وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 )
مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟
يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته :
الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ .
والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري .
في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات .
يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان .
إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية .
هوامش ومراجع
(3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24
اقرأ المزيد
جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 )
كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين .
كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير .
هوامش ومراجع :
( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون
اقرأ المزيد
إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) .
وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة :
1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي .
2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ .
3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! )
يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه .
الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا .
والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها .
والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !!
والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟
لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية )
فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم .
عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم .
اقرأ المزيد
حسب عالم النفس (أبراهام ماسلو) من مدرسة علم النفس الإنساني، فإن حاجيات الإنسان يمكن أن تنتظم وفق خمس طبقات من هرم، بقاعدة عريضة من خمس حاجيات فيزيولوجية هي: الشراب والطعام واللباس والمسكن والجنس، والحاجة لها تمشي حدتها مقلوبة مع أولها وتخف مع آخرها، فبدون ماء نعيش ثلاثة أيام ولكن قد نعيش العمر كلها عزابا غير متزوجين..
ويرى عالم النفس الإنساني ماسلو أن سلم الحاجيات فوق قاعدة الحاجيات الأساسية البيولوجية، هي أربع حاجات جديدة:
الأمن، والانتماء، والحاجة الى التقدير، وتحقيق الذات.
والطابق الثاني مباشرة هو (الأمن الاجتماعي)... والحاجة الى الأمن هي في عدة اتجاهات، الأمن على الحاجات البيولوجية وجوداً، وأن لا تسلب منه كالغذاء والسكن، والأمن من العدوان عليه بكل أشكال الأذيات، واختصرتها الآية الموجودة في سورة الأنفال بثلاث كلمات (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهي مصادرة حريته وحياته وانتماءه الاجتماعي.
أي إنهاء الانسان بثلاث صور: التصفية الجسدية، أو التصفية الاجتماعية في صورتين النفي الداخلي بالسجن، والخارجي بمعاناة الغربة والهجرة بكل إشكالاتها، ولا يعرف الغربة إلا من عاناها، حينما يفقد الوطن، ومعه كل الاستقرار، وكأنه شجرة تم اقتلاعها من جذورها، فإذا رجع الى الوطن بعد الغياب الطويل لم يبق وطنه الذي عرفه، كما حصل معنا، فيصبح في وضع نفسي لا يحسد عليه، فلم يعد وطنه يعجبه، ولا الغربة تسعده، فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها.
ويبقى الكثيرون من المغتربين يهومون في هذه الدوامات حتى يغيبهم الموت، فيضع الموت والفناء حداً لفقدان التوازن هذا!!
وذهب عالم النفس الأمريكي (براين تريسي) صاحب كتاب (أسس علم نفس النجاح) أن 80% من سعادة الانسان تأتي من الفعاليات الاجتماعية فتسبق المال بذلك.
ويذهب (ماسلو) الى أن توفير (الأمن الاجتماعي) يشكل مباشرة الحاجة الأساسية التي تعطي حقن التوازن الروحي للإنسان عندما يرتبط بالمجتمع.
وهو ما سماه القرآن أيضاً (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) فالضمانات ضد (الجوع) و (الخوف) أعظم شيء يمكن أن يمنحه مجتمع لإنسان.
ومن الغريب أن هذه الضمانات لا توصل الى بر الأمان على وجه اليقين، بل لابد من إضافة أكسير خاص من طمأنينة الروح.
وأتذكر من فترة أقامتي الطويلة في ألمانيا كيف كنت أتعجب منهم؟ فأقول لهم: أنتم لا تعانون من الجوع والخوف، فأنتم تسبحون في بحر من الرفاهية، وعمل مضمون، وضمانات للمستقبل ضد الشيخوخة والبطالة والمرض وحوادث العمل، ولا خوف من الاعتقالات النازية، لرأي أو نشاط أو كلمة إلا بموجب مذكرة قضائية، وينام الانسان آمنا على سربه عنده قوت يومه مطمئن الى غده.
مع ذلك كانت الوجوه كالحة مكشرة لا تشع منها أنوار السعادة والطمأنينة الروحية؟!
وكنت أتساءل لماذا؟ ما هو السر خلفه؟
وأعترف أن السر لم ينكشف لي دفعة واحدة، ولا بشكل فجائي بل جاء بالتدريج من خلال القرآن، واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة، خاصة بالاطلاع على علم النفس، ومنها مدرسة علم النفس الإنساني..
ويعتبر (ماسلو) الطابق الثالث في هرم الحاجات هو الحاجة الى (الانتماء الاجتماعي) فقد يعيش سوري في ألمانيا، يأكل جيداً، ويعمل براتب مجزي، ولا يخاف من الاعتقال العشوائي من وراء تقرير كاذب تطوع به عميل سري، ولكنه مع هذا لا يمتلك الانتماء الى المجتمع الألماني.
والانتماء هو الذي يخلق روح المشاركة الاجتماعية، والإحساس بمشاكله، والدفاع عنه لحظة الخطر، وعندما تتفشى روح عدم الانتماء؛ ينقلب المجتمع الى (شبح مجتمع) يسهل اختراقه واحتلاله، كما حصل مع تبخر نظام صدام في وجه القوات الأمريكية، غداة التهام العراق في ربيع 2003م.
ويعد ماسلو في الطابق الرابع (الحاجة الى التقدير) التي يبنيها الفرد من خلال التواصل مع المجتمع، والانتماء إليه، والارتباط المصيري العضوي معه.
ويتوج الهرم في النهاية بـ (تحقيق الذات).
وهناك مايشبه ذلك في الطرح القرآني، الذي جاء في مثل أهل القرية من آخر سورة النحل؛ أن أهل القرية حققوا شروط الصحة الكاملة عندما اجتمعت ثلاث عناصر فيها هي: (الأمن) و(الطمأنينة) و(الرزق الرغد) وعندما كفرت حصل انهيار في هذا المركب الثلاثي، ليتحول الى حالة (تلبس) مزدوج من الخوف والجوع.
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) النحل الآية 112.
وكلمات القرآن دقيقة، واعترف أنها لم تتكشف لي بسهولة لولا مفاتيح علم النفس، فيجب التفريق بين (الأمن) و(الطمأنينة) فالأولى هي (أمن اجتماعي) والثانية (طمأنينة فردية روحية)..
وأظن أنني أمسكت بالمفتاح في فهم النكد النفسي في الغرب مع كل ظروف الرفاهية التي فيها يستحمون.
فهذا المركب الثنائي (الحصانة ضد الخوف والجوع) هو شرط جامع، ولكنه غير مانع لتحقيق الحاجيات الإنسانية الكاملة، كي يستوي هرم الحاجيات الإنسانية على سوقه تماماً.
إن شرطه الناقص هو تحقيق هذه (الطمأنينة) التي طلبها إبراهيم عليه السلام في معاينة قيام الموتى الى الحياة، (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وحواري عيسى في منظر المائدة وهي تتنزل عليهم، (وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا)، وهي ذلك المذاق التي يشعر بها المؤمنون بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وهي حالة النفس الراضية المرضية عند استقبال الموت وتوديع الحياة الدنيا (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
وهي الحالة التي حام حولها ودندن (ماسلو) في محاولة تجلية هذا البعد الجديد في حاجيات الانسان.
والآن كيف يبدو هرم الحاجيات الإنسانية في العالم الإسلامي؟
اقرأ المزيد
إن ميزة التفكير العلمي الاستعداد لكل الاحتمالات بما فيها نهاية الكون والجنس البشري. ليس بحماقة إسرائيلية نووية أو حتى غير إسرائيلية، ليس من حماقات البشر باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بل بتعرض الأرض لمذنب كما حصل مع انقراض الديناصورات قبل 66 مليون سنة، حينما ضرب أمريكا الوسطى مذنب بقوة خمسة ملايين قنبلة نووية.
وفي تقديري أن هناك خطة للوجود أو هكذا يخيل إلي؛ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. وفي حقبة قديمة عم دخان كثيف غشى الناس بعذاب أليم بعد انفجار بركان في أندنوسيا، فلم يبق من البشر سوى 75 ألف نسمة. ومع ذلك تابع البشر طريقهم.
وحسب تحليل الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) في كتابه (نحو السلام الشامل)، فإن الاضطهاد كان خلف الانشقاق المتتابع لمجموعات البشر، مثل مجموعات النحل عندما تنفصل عن خلاياها وتنشئ خلايا جديدة؛ بل حتى طوفان نوح يبدو في الإضاءة الأنثروبولوجية الجديدة من كشوفات مدينة (سينوب) على ساحل البحر الأسود في تركيا أنه كان شرارة نقل الثورة الزراعية من حواف بحيرة حلوة فاجأها طوفان مدمر كسر عتبة البوسفور وحولها إلى بحر مالح، فهربت شعوب المنطقة التي كانت تملك أسرار الزراعة، وبدأت الحضارة قبل ستة آلاف سنة.
ومن خلال هذا المنظور، فهناك أمل وتفاؤل أن الجنس البشري على الرغم من المعاناة القاسية ـ والتي هي بدورها شرط للنمو ـ أن يولد طبقا عن طبق باتجاه الاستمرار والنمو والدخول في مرحلة الحضارة رقم 3، حيث كانت الحضارات سابقاً تنمو منعزلة عن بعضها البعض ولا تعرف عن بعضها شيئا، كما كانت مفاجأة وصول الأسبان إلى حضارة الازتيك في أمريكا الوسطى. والآن نحن ندخل مرحلة الحضارة رقم 2؛ أي الحضارة العالمية لندخل مرحلة الحضارة رقم 3؛ أي اكتشاف حضارات أخرى في كواكب أخرى. ونحن نعرف اليوم وللمرة الأولى أن هناك كوكبا يبعد عنا خمسين سنة ضوئية، وعن طريق تقنية (ترنح النجم) يمكن كشف الكثير من الكواكب السابحة حول نجوم أخرى وفيها حياة، وبذلك يمكن الوصول إلى حضارة المجرة في ضوء وجود 100 مليار نظام شمسي، مع احتمال وجود حياة على كل 10 ـ 50 نظام شمسي. وكما حدث في رحلة البولونيزيين لاكتشاف المحيط، حيث تم التوسع على شكل قفزات بمعدل قفزة جيل كل 200 سنة، وهذا يعني أننا خلال خمس ملايين من السنين سوف نستعمر كامل المجرة. ورقم خمس ملايين سنة ليس بشيء إذا علمنا أن الشمس عندنا ما زال أمامها خمس مليارات سنة لاستهلاك وقودها.
وفي كتاب (آفاق المستقبل) للمفكر الفرنسي (جاك أتالييه) يقول، إن البداوة ستعود على شكل جديد من الترحل المستمر بأدوات بسيطة، ولكنها كافية مثل الموبايل والبريد الإلكتروني والكمبيوتر الشخصي المتصل بالإنترنيت، وحتى البيوت سوف تستغني عن الرخام والمرمر، كي تصبح أكثر عملية تناسب عصر البداوة الجديدة؛ فكل شيء للاستهلاك والاستبدال. والبريد الإلكتروني اليوم لا يحتاج لصندوق بريد ومفتاح. وهذا التنقل مفيد من جهتين: تحقيق الآية القرآنية بوجود السائحات (مسلمات مؤمنات عابدات تائبات سائحات). وتكرار لما حدث في صلح الحديبية، حيث كان الناس يتقاتلون والجو في غاية التوتر والحواجز السيكولوجية شديدة الكثافة. وتقول الرواية إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، عندما بدأ منطق الحوار. والآن عن طريق الإنترنيت والهجرة الهائلة من العالم الإسلامي ـ حسب مبدأ كانط ـ حيث يزحف عشرات الألوف من المسلمين فارين من الوطن الإسلامي فقراً واضطهاداً من جمهوريات الخوف والبطالة وهم يحملون معهم الإسلام.
صحيح أن الكثير سيموت في بطن سمك القرش الإسلامي، ولكن ستخرج نسخة جديدة معدلة من الإسلام المستنير، ليس من نموذج ابن لادن، بل من نموذج علي عزت بيجوفيتش؛ فهناك نسخ منوعة من الإسلام "وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" و"تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، حيث يعم الإسلام الأرض، وقبل عشرين سنة كان في إيطاليا عشرة آلاف مسلم واليوم أصبحوا مليونا حسب رواية السفير الإيطالي الذي اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه بعد أحداث سبتمبر، وفي ألمانيا أكثر من خمسين ألف من الألمانيات انتظمن في جمعية أخذت اسم (أخوات محمد). وفي أمريكا يعتنق الإسلام سنوياً عشرين ألف أو يزيدون. حسب رواية قناة الديسكفري.
في رحلة الجنس البشري حصل خطأ كرموسومي، حيث استولى الذكور على المجتمع، وكان له تأثير سلبي كما يحصل مع انعدام الرؤية الفراغية، عندما يصاب بالحول أو العور، وهكذا تمت هندسة المجتمع على الحرب، وتشكلت كما يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه) مؤسسات يدعو عنوانها للضحك؛ فكلها تحمل اسم (وزارات الدفاع) وهذا يحمل بشكل مبطن النية السيئة وإساءة الظن بالجوار أنه يبيت الغدر فوجب الدفاع. ولكن مع برمجة هذه الروح، فلا يهم كثيرا من يهجم ومن يدافع، لأن الحروب تنشأ في هذا الجو وتحت مبرر بريء هو الدفاع عن النفس. والقاتل والمقتول في النار. ومع الحرب والجيش والثكنة تشوه كامل تركيب المجتمع وهندسته، ودفعت المرأة إلى كائن قاصر يفرض عليه الوصاية، ويفصل وينظر إليه كجيب جنسي. وتم تطوير السلاح إلى حده الأقصى، حتى وصل الأمر إلى نقل وقود النجوم من باطنها بعشرة ملايين درجة إلى سطح الأرض. ولكن الخطأ لا يصبح صحاً. كما أن الشجرة الخبيثة لا تؤتي أكلها بإذن ربها، بل اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. ولذا وصل الذكور النكدون إلى نتيجة القرد الذي انهرس ذنبه في شق الخشب، حينما أراد تقليد النجار في عمله، فتدخل في ما لا يعنيه، فناله ضرب النجار وألم الذنب المعصور. وهذا يعني أن هذا الخلل الكروموسومي يحتاج إلى جراحة جينات متقدمة، ولكن لا بد منها. وإذا كانت جراحة المستقبل هي جراحة الجينات بعد أن تم فك الشيفرة الوراثية الكامل للإنسان على يد (كريج فنتر). كذلك، فإن جراحة اجتماعية هي أكثر من ضرورة لإعادة تركيب المجتمع الإنساني، حيث تعود الرؤية الفراغية الكاملة، ويرتفع العور فبصرك اليوم حديد.
اقرأ المزيد
القطيع فيه 400 رأس من الغنم :
ومن هذه الروح ( الحدسية ) التي تتذوق الجمال المباشر في العلاقات الخفية بين الأرقام والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ، وإذ مر بجانبهم قطيع من الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد الأغنام التي تسرح في المرج . وكان الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!
موقفه الفلسفي من الرياضيات :
ومن هذا الفهم الرياضي في علاقات الأرقام والأشكال الهندسية الفنية ، وصل الى كشف هام آخر في العلاقات الرياضية ، سيخرج منه بعد ذلك بخلاصة فلسفية في قضية اللانهايتين وجدلية الانسان ، أما في المستوى الرياضي فوصل الى مبدأ يقول إن بين المراتب العددية اختلافاً لانستطيع أن نقول عنه الا أنه لامتناهي ، وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهر له عام 1654 م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ، الذي رأى فيه الأرقام على أشكال هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقداراً متصلاً لايكبر إن أضفنا له مقداراً أياً كان من مرتبة هندسية فوقه ، فلايمكن جمع النقاط الى الخطوط ، ولا الخطوط الى المساحات ، ولا هذه الى الحجوم ، أو بتعبير آخر لاحساب للجذور أمام المربعات ، ولا للمربعات أمام المكعبات ، ولا لهذه أمام مربعات المربعات ، فأمام الكميات العليا علينا أن نهمل الكميات الدنيا كما لو كانت عدماً مطلقاً )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجة المشكلة الانسانية الكبرى ، في خمسة اسقاطات : مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم اللانهايتان ؛ فإذا كانت هناك خنادق يتعذر اختراقها أو القفز من فوقها في الرياضيات ، أو تشكل الفضاءات بينها مسافات لانهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس الانسانية والمجتمع .
مشكلة العدالة الانسانية أو العدل الكوني :
تمثل العدالة الأرضية أكبر التناقضات الانسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط ولا السطوح الى الحجوم ، فهو في مشكلة العدالة الكونية يقيمها على جدلية ثلاثية بين الانفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء لايلزم دائماً الابتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجية العنيفة دون تردد ، والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس . وأثر الخوف واضح كل الوضوح لو توطدت سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ، وبواسطة العنف تم لجم الناس بالرعب فاعتادوا النظام ، فأساس الدولة هو عنف وخوف ، عنف خارجي وخوف داخلي ، ولايظهر هذا العنف والخوف الا في مواجهات فجائية ، والذي يعطي الاستمرارية لهذا الوضع هو اعتياد الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ، فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضى مع الخوف . وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة . الدولة وفق تأسيس النظام الداخلي تحرم القتل وتعاقب عليه وتعتبره رأس الكبائر وأعظم الجرائم . ولكن نفس الدولة تأمر بالقتل في الحروب والثورات ، وتشجع عليه وتكافيء ، وتعتبر أنَّ من يُقتل من طرفها شهيد ، وأنَّ من يُقتل من الطرف الآخر مجرم . في علاقة معكوسة في الدولة المقابلة . فالشهيد هناك مجرم هنا والعكس بالعكس .
علاقة الشهيد _ـ المجرم :
فعلاقة ( الشهيد ـ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخلاقية وعقلانية لها . وعندما تحدث الحروب يتم قتل الانسان بكل سهولة بالأوامر ، حتى أن الجيوش تستخدم سلاحاً خاصاً لاستمرار المجزرة ، بحيث أن الذي لايَقْتِل يُقتل ، كما صور ذلك الكاتب الأمريكي ( ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعاً أيها السلاح ) .
لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضيَّف الواحد الآخر فنجاناً من القهوة ، فلا توجد عداوة بينهما ، ولكن في الحرب يقتل الانسان أخيه الانسان بالأمر فقط مع عدم معرفته سلفاً فضلاً عن وجود عداوة أو حقد سابق . فالقتل يتم على الجغرافيا أو الهوية الشخصية . على الجغرافيا في الحروب الاقليمية فيُقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبل الذي يفترق عنا ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام الاتصالات كما في أجهزة الدش ) ويُقتل على الهوية في الحروب الأهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ، يمثل الآخر ، يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر الأرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛
العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة :
كأنَّ العدالة إذاً في طريقها الى نفق مسدود ؟!
يرى باسكال أن الانسان في جدلية لاطريق الى حلها ، وهو شقي لأنه لايلقى حكماً عادلاً ويرضخ للظلم ، ولكنه بنفس الوقت عظيم لأنه لايرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن بإمكانية العثور عليها ، فالانسانية في جدلية محيرة وفي وضع غير قابل للحل ، وينتقل من موقف الى ضده ، لايرضى بالواحد ولا الآخر .
اقرأ المزيد
فهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( PENSEES ):
كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان البرق الحارق الخارق تضيء الوجود في لحظة واحدة ، ويذكرنا هذا بكتاب ( الخاطرات ) لجمال الدين الأفغاني ، وكتاب هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) وهذه الومضات الفكرية هي أحد اتجاهات علم النفس المعروفة بالجشتالت ، وكلمة ( GESTALT ) تعني بالألماني الاطار الكبير أو النسق الشامل أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشر ، حيث يصل العقل لفهم وضعٍ بدون الانتقال التدريجي التحليلي لفهم الواقعة ، وهو كما نرى أحد نزعات عمل الدماغ الانساني . هذه النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشف قانون الاحتمالات ، عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتمالات الربح والخسارة ؟ فأجاب فوراً وبعفوية ناطقاً بقانون رياضي مدهش مازال يعتمد حتى اليوم في عالم الرياضيات لمشكلة الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا التركيب العقلي عنده هو الذي جعله يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قانون الاحتمالات الرياضي الى المصير الانساني .
الرهان الرياضي والمصير الانساني :
وهي فكرة لاتخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة الإيمان باليوم الآخر تبقى أفضل حتى من الناحية البراغماتية المحضة ، في ضوء قانون الاحتمالات حيث يبقى أمام الانسان خياران ، يترتب على الأول الفوز بكل شيء ، في حين أن عكسه لايعرضه لأي خسارة ، وهي نفس الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري شعراً :
قال الطبيب والمنجم كلاهــــما لاتحشر الأجساد قلت إليكــــما
إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله طهرٌ فأين الطهر من جســــــــــديكما
ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله : (( وإنما نظرته الى الرهان نظرة براجماتية محضة . إن وزنه للمخاطر والتركيز على ماهو أكثر نفعا ، على مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة اللامتناهية )
علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية :
ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حاول فهم المشكلات الانسانية في ضوء الفلسفة ، والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصحيح ، كما أنها لاتتولد الا في مناخ خاص ، فهناك علاقة جدلية بين التكنولوجيا والقاعدة العلمية والمناخ الفكري ، أي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار على حد تعبير المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) أو كما يقول المثل الأمريكي : ( الأشخاص التافهون يتكلمون في الأشياء ويحرصون على امتلاكها . والسطحيون يروقهم الحديث عن الآخرين . اللامعون والنابهون هم الذين يعنون بالعلم ويتذوقون الأفكار وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضي وقتك وماذا يفعل بالفراغ ؟ ولاكتشاف الذات تبقى الوحدة أفضل مشعر على التذوي والتخوي والتقعر الداخلي من غناه وخصبه وحيويته . علوم الكوسمولوجيا والفيزياء النووية والبيولوجيا والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ، ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع .
جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر :
الانتاج التكنولوجي لايأتي من فراغ بل لابد له من قاعدة علمية ، واستواء هذه القاعدة بدورها يتطلب مناخاً عقلياً خاصاً . والقرآن في هذا الصدد يجب أن يفهم ليس على أنه كتاب طب وكشوف علمية ، بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم .
وفي ضوء هذه الفكرة فإن فلاسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباسكال وهيجل دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية . ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطورة من الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مالم ننتج القاعدة التي تولد ( الأشياء التكنولوجية ) وهي قاعدة علمية . ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خاص . من أبرز صفات هذا المناخ حرية الفكر ، فالفكر الغربي اليوم يبحث بدون ( تابو) بدءً من الدراسة النقدية للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة . وفي جامعة مك - جيل ( Mc. GIL ) في مونتريال يدرس الطلاب أنظمة الحكم في العالم ، حيث تخضع النظم الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبرية ، كما يدرس الأطباء الباكتريا وتفريخها وتمكنها واستفحال مرضها ، كذلك العثور على الترياق المناسب لسمومها ، ليس لتصديرها الى الدول البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ، بل للاحتفاظ بها في الأدراج السرية للمؤسسات العسكرية ، كما رأينا في فيروس الموتابا في فيلم الانفجار الفيروسي (OUTBREAK ) فالسياسة علم ، والجنس علم ، وعلاقة الايمان بالعلم أيضاً علم ، وفي اللحظة التي نوحد فيها طرفي معادلة العلم والايمان ، كما وحد آينشتاين المادة والطاقة فسوف تحل أعظم مشكلة واجهت العقل الانساني حتى اليوم .
سحر الشكل الهندسي في الأرقام عند باسكال :
كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ، ففي الوقت الذي حاول ديكارت أن يقلب الهندسة الى أرقام ، فإن باسكال استولى عليه روح الجمال في رشاقة الهندسة فَفَهِم الأرقام من خلال تراكيب هندسية ، كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فالأعداد تتركب فيما بينها وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو الأمر عند فيثاغورس وفي تقدم باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضاً من شكل هندسي الى شكل هندسي آخر ، ولايرجع أبداً الى العبارات الرمزية العامة التي نجدها في الجبر ولا الى التركيبات العقلية الخيالية التي نجدها عند ديكارت . إنه يرجع دائماً وأبداً الى نظرة فنية كاشفة )(*)
اقرأ المزيد
الحكم القريبة المحجوبة :
هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفة هي لب قانون الأواني المستطرقة أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمه ثم صبه على شكل قانون رياضي يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل .
هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مستوى بحر على آخر ، وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر شغلت بال الانسان منذ أيام الفراعنة ، للاقتصاد في دروة كاملة للالتفاف حول القارة الأفريقية ، وكان هناك خوف من ارتفاع منسوب المياه في البحر الأبيض عنه في الأحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على بعض _ الى غرق مصر الكامل . وفكرة باسكال في ضغط السوائل أدخلت الى العقل الانساني فهماً جديداً في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين الأحواض المتصلة ، فإذا كان مرج البحرين يلتقيان ، فهناك برزخ غير منظور لايجعل أحد البحرين يطغى على الآخر ، فبينهما برزخ لايبغيان .
التخلص من ضغط مسلمات الأفكار السابقة :
كان باسكال عالماً تجريبياً قبل أن يكون فيلسوفاً روحانياً يمزج التصوف بالفلسفة في عصير روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ، والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة الخلاء في أنبوب الزئبق ، وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ، الذي كان يؤمن بأن الطبيعة تكره الخلاء ، ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلة هذا المفهوم ، فإذا مليء أنبوب مفتوح أحد الطرفين بالزئبق ، ثم وضع على حوض مملوء بالزئبق ، نزل مستوى الزئبق في عمود الزجاج الى مستوى معين واستقر عنده ، تاركاً خلاءً في أعلى الانبوب . وتتكرر هذه الظاهرة مع كل تجربة . وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الذي كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة . عمد باسكال الى إعادة التجربة في مستويات شتى بين البحر والجبل والسهل ، واستخدم سوائل منوعة فعمد الى الماء والكحول والزيت فكانت هذه الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد . لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعة لغة الخلق الأساسية ، التي تنطق بصدق وصرامة ، بدون تحريف وتزوير ومحاباة ، فهي أعظم من كل نص كَتب عنها ، من أي جهة كانت مصدره ، لقد لاحظ أن مستوى السائل الزئبقي يرتفع أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبق 76 سم ويقل هذا مع الارتفاع علواً . من هذه الملاحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضغط الجوي الذي قاد الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية لاحقة ليس أقلها في ميدان الطب في معالجة الحروق والغانغرين الغازي في غرف مرفوعة الضغط عالية التركيز في الاكسجين ( HYPER - BARIC - OXYGEN - CHAMBER )
تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال :
إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن السابع عشر للميلاد كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ، وكان أبرز مافي هذا الفكر كسر المسلمات العقلية السائدة ، التي تحولت الى أغلالٍ بثقل حجر الرحى ، فهي الى الاذقان فهم مقمحون . مع هذا كان باسكال نسيجاً فكرياً لوحده . كان يشترك مع ديكارت في مستوى العمق الفلسفي واستخدام الرياضيات للمنطق الفلسفي ، كما أشار الى ذلك في كتابه الخواطر ( PENSEES ) وأثنى على ديكارت ، ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقع سطحياً . ففي الوقت الذي كان ديكارت تحليلياً كان باسكال ( حدسياً ) أقرب الى مدرسة الجشتالت ( GESTALT ) وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شمولي سنني يستخدم فيه أداةً معرفية لتطبيقها بشكل وجودي في حقول معرفية شتى ، كان باسكال يرى تعقيداً وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقلٍ معرفي . وهو ماأكدته مدرسة علم النفس السلوكي .
وفي الوقت الذي كان عقل ديكارت ينفر من التجربة وجوها ولايميل الى الحقل التجريبي ؛ كان باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ، كما حصل مع اختراعه الآلة الحاسبة وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ، وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ، وتعتبر مقدمة لتطوير نظام الكمبيوتر . فإذا قرأ الانسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (PASCAL ) عليه أن يتذكر ذلك العبقري ، الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميلاد ، وأنجز ماأنجز ولم يعمر أكثر من تسع وثلاثين سنة . وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق التاريخي ، كان باسكال مهتماً بالعلم وقدره التاريخي وتاريخ العلوم ، فعندما وصل الى فهم الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصدد منذ أيام أرخميدس حتى عصره .
جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي : (إن لباسكال أسلوباً خاصاً في البحث والتفكير والتعبير وقد رأينا باسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة، لايفرض على العلم وأقسامه نظاماً سابقاً، إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قسم منه على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ، ولاشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه في العلوم ، عبارة عن حدس وكشف لااستدلال وتنظيم استدلالي للأفكار ، وأخص ماتمتاز به النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كاملاً على الموضوع المدروس ، وربما كان أخص مايمتاز به التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر لابتحرير كتاب منسق كل التنسيق )(*)
اقرأ المزيد
الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير :
كذلك تظهر هذه الثنائية التي لاتملك حتى الفلسفة الاجابة عليها في تفسير الشقاء والحبور الانسانيين : (( وشقاء الانسان لغز آخر ، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ، كثير التعرض للألم في كل عصب ، وللحزن في كل حب ، وللموت في كل حياة ؟؟ ))
إن كلمات باسكال تحلق الى الأفق الانساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العقل ، فهذه المعاني لاتوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ، إنها هنا تعبيرات مليئة بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع .
وتبرز الثنائية في صورة أخرى بين الطبيعة كيف تتصرف والانسان الضعيف في مواجهة جبروتها الذي لايرد : (( مع ذلك فإن جلال الانسان عظيم في معرفته أنه شقي ... ماالانسان الا قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ، ولكنه قصبة مفكرة ، والكون كله لاحاجة لأن يتسلح كي يسحقه فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ، ولكنه بعد أن يسحقه الكون لايزال أنبل من هذا الذي يقتله ، لأنه يعرف أنه مفارق الحياة ، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الانسان ))
زحزحة الأفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة الانسان الأساسية :
في نوع من هذه المتحارجات في علاقة اللهو بالضجر ، وثنائية الانسان المبنية على التناقض الذي لايمكن توحيده ، وفكرة العدالة الأرضية التي يستحيل إقامتها ، واليقين الذي يعجز الانسان عن قنصه ، وسعادة الانسان التي لايمكن تحقيقها بدون فهم الانسان . حاول باسكال الغوص في بعد نوعي جديد لفهم المشكلة الانسانية في جذورها في محاولة لحل تراكيبها الخفية واكتشاف معادلاتها المجهولة وهو الرياضي الذي طور حساب التفاضل والتكامل ، ودشن رياضيات الاحتمالات ، وفهم مبدأ الضغط الجوي ، ليضع في النهاية مبدأ ضغط السوائل ، الذي مكن المهندسين لاحقاً فتح قناة السويس وبناما ، بعد أن كان المهندسون يرتعبون من إمكانية علو مستوى بحر على آخر . قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مستوى النفس وتقرير المصير ، ليس باستخدام المنطق الفلسفي ، فقد نفض يده منها بعد أن رأى كلال أدواتها المعرفية في حل المشكلة الانسانية . وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م .
الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م :
حدث هذا قبل أن يموت بثماني سنوات ، حيث زلزلت قناعاته كلها ووصل معها الى اليقين والفرح والدخول الى حل مشكلة الانسان . في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى سالت دموعه الى الأرض ، وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ، فخرجت كلمات التجربة الروحية مهزوزة مقطعة متناثرة لاترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والفرح والسعادة . كانت تسجيلا تجربة دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ، في تلك الليلة عند السحر حيث يهدأ الليل حدث التجلي ، وكأن ناراً اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بنور خاص فكانت أول كلمة كتبها : نار . كانت نارا أحرقت الشكوك والذنوب ومعها الثنائية في ضربة موفقة واحدة . ثم خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خلاصات لمذاقات روحية ، أكثر منها جملاًُّ معبرة عما خالجه من أفكار ، واستفتح تجربته الروحية بنداء خاص الى .. اله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب .. لا إله الفلاسفة والعلماء .. إن باسكال اكتشف ثلاث عظمات كل واحدة تنفصل عن الأخرى بلانهاية في المسافة : المادة والعقل والمحبة ، الأولى للقادة والأغنياء ، والثانية للفلاسفة والعلماء ، والثالثة للقديسين والأولياء ، .. إن حل اللغز الانساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتبة الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها .
ينقل عن باسكال قوله : صنفان من الناس فقط يصح أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه ، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لايعرفونه )(8)
عندما شرع ( سنوفرو ) الجد الأعلى من الأسرة الفرعونية الرابعة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد في حملة بناء الاهرامات ، أُصيبت مشاريعه بكارثة محبطة ، انهار فيها الاهرام الأول بالكامل ، وبدأ الثاني في التشقق ، مما حمل مهندسي الاهرامات من الفراعنة الاوائل الى إمالة زاوية انتصاب الهرم ، فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطحاً ملتصقاً الى الأرض خائفاً من الانتصاب . هذه البداية المخيبة للآمال وضعت التحدي أمام الجيل التالي ، مما جعل الفرعون ( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ، في استقصاء هندسي وتجارب ميدانية مع الادمغة العلمية المحيطة به ، من جامعة هليوبوليس المدينة المقدسة قبل الانطلاق بمشروع جبار يستغرق عشرين عاماً بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجلات ، بدون حديد ، بدون حصان ، بدون بكرات رفع . فكلها تقنيات تم اكتشافها لاحقاً ؛ فالاهرام بني بالسواعد والادمغة والحجارة فقط ... والارادة الحضارية .
كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهرم على خط الأفق تماماً ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقة حفر مكعبات في الأرض على امتداد مساحة قاعدة الهرم ، ثم وصلوا بينها بممرات ثم ملأوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء الأفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم .
اقرأ المزيد
السجن الانفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البشر . بين من يحدق في ذات شقية ، ومن يعشق التأمل والاعتكاف واكتشاف العالم الداخلي الغني .
الوحدة مشعر النضج والاقتراب من الله . على كل حال سيغادر الانسان هذا العالم وحيدا وسيدخل الآخرة لاينفعه في معاناة الخلاص الأخيرة أحد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه . النفس التي ستفاجيء للمرة الأولى بمواجهة الذات ستكون من نوع مزلزل وتجربة تحدث للمرة الأولى . السجن الانفرادي يقود الانسان الى الجنون أو الحكمة ، لأنه يحبسه مع ذاته ضمن أربع جدران . من الغريب أن هذا العزل وهذه المواجهة المفروضة للاعتكاف ، وهذه المواجهة الأليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ، وفيها غاية المتعة لأفراد قلائل من الجنس البشري ، ولجوا هذا العالم الخفي ، وعرفوا مساراته الداخلية بنور خاص ، فهذا القبو عميق حالك الظلام ، لايضاء تماماً الا بمشاعل جهنم يوم يبعثون ، ولكن هذا الصنف تخصبت عندهم الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي .
الثنائية المتناقضة : اللانهايتان
كذلك يطرح باسكال في رؤيته للانسان فكرة اللانهايتان في ثنائية تحمل التناقض ولاحل لها حتى على يد الفلسفة . ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجمل ماكتب في النثر الفرنسي في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ، لأنها تدفقت من خلايا عصبية متوقدة الى أبعد الحدود ، قد ذاقت الاستنارة الداخلية . كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي حدثت معه في نوفمبر من عام 1654 م . لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الجدل الانساني المستعصي على الحل في مذكراته ( الخواطر )( PENSEES ) التي لم ترى النور بشكل كامل الا بعد 289 عاماً ؟! : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ، ولكن هناك لانهائية أخرى وتلك هي لانهائية صغر الذرة وقبولها النظري للانقسام قبولاً لاحد له ، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا لانملك الا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .
إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهاية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور .
من الانسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه ، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي أخذ منه واللانهائي الذي يغمره)
يرى باسكال بهذا العرض الأَّخاذ أن الانسان ليس مركز الكون كما رآه الفيلسوف اليوناني أرسطو ، بل هو في وسط الكون ، في حالة فقدان توازن ، وعجز مطلق عن الفهم ، معلقاً بأفظع من ألعاب البهلوان على حافة غير مرئية بين الكل والعدم ، بين لانهايتان في أي اتجاه سار ، باتجاه الكبير العالم العلوي ، أو باتجاه الأسفل الى العالم الأصغر ، هو عاجز عن إدراك العدم الذي خرج منه وقرر مصيره ، وهو أعجز عن إدراك العدم الذي يمشي باتجاهه مدفوعاً بجبروت لايقاوم ، نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مسرح الحياة . بين لانهايتان تطوقانه ، كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ، الذي يصعد فيه الأول الى الملكوت الفسيح الجبار ، ويهبط الثاني الى العالم الأصغر الذي يسبح الله بطريقته الخاصة . ولكن الانسان حينما يقارن نفسه يصاب بالذهول ، فهو الى اللانهاية لاشيء وعدم وصفر ، ولكنه مقارناً الى العدم يتحول الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية في ضربة غير موفقة وفي ثنائية تناقضية محيرة . عدم وكل شيء بنفس الوقت بنفس اللحظة . هذا ماجعل باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشياً عليه .
الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود :
تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة الانسان مرة أخرى على شكل تناقض محير مزلزل في حالاته النفسية الديناميكية : (( وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان ... يالهذا الانسان من كمير !! ياله من بدعة ووحش وفوضى ، وتناقض ومعجزة ، هذا الحكم في كل شيء ، ونموذج الغباء في الأرض ، مستودع الحق ، وبالوعة الضلال والشك ، مفخرة الكون ونفايته ، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ )) ويُظهر الموت هذه الجدلية الرهيبة ، ففي لحظة واحدة ينهار الانسان من قمة الوجود في النطق والتعبير والحب والأماني والحلم الجميل والعيش الرغيد والحياة البهيجة والنور ، كله ينهار وبخبطة واحدة ، الى السلبية الكاملة والاستسلام المطلق والدمار الساحق والظلام المطبق .
اقرأ المزيد