نحن نعرف عن الكثير من الكوارث خاصة تيتانيك التي مثلت فيلما. لكن سفينة تضم أضعاف غرق التيتانيك من الألمان الهاربين من الشرق يقترب عددهم من تسعة إنسان أغرقهم طوربيد روسي في ظروف الحرب العالمية الثانية. وأما كارثة الهاربين السوريين إلى النمسا بشاحنة مغلقة ليختنقوا فهي واحدة من العشرات، وشقيق صهري هرب إلى السويد في ملحمة رائعة اجتاز فيها حدود 14 دولة قبل أن يستقر مع الدببة في الشمال الأوربي الصقيع كله هربا من طاغية دمشق. وقصص الهاربين من الشمال الأفريقي تتكرر كل يوم بحثا عن حياة أفضل، فالبشر يتناسلون ويحتاجون صحة وتعليم ووظائف وبيوت فيها يسكنون. ولكن الشفارة (لصوص العالم العربي) هم أقرب للجراد الذي يأكل الأخضر واليابس فلم يبق مواطن ومواطنة بل لصوص وهاربون.
ومن القصص الأليمة التي وقعت تحت يدي فأحببت نقلها إلى القراء هي ما أطلقت عليه تيتانيك رقم 2 وهي مما روته الدكتورة كريستينا كاتانيو (Cristina Cattaneo) من قسم الطب الشرعي، في (جامعة مايلاند) في جزيرة صقلية، قرب مدينة ميليلي (Melilli) التي انهمكت ولمدة 12 ساعة، في تحري الجثث أمامها لتحديد أصحابها؟
هذه التوابيت والأجساد النخرة تعود لأكبر كارثة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية. حيث غرق زورق يحمل المناكيد الهاربين من أفريقيا نحو الجنة المزعومة في أوربا.
الكارثة التي حملت إلى أعماق المياه الباردة وبطن سمك القرش أخذت أرواح أكثر من 800 إنسان مسكين فقير لم يسأل عنهم أحد إلا أهلوهم، التي دفعت الحكومة الإيطالية بعد مرور عام على الكارثة في رصد ميزانية لانتشال الزورق والجثث، أو ماتبقى منها لمعرفة أصحابها.
عبد الله صديقي من (مركز أحد أولاد أزباير) في المغرب الأقصى قرب مدينة تازة في أقصى الشرق المغربي قال عن صديق له أنه أرسل آخر صورة له (فيديو مسجل) قبل أن يأخذه اليم وهو مليم، ولكن الكثرة الكاثرة من الضحايا لم يسعفهم حظهم وجيبهم، في اعتلاء متن الزورق بل زربوا زربا في بطن القارب، الذي ليس فيه مكان للحيوانات فضلا عن أناسي كثيرة.
بدأت الرحلة التعيسة من شاطيء ليبيا مع نسمات السحر حيث شحن المقرودين على ظهر قوارب مطاطية بالمئات إلى عرض البحر على بعد 8 كم تحت الحراسة المشددة من مهربين ملثمين مسلحين حتى الأنياب.
وانطلقت الرحلة اللامباركة والقوم يحلمون أنهم في ساعات سيكونون في أرض القياصرة، ولم يعلموا أن مصيرهم سيكون في بطن الحوت.
بعد 13 ساعة من الإبحار حل الظلام وليس ثمة بصيص أمل في الأفق، ولا منظر اليابسة (تيرا .. تيرا) فأطلق اثنان من المهربين صرخة انقذوا ارواحنا (SOS) فأرسلت البحرية الإيطالية خلف من هو الأقرب لهم، ولم يكن ثمة إلا شاحنة كبيرة (147م) باسم الملك يعقوب؟
بعد ساعتين ظهر زورق اللاجئين على الرادار، ولكن ثمة حركة خاطئة في انتظار التعساء. فما الذي جرى؟
قال من نجا ورأى سكرات الموت أن الزورق عجل بحركته إلى الشاحنة الكبيرة فارتطم؛ فكان لهول الصدمة صداها وهزتها عند الركاب المحمولين بالكاد؛ فأصيبوا بالهلع فهربوا من مكان الارتطام بالمئات إلى الطرف المقابل، وإذ لم يكن ثمة توازن في قارب تهريب من هذا النوع؛ فقد مال، وأصابه ما أصاب التيتانيك فمال وهوى إلى القاع في خمسة دقائق.
هنا وفي زحمة الهول كان المئات قد زربوا في القاع؛ فلم يكن ثمة نجاة، وأما من كان على السطح فرمى بنفسه فهلك 24 وسبح 28 فنجوا، أما بقية القوم فقد أصبحوا في عمق 370 مترا يحوم حولهم سمك القرش الصاخب الشاره. وهناك حيال ساحل ليبيا على بعد 135 كم كانت المقبرة الأولى فمستقر ومستودع.
أنفقت الحكومة الإيطالية 9,5 مليون يورو لانتشال الزورق، بواسطة روبوت الأعماق بيجاسو (Pegaso) بعد أن حقن بمادة النشادر حتى تبرد الجثث بدرجة 5 فلا تزكم رائحتها الأنوف، وجاءت طبيبة التدقيق الشرعي (كاتانيو) ولمدة 12 يوما وليلة، وهي تقلب في الجثث، ذات اليمين والشمال، هل من رسم على الجلد؟ هل من بصمة؟ هل من ندبة؟ هل ثمة مايدل على صاحبها قبل المثوى الأخير؟.
وتتوقع الطبيبة في الطب الشرعي الانتهاء من تعيين هويات الموتى مع الوقت؟.
وللعلم فإن جزيرة صقلية حوت من القبور المجهولة الكثير ربما مذكرة بحملة هانيبال وتمرد سبارتاكوس أو ربما العراب الحديث ؟ وتقول الانثروبولوجية جيورجيا ميرتو (Giorgia Mirto) و سيمون روبينز (Simon Robins) من جامعة يورك (بريطانيا) إنه أمر لايليق بهؤلاء المساكين القاصدين الأرض الأوربية أن يدلفوا إلى مستودعات النسيان، بل لابد من وضع بنك معلومات حول هؤلاء الفارين؛ فهم ليسوا وحدهم بل ضاع في غمرات الموج عشرات الآلاف في البحر المتوسط، بين عام 2014 واليوم، لم يتم التعرف على هويات أصحابها إلا الثلث، ولقد أحصي غرق 1229 شخصا فقط في أسبوع واحد. وكل هذه المأساة خلفها الحكومات الديكتاتورية وسكوت الغرب عليهم لمصالح يجنونها!
لقد مثل فيلم وفيلم حول غرق التيتانيك لأنها تمت بصلة إلى الجنس الأبيض والطبقة الارستقراطية، أما الأفارقة الفقراء فلا باكي لهم.
اقرأ المزيد
سافر صديق لي قبل فترة وترك قطته عندنا في البيت، وكنت أعلم أن هذا القط أخذ من أمه ولم يكن زاد عمره عن أيام وعاش منذ ذلك الوقت مع البشر لكنه كان قطاً مثل باقي القطط، يأكل مثلهم ينظف نفسه مثلهم ويطارد الحشرات ويحاول ملاحقة الطيور، ولو وجد فأراً لا نقض عليه مثل أي قط آخر؛ فالقط المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن تتفاوت طبيعتهم، والقط لا يخسر طبيعته عندما يعيش لوحده بمعزل عن قطط أخرى؛ في حين أن الإنسان المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن يتشابها في التصرفات أو النظرة إلى الأمور، والطفل البشري لا يتعلم الإنسانية إلا بمعاشرته لأناس آخرين.
لماذا أتحدث عن الفرق بين الإنسان والقطط أو الإنسان والحيان عموماً؟ الكل يتفق على أن هناك فرقاً بين الإنسان والكائنات الأخرى، لكن النقطة التي تبقى موضع الجدل هو كيفية أو آلية الفهم بين الحيوان والإنسان؟ ولندخل في الموضوع مباشرة فلكي نفهم الحيوان نحتاج لمعرفة بيولوجيا الحيوان، ولكن لفهم الإنسان لا تكفي الخريطة البيولوجية. ربما تساعدنا البيولوجيا لفهم وظائف الأعضاء كي نتمكن من معالجة الأمراض، ولكن البيولوجيا تساهم بشكل جزئي وبسيط في فهم الإنسان في جانبه الثقافي والاجتماعي.
