يذكر البروفسور (دتليف لينكه Detlef Linke) في كتابه الجديد (الدماغ Das Gehirn) من جامعة (بونBonn) الباحث في قسم (الفيزياء العصبية) أنه امكن إنقاذ انسان من الانتحار بواسطة زرع (ميكروشيبس) في دماغه حرَّرته من نوبة الكآبة بزيادة جرعة (السيروتونين Serotonin) عندما انخفض مستواه في الدماغ كما نفعل بزرع منظم ضربات القلب (Pace Maker) حتى لايقع المريض تدور أعينه كالذي يغشى عليه من الموت.
كما ذكر حالة أخرى اشد إثارة عند رجل تمت معالجة الشلل عنده بزرع شريحة في النخاع الظهري والذي حدث أنها تزحلقت قليلاً لتخلق عنده حالة الانتعاظ التي فقدها منذ أمد بعيد واستعاد الوظيفة الجنسية(نفس مصدر الشبيجل ص 148)
كذلك جاءت الأنباء من جامعة (مونبلييه) في فرنسا عن نجاحهم في معالجة المحاضر الجامعي (مارك ميرجرMark Merger) الذي بقي مربوطاً الى كرسي لمدة تسع سنوات بسبب الشلل النصفي السفلي بعد حادث سيارة فقام على قدميه يمشي كمن بعث من الأموات. أما في مانهاتن في نيويورك فقد استطاع فريق الدكتور (ويليام دوبيليه William Dobelle) بنجاح من إنارة البصر مثل (الولاعة) في قحف السيد (جيري62 سنة) بواسطة زرع كابل مكون من 68 الكترودا في الدماغ مباشرة فأبصر بعد عمى مما يقترب من حافة المعجزة.
وهناك فريق بلجيكي يقترب من هذه القفزة أيضاً بمزيد من التطوير على قاعدة: يمشي العلم دوما ببطء ودوما الى الأفضل. كذلك أمكن زرع شريحة داخل الأذن الباطنة عند من فقد السمع فأمكن استرداده بعد يأس، مع ملاحظة أن الأمكانية الحالية هي في رد السمع لمن أدرك الكلام من قبل، وليس من أصيب بالصمم وهو في المهد صبيا.
ولكن العلم لايعرف المستحيل لأنه لايزيد عن أوهامنا فقط. والعلم لايعرف الحدود فيكسر كل أنواع الجغرافيا. فكما فعل الانترنيت فطاش سهم المخابرات وانسحب البساط من تحت أقدامهم فهم في حسرتهم يتـأوهون من ضياع قدرة مراقبة الناس بفتح صناديق البريد والمكاتيب المغلقة واختراق خصوصية البشر، كذلك سيكون مصير ما نسميه (التابو)، ولم يتقدم العلم إلا بكسر ماسماه الناس بالمسلمات وهي أوهام.
ومن ألمانيا تأتي المعلومات عن نجاح الدكتور (نيلز بيرباومر Niels Bierbaumer) رئيس معهد (البيولوجيا العصبية للسلوك) من جامعة (توبنجن Tuebengen) في وضع الكترودات كهربية على جماجم مرضى انعزلوا عن العالم بإصابات في جذع الدماغ وانحبسوا في عالمهم الداخلي الكئيب مايسميه الأطباء (السجن في المتلازمة أو التناذر locked in Syndrom) فاستطاع أن يدربهم بواسطة الوصل بالكمبيوتر وتحريض الخلايا العصبية المتواصل الى درجة أن اشترك بعضهم في الانترنيت بعد أن كانوا في عالم البرزخ لاحي فيرجى ولاميت فينعى.
وكان أجرا من هذا مافعله (روي بيكاي Roy Bakay) من جامعة (أيموري Emory) في أمريكا بإدخال الاسلاك الكهربية الى الدماغ مباشرة فقام أناس غابوا عن الوعي إلى الحياة من جديد بتحريض خلايا جذع الدماغ المصابة مايذكر بقصة اليعازر في الانجيل.
ويتوقع (كورتس فايل Kurzweil) في كتابه الجديد (عصر الآلات المفكرة The Age of Spiritual Machines) عن ثورة جديدة من خلال اتصال الدماغ بالكمبيوتر فيمكن استدعاء محتويات الذاكرة من الدماغ الى الكمبيوتر ونسخها، بل وتبادل المعلومات بالاتجاهين وتعميمها بنقلها الى أدمغة شتى.
أما (كيفين وارويك Kevin Warwick) فقد قفز الى الأمام أكثر فزرع شريحة كمبيوترية في ذراعه ويتهيأ لفعل مثيلها العام القادم في دماغه ومخ وزوجته كي يتخاطبوا بدون لسان. ويأمل من هذا أن نصل الى درجة تبادل الأفكار بسرعة الضوء؛ فالنطق والكتابة بطيئة للغاية وما تتطلبه هذه المقالة من وقت يمكن اختصاره فنهضمه بسرعة البرق أو هو أقرب.
والأمر الثاني هي دراسة المخططات الكهربية التي تمر في الأعصاب لحظات النشوة وتدفق العبقرية وبهجة الفرح فيمكن رسمها وحبسها على الكمبيوتر وإعادة تقليدها فنمنح الانسان سعادة شاملة لاتعرف الحدود، وبهجة غامرة مستمرة لا تعرف الانقطاع، وبهذا نقترب أكثر من مفهوم الجنة وكيف أن الصالحين لايشعرون فيها بالملل ولايبغون عنها حولا ولايمارسون اللغو إلا قيلا سلاما سلاما، في متعة روحية الى أبد الابدين.
موسوعة علوم المستقبل
ليس هناك أصعب من التكهن بالمستقبل ، أو المراهنة على ولادة أو استمرار أشياء بعينها بسبب قانون ( الصيرورة ) الذي يحكم قبضته على الوجود .
يتشكل اليوم تيار قائم بذاته في تأسيس علوم للمستقبل ( FUTUROLOGY ) وعلى الرغم من اهتزاز تصور المستقبل وعدم يقينه ؛ فإنه لم يفت في عضد الناس ، وشكل لهم متعة خاصة بدءً من عرافة دلفي في اليونان قديما أو عرافو الجاهلية ، على الشكل الذي نقلته لنا السيرة في قصة ( شق وسطيح ) فأما الأول فكان نصف انسان بذراع وساق ، وأما الثاني فلم يكن جسمه يحوي العظام هكذا تروي كتب التراث ، وانتهاءً بالمجموعات العلمية الجديدة .
علم المستقبل يحمل القدرة على التنبؤ ، ومن مزايا العلم أو مايجعلنا نسمي أمراً ما علماً خضوعه للتنبؤ والتسخير ؛ فهذان هما شرطا العلم على الأقل ، والقرآن لم يدين العقل ولم يتهم العلم ، ولكنه سحب كل الثقة من الظن والهوى ، وجمع القرآن هذا الأمران في نصف آية فقال ( إن يتبعون الا الظن وماتهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) فكان الهدى والأيمان هذا المزيج المعطر الرائع من تعانق العلم والعقل .
علم المستقبل إذاً ليس رجماً بالغيب ؛ بل تحقيقاً للعلم ، على شرط أن يمضي في تحقيق آلياته في قناة علمية علنية مكشوفة خاضعة لسنة الله في خلقه .
لقد حاول المؤرخ النمساوي ( هانس بيدرمان HANS BIEDERMANN ) رسم تصورات من هذا النوع في كتاب خاص على شكل موسوعة مثيرة بعنون ( الفنون السحرية LEXIKON OF THE MAGIC ARTS ) حاول أن يجمع فيها الغريب والخلاب والاسطوري .
اقرأ المزيد
يخطيء كثيراً من يظن أن (الجينات) هي رقم محدد لوظائف محدودة وعندما نعلم أنها (شبكات عمل) نصاب بالذعر، وأن اكتشافها يعني رفع الستار عن جبل تضرب قممه في غمام المعلومات. من جينات تتشابك لتكوين لغة جديدة حروفها ليست سبع وعشرين حرفاً بل 40 ألفاً (حسب تقديرات مشيو كاكو في كتابه عقول المستقبل).
يكفي أن نعلم أن مانعرفه عن تنظيم الضغط يشترك فيه أكثر من 200 جينا في سلم متدرج يأخذ بعضها برقاب البعض. والسؤال كيف يعمل الدماغ تحديداً؟ وماهي الكيمياء التي كانت تفرز وتفرغ في دماغ الطغاة من أمثال إيفان وتيمورلنك وستالين؟ وهل يمكن بتسليط تيارات كهرطيسية على الدماغ تغيير السلوك؟ لا أحد يملك الأجابة عنه حتى الآن. ويفسر البعض أن الوعي لايزيد عن (نتاج) عمل الشبكة العصبية، وهي تتوهج مجتمعة تحت قانون التراكم (الكمي) يقود الى انقلاب (نوعي)؛ فالوعي يولد من رحم التعقيد.
وهناك من يرى أن عمل الدماغ (لغز محير) لن نصل الى فهمه أبداً كما وصل الى هذه النتيجة العالم الكندي (وايلدر بنفيلدWilder Penfield ) الذي أعلنه في كتابه (لغز العقل Mystery of MIND) بعد عمل خمسين عاماً على قشرة الدماغ عند ألف انسان رسم فيه (خارطة) القشرة الدماغية بكامل وظائفها، ليخلص الى نتيجة عجيبة أن هناك شيء اسمه (العقل) لانعقله وهو خالد لاينتهي بانتهاء المادة الدماغية مع الموت.
ومع تطور الكمبيوتر بدأت أبحاث مثيرة عن إمكانية دمج الخلايا العصبية (النورونات Neurons) مع رقائق الكمبيوتر (Chips). كما فعل (بيتر فروم هيرتس Peter Fromherz) رئيس قسم الفيزياء العصبية الخلوية في معهد (ماكس بلانك Max Planck) للكيمياء الحيوية في (مارتينسريد Martinsried) فزرع خلايا عصبية من دماغ (الحلزون) على شريحة كمبيوتر.
وكذلك مافعله (اكسيل لوركه Axel Lorke) في معهد علوم النانوغرام (العلوم فائقة الدقة)(Center for Nanosciences)(مجلة الشبيجل عدد 19 \ 2000 ص 164) في جامعة ميونيخ في ألمانيا من زرع عشرات الخلايا العصبية من أدمغة (الجرذان) على الشرائح الكمبيوترية ودراسة الذكاء عند 169 تقاطعا.
ولعل أنجحها مافعله (ويليام ديتو( William Ditto رئيس قسم (أبحاث الفوضى Chaos - research) في (المعهد التكنولوجي في جورجيا Georgia Institute of Technology) حيث قام بوصل خلايا حيوان العلق العصبية مع رقائق الكمبيوتر وقام بدراسة الظاهرة على الشاشة فلاحظ قدرة الوصلة الجديدة في عمليات حسابية بسيطة. وهي خطوة أولية بسيطة ولكنها تذكر بقفزة الأخوة (رايت) مع مطلع القرن العشرين حينما حققوا أول ارتفاع عن الأرض بالطيران لمسافة أمتار معدودة لنصل إلى أرسال المسابر إلى المريخ وترسل وكالة (ناسا Nasa) المسبار (نييرNear) ليصل الى كويكب الحب (ايروسEros) على بعد 300 مليون كم من الأرض، بعد رحلة خمس سنوات ليحط على ظهر كويكب الجاذبية فيه أقل من الأرض بـ 3000 مرة، ينتقل فيه الانسان بالقفز من ظهر جبل إلى وادي، ويحوي الكويكب المعادن الثمينة من ذهب وفضة وبلاتين بكميات خرافية في كل قبضة منه، هذا رزقنا ماله من نفاد، بما لم يحلم به أوناسيس وبيل جيت ولم يملكه الفرعون خوفو ورمسيس. وبهذه الطريقة ينمو العلم ولكن أكثر الناس لايعلمون.
العلم الآن يمضي ليس لأصلاح العطب في الجسم البشري بتعديل الارتجاف في داء (باركنسون) أو تبخر الذاكرة عند مرضى (ألزهايمر) أو الشلل عند المقعدين ومنح الأبصار للعمي والسمع لمن حيل بينهم وبين نعمة موسيقى الكلام ودخلوا عالم الصمت والاشارة فهم في ريبهم يترددون؛ بل هو في طريقه إلى قفزة نوعية لاتخطر على بال بشر، من توسيع المدارك الحسية والعقلية؛ فطالما أمسكنا بآليات الوظيفة وسرها الدفين فيمكن مطها في نفس المساحة أو إضافة مزايا جديدة كما هو الحاصل في أجيال الكمبيوتر التي وصلت الى سرعة تزيد عن ألف مرة من نموذج البانتيوم.
بكلمة ثانية يمكن إرهاف حاسة السمع وحدة البصر وقدرة الذوق وزيادة الشم؛ فنرى أفضل من نسر وباشق، ونسمع أفضل من خفاش، ونشم أفضل من الكلاب والثعالب، ونتذوق أفضل من الأرانب والقطط؛ بل ونضيف فوق الحواس حواسا فنرى تحت الحمراء مثل الثعابين، ونستشعر فراغياً بأفضل من قرون الصراصير، ونبصر بالاشعة مافوق الصوتية أحسن من الدلفين، وتكتشف ألسنتنا السموم وماقتل فنبصقه قبل ابتلاع. ونطور مفاصلنا لتكون خفيفة رشيقة فنتسلق الجدران بأفضل من العناكب. وإذا سقطنا جاءت كسقوط النملة من شاهق فنتابع المسير بعد أن ننفض الغبار. بل وحتى تطوير انسان المستقبل الى شكل (يخضوري) فيتحول إلى نبات ذكي برائحة طيبة لايأكل اللحم ويعيش على أشعة الشمس فقط كما تفعل النباتات، كما جاء في كتاب (التنبؤ العلمي) لعبد المحسن صالح(راجع كتاب التنبؤ العلمي سلسلة عالم المعرفة تأليف عبد المحسن صالح).
يذكر البروفسور (دتليف لينكه Detlef Linke) في كتابه الجديد (الدماغ Das Gehirn) من جامعة (بونBonn) الباحث في قسم (الفيزياء العصبية) أنه امكن إنقاذ انسان من الانتحار بواسطة زرع (ميكروشيبس) في دماغه حرَّرته من نوبة الكآبة بزيادة جرعة (السيروتونين Serotonin) عندما انخفض مستواه في الدماغ كما نفعل بزرع منظم ضربات القلب (Pace Maker) حتى لايقع المريض تدور أعينه كالذي يغشى عليه من الموت.
اقرأ المزيد
جاء في كتاب (القوانين) لافلاطون:( إن ارتكب أحد إثماً ضد قوانين التناسب فأعطى شيئاً كبيراً للغاية الى شيء صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية، وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية، وإضفاء سلطات واسعة للغاية على نفس صغيرة للغاية ؛ لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالاً تاماً. ففي صورة الحمق يسرع الجسم البطن صوب المرض، في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق)(كتاب القوانين لافلاطون ص 691 نقلاً عن مختصر دراسة التاريخ لتوينبي الجزء الثاني ص 102 ـ الادارة الثقافية ـ ترجمة فؤاد محمد شبل)
وليس هناك حماقة أكبر من الحرب ومع ذلك فإن البشر يخوضونها ومازالوا. إن لم يكن ضد البشر فليكن ضد الحجر كما فعل الطالبان في أفغانستان ضد تمثال بوذا الشاهق وكان بإمكانهم الاستفادة منه للسواح البوذيين ولكن هذا يذكر بقصة الأصمعي مع الغلام حين قال له ماتقول يا غلام أعطيك الف دينار على أن تكون أحمقا؟ فكر الغلام ثم قال لاياعماه! قال به ويلك إنها ألف دينار! أجاب الغلام: لأنني أبذرها وأبقى أحمقا.
ويذكر المؤرخ البريطاني (توينبيToynbee) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) نموذجين عن تدمير النزعة الحربية فأما الأولى فهو نموذج الدولة الآشورية التي ماتت مختنقة في درعها. وأما الثاني فهو (تيمورلنك) الذي خلّد اسمه في التاريخ بالفظاعات.
قال توينبي: (شخصية عسكرية اقترفت من الفظائع طوال فترة الأربعة والعشرين عاماً من حكمه مثلما اقترفه الملوك الآشوريون خلال مائة وعشرين سنة. إننا لنتخيل المجرم الذي سوَّى مدينة اسفراين بالأرض عام 1381 وكدس خمسة آلاف رأس بشرية في المآذن في زيري في نفس السنة. وطرح أسراه من لوريستان أحياء من أعلى المنحدرات عام 1386. وذبح سبعين ألف شخص وجمع رؤوس القتلى في هيئة مآذن في اصفهان عام 1387. وذبح مائة ألف أسير في دلهي عام 1389. ودفن أحياء اربعة آلاف جندي مسيحي من حامية سيواس عقب القبض عليهم عام 1400. وابتنى عشرين برجاُ من جماجم القتلى في سوريا عام 1400 ـ 1401.
إن تيمور جعل ذكراه تختلط بذكرى غيلان السهب مثل جنكيزخان وأتيلا وأترابهما. وإن جنون العظمة التي جعلت تيمور يصاب بجنون التدمير قد تحكمت فيه فكرة واحدة مدارها الايحاء الى المخيلة الانسانية بأدراك قوته الحربية عن طريق الاساءة إلى البشر إساءة منكرة. كما عبر الشاعر الانجليزي (مارلو) على لسانه: إن جوبيتر وقد رآني في السلاح قد بدا ممتقعا كئيبا خشية أن تنزعه قوتي من عرشه. تجلس ملايين النفوس على شواطيء العالم السفلي ترقب رجعة قارب شارون. إن جهنم ودار النعيم تزخران بأشباح الناس الذين أرسلتهم من ميادين القتال المختلفة لينشروا شهرتي عبر جهنم وحتى السماء)( نفس المصدر ص 120).
إن هذه الفظاعات عند نماذج من طراز إيفان الرهيب الذي حاصر مدينة (كييف) وسوَّرها كي لايفلت أحد ثم قتل جميع أهلها البالغ عددهم سبعين ألفاً، ثم قتل زوجته وابنه وأقرب الناس إليه تروي كارثة أبعد من عمل الثقافة. إنها تروي مرض الفرد (النفسي) عندما يعجز المجتمع عن ردعه ليقود في النهاية من خلال حلقة مفرغة مفزعة عكوسة لاتكف عن الاتساع الى تدمير مجتمع أو تعديل مسار التاريخ على نحو مؤسف، كما أوقف (تيمورلنك) مسيرة الاسلام في أوراسيا وأوربا.
إننا بحاجة إلى مزيد من فهم الانسان حتى نتجنب الكوارث. من هنا انصب التفكير على فهم عمل الدماغ؛ فليس هناك من بوابة لفهم الانسان غير الدماغ، وكل مايحدث في العالم هو انطباع التفكير على الواقع في إسقاط تاريخي.
واليوم تعكف الأبحاث العصبية على فك أهم تركيب على الاطلاق. وإذا كان القرن العشرين حقق انجازاته في الفيزياء؛ فإن القرن الواحد والعشرين سيكون للبيولوجيا.
إن مدرسة (علم النفس التحليلي) اكتشفت عمقاً مخيفاً في تركيبة الدماغ وهو عالم (اللاوعي) الذي يتحكم في 95% من تصرفاتنا من حيث لانشعر أمام 5% من الوعي الذي يظهر على السطح مثل ضوء المنارة على شاطيء المحيط. وإن اختبار (ستافورد ـ بينيهStaford-Binet) الذي وضع اختبار الذكاء (IQ) لم يعد يعتد به أمام كشف (هوارد جاردنر) الذي طرحه في كتابه (أطر العقل Frames of Mind) عام 1983 وأن العمليات المنطقية والرياضية واللغوية لاتمثل إلا بوابة صغيرة من فهم الذكاء الانساني، ليقترح سبعة أبواب جديدة لكشف القارة المجهولة فينا، ثم ليقفز الرقم عام 1993 الى عشرين بوابة، لينتهي إلى أن الذكاء الانساني غير محدود ولايمكن تطويقه في اختبار. وأن اختبارات الذكاء ليست إلا مسابر لقياس عمق محيط لانعرف قاعه حتى الآن، وكوكب لانحيط به علما، ويبدو أن المسافة أمامنا طويلة لفهم التركيب الانساني.
واليوم بعد فك الشيفرة الوراثية عند الانسان في مشروع (الجينوم البشري) يبدو أن العمل الفعلي بدأ الآن لفهم الخلطة السحرية التي تكون البيولوجيا عندنا. ويخطيء كثيراً من يظن أن (الجينات) هي رقم محدد لوظائف محدودة وعندما نعلم أنها (شبكات عمل) نصاب بالذعر، وأن اكتشافها يعني رفع الستار عن جبل تضرب قممه في غمام المعلومات. من جينات تتشابك لتكوين لغة جديدة حروفها ليست سبع وعشرين حرفاً بل 40 ألفاً (حسب تقديرات مشيو كاكو في كتابه عقول المستقبل).
ومنه جاءت عبارة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في القرآن عن هذا التعقيد.
اقرأ المزيد
كشفت الأبحاث التي ظهرت في معالجة مرضى الصرع في المركز العالمي في بون في ألمانيا كشفت أن مراكز النطق والفهم تحتل خارطة تشمل نصف الدماغ الأيسر بكامله وهي من التنوع أكثر من وجوه البشر. كما أن بإمكانها الانتقال إلى نصف الدماغ الأيمن عند الأطفال في الإصابات اليسرى للدماغ.
والذي أوصل لهذه الحقيقة كارثة حدثت في معالجة المريضة (كاثرين برونز) التي خضعت للجراحة بسبب صرع معند وتم استئصال المكان المسئول عن نوبات التشنج الصرعية في مكان بعيد نسبيا عن مراكز الكلام، وتبين أن مركز الكلام عندها في مكان العلة، وبمجرد استيقاظها من التخدير شعرت أنها تفهم ما يقال لها ولكنها تدور حول الكلمة لنطقها فلا تستطيع، مع أن الكلمة في مرمى الوعي وهو المعروف طبيا (بالحبسة الحركية Aphasia) أي قدرة الفهم بدون القدرة على النطق.
وهذه الكارثة فتحت الباب لفهم أعمق لمراكز النطق والكلام عند البشر، حيث يقوم علماء مركز الصرع العالمي في بون من ألمانيا بفتح الجمجمة ثم زرع شرائح كمبيوترية موصولة بأسلاك كهربية للخارج ثم يجرى تحفيز المنطقة لتحديد مناطق اللغة تماما. وبعد ذلك يتم التداخل جراحيا لتهدئة حالات الصرع جراحيا تلك التي لم تستجب بالأدوية. وهو يذكر بالعمل الرائد الذي قام به الكندي (وايلدر بنفيلد) في جامعة مونتريال لمدة خمسين سنة بدراسة جغرافيا المخ على أدمغة ألف شخص في حالة اليقظة ليصل في نهاية أبحاثه التي ظهرت بعنوان (لغز الدماغ Mystery of Mind) أن كل شيء له مكانه إلا الإرادة الإنسانية فليس لها مكان. وأن الروح لا تفنى بتحلل الدماغ. وكما يقول (فرانسيس بيكون) أن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات ينتهي بالشك. ولكنه عندما يبدأ بالشك فإنه ينتهي باليقين. وهو الذي حصل للدكتور بنفيلد فبدأ بالإلحاد لينتهي بالإيمان.
كذلك يقوم (تيم كرو Tim Crow) من جامعة أكسفورد بدراسة ظاهرة محيرة في علم (الجينات) وعلاقتها باللغة، حيث لاحظ أن هناك طفرة في بعض جينات الكروموسوم الذكري أدت إلى ظهور معجزة (النطق) عند الإنسان. وفي عام 2001 م استطاع فريق بريطاني هما (سيمون فيشر + انتوني موناكو Simon Fisher& Anthony Monaco) يعملان في بيولوجيا الجزيئات من جامعة أكسفورد أن يعثرا على جين مسئول عن النطق في (الكروموسوم السابع 7 ) وكان ذلك بواسطة قصة غريبة لعائلة تعيش في جنوب لندن آثروا أن يحتفظوا باسمها سريا تحت لقب (العائلة KE) وهي قصة غير مفهومة تماماً، فالجدة تنطق هذرا بكلام غير مفهوم. ومن أبنائها الخمسة يعاني أربعة منهم من نفس المتلازمة الطبية لا يكادون يفقهون قولا. ومن أصل 24 حفيدا يعاني عشرة منهم من نفس الاستعصاء اللغوي فإذا تحدثوا لم يفهم أحدهم الآخر. وكأنهم في بابل الذين بلبل الله ألسنتهم كما جاء في العهد القديم. ومن خلال البحث الجيني الوراثي عثر عندهم على خلل جيني أعطوه اسم (FOX P2) وهو ما جعل اللغوي الأمريكي (ستيفن بينكر) يقول بمفهوم (غريزة اللغة lANGUAGEINSTINCT.
