح فرمى بنفسه فهلك 24 وسبح 28 فنجوا، أما بقية القوم فقد أصبحوا في عمق 370 مترا يحوم حولهم سمك القرش الصاخب الشاره. وهناك حيال ساحل ليبيا على بعد 135 كم كانت المقبرة الأولى فمستقر ومستودع. أنفقت الحكومة الإيطالية 9,5 مليون يورو لانتشال الزورق، بواسطة روبوت الأعماق بيجاسو (Pegaso) بعد أن حقن بمادة النشادر حتى تبرد الجثث بدرجة 5 فلا تزكم رائحتها الأنوف، وجاءت طبيبة التدقيق الشرعي (كاتانيو) ولمدة 12 يوما وليلة، وهي تقلب في الجثث، ذات اليمين والشمال، هل من رسم على الجلد؟ هل من بصمة؟ هل من ندبة؟ هل ثمة مايدل على صاحبها قبل المثوى الأخير؟. وتتوقع الطبيبة في الطب الشرعي الانتهاء من تعيين هويات الموتى مع الوقت؟. وللعلم فإن جزيرة صقلية حوت من القبور المجهولة الكثير ربما مذكرة بحملة هانيبال وتمرد سبارتاكوس أو ربما العراب الحديث ؟ وتقول الانثروبولوجية جيورجيا ميرتو (Giorgia Mirto) و سيمون روبينز (Simon Robins) من جامعة يورك (بريطانيا) إنه أمر لايليق بهؤلاء المساكين القاصدين الأرض الأوربية أن يدلفوا إلى مستودعات النسيان، بل لابد من وضع بنك معلومات حول هؤلاء الفارين؛ فهم ليسوا وحدهم بل ضاع في غمرات الموج عشرات الآلاف في البحر المتوسط، بين عام 2014 واليوم، لم يتم التعرف على هويات أصحابها إلا الثلث، ولقد أحصي غرق 1229 شخصا فقط في أسبوع  واحد. وكل هذه المأساة خلفها الحكومات الديكتاتورية وسكوت الغرب عليهم لمصالح يجنونها! لقد مثل فيلم وفيلم حول غرق التيتانيك لأنها تمت بصلة إلى الجنس الأبيض والطبقة الارستقراطية، أما الأفارقة الفقراء فلا باكي لهم.
اقرأ المزيد
التاريخ كمفتاح لفهم الطبيعة البشرية (1) 
سافر صديق لي قبل فترة وترك قطته عندنا في البيت، وكنت أعلم أن هذا القط أخذ من أمه ولم يكن زاد عمره عن أيام وعاش منذ ذلك الوقت مع البشر لكنه كان قطاً مثل باقي القطط، يأكل مثلهم ينظف نفسه مثلهم ويطارد الحشرات ويحاول ملاحقة الطيور، ولو وجد فأراً لا نقض عليه مثل أي قط آخر؛ فالقط المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن تتفاوت طبيعتهم، والقط لا يخسر طبيعته عندما يعيش لوحده بمعزل عن قطط أخرى؛ في حين أن الإنسان المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن يتشابها في التصرفات أو النظرة إلى الأمور، والطفل البشري لا يتعلم الإنسانية إلا بمعاشرته لأناس آخرين. لماذا أتحدث عن الفرق بين الإنسان والقطط أو الإنسان والحيان عموماً؟ الكل يتفق على أن هناك فرقاً بين الإنسان والكائنات الأخرى، لكن النقطة التي تبقى موضع الجدل هو كيفية أو آلية الفهم بين الحيوان والإنسان؟ ولندخل في الموضوع مباشرة فلكي نفهم الحيوان نحتاج لمعرفة بيولوجيا الحيوان، ولكن لفهم الإنسان لا تكفي الخريطة البيولوجية. ربما تساعدنا البيولوجيا لفهم وظائف الأعضاء كي نتمكن من معالجة الأمراض، ولكن البيولوجيا تساهم بشكل جزئي وبسيط في فهم الإنسان في جانبه الثقافي والاجتماعي. فحتى نفهم الإنسان نحتاج إلى معرفة التاريخ؛ فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عنده تاريخ، فالقطط والنمل والنحل لا تتمتع بميزة امتلاكها التاريخ؛ فهذه المخلوقات لها غرائز تمشي عليها منذ ملايين السنين على وتيرة واحدة ونظم منسق، لا تعرف التحويل والتبديل، وربما كانت مجتمعات النمل والنحل متجانسة