فحتى نفهم الإنسان نحتاج إلى معرفة التاريخ؛ فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عنده تاريخ، فالقطط والنمل والنحل لا تتمتع بميزة امتلاكها التاريخ؛ فهذه المخلوقات لها غرائز تمشي عليها منذ ملايين السنين على وتيرة واحدة ونظم منسق، لا تعرف التحويل والتبديل، وربما كانت مجتمعات النمل والنحل متجانسة وذات إنتاجية أفضل بكثير من المجتمع الإنساني؛ إلا أنه مجتمع راكد ساكن بدون تطور عبر التاريخ؛ في حين أن الإنسان عاش في الكهف قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده، ونفس المخلوق وصل إلى القمر قبل عدة سنوات؛ فالحيوانات تعيش بغرائزها وكأنها قطار على سكة الحديد لا يحيد، في حين أن الإنسان يخرج عن هذه السكة فيقفز منها ويطير عنها؛ فالمخلوق الذي يمشي على خط مرسوم له، ليس كالمخلوق الذي يشارك في صنع خطة، وهذه المشاركة هي أمانة الإنسان الكبرى التي أشار إليها القرآن؛ فالنمل والنحل والجبال والرياح اختارت أن لا تحمل هذا الثقل؛ فكل المخلوقات عدا الإنسان شاءت أن تسير وفق الخطة التي رسمت لها في الطبيعة، في حين أن الإنسان اختار أن يحمل أمانة ومسؤولية المشاركة في صنع خطته (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).
التاريخ هو انعكاس لمحاولة الإنسان وهو يحمل الأمانة الثقيلة فيقع تارة وينهض أخرى، ينتعش أحياناً ويعاني أخرى؛ ففهم الإنسان يحتاج إلى معرفة مسيرة تاريخه المعقدة والمتشعبة وإن كانت حديثة العهد نسبياً.
لماذا اعتبر هذا الموضوع جديراً بالبحث والاهتمام به؟ لأنه أن لم تعرف بعض الركائز التي يجب الوقوف عليها فلن نستطيع أن نفهم الإنسان بل ولن نقترب في كيفية فهمه، وبالتالي فلن نستطيع المساهمة في حل مشاكلنا كمجتمعات وأفراد، وهذا بالتالي معناه أننا مازلنا ظالمين لأنفسنا في اختيارنا لحمل هذه الأمانة الثقيلة.
والآن مالفرق بين البيولوجيا والتاريخ...بين البشر والإنسان؟
ناقش المفكر الإسلامي علي شريعتي الفرق بين مصطلحي بشر وإنسان فالبشر (كينونة) أما الإنسان فهو (صيرورة) فقال أن جميع الناس متساوون في بشريتهم أي في كونهم من جنس البشر ولكنه ليسوا متساوين في الإنسانية لأن الإنسانية هي حالة من (الوعي) ولا تدل على جنس المخلوقات فالكل يولد بشراً ولكن (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) أي لا تعلمون الإنسانية فالبشرية بيولوجية وتولد معنا ولكن يجب أن نتعلم الإنسانية وهي مرتبطة بالحياة في مجتمع فالطفل الذي لا يرى أناساً آخرين ويعيش معهم لا يدخل الإنسانية ولتوضيح هذه النقطة سأروي لكم عن قصة (أفيرون الوحشي) هذا الطفل المسكين الذي كان بشراً ولكن لم يعرف الإنسانية ففي بدايات القرن العشرين وجد بعض الناس طفلاً في إحدى غابات فرنسا في حوالي الثانية عشرة من عمره ويبدو أن هذا الطفل ألقي أو ضاع في الغابة وعاش مع الحيوانات ووجد فيه العلماء ثروة علمية لا تقد فأرادوا دراسته ومراقبة قدرته على تعلم الأشياء كان الطفل يمشي على أربع ولم يكن يعرف الكلام وبعد جهود مكثفة انتصب قليلاً ولكنه لم يستطيع تعلم اللغة بل تعلم بعض الأصوات ولم يلبث أن توفي بعد أسابيع قليلة فيبدوا أن صدمة خروجه من محيطه قضت عليه فهو لم يعد في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع الدخول في المحيط الجديد هذا الطفل كان أشبه ما يكون بالحيوانات فنحن نقول هذا لأننا لا نرى فيه صفات إنسانية ولو نطقت الحيوانات لقالت هذا أسوأ من الحيوانات فهو لا يعرف كيف يأكل أو ينظف نفسه أو يدافع عن كيانه أما الحيوانات والحشرات فهي تعرف كيف تتصرف أينما عاشت أو ولدت وربما يتساءل البعض إذن ما هي الطبيعة البشرية؟
اقرأ المزيد
النتيجة البعيدة وغير المباشرة لسقوط العاصمة البيزنطية:
في القرن الخامس عشر للميلاد سقطت بيزنطة وغرناطة بفاصل نصف قرن (1453م ـ 1492 م) ويبدو وكأن سقوط الحاضرتين كانتا لوحتان متعاكستان لوقائع متناقضة، فالقسطنطينية سقطت بيد الأتراك المسلمين، القوة الناهضة الجديدة، وغرناطة بيد الاسبان، رأس الحضارة الغربية المستيقظة، ولكن التحليل الأعمق يفضي الى تكامل الصورتين، والتحام السبب والمسبب؛ فسقوط العاصمة البيزنطية جاء جوابه في سقوط غرناطة، والاستجابة للضغط الجديد، عندما قُطعت طرق الشرق الأوسط الى الهند في وجه اوربا، فاستندت أوربا بكل ثقلها وظهرها الى المحيط (بحر الظلمات) ومن هذا الضيق جاء الفرج غير متوقع.
المحيط الاطلنطي (بحر الظلمات) وسواه من المحيطات كانت مناطق تفصل السكان والحضارات، فحضارات أمريكا لم تتصل ببقية حضارات العالم ونمت لوحدها بطريقتها الخاصة، ولكن مع تطوير السفن العابرة للمحيطات على يد الملاحين العرب، تحولت هذه المحيطات الى جسور اتصال. ويمكن تشبيه السفن الجديدة عابرة المحيطات، مايشبه سفن الفضاء الحالية، بكل انجازاتها التكنولوجية الرائدة.
البحر المتوسط بحر مغلق لايشابه بحر الظلمات (المحيط الاطلنطي) فسفن المحيط يجب أن تزود بتقنية ملاحية جديدة وآلات قياس ومعرفة متقدمة من خلال خرائط لاتجاهات الرياح وتيارات البحر، ومعرفة بأمراض البحر الناجمة عن السفر الطويل لأشهر متواصلة (مثل دراسة تكيف الانسان اليوم للبقاء فترة طويلة في القمرات الفضائية) وتزويدها بالمدافع والاسلحة الكافية والمناسبة لمقاومة انقضاض القراصنة، وخزانات المياه الكافية، وأطعمة تحفظ لفترة طويلة (تم اكتشاف الفيتامينات ومعرفة مرض الاسقربوط بنقص الفيتامين سي ـ C في الجسم بعدم تناول الخضراوات والفواكه الطازجة لفترة طويلة) وبواسطة سفينة المحيط العربية والحصان العربي، تم اقتحام قارات العالم الجديد، وضُم الى ممتلكات أوربا أربع قارات جديدة بمساحة تزيد مرتين عن مساحة سطح القمر، وآلاف الجزر الغنية في المحيطات اللامتناهية. لقد كانت الهجرة والاستكشاف للغربيين الفقراء مفيدة حقاً.
وعندما تقدم الاستعماري الاسباني المدعو (هيرناندو كورتس) لابادة حضارة الازتيك وخنق مليكهم واستباحة عاصمتهم الجميلة فوق بحيرة غناء، كان السلاح الحاسم الذي ظهر الى الساحة الذي أربك الهنود الحمر وأثار فزعهم، هو الحصان العربي ولكن التاريخ يسجل ظهور الحصان العربي بدون فارسه.
كان الاسبان يدفنون الحصان الميت سراً حتى لايتبادر الى ذهن الهنود إمكانية موت هذا الكائن. وظهر الفارس الاسباني مثل أسطورة نيسوس اليونانية، ذلك الكائن الخرافي الجبار، قطعةً واحدةً بجسم حصان ورأس انسان، كما حصل مع الهكسوس في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، حينما اجتاحوا الحضارة الفرعونية العريقة بالحصان المدجن، ولم يتخلص المصريون من حكم الهكسوس الا بعد مائتي عام مريرة وبنفس سلاح الحصان، دبابة العصر القديم.
عندما تقدم الزحف الاسباني بعد سقوط طليطلة الى الجنوب كان همُّ الاسبان ومن بعدهم الانجليز، وضع اليد على المضائق فهي شرايين الحضارات القديمة، ومفاتيح التحكم، ومصادر الثروة والقوة.
في القرن السادس عشر تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، على الرغم من هزيمة الأتراك البحرية في معركة ليبانتو 1571 م، وبرز قواد بحريون أتراك مشهورون من أمثال خير الدين برباروسا وتورغود، ينزلون الرعب في مفاصل وقلوب الأوربيين فترتبط أسماءهم في الذاكرة الجماعية الغربية بالقرصنة (9)
لكن الاسبان والبرتغاليين شقوا طريقهم الى عنق البحر المتوسط عند رأس جبل طارق ثم قفزوا الى الشاطيء المغربي، فاستولوا على سبتة ومليلة ومازالوا، وبذلك أحكمت المدفعية الاسبانية قبضتها على المضيق، فحبست العالم العربي عملياً في زنزانة البحر المتوسط، وقطعت الطريق على أية انطلاقة عربية الى بحر الظلمات، وعندما اُكتشف العالم الجديد وحصل النزاع البرتغالي الاسباني، حله البابا (حبياً) فقسم العالم بينهما الى نصفين بالتساوي بكل بساطة. وخسرنا المحيط والى الأبد على مايبدو.
خسارة المحيط وآثاره المأساوية وبداية انطلاقة الغرب قبل خمسة قرون:
على الرغم من وجود السفينة العربية العابرة للمحيطات، وعلى الرغم من إمكانية الوصول للقارات الجديدة التي وصل الى بعضها التجار العرب المسلمون كما في اندنوسيا ومالقا واليابان، فإن التوجه للعالم الجديد فات الحضارة العربية، وبه دشن عصر جديد حقاً.
إن اختراق المحيط على يد المغامرين المستكشفين أولاً، ثم جموع الفلاحين الاوربيين الفقراء لاحقاً، كان استجابة للضغط العثماني في الشرق، بمحاولة الهرب باتجاه الغرب، تحت إغراء رائحة التوابل العطرة، تمولهم الشركات الاستعمارية بالمال والسلاح لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين واستبدالها بالعرق المتفوق الجديد، على الرغم من وجود مكان كاف للغازي والمغزو، ولكن سيطرة روح التطهير العرقي كانت أقوى جاذبية.
كان هذا التوجه بركة عليهم، لأن العالم القديم المكون من ثلاث قارات قفز مرة واحدة الى سبعة، منها أربع قارات جديدة أُضيفت الى ملك ريتشارد قلب الأسد وأحفاده، في الأمريكيتين واوستراليا ونيوزلندا والقطب الجنوبي. ومع تدفق الذهب من المكسيك وفلوريدا، والفضة من البيرو، وفي مدى قرن واحد، تدفقت دماء ثمانين مليون من السكان المحليين، وتم تفريغ مائة مليون من سكان أفريقيا، لزرعهم كآلات عضلية في مزارع العالم الجديد لرفاهية الرجل الأبيض، في أعظم مذبحة عرفها الجنس البشري، لم يكشف عنها النقاب الا منذ فترة قريبة كما في فيلم (يرقص مع الذئاب) وكتاب (فتح أمريكا ـ مسألة الآخر) لاستاذ السوربون (تزفيتان تودوروف).
كانت الموجة الأولى لاقتحام المحيط لاتينية (برتغال واسبان) لم تلبث أن أعقبتها الموجة الجرمانية (الانجلوساكسون) من الانجليز والألمان، بفعل القصور الذاتي والتعصب الديني وعدم تطوير النظام البرلماني في البيئة اللاتينية، باستثناء فرنسا التي عوضت تأخرها مع انفجار الثورة الفرنسية وانفجار الحرية الفكرية ومنظومة القيم الجديدة معها، التي تخلصت من الكنيسة والاقطاع في ضربة واحدة موفقة، وشقت الطبقة الوسطى البورجوازية الطريق الى الديموقراطية الجديدة بين توازن رأس المال وطبقة العمال. أما الصنف الأوربي الثالث (السلاف) فقد بقوا بعيداً عن غارة المحيط فدفعوا ثمن تأخرهم، كما رأينا في الصرب الحاليين الذين يذكروننا بعقلية صليبيي القرون الوسطى.
اقرأ المزيد
في عام (1099 م) قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفاً من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الاسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب. ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي (تدمير بغداد 1258م) وذراع الكماشة الغربي كانت أوربا الفقيرة القذرة. فأما الاعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله الى رصيد اسلامي (النهضة التيمورية في الهند) وأما ذراع الكماشة الغربي فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيراً، ولعله لن يعرف في المستقبل حرباً تدوم (171) عاما بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوربا الأميُّون. يضاف لها حملة ثامنة عام 1948 ببناء مملكة بني صهيون.
وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الاسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت، ولكن من زاوية لاتخطر على بال أحد، ولاتوحي مظاهرها بذلك.
سقوط مدينة طليطلة كمؤشر لانكسار الميزان التاريخي:
إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاماً (1085 للميلاد) عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية ( طليطلة ـ توليدو حالياً TOLIDO) بيد الفونسو السادس بعد حصار دام سبع سنوات. وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقاً على عروشهم البئيسة أمام الزحف الاسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب الى الدولة القوية المرابطية جديدة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين (يوسف بن تاشفين) ليقول المعتمد بن عبَّاد حاكم اشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الاسبان وسنديان المرابطين: إن لم يكن بد من التحول الى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الاسبان.
كان (المعتمد بن عبَّاد) شريفاً على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي. وبقي قبره في (أغمات) خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي .. مات (المعتمد) قهراً وغماً في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده (اعتماد) التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب.
معركة (الزلاقة) وأثرها في مصير الجزيرة عام 479 هـ ـ 1086م:
في عام (1085 م) سقطت (طليطلة) وفي عام (1086 م) كان سيف العجوز يوسف بن تاشفين ذو الثمانين عاماً، ينزل كالصاعقة على رؤوس الاسبان فيحطم تجمعهم في معركة (الزلاَّقة) ولكن ابن تاشفين يدرك فوراً بعد دخوله الجزيرة أنه لن يستطيع إيقاف مسلسل الأحداث، وأن المسلمين خسروا زمام المبادرة التاريخية، فالجسم الاسلامي مريض، وطليطلة لا أمل في استعادتها، وأبناء الجزيرة الاندلسيين تحولوا الى أيتام في مأدبة اللئام، وكان المرض الأموي القديم قد فعل فعله وآتى أكله أيضاً في الجزيرة، منذ أن نجح في إيقاف المسيرة الراشدية في العالم الأسلامي، وتحويل الدولة الاسلامية الى امبراطورية بيزنطية، فاستوى المرض وبدأ الجسم الاسلامي في الترنح والسقوط، بفعل انهيار جهاز المناعة الداخلي قبل الهجوم الاسباني بفترة طويلة.
معركة (الزلاقة) في عام 479 هـ الموافق 1086م التي دارت رحاها على حدود دولة البرتغال الحالية، حَجَّمت الامتداد الاسباني ومسحت دول الطوائف الهزيلة التي عاشت لجيلين لمدة ثمانين عاماً (399هـ ـ 479 هـ) في ضربة واحدة، وفرملت السقوط النهائي للاندلس لمدة أربعة قرون لاحقة، حتى جاء موعد كسوفها مع كريستوف كولمبس عام 1492 م.
بعد سقوط طليطلة صمدت الجزيرة حتى مرحلة وفاة الفيلسوف (ابن رشد) الذي مات عام 1198م للميلاد بعد أن كافأه أهل مدينته بالطرد مرتين، مرةً من المسجد هو وابنه وكانت من أحزن ما لاقاه، ومرة بنفيه الى قرية (الليسانة) اليهودية، ليقضي فيها بقية عمره وهو في السبعين من العمر.
وعندما نضب العقل الاسلامي الجماعي الى هذا القدر الحزين، جاءهم الطوفان الاسباني هذه المرة، ليمسح مدينة قرطبة بالكامل بعد موت الفيلسوف بجيل واحد فقط ( 1238م)، وليطرد أهل قرطبة كلهم من المسجد، ويُدخل في مسجدها الجامع بشكل محشور عجيب، مثل الشوكة في اللحم. كنيسة مصطنعة لايصلي فيها أحد ومسجد يؤمه السواح فقط.
كل من يمر اليوم في قرطبة يبكي عند المحراب الذي لايصلي فيه أحد، والكنيسة الخرساء التي يحدق فيها السواح الأوربيون بنظرة بلهاء بدون معنى، ويتأمل العربي المسلم وجوه أهل قرطبة فيتذكر أهل دمشق. قبل توحلها وتحولها إلى مملكة قرود. هذه المرة لايسمع اللغة العربية ولا الأذان ويتعجب من اختفاء أمة كاملة من خريطة الوجود.
