مقالات بقلم خالص جلبي

الجنس والثقافة (1) 
العطش الى (القوة) والمزيد من امتلاكها مرض ذكوري. هذا ماقرره بروس كارلتون Bruce charlton)  الخبير في علم (التطور). والذكور هم الذين يشنون الحروب. والذكور هم الذين يتحاربون فيَقْتلون ويُقتَلون. والذكور هم الذين أنشأوا المؤسسة العسكرية ورسموا قدر المجتمع بمرض التراتبية الهيراركيHierarchy) ) وخططوا كل نظام المجتمع على صورة (الثكنة) كما أشار الى ذلك (غارودي) في كتابه (في سبيل ارتقاء المرأة). والذكور هم الذين شوهوا التطور الانساني برمته برؤية العالم بعين حولاء ذكورية؛ فلايمكن أن يمشي المرء برجل واحدة إلا في أسطورة (شق وسطيح)، ولايمكن أن يرى بعين واحدة الا إذا انعدمت الرؤية الفراغية، أوتحول الى كائن خرافي بعين واحدة كما في قصة (الاوديسة) عند (هوميروس).   جاء في (السيرة) أن شقاً كان بنصف جسم فإذا مشى قفز على رجل واحدة، وأما سطيح فكان  مسطحاً مثل حدوة الحصان بدون مفاصل. والمجتمع (الذكوري) هو الذي دفع المرأة الى شريحة دونية مستضعفة وهي كارثة كونية في كل الثقافات، وفي الثقافة الصينية يعني ضمير المتكم (أنا) المؤنث الى (العبد) وفي الثقافة الهندية تعتبر المرأة خاضعة للرجل من المهد الى اللحد فهو من كتف الاله (فيشنا) وهي من أقدامه. وفي اليابان لم يتقدم المجتمع الا بألغاء نظام الساموراي. وبالمقابل فإن المرأة هي التي بدأت الثورة الزراعية كما قرر ذلك المؤرخ (ديورانت) فأطعمت عائلتها من جوع ودلف الجنس البشري الى الحضارة؛ فلولا الثورة الزراعية ماتجاوز الجنس البشري مرحلة (الصيد وجمع الثمار) بعد أن دامت مئات الآلاف من السنوات، فتخلصت العائلة من خوف الموت جوعاً ومنها نشأت المدن وازدحمت بالسكان وولدت الاختصاصات وتم تقسيم العمل كما شرح ذلك عالم الاجتماع (دركهايم). كل ذلك كان وتم ببركة المرأة، ولكن الذكور بنوا الجيوش والحرب والطغيان ومازال. وإذا كان الحاكم ينفخ في الصور فيقول للعباد أنا ربكم الأعلى؛ فإن الزوج يقلده في البيت فيعلن أنه الأعلى لامعقب لحكمه وهو سريع الحساب. والاستبداد السياسي هو التجلي الأعظم لتراكمات أخطاء البيت واحتكار النصوص بيد طبقة الكهنوت، وخنق التعبير تحت دعوى الخيانة أو الردة، والطغيان يتأسس من خلية العائلة ليظهر في النهاية على شكل تنين سياسي يقذف باللهب على عباد يرتعشون وجلاً خاشعة أبصارهم من الذل. إن مصادرة الأمة على يد فرد وخلفه النخبة الحاكمة الخفية، سبقتها مصادرة الزوجة والولد في بيت الطاغية الذكر (الترانزستور) الزوج الأب. فإذا أنتجت العائلة الانسان الأخرس الخائف هيأت الجو الاجتماعي للخرس الجماعي المطبق وخشعت الأصوات للحاكم فلا تسمع الا همسا. وعليه فلايمكن (أنسنة) المجتمع بدون استعادة المرأة دورها الطبيعي. علينا أن نقرر أن المرأة هي التي تحمل الحياة وتنجب الحياة وتحافظ على الحياة، كما جاء في الآية حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. وهي التي لاتمارس الحرب فإذا مارسته مثل (تاتشر) و (غولدا ماير) فهي عدوى من (وباء) ذكوري قاتل. المرأة هي مصدر الحب فتخلع معنى على الحياة وتعطيها دفقة الاستمرار، ومع انطفاء الحب ينطفيء معنى الحياة ومبرر وجودها. لأن الحب مشاركة تتجلى في أعظم صورها بالزواج والانجاب وتترك بصماتها على الحياة في ذرية مباركة. والحرب كراهية وارتداد على الذات ونفي للآخر. وحسب (دانييل جولمان) صاحب كتاب الذكاء العاطفي   (Emotional Intelligence) فإن جوزيف لو دو( joseph le doux)  الذي اكتشف (دورة المخ العاطفية) أظهر أمرين: أن هناك ضرب من الذكاء لم ننتبه له حتى الآن وهو غير المتعارف عليه(IQ)  كما أن المرأة بواسطة تركيب دماغها تشريحياً تتفوق على الرجل في هذا النوع من الذكاء. والمرأة (موديل) متطور عن الرجل بحيث تحمل إمكانية أن يتطور الجنس البشري على نحو (انساني) أفضل زكاة وأقرب رحما، ولذلك كان الاستنساخ الجسدي من الأنثى كما حدث مع (دوللي) فمنها خلق وإليها يعود ومنها يخرج تارة أخرى. نحن نعرف من تقنية الاستنساخ أن الذكر لايدخل في العملية وإنما هي كود وراثي يستخرح من أنثى ثم يغطى بلباس من أنثى ثانية ليزرع في رحم أنثى ثالثة. وإذا كانت الأنثى في الاستنساخ هي صاحبة اليد العليما فهذا يقرب لنا أيضا خروج عيسى من رحن امراة بدون ذكر ولقاح جنسي. وتفاءلت السيدة شفارتزر Schwarzer) ) بولادة المجتمع النسائي الانساني بحيث يمكن الاستغناء عن الذكور المخربين نهائياً للمستقبل أو استبدالهم بجنس معدل سلامي. وهي صاحبة مجلة (لا نريد بورنو POR ...NO..) ) وهو عنوان مثير ولكنها تلاعبت بحركة ذكية بالكلمة (بورنو) التي تعني (الاباحية) وحينما قسمت الكلمة الى شقين انقلب المعنى. ويذهب الانثروبولوجي (بيتر فارب) في كتابه (بنو الانسان): (أن الذكر لايفترق عن الأنثى الا بعضلاته) ويستعرض في بحث موسع عن الفروق بين الذكر والإنثى ليقرر في النهاية أنها التستستيرون (Testosterone) أي الهورمون الذكري فهو الذي ينمي العضلات عند الذكور، فأذا تعارك ذكر مع انثى غلب الذكر، ويترتب عليها فروق جامحة من شعور المرأة بالحاجة إلى الحماية وهي النتيجة التي خلص فيها الباحث أن المرأة هي التي مكنت الذكر من اعتلاء سدة العائلة وكان يمكن أن لايكون، بل هو أمر يربى عليه الأطفال من الصغر أنهم أقوى وأفضل من الأناث فتنشا الأنثى في الحلية وهي في الخصام غير مبين.  
اقرأ المزيد
خيط العنكبوت وبيت العنكبوت 
أرسل لي الأخ الجنابي من تركيا وهو رجل يشتغل في تجديد الفكر الإسلامي معلومة تفيد أن آية العنكبوت استخدمت للتأنيث أي ان العنكبوت في الآية استخدمت مؤنثة وليس بلفظة التذكير (الذكر) وهو مايحصل في عالم الحشرات حيث أن من يبني البيت هو فعلا أنثى العنكبوت وليس الذكر. ورجعت أنا من طرفي لتحري المعلومة فثبت أمران الأول ليس في صالح جماعة الإزعاج العلمي في القرآن والسنة (عفوا الأعجاز) وهو ان لفظة العنكبوت تستخدم مرة للذكر وأخرى للأنثى فيمكن أن تقول جاء العنكبوت وجاءت. أما الثانية فهي في صالحهم وفعلا فإن من يبني البيت هي الأنثى ولكن من أعجب عالم العناكب وتبلغ أنواعها 37 ألف نوع أنها تأكل صغارها بل تلتهم الذكر ليلة النكاح. ومما لفت نظري في قناة الديسكفري عرض 13 نوعا من عالم الحيوانات والحشرات وكان ممن جاء ذكر العنكبوت والسر في خيوطها وقد كتبت عن ذلك أيضا مقالة. وعالم الحشرات فيه العجيب والغريب والمفيد. ومما أذكر أن الأفكار البسيطة قادت إلى كشوفات عجيبة مثل تحطيم حصيات الكلية بأمواج مافوق صوتية مما حرض عندي قدرة التصور عن أثر الموجات في الصخور. في هذا هناك آية تقول لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السموات والأرض بالحق. والمهم فقصىة خيطان أو خيوط العنكبوت لفتت نظر العلماء والدارسين ليكنشفوا فيها سرا عجيبا. ومما أتذكر من فرقة شهود يهود أن القرآن يذكر الحشرات والحيوانات فرأوها عيبا وهي أمور رائعة من لفت النظر إلى مايوجد في الكون من حولنا. فالنمل والنحل والهدهد والطير كلها عوالم يقول عنها الله وما من طائر يطير بجناحيه ولا دابة في الأرض إلا أمم أمثالكم وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون. ويشير القرآن الكريم إلى أن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، لكن العلم الحديث يوضح أن خيوط العنكبوت هي أصلب من الفولاذ، فكيف يمكن فهم المسألتين؟ لقد استطاع الباحثون في جامعة «بيرويت» الألمانية تصنيع خيوط العنكبوت، بالصفات نفسها من المتانة والمطاطية كما في الطبيعة. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف فقد تعرفوا للمرة الأولى إلى تفاصيل مهمة في كيفية صناعة العنكبوت لخيوطها المميزة، وقلدوها في المختبر تماماً كما تفعل العنكبوت. \ لكن كيف تصنع العنكبوت خيوطها؟ حسبما لاحظ الباحثون، فإن أول ما تفعله العنكبوت هو صناعة كرات من بروتينات حرير خصوصية (في حدود سبعة بروتينات كما أشارت لذلك قناة ديسكوفري) وتخزنها في غدة خاصة للغزل، وعند الحاجة تعصر الغدة هذه البروتينات، لتنكمش على نفسها آنذاك، ومنه يتشكل الخيط، وتقوم العنكبوت، وبواسطة الساق الخلفية، باستخراج الخيط من قناة الغزل. والمدهش ليس في عملية الغزل وإنما الطريقة والكيفية التي تحضر بها العنكبوت مادة الحرير. هذا ما قاله الباحث توماس شايبل، رئيس فريق الدراسة، حيث أوضح أن بروتينات الحرير يتم تحضيرها، بحيث إنها لا تنكمش مع بعضها بعضاً في الوقت نفسه، بل تكون جاهزة للطلب عند صناعة الخيط. وتعتبر خيوط العنكبوت من أكثر عناصر الطبيعة ثباتاً وقوة، وهي بإمكانها، على سبيل المثال، أن تحسن آليات أكياس امتصاص الصدمة في السيارات، وأن تدخل في صناعة صدريات ممتازة ضد ضربات الرصاص يلبسها رجال الشرطة وأمن مكافحة الإرهاب، بل وحتى لحماية صدور الشخصيات المهمة في المناسبات الخطيرة.. لكن تبقى مشكلة حماية الجماجم وهي الأهم! وحسب تحري قوة الخيط يمكن لخيط مضفور من خيوط العنكبوت، بسمك أصبع اليد، أن يوقف طيران بوينج 777 في قمة اندفاعها. ويذكر في التاريخ أن جنكيزخان كان يحمي صدور مقاتليه المهمة بقمصان من خيوط العنكبوت. والمؤكد أن هذه الخيوط يمكن استخدامها في العلاج الطبي للجروح، بسبب تأثيرها الشافي للإصابات، وكذلك من أجل تصفيح الشرايين الصناعية داخلياً كدعامة حافظة. لقد أسس الدكتور توماس شايبل صناعة جديدة لشركته «آمسيلك» لإنتاج الحديد البيولوجي «بيوستيل». وقد وقفت طويلاً بين كلمتي خيط العنكبوت وبيت العنكبوت، ورجعت إلى محرك البحث «جوجل»، لأجد أن الكثيرين وقفوا أيضاً أمام هذا التعارض الظاهر. ومن اللافت للنظر في الآية الكريمة حول بيت العنكبوت أنها أردفت بآية أخرى تقول إن الأمثال تضرب للناس وما يعقلها إلا العالمون. رُوي عن أحد الصالحين قوله، إنه إذا مر على مثل من الأمثال في القرآن، وهي كثيرة عن النمل والنحل والطير والهدهد والفيل والبقرة.. كان يبكي ويردد: الويل لي إن لم أفهمها، فأنا لست من العالمين. وفيما يتعلق بالفرق بين البيت والخيط، هناك جدل يجب استيعابه، فقد يكون الخيط من أمتن ما يمكن والبيت من أضعف ما يمكن، وفي القرآن أنه يخلق من الموت الحياة وبالعكس، ومن القوة ضعفاً وبالعكس، ومن بين فرث ودم لبنا سائغاً للشاربين. وشخصياً، ما زلت على قول الرجل الصالح، إذ أبكي على نفسي لأنني لم أصل إلى قرارة الفهم الذي يريحني في هذه الآية الكريمة.
اقرأ المزيد
رحلة الجنس البشري  
إن ميزة التفكير العلمي الاستعداد لكل الاحتمالات بما فيها نهاية الكون والجنس البشري. ليس بحماقة إسرائيلية نووية أو حتى غير إسرائيلية، ليس من حماقات البشر باستخدام أسلحة الدمار الشامل، بل بتعرض الأرض لمذنب كما حصل مع انقراض الديناصورات قبل 66 مليون سنة، حينما ضرب أمريكا الوسطى مذنب بقوة خمسة ملايين قنبلة نووية.  وفي تقديري أن هناك خطة للوجود أو هكذا يخيل إلي؛ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا. وفي حقبة قديمة عم دخان كثيف غشى الناس بعذاب أليم بعد انفجار بركان في أندنوسيا، فلم يبق من البشر سوى 75 ألف نسمة. ومع ذلك تابع البشر طريقهم. وحسب تحليل الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) في كتابه (نحو السلام الشامل)، فإن الاضطهاد كان خلف الانشقاق المتتابع لمجموعات البشر، مثل مجموعات النحل عندما تنفصل عن خلاياها وتنشئ خلايا جديدة؛ بل حتى طوفان نوح يبدو في الإضاءة الأنثروبولوجية الجديدة من كشوفات مدينة (سينوب) على ساحل البحر الأسود في تركيا أنه كان شرارة نقل الثورة الزراعية من حواف بحيرة حلوة فاجأها طوفان مدمر كسر عتبة البوسفور وحولها إلى بحر مالح، فهربت شعوب المنطقة التي كانت تملك أسرار الزراعة، وبدأت الحضارة قبل ستة آلاف سنة. ومن خلال هذا المنظور، فهناك أمل وتفاؤل أن الجنس البشري على الرغم من المعاناة القاسية ـ والتي هي بدورها شرط للنمو ـ أن يولد طبقا عن طبق باتجاه الاستمرار والنمو والدخول في مرحلة الحضارة رقم 3، حيث كانت الحضارات سابقاً تنمو منعزلة عن بعضها البعض ولا تعرف عن بعضها شيئا، كما كانت مفاجأة وصول الأسبان إلى حضارة الازتيك في أمريكا الوسطى. والآن نحن ندخل مرحلة الحضارة رقم 2؛ أي الحضارة العالمية لندخل مرحلة الحضارة رقم 3؛ أي اكتشاف حضارات أخرى في كواكب أخرى. ونحن نعرف اليوم وللمرة الأولى أن هناك كوكبا يبعد عنا خمسين سنة ضوئية، وعن طريق تقنية (ترنح النجم) يمكن كشف الكثير من الكواكب السابحة حول نجوم أخرى وفيها حياة، وبذلك يمكن الوصول إلى حضارة المجرة في ضوء وجود 100 مليار نظام شمسي، مع احتمال وجود حياة على كل 10 ـ 50 نظام شمسي. وكما حدث في رحلة البولونيزيين لاكتشاف المحيط، حيث تم التوسع على شكل قفزات بمعدل قفزة جيل كل 200 سنة، وهذا يعني أننا خلال خمس ملايين من السنين سوف نستعمر كامل المجرة. ورقم خمس ملايين سنة ليس بشيء إذا علمنا أن الشمس عندنا ما زال أمامها خمس مليارات سنة لاستهلاك وقودها. وفي كتاب (آفاق المستقبل) للمفكر الفرنسي (جاك أتالييه) يقول، إن البداوة ستعود على شكل جديد من الترحل المستمر بأدوات بسيطة، ولكنها كافية مثل الموبايل والبريد الإلكتروني والكمبيوتر الشخصي المتصل بالإنترنيت، وحتى البيوت سوف تستغني عن الرخام والمرمر، كي تصبح أكثر عملية تناسب عصر البداوة الجديدة؛ فكل شيء للاستهلاك والاستبدال. والبريد الإلكتروني اليوم لا يحتاج لصندوق بريد ومفتاح. وهذا التنقل مفيد من جهتين: تحقيق الآية القرآنية بوجود السائحات (مسلمات مؤمنات عابدات تائبات سائحات). وتكرار لما حدث في صلح الحديبية، حيث كان الناس يتقاتلون والجو في غاية التوتر والحواجز السيكولوجية شديدة الكثافة. وتقول الرواية إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، عندما بدأ منطق الحوار. والآن عن طريق الإنترنيت والهجرة الهائلة من العالم الإسلامي ـ حسب مبدأ كانط ـ حيث يزحف عشرات الألوف من المسلمين فارين من الوطن الإسلامي فقراً واضطهاداً من جمهوريات الخوف والبطالة وهم يحملون معهم الإسلام. صحيح أن الكثير سيموت في بطن سمك القرش الإسلامي، ولكن ستخرج نسخة جديدة معدلة من الإسلام المستنير، ليس من نموذج ابن لادن، بل من نموذج علي عزت بيجوفيتش؛ فهناك نسخ منوعة من الإسلام "وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" و"تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، حيث يعم الإسلام الأرض، وقبل عشرين سنة كان في إيطاليا عشرة آلاف مسلم واليوم أصبحوا مليونا حسب رواية السفير الإيطالي الذي اعتنق الإسلام وأشهر إسلامه بعد أحداث سبتمبر، وفي ألمانيا أكثر من خمسين ألف من الألمانيات انتظمن في جمعية أخذت اسم (أخوات محمد). وفي أمريكا يعتنق الإسلام سنوياً عشرين ألف أو يزيدون. حسب رواية قناة الديسكفري. في رحلة الجنس البشري حصل خطأ كرموسومي، حيث استولى الذكور على المجتمع، وكان له تأثير سلبي كما يحصل مع انعدام الرؤية الفراغية، عندما يصاب بالحول أو العور، وهكذا تمت هندسة المجتمع على الحرب، وتشكلت كما يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه) مؤسسات يدعو عنوانها للضحك؛ فكلها تحمل اسم (وزارات الدفاع) وهذا يحمل بشكل مبطن النية السيئة وإساءة الظن بالجوار أنه يبيت الغدر فوجب الدفاع. ولكن مع برمجة هذه الروح، فلا يهم كثيرا من يهجم ومن يدافع، لأن الحروب تنشأ في هذا الجو وتحت مبرر بريء هو الدفاع عن النفس. والقاتل والمقتول في النار. ومع الحرب والجيش والثكنة تشوه كامل تركيب المجتمع وهندسته، ودفعت المرأة إلى كائن قاصر يفرض عليه الوصاية، ويفصل وينظر إليه كجيب جنسي. وتم تطوير السلاح إلى حده الأقصى، حتى وصل الأمر إلى نقل وقود النجوم من باطنها بعشرة ملايين درجة إلى سطح الأرض. ولكن الخطأ لا يصبح صحاً. كما أن الشجرة الخبيثة لا تؤتي أكلها بإذن ربها، بل اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. ولذا وصل الذكور النكدون إلى نتيجة القرد الذي انهرس ذنبه في شق الخشب، حينما أراد تقليد النجار في عمله، فتدخل في ما لا يعنيه، فناله ضرب النجار وألم الذنب المعصور. وهذا يعني أن هذا الخلل الكروموسومي يحتاج إلى جراحة جينات متقدمة، ولكن لا بد منها. وإذا كانت جراحة المستقبل هي جراحة الجينات بعد أن تم فك الشيفرة الوراثية الكامل للإنسان على يد (كريج فنتر). كذلك، فإن جراحة اجتماعية هي أكثر من ضرورة لإعادة تركيب المجتمع الإنساني، حيث تعود الرؤية الفراغية