ولقد حاول فريق علمي في جامعة جيورجيا في تدريب القرد (بنوبو كانزي) ولفترة سنوات في رفع مستوى استيعابه فوصل إلى مستوى 250 رمزا ولم يجاوزها في سقف يطوق قدره. أما نظام اللغة عند الإنسان فهو سماء بدون سقف كما وصفه (بيتر فارب) في كتابه (بنو الإنسان) أنه نظام (مفتوح) و(سهل) و(مختصر) و(اصطلاحي) و(ناقل للمعلومات) و(ثنائي) فالفرق كبير بين دار وضار وبين قلب وكلب وبين كفر وفكر؟ ليس هذا فقط بل أن الكلام ينقلب ليصبح بلاغة كما يعرفها أهل الفن:" أن المجاز أبلغ من الحقيقة وان الاستعارة أبلغ من التصريح وأن الكناية أبلغ من الإفصاح؟
مع هذا فقد جاءت مفاجأة من علم الجينات أن الجين (FOXP2) موجود في الفئران والقرود كما هو موجود عند الإنسان، مما جعلهم يستعينون بالمشهور (سفينتي بيبو svante paabo) أول مكتشف لتقنية (أحافير الجينات Paleogenetic) من المومياء. فقام بالدراسة المقارنة للجين المذكور ليعثر على فروق في تركيب البروتينات وهو ما يذكر بالفروق بين إنسولين البشر والخنازير بفارق حمضين أمينيين.
وحسب (سفينتو بيبي) فإن (جين) اللغة ليس مفردا بل هو (سقالة) تشمل تركيبا معقدا مترابطا من الجينات. وهذا يتطلب البحث بين مليارات الجينات. إذا علمنا أن نواة كل خلية تحوي ثلاث مليارات حمض نووي في كود وراثي يضم أكثر من 40 ألف جين.
كذلك مما لاحظه الفريق العلمي على أفراد العائلة (KE) أن من اختلط لسانه طاش رشده وتراجع ذكاءه. فهناك علاقة وثيقة بين (اللغة) (والذكاء) فمن احتد ذكاءه انصقل لسانه ومن انطفأ عقله انعقل لسانه. والأفكار تختنق باختناق الكلمات. وكما تقول اللغوية (انجيلا فريدريشي) من جامعة لا يبزج في ألمانيا أن اللغة هي:"الأداة الحاسمة للوعي وهي بنفس الوقت الآلة الأهم للذكاء" مع هذا فليس كل ذكي حكيم. وليس كل تصرف رشيد. وأخوف ما يخاف المرء من كل منافق عليم اللسان.
يحكى أن يابانياً من محاربي الساموراي أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: أنت تافه ومغفل أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك. أهان الراهب شرف الساموراي الذي اندفع في موجة من الغضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول سأقتلك لوقاحتك. أجابه الراهب في هدوء: هذا تماماً هو الجحيم. هدأ الساموراي وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده وانحنى للراهب شاكراً له نفاد بصيرته. فقال له الراهب: وهذه هي الجنة.
اقرأ المزيد
كان للتجربة التي تقدم بها (لوك ستيل Luc Steels) رئيس مخبر سوني لعلم الكمبيوتر في باريس وقع الصاعقة حينما حاول أن يعيد تقليد تطور اللغة عبر ملايين السنين بسرعة فلكية عبر الذكاء الصناعي فغذى الروبوتات بالكلام ليرى هل يمكن تشكيل اللغة صناعياً؟
ومما أتذكر من (عنبر) صاحب كتاب جدلية الحرف أنه حاول الوصول إلى اللغة وكيف نشأت فخرج بنظرية تقول أن الإنسان قلد أصوات الطبيعة، ويقول أن السر هو في أي كلمة هي في عقدة وسطها فكلمة رج وجر هما من نفس النسق وتعني الأضداد؛ فكل كلمة تحمل ضدها، وحين مضى في التفسير تعثر وهو متوقع، أيضا حصل نفس الشيء للشحرور الشامي حين كتب كتابه القرآن والكتاب ذهب فلعب بالكلمات مثل حاوي السيرك فأخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، وهكذا فكل كلمة تعني كل شيء أو لاتعني شيئا. ولكن المحاولة العلمية بين أيدينا هي نسق جديد لفهم اللغة واستخدامها، وهكذا ذهب صاحبنا (لو ستيل) فشحن الكمبيوترات بحروف شتى وحرضها لتتبادل الحديث مع بعض باستخدام أي كلام (واو سي .. دو .. وا ..باكو). شحنها بواسطة أدوات بسيطة من الذكاء الصناعي مثل (منظم الصوت ـ الذاكرة ـ وبرنامج لمعرفة النماذج) ولكنه حرم الكمبيوترات من أي معلومات أساسية من علوم النحو والصرف والبلاغة وامتدادها، وترك الآلات تهرج وتمرج وتتخاطب كما تشاء ليرى هل تتعلم اللغة لوحدها؟ وللغرابة فقد فعلت ذلك.
عرض ستيل نتائجه في مؤتمر حول تطور اللغة في جامعة هارفارد النخبوية، حسب رواية مجلة در شبيجل الألمانية (العدد43 \ 2002م) التي نقلت هذه الواقعة المثيرة، وعلق الأنثروبولوجي (كريس نايت Chris Knight) على عمله بقوله: "لقد صعق الحضور مثل القنبلة" وهذا يعني أن الكلام تم توليده بطريقة الديجتال؟ وما فعلته هذه الآلات الخرساء أنها تفاهمت على كلمات محددة بدأت بتردادها فيما بين بعضها البعض، كما بدأت بتشكيل قواعد نحوية خاصة بها. ومع الوقت بدأت الأجهزة بتبادل الكلام وبدأ قاموس التعامل يتضخم بدون توقف. وهذه الواقعة تذكرني بالأخ (محمد جللي) الذي عمل مدرسا للصم في منطقة القصيم من السعودية أن الصم إذا اجتمعوا من أي ملة ونحلة يبدأون في تشكيل لغة خاصة بهم بدون لغة منطوقة بل لغة الإشارات.
والشيء الذي قادت إليه التجربة المثيرة مع (علب الكمبيوتر) هذه أن اللغة كائن حي وحسب (لوك ستيل) فاللغة يمكن " أن تنظم نفسها اجتماعياً وتنتشر مثل وباء الفيروسات.
وما يحاول العلماء فك لغزه اليوم هو: كم يبلغ تعقيد عمل اللغة في الدماغ؟ بعد أن تبين أن هناك العديد من فرق أوكسترا اللغة تعمل. وبتعبير عالم الألسنيات (ديرك بيكرتون Derek Bickerton) فإن نشاط النورونات غريب فهي تكافح ضد بعض البعض بحيث تقفز الأفكار بدون توجيه منا، وما يقفز إلى السطح هو المسيطر وتختفي بقية الأفكار، أي أن الدماغ مثل موج المحيط التي تحركها الرياح وهي عوامل كثيرة يصعب ضبطها.وهذا يشرح القاعدة المادية للوعي واللاوعي.
وهذه الفكرة أعرفها تماما حيث تصعد إلى السطح أفكار فجائية بدون مقدمات وأتعجب من ظهورها وأظن أن هذا يحدث لأي واحد منا وفي كل لحظة فالدماغ كيان عجيب. وحين كنت أقرأ البارحة من سورة الكهف عن موسى وهو من أولي العزم من الرسل كيف التقى برجل مجهول ليتعلم منه دروسا في الحكمة كان أبرزها ثلاثا ولعلها قواعد الحياة الأساسية: تحمل الضرر الأصغر مقابل عدم الوقوع في ضرب أكبر منه، والثاني من الأنفع أن لايولد أناس بعينهم وهذا يحكي أثر الأفراد في صناعة التاريخ، والثالث القيام بالعمل الصالح حتى لقوم فاسدين؛ فلربما كان من بينهم أناس سيستفيدون ولو بعد حين: القصص الثلاث في ثقب سفينة كانت مستهدفة من حاكم ظالم فنجت مع الثقب، والثاني قتل طفل سينتهي بكارثة اجتماعية كما في البراميلي في سوريا وستالين في روسيا وبول بوت في كمبوديا، والثالث هو في إصلاح جدار لأن تحته كنز سوف يستفيد منه أولاد الميت بعد عشرات السنوات مع أن القرية طردتهم بدون ضيافة!
والرجل (لوك ستيل) قام بدراساته اللغوية لسنوات عديدة في جامعة هاواي على المهاجرين وتبين له أن الكبار يعجزون عن التفاهم في الوقت الذي يخترع الأطفال لغة تفاهم خاصة بهم. والسبب يعود في هذا حسب رأيه إلى قاعدة بيولوجية في تركيب الدماغ وأن أصل اللغة هو في التركيب العصبي للدماغ. ومثلاً فقد كان المظنون أن منطقة (بروكا) و(فيرنيكيه) في الدماغ الأيسر ثابتة تشريحياً، والأولى هي لإنتاج الكلام وتوجد بجانب الفص الجداري المسئول عن الحركة. أما منطقة (فيرنيكيه) المختصة بتفسير وفهم الكلام المسموع فهي بجانب الفص الصدغي المسئول عن الحس. ولكن الأبحاث التي ظهرت في معالجة مرضى الصرع في المركز العالمي في بون في ألمانيا كشفت أن مراكز النطق والفهم تحتل خارطة تشمل نصف الدماغ الأيسر بكامله وهي من التنوع أكثر من وجوه البشر. كما أن بإمكانها الانتقال إلى نصف الدماغ الأيمن عند الأطفال في الإصابات اليسرى للدماغ.
اقرأ المزيد
حين احتشد 7700 عالم في أعظم تظاهرة علمية في برلين على مشروع بناء الحاسوب الأعظم فبعد عام 2020 م سيقف الكمبيوتر الحالي عند عتبة من انهيار قوانين الفيزياء
وفي عام 1925 وضع هايزنبرغ المعادلات الرياضية التي تحكم عالم الذرة السفلي، ليضع لاحقاً (إيرفين شرودنجر) معادلته التي تفسر الضوء على شكلين جزئيات وأمواج، ولكنه اعترض بطريقة ساخرة على مفهوم الاحتمال بقصة (القطة الحية الميتة) المحبوسة في حيز، والمعزولة عن العالم، والمهددة بانكسار زجاجة سم، من مطرقة مربوطة بتحلل ذرات يمكن أن تتحلل ويمكن أن لا تتحلل؟ فمع قانون اللايقين لهايزنبرغ القطة ميتة وحية بنفس الوقت فهل يعقل هذا؟
ولكن المسألة كما يقول (نديم الجسر) في كتابه (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) أن نفرق بين (التعقل) و(التصور) وهذا الذي حدث مع تلك الليلة الخالدة لهايزنبرغ؛ فالرجل اشتعل دماغه لفهم القوانين السفلية التي تحكم عالم الذرة، ولكن المعادلات الرياضية قادته إلى أغرب التصورات، وهي نقض كامل لكل الفكر الفلسفي المعروف، فبدأت الصدفة تلعب دورها في العالم، وانتهى الواقع الموضوعي فلم يعد وجود للحقيقة المطلقة، ولم يعد المراقب صاحب الدور المحوري، وهو الشيء الذي انتهى إلى وصفه بشكل جميل (روبرت آغروس) و(جورج ستانسيو) في كتابهما (قصة العلم) الذي ترجم إلى اللغة العربية في سلسلة عالم المعرفة بعنوان (العلم في منظوره الجديد) ، أن الفيزياء القديمة انتهت وأن مفاهيم مثل (الزمن المطلق) و(المكان المطلق) و(حيادية المراقب) للتجربة أصبحت من مخلفات الماضي، فأي مراقب يدخل إلى أي تجربة يحدث من التأثير ما يغير نتائج التجربة، وبذلك انتهت الحيادية والموضوعية (Objectivity) واليقين، ومثل أن الشيء يمكن أن يكون في مكانين في نفس الوقت، وهي الفكرة التي ينادي بها (ديفيد دويتش David Deutsch) البريطاني من (أوكسفورد) عن عوالم موازية لا نهائية (Multiversum) تخضع لنفس القوانين التي نعيشها، ويبرهن عليها بغرابة سلوك الضوء حين نسلطه من ثقبين ثم نقرب بينهما ليتحولا من بقع إلى موجات متكسرة، وحسب نظريته فيمكن للديناصورات في عالم آخر أن تتابع حياتها بدون انقراض من ضربة مذنب، وكان أول من تقدم عام 1985م بفكرة كمبيوتر الكوانتوم، حيث يستبدل شرائح السيلسيوم بالذرات التي تشبه العوالم الموازية اللانهائية، ويمكن بواسطتها إجراء عمليات حسابية من (تعشيق) خمسين ذرة ما هو أكثر من كل جزيئات الكون التي تبلغ عشر قوة 83، التي سوف تقودنا في المستقبل إلى إنتاج الحاسوب الأعظم، وفكرته حول العوالم هي نفس الفكرة التي قالها العالم الياباني (آو أي) في تفسيره لحوادث مثلث الموت في جنوب بحر اليابان الذي يبتلع السفن باستمرار، وهو موازي لنفس خط عرض مثلث برمودا في الأطلسي. من أنها تنتقل من عالم إلى عالم كما في انتقال الصورة إلى موجات كهرطيسية.
وهذه النتائج الفلسفية في عالم الكوانتوم هدمت الفكر الفلسفي القديم برمته، وفتحت الطريق لكل الإنجازات الإلكترونية الحديثة ومن هنا تأتي أهميته، ففي عام 1947م استطاع اثنان من مهندسي شركة (بيل Bell) في أمريكا استنادا إلى مفاهيم الكوانتوم أن يلحما أول ترانزستور، ومنه تم اختراع كل الآلة المعاصرة في المصانع والأسلحة والاستخدامات الميدانية، من الطيران حتى الغسالة والكمبيوتر، فكلها في داخلها شرائح كمبيوترية هي الدماغ الكوانتي الجديد.
والقليل من يدرك أو تابع تطور الكمبيوتر؛ ففي عام 1971م ولد أول كمبيوتر في أحشاءه 2300 ترانزستور وكان يومها الفتح المبين، ولكن كمبيوتر (البنتيوم 4 Pentium ) من عام 2000 م مقارنة بكمبيوتر (انتيلIntel) يومها يضم 42 مليون ترانزستور؟! وتبلغ مساحة الرقيقة الكمبيوترية 0,18 ميكرومتر مقارنة بعام 1971م 10 ميكرومتر، أي أن الكمبيوتر زادت طاقته حوالي ألفي مرة، وانخفضت مساحة رقائقه مائة مرة، وهذه الأرقام سوف تصل عام 2020 م إلى الحاجز الفيزيائي الذي سوف تنكسر عنده العتبة كما حدث مع عتبة البوسفور بارتفاع مستوى مياه بحر مرمرة مع ذوبان عصر الجليد قبل 7500 سنة فحدث طوفان نوح، حيث سيحوي الكمبيوتر حسب قانون (مور Moore) الذي وضعه (جوردون مور) عام 1965 م أن الترانزستورات تتضاعف قوتها كل 18 شهرا، وهذا سيوصلها إلى الحافة التي تعجز فيها عن المتابعة لولادة كمبيوترات نوعية جديدة، تشبه الانتقال من عصر النار إلى عصر الطاقة النووية، باستخدام الطاقة الكمومية العجيبة في الذرات التي تنطلق فيها الطاقة إلى ما لم يخطر على قلب بشر، واجتماع ألف ذرة في الكمبيوتر الكوانتي سوف يفوق بطاقته ما تعجز عنه كل كمبيتورات العالم مجتمعة. وهي تذكر بقصة الحكيم والسلطان، فبعد أن عالجه من مرض عضال قال له الملك أريد أن أكافئك فاطلب؟ قال هو أمر بسيط. انظر إلى لوحة الشطرنج وطلبي حبة قمح في الخانة الأولى تضاعف مع كل خانة 48 مرة. أمر الملك بصرف حبوب القمح له، ولكن الخازن هرع إلى الملك ليقول إن حبوب العالم كله لن تكفيه يا مولاي.
وذرات الكمبيوتر الكوانتي ستفعل نفس الشيء في الأعوام القادمات.
اقرأ المزيد
حين احتشد 7700 عالم في أعظم تظاهرة علمية في برلين على مشروع بناء الحاسوب الأعظم فبعد عام 2020 م سيقف الكمبيوتر الحالي عند عتبة من انهيار قوانين الفيزياء
في ربيع عام 1925م أصيب (فيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg) المحاضر في جامعة (جوتنجن) بنوبة شديدة من الحساسية فهرع إلى جزيرة (هليجولاند) في بحر الشمال للعلاج. وهي جزيرة مواجهة لمدينة (فليهلمسهافن) حيث كنت أتخصص في الطب، وكانت ميناء بحريا في عصر القيصر غليوم (يسمونه غليوم وهو فيلهلم). أما مدينة (جوتنجن Goettingen) فهي مدينة جامعية صغيرة في الشمال أنجبت عبقريات شتى، وكنت على وشك العمل فيها في جراحة الأوعية الدموية فلها في قلبي الذكرى.
كان هايزنبرغ يومها يبلغ 23 عاماً ومنكب على فهم التركيب الداخلي للذرة (العالم الأصغر Microcosmos). يقول هايزنبرغ إنه جاءته ليلة حاسمة فارقه النوم وبقي يسهر على المعادلات الرياضية حتى كانت ساعة السحر. عندها انجلت الأمور أمام عينيه. ويشبِّه تلك اللحظة أنها كانت كمن هو غارق في بحر من الضباب فقد الاتجاهات وفي لحظة انقشع الضباب فرأى المسير. يقول: فعرفت أين أنا؟ (wo ich bin). غادر هايزنبرغ غرفته وصعد إلى سفح جبل يتأمل ثبج البحر الأخضر حتى صعد قرص الشمس آتون من قلب الأمواج. من الملفت للنظر عن هذه اللحظة التاريخية تكررت مع الكثيرين. مع حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وشامبليون وديكارت وباسكال. الأول في رحلة الإيمان واليقين. الثاني في فك شيفرة اللغة الهيروغليفية. الثالث في وضع المنهج التحيلي بأربع درجات. الرابع في ليلة الامتحان الأعظم.
بالنسبة لهايزنبيرج كانت هذه اللحظة التاريخية التي غيرت العالم وما زالت، فقد اجتمع 7700 عالم في برلين في مارس 2005م في الذكرى السنوية للقاء (الجمعية الفيزيائية الألمانية DPG =Deutsche Physicalische Gesselschaft) يبحثون (عالم الكوانتوم) الذي كشف عنه النقاب هايزنبرغ قبل ثمانين سنة. ولم يحدث أن اجتمعت في مكان واحد مثل هذه التظاهرة الفريدة التي تضم ألمع الأدمغة العلمية في أوربا.
ومن استمع لهم ظن أنه في بابل من المصطلحات العلمية مثل: (الأوتار الفائقة) و(بداية العالم والانفجار العظيم) و(ثنائية الضوء) و(حقيقة الواقع) و(طبيعة الزمن) و(ما هو الشيء الذي تتكون منه كل الأشياء؟).
إننا على ما يبدو نتحدث مثل السحرة حتى الآن أو ما يلقب به (أنتون تسايلنجر Anton Zeilinger) من (فيينا) الذي أدهش (الدلاي لاما) وهو يلعب بالضوء، فيخفيه من مكان ليلمع في مكان آخر، مثيرا فكرة ولادة الفوتونات من لاشيء، أو مذكرا بمفاجأة نقل عرش ملكة سبأ بتحويله إلى أشعة؟ وهي التجربة التي حققت له سمعة مدوية قبل سبع سنوات عن (الحزم الضوئية Beamexperiment) فهو كل يوم في مؤتمر ومحطة فضائية يستعرض مع فريقه فكرة الكوانتوم وكأنها السحر، ويتكلم في كل شيء من الفيزياء إلى الفلسفة، ويحب الاستشهاد بالفيلسوف النمساوي (فيتجنشتاين)، وقد تكون له زيارة إلى السعودية، وأهم شيء فعله هذا الرجل في عالم الكوانتوم النقل البعيد للفوتونات(Quantenteleportation).
إن (ميكانيكا الكم) يعتبر من أكثر العلوم غرابة وطرافة وشذوذا، حيث تتكسر الحتمية، ولا يبق مكان للواقع الموضوعي، ويسود قانون الاحتمالات، وهو ما عبر عنه (هايزنبرغ) مع (بول ديراك) البريطاني وهما يدشنان هذا العلم منذ عام 1928م بقانون (اللايقين Uncertainity Principle)، وأذكر أنني قرأت تفسير الظلال في الستينات عند قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فوقف (سيد قطب) وقفة طويلة يتكلم عن (العقلية العلمية) و(العقلية الغيبية) ويستشهد بمفاهيم الكوانتوم بدون إشارة إلى علم ميكانيكا الكم، الذي كان قد تأسس قبل أربعين سنة من كتابته، فعرفت أن قمم الفكر الإسلامي لم تعرف العصر بعد؟
ولد مفهوم الكوانتوم على يد العالم الألماني (ماكس بلانك Max Planck) الذي وضع قانونا لوحدة الطاقة ولعل أهم ثوابت الكون هي وحدة ماكس بلانك وسرعة الضوء، وكان ذلك عام 1900 م ولم يعترف العلماء لبلانك إلا بعد أربعين سنة، وهي نفس قصة (لوي باستور) مع الجراحين الذين رفضوه لأنه كيمياوي، وهو الذي دخل إلى عالم الميكروبيولوجيا، فأماط اللثام عن الوحدات المرضية من عالم الجراثيم، وطور لقاح الكَلَب.
وفي مدى قرن حدثت قفزات في مفهوم الكوانتوم قلبت شكل العالم الحديث، وتبدأ القصة من (آينشتاين) الذي فهم الضوء وفق كمات الكوانتوم، فالضوء من وجهة نظره ليس موجات كهرطيسية بل جزيئات من الطاقة، ومع أن آينشتاين كان من مهد الطريق لمفهوم الكوانتوم، ولكنه بكل أسف انقلب عليه حينما رأى غرابة هذا العالم الذي يتملص من قبضة القوانين إلى فوضى الاحتمالات، وكل يوم هو في شان، فعارض المفهوم، وحزن لذلك هايزنبرغ الشاب، ويومها قال آينشتاين: إلى أين أنت ذاهبون؟ إن خالق الكون ليس مقامرا يلعب بالنرد؟
وفي عام 1913 استطاع الدانمركي (نيلز بور) الاستفادة من مفاهيم الكوانتوم ليطور (موديل) الذرة، وأن الإلكترون يدور في مدارات لا تتجاوز السبعة، وتخضع لقانون 2ن2، وأنه يقفز كموميا من مدار لآخر فيمتص أو يعطي الطاقة ومعها اللون، وهو الذي قاد إلى تفسير ظاهرة إشعاع الجسم الأسود، الذي بدأ رحلة فهمه بلانك، حين رأى أن الجسم الأسود الذي يتسخن تتغير ألوانه بالتدريج من الأسود إلى الأحمر ليصل في نقطة إلى الأبيض.
اقرأ المزيد
في مطلع القرن عاش مجموعة من الرواد الرائعين في الطب من نموذج (فيرشوف) و(كوخ) و (باستور) و (شاودين) و (الزهايمر) .
فيرشوف (RUDOLF VIRCHOW) قلب التصور الطبي رأساً على عقب وأسس علم (التشريح المرضي) واكتشف عشرات الأمراض ونشر أكثر من الفي بحث علمي، وبقي حتى سن الثمانين يشتغل 16 ساعة يومياً في عشق لايذوي للمعرفة، و (كوخ) شق الطريق لمعرفة السل والكوليرا والطاعون، وطوَّر باستور اللقاحات وأرسى مفهوم التعقيم، ولاننس معالجة عضات الكلاب المسعورة. ولم يكن للجراحة أن تتقدم الا بساقين: التعقيم والتخدير.
وكُشف الغطاء أمام عين (فريتس شاودين FRITZ SCHAUDIN) ليبصر (اللولبية الشاحبة) أفعى الزنا مسببة مرض الزهري، الذي عس في أدمغة ومفاصل المصابين مايزيد عن أربعة قرون.
وأما لويس الزهايمر (LOUIS ALZHEIMER) فتوصل الى تحديد مرض العته الذي يحول الذاكرة الى حطام الهشيم وأصبح المرض مرتبطاً باسمه.
فيرشوف مات بكسر عنق فخذ بعد سقوط (وهو ما أتذكره أنا شخصياً لجدي وجدتي فبقيا مقعدين بقية حياتهما) وشاودين بخراج شرجي عن عمر 35 سنة، والزهايمر بقصور كلوي عن عمر 53 سنة. واليوم يعالج كسر الفخذ بصفيحة وبراغي، واكتشف البنسلين صدفةً البريطاني (فلمنغ ALEXANDER FLEMING) عام 1928 م، ورُكِّب أول مفصل صناعي للمفصل الحرقفي الفخذي (TEP) عام 1961 وهي عملية قمنا بها أثناء التخصص في ألمانيا. وتم استخدام أول كلية صناعية في أمريكا عام 1943 م. وأصبحت أنا متخصصا بعمق في مثل هذه الأمراض، وكنا نركب القساطر أو عمليات الفستولا للغسيل الكلوي عند المصابين، وهكذا أمكن مط أعمارهم قليلا حتى تنقل هلم كلية مناسبة.
كان الناس يموتون من انفجار (زائدة دودية) واليوم يجري الجراحة العصبية المعقدة (روبوتات) بدقة أجزاء من الملمتر، بيد لاتعرف الاهتزاز، وببنية فولاذية لايمسها نصب أو لغوب في ساعات متواصلة من العمل الشاق بدون استراحة وفنجان قهوة، وفي المستقبل سيبقى الجراح خارج قاعة العمليات يراقب المخلوقات الحديدية الجديدة وهي تنجز عملها لاتريد جزاءً ولاشكورا ولاتفهمهما. ويتم حالياً تطوير جراحة الجينات، ويشق الطريق لمعرفة كامل (الكود الوراثي) عند كل المخلوقات بما فيها الانسان في مشروع (هوجو) في نفس مكان ولادة السلاح الذري للقنبلة البيولوجية حيث أمكن معرفة تركيب الكود الوراثي عند الإنسان بل إنسان نياندرتال والقرود.
في مطلع القرن كانت الأمراض الانتانية تحصد الأرواح، واليوم تم تحييد أمراض بأكملها من خلال اللقاحات مثل (السل والكزاز والبوليو شلل الأطفال والدفتريا والسعال الديكي والحصبة والخناق) وتم الاحتفال بتطهير الأرض من مرض (الجدري) عام 1972م وهناك جائزة من منظمة الصحة العالمية لمن يخبر عن حالة واحدة، فلم يبق الا في الحاويات السرية في المؤسسات الطبية أو للاستخدام العسكري في حروب الهول الأعظم؟
وفي الوقت الذي بقي مسبب الافرنجي مجهولاً مابين اندلاعه عام 1496 م واكتشافه من (شاودين) عام 1905 م لفترة أربعة قرون والسيطرة عليه بالبنسلين في الخمسينات؛ فإن فيروس الايدز لم تتطلب تحديد هويته أكثر من اربع سنوات في ضغط للزمن مائة مرة؟ ولم يستغرق أربعة أشهر مع فيروس الكورونا لتعرف طبيعته.
وفي الوقت الذي طحن الزهري عظام البابا (الكسندر السادس) وافترس دماغ الفيلسوف (نيتشه) فأودى به الى الجنون، وعطب نخاع الشاعر (هاينكه) فأصيب بالشلل، بدون معرفة السبب أو تطبيق العلاج. في غياب أي جو علمي الا الدجل والشعوذة؛ فإن الأدوية المتاحة اليوم لعلاج مالايقل عن عشرين ألف مرض، يسببها خمسين ألف نوع من الفصائل الجرثومية والحمات الراشحة تزيد عن 80 ألف دواء.
وفي الوقت التي كانت أساطير القديسين تتكلم عن زرع الأعضاء تحوَّل الأمر اليوم الى روتين؛ فيزرع في ألمانيا سنوياً (3918) عضواً بين كلية وكبد وبانكرياس منهم 542 قلباً في عمل أقرب الى المعجزة.
تم هذا الانفجار المعرفي في تطوير (زراعة الأعضاء) على يد جراح مغمور في جنوب أفريقيا هو كريستيان برنارد (CHRISTIAN BERNARD) عام 1967 م، الذي سلط عليه زملاءه كل أساليب التحقير والتشهير من منافسيه في المهنة بما فيهم حملة جائزة نوبل للطب بعد موت مريضه الأول (لويس واشكانسكي LOUIS WASHKANSKY) بـ 18 يوماً، انتزع له قلباً شاباً من فتاة تمت زراعته في صدره بنجاح، ولكن كما يعلمنا القرآن أن الزبد يذهب جفاء وماينفع الناس يمكث في الأرض، فقد انعقد لسان الحساد واختفى المعارضون أمام وهج عمله، خاصةً بعد تطويع الجسم بمادة (السيكلوسبورين) لمشكلة رفض الجديد، كما رفض معارضوه فكرته في زرع الأعضاء؛ فرفض الجديد بيولوجي واجتماعي بنفس الوقت كما نرى.
وعاش (ايمانويل فتريا EMMANUEL VITRIA) بعد زرع القلب في صدره 19 عاماً (1968 حتى 1987 م) أكثر من عمر جراحه الذي نفحه بهذه الهبة، ويتهيأ الجراح الأمريكي (روبرت وايت ROBERT WHITE) للقفزة الكبرى بزرع (رأس انسان) كامل بعد أن نجح فيها عام 1999 م على رؤوس القرود.
العلم ذو طبيعة تقدمية، له ناظم اخلاقي ذاتي ، ينمو بآلية الحذف والإضافة والتراكم المعرفي، ويزدهر في جو العقلانية والتفكير بدون قيود ، ويدعم بالانفاق المالي، ويحصد الكثير في صدف بحتة في جو عمل ملتهب.
اقرأ المزيد
أتقن المغول فن الحرب الصاعقة في ثلاث صور (القوات المحمولة) واستخدام (الدروع البشرية) والحرب (البكتريولوجية) وكانت الثالثة أشدها تدميراً أفضت في النهاية الى افناء ربع البشرية يومها؛ ففي حصار أحد القلاع في القرم عام 1347 م التي تحصن فيها غزاة من أهل البندقية عمد التتار الى رمي جثث القتلى المصابين بالطاعون بالمنجنيق على خصومهم المحاصرين. كان الرعب أشد من التحمل وهرب المذعورون ينقلون معهم على ظهور الجرذان (الموت الأسود) حيث تحركت السفن واستقبلت الموانيء في كل أوربا ومات يومها 25 مليون ضحية في اوربا لوحدها.
وفي هذا الصدد يكتب ابن خلدون عن الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وجاءها على غير موعد في منتصف المائة الثامنة الهجرية وهي ماتوافق عام 1348 م تلك التي تحدث عنها المؤرخ (عبد الله عنان) في موسوعته عن دولة الإندلس والمرابطين والموحدين وكذلك الخطط المصرية عن وضع مصر وكيف كان الموت يحصد أرواح الناس بحيث كادت مصر أن تهلك حتى جاء الحاكم بدر الجمالي وتحسنت الأحوال ويمكن مراجعة كامل الفصل التاريخي في موسوعة عنان.
وفي عام 1918 انفجرت ماعرف بـ (الانفلونزا أو الجريب الاسباني) وهو ليس اسبانيا بل جاء من أمريكا من مزرعة سماه فأصابت 700 مليون نسمة على امتداد قطر الأرض، حصد فيها منجل الموت 20 مليون انسان على الأقل فليس ثمة إحصائيات ورفعها البعض إلى خمسين مليون ضحية. منهم 550 ألفاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وخمسة ملايين في الهند. فاجأت الجائحة الجنود الأوربيين المتحصنين في خنادقهم مع مطلع عام 1918 م في ظروف الحرب العالمية الأولى وهم يقتتلون بالسونكي والبارودة والرشاش، ولكنها حصدت في
أربعة أشهر أكثر مما فعلت الحرب في أرواح البشر في أربع سنوات، ثم انسل الوباء كما جاء كالشبح. فلم يعرف السبب ولم يكن الكائن (فيروس) معروفا أو مشخصا أو مرئيا فكان علينا الانتظار عشرات السنوات إلى حين اختراع المجهر الإلكتروني لرؤية أشواك الفيروس تطل علينا ضاحكة من سخفنا وقلة علمنا. ومثلا فإن فيروس الأيدز حددوها حين كبروا مساحة الرؤية ثمانين ألف مرة ولم يكن هذا ممكنا بغير فهم علاقة طول الكائن مع طول الموجة المسلطة على الكائن لرؤيته. وهكذا وبتطوير المجهر الالكتروني وتسليط موجة الالكترون الدقيقة أمكن أن نرى الأشياء مكبرة عشرات الالاف من المرات، واليوم نرى فيروس الكورونا رأي العين، وبالتالي وضع خطة للقضاء عليه، ولكن هل فيروس الكورونا هو الوحيد في الساحة؟ نحن اليوم نلج عالما من الدقة والضآلة والخبث مايجعلنا ندخل عالم الجن الفعلي فنفهم أننا لانفهم إلا قليلا من العالم المحيط بنا.
ولمعرفة تطور الطب في القرن العشرين علينا رؤيتها في أربع نماذج: وفيات الأطفال ومتوسط العمر ولجم الجوائح والانفجار المعرفي .
ففي عام 1905 م مع انتشار الكوليرا في هامبورغ كانت المقابر تبلع كل يوم ألف جثة، ومن كل طفل أتى الى العالم عام 1901 م خطف الموت في السنة الأولى منهم (20234) وهي إحصائيات ألمانية وألمانيا هي من قمم العلم العالمية، وكان متوسط عمر المرأة عام 1900 م 37 سنة والرجل 35 في الدول الصناعية، ليصبح عام 2000 م 88 سنة للأنثى و80 للرجل بمط العمر نصف قرن من الزمان لكليهما، مايعادل سدس عمر أهل الكهف بدون سبات عميق وكهف بارد يقلبون ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد!.
وفي عام 1900 م كان عدد المعمرين في ألمانيا الذين وصلوا حافة المائة عام لايتجاوز 40 شخصاً ليقفز اليوم الى 7000 والتوقعات أن يصل الرقم عام 2050 م الى مائة وخمسين ألفاً؟ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والأكرام. وهذا يدعونا بدوره الى مقارنة عدد الأطباء في ألمانيا لذلك الوقت، ففي عام 1876 م بلغ عددهم في ألمانيا 334 معظمهم (ممارسون عامون) وارتفع الرقم عام 1900 م الى 2000 طبيباً؛ ليصبح عام 2000 م 130 ألفاً نصفهم من الاختصاصيين، مابين 38 فرع أساسي و22 تخصصاً فرعيا (SUBSPECIALITY) في أكثر من 4000 مشفى ومؤسسة طبية، مادفع ألمانيا إلى استقدامنا للخدمة فيها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وأنا شخصيا دخلت ألمانيا في 13 يناير من عام 1975م حتى حدث الإشباع فاستغنوا عنا، والآن الدورة تعيد نفسها فيذهب ابن أخي الشاب ليعيد الدورة وتتغير ألمانيا. وحاليا تتمتع ألمانيا بنظام شركات تأمين صحية تغطي 98% من السكان، في نظام محكم تدفع لليلة الواحدة في العناية المشددة 2500 يورو، ويكلفها المريض المزمن سنوياً مائة ألف يورو، ويبلغ مايصرف على الصحة سنوياً 500 مليار يورو مايعادل 10% من الانتاج القومي بأكثر من 50 مرة مما كان يصرف عام 1901 م، مقارنة بدول العالم الثالث التي تنفق معظم ميزانيتها على خردة السلاح، وتُقَصِّر عن تأمين اللقاحات الستة الأساسية لأشد الأمراض فتكاً من نموذج شلل الأطفال التي لاتكلف بمجموعها للفرد أكثر من دولار واحد.
وبالمناسبة فكندا عندها تغطية على مواطنيها بدون شركات تأمين مما أحدث إعاقة مخيفة للمعالجة؛ فلا يستفيد فعليا من النظام الطبي إلا من سقط في وهدة الحالات الحرجة؛ لرجل يختنق بالربو والكورونا، وامراة تعسرت ولادتها أو تنزف، وآخر ازرق من صدمة قلب، ورابع تكسرت عظامه فهو ينزف في حالة صدمة؛ ففي مثل هذه الحالات يشتغل النظام الصحي الكندي بكفاءة، وثمة مافيا تسيطر على السوق فتسمح لك بالهجرة ولا تسمح لك بممارسة مهنتك، مثلي أنا جراح الأوعية من ألمانيا المتفوقة، وينجح في الدخول إلى السوق أنصاف الأميين من سباك ونجار وحداد وكهربجي وحلاق وعتال وميكانيكي سيارة. ونقول برافو لأولئك القاعدين فوق في مكاتب يلعبون فيها بالملايين. ويكدح في الأسفل أنصاف الأميين ممن ذكرنا. وهذا يفتح عيوننا على أن كندا ليست الجنة الموعودة كما يزينها البعض.
اقرأ المزيد
في عام 1864 وصل الأمر إلى تدخل رئيس الوزراء البريطاني"بنجامين دزرائيلي" Benjamin Disraeli ليوضح أن النزاع حول نظرية أصل الأنواع يدور في الواقع حول سؤال : هل الإنسان قرد أم ملاك؟ وهذا من وجهة نظر علم الأنثروبولوجيا خطأ منهجي فالإنسان ليس قردا ولا شيطانا ولا ملكا، بل هو بشر ممن خلق.
وفي عام 1865 بدأ العلم يدلي بدلوه فتقدم الراهب "جريجوري مندل" في أطروحة له لم تلفت النظر عن نتائج عمله على البازلاء، في تجارب التصالب والتهجين، أن الصفات الوراثية تنتقل عبر الأجيال في ثلاثة قوانين، ولم يكن أحد يعرف شيئا عن مكونات الخلية والكود الوراثي، وفـي عام 1890 شن فريق من الكونجرس الأميركي حملة على باحث التطور الأميركـي"أوثنيل مارش" Othniel Marsh أجبرته على الاستقالة من كل مناصبه.
وفــي عام 1901 جاء الجواب في التطور العلمي هذه المرة من هولندا حيث اكتشف"هوجو دي فريس" قوانين مندل مجددا، وأومأ إلى قانون الطفرة الوراثية المسؤولة عن التغيرات العفوية في المادة الوراثية، وأنها المحرك الرئيسي في التطور، وهو يذكر بالعمل الجبار الذي قامت به "باربارا مك كلينتوك" في كشفها عن تبدل الجينات، وأنها ليست ثابتة مثل حبات اللؤلؤ في جيد حسناء، الذي نالت عليه جائزة نوبل لاحقا.
وفي عاـم 1940 قام كل من "ثيودوسيوس دوبسانسـكي"Theodosius Dobzhansky و»إرنست ماير« Ernst Mayer بعدة خطوات، فأسسا نظرية التطور الجديدة التركيبية، وتعتمد مزيجا من الطفرة والانتخاب الطبيعي فهما يكملان بعضهما بعضا في تشكيل الأنواع.
وفي عام 1953 جاء التحول وفتح الفتوح فقد تقدم كل من "جيمس واتسون« James Watson و"فرانسيس كريك" ًFrancis Cric بموديل الكود الوراثي، وأخذ لقب اللولب المزدوج ونالا عليه لاحقا جائزة نوبل، وإن كنا عرفنا لاحقا أنهما سرقا بالتعاون مع ثالث جهد عالمة ماتت بسرطان الثدي هي "روزاليند فرانكلين" فهي التي طورت تقنية كشف المادة الوراثية بالأشعة السينية.
ولا نعرف إن كان جهدها ومتابعتها تحت هذه المادة الحارقة هو الذي قاد إلى إصابتها بالسرطان ومن ثم موتها المبكر عن 37 سنة؟ وفي عام 1987 أصدرت المحكمة العليا في أميركا قرارها بتدريس نظرية دارون في المدارس، وإزاحة النظرية التقليدية، ويومها تشكلت حركة التصميم الذكي ID = Intelligent Design التي حاولت الاتشاح بثوب علمي كاذب، حدث هذا بعد صدمة السبوتنيك، عندما سبق الروس الأميركيين في أبحاث الفضاء، فعمدت أميركا إلى تغيير مناهج التعليم، ومنها فرملة الاتجاه الديني التقليدي الذي يحد من العمل العقلي في مناهج التربية والتعليم.
وفي عام 1995 بدأت الردة المضادة لنظرية التطور ففي ألاباما أصبحت كتب التدريس تنص على أن نظرية التطور موضوع متنازع حوله، ولا تمثل الحقيقة النهائية.
وفي عام 1996 أوعز البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة له إلى الأكاديمية البابوية للعلم أن ينظر إلى نظرية التطور أكثر من كونها افتراضا، وأنها تتوافق مع ما جاء في قصة الخلق الإنجيلي.
وفي عام 2005 يعترض 11 من الآباء في بنسلفانيا على تدريس نظرية التصميم الذكي أو الخلاق، وألا تعتمد كحقيقة نهائية في التدريس، وأن يبقى في الصف المجال للنقاش الحر بدون إيديولوجيا مسيطرة.
هذا التطور في انتقال الأمر من مرحلة إلى مرحلة يعطي فكرة عن الصراع الفكري حول نظرية التطور وأنها لم تصبح علما نهائيا، في الوقت الذي تشن الأيديولوجيات الدينية الحرب عليها بخيل ورجال وأموال وتسخر المعاهد العلمية لهذا الغرض، وهي تذكر بالقصة القديمة التي حدثت في روسيا حينما استبدل ستالين عالم الوراثة "أفيلوف" Avilow بالحزبي"ليزانكو" ,Lizanko فستالين رأى أن تغير الإنسان بالاقتصاد.
وعلم الوراثة رأى غير ذلك، فتوجب نحر العلم على مقصلة الإيديولوجيا، كما طار رأس "أنطوان لافوازيية"وهو أبو الكيمياء الحديثة، في أيام الثورة الفرنسية، وعندما قال أتقتلني وأنا العالم؟ كان جواب القاضي : لا حاجة للثورة بالعلماء؟
والخلاصة التي ننتهي بها وهي أكثر من هامة أن هذه النظرية لاعلاقة لها بكفر وإيمان وإنما هي تصور لكيفية الخلق الألهي إما دفعة واحدة أو بالتدرج، ومن تاريخنا وصل إلى حقيقة التدرج في الخلق صاحب المقدمة المشهورة ابن خلدون واليكم ماجاء في المقدمة صفحة 96: ( ثم انظر الى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لابذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى إلى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القردة (في النص المزوّر القدرة) الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده وهذه غاية شهودنا) اهـ.
اقرأ المزيد