نقطة التحول التاريخية (منتصف القرن الثالث عشر الميلادي)
إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الاسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الاسلامي (اشبيلية) وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد الحصادة المغولية القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزَّار دموي من طراز (هولاكو) يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لايعرفن ضوء الشمس.
وكما جلس العباسيون على جثث الأمويين النازفة المغطاة بالسجاد، يأكلون عشاءً فاخراً، ويشنفون آذانهم بسماع ألحان حشرجة أنات الموتى الأخيرة، فإن حياة آخر خليفة عباسي كانت في كيس (خنشة = جوال خيش) يقضي نحبه على نغم طبل مختلف، بالخنق والرفس بالأقدام، ويساق الوزراء وأعضاء الأسرة الحاكمة والأعيان والفقهاء الى مقبرة المنظرة فيذبحون كالشياه، وتنعي بغداد يومها حوالي ثمانمائة ألف قتيل، وتتحول أكوام الكتب الى جسر يصلح لمرور الجندي التتري على نهر دجلة. إن التدمير المغولي خاصة لشبكة الري في جنوب العراق، والذي قامت عليه حضارة سومر، لم يصلح حتى يومنا الحالي.
اقرأ المزيد
الادوات المعرفية التاريخية:
حتى تفهم أحداث التاريخ لابد لها من الربط الكرونولوجي وإدخال عنصر الحركة فيها، مستخدمين آليات التفكيك والتحليل التاريخية التي لاتعتمد منهج النقل فقط، واستخدام الادوات المعرفية التاريخية، حتى يمكن الوصول أو بكلمة أدق الاقتراب من سر التاريخ المغيب ضمن أحداث حفظت في أوراق وملفات أكلها البلى، وتلعب السينما دورا حيويا في الوصول فهم رائع من هذا النوع.
وعندما يستعرض الكاتب النيهوم خسارة شبه الجزيرة الايبرية فإنه يحلِّل آثارها على الشكل التالي: (إن العرب لم يخسروا اسبانيا كما يقال في كتب التاريخ، بل خسروا المحيط كله، ومعه الامريكيتين واستراليا ونيوزيلندا وآلاف الجزر وجميع ممرات التجارة الدولية، وقد حشرتهم مدافع الاسبان وراء مضيق جبل طارق؛ لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد، ويروا الفلاحين الاوربيين يبحرون بسفن عربية وخرائط عربية الى عصر آخر في عالم جديد، وعندما نزلت فرقة الخيالة الاسبانية في المكسيك، وتقدم المدعو (كورتيز) لابادة الهنود أكثر من سواه، كان على التاريخ أن يسجل بهدوء، أن الحصان العربي قد وصل الى أمريكا، لكن فارسه العربي لم يصل؟!! وخلال الثلاثمائة سنة التالية كان العرب يقضون عقوبة الحبس وراء مضيق جبل طارق، مثل مارد مسحور في قمقم، وكان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للمسلمين، ولفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية مالبثت أن اجتاحت العالم بقاراته السبع، ووضعتها جميعا تحت ادارة راسمالية واحدة، لاول مرة في تاريخ العالم والادارة معاً) ليصل في النهاية الى رسم صورة العالم في العصر الفيكتوري:
(الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 م تقريرا عن وضع الامبراطورية يقول لها مباهيا: سهول روسيا وأمريكا الشمالية هي حقول قمحنا. شيكاغو وأوديسا هي مطاحن غلالنا. كندا والبلطيق غابات أخشابنا. استراليا مراعي خرافنا. أودية أمريكا الغربية مراعي أبقارنا. مناجم البيرو تغدق علينا الفضة. استراليا وجنوب أفريقيا مناجم لذهبنا. الهندوس والصينيون يزرعون لنا الشاي والقهوة. الانديز تزرع لنا السكر. اسبانيا وفرنسا عرائش أعنابنا. بلدان البحر المتوسط حدائق ثمارنا. أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة)(8)
المهمة التي تواجهنا هي فهم أحداث التاريخ بشكل ديناميكي جدلي، ومن خلال رؤية فلسفية عميقة لآليات الصراع الانساني، فالأحداث لاتولد من فراغ ولاتتشكل عبثاً وبدون خلفيات من الانجاز التاريخي.
فلسفة ولادة الحدث التاريخي
حتى يمكن فهم الأحداث التاريخية لابد من القيام بأجراء تحليل تاريخي، لإدراك العوامل الخفية والعميقة التي قادت لتشكيل هذا الحدث. فكل حدث هو في علاقة جدلية في عدة مستويات. كونه سبباً ونتيجة بنفس الوقت، نتيجة لما قبله، وسبباً لما سيأتي بعده، وكونه في وضع (مجموعة) من العناصر (المركبة) بين تفاعل العناصر الداخلية والخارجية، وليس ولادة لحدثٍ مفردٍ يتيم، وكونه في حالة (ديناميكية) فحتى يولد ويبرز أي حدث الى العيان ، فلابد من (تفاعل) مجموعة من العناصر بكمٍ وكيفٍ معينين، وكونه يولد بشكل أساسي بعد أن مهدت العناصر الداخلية في تشكيله.
الارتطام الحضاري الحزين
عندما وضع كولومبوس أقدامه في جزيرة اسبانيولا (جمهوريتي هايتي والدومينيكان حالياً) لم يدر في خلده أبداً مأساة الارتطام المروع الذي سيحدث بعد هذا اللقاء ويقود الى افناء مائة وثمانين مليون من البشر، في كارثة انسانية لم يكشف اللثام عنها بعد، في موت ثمانين مليون من أبناء القارتين الامريكيتين قبل أن يختم القرن السادس عشر، وإبادة مائة مليون من السود من أفريقيا، في عمليتين دمويتين الى أبعد الحدود، الأولى بالتفريغ والثانية بالشحن على ظهور السفن لاستحداث مزارع الرجل الابيض في الارض الجديدة ومد أوربا بالغذاء والذهب.
هذا اللقاء الحضاري غير المخطط له، وهذا الارتطام بين حضارات العالم القديم والجديد قاد الى تدمير حزين لكامل الحضارات الموجودة في الامريكيتين، في عملية عنيفة لاقصى الحدود لم تعرف الرحمة، فتم القضاء الكامل على حضارة الازتيك والانكا والمايا والهنود الحمر، في عملية يعجز عنها الشيطان الرجيم.
العالم القديم منح اسم العالم الجديد. شعوبه أُبيدت. وحضارته دمرت بالكامل وسويت بالارض، ولغته لم يعد يتحدث بها أحد، وكتبه يحاول علماء الفللوجيا حتى اليوم فك ألغازها فيما تبقى من كتب قليلة للاهتداء الى سرها، وأهم من كل هذا انقلاب الميزان التاريخي لصالح الغرب، فهذا الانقلاب الصاعق المزدوج في تبدد الهيمنة الاسلامية في العالم، وصعود القوة الغربية للامساك بمقود الحضارة العالمية فيما يسمى الدول الصناعية السبع، كلها بدأت برحلة رجل خرافي متعصب يؤمن بالاساطير أكثر من العلم، ويسجل خيالات فكرية أقرب الى الهذيان، ولكن كل هذا لايعني شيئاً البتة. الشيء المهم أن هذا الرجل أحدث زلزالاً في التاريخ الانساني من حيث يشعر أو لايشعر، فهو الذي فتح فتحة في سد يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون وقارات بأكماها يستعمرون.
اقرأ المزيد
خسارة المحيط وآثارها المأساوية
الخطوة الجريئة التي قام بها الدون كريستوبال كولون والتي تحتاج الى مزيد من التحليل، في كيفية كسره حاجز الخوف من اجتياز بحر الظلمات، التي كانت نفس الملكة الاسبانية مقتنعة به عندما قالت له: إن الناس يقولون إنه بحر لايمكن ارتياده فسكت وقال: ماذا كان يقول العرب عن غرناطة؟ أجابت الملكة بصوت خافت: إن غرناطة كالنسر في الجو لاتنال. ولكن التاريخ يخبرنا أن غرناطة سقطت من الجو جريحة تحت الحراب الاسبانية، وسلم عبد الله الصغير مفاتيحها في ذل مابعده ذل، ليخلد التاريخ مكان بكاءه (مكان الحسرة)(LA PLAZA DE FEURZA) وهو يطل على مدينته التي ودعها الى الأبد، كما يخبرنا التاريخ أن بحر الظلمات أخذ اسم المحيط الاطلنطي (ATLANTIC).
نقطتا التحجر ونتائجهما
في الواقع لم يخسر العرب شبه الجزيرة الايبرية بل خسروا المحيط واللعبة الكونية برمتها، فعندما كانت معارك الاسترداد الاسبانية ماضية في زخمها، تُبتلع الاندلس قضمة قضمة وقطعة بعد أن تهضم التي قبلها، كان صلاح الدين الايوبي يهزم الصليبيين في معركة حطين عام 1187 م ليسترد القدس في العام الذي بعده، يظن أن دورة الحروب الصليبية قد انتهت وكانت قد بدأت فعلاً، هكذا يخبرنا التاريخ في ثلاث انكسارات مشؤومة، في سقوط طليطلة واشبيلية وغرناطة (بين الأعوام 1085 م ـ 1248 م ـ 1492 م) ففي عام 1085 ميلادية كانت الحروب الصليبية قد بدأت في الجناح الغربي قبل أن تبدأ في الجناح الشرقي بأربعة عشر عاماً. في هذا العام سقطت مدينة طليطلة، العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية، لتبدأ الحروب الصليبية في المشرق بكل ضراوة عام 1099 م، في أعنف حرب عرفها الجنس البشري، وأشدها ضراوة، وأغزرها دما، وأطولها زمنا فقد استمرت 171 عاما (من عام 1099 حتى 1270 م)، وحسب المفكر المغربي (الهادي المنجرة) نقلا عن باحثة يابانية أنها كلفت حوالي مائة ألف قتيل مايعادل في أيامنا ربما أكثر من عشرة ملايين من الأنام؟ وفي عام 1086 م نجح المرابطون في إيقاف الفونسو السادس في معركة الزلاقة في نهاية القرن الخامس للهجرة الحادي عشر للميلاد ( 1086 م الموافق 479 للهجرة) وفرملة سقوط الاندلس أربعة قرون لاحقة. ولكن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يظهر انهياراً مأساوياً للعالم الاسلامي في جناحيه الشرقي والغربي، سجل ظاهرته الكاتب الفرنسي (لوي غارديه) في ظاهرة لم نتعافى من آثارها فنحن ندفع ثمنها مضاعفاً حتى اليوم في الصومال وأفغانستان وسوريا ولبنان والعراق وعبادان وتركستان.
يقول لوي غارديه: (ليسمح لنا بنوع من التنميط التاريخي. إننا نزعم أن هناك نقطتي تحجر وتجمد تتحكمان بهذه الحركة الانكفائية والدفاعية، حيث يتحصن العهد الحديث للعالم الاسلامي، هاتان النقطتان تقعان معاً في القرن الثالث عشر الميلادي وهما: من جهة الاستيلاء على اشبيلية سنة 1248 م من قبل الجيوش المسيحية الاسبانية، ومن جهة ثانية الاستيلاء على بغداد ونهبها من قبل جيوش المغول بامرة البوذي هولاكو سنة 1258 م، ولايعني هذا أن القرن الثالث عشر الميلادي؛ السابع الهجري هو عهد الانحطاط، ولكن هاتين الهزيمتين فتحتا بنوع من الانواع في تاريخ الشعوب الاسلامية ثغرة ماتزال تتفاقم) طبعا علينا أن نضيف إلى نقطتي التحجر بناء دولة بني صهيون عام 1948 ومن قبل تقطيع الجثة العثمانية عام 1928م بإعلان سقوط الخلافة على يد كمال أتاتورك (عفوا دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان فلما خر تبينت الجن الأوربي أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين!)
الانهيار بدأ قبل ستة قرون
إن هذه الثغرة التي اتسعت على الراقع، أدركها ابن خلدون في حس حضاري متميز فكتب في مقدمته عام 1408 م وهو يراقب سحب الظلام التاريخية القادمة من الأفق البعيد: (هذا الى مانزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وأوهن من سلطانها، وتداعت الى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها) ليخلص الى نتيجة منطقية في سبب عكوفه على كتابة هذه الظاهرة التاريخية وهذا الانقلاب الكوني الذي يستدعي التسجيل بشكل ملحِّ: (وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها)
اقرأ المزيد
الخلفية السياسية للصراع المذهبي
هذا الصراع يفتح أذهاننا لفهم أرضية الصراع المذهبي، فيعطي فكرة عجيبة خفية عن نشوء الفرق الدينية، التي تلعب السياسة دوراً كبيراً في تشكلها، فليست الاديان تفجر الحروب، بل النزاعات هي التي ترتدي ثوب الدين فتولد الصراعات، وفي البلقان تشكل عند هذا (الصدع) بالذات الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية، تحت خلاف مذهبي يكاد الانسان لايصدقه ( يتعرض الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه (محاضرات في النصرانية) الى جوهر الخلاف بين الكنيستين عند نقطة انبثاق الروح القدس، وهو خلاف ربما لو سألت اليوم اتباع كلا الكنيستين لما عرفوه، فتقول كلا الكنيستين بالتثليث ولكنهما اختلفا عند نقطة انبثاق الروح القدس فقالت الواحدة بانبثاقه من الآب والابن وقالت الثانية بانبثاقه فقط من الآب)، فالكروات تابعون لكنيسة روما، والصرب تابعون لكنيسة موسكو، التي كانت من قبل في القسطنطينية، قبل تحولها الى (استامبول) المحرفة من كلمة (اسلام بول أو اسلام بوليس)(ISLAMPOLIS) أي مدينة الاسلام، كما كانت من قبل (قسطنطين بوليس) أي مدينة الملك قسطنطين، الذي اعتنق المسيحية عام 325 م وأنشأها لتكون منارة إشعاع للديانة المسيحية في الشرق، فحولها محمد الفاتح عام 1453 م الى اسمها الجديد، بعد أن حافظت على كيانها الثقافي أكثر من ألف عام، خلافاً لروما التي دُمرت على يد قبائل الهون مبكراً عام 425 م، كما حوَّل محمد الفاتح كنيستها الشهيرة (أيا صوفيا) الى مسجد اسلامي في جو من عدم التسامح، الذي كان يسود العالم وقتها، ونسي فيه المسلمون الروح العمرية في تعامله مع كنيسة القيامة، عندما رفض الصلاة داخلها، حتى لايتخذها المسلمون ذريعة فيحولوها الى مسجد، وبذلك حافظت كنيسة القيامة على نفسها حتى اليوم، شاهداً على روح التسامح والتعددية في الاسلام. ولقد شاهدت أثر هذه الروح في مسجد قرطبة الرائع حيث حشر داخله على كنيسة غير متناسبة مع هندسة المسجد في الوقت الذي لم يبق أحد يصلي في المسجد أو الأندلس. يومها قمت بالأذان في محراب المسجد وعلى ظهري طفلتي أروى وقلت فلتنتعش عظام أهلها المغيبين في قبور التاريخ.
الابحار باتجاه المجهول عبر بحر الظلمات
هذا الانهيار الذي حدث للجناح الشرقي للعالم الغربي، أي انهيار بقايا الدولة البيزنطية عجَّل بأمرين، فسقطت غرناطة بعد 39 سنة من سقوط القسطنطينية عام 1492 م وشعر الغرب بالاختناق وانقطاع السبل أمامه الى الشرق، بعد أن تحول البحر المتوسط الى بحيرة عثمانية، تسيطر عليه دولة عظمى بمقاييس ذلك الوقت، وانقطعت الطرق البرية التي أصبحت تحت رحمة الجند العثمانيين، وانقلب الشرق الاوسط حتى تونس الى ولايات عثمانية، وتكفل القرصان (خير الدين برباروسا) ومساعده (تورغوت) بإدخال الرعب في مفاصل الاوربيين، وأخذت أوربا تفكر جدياً الآن باجتياج جديد من طراز معركة بلاط الشهداء (بواتييه) بعد أن قفزت قوة اسلامية فتية جديدة الى الساحة العالمية، عندما زحف العثمانيون ثلاث مرات الى قلب أوربا كانت ذروتها حملة الخريف من عام 1683 م. فلم يبق أمام الغرب الا أن يستند بظهره بكل قوة الى مخرج من هذه الأزمة الحضارية ولو بدخول بحار الشياطين وظلماته، فاخترقت أوربا بحر الظلمات مع كل إدراكها أنها تبحر الى المجهول، الى بحيرات تغلي ناراً، ومنحدرات تخطف السفن، وسيكلوبات (كائنات ماردة) بعين واحدة تفترس البشر.
الآثار الخطيرة الناجمة عن سقوط القسطنطينية
الضغط العثماني إذاً من الشرق الذي بدأ باجتياح الضفة الشرقية لأوربا وتدمير الصرب في معركة أمسل فيلد ومقتل ملكهم لازار الذي يحتفلون بذكراه كل عام حتى اليوم، ومروراً بسقوط القسطنطينية الذي أحدث دوياً مرعباً ارتجفت له مفاصل الغرب، وتابع الزحف العثماني مسيرته الى البقان، فترتب على الامتداد وسقوط القسطنطينية بوجه خاص أمورٌ في غاية الأهمية:
الأول: تحولت القوة العثمانية الى قوة عالمية مزدوجة الامتداد (أوربية آسيوية) وبدأت في الزحف باتجاه البلقان الذي سيسقط برمته بعد قليل في أيديهم ولمدة قرون.
الثاني: تحول حس الدفاع في دول أوربا المتنازعة بعدها للدفاع عن الميراث المسيحي كوظيفة مركزية، خاصةً بعد امتداد يد العثمانيين ثلاث مرات لحصار قلب أوربا (فيينا) انتهت الحملة الثالثة عام 1683 م على ماذكرنا، عندما كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية ويكتب كتابه الموسوم (المباديء الرياضية للفلسفة الطبيعيةPhilosophiea Naturalis Principia Mathematica)
الثالث: انتقلت الزعامة الدينية للكنيسة (الارثوذكسية) الى مركز آخر استمر حتى هذه الساعة وهو (موسكو) وهو مايفسر التعاطف التاريخي بين الصرب والروس باعتبار انتمائهما المشترك لكنيسة واحدة.
الرابع: هرب مجموعة كبيرة من العلماء الى ايطاليا، مما حرك الجو الفكري هناك، وساهم في قيام النهضة العقلية في أوربا، فمن ايطاليا بدأت النسمات الأولى لحركة التنوير، كما كانت بنفس الوقت خسارة للدولة العثمانية التي كانت قوة عسكرية ضخمة، ولكنها لم تكن ذات تألق عقلي وفكري متميز.
الخامس: ولعله أخطر ماحدث على الاطلاق، فلقد خسرت أوربا مع سقوط بيزنطة بوابة الدخول الى البحر الأسود، وهذا يعني بكلمة أخرى حرمانها من الاتصال بالهند، فعمدت الى اكتشاف طرق جديدة بعد أن قطع العثمانيون الطريق عليها، وأصبحت في وضعية المحاصر وظهره الى جدار الاطلنطي (بحر الظلمات) وليس هناك من تقنيات لاجتياز المحيطات، فكانت المحرض لاكتشاف الهند من الغرب وليس من الشرق، كما يلف الانسان لحك أذنه اليمنى باليد اليسرى، فكانت هذه الأزمة الأوربية نعمة عليها كما ظهر بعد ذلك ، لأن المسلمين سُجنوا خلف مضيق جبل طارق ، في زنزانة البحر المتوسط ، حين قفز الغرب لامتلاك أربعة قارات جديدة عبر المحيطات ، ولتصب كل كنوز الأرض في خزائنهم ، وليصبحوا مركز الثراء العالمي ، يُهرع إليهم كل من في جيبه قرش للادخار لديهم !! وما يتبعه من قيام الطبقة الوسطى والثورة الصناعية وبروز البورجوازية وقيام المؤسسات الدستورية وولادة الديموقراطية ، فكان انقلابا مريعا محزنا ، انكسر معه التوازن التاريخي بالكامل بيننا وبين الغرب.
السادس: ارتبط سقوط القسطنطينية مع سقوط غرناطة كضربة انتقامية، فسقوط الأولى كان عام 1453 م والثانية 1492 م بفارق 39 سنة، ولكن التاريخ ينقل إلينا خبراً مثيراً آخر مفاده أن شهر يناير الذي سقطت فيه غرناطة كان يدشن بالموافقة على مشروع كولومبوس لعبور بحر الظلمات في رحلة الى المجهول، بحثاً عن الذهب لتمويل حملات صليبية جديدة، ووصولاً الى الشرق من خلال الابحار عن طريق الغرب، في أعجب رحلة من نوعها لايقارنها اليوم الا رحلات ارتياد الفضاء لكشف المريخ.
اقرأ المزيد
نكتب عن التاريخ الحزين لنا والمفرح لغيرنا ونؤرخ ليوم الثاني من يناير من عام 1492م قبل 530 سنة نهاية غرناطة والوجود العربي الإسلامي. بنفس السنة يحصل تطور تاريخي مفصلي فما ذا حدث؟
قبل مايزيد عن خمسة قرون وفي أيام خريف عام 1492 للميلاد، رست ثلاث سفن اسبانية تحمل اسماء (نينيا) و (سانتا ماريا) و(بينتا) بامرة البحار الايطالي كولومبوس على شاطيء أحد جزر البهاما، في أكبر غلط جغرافي عرفه تاريخ العلم، وفي أكبر كشف ولدته الصدفة المحض، ليقلب تاريخ الشعوب الاوربية الفقيرة الجاهلة، فالارض التي كانت ثلاث قارات تحولت الى سبعة، مضيفةً أربع قارات غنية الى حساب الغرب، ومعها آلاف الجزر الغنية التي لايحصيها العدد، في أكبر انعطاف وخسارة تاريخية للعالم الاسلامي.
يكاد الانسان لايصدق عندما يقرأ مغامرة البحار الايطالي (كريستوفرو كولومبو)(CRISTOFRO COLOMBO) الذي سماه الاسبان (الدون كريستوبال كولون) (DON CRISTOBAL COLON) والذي اشتهر لاحقاً باللغة الانكليزية العالمية تحت اسم كريستوف كولومبوس (CHRISTOF COLUMBUS)( مجلة الشبيجل الألمانية (DER SPIEGEL) عدد 1 ـ عام 1992 م ص 100 وقد نشرت يومها بحثاً مزلزلاً تحت عنوان نهب العالم الجديد (DER RAUB DER NEUEN WELT) في ست حلقات لكشف الآثار العميقة والبعيدة لرحلة كريستوف كولومبوس، ولفظة (الدون) تعني بالاسبانية السيد العظيم (وكريستوبال) معنى حامل المسيح و(كولون) معنى الستعمر أو المستوطن، وهكذا فاسمه أصبح يرمز الى حمل رسالة المسيح ونشره من خلال الاستعمار والاستيطان في العالم الجديد ومن هنا جاءت لفظة الكولونيالية بمعنى الاستعمار من كلمة كولون) الذي ظن بوصوله الى جزر البحر الكاريبي أنه قد وطأ الهند، في لحظة تاريخية حاسمة، وبقي تحت تأثير هذا الخطأ الجغرافي الفادح حتى مماته عام 1506 م، وهو في الواقع اكتشف ماهو أهم من الهند، اكتشف عالماً جديداً لم يكن الهنود الذين اكتشفهم فيه هنوداً، بل كانوا السكان الأصليين لقاراتٍ جديدة غنية حظي بها الغرب في ضربة حظ تاريخية بين غفلة العالم الإسلامي عن مسار التاريخ وضعف السكان الاصليين. والهنود الحمر الذين أبادهم المستوطنون الأوربيون بالبنادق والمدافع والحرب البكترولوجية لم يكونوا هنوداً من قريب أو بعيد، في صدفة تاريخية عجيبة لم يحلم بها أحد. ولكن التاريخ حقق عندها انعطافاً لمصلحة الغرب ضد العالم الاسلامي. الشيء الذي توصل إليه البحار كولومبوس لم يفطن الى قيمته لا نفس المكتشف ولا الجيل الذي قام بهذه المغامرة الكبرى. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم الحدث أكثر بكثير من نفس مكتشفه الاساسي كولومبوس بعد الامساك بالكرونولوجيا التاريخية ولماذا يحدث الذي لايحدث؟
يطرح الكاتب (النيهوم) تساؤلاً حزيناً على هذه الصورة: (وطننا العربي يقع في خانةٍ تضم أكثر الشعوب عجزا عن ملاحقة مسيرة الحضارة، وهو موقع لا مبرر للشكوى منه، سوى أن الحضارة بأسرها ولدت في وطننا، وأن السفن والاسلحة التي ارتاد بها الاوربيون قارات العالم الجديد كانت في ايدينا قبل أن يعرفها الاوربيون بثلاثة قرون على الأقل، فلماذا يحدث الذي لايحدث وكيف يمشي وطن وناسه الى الوراء؟).