وذات إنتاجية أفضل بكثير من المجتمع الإنساني؛ إلا أنه مجتمع راكد ساكن بدون تطور عبر التاريخ؛ في حين أن الإنسان عاش في الكهف قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده، ونفس المخلوق وصل إلى القمر قبل عدة سنوات؛ فالحيوانات تعيش بغرائزها وكأنها قطار على سكة الحديد لا يحيد، في حين أن الإنسان يخرج عن هذه السكة فيقفز منها ويطير عنها؛ فالمخلوق الذي يمشي على خط مرسوم له، ليس كالمخلوق الذي يشارك في صنع خطة، وهذه المشاركة هي أمانة الإنسان الكبرى التي أشار إليها القرآن؛ فالنمل والنحل والجبال والرياح اختارت أن لا تحمل هذا الثقل؛ فكل المخلوقات عدا الإنسان شاءت أن تسير وفق الخطة التي رسمت لها في الطبيعة، في حين أن الإنسان اختار أن يحمل أمانة ومسؤولية المشاركة في صنع خطته (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). التاريخ هو انعكاس لمحاولة الإنسان وهو يحمل الأمانة الثقيلة فيقع تارة وينهض أخرى، ينتعش أحياناً ويعاني أخرى؛ ففهم الإنسان يحتاج إلى معرفة مسيرة تاريخه المعقدة والمتشعبة وإن كانت حديثة العهد نسبياً. لماذا اعتبر هذا الموضوع جديراً بالبحث والاهتمام به؟ لأنه أن لم تعرف بعض الركائز التي يجب الوقوف عليها فلن نستطيع أن نفهم الإنسان بل ولن نقترب في كيفية فهمه، وبالتالي فلن نستطيع المساهمة في حل مشاكلنا كمجتمعات وأفراد، وهذا بالتالي معناه أننا مازلنا ظالمين لأنفسنا في اختيارنا لحمل هذه الأمانة الثقيلة. والآن مالفرق بين البيولوجيا والتاريخ...بين البشر والإنسان؟  ناقش المفكر الإسلامي علي شريعتي الفرق بين مصطلحي بشر وإنسان فالبشر (كينونة) أما الإنسان فهو (صيرورة) فقال أن جميع الناس متساوون في بشريتهم أي في كونهم من جنس البشر ولكنه ليسوا متساوين في الإنسانية لأن الإنسانية هي حالة من (الوعي) ولا تدل على جنس المخلوقات فالكل يولد بشراً ولكن (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) أي لا تعلمون الإنسانية فالبشرية بيولوجية وتولد معنا ولكن يجب أن نتعلم الإنسانية وهي مرتبطة بالحياة في مجتمع فالطفل الذي لا يرى أناساً آخرين ويعيش معهم لا يدخل الإنسانية ولتوضيح هذه النقطة سأروي لكم عن قصة (أفيرون الوحشي) هذا الطفل المسكين الذي كان بشراً ولكن لم يعرف الإنسانية ففي بدايات القرن العشرين وجد بعض الناس طفلاً في إحدى غابات فرنسا في حوالي الثانية عشرة من عمره ويبدو أن هذا الطفل ألقي أو ضاع في الغابة وعاش مع الحيوانات ووجد فيه العلماء ثروة علمية لا تقد فأرادوا دراسته ومراقبة قدرته على تعلم الأشياء كان الطفل يمشي على أربع ولم يكن يعرف الكلام وبعد جهود مكثفة انتصب قليلاً ولكنه لم يستطيع تعلم اللغة بل تعلم بعض الأصوات ولم يلبث أن توفي بعد أسابيع قليلة فيبدوا أن صدمة خروجه من محيطه قضت عليه فهو لم يعد في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع الدخول في المحيط الجديد هذا الطفل كان أشبه ما يكون بالحيوانات فنحن نقول هذا لأننا لا نرى فيه صفات إنسانية ولو نطقت الحيوانات لقالت هذا أسوأ من الحيوانات فهو لا يعرف كيف يأكل أو ينظف نفسه أو يدافع عن كيانه أما الحيوانات والحشرات فهي تعرف كيف تتصرف أينما عاشت أو ولدت وربما يتساءل البعض إذن ما هي الطبيعة البشرية؟
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram