حسب عالم النفس (أبراهام ماسلو) من مدرسة علم النفس الإنساني، فإن حاجيات الإنسان يمكن أن تنتظم وفق خمس طبقات من هرم، بقاعدة عريضة من خمس حاجيات فيزيولوجية هي: الشراب والطعام واللباس والمسكن والجنس، والحاجة لها تمشي حدتها مقلوبة مع أولها وتخف مع آخرها، فبدون ماء نعيش ثلاثة أيام ولكن قد نعيش العمر كلها عزابا غير متزوجين..
ويرى عالم النفس الإنساني ماسلو أن سلم الحاجيات فوق قاعدة الحاجيات الأساسية البيولوجية، هي أربع حاجات جديدة:
الأمن، والانتماء، والحاجة الى التقدير، وتحقيق الذات.
والطابق الثاني مباشرة هو (الأمن الاجتماعي)... والحاجة الى الأمن هي في عدة اتجاهات، الأمن على الحاجات البيولوجية وجوداً، وأن لا تسلب منه كالغذاء والسكن، والأمن من العدوان عليه بكل أشكال الأذيات، واختصرتها الآية الموجودة في سورة الأنفال بثلاث كلمات (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهي مصادرة حريته وحياته وانتماءه الاجتماعي.
أي إنهاء الانسان بثلاث صور: التصفية الجسدية، أو التصفية الاجتماعية في صورتين النفي الداخلي بالسجن، والخارجي بمعاناة الغربة والهجرة بكل إشكالاتها، ولا يعرف الغربة إلا من عاناها، حينما يفقد الوطن، ومعه كل الاستقرار، وكأنه شجرة تم اقتلاعها من جذورها، فإذا رجع الى الوطن بعد الغياب الطويل لم يبق وطنه الذي عرفه، كما حصل معنا، فيصبح في وضع نفسي لا يحسد عليه، فلم يعد وطنه يعجبه، ولا الغربة تسعده، فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها.
ويبقى الكثيرون من المغتربين يهومون في هذه الدوامات حتى يغيبهم الموت، فيضع الموت والفناء حداً لفقدان التوازن هذا!!
وذهب عالم النفس الأمريكي (براين تريسي) صاحب كتاب (أسس علم نفس النجاح) أن 80% من سعادة الانسان تأتي من الفعاليات الاجتماعية فتسبق المال بذلك.
ويذهب (ماسلو) الى أن توفير (الأمن الاجتماعي) يشكل مباشرة الحاجة الأساسية التي تعطي حقن التوازن الروحي للإنسان عندما يرتبط بالمجتمع.
وهو ما سماه القرآن أيضاً (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) فالضمانات ضد (الجوع) و (الخوف) أعظم شيء يمكن أن يمنحه مجتمع لإنسان.
ومن الغريب أن هذه الضمانات لا توصل الى بر الأمان على وجه اليقين، بل لابد من إضافة أكسير خاص من طمأنينة الروح.
وأتذكر من فترة أقامتي الطويلة في ألمانيا كيف كنت أتعجب منهم؟ فأقول لهم: أنتم لا تعانون من الجوع والخوف، فأنتم تسبحون في بحر من الرفاهية، وعمل مضمون، وضمانات للمستقبل ضد الشيخوخة والبطالة والمرض وحوادث العمل، ولا خوف من الاعتقالات النازية، لرأي أو نشاط أو كلمة إلا بموجب مذكرة قضائية، وينام الانسان آمنا على سربه عنده قوت يومه مطمئن الى غده.
مع ذلك كانت الوجوه كالحة مكشرة لا تشع منها أنوار السعادة والطمأنينة الروحية؟!
وكنت أتساءل لماذا؟ ما هو السر خلفه؟
وأعترف أن السر لم ينكشف لي دفعة واحدة، ولا بشكل فجائي بل جاء بالتدريج من خلال القرآن، واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة، خاصة بالاطلاع على علم النفس، ومنها مدرسة علم النفس الإنساني..
ويعتبر (ماسلو) الطابق الثالث في هرم الحاجات هو الحاجة الى (الانتماء الاجتماعي) فقد يعيش سوري في ألمانيا، يأكل جيداً، ويعمل براتب مجزي، ولا يخاف من الاعتقال العشوائي من وراء تقرير كاذب تطوع به عميل سري، ولكنه مع هذا لا يمتلك الانتماء الى المجتمع الألماني.
والانتماء هو الذي يخلق روح المشاركة الاجتماعية، والإحساس بمشاكله، والدفاع عنه لحظة الخطر، وعندما تتفشى روح عدم الانتماء؛ ينقلب المجتمع الى (شبح مجتمع) يسهل اختراقه واحتلاله، كما حصل مع تبخر نظام صدام في وجه القوات الأمريكية، غداة التهام العراق في ربيع 2003م.
ويعد ماسلو في الطابق الرابع (الحاجة الى التقدير) التي يبنيها الفرد من خلال التواصل مع المجتمع، والانتماء إليه، والارتباط المصيري العضوي معه.
ويتوج الهرم في النهاية بـ (تحقيق الذات).
وهناك مايشبه ذلك في الطرح القرآني، الذي جاء في مثل أهل القرية من آخر سورة النحل؛ أن أهل القرية حققوا شروط الصحة الكاملة عندما اجتمعت ثلاث عناصر فيها هي: (الأمن) و(الطمأنينة) و(الرزق الرغد) وعندما كفرت حصل انهيار في هذا المركب الثلاثي، ليتحول الى حالة (تلبس) مزدوج من الخوف والجوع.
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) النحل الآية 112.
وكلمات القرآن دقيقة، واعترف أنها لم تتكشف لي بسهولة لولا مفاتيح علم النفس، فيجب التفريق بين (الأمن) و(الطمأنينة) فالأولى هي (أمن اجتماعي) والثانية (طمأنينة فردية روحية)..
وأظن أنني أمسكت بالمفتاح في فهم النكد النفسي في الغرب مع كل ظروف الرفاهية التي فيها يستحمون.
فهذا المركب الثنائي (الحصانة ضد الخوف والجوع) هو شرط جامع، ولكنه غير مانع لتحقيق الحاجيات الإنسانية الكاملة، كي يستوي هرم الحاجيات الإنسانية على سوقه تماماً.
إن شرطه الناقص هو تحقيق هذه (الطمأنينة) التي طلبها إبراهيم عليه السلام في معاينة قيام الموتى الى الحياة، (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وحواري عيسى في منظر المائدة وهي تتنزل عليهم، (وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا)، وهي ذلك المذاق التي يشعر بها المؤمنون بذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وهي حالة النفس الراضية المرضية عند استقبال الموت وتوديع الحياة الدنيا (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
وهي الحالة التي حام حولها ودندن (ماسلو) في محاولة تجلية هذا البعد الجديد في حاجيات الانسان.
والآن كيف يبدو هرم الحاجيات الإنسانية في العالم الإسلامي؟
اقرأ المزيد
مفهوم لا إكراه في الدين:
إن القرآن حينما طرح شعار (لا إكراه في الدين) أراد منها تحييد الجسد في لعبة الصراع الفكري، وهذا المفهوم ينبثق عنه ثلاث مفاهيم خطيرة مازال الجنس البشري يعس من أجل تحقيقها، ولم يصل الى ذلك حتى الآن الى بعضها الا بشق الأنفس.
هذه المفاهيم الثلاثة هي بالتتالي:
(1) ـ أولاً: تحييد العرق، وبذلك يتوقف الصراع العرقي وتزول العنصرية من العالم.
(2) ـ ثانياً: كما يصب تحييد الجسد في مفاهيم العنف واللاعنف فيتوقف إكراه الانسان وتعذيبه من أجل معتقداته، فلايقتل الانسان من أجل أفكاره، بل بما جنت يداه، والقرآن مشى في اتجاهين في مواجهة هذه المشكلة الانسانية التاريخية.
فهو أولاً: أعلن من جهته توقف الاكراه في العالم، بكل صوره، فكلمة (لا إكراه في الدين) كلمة جامعة شاملة لكل المعتقدات والمباديء والأديان، فنفى كل صور الضغط والاكراه وضمن أي دين أو مبدأ .
ومن هذا النبع النمير نكتشف بؤس الفقه حين دشن مشروعية قتل المرتد أي من يغير معتقداته، على الرغم من عدم وجود نص واحد في القرآن يفيد هذا الحكم الشنيع، فمن أراد دخول الإسلام ثم الخروج منه عليه أن يخرج بدون رأٍس؟؟ ومن أراد صناعة السيارات عملها تمشي للأمام فقط، فإذا دخلت الكاراج وأرادت الخروج انحشرت فما غادرته أبد الدهر؟؟
رفع الأكراه هو في اعتناق مبدأ أو تركه، دخولاً وخروجاً، وكان هذا الاعلان ـ وهو أمر مثير ـ أنه جاء من طرف واحد، وليس في صور اتفاقيات متعددة الجوانب؟ وهذا يفسر قسماً من سر انتشار الاسلام في العالم وانسياحه حتى هذه اللحظة في ضمائر البشر جميعاً.
وهو ثانياً: ترك الهامش أمام (التظاهر) بالتراجع عن المبدأ في حال التعرض للاكراه (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) كله في محاولة لتحييد الجسد عند اختلاف الآراء والعقائد، من أجل الوصول الى مجتمع انساني حر التفكير خالي من كل صور الاضطهاد والضغط المادي والأدبي، فلا تستخدم أي صورة من صور الضغط لادخال الناس بالقوة في أي مبدأ، أو إخراجهم من أي دين بالقوة، في كلا الاتجاهين، دخولاً وخروجاً.
والعنف المادي ضمن هذه البانوراما هو تلك الوسيلة التي تحتكرها الدولة لتحييد كل صور الاكراه على الانسان ضمن المجتمع كي يعيش آمناً، والجهاد بمعنى استخدام الآلة المسلحة هو لرفع الظلم عن الانسان أينما كان، والظلم من أي جهة انطلق حتى لو قام بها مسلم، من أجل إيقاف عملية إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة، فهي دعوة لأقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أممياً، وبذلك يتحول العالم الاسلامي تحت هذا المفهوم وضمن هذه الصورة الى مكان يهرب اليه اللاجئون السياسيون كل مكان وليس العكس. ومن عجيب تفكير الإصوليين أنهم يقولوا نعم هناك حرية اعتقاد ولا إكراه ولكن هذا في الدخول أما الخروج فلا؟!! بدون أي مستند من النص. وكله تأويل فاسد ضد العقل والمنطق والتاريخ والإنسانية والتطور الدافع للتقدم الإنساني ..
(3) ـ ثالثاً: كذلك يدخل ضمن تحييد الجسد حل جذري لمشكلة المرأة، كما يتحسن وضع المراة في العالم، فوضع المرأة غير مريح في الشرق والغرب على حد سواء، وعندما يتم تحييد الجسد من خلال الجنس، تتوقف المساومة على جسد المراة، التي أخذت طابع المراهنة على الجنس، ونسيان انها انسان كامل وروح متميزة.
مفهوم تحييد الجسد في الصراع الفكري:
لعل ديكارت لو بعث في أيامنا الحالية كان سيتمتع بوضع اوربا وكيف أينعت الثمرات التي وضعها هو وجيل الفلاسفة من القرن السابع عشر، وما وصلت إليه في الخلافات الفكرية، فالانسان في الغرب لايعذب من أجل أفكاره، ولايقتل من أجل معتقداته تركاً أو اعتقاداً وتحولاً، كما أن الأرض الأروربية أصبحت إن شئنا أم أبينا ملجأً للفارين السياسيين، الذين يبحثون عن نجاة لجلودهم من محاكم تفتيش القرن العشرين، فالمسعري السعودي حمته بريطانيا وحين تدخلت السياسة فطيرته لكوبا وترينيدياد تدخل القضاء البريطاني فأعاده لضباب لندن، كذلك الحال مع الغنوشي والبيانوني في اسكتلنده وويلز. كذلك الحال مع البيطار البعثي والحوراني الاشتراكي الذي آوتهما فرنسا، والعطار الذي يقضي بقية أيامه في سلام في آخن من حيث انطلقت الحملات الصليبية على الشرق الأوسط في القرون الوسطى، عظة للغافلين وآية للمتوسمين..
كذلك حققت الحضارة الصناعية ماهو أهم من انتاج السيارات والطيارات من نقل السلطة السلمي، وتدخل أوربا الآن تحولاً مذهلاً لم يعرفه الجنس البشري من قبل وهو الاتحاد بغير طريقة نابوليون أو هتلر، فلم تعد ألمانيا فوق الجميع بل مثل الجميع، ولم يعد توحيد أوربا بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بل باتفاق المونتان لإنتاج الحديد المشترك في الوحدة الاقتصادية. وحكام أوربا يجتمعون ليتحدوا بدون اجتياح أحد للآخر، وبدون أن يخسر أحد زعامة أو مالاً أو أرضاً. ولايعني هذا أن نهاية الرحلة الانسانية سوف تختم على طريقة فوكوياما بالديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية الغربية، فالانسان الغربي حقق الرفاهية والأمن الاجتماعي ولكنه لم ينجح في الطمأنينة الروحية بعد، أما نحن في عالم الأطراف والمحيط؛ فلا رفاهية ولا أمنا، بل رحلة الجوع والخوف والتيه والهولوكوست إلى قرون طويلة، وذرارينا الذين يولدون في الشرق المنكوب ليس أمامهم إلا المجهول والانفجارات والمذابح الأهليه والحروب الطائفية وحكم البعث والعبث، ومؤامرات النصرانية والناصرية والشيع والتشيع والوقوف في خنادق الزمن متجمدين عند خلافات طواها الزمن. والرحلة طويلة أمامنا لنتعلم، ولكننا لن نخرج عن خط التحول التاريخي بحال، إنما هي المسافة الزمنية قرونا بين ذلك طويلة..
اقرأ المزيد
لم يكن هدفي قط حفظ كتاب الله، ولكنه تحقق على نحو غريب، أقصه للقاريء والمستفسر، فائدة للباحثين، وتذكرة للحافظين. أول سورة حفظتها كانت سورة (مريم)، أما سورة (المؤمنون) فكان حفظها في معتقل المخابرات العسكرية في القامشلي، قبل التقدم إلى امتحان البكالوريا بشهرين؛ فكاد الامتحان أن يضيع علي لولا لطف الله؛ فمكثنا في أقبيتهم أربع عشرة يوما عددا، فخرجت وأمامي 43 يوما للامتحان؛ فنجحت وكنت الأول في المحافظة (الحسكة). حفظت سورة المؤمنون برفقة الدكتور (عبد الجبار يوسفان)، الذي كان معنا معتقلا هو طبيب مميز في البلدة حتى اليوم. وما زلت أتذكر تخوفي يومها أن تضيع السنة لأنني كنت قد حضرتها على نحو مكثف، ولما انتهى الامتحان كنت من الجهد ماجعلني استلقي على ظهري شهرا كاملا.
وآخرها كانت سورة (يونس) على ظهر بناية (حسان جلمبو) (يسمونه في دمشق الملحق) الذي تخرج مهندسا لاحقا، وانتهت حياته في جحيم تدمر على مابلغني؟
والدتي (جاهدة شيخموس وصفي) رحمة الله عليها كانت معجبة جدا بسورة مريم. ربما لجرسها الموسيقي. كانت تشجعني فأرسلتني لأخذ مواعظ دينية عند سيدة اسمها (زكية) إذا لم تخني الذاكرة. كانت امرأة بسيطة تقية بدون علم. وهكذا حفظت أول سورة في حياتي ولحبي لها فقد سميت ابنتي الثانية بها فهي مريم الموجودة حاليا في نيويورك وهي تمارس السياسة وإعادة الاعتبار للمرأة في دنيا العرب.
كنت في المرحلة الإعدادية (الصف الثامن = مايعادل الثاني إعدادي). كانت البرية والخلاء أصدقائي المقربين (نسميه الجول بتعطيش الجيم بثلاث نقط). وهكذا كانت أول سورة دخلت مستودعات الذاكرة عندي هي (سورة مريم).
لم يكن يخطر في بالي ولا للحظة أن المشروع سوف ينتهي بحفظ كامل القرآن؛ لأكتشف في النهاية أن الحفظ هي المرحلة السهلة، ولكن (الحفاظ) على ماحفظ هي المرحلة الأصعب، فهناك الكثيرين ممن حفظوا فنسوا؛ أو اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. ثم تأتي المرحلة الأعظم مما مر وهي تدبر القرآن وفهم آياته وكلماته. بالمناسبة من أجل المحافظة على الحفظ يحتاج يوميا تكرار أربع ساعات؟
البارحة كنت استمع لعالم شيعي (القبانجي) يزعم التجديد الديني، وهو يتكلم عن القوس والقاب، وأن القاب هو زاوية أو نهاية القوس. كان كلامه في موضوع القرب والبعد. قلت هو ما أبحث عنه؛ لأن العديد من الكلمات في القرآن يجب الوقوف أمامها.
مثلا الطير الأبابيل مامعناها بالضبط؟ هل هي طيور من نوع خاص؟ أم كناية عن الكثرة؟ مثلا الكهف والرقيم؟ نعرف الكهف فماهو الرقيم؟ ثم لم نعرف شيئا عن مصير الكلب بعد أن رجع السبعة إلى الحياة؟ وفي هذا الاتجاه هناك مئات المواضع في القرآن، تحتاج أن يسلط عليها الضوء؟
بعد أن انتهيت من حفظ سورة مريم وفرحت والدتي بهذا الخبر، قلت لها إن حفظ (سورة البقرة) فيها حديث ينفع للوالدين، وهكذا توجهت لأعظم سورة، ولكن بعد المرور على سورة (فصلت). لم يكن حفظي بالترتيب أو من البداية للنهاية كما في معاهد تحفيظ القرآن؟
كانت سورة فصلت مقررة علينا في الصف التاسع (ثالث إعدادي). كان الجميل في السورة مقطع روعة عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا كيف تتزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأنهم أولياء الله.
هذه الصفحة من السورة أشجع فيها من يريد أن يزيد من حفظ القرآن، أن يركز على هذه الصفحة، وفيها دفع السيئة بالحسنة؟ ياحسرة على العباد. أحيانا أسمع تصرف الناس عكس الآية قلت إنه دفع الحسنة بالسيئة، على صورة مقلوبة لما جاء في القرآن.
بعد تجربتي مع حفظ القرآن رأيت أمكنة تصلح جدا للتلاوة وبشكل مكرر ومؤثر، أما آية التداين والربا والميراث وما شابه فهي أقرب للمتخصصين، كما ألفت النظر إلى أن (التورط) في حفظ القرآن بدون فهمه، ولو بشكل بسيط، لايعني أكثر من نسخة مكررة للمطبوعات، كما نقل يوما عن (محمد عبده) حين بلغه أن فلانا حفظ كتاب الله، فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة. أما الفهم والتفكيك والتحليل، بل واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة؛ فهو شيء مختلف، ويعطي المعنى لماذا نزل هذا الكتاب المبين هدى للناس.
حاليا طريقتي في التعامل مع القرآن أصبحت مختلفة، مثلا على مدى أيام وأنا أقرأ سورة الرعد واكتشف أسرارها، وليست هي السورة الوحيدة، ثم إنني اكتشف كل يوم العديد من يشكك في القرآن الكريم، أو أنه مفهوم على نحو مغلوط، ولعل أشهر من كتب على حد علمي من الوسط السني هو (الشحرور) ومن الوسط الشيعي (القبانجي) وقد كتبت حول (الأخير) بحثا مطولا نشرناه في جريدة الأخبار في المغرب.
كلا الرجلين أي (الشحرور والقبانجي) اجتهدا وهو أمر مزكى ومبارك، وإن كان أسلوب الثاني لايخلو من السخرية، التي لا أظن أنها ستخدمه في اتجاهه، أما الشحرور فكان ملتزما أكثر، وهو يقول كما قال أيضا المصري (جمال البنا) أنه ليس ثمة نسخ في القرآن، ولكنه اعتمد أداة اللغة لفك مغاليق القرآن، ولا أظنه وصل إلى أساسات تفيد الضمير المسلم الحالي، باستثناء دعوته للمراجعة، كما فعل البنا المصري والقبانجي.
اقرأ المزيد
القرآن منبع للطاقة، والتزود منه يحتاج إلى موصلات للطاقة مثل وصل الأسلاك إلى البطارية. وهذه الأسلاك يجب أن تعمل بكفاءة ومن نوعية جيدة ونظيفة من الصدأ. أذكر تماما حين بنيت بيتي في الجولان كيف شرح لي المهندس أبو طه أهمية أن تكون الأسلاك بغلظ 6 ملمتر. هنا في كندا التوصيلات الكهربية شبه أبدية. ليس فقط الأسلاك بل تقريبا كل أدوات البناء.
وفيما يتعلق بالنص القرآني فهو مكتوب بلغة عربية (بلسان عربي مبين) فهو حقيقة ضخمة، ولكنها حقيقة مضغوطة في قناة من لغة عربية، ولكن لا يمكن تمريرها بغير هذا الطريق. حقائق لانهائية من المطلق رب العزة والجلال يتحدث بها إلى العباد في لغة محدودة وكلمات محدودة فكيف يمكن ضغط اللامحدود في المحدود؟ هنا تتبدى المعجزة اللغوية والقوة اللفظية المتعالية والنور الهادي إلى صراط مستقيم. أنا شخصيا أحفظ القرآن ولكنني في كل قراءة أفهم الجديد من تضاعيف النص.
ومعنى هذا الكلام أن فهم هذه الظاهرة يتطلب قلبا مستعدا لتلقي الحقيقة. وأي حاجز بين القلب والظاهرة يمكن أن يعيق الاتصال. وأفضل اتصال لفهم ظاهرة كونية هي الاتصال المباشر بها، بدون حجب ووسائط رديئة التوصيل.وقديما أراد موسى رؤية الله كظاهرة مادية فخر موسى صعقا. فلما أغاق قال سبحانك تبت إليك. وما حصل مع موسى حصل مع قومه حين قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. وعلينا أن نتفهم هذه الطلبات فإبراهيم لم يطلب رؤية الله لا أعرف لماذا ولكنه كان يبحث عنه في تضاعيف الكون من الكوكب والقمر والشمس. ولكنه أراد أمرا مختلفا حين طلب كيف تدب الحياة في الموت الهامد؟ هنا لم يحصل له ماحصل في سورة البقرة من ضرب لحم البقرة الميتة الميت فينهض ويدل على القاتل. بل جاءت من شكل طيور مختلفة تقطع وتوزع وإذا بها تهرع إلى بعضها البعض فتطير. يسأل أحدنا ألم يكن إبراهيم موقنا بهذه الحقيقة والجواب نعم ولكن المشاهدة غير الفكرة المتخيلة. هنا تقول البرمجة اللغوية العصبية أن الحضور في الصورة والنطق تنقل لنا الفكرة بحوالي 60 بالمائة أما الكتابة فلا تنقل أكثر من 20 بالمائة. وهناك من يتقن الكتابة فله سحر ولكنه ليس كذلك في النطق وهذه تحتاج إلى مران. وأنا أعرف البعض ممن يبرعون في النطق ولكن إنتاجهم الكتابي لاشيء. وهنا علينا أن نتذكر أن مايبقى هو المخطوط وأنا شخصيا كتبت عشرات السنوات فأبدعت ولكن النطق استعين به فيما كتبت وأحاول نقل تراثي الورقي إلى الصوت والصورة فلا أدري كم سأنجح؟
وفي القرآن توجد إشارة إلى طائفة من الناس سماهم القرآن (الراسخون في العلم) والرسوخ في العلم رحلة لا نهاية لها.
واللغة لها ثلاث مشاكل جوهرية (عيوب) تحرم من الوصول إلى الحقيقة؛ هي التعميم والتشويه والحذف؛ فأما التعميم فمثل من يقول كل شيء غالٍ، والصحيح أن البعض غال والبعض رخيص وهناك مابينهما حركة في الرخص والغلا.
وأما التشويه فقول المرء مات المريض، فمن هو؟ وما اسمه؟ وكيف مات؟ وسبب الوفاة؟ فكلها نواقص فادحة تحتاج إلى الكثير من الترميم.
وأما الحذف فمثل القول كتاب رائع، فلماذا كان رائعا وما الذي جعله كذلك؟
ولكن بقدر عيوب اللغة بقدر استخدامها بين البشر كأداة تواصل، مثل ظاهرة الرعد والبرق؛ فهي تمر عبر سلك كهربي. وهكذا فأفضل طريقة للاتصال بالقرآن الاتصال المباشر به بدون حجب ووسائط، ولو كانت كتب تفسير! فهي ولدت في عصر مشبعة بروح العصر حتى الثمالة، مثل تفسير ابن كثير الذي انتهت صلاحيته مثل أي دواء، ولنتصور أننا نتناول الأدوية التي فسدت وانتهى وقتها (صلاحيتها) أو الدم الذي انتهت صلاحيته مع ك لحاجة المريض النازف له؟
ومنه سبب الشلل في العقل الإسلامي، ويجب المرور عبر العصور لاكتشاف الظاهرة القرآنية حسب تعبير مالك بن نبي الذي كتب فيها كتابا كاملاً. ونظرا لأن الظاهرة القرآنية هي ظاهرة كونية مثل الشمس والقمر وفلق الصبح والغسق؛ فإن أي كلام عنها يأخذ طابع الذاتية أكثر من الموضوعية. وبقدر الخلفية الثقافية بقدر الاقتراب من الظاهرة. ولكن مهما فهم ووصف الإنسان هذه الظاهرة فهو يرى جزءًا منها مثل لو وقف مجموعة من الناس أمام صخرة ليصفوها؛ فهي مجموعة لا نهائية من الحقائق حتى وهي صخرة؛ فقد يحللها الكيماوي ويصف تاريخها الجيولوجي ونوعية الفلزات المعدنية التي تحتويها. كما قد يصفها الشاعر بعين حالمة. ويراها المؤرخ شاهدا على مرور حملة عسكرية بجانبها. ولكن الصخرة تبقى أكثر من ذلك؛ فقد تكون حجرا من المريخ كما قد تكون مكانا لنمو فطريات نادرة.
ويبقى السؤال كيف الدخول إلى هذه القناة المحدودة من اللغة لفهم ظاهرة كونية غير محدودة؟
هنا يتطلب الأمر البحث والاستعانة بأدوات معرفية وعلوم إنسانية مساعدة، تماما كما يفتح الجراح البطن، أو ينقب عالم الانثروبولوجيا في الأرض بحثا عن قطعة عظم وسن، أو يحدد عالم الاركيولوجيا عمر الأحافير، أو يستخدم صيادو الكنوز في الأعماق السونار.بكلمة أخرى مختصرة، إن الإنسان يخوض البحث كمن يدخل كهفا مليئا بالكنوز بإضاءة خاصة، وبقدر الإضاءة بقدر الاهتداء للكنوز، وهي هنا مثل خامات الأرض وعروق الذهب، تحتاج إلى عمليات إضافية كي يصل الإنسان إلى جوهرها النقي ومعدنها الخالص.
اقرأ المزيد
من جديد نلقي المزيد من الضوء على أخطر مشاكل المجتمعات حين تنحرف فتعبد الأصنام البشرية والحجرية فتقع في براثن الوثنية. ان اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نورا فما له من نور. الا انه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). أو كما يقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).
لا يمكن لأي سيارة ان تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل. ان وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية اذا سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التى جاء من اجلها الانبياء وعليه مات بعضهم او طورد الى حافة الصلب فرفعه الله اليه؟
يقول جودت سعيد (ان البشر حين يعظمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من امريكا الى اصغر ديكتاتور)... ولفهم الطاغوت قص الله علينا قصة اكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات اكبر الاثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفرا بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر.
وقصة فرعون مع موسى من اطول قصص القرآن واكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من امر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون اكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى اكثر من مائة مرة وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. انها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات. والمسلمون يلعنون فرعونا خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الاوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) و(كافور الاخشيدي) في شاهد عما تفعله الثقافة في تعطيل اقدس النصوص وان معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (امام عبد الفتاح امام) يسجل هذه الفقرات المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية): (عندما امعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم اشد سوءا وكلما اوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على ما يسوء حتى وصلت الى البدايات الاولى عند البابليين والفراعنة، دون ان اجد مرحلة استطاع فيها المواطن ان يقول بملء الفم هذه بلادي وانا انعم فيها بانسانيتي وكرامتي، واتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت).
وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى ان هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (واذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس افكارا بل ينصب اصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى ان الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة ان تواجهه بما ليس فيه. واذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد ان تكون حكومته استعمارية). ولذا فان ما حصل كان سقوطا: (في احضان الوثنية مرة اخرى.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد ان كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز اصبح يقتني الاصوات والمقاعد الانتخابية). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو ان هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن (عبيد الطاغوت) يقتربون في اشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً.
اذاعت جريدة (نجم المساء) البريطانية في 31 مارس (اذار) من عام 1846، انه سيكون في الاول من ابريل (نيسان) معرض هام وكبير لكل انواع الحمير في صالة عرض فخمة في غرفة الزراعة بـ(اسلنجتن)، وفعلا جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة، واخذوا في الانتظار فلما امتد الوقت لم يظهر احد ولم يكن هناك في القاعة الا من حضر عند ذلك ضحكوا على انفسهم الى درجة الاغماء، لأنهم عرفوا ان كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الاول من ابريل المترافق بكذبة نيسان. هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
اقرأ المزيد
موسى الذي كان من العبيد. موسى الذي تلقيه أمه في اليم خوفا عليه من القتل. يتربى في قصر فرعون بعد أن تتشفع زوجته ويلقي الله في قلبها حبه. ثم يهرب إلى الصحراء فيتعلم خشونتها ويرعى الغنم والإبل. يعود صحراويا بعد أن كان من طبقة السادة في القصر الحاكم. تحدث بينه وبين فرعون مناقشة مثيرة. تدور حول نقطة واحدة أن فرعون بعد أن جاء جده من الجنوب وطرد الهكسوس اعتبر بنو إسرائيل الذين تكاثروا في هذه الفترة الممتدة ليسوا من الشعب المصري وهم عبيد يجب تطهير الأرض منهم، خاصة أنهم لايعبدون آمون ولا يعتقدون بأوزيس وأوزورويس ولا أنوبيس حامي العالم السفلي ولايرون في الإهرامات مفخرة لعبادة شخص، ولايرون أن الحاكم هو الله. هذه كلها يجب وضعها في الحساب. بل حتى ثورة أخناتون يجب فهمها من التأثر بهذه الرؤى الشرقية عن الله رب العالمين لاشريك له من اصنام بشرية وحية.
فرعون هو الله الحي على الأرض، وهذه العقائد من التثليث ورفع البشر إلى مقام الله هي التي قال عنها القرآن يضاهؤون قول الذين من قبل حين قالوا أن المسيح هو الله وأن عزيرا هو ابن الله. فهذا التناقض العقدي وعدم التسامح أمام الاختلاف الفكري رأى الفراعنة أنهم يجب تحقيق الانسجام في المجتمع المصري بأسره طريقة ممكنة هي التطهير العرقي بالتخلص من بقايا يوسف. كما أشار إلى ذلك الرجل الذي اعترض على قتل موسى وسجل موقفه في سورة كاملة من القرآن وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا يقول ربي الله. ثم يتابع في خطبة طويلة تحتاج إلى تفكيك سيكولوجي اجتماعي أن يوسف جاءكم بالبينات حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يهلك الله كل متكبر جبار وكل مسرف كذاب.
الخطة الفرعونية من أجل تطهير المجتمع من أي اختلاف تأسيسا لحكم شمولي كما في الممالك الشمولية على وجه الأرض من بورما وكوريا وسوريا وكوبا فالفروق كما نرى بين سوريا وكوريا هي حرف فقط فالسين للاستبداد والكاف للكفر.
حفلة مرعبة قام بها فرعون وولد فيها موسى فنجا من المذبحة بطريقة مقلوبة تماما.
قلت لزوجتي فهذه هي القصة باختصار عن مذبحة بني إسرائيل القديمة، ولماذا جاء موسى؟ وماكانت مهمته تحديدا من أجل إخراج شعب من قبضة العبودية إلى فضاء الحرية كما يحصل لشعوب كثيرة على وجه الأرض، ومنها الشعب السوري الذي اجتمعت عليه أحقاد التاريخ من قم وعبدان وهزارة أفغانستان ومرتزقة باكستان وجنود القوزاق من موسكو وأزبكستان.
علقت زوجتي المغربية ولكن حين استرد المصريون على يد أحمس الأول مصر وهرب الهكسوس إلى الشمال لماذا لم يفر معهم بنو إسرائيل وهناك في الأفق احتمال أن يعتبرهم الفراعنة أنهم يمثلون الطابور الخامس للهكسوس، ومصطلح الطابور الخامس ولد مع الحرب الأهلية الإسبانية عن أولئك المنافقين الذي يتظاهرون بالتقوى وهم يتعاونون مع المحتل الخارجي أو القوى الاستبدادية كما هو الحال في سوريا من الشبيحة والبلطجية والزعران والحرافيش.
السؤال حين رأى بنو إسرائيل الخطر يحدق بمستقبلهم لماذا لم يفروا إلى الشمال ويرجعوا إلى الأرض التي خرج منها أجدادهم كما سيفعل موسى بهم لاحقا؟ لماذا ؟ لماذا؟ ألم يكن من بينهم عقلاء أو من يرى سحب المستقبل القاتمة؟ الجواب هو مايحصل مع الكثير من أفراد وجماعات بتعبير القرآن: أثاقلتم إلى الأرض. أذكر من فيلم الهلوكوست أن النازيين كانوا يسوقون اليهود إلى الإعدامات والمقابر الجماعية وهم مازالوا على أمل أنه ولو بمقدار نانو جرام من الأمل أن يرحموا فلا يقتلوا؛ وطبعا هذا يذكر بالمقولة التي نقلت في السيرة عن حيي بن الخطاب، وهو يقول لمن حوله من اليهود في واقعة غدر بني قريظة أفي كل موطن لاتعقلون.
أثاقلتم إلى الأرض تحدث على مستوى الأفراد والجماعات. بنو إسرائيل طابت لهم حياة مصر يأكلون من بقلها وبصلها وقثائها وثومعا وعدسها وبصله، بل إن رائحة الثوم والبصل بقيت في مناخرهم وهم يعبرون البحر إلى أرض الحرية ياموسى ادع لنا يخرج لنا من بصلها وثومها وعدسها وبصلها فيجيبهم اهبطوا مصرا فإن لكم ماسألتم وضربتم عليهم الذلة والمسكنة. كانوا شعبا قد تروض على العبودية ضمرت عنده الأجهزة النفسية ولم يعد صالحا للمهام التاريخية، وكان على موسى الأولى أن يدفنهم في الصحراء، في عملية استنساخ ليخرج من أصلابهم من يتحمل المسئولية ويؤدي المهمة، ويبحث عن رجل صالح على شاطيء البحر عسى أن يفهم الجديد من أسرار الحياة.
يعلق رسول الرحمة ص على مواقف الأنبياء: يعلق على موسى: لو صبر لأخذنا مزيدا من الدروس. وعلى لوط وهو يصرخ بالمثليين المتراكمين من حوله اتقوا الله ولاتخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ يطلبون منه أن يسلمهم الضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة: يصرخ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ يعلق رسول الرحمة ص على موقفه لقد كان يأوي إلى ركن شديد: الله. لانعرف أيضا ماموقفه من يونس وهو يخرج مغاضبا يظن أن لن يقدر عليه، ونوح وهو يدعو أن لايترك على الأرض من الكافرين ديارا.
اقرأ المزيد
وظيفة الجهاد قد تستخدم ضد الكافر (الظالم) أو ضد المسلم (الظالم) المهم أن يكون ظالما وليس كافراً. كما فعل الإمام علي ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم ( خوارج) بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون انفسهم مجاهدين و(شراة) أي باعوا أنفسهم في سبيل الله. في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس (جهاداً) بل خروجاً بسبب تبني (القوة المسلحة) لفرض آراءهم بالقوة ، وهو ماوقعت فيه معظم الحركات الأسلامية في التاريخ المعاصر، لذا فالاتجاهات الاسلامية المعاصرة (العنيفة) هي (خوارج) العصر الحديث بكل أسف. لإنها ضلت طريقها مرتين. مرة في (الهدف) و أخرى في (الوسيلة). (الأولى): بوضع الغاية أن الوصول إلى الحكم يحل المشاكل (كلها ودفعة واحدة). ولم تعلم أن المشاكل تبدأ فعلاً بعد ذلك. و(الثانية) في تبني (العنف) وسيلة للتغيير.
هناك آيتان في القرآن واحدة في سورة يونس والأخرى في سورة الأعراف تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق أن المشكلة ليست (نزيحكم ونقعد محلكم؟!) بل المشكلة هي تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض أن ينتشر، وأننا سوف نعيد أخطاء الاخرين على أبشع عندما تكون تحت (العباءة الإسلامية) على ماتوقع الكاتب (حسان حتحوت) في كتاب (أوراق في النقد) من أن وصول القوى الإسلامية إلى الحكم سوف يفرز ديكتاتورية جديدة، لاتختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتوريات المنطقة في شيء، ولايظن الأسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر، ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر.
تأمل الآية ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تاتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف 128 - 129 ).
لقد انتبه الإمام ابن تيمية قديماً إلى هذه النقطة أي أن الجهاد هو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الظلم. إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة حينما فاتته حرية الفكر والدفاع عنه وبنفس (مبدأ الجهاد) لذا فإن ابن تيمية دفع حياته ثمناً لفتواه التي أفتى بها، فهاهو قد ألقي به في السجن حين اختلفت الآراء، ليموت شريداً حزيناً في سجن القلعة بسبب آراءه، ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر مهما كان لنعم بحريته في أيامه الأخيرة.
من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي لإن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد، فلا الحكومات ترحب بالمعارضة فضلاً عن إيجادها، ولا المعارضة تدرك أن المشكلة هي (ليست) في (الإطاحة بالأنظمة).
لقد أدرك (عبد الرحمن الكواكبي) الحلبي على نحو مبكر هذه النقطة بمنتهى البللورة قبل قرن وسجلها في كتابه القيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ورأى أن الحل لايكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها مع تعديلها، الذي سيكون آليا مع نمو المعارضة.
إن السيارة تحتاج إلى ( دعسة بنزين وفرامل) معاً. وليس إلى نزع دعسة البنزين ووضع أخرى محلها. ذلك أن سيارات العالم العربي كلها تمشي بدون فرامل وتقود شعوبها إلى الكوارث.
إن مانحتاجه هو تغيير نظام الفكر وليس الحكومات، لإن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب، وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبات لانهاية لها. من هنا ندرك خطأ الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقود إلا إلى الكوارث، ومن هنا ندرك أيضا ًعمق المعنى في الآية القرآنية بأن الله لايغير مابقوم ليس حتى يغيروا حكامهم بل يغيروا ما بنفوسهم .
الملاحظة الرابعة: كنت في كندا في مطلع عام 1990 م، فقدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتقنية في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف وتناولت قصة ولدي آدم، فعقب أحدهم: ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقتل؟ كما في الآية (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؟ تدخل شاب ذكي في النقاش حيث أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية واستوعب عمق القضية. حيث انتبه إلى كلمتي (الخاسرين) و (النادمين).
وهكذا استرسلنا في شرح موسع للظاهرة:
(أولاً): لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر بل العكس اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم ولم ير أية خسارة للمقتول، وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).
(ثانياً): دخلت القصة بعداً جديداً حين محاولة إخفاء آثار الجريمة حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تكبيت الضمير والندم على مافعل وهذا هو بيت القصيد، لإن تفاعل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي حتى مع موت أحد الأطراف، والأطراف كلها ميتة على كافة الأحوال (إنك مين وإنهم ميتون). ولكن الموت هنا وبهذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود.
الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف يصحة موقف المقتول أو تبني رأيه وإحياء أفكار الذي مات، ففي الوقت الذي مات الأول واستشهد، كان هذا هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنيه لإفكار الذي مات لأجلها ودفن. دفن الأول بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن (الفكر) الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود؛ لذا وجب أن ينظر الفرد ليس إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ، فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن، والأفراد يموتون، والحبة حتى تنبت لابد من دفنها أولاً .
يجب أن يكرس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في العالم العربي، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي ومحاولة إلغاء الآخر ولو من طرف واحد، لإن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر، كما هو الحال في قصة ولدي آدم.
الاصرار على مبدأ الحوار ولو رفض الطرف الآخر، وعدم التراجع عن مبدأ المبادىء كلها (الحوار) لإنه بالحوار والثبات عليه، حتى والاستشهاد في سبيله هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف. إن كان هناك إصرار فليكن على التخلي ودفعة واحدة عن العنف المسلح، لإن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار يقود في النهاية إلى النزاع المادي. لإن الحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية . وإعلان الرأي - وضمن شروطه المنتجة - مع تحمل تبعة مسؤولية إعلان الرأي حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد .
من هنا نعلم أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص، إلا أنه على كافة الأحوال ليس بقدر تدريب الثكنات العسكرية، كما أنه أقل تكلفة في الوصول إلى أهدافه؛ بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم إلى التوبة والرجوع إلى صوابه حين يدرك أن ماتريده ليس إلغاءه وتصفيته، بل إنك مستعد ليس لقتله، بل لإن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض؟!. بل إن هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمتها بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات.
هذه الصورة من الاستشهاد، أي من أجل فكرة سامية تعطي للحياة معنى، وتمد جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة كما حصل مع ابن آدم الذي خلد القرآن موقفه بأن طرح أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية، فخلد موقفه بخلود القرآن الذي يتلى إلى قيام الساعة. فأما جسده الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة، وأما موقفه فبقي خالداً لايموت .
(ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
اقرأ المزيد
ماهو السبب خلف سقوط غصن أو اندلاع حرب؟ ماهو عامل تفشي مرض وهزيمة أمة؟ ماهي المسببات الرئيسية خلف انفجار ثورة وتفكك دولة وتحلل حضارة؟ هل هناك رؤية مشتركة لفهم خلفية ولادة كل هذه الواقعات غير المتشابهة؟ هل يمكن وضع اليد أو قنص السر المخفي والقانون المهيمن خلف خروج هذه الحوادث الى السطح؟ هل هناك رؤية أنطولوجية (وجودية مشتركة) لكل هذه الأحداث غير المتناسقة والمتشابهة، غير المتناسقة في مظهرها الخارجي، والمتشابهة في خلفية علة ولادتها.
مع مواجهة كل أزمة تاريخية، أو الوقوع في كارثة قومية، يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام الى العدو الخارجي، ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة؟!
إن هذا الضرب من التفكير لايقود الى حل المشكلة والخروج من الورطة بسلام، بل يقود الى نوع من المرض النفسي الخطير، فطالما كانت ذواتنا خارج حقل المشكلة، بقي الحل في الظلام بعيداً عن متناول اليد، وبقيت بالتالي ذواتنا مبرأة عن أي خطأ، والمساهمة في أي خلل، فذواتنا فوق الخطأ ودون النقد ولاتقترب منها يد التشريح وأدوات السبر والتمحيص، واستمر الخطأ يقود الى مزيد من الخطأ، بتعطل آلية تصحيح الخطأ، كما كان العثور على كبش فداء جاهز يقود إلى فرملة آليات الجهد الذاتي بشكل كامل مطبق، وعندما يكون المتسبب عن الخطأ خارج ذاتنا يتولد عنه تلقائياً أمران: الراحة النفسية بالعثور على سبب وهمي، وإيقاف كل آلية يمكن أن تتدخل في مسار الأحداث لإصلاحها.
في مستوى الطبيعة يطرح السؤال نفسه ماالذي يتسبب في سقوط غصن ما؟ هل هي الريح؟ لو كان الريح سبباً لسقطت كل الأوراق، وتناثرت كل الأغصان! ولما سقطت الأوراق بدون ريح في فصل الخريف! فلا عنفوان الريح أسقط كل الأوراق، ولاهدوءها منع وحمى الأوراق من التهاوي.
ولكن البحث الأعمق يصل الى اكتشاف عنصر خفي لاتراه العين بسرعة هو قوة ارتباط الورقة بالشجرة، فالعنصر الخارجي الممثل بالريح لعب دوراً واضحاً عاصفاً مثيراً ظاهراً للعيان، ولكن النخر الداخلي مختبيء خفي لايطل برأسه الا بالبحث المنظم المعمق التأملي السببي.
العامل الخارجي تضافر مع العامل الداخلي في ولادة الحدث، ولكن العامل الداخلي هو الذي هيء الظروف الموضوعية لولادة الحدث وسقوط الورق وتناثر الأغصان.
وفي مستوى البيولوجيا مع حدوث (المرض العضوي) وخلل البيولوجيا يلتفت الناس الى الجرثوم أو الفيروس الخبيث، الذي فجر عاصفة المرض، ولكن الجرثوم موجود دوماً، ولايصاب كل الناس في كل الأوقات مع حضور الجرثوم وتواجده الدائمين، وفي كل فوهاتنا وداخل أمعاءنا ومع كل وجبة طعام تزدحم الملايين من طوابير الباكتريا، وينسى الناس أو لايدركوا دور جهاز المناعة الداخلي في تنظيم السلامة والمرض.
ياترى ماهو المرض وماهي الصحة طبياً وفلسفياً؟
الصحة هي حالة التوازن بين هجوم جرثومي لايعرف الاستراحة والتقاعد والإجازة، وبين جهاز مناعي تأخذه السنة والنوم أحياناً لسبب أو آخر فينهار، ومع انكسار التوازن يتولد المرض فيسقط الانسان طريح الفراش لإعادة آليات التوازن الى مسارها الطبيعي، بتغلب جهاز المناعة (الداخلي) على العدو الخارجي الممثل في الجرثوم والفيروس وسواهما. ويلعب الدواء والغذاء والراحة دور العناصر المساندة والمريحة لإتمام وتنشيط آليات عمل جهاز المناعة الداخلي للقضاء على المرض وسحق الهجوم الجرثومي ـ الفيروسي.
وفي المستوى النفسي يفضح شعور المجرم سلوكه ويدلل عليه، كما في قصة حكيم القرية الذي أراد ضبط لص القرية فجمعهم في صعيد واحد، وصاح بهم إن لصنا لم يكتف بجريمته، بل قام يتبجح بها فينصب على رأسه ريشة طاووس زاهية الألوان، فعمد أحدهم الى رأسه فمسحه، فتسابقت الأيدي إليه تحكم الخناق عليه!
وفي المستوى الاجتماعي يروج الدجل وتتفشى الخرافة ويتكاثر ظهور الجن فجأة في منطقة ما، بفعل ضعف المناعة الاجتماعي، وتدني طبقة الوعي أمام المشعوذين والدجاجلة؛ فعندما يغتال العقل بشكل منظم لايبقى حدود لحماقات البشر.
إن فلسفة القرآن تؤسس لفكرة لم يعتاد عليها الناس وهي (ظلم النفس) فالناس اعتادوا ومستعدون ان يلوموا كل أحد واتجاه وقوة موهومة الا أنفسهم، والقرآن يمشي بشكل مخالف 180 درجة تماماً؛ فهو يدربنا على أن نلوم أنفسنا فقط (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
إن كثيراً من شرائح المفكرين والسياسيين عندهم الاستعداد للوم كل القوى، كسبب لعجزنا من الصهيونية والماسونية والاستعمار والصليبية والشيطان، بل وحتى إحالتها في النهاية الى مصدر يخرس كل متحدث عندما تنسب فضائحنا اليومية الى إرادة الله، ولكن ليس عندهم استعداد ولو لوضع (احتمال) أن نفوسهم شاركت في توليد الهزيمة، وتراكم العجز، واتساع الخرق!
وإذاكان ظلم الانسان لنفسه هو الظلم الأعظم ، فهو يؤسس بدوره لفهم جذور المشكلة الانسانية ، وفهم الظلم الاجتماعي عندما يتحول المجتمع من مجتمع أفقي الى مجتمع طبقي ، تتمزق فيه وتتصدع الشرائح الاجتماعية الى ( مستكبرين ) و ( مستضعفين ) كما تحدث القرآن عن طبيعة المجتمع الفرعوني ، ومصدر هذا الخلل هو خلاف مايتصور الناس من طبقة المستضعفين ، أكثر من طبقة الجبارين المتكبرين .
إن الظاهرة المزدوجة ، أو علاقات القطبين المشؤومين ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) ذات مصدر موحد ، كما في أي فيلم ، فالصورة الملونة تعتمد الأساس الأسود بعد التحميض ، وكذلك علاقات القوة في المجتمع هي من خلل هذه الرافعة بين بني البشر ، فالمستكبر هو مستضعف في أعماقه لاعتماده آلية القوة والقهر ، والمستضعف مستعد بالقوة للتحول الى مستكبر يتلمظ لامتلاك القوة . ودعوة الانبياء جاءت لانتاج نسخة بشرية جديدة بالتخلي عن علاقات القوة ، وبالتالي كسر رافعة ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) .
الضعفاء هم الذين يخلقون الأقوياء . والمستضعفون هم الذين يوجدون المستكبرين . والأمم الهزيلة هي التي تنبت الطواغيت . والمستنقع هو الذي يولد البعوض . والغربان تحط على البقرة الميتة . والنمل يتجمع على جثث الصراصير . والقابلية للاستعمار هي التي تقول للاستعمار أنا هنا تعال فاركب على رقبتي . والدول تنهزم بتفككها الداخلي . وانهيار الحضارات يتم بعلة الانتحار الداخلي أكثر من قصور طاقة التكنولوجيا أو اكتساح خارجي . والاتحاد السوفيتي سقط مع امتلاكه أسلحة تدمير الكون مرات ؛ بفعل مرض داخلي أكثر من هجوم خارجي عاتي ؛ فلم يهاجم هذه المرة من الجيوش النازية أو مدفعية نابليون ، بل كان سقوطه داخلياً صرفاً .
هذا القانون يمسك بإحكام جنبات الوجود ، بوتيرة مكررة ، بدءاً من الذرة الى المجرة ، مروراً بعالم النفس ، ومحيط المجتمع ، وإطار الدول ، وحزام الحضارات ، ومن أبسط الأفكار الى أعظم الامبراطوريات .
ماالفرق بين آدم والشيطان ؟
رفض الشيطان السجود عندما لم يراجع نفسه ويمارس النقد الذاتي ، فاعتبر نفسه أنه لم يمارس الخطأ وأن خطأه سببه الله ( بما أغويتني ) كما اعتمد آلية علمية أثبتت الفيزياء النووية خطأها ، عندما رأى نفسه خير من آدم ، فاعتبر نفسه طاقة شريفة وآدم مادة خسيسة ، والفيزياء النووية ترى اليوم أن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة ، بل إن المادة هي في حقيقتها لاتزيد عن طاقة مكثفة .
أما آدم فقام هو وزوجته ـ خلافاً لتفسيرات العهد القديم عن قصة التفاحة ـ بمراجعة نفسية قاسية من خلال اعتماد منهج النقد الذاتي ، بقدرة الاعتراف بالخطأ ( إنا ظلمنا أنفسنا ) ، فأرجع آدم الخطأ الى نفسه ، فأمكنه طلب المغفرة والرحمة له ولزوجته ولذريته من بعده ، ففاز بموجب هذا بعقد الوكالة العامة من الله ( الاستخلاف ) .
طريق الشيطان بعدم اعتماد منهج المراجعة والنقد الذاتي قاد الى اللعنة الأبدية ، وطريق آدم من خلال التوبة التي هي تجسيد قدرة الاعتراف بالخطأ قاد الى المغفرة والرحمة والجنة
كان المللا الكردي يشرح نصاً باللغة العربية لطلابه الأكراد . كان النص الفقهي يقول : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حيةً يبقى السمن حلالاً .
بدأ المدرس الفقيه يترجم على الشكل التالي : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً ؟! يعترض تلميذ : يامللا كيف خرجت ثعباناً ولم تكن سوى فأر ؟! يرد المدرس : اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر ..
وتروي رواية أخرى أن المؤذن خرج لصلاة الصبح متأخراً ؛ فاجتمع بالناس في الطريق وقد بزغت الشمس ليقول لهم : أنا حضرت حسب الموعد ولكن الشمس خرجت اليوم مبكراً خلاف عادتها ؟!!
إن هذه القصص المسلية تحكي لنا أزمة ثقافتنا ، فنحن على استعداد لتوريط الكون في تناقضات ، على أن نراجع أنفسنا وتصرفاتنا لحظة واحدة لإدخال ( احتمال ) مشاركتنا الجزئية ، في الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس .
اقرأ المزيد
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات ( تمرير الأفكار ) بدون مناقشة و ( تكرارها ) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت . فبالأولى : يتحول العقل إلى ( وعاء ) يضم ( كم ) فوضوي من الأفكار بدون نسق معرفي ( الابستمولوجيا ) ، وبالثانية : تتشكل الدوغمائية ( 1 ) لإن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك ، وبالثالثة : تتشكل ( العقلية أحادية الرؤية ) المريرة ، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص ، مبني على الراديكالية ( التطرف ) ، فالوجود أبيض أو أسود ، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير ، معنا أو ضدنا ، والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل بل اصطياد الاتباع ، وبناء حلقات الدراويش الجدد . فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة ، ويزداد التقليد ، يشتد التعصب ، ويتعمق اتجاه العنف ، يتحنط العقل ، ويتوقف النمو ، يتعطل التطور ، وتصبح الحياة مستحيلة ؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة ، فلاغرابة أن يتحول المجتمع ( كمونياً ) إلى مايشبه الحرب الأهلية المبطنة ، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين ، فالعقلية النقلية تسبح بين ( الاطمئنان البارد ) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة ، و ( كراهية الآخر ) المارق ، ومع الكراهية تتبرمج ( الحرب ) سلفاً ، لإن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد .
أما العقل ( النقدي ) فيقابل المعطيات السابقة ، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على ( تنقية وغربلة ) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على ( تأمل ) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ ، ولإنها تحولت إلى نظم ( تردد - FREQUENCY ) يشبه سريان التيار الكهربي ، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم ، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة ، والحياة مثل ( الطريق السريع ) ذو اتجاه مزدوج ، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب ؛ لإن جوهر الحب مشاركة ، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر ، فالعقلية النقدية سلامية ، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين .
هذا التكوين ( الطفلي ) للعقل من خلال تأسيس (العقلية النقلية) والمحافظة عليها ونشرها في المجتمع وتربية الجيل عليها في (الجامع) و(الجامعة) له آثار اجتماعية مدمرة ، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة ، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر ، إما إذا ملك الشباب ليس ( الكلام والفتوى ) بل السلاح ؛ فنموذج ( كابول ) والصومال جاهزة ، فلايُتْعب أحدهم ذهنه ؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد ، وأنه قد يكون ( مخطيء ) لا أكثر ، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم ( يُكَفِّرون ) ومن عادة أهل العلم أنهم ( يُخَطِّئون ) ، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض ( الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض ( الهرطقة .
إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى ، مصيبة مرض ( الآبائية ) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة ، فمالم ينكسر التقليد ؛ لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة ، فضلاً عن الإبداع ، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة ، عند مواجهة الكوارث والمصائب ، بتحرير منهج ( الشك ) فإنه لن يصل إلى شاطيء اليقين ، لإن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج ، والعقلية النقلية لاترى ربطاً بين الأمرين ، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة ، فلا صدفة في الكون ولاعبثية ، وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث . فإذا انهدمت بناية ، أو مات مريض ، أو توقف جهاز عن العمل ، أو حلت هزيمة عسكرية أوتردي اقتصادي ، أو نكبة حضارية ، فيجب أن نفترض أن خط أً ما قد حصل ، وليس لإن قوى لانعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك ، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة ، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه ، وهذا مبدأ قرآني ( قل هو من عند أنفسكم ) ( 2 )
ينكفيء العقل ( النقدي ) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي ( الذات ) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون ( جمع ) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات ، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم ( العفوية ) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن ( الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع ، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس .
إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها ( ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال ( الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على ( الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و ( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي ( تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين .
والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : (( لإن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق )) ( 3 ) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ) . وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون : (( واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح )) ثم يخلص إلى هذه النتيجة : (( وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه )) ( 4 )
إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه ( الفهم البنيوي التركيبي ) ، والثاني ربطه بالواقع ( في الآفاق وأنفسهم ) لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم ، واقتلاع نص من مكانه ، بدون سياقه العام ، والحيثيات التي ولد فيها ، والترابطات التاريخية ، لايقرب من فهم النص ، بل قد يكون خطراً ومعطلاً . والأخ الذي كان ( يقتلع ) نصف آية من سياقها يبرر بها ( العنف ) الذي يمارسه (( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء ، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (( كفوا أيديكم )) مروراً بــ (( كتب عليكم القتال )) وانتهاءً بــ ( قاتلوا المشركين كافة ) ، وغاب عنه ثانياً أن هذه ( الوظيفة العسكرية ) هي أداة خطرة للغاية ، لإنها مرتبطة بسفك الدماء ، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION ) وبيد ( الحاكم المسلم ) فقط ، فهي ليست لــ ( وظيفة فرد ) كما أنها ليست ( مهمة جماعة ) ، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة ، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح ، وضمن السياسة الشرعية ، التي هي لدفع ( الظلم ) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة ، بل بالأحرى لدفع الظلم ، سواء صدرت من كافر أو ( مسلم ) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته ، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم ، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة ( الجهاد ) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم ، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى ، إنما يفجر الكوارث في كل مكان ، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد ، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح . وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر ، ولاعلاقة له بالصراع المسلح في البوسنة ، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف . فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من ( الفتنة ) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة ، أو بإخراجه من بيته ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ( 5 ) ، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه ، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة ، بما فيه الإسلام ، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( 6 ) فالإسلام وفر نفس الصرب ، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب. ولكي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها . الأول : عمل الجهاز الكهربي ، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة ، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة ، كذلك يقوم العقل ( النقدي ) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع ، أي أخذ النتائج ، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي ، فنتائج عملنا ( جراحي الأوعية ) فوري ، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية ، ونتائج جراحة البطن ( تظهر ) في مدى أيام ، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام ، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع ، حتى يمد رجله ويحمل ثقله ، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة ، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد ، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات ، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً ، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى . كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع ، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين ، ومع البشر عقوداً ، أما التغيرات الاجتماعية ، فليس عندنا من ( مطل ) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال ( بانوراما ابن خلدون ) أي الحقل التاريخي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ( 7 ) . الثاني : هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال ( PUZZEL ) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل ، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر ، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع ، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة . الثالث : وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة ، والصورة لاتفهم إلا بتضام أجزاءها ، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه ؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه ، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال ( حركة ) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء ، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها ، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع . نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء ، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة ، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده) ( 8 )
وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا ، في معنى العقل ( النقدي ) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار ، والعقل ( النقلي ) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص ، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه ، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام ، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء ، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز ، واللحم إلى ( الحروف الأولى ) في صورة الأحماض الأمينية ، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب ، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة ، أو إطلاق الطاقة من السكر . إنه يفعل مايفعله ( العقل النقدي ) مع اللغة ، فكلمة ( فكر ) تتكون من ثلاث حروف ، ولكن حسب نظرية الاحتمالات ، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات ( فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك - ) بمعاني عجيبة ، فالأول ( فكر ) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية ، والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء ، والثالث ( فرك )عمل يدوي ، والرابع ( كرف ) ( شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟! ) والخامس والسادس ( ركف + رفك ) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر ) فيحيلها إلى ( فكر وإيمان ) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن . كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية ، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي ( BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية ، قد تخصصت في ( النقد الذاتي ) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد ؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة ، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن ، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه ، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد ، ويتمهل في اتخاذ قراراته ، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني ، تحتاج إلى ستين ساعة ، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور ( 9 ) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية ؟ وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً ، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد ، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية ، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب ، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية ، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع ( العقل النقلي ) إلى وضع ( العقل النقدي ) ؟؟ ، وفي ضوء هذا فإن ( جراحة الفكر ) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها ، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً ، بل انغلاقاً عقلياً ، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً ، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية ، فتحطم الأغلال العقلية ، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية ، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس).
توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به !! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض ، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها ؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي ، لأن الرجل حبس من داخل عقله ، وليس حقيقة بل وهماً ، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً ؟؟
هوامش ومراجع :
( 1 ) الدوغما ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة ، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة ، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن ( 2 ) سورة آل عمران - رقم 165 ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قل أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 3 ) المقدمة ص 9 ( 4 ) المقدمة ص 37 ( 5 ) الممتحنة الآية 8 ( 6 ) البقرة 256 ( 7 ) الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 ( 9 ) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ ( بول اهرلنج ) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم ، حقيقة فريدة من نوعها . لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون ( الحاجز بين الدم والمخ ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة ، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة . وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
اقرأ المزيد