وعندما يحاول أن يفهم البانوراما التاريخية أو السياق الكوني ويحاول الامساك بالكرونولوجيا التاريخية يصف أبعاد الانقلاب التاريخي بكلمات قليلة ومعاني حزينة ومزلزلة: (في العالم القديم الذي شهد غارة الصليبيين على الوطن العربي منذ ألف سنة تقريباً كان العرب هم أصحاب الجيوش النظامية المتطورة، وكان موقعهم على أبواب آسيا وأفريقيا يضع بين أيديهم المفاتيح الذهبية للتجارة بين القارات، ويضمن لهم معركة سهلة ضد عصابات صليبية مفلسة، يقودها رجال أميون من طراز ريتشارد قلب الأسد). ويقرر الكاتب بعد ذلك تحول المسار التاريخي لميزان الغرب على الصورة التالية: (في العالم الجديد الذي نعرفه الآن يملك الصليبيون المفلسون أنفسهم وهم شعوب غرب أوربا جميع مفاتيح التجارة الدولية بين القارات ويملكون أيضاً ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة أنهار من كل ستة أنهار، وخمسة فدادين، من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، وثمانية قروش، من كل تسعة قروش ونصف). ولكن ماهو السر خلف هذا الانقلاب الصاعق؟ يجيبنا الكاتب بقوله : (سبب هذا الانقلاب الصاعق أن شعوب أوربا الغربية بحكم موقعها على المحيط الاطلسي في عصر تميز بتطوير الملاحة المحيطية على أيدي العرب، قد ارتادت فجأة ثلاث قارات ومئات الجزر المأهولة بشعوب بسيطة السلاح والتنظيم، فأبادت سكانها بالبنادق، وفتحتها لاستيطان ملايين من مواطنيها، الذين تولت الشركات أمر تهجيرهم، وتمويل مشروعاتهم في العالم الجديد، منذ مطلع الغارة خلال القرن السادس عشر)
فكرة الكرونولوجيا التاريخية
عندما نرى كولومبوس مع تسعين بحاراً يضعون أقدامهم في جزر البهاما من جزر البحر الكاريبي، وهم يظنون أنهم وصلوا الى الشرق من خلال الابحار غرباً، على أساس كروية الأرض، ويسمون أهل الجزر الطيبين الذين يحسنون استقبالهم ويرحبون بهم بالهنود، تبقى هذه (اللقطة) من الكرونولوجيا التاريخية في إطار الرحلات الممتعة والمغامرات الشيقة، كما نرى أفلام الرحالة والقراصنة، ولكن الفيلم يكون قد بدأ من هذه اللحظة، فإذا أمسك أحدنا باللقطات التاريخية بدون ربط الواحدة بالاخرى، فإنه لايفهم السياق التاريخي ولايضع يده على السر المصون، القريب المحجوب عن العيون، والفيلم نفهمه عادةً بسبب وصل اللقطات ببعض وإدخال الحركة عليه بالسرعة، فالمنظر الواحد يبقى جامداً ولكن تتابع اللقطات والمناظر بسرعة معينة، يدخل عليه الحياة، ويعطينا بالتالي إدراك المغزى الخفي خلف هذه الأحداث التي تتالى، من حصيلة مجموعات جامدة من اللقطات، فهناك سببية تربط بين الأحداث.
جدلية السبب والنتيجة
من هنا نعلم أن كل حدث هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده، ويصدق هذا على الأحداث الرهيبة التي شاهدناها في راوندا وبروندي وزائير ولاحقا سوريا من زحف الآلاف الهاربة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا، في حروب أهلية بئيسة لا تشذ عن صرامة القانون الاجتماعي الذي أوردناه في جدلية الأحداث، ضمن سياق سنة اجتماعية. فما حدث الآن بين قبائل الهوتو والتوتسي لم يأت من فراغ، بل لابد من رؤية السياق التاريخي وتبادل آثار الفعل ورد الفعل المدمرين، من تبادل جرعات الحقد والانتقام المتبادل، وتوزيع أدوار القوة والمذابح المتواترة. كذلك الحال في البوسنة فلا يمكن رؤية الأحداث في ضوء مذابح عام 1992 م بل العودة الى معركة (أمسل فيلد)(AMSELFELD) عام 1389 م التي خلَّدها العثمانيون في تاريخهم باسم معركة (قوص أوه) قبل ستمائة عام من ذلك التاريخ، بل العودة الى التقسيم التاريخي، الذي قام به الامبراطور ثيودسيوس عام 389 م حينما قطع الامبراطورية الى حصتين بين ولديه اركاديوس وهونوريوس، ولم تتحد الامبراطورية بعد ذلك قط، حذاء صدع تاريخي في المنطقة التي نسميها اليوم البلقان، دعى الى حدوث شرخ ديني موازي للشرخ السياسي.
اقرأ المزيد
ويبدو أن الطغاة العرب ليسوا النموذج المتفرد في العالم فهناك ما يعزيهم ويغريهم من بقايا جيوب ستالينية في بورما وكوريا الشمالية وكوبا كي يعلنوا البيعة الأبدية لأنفسهم أو تكرارها مثل حبات المسبحة في ثلاث وثلاثين انتخابا، حتى يضطر الشباب أن يصرخوا في المظاهرات كفى، ويلبسون قمصانا كتب عليها "لا لإعادة الانتخاب .. لا لوراثة الحكم". بعد أن استعد حسب الله السادس عشر للانتخاب الخامس. وهو ليس الوحيد في غابة العروبة. حتى خسف الله به الأرض ولكنه بعث من جديد مثل طير الفينيق فالعسكر فيها روح أوزيس وازيريس الفرعونية.
ثم حدث الحدث الجلل فاحتشدت كل طاقة كوريا الشمالية من أجل حدث جلل وكان يومها الاحتفال بمولد كيم يونج الثالث بعد الستين (63) ، وجاءت التعليمات خاصة للنساء أن لا يزيد طول شعر الواحدة منهن عن 7 سبعة سنتمتر. وقبل هذا في مطلع فبراير عام 2005م أعلن القائد المحبوب أن كوريا الشمالية أصبحت دولة عظمى فقد امتلكت السلاح النووي؟ وهو صنم لا يضر. أو بتعبير (فؤاد زكريا) في كتابه (خطاب إلى العقل العربي) إنها أسلحة ميتة مميتة ليست للاستخدام ولكن لماذا ينتجوها؟
والدول المعروفة حتى اليوم والتي تملك السلاح النووي هي ثمانية وتملك ما تدمر الكرة الأرضية وتفني البشر عدة مرات، وإفناء البشر مرة واحدة كافي، فـ (أمريكا) عندها من المخزون النووي (10656) رأساً نووياً، محمول على 116 نوع من القاذفات من عمق الأرض (السيلو) أو من بطن الحوت (الغواصات) مقابل (روسيا 10000) و(الصين 402) و(فرنسا 348) وإسرائيل (أكثر من 200 رأسا) ومن أجيال ثلاثة وما أدراك ما الأجيال الثلاثة؟ وبريطانيا العظمى (185) وباكستان (30 ـ 50) والهند (30 ـ 40).
والآن تنضم كوريا الشمالية إلى نادي الأشرار النووي ببضع قنابل قابلة للزيادة، بعد أن أعلنت انسحابها من اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وضحكت على أمريكا وأوربا والعالم، وحصدت مليارات الدولارات وهي تهيئ في الخفاء ليوم الفصل العظيم. ثم لوحت بصاروخ (رودونج ـ واحد Rodong I) طار فوق رؤوس اليابانيين يئز أزا، وعدواتهم مع اليابانيين قديمة وشديدة، وكيم سونج الوالد قاد حرب التحرير في الحرب العالمية الثانية ضد اليابانيين تحت تدريب وأموال وتوجيه ستالين، حيث ولد هناك (كيم يونج) في معسكر روسي للتدريب في منطقة نائية في (شاباروفسك Chabarowsk) ثم فقد والدته عام 1949م ليصبح تحت وصية زوجة والده (آي Ae)، وكلمة آي هي الوجع في اللغة العربية وكذلك كانت هي له عدوا وحزنا، فقد حاولت أن تدفع بابنها لتسلم العرش بعد موت سونج الثاني، ولكن (كيم يونج) استطاع عام 1974م بشراسة ودهاء أن ينتزع العرش لنفسه، ثم يتولى قيادة المخابرات، ومن حكم المخابرات في عالم المافيات الاشتراكي حكم البلد، كما هو الحال في جمهوريات الخوف والبطالة عند العربان. وقبل ذلك بسنتين عام 1972 قام بحذف تعريف كلمة (الحكم الوراثي) في القاموس الكوري الذي نص على أنه "نظام رجعي نهاب" وهكذا كسب القاموس كلمة وخسر الواقع حقيقة.
وغلطة أمريكا مع بقايا الطغاة في العالم أنها بدأت في الحلقة الضعيفة من السلسلة حيث ألقت القبض على صدام مثل الجرذ في مجرور تحت أرضي، وتلوح أنها تريد التخلص من إيران وربي أعلم بما يدور في الخفاء فهو يعلم السر وأخفى. والأهم كما يقول الكاتب الأمريكي (بوب وود وارد Bob Woodward) في كتابه المعنون (خطة الهجوم Plan of Attack) أن التخلص من أخطر الديكتاتوريين في كوريا الشمالية كان يجب أن يتصدر القائمة، وأمريكا تعلم علم اليقين رحلته في الوصول إلى السلاح النووي، من خلال عملاء ألمان (كما ذكر ذلك التقرير التفصيلي في مجلة الشبيجل الألمانية ـ عدد 7 2005م ) (جوتهارد ليرش Gotthard Lerch) والأخوة تينر وجيرهارد فيسر وجايجز بالإضافة إلى رئيس مؤسسة تراديفين المدعو ماير) الذين حاولوا توصيل تقنية فصل غازات اليورانيوم على ظهر الباخرة (BBC China) إلى القذافي مع طنين من اليورانيوم ولكن الأخير تحت الخوف من أمريكا فتح بلده وحافظ على عرشه (مؤقتاً)، وسلم البضاعة لأمريكا فرست في مفاعل (أواك ريدج) النووي الأمريكي كما في قصة غواصة هتلر 234، فقد أرسل هتلر في أبريل 1945م بعد أن تيقن من الهزيمة واستعد للانتحار غواصة محملة بآخر وأهم تقنيات الحرب مع أول طيارة نفاثة قابلة للتركيب، مع أكثر من 500 كغ من اليورانيوم الجاهز للاستعمال فأصبح من غنائم الحرب للأمريكيين واستعمل اليورانيوم لضرب اليابان بدلا من نجدتها؟
والديكتاتور الكوري القصير كما هو الحال مع ملالي إيران يظنون أن السلاح النووي يقي الدول الاستبدادية من السقوط ولو عمرت على الظلم وأشلاء المعذبين. ولكن انهيار الدول يأتي من الداخل، وعندما انهارت دولة أشور لم ينقصها عتاد أو تقنية. والاتحاد السوفيتي انهار بدون هجوم خارجي، وهو يملك أسلحة تدمير الكون مرات، وبأقوى من كوريا القزم بعشرة آلاف مرة.
ومشكلة الطغاة في كل مكان هي واحدة فقد سئل القذافي قبل أن يقذف بشواظ من نار عن معنى الديموقراطية فقال إنها كلمة أصلها عربي (ديموكراسي) أي الديمومة على الكراسي. والمسخوط الآن في محكمة العدالة الالهية فلا ينتصران.
اقرأ المزيد
ثلاث جمهوريات بنفس قافية الحروف ولكن اللعنة واحدة. وحديثنا اليوم عن أحد الجيوب الستالينية المفزعة هي كوريا الشمالية. وهو يقول لكم ماذا يفعل النظام السياسي فهو بمثابة الدماغ فإن صلح الدماغ صلح الجسد.
وكما جاء في الحديث ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وعندما خُسفت الأرض بصدام المصدوم كان حزن (كيم يونج II Kim Jong) زعيم كوريا الشمالية كبيرا فقد اختفى لمدة خمسين يوماً عن الأنظار، ثم ظهر على الناس ليقول: إذا كانت أمريكا تظن أننا سوف نتخلى عن أسلحتنا فخطؤها كبير.
وعادة الاختفاء هذه يقلد فيها آلهة الإنكا، أو بتعبير الفيلسوف البليهي (هالة الغموض وسحر الغياب). وفي علم النفس التحليلي يقول (سكينر B.F.Skinner) في كتابه (ما خلف الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity) الذي ترجمته سلسلة عالم المعرفة إلى (تكنولوجيا السلوك الإنساني)أن هناك (علاقة عكسية بين مقدار التقدير ووضوح الأسباب). وأن مقدار ثنائنا على شخص يدير جهازا معقدا هي من غموض العملية أمامنا فإذا عرفنا سرها تبخرت هالة الشخص.
ويشرح (روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) أن علم الدجل يقوم على خمس درجات: ابق الأمر غامضا ـ ركز على البصري والحسي أكثر من الفكري ـ اقتبس طقوس الدين ـ موه مصادر دخلك ـ وأما الخطوة الخامسة فأقم حركية (نحن) ضد (هم). وهو ما اعتمده الطاغية: دمروا الإمبريالية الأمريكية.
وتحت هذا القانون فقد اختفى الرجل مع حداد والده ليس ثلاثة أيام بل ثلاث سنوات، ثم خرج على الناس فقال: إن القائد واحد، والتاريخ رحم ينجب العباقرة مرة واحدة، ثم قام بحركة مسرحية فاستغنى عن رئاسة البلد، وقال هناك قائد واحد (أبدي)، واتخذ لنفسه اسماً متواضعاً (القائد المحبوب).
أما العصابة من حوله فقد سمته الرمز والأمل، والمخلص، وهدية السماء إلى الشعب الكوري، والمهندس الأعظم في كل الأزمنة، والمخرج السينمائي الذي لن يلحقه فنان، والموسيقى الموهوب الأمهر بين كل نوابغ الموسيقى، وأن عنده ملك لا ينبغي لأحد من بعد.
وقريبا من (بيونج يانج) العاصمة أقيم متحف فيه 200 غرفة بأشد إضاءة ممكنة لبلد يحتاج لشمعة، وداخل المتحف صور تعظيم الأب القائد والابن الأمل بـ 49808 قطعة مهداة من 170 دولة مثل بارودة صيد من بوتين، وشماغ من ياسر عرفات، وحقيبة من جلد تمساح من كاسترو، أو دب اصطاده تشاوسسكو بنفسه وحفظه محنطا فأهداه للرفاق، وأما خارج العاصمة حيث يرتفع تمثال الأب بأعلى من ناطحة سحاب فلا شيء يعمل، والشيء الوحيد المتماسك هو الجيش والمخابرات، والشيء الوحيد الذي يصدرونه هو تقنية الصواريخ، وهم قاموا بتبادل فني مع باكستان فأعطوهم الصواريخ، وأخذوا منهم تقنية الوصول للقنبلة النووية، كل ذلك على يد (روبن هود) العصر النووي العالم الباكستاني (عبد القادر خان) الذي زاد مشاكل العالم مشكلة، وأدخل الشرق الأقصى رحلة سباق تسلح.
وقصة الطاغية في كوريا الذي يلوح حاليا بالدمية النووية ترجع إلى عهد ستالين، فقد نصب الشيوعيون والده (كيم سونج الثاني Kim II Sung) على كوريا الشمالية عام 1948 م الذي حكم مثل جنكيزخان وبول بوت لمدة 46 سنة حتى نفق عام 1994م، ثم جعل الحكم الثوري ملكيا، كما هو الحال مع الثوريين العرب الذين جاءوا حفاة عراة فتركوا لأولادهم العروش الملكية بعباءة جمهورية فضفاضة.
وكيم يونج يحب النساء السويديات حصرا بسيقان طويلة، وتحت تصرفه سيارة مرسيدس بقيمة عشرين مليون دولار مما يذكر بعدي وقصي، وينطلق في شوارع (بيونج يانج PJOENGJANG) مع مسدس يتسلى به في إصابات أنوار أعمدة الكهرباء، وأكثر ولعه بأفلام الرعب وجيمس بوند، وعنده وهو الاشتراكي 20 ألف فيلم غربي، وحينما أعجبته الممثلة (شوي اون هوي Choi Un Heu) عام 1978م خطفها من هونج كونج ثم ألحق بها المخرج (شين سانج أوك Shin Sang Ok) حتى تمكن الاثنان من الفرار لاحقاً من جمهورية الجوع.
و(القائد المحبوب) قتل عام 1974م زوجة رئيس كوريا الجنوبية (بارك شونج هي Park Chung Hee) ـ كما في قصة قتل الحريري في لبنان ـ وأكملها بقتل حفنة من الوزراء (الكوريين الجنوبيين) كانوا مجتمعين في رانجون عاصمة بورما عام 1983م ، وثلثَّها بقتل 115 بريء على ظهر طائرة كورية جنوبية، كما في قصص قتل جنبلاط ومعوض وحسن خالد والرائع سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث، الذي جاء إلى جنازة أمه في بيروت فلحق بها بعد أن كسرت المخابرات السورية أصابعه التي بها يكتب، وهو مصير كاد أن يلحقني حينما ذهبت لجنازة والدتي في الأردن ومن نجاني كان جواز سفري الكندي. فلا أمان في غابة العروبة لقط أو طير.
والمشكلة عند (القائد المحبوب) في طوله 160 سنتمتر، ولذا فهو ينوع أشكال روافع الحذاء بأكثر من أحذية النساء بدون فائدة، ويستعين عن قصر القامة بلبس بدلة طويلة؟ ويحكم البلد مثل مافيات المخدرات فيتاجر بكل شيء بما فيها تزوير الدولار فليس من مهنة قذرة ولو كانت قاذورة.
اقرأ المزيد