جاء في كتاب (القوانين) لافلاطون:( إن ارتكب أحد إثماً ضد قوانين التناسب فأعطى شيئاً كبيراً للغاية الى شيء صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية، وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية، وإضفاء سلطات واسعة للغاية على نفس صغيرة للغاية ؛ لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالاً تاماً. ففي صورة الحمق يسرع الجسم البطن صوب المرض، في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق)(كتاب القوانين لافلاطون ص 691 نقلاً عن مختصر دراسة التاريخ لتوينبي الجزء الثاني ص 102 ـ الادارة الثقافية ـ ترجمة فؤاد محمد شبل)
وليس هناك حماقة أكبر من الحرب ومع ذلك فإن البشر يخوضونها ومازالوا. إن لم يكن ضد البشر فليكن ضد الحجر كما فعل الطالبان في أفغانستان ضد تمثال بوذا الشاهق وكان بإمكانهم الاستفادة منه للسواح البوذيين ولكن هذا يذكر بقصة الأصمعي مع الغلام حين قال له ماتقول يا غلام أعطيك الف دينار على أن تكون أحمقا؟ فكر الغلام ثم قال لاياعماه! قال به ويلك إنها ألف دينار! أجاب الغلام: لأنني أبذرها وأبقى أحمقا.
ويذكر المؤرخ البريطاني (توينبيToynbee) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) نموذجين عن تدمير النزعة الحربية فأما الأولى فهو نموذج الدولة الآشورية التي ماتت مختنقة في درعها. وأما الثاني فهو (تيمورلنك) الذي خلّد اسمه في التاريخ بالفظاعات.
قال توينبي: (شخصية عسكرية اقترفت من الفظائع طوال فترة الأربعة والعشرين عاماً من حكمه مثلما اقترفه الملوك الآشوريون خلال مائة وعشرين سنة. إننا لنتخيل المجرم الذي سوَّى مدينة اسفراين بالأرض عام 1381 وكدس خمسة آلاف رأس بشرية في المآذن في زيري في نفس السنة. وطرح أسراه من لوريستان أحياء من أعلى المنحدرات عام 1386. وذبح سبعين ألف شخص وجمع رؤوس القتلى في هيئة مآذن في اصفهان عام 1387. وذبح مائة ألف أسير في دلهي عام 1389. ودفن أحياء اربعة آلاف جندي مسيحي من حامية سيواس عقب القبض عليهم عام 1400. وابتنى عشرين برجاُ من جماجم القتلى في سوريا عام 1400 ـ 1401.
إن تيمور جعل ذكراه تختلط بذكرى غيلان السهب مثل جنكيزخان وأتيلا وأترابهما. وإن جنون العظمة التي جعلت تيمور يصاب بجنون التدمير قد تحكمت فيه فكرة واحدة مدارها الايحاء الى المخيلة الانسانية بأدراك قوته الحربية عن طريق الاساءة إلى البشر إساءة منكرة. كما عبر الشاعر الانجليزي (مارلو) على لسانه: إن جوبيتر وقد رآني في السلاح قد بدا ممتقعا كئيبا خشية أن تنزعه قوتي من عرشه. تجلس ملايين النفوس على شواطيء العالم السفلي ترقب رجعة قارب شارون. إن جهنم ودار النعيم تزخران بأشباح الناس الذين أرسلتهم من ميادين القتال المختلفة لينشروا شهرتي عبر جهنم وحتى السماء)( نفس المصدر ص 120).
إن هذه الفظاعات عند نماذج من طراز إيفان الرهيب الذي حاصر مدينة (كييف) وسوَّرها كي لايفلت أحد ثم قتل جميع أهلها البالغ عددهم سبعين ألفاً، ثم قتل زوجته وابنه وأقرب الناس إليه تروي كارثة أبعد من عمل الثقافة. إنها تروي مرض الفرد (النفسي) عندما يعجز المجتمع عن ردعه ليقود في النهاية من خلال حلقة مفرغة مفزعة عكوسة لاتكف عن الاتساع الى تدمير مجتمع أو تعديل مسار التاريخ على نحو مؤسف، كما أوقف (تيمورلنك) مسيرة الاسلام في أوراسيا وأوربا.
إننا بحاجة إلى مزيد من فهم الانسان حتى نتجنب الكوارث. من هنا انصب التفكير على فهم عمل الدماغ؛ فليس هناك من بوابة لفهم الانسان غير الدماغ، وكل مايحدث في العالم هو انطباع التفكير على الواقع في إسقاط تاريخي.
واليوم تعكف الأبحاث العصبية على فك أهم تركيب على الاطلاق. وإذا كان القرن العشرين حقق انجازاته في الفيزياء؛ فإن القرن الواحد والعشرين سيكون للبيولوجيا.
إن مدرسة (علم النفس التحليلي) اكتشفت عمقاً مخيفاً في تركيبة الدماغ وهو عالم (اللاوعي) الذي يتحكم في 95% من تصرفاتنا من حيث لانشعر أمام 5% من الوعي الذي يظهر على السطح مثل ضوء المنارة على شاطيء المحيط. وإن اختبار (ستافورد ـ بينيهStaford-Binet) الذي وضع اختبار الذكاء (IQ) لم يعد يعتد به أمام كشف (هوارد جاردنر) الذي طرحه في كتابه (أطر العقل Frames of Mind) عام 1983 وأن العمليات المنطقية والرياضية واللغوية لاتمثل إلا بوابة صغيرة من فهم الذكاء الانساني، ليقترح سبعة أبواب جديدة لكشف القارة المجهولة فينا، ثم ليقفز الرقم عام 1993 الى عشرين بوابة، لينتهي إلى أن الذكاء الانساني غير محدود ولايمكن تطويقه في اختبار. وأن اختبارات الذكاء ليست إلا مسابر لقياس عمق محيط لانعرف قاعه حتى الآن، وكوكب لانحيط به علما، ويبدو أن المسافة أمامنا طويلة لفهم التركيب الانساني.
واليوم بعد فك الشيفرة الوراثية عند الانسان في مشروع (الجينوم البشري) يبدو أن العمل الفعلي بدأ الآن لفهم الخلطة السحرية التي تكون البيولوجيا عندنا. ويخطيء كثيراً من يظن أن (الجينات) هي رقم محدد لوظائف محدودة وعندما نعلم أنها (شبكات عمل) نصاب بالذعر، وأن اكتشافها يعني رفع الستار عن جبل تضرب قممه في غمام المعلومات. من جينات تتشابك لتكوين لغة جديدة حروفها ليست سبع وعشرين حرفاً بل 40 ألفاً (حسب تقديرات مشيو كاكو في كتابه عقول المستقبل).
ومنه جاءت عبارة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في القرآن عن هذا التعقيد.
اقرأ المزيد
القطيع فيه 400 رأس من الغنم :
ومن هذه الروح ( الحدسية ) التي تتذوق الجمال المباشر في العلاقات الخفية بين الأرقام والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ، وإذ مر بجانبهم قطيع من الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد الأغنام التي تسرح في المرج . وكان الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!
موقفه الفلسفي من الرياضيات :
ومن هذا الفهم الرياضي في علاقات الأرقام والأشكال الهندسية الفنية ، وصل الى كشف هام آخر في العلاقات الرياضية ، سيخرج منه بعد ذلك بخلاصة فلسفية في قضية اللانهايتين وجدلية الانسان ، أما في المستوى الرياضي فوصل الى مبدأ يقول إن بين المراتب العددية اختلافاً لانستطيع أن نقول عنه الا أنه لامتناهي ، وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهر له عام 1654 م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ، الذي رأى فيه الأرقام على أشكال هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقداراً متصلاً لايكبر إن أضفنا له مقداراً أياً كان من مرتبة هندسية فوقه ، فلايمكن جمع النقاط الى الخطوط ، ولا الخطوط الى المساحات ، ولا هذه الى الحجوم ، أو بتعبير آخر لاحساب للجذور أمام المربعات ، ولا للمربعات أمام المكعبات ، ولا لهذه أمام مربعات المربعات ، فأمام الكميات العليا علينا أن نهمل الكميات الدنيا كما لو كانت عدماً مطلقاً )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجة المشكلة الانسانية الكبرى ، في خمسة اسقاطات : مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم اللانهايتان ؛ فإذا كانت هناك خنادق يتعذر اختراقها أو القفز من فوقها في الرياضيات ، أو تشكل الفضاءات بينها مسافات لانهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس الانسانية والمجتمع .
مشكلة العدالة الانسانية أو العدل الكوني :
تمثل العدالة الأرضية أكبر التناقضات الانسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط ولا السطوح الى الحجوم ، فهو في مشكلة العدالة الكونية يقيمها على جدلية ثلاثية بين الانفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء لايلزم دائماً الابتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجية العنيفة دون تردد ، والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس . وأثر الخوف واضح كل الوضوح لو توطدت سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ، وبواسطة العنف تم لجم الناس بالرعب فاعتادوا النظام ، فأساس الدولة هو عنف وخوف ، عنف خارجي وخوف داخلي ، ولايظهر هذا العنف والخوف الا في مواجهات فجائية ، والذي يعطي الاستمرارية لهذا الوضع هو اعتياد الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ، فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضى مع الخوف . وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة . الدولة وفق تأسيس النظام الداخلي تحرم القتل وتعاقب عليه وتعتبره رأس الكبائر وأعظم الجرائم . ولكن نفس الدولة تأمر بالقتل في الحروب والثورات ، وتشجع عليه وتكافيء ، وتعتبر أنَّ من يُقتل من طرفها شهيد ، وأنَّ من يُقتل من الطرف الآخر مجرم . في علاقة معكوسة في الدولة المقابلة . فالشهيد هناك مجرم هنا والعكس بالعكس .
علاقة الشهيد _ـ المجرم :
فعلاقة ( الشهيد ـ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخلاقية وعقلانية لها . وعندما تحدث الحروب يتم قتل الانسان بكل سهولة بالأوامر ، حتى أن الجيوش تستخدم سلاحاً خاصاً لاستمرار المجزرة ، بحيث أن الذي لايَقْتِل يُقتل ، كما صور ذلك الكاتب الأمريكي ( ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعاً أيها السلاح ) .
لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضيَّف الواحد الآخر فنجاناً من القهوة ، فلا توجد عداوة بينهما ، ولكن في الحرب يقتل الانسان أخيه الانسان بالأمر فقط مع عدم معرفته سلفاً فضلاً عن وجود عداوة أو حقد سابق . فالقتل يتم على الجغرافيا أو الهوية الشخصية . على الجغرافيا في الحروب الاقليمية فيُقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبل الذي يفترق عنا ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام الاتصالات كما في أجهزة الدش ) ويُقتل على الهوية في الحروب الأهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ، يمثل الآخر ، يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر الأرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛
العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة :
كأنَّ العدالة إذاً في طريقها الى نفق مسدود ؟!
يرى باسكال أن الانسان في جدلية لاطريق الى حلها ، وهو شقي لأنه لايلقى حكماً عادلاً ويرضخ للظلم ، ولكنه بنفس الوقت عظيم لأنه لايرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن بإمكانية العثور عليها ، فالانسانية في جدلية محيرة وفي وضع غير قابل للحل ، وينتقل من موقف الى ضده ، لايرضى بالواحد ولا الآخر .
اقرأ المزيد
فهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( PENSEES ):
كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان البرق الحارق الخارق تضيء الوجود في لحظة واحدة ، ويذكرنا هذا بكتاب ( الخاطرات ) لجمال الدين الأفغاني ، وكتاب هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) وهذه الومضات الفكرية هي أحد اتجاهات علم النفس المعروفة بالجشتالت ، وكلمة ( GESTALT ) تعني بالألماني الاطار الكبير أو النسق الشامل أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشر ، حيث يصل العقل لفهم وضعٍ بدون الانتقال التدريجي التحليلي لفهم الواقعة ، وهو كما نرى أحد نزعات عمل الدماغ الانساني . هذه النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشف قانون الاحتمالات ، عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتمالات الربح والخسارة ؟ فأجاب فوراً وبعفوية ناطقاً بقانون رياضي مدهش مازال يعتمد حتى اليوم في عالم الرياضيات لمشكلة الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا التركيب العقلي عنده هو الذي جعله يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قانون الاحتمالات الرياضي الى المصير الانساني .
الرهان الرياضي والمصير الانساني :
وهي فكرة لاتخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة الإيمان باليوم الآخر تبقى أفضل حتى من الناحية البراغماتية المحضة ، في ضوء قانون الاحتمالات حيث يبقى أمام الانسان خياران ، يترتب على الأول الفوز بكل شيء ، في حين أن عكسه لايعرضه لأي خسارة ، وهي نفس الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري شعراً :
قال الطبيب والمنجم كلاهــــما لاتحشر الأجساد قلت إليكــــما
إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله طهرٌ فأين الطهر من جســــــــــديكما
ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله : (( وإنما نظرته الى الرهان نظرة براجماتية محضة . إن وزنه للمخاطر والتركيز على ماهو أكثر نفعا ، على مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة اللامتناهية )
علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية :
ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حاول فهم المشكلات الانسانية في ضوء الفلسفة ، والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصحيح ، كما أنها لاتتولد الا في مناخ خاص ، فهناك علاقة جدلية بين التكنولوجيا والقاعدة العلمية والمناخ الفكري ، أي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار على حد تعبير المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) أو كما يقول المثل الأمريكي : ( الأشخاص التافهون يتكلمون في الأشياء ويحرصون على امتلاكها . والسطحيون يروقهم الحديث عن الآخرين . اللامعون والنابهون هم الذين يعنون بالعلم ويتذوقون الأفكار وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضي وقتك وماذا يفعل بالفراغ ؟ ولاكتشاف الذات تبقى الوحدة أفضل مشعر على التذوي والتخوي والتقعر الداخلي من غناه وخصبه وحيويته . علوم الكوسمولوجيا والفيزياء النووية والبيولوجيا والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ، ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع .
جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر :
الانتاج التكنولوجي لايأتي من فراغ بل لابد له من قاعدة علمية ، واستواء هذه القاعدة بدورها يتطلب مناخاً عقلياً خاصاً . والقرآن في هذا الصدد يجب أن يفهم ليس على أنه كتاب طب وكشوف علمية ، بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم .
وفي ضوء هذه الفكرة فإن فلاسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباسكال وهيجل دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية . ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطورة من الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مالم ننتج القاعدة التي تولد ( الأشياء التكنولوجية ) وهي قاعدة علمية . ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خاص . من أبرز صفات هذا المناخ حرية الفكر ، فالفكر الغربي اليوم يبحث بدون ( تابو) بدءً من الدراسة النقدية للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة . وفي جامعة مك - جيل ( Mc. GIL ) في مونتريال يدرس الطلاب أنظمة الحكم في العالم ، حيث تخضع النظم الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبرية ، كما يدرس الأطباء الباكتريا وتفريخها وتمكنها واستفحال مرضها ، كذلك العثور على الترياق المناسب لسمومها ، ليس لتصديرها الى الدول البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ، بل للاحتفاظ بها في الأدراج السرية للمؤسسات العسكرية ، كما رأينا في فيروس الموتابا في فيلم الانفجار الفيروسي (OUTBREAK ) فالسياسة علم ، والجنس علم ، وعلاقة الايمان بالعلم أيضاً علم ، وفي اللحظة التي نوحد فيها طرفي معادلة العلم والايمان ، كما وحد آينشتاين المادة والطاقة فسوف تحل أعظم مشكلة واجهت العقل الانساني حتى اليوم .
سحر الشكل الهندسي في الأرقام عند باسكال :
كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ، ففي الوقت الذي حاول ديكارت أن يقلب الهندسة الى أرقام ، فإن باسكال استولى عليه روح الجمال في رشاقة الهندسة فَفَهِم الأرقام من خلال تراكيب هندسية ، كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فالأعداد تتركب فيما بينها وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو الأمر عند فيثاغورس وفي تقدم باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضاً من شكل هندسي الى شكل هندسي آخر ، ولايرجع أبداً الى العبارات الرمزية العامة التي نجدها في الجبر ولا الى التركيبات العقلية الخيالية التي نجدها عند ديكارت . إنه يرجع دائماً وأبداً الى نظرة فنية كاشفة )(*)
اقرأ المزيد
الحكم القريبة المحجوبة :
هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفة هي لب قانون الأواني المستطرقة أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمه ثم صبه على شكل قانون رياضي يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل .
هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مستوى بحر على آخر ، وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر شغلت بال الانسان منذ أيام الفراعنة ، للاقتصاد في دروة كاملة للالتفاف حول القارة الأفريقية ، وكان هناك خوف من ارتفاع منسوب المياه في البحر الأبيض عنه في الأحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على بعض _ الى غرق مصر الكامل . وفكرة باسكال في ضغط السوائل أدخلت الى العقل الانساني فهماً جديداً في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين الأحواض المتصلة ، فإذا كان مرج البحرين يلتقيان ، فهناك برزخ غير منظور لايجعل أحد البحرين يطغى على الآخر ، فبينهما برزخ لايبغيان .
التخلص من ضغط مسلمات الأفكار السابقة :
كان باسكال عالماً تجريبياً قبل أن يكون فيلسوفاً روحانياً يمزج التصوف بالفلسفة في عصير روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ، والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة الخلاء في أنبوب الزئبق ، وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ، الذي كان يؤمن بأن الطبيعة تكره الخلاء ، ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلة هذا المفهوم ، فإذا مليء أنبوب مفتوح أحد الطرفين بالزئبق ، ثم وضع على حوض مملوء بالزئبق ، نزل مستوى الزئبق في عمود الزجاج الى مستوى معين واستقر عنده ، تاركاً خلاءً في أعلى الانبوب . وتتكرر هذه الظاهرة مع كل تجربة . وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الذي كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة . عمد باسكال الى إعادة التجربة في مستويات شتى بين البحر والجبل والسهل ، واستخدم سوائل منوعة فعمد الى الماء والكحول والزيت فكانت هذه الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد . لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعة لغة الخلق الأساسية ، التي تنطق بصدق وصرامة ، بدون تحريف وتزوير ومحاباة ، فهي أعظم من كل نص كَتب عنها ، من أي جهة كانت مصدره ، لقد لاحظ أن مستوى السائل الزئبقي يرتفع أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبق 76 سم ويقل هذا مع الارتفاع علواً . من هذه الملاحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضغط الجوي الذي قاد الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية لاحقة ليس أقلها في ميدان الطب في معالجة الحروق والغانغرين الغازي في غرف مرفوعة الضغط عالية التركيز في الاكسجين ( HYPER - BARIC - OXYGEN - CHAMBER )
تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال :
إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن السابع عشر للميلاد كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ، وكان أبرز مافي هذا الفكر كسر المسلمات العقلية السائدة ، التي تحولت الى أغلالٍ بثقل حجر الرحى ، فهي الى الاذقان فهم مقمحون . مع هذا كان باسكال نسيجاً فكرياً لوحده . كان يشترك مع ديكارت في مستوى العمق الفلسفي واستخدام الرياضيات للمنطق الفلسفي ، كما أشار الى ذلك في كتابه الخواطر ( PENSEES ) وأثنى على ديكارت ، ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقع سطحياً . ففي الوقت الذي كان ديكارت تحليلياً كان باسكال ( حدسياً ) أقرب الى مدرسة الجشتالت ( GESTALT ) وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شمولي سنني يستخدم فيه أداةً معرفية لتطبيقها بشكل وجودي في حقول معرفية شتى ، كان باسكال يرى تعقيداً وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقلٍ معرفي . وهو ماأكدته مدرسة علم النفس السلوكي .
وفي الوقت الذي كان عقل ديكارت ينفر من التجربة وجوها ولايميل الى الحقل التجريبي ؛ كان باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ، كما حصل مع اختراعه الآلة الحاسبة وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ، وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ، وتعتبر مقدمة لتطوير نظام الكمبيوتر . فإذا قرأ الانسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (PASCAL ) عليه أن يتذكر ذلك العبقري ، الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميلاد ، وأنجز ماأنجز ولم يعمر أكثر من تسع وثلاثين سنة . وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق التاريخي ، كان باسكال مهتماً بالعلم وقدره التاريخي وتاريخ العلوم ، فعندما وصل الى فهم الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصدد منذ أيام أرخميدس حتى عصره .
جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي : (إن لباسكال أسلوباً خاصاً في البحث والتفكير والتعبير وقد رأينا باسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة، لايفرض على العلم وأقسامه نظاماً سابقاً، إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قسم منه على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ، ولاشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه في العلوم ، عبارة عن حدس وكشف لااستدلال وتنظيم استدلالي للأفكار ، وأخص ماتمتاز به النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كاملاً على الموضوع المدروس ، وربما كان أخص مايمتاز به التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر لابتحرير كتاب منسق كل التنسيق )(*)
اقرأ المزيد
الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير :
كذلك تظهر هذه الثنائية التي لاتملك حتى الفلسفة الاجابة عليها في تفسير الشقاء والحبور الانسانيين : (( وشقاء الانسان لغز آخر ، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ، كثير التعرض للألم في كل عصب ، وللحزن في كل حب ، وللموت في كل حياة ؟؟ ))
إن كلمات باسكال تحلق الى الأفق الانساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العقل ، فهذه المعاني لاتوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ، إنها هنا تعبيرات مليئة بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع .
وتبرز الثنائية في صورة أخرى بين الطبيعة كيف تتصرف والانسان الضعيف في مواجهة جبروتها الذي لايرد : (( مع ذلك فإن جلال الانسان عظيم في معرفته أنه شقي ... ماالانسان الا قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ، ولكنه قصبة مفكرة ، والكون كله لاحاجة لأن يتسلح كي يسحقه فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ، ولكنه بعد أن يسحقه الكون لايزال أنبل من هذا الذي يقتله ، لأنه يعرف أنه مفارق الحياة ، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الانسان ))
زحزحة الأفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة الانسان الأساسية :
في نوع من هذه المتحارجات في علاقة اللهو بالضجر ، وثنائية الانسان المبنية على التناقض الذي لايمكن توحيده ، وفكرة العدالة الأرضية التي يستحيل إقامتها ، واليقين الذي يعجز الانسان عن قنصه ، وسعادة الانسان التي لايمكن تحقيقها بدون فهم الانسان . حاول باسكال الغوص في بعد نوعي جديد لفهم المشكلة الانسانية في جذورها في محاولة لحل تراكيبها الخفية واكتشاف معادلاتها المجهولة وهو الرياضي الذي طور حساب التفاضل والتكامل ، ودشن رياضيات الاحتمالات ، وفهم مبدأ الضغط الجوي ، ليضع في النهاية مبدأ ضغط السوائل ، الذي مكن المهندسين لاحقاً فتح قناة السويس وبناما ، بعد أن كان المهندسون يرتعبون من إمكانية علو مستوى بحر على آخر . قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مستوى النفس وتقرير المصير ، ليس باستخدام المنطق الفلسفي ، فقد نفض يده منها بعد أن رأى كلال أدواتها المعرفية في حل المشكلة الانسانية . وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م .
الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م :
حدث هذا قبل أن يموت بثماني سنوات ، حيث زلزلت قناعاته كلها ووصل معها الى اليقين والفرح والدخول الى حل مشكلة الانسان . في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى سالت دموعه الى الأرض ، وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ، فخرجت كلمات التجربة الروحية مهزوزة مقطعة متناثرة لاترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والفرح والسعادة . كانت تسجيلا تجربة دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ، في تلك الليلة عند السحر حيث يهدأ الليل حدث التجلي ، وكأن ناراً اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بنور خاص فكانت أول كلمة كتبها : نار . كانت نارا أحرقت الشكوك والذنوب ومعها الثنائية في ضربة موفقة واحدة . ثم خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خلاصات لمذاقات روحية ، أكثر منها جملاًُّ معبرة عما خالجه من أفكار ، واستفتح تجربته الروحية بنداء خاص الى .. اله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب .. لا إله الفلاسفة والعلماء .. إن باسكال اكتشف ثلاث عظمات كل واحدة تنفصل عن الأخرى بلانهاية في المسافة : المادة والعقل والمحبة ، الأولى للقادة والأغنياء ، والثانية للفلاسفة والعلماء ، والثالثة للقديسين والأولياء ، .. إن حل اللغز الانساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتبة الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها .
ينقل عن باسكال قوله : صنفان من الناس فقط يصح أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه ، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لايعرفونه )(8)
عندما شرع ( سنوفرو ) الجد الأعلى من الأسرة الفرعونية الرابعة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد في حملة بناء الاهرامات ، أُصيبت مشاريعه بكارثة محبطة ، انهار فيها الاهرام الأول بالكامل ، وبدأ الثاني في التشقق ، مما حمل مهندسي الاهرامات من الفراعنة الاوائل الى إمالة زاوية انتصاب الهرم ، فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطحاً ملتصقاً الى الأرض خائفاً من الانتصاب . هذه البداية المخيبة للآمال وضعت التحدي أمام الجيل التالي ، مما جعل الفرعون ( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ، في استقصاء هندسي وتجارب ميدانية مع الادمغة العلمية المحيطة به ، من جامعة هليوبوليس المدينة المقدسة قبل الانطلاق بمشروع جبار يستغرق عشرين عاماً بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجلات ، بدون حديد ، بدون حصان ، بدون بكرات رفع . فكلها تقنيات تم اكتشافها لاحقاً ؛ فالاهرام بني بالسواعد والادمغة والحجارة فقط ... والارادة الحضارية .
كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهرم على خط الأفق تماماً ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقة حفر مكعبات في الأرض على امتداد مساحة قاعدة الهرم ، ثم وصلوا بينها بممرات ثم ملأوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء الأفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم .
اقرأ المزيد
السجن الانفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البشر . بين من يحدق في ذات شقية ، ومن يعشق التأمل والاعتكاف واكتشاف العالم الداخلي الغني .
الوحدة مشعر النضج والاقتراب من الله . على كل حال سيغادر الانسان هذا العالم وحيدا وسيدخل الآخرة لاينفعه في معاناة الخلاص الأخيرة أحد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه . النفس التي ستفاجيء للمرة الأولى بمواجهة الذات ستكون من نوع مزلزل وتجربة تحدث للمرة الأولى . السجن الانفرادي يقود الانسان الى الجنون أو الحكمة ، لأنه يحبسه مع ذاته ضمن أربع جدران . من الغريب أن هذا العزل وهذه المواجهة المفروضة للاعتكاف ، وهذه المواجهة الأليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ، وفيها غاية المتعة لأفراد قلائل من الجنس البشري ، ولجوا هذا العالم الخفي ، وعرفوا مساراته الداخلية بنور خاص ، فهذا القبو عميق حالك الظلام ، لايضاء تماماً الا بمشاعل جهنم يوم يبعثون ، ولكن هذا الصنف تخصبت عندهم الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي .
الثنائية المتناقضة : اللانهايتان
كذلك يطرح باسكال في رؤيته للانسان فكرة اللانهايتان في ثنائية تحمل التناقض ولاحل لها حتى على يد الفلسفة . ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجمل ماكتب في النثر الفرنسي في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ، لأنها تدفقت من خلايا عصبية متوقدة الى أبعد الحدود ، قد ذاقت الاستنارة الداخلية . كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي حدثت معه في نوفمبر من عام 1654 م . لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الجدل الانساني المستعصي على الحل في مذكراته ( الخواطر )( PENSEES ) التي لم ترى النور بشكل كامل الا بعد 289 عاماً ؟! : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ، ولكن هناك لانهائية أخرى وتلك هي لانهائية صغر الذرة وقبولها النظري للانقسام قبولاً لاحد له ، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا لانملك الا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .
إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهاية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور .
من الانسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه ، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي أخذ منه واللانهائي الذي يغمره)
يرى باسكال بهذا العرض الأَّخاذ أن الانسان ليس مركز الكون كما رآه الفيلسوف اليوناني أرسطو ، بل هو في وسط الكون ، في حالة فقدان توازن ، وعجز مطلق عن الفهم ، معلقاً بأفظع من ألعاب البهلوان على حافة غير مرئية بين الكل والعدم ، بين لانهايتان في أي اتجاه سار ، باتجاه الكبير العالم العلوي ، أو باتجاه الأسفل الى العالم الأصغر ، هو عاجز عن إدراك العدم الذي خرج منه وقرر مصيره ، وهو أعجز عن إدراك العدم الذي يمشي باتجاهه مدفوعاً بجبروت لايقاوم ، نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مسرح الحياة . بين لانهايتان تطوقانه ، كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ، الذي يصعد فيه الأول الى الملكوت الفسيح الجبار ، ويهبط الثاني الى العالم الأصغر الذي يسبح الله بطريقته الخاصة . ولكن الانسان حينما يقارن نفسه يصاب بالذهول ، فهو الى اللانهاية لاشيء وعدم وصفر ، ولكنه مقارناً الى العدم يتحول الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية في ضربة غير موفقة وفي ثنائية تناقضية محيرة . عدم وكل شيء بنفس الوقت بنفس اللحظة . هذا ماجعل باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشياً عليه .
الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود :
تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة الانسان مرة أخرى على شكل تناقض محير مزلزل في حالاته النفسية الديناميكية : (( وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان ... يالهذا الانسان من كمير !! ياله من بدعة ووحش وفوضى ، وتناقض ومعجزة ، هذا الحكم في كل شيء ، ونموذج الغباء في الأرض ، مستودع الحق ، وبالوعة الضلال والشك ، مفخرة الكون ونفايته ، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ )) ويُظهر الموت هذه الجدلية الرهيبة ، ففي لحظة واحدة ينهار الانسان من قمة الوجود في النطق والتعبير والحب والأماني والحلم الجميل والعيش الرغيد والحياة البهيجة والنور ، كله ينهار وبخبطة واحدة ، الى السلبية الكاملة والاستسلام المطلق والدمار الساحق والظلام المطبق .
اقرأ المزيد
تواتر الانسان بين الملل واللهو :
حللَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول : (( انظر الى برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافلاً كل يوم بمختلف الأشغال والمواعيد وألوان اللهو المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أصدقاء إلى زيارة الندوات وحضور الولائم ، فالصيد من جديد ، فندوة جديدة ، فمقابلات العمل أو الأصدقاء ، فموائد الميسر أو محافل الرقص أو كلاهما ، وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل لافراغ فيه ، والناس من حوله مكلفون بالمساهمة في شغل أوقاته ، وإن توقف التيار لحظة وترك الرجل أعماله أو أغلق بابه على الزوار ، وإن أسرع الى الريف طالباً الراحة والهدوء ، لما بقي في الريف طويلاً ، وسرعان مايعود الى المدينة ، أما إن اُضطر الى ترك الأعمال أو اعتزال الوظيفة أو العيش في الريف بمفرده ، لضاق بالحياة ذرعاً وحل به الضجر ) ليصل في النهاية الى تقرير ارتباط الضجر باللهو (( اللهو إذاً مرتبط بالضجر أشد الارتباط )) فالانسان من أجل أن يهرب من السآمة يُهرع الى اللهو ، ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ، وهذا بدوره ليس له مخرج إلا باللهو ، فهناك تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مثل تركيب الأحماض الأمينية في الكروموسوم الخلوي . ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا يصاب الانسان أصلاً بالسآمة والملل
تفكيك نفسي لظاهرة الملل :
يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثافة الشعور بها هي التي تقود الى الملل ، ولكن ماعلاقة الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ، وهذا يعطينا توضيحات في غاية الأهمية لتناذر ( متلازمة )( SYNDROM ) يوم الأحد عند الغربيين ، فأثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا تعجبت من ملاحظة مزدوجة : أولها كراهية يوم الاثنين الذي هو بداية العمل ، وتقابله ساعة النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ، عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنهك ، فتحمِّر الأعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ، بين باكي حظه وفاشي أسراره ، عند غربي لايحرص على الاقتراب منه أحد ، في حركة تدشين القطط الاجتماعية الجديدة . وثانيها كآبة يوم الأحد خاصة بعد الظهر ، فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نكدا وتنغيصاً ، في أعجب تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنينة القلوب . لم أعرف السر خلف ذلك الا متأخراً ، من خلال هذا التحليل ( الباسكالي ) .
ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة الاغتراب الداخلي :
إن قساوة العمل الاسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية الاسبوع ، ولكنهم منفردين كقطط اجتماعية ، كل لنفسه ، فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجهة للذات ، عندما تتخوى النفس من الداخل ، تتفرغ وتتقعر وتفقر داخلياً . ويدخل الانسان الحالة النفسية التي وصفها المفكر الاسلامي علي شريعتي ( حالة الاغتراب الداخلي) .
هذه المواجهة مؤلمة وتقود الى الشعور بالبؤس والحقارة والشقاء ، في حين كان العمل الاسبوعي عملية خروج وشرود من الذات ، أي عملية نسيان مؤقت للذات ، ومن هنا يدرج باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ، لأنه يؤدي نفس وظيفة الهرب من الذات وعدم مواجهتها ، وتفيد الآية في نفس الاتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) .
هذا هو السر في محاولة هرب الانسان بعد انتهاء العمل الى نوع جديد من العمل هو لهو وتسلية ، ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كلها من صنف عمل جديد قد يكون أشد إرهاقاً وأعظم مجهودا ، ولكنه يفترق عن العمل الأساسي باندماج الانسان فيه وبمتعة أكثر ، فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نشاط آخر من أنشطة العمل الذي نقوم به ، وتسعى منظومة الفكر الغربي اليوم الى تحويل العمل الى متعة مثل لعب المباريات والصيد ، من خلال بناء الديموقراطية في حقل العمل ، أي جعل العمل أيضاً ضرباً من اللهو طالما كان اللهو ممتعاً ، ولكن كلا العمل واللهو عملية تقوم في عمقها على الهروب من الذات وعدم مواجهتها ، لأن الذات فارغة لم تدرك معنى الحياة ولم تحل جدلية المشكلة الانسانية ، فيرى الانسان نفسه على هذه المرآة الشقية .
لماذا كان السجن مؤلماً مخيفاً ؟
فالذات فارغة لم تحل الجدلية الأصلية للوجود ومواجهتها يسبب الألم والشقاء ، لذا كانت ألعن أنواع السجون الافرادية ، والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس لأنه مصادرة للحرية فقط ، بل لأن الانسان يكف عن الذهول الخارجي ، والذوبان في أحداث يومية روتينية تافهة متلاحقة تختصر الحياة الى أشياء وحاجيات وغذاء ومتع رخيصة ، وتختزل الوجود الانساني الى ترانزستور حيواني منكمش ضامر لايتلقى إشعاعات الوجود العظيم ، في السجن يواجه الذات بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل والاعتكاف ، كل أمتعة الانشغال الخارجي توقفت عن تحويل انتباه الانسان ، وسقط الانسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالماً جديداً لأول مرة .
اقرأ المزيد
لماذا يشعر الانسان بالملل ؟ ولماذا يكافحه باللهو والتسلية ؟ وهل اللهو واللغو يكسران حلقة الضجر والسآمة حقاً ؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوحدة والانفراد ؟ لماذا شكلت قضية العدالة المشكلة الانسانية العظمى حتى اليوم واستعصت على الحل ؟! مامعنى الثنائية المشحونة بالتناقض المحيرة في الانسان ، بين قطبي الشيطان والملاك ، والموت والحياة ، والحزن والحب ، والشقاء والسرور ، واللانهائية والعدم ؟ لماذا لايتدفق برد اليقين الى صدر الانسان ويبقى على سطح المعلومات ؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه الانسان فيولد من جديد مكتشفاً ( المعنى ) في الحياة ؟؟
باختصار هل هناك حل للمشكلة الانسانية ؟ وهل استطعنا فهم الانسان ؟ أو على الأقل وضعنا قدمنا في طريق فهمه ؟
هذه المسائل الفلسفية الضخمة المليئة بالتحدي أغرت الفيلسوف الفرنسي ( بليز باسكال )(BLAISE - PASCAL ) فتصدى لمواجهتها في محاولة للامساك بمفاتيح الفهم الكبرى للانسان ، وهي تروي لنا قصة طريفةً من روائع مغامرات العقل الانساني في القرن السابع عشر للميلاد ، يقوم بها انسان مثقل بالأمراض ، يكاد دماغه يتفجر من الصداع ، فيحل أعقد المسائل الهندسية ، في فك لغز المنحنى الهندسي الدحروجي وهو يئن تحت وطأته ويتلوى كالأفعى من آلام الأمعاء التقرحية ، ويقترب من الشلل النصفي السفلي فيمشي على عكازتين ، ولايعمر في النهاية أكثر من ( 39 ) تسعٍ وثلاثين عاماً ( 1623 _ 1662 م ) في شهادة واضحة أن العمر في إنجازاته وليس في طوله ، وأن الزمن هو حال النفس وليس دورة الفلك كما يشير الى ذلك الفيلسوف المسلم محمد إقبال في كتاباته
ظاهرة محيرة عند المفكرين :
أجسام نحيلة يعضها المرض حيناً ، وتفترسها العلل طوراً آخر ، وتقضي عليها الأمراض في سن مبكرة ، أشبه بآلة استُهلكت بكثافة لامتناهية فطواها الموت بسرعة . نفوس عظيمة ، وأدمغة متوقدة . عيون تلتمع بالذكاء والنباهة ، ومسلك طاهر ونظافة أخلاقية ، ومواقف تشع بالحكمة والتصرف المحير الذي لايخطر على بال ، فعندما تقدم اليهود الى عيسى عليه السلام وهم يدفعون أمامهم الزانية كان حرصهم أشد على الإيقاع به عند السلطات الرومانية من إقامة الحد ، كما يروي القصة أبو الأعلى المودوديلأنه سيكون بين مطرقة السنهدرين وسنديان الحكم الروماني ، إن تأخر في النطق بالحكم اعتُبر هرطيقاً ، وإن نفذ الحكم أصبح قاتلاً أو محرضاً على القتل في نظر التشريع الروماني . كان جوابه عليه السلام عجيباً غير متوقع هادئاً عميقاً ( من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ) وانقشع جمهور الفقهاء المزورين عن رأسه .
فلاسفة وعلماء عليلون ؟؟!!
ظاهرة ملفتة للنظر تصدمنا بين الحين والآخر ونحن نقرأ للمفكرين والفلاسفة ، فنرى التحدي المخيف في إعاقة مرض وسيطرة علة ، أطلقت كوامن طاقة غير معقولة في التاريخ ، بين ظلام الرؤية في عمى أبو العلاء المعري ، وموت سبينوزا المبكر عن 42 عاماً بسلٍ رئوي افترس رئتيه ، ولكنه ترك من خلفه أربع كتب مازالت تهز الفكر الانساني حتى هذه اللحظة ، وتعتبر محطات عقلية لكل من دخل الاوقيانوس العقلي لمعرفة مغامرات الفكر الانساني الضخمة . والتقرح المعوي الممض عند باسكال ، وجنون نيتشه بمرض الافرنجي الذي استلب دماغه ، وشلل هاينه الشاعر الألماني ، ويصل المرض الى ذروته عند ( ستيفن هوكينج )( STEVEN HOWKING ) الفيزيائي الكوني البريطاني الذي صعد عنده الشلل الى أطرافه الأربعة ورقبته ، فهو مشلول الأطراف الأربعة ، مربوط الى عربة معاق يستطيع تحريك أصبعين من يده اليسرى ، ويتنفس بثقب صناعي في الرغامى ، ويتكلم عبر كمبيوتر مربوط الى حلقه ، باختصار هو دماغ فقط ولكنه اعتبر نيوتن القرن العشرين بالاختراق العلمي الذي قام به عندما طرح كتابه ( قصة قصيرة للزمان )( A BRIEF HITORY OF TIME ) الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية
ظاهرة التحدي :
يبدو أن التحدي يشكل قانوناً وجودياً ، فهو يستوفز الطاقات لتشكل حلقة حركية ، فالفكر أطلق باسكال ، والهم الفكري قاده الى المرض العضوي ، فمظم قرحات الجهاز الهضمي تندلع من تربة نفسية ، وهذا بدوره ولَّد شرط التحدي ، الذي قاد الى مزيد من الانتاج في حلقة تصاعدية ، ولايعني هذا أن كل مبدع أو مفكر يجب أن يكون مريضاً ، ولكن البدانة والشراهة في الأكل لم تكن في يوم من الأيام صفة المبدعين ، الذين يحملون هماً فكرياً يتجاوز معدتهم ، ذلك أن الهم الفكري يحرم في الغالب أو يقلل شهية التمتع بالطعام والإقبال على مايتقاتل ويتزاحم عليه الناس من المقتنيات ، ويحدد الاندفاع باتجاه هذا المتاع الرخيص ، وتفيدنا العضوية بآلية هامة في هذا الصدد وهي أن الطعام يوجه الدم الى الجهاز الهضمي ، مما يخفف دورانه في الدماغ ، فهو يقود آلياً الى تباطيء عمليات التفكير وإعمال العقل والعكس بالعكس ، وهي ظاهرة فيزيولوجية يشعر بها كل واحد منا بعد وجبة ثقيلة ، من ميل للكسل والاسترخاء ، ويظهر عكسها في الصيام أو قلة الطعام من صفاء الذهن وحدة القريحة وتألق الفكر .
تحدي الظروف بما فيها المرض والعاهات تطلق طاقة الانسان بشكل تعويضي ، وتحدي الظروف التاريخية تستنهض المجتمع ، وتحدي البيئة يحرك الجموع البشرية باتجاه الحضارة ، كما اعتبر المؤرخ البريطاني توينبي عندما رأى في وجود اسرائيل في المنطقة العربية منخس حضاري وتحدي يدفع للمواجهة وتقرير المصير .
اقرأ المزيد
محاولات فهم الإنسان تعددت منذ أيام أبو قراط قبل الميلاد في القرن الخامس، وحاولت الفلسفة الدخول على الخط، وجربت علوم النفس الدخول إلى هذا المجهول مما دفع الكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول أن يصف المحاولات وكأننا نتنقل في غابة لاتكف أشجارها من تغيير إشكالها مواقعها باستمرار. قال الرجل نحن نحاول أن نفكك الظاهرة إلى وحدات ولكن الظاهرة لاتعمل هكذا. في يوم ثلج نرى الثلج ولكن هناك خليط لانهائي من الرطوبة ودرجة الحرارة والضغط وحركة الكوكب والجاذبية والسرعات ... الخ.
ومن هذه المحاولات التي راجت ثم بارت كان علم (الفرينولوجيا) ومن روجها كان طبيب يشهد له بالعلم. تصور الرجل أننا إذا وضعنا كفنا على جمجمة مخلوق عرفناه ووضع تقسيمات عجيبة يمكن الرجوع إليها وقراءتها. ولكن النتيجة أنه ضل طريقه وما هدى.
وهكذا كانت الاثارة العلمية التي أثارها مجموعة من العلماء في القرن التاسع عشر عن زعم فهم الانسان بمجرد تأمل وقياس القحف أخذت اسم الفرينولوجيا. كذلك فإن علماء (بيولوجيا الجزيئات) يعلوهم هذا الشعور اليوم، ولكن الأيام تعلمنا كل يوم، أن كل النظريات التي تريد تطويق فهم الانسان تتهاوى تحت قدميه.
تجربة القيصر فردريك الثاني في الامساك بالروح:
بل إن محاولة فهم الكيان المعنوي عند الانسان قديمة قدم الانسان مما ينقل لنا التاريخ بعض القصص المثيرة عن الملك فريدريك الثاني الذي أغلق الحجرة تماماً على محكوم عليهم بالاعدام، ثم حاول بعد موت الضحية، أن يفتح بحذر وبطء كوةً في الجدار، ليرى ماذا يتسرب منها؟ هل ثمة آخر خاص غير البدن الذي عانق الموت.
تجربة عالم النفس مكدوجل بوزن الروح:
بل إن عالم النفس الأمريكي (دانكان مكدوجل)(DUNCAN MacDOUGALL) قام بتجربةٍ مثيرة أكثر، عندما راقب المحتضرين في سكرات الموت، فقام بحملهم الى موازين في غاية الدقة، تفرق بين الغرامات، فوصل الى نتيجة مفادها: أن الموتى الذين يودعون الى العالم الآخر، يخسرون من وزنهم في المتوسط بين 10 ـ 42 غراماً، دلالةً على أن شيئاً ما ولو بهذا القدر البسيط يودع الجسم؛ فإذا علمنا علاقة الطاقة بالمادة من خلال معادلة آينشتاين، التي تقول بأن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة، وكانت الروح ثمة طاقة ما فإن الطاقة المتسربة رهيبة للغاية، لأن الطاقة هي تحول المادة مضروبة في سرعة الضوء المضاعفة، أي قوة تسعين مليار. هذا إذا صدقت هذه المزاعم وصمدت للحقيقة، لأن مكدوجل أردف بأن وزن الكلاب لم يتغير في تجاربه، قبل وبعد الموت، ومزاعم مكدوجل حتى الآن لم تكذب تماماً (3) .
ملاحظات طريفة حول عمل الوعي:
ومن النقاط التي أثيرت في المؤتمر هي آليات عمل الوعي وكيفية عمله؟ فلقد تم رصد مجموعة من الملاحظات الملفتة للنظر:
1 ـ لقد لوحظ أولاً: أن إمكانية الاستيعاب في الوعي محدودة، فبإمكان الوعي أن يلتقط سبعة وحدات من المعلومات في الوقت الواحد لا تزيد.
2 ـ ثانياً: يعمل الوعي ببطء شديد إذا قورن مع أجهزة الكمبيوتر، فلا يستطيع التمييز بين أكثر من أربعين حدثاً في الثانية الواحدة. في حين أن أجهزة الكمبيوتر العادية تعمل بطاقة تزيد عن هذا بملايين المرات في كمية المعلومات؛ فالوعي مقارنة بالكمبيوتر يبدو جهازاً سخيفاً !! ولكن هل هو كذلك؟
3 ـ ثالثاً: مع كل تركيز الوعي فإن الدماغ لايشتغل بكل طاقته، بل يستخدم في المتوسط فقط واحد بالمائة من خلاياه العصبية. لماذا ياترى؟!
رابعاً: يعمل الوعي ببلادة وتراخي ملفت للنظر، فهو يعرج خلف الزمن لاهثاً متصبباً عرقاً بدون قدرة اللحاق به. إنه خلف الزمن دوماً بحوالي ثلث الثانية. وهذا يدخلنا الى أبحاث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) الذي لفت النظر الى كيفية عمل العقل الانساني في كتابه (أسس علم نفس النجاح)(4)
نظرية (براين تريسي) في كيفية عمل الدماغ:
يرى عالم النفس الأمريكي أن أفضل مايكون عمل العقل عندما يكون مرتخياً؛ فالمسمار حتى تدخله الحائط يجب أن تضربه بالمطرقة بقوة وتوجيه؛ حتى تقتحم بالمسمار صلابة الحائط. في حين أن الدماغ لايعمل بنفس الطريقة؛ فعند الانفعال يهتز عمله، وخير الاوساط لعمل الدماغ الانساني هي أن يعمل بهدوء وحب.
قشرة الدماغ تسيطر على العمليات العقلية وتأخذ الوقود من الدماغ السفلي والمتوسط.
الدماغ السفلي هو دماغ التماسيح الرهيبة ، لتأدية الأعمال التي تشبه في قساوتها سماكة جلد التماسيح. والدماغ المتوسط مركز الزلازل والبراكين العاطفية، وهي مثل طاقة البخار فيمكن إدخالها في مرجل العقل كي تؤدي دورها على خير وجه . ولكن تسرب الطاقة من مفاصل ماكينة التفكير البارد التحليلي العقلاني يقود الى الانفجارات المروعة وتأرجح عمل الماكينة العقلية إذا صح التعبير.
يضطرب الانسان عندما ينفعل؛ فترتجف أصابعه، ويجف عرقه ينحبس بوله، ويرتفع الضغط عنده، يصاب بالامساك وتجف عصارة المعدة وتبدأ بالتقرح، ويصب الادرنالين في الدم مدرارا .
كل هذا يتولد في جو الانفعال، والاهم من هذا هو اضطراب التفكير المتوازن، وهذا هو قسم من تفسير المنازعات الانسانية، لأن مشاعر الخنازير والتماسيح وصراع الغابة يَمسح ودفعة واحدة؛ كل قشرة الدماغ وتطورها الذي استغرق ملايين السنين ، لنرتد وننهار دفعةً واحدةً من الانسانية ؛ الى قعر خندق الحيوانية البئيس .
لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين.
يجب أن نضع أمام مكتبنا هذه الحكمة دوماً: ( يجب ضبط النفس في انفجار بركان الغضب، وعند اشتعال نار الانفعال، في كسرة الحزن، وانهيار الخوف، وعند اشتداد ضباب الشهوة) .
اقرأ المزيد
بمناسبة انعقاد مؤتمر العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) في مدينة سان دييغو (SAN DIEGO) في مقاطعة كاليفورنيا الأمريكية، في نوفمبر من العام 1995 م في ذكرى تأسيسها قبل ربع قرن من الزمان، احتشدت مظاهرة ضخمة من العلماء زاد عددها عن عشرين ألف عالم في شتى ميادين العلوم العصبية: من الذين يعملون في تشريح الدماغ (ANATOMY) وفسيولوجيا الاعصاب، وجراحة المخ، وأبحاث الخلايا العصبية، وعلماء النفس، والفلاسفة، وكيمياء الدماغ، والمخدرين، والمعنيين بالمخدرات والمدمنين وعالم الجريمة، وجماعات التنويم المغناطيسي، والمعتقدين بالباراسيكولوجيا، وأطباء النفس العصبي (PSYCHONEUROLOGY)، أطباء الصحة النفسية، وعلماء الكمبيوتر، والمعلوماتيين.
كانت عناوين الابحاث فقط (ABSTRACTS) تضم ثلاث مجلدات ضخمة. كان هدف الاجتماع هو محاولة حل المشكلة الفلسفية القديمة في اكتشاف الذات؟! من يكون أنا؟ ماهو الوعي واللاوعي؟ ماهو التفكير؟ وكان أطرف ماجاء في المؤتمر بعض الاختراقات المعرفية الجديدة التي قدمها بعض العلماء مثل (بنيامين ليبيت)(BENJAMIN LIBET) الذي يعمل في فسيولوجيا الاعصاب، من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، حول ظاهرة غياب الوعي عن الحاضر، فالوعي يتأخر دوماً عن اللحظة الراهنة بأجزاء من الثانية، فهو يلهث للحاق بنبض الزمن عبثاً، فنحن عملياً خارج الزمن الفعلي؟ ومنها التي قدمها الدكتور (انتونيو داماسيو)(ANTONIO DAMASIO) من جامعة (إيوا)(IOWA) حول فهم جديد لجدلية العواطف والعقل، في تقسيم مثير للعواطف الانسانية فيما يشبه طيف الضوء، فكما يتجمع طيف الضوء الأبيض من سبعة ألوان في حزمة واحدة، حولته الى اللون الأبيض الذي نشعر به، كذلك انبثقت تصرفات الانسان من حزمةٍ من خمسة عواطف هي : الحزن والسرور، الخوف والغضب، والاشمئزاز، ليصل في النهاية الى دراسة ميدانية مثيرة، في تطبيق مقياس خاص على قياس العواطف ونبض العقل ونظم الأفكار عن طريق فحص مادي لتعرق الجلد).
حادثة المريض ايليوت (EIIIOT):
كان الصداع الذي استولى على المريض مبرحاً، لايفارقه ليل نهار مما اضطره الى مراجعة طبيب الاعصاب الدكتور (انتونيو داماسيو) الذي اكتشف عنده ورم في المنطقة الجبهية من الدماغ.
كان المريض السيد (ايليوت) ذو وظيفة محترمة، في حياة زوجية مريحة، وفي علاقات ممتازة مع زملاءه وجيرانه، وباستشارة جراحي الأعصاب تم التداخل الجراحي لاستئصال ورم سليم في الفص الجبهي الدماغي. تمت العملية بسلام ورجع المريض الى بيته معافاً ... ولكن؟؟
تناقض الذكاء والتصرفات:
بعد العملية الجراحية بفترة قصيرة بدأت شخصية السيد ايليوت بالتغير تدريجياً، كما هي في حادثة عامل الطرق (فينياس جاج) الذي اخترق جمجمته قضيب الحديد (1) التي عرضنا قصته فيما سبق، مريضنا الجديد ولى ظهره لزملائه وعاف أقرباءه. خسر وظيفته. بدأ يدخل في مضاربات مالية خطيرة أودت به الى حافة الافلاس. انهدمت عائلته وفارقته زوجته. لم يعد يستيقظ مبكراً وتحول الى رجل بدون طموح. لم يعد يدقق في المواعيد والزمن وتحول الى كم فوضوي.
يقول الدكتور (داماسيو): الشيء الذي لفت نظري في هذا المريض والذي حرضني للبحث العلمي، هو أن ذكاءه لم يضطرب فبقيت المحاكمة العقلية صافية دقيقة، لم تخنه ذاكرته. كانت فحوصات الذكاء عنده (I Q) عادية، وتذكر الكلمات والأرقام على مايرام. قدرة المحاكمة كما هي. بل حتى منظره الأنيق وروحه الفكاهية لم يخسرها. مع كل هذا فإن المريض (ايليوت) أصبح عاجزاً في أن يترك لوحده ليحل مشاكله اليومية منفرداً. وكان السؤال ماالذي أوصل المريض الى حافة الانهيار هذه؟ وأي خلل ترتب بعد هذه العملية الجراحية التي لم تستخرج سوى ورماً حميداً تخلص منه المريض في الظاهر؟ ماهي نوعية الاتصالات العصبية التي تدمرت من جراح الاستئصال الجراحي؟
هذه الحادثة دفعت الدكتور (داماسيو) أن يكرس عشرين سنة من العمل الشاق في الأبحاث العصبية قبل أن يتقدم ببعض النتائج المتماسكة في مؤتمر جمعية العلوم العصبية في سان دييغو الذي أشرنا إليه. ولكن قبل عرض نتائج الدكتور داماسيو عندنا رحلة مثيرة في دراسة الوعي عند الانسان أماط العلم اللثام عن طرف منها.
عصر اكتشاف الذات:
اهتم الانسان بشغف في اكتشاف العالم الخارجي ونسي نفسه، ربما بسبب الصعوبة النوعية، أو ربما لشدة قربها من الذات، فكيف تريد الذات دراسة نفسها بدون إطلالة خارجية، ولكن وعي الذات في الحقيقة هو أرفع أنواع الوعي.
هذه الحقيقة انتبه لها العلماء مما جعل الرئيس الأمريكي السابق بوش يعلن عن افتتاح (عقد) اكتشاف الدماغ الانساني. واليوم لايسعى العلماء فقط لاكتشاف الكوارك في الذرة (2) ولاخفايا ميكانيكا الكم، أو ولادة النجوم في المجرات، بل يغطسون باتجاه العالم الداخلي، والنزول على سطح الكوكب الجديد: رأس الانسان.
الأبحاث العصبية اليوم هي من أكثر الأبحاث إثارةً وسريةً بأعتى من الأبحاث النووية، وارتياد الفضاء، وسبر المحيطات، وفلق البروتون.
مراجع وهوامش :
(1) تراجع مقالتي رقم 96 التي نشرت في جريدة الرياض السعودية ـ العدد 10251 تاريخ 18يوليو 1996 م الموافق 3 ربيع أول 1417 هـ (2) يعتبر الكوارك حتى الآن من أصغر الجزيئات دون الذرية فالذرة تتكون من نواة فيها بروتون ذو شحنة إيجابية والكترون سابح حوله بشحنة سلبية ، ونعرف اليوم أن نفس البروتون مكون من ثلاثة من الكوارك ولكن هل هذه نهاية الرحلة ؟ أم انها بدون نهاية باتجاه العالم الأصغر ، وهي كذلك بدون نهاية باتجاه العالم الأكبر عالم المجرات ، أي أننا مطوقين باللانهايتين من فوق ومن تحت ؟!
اقرأ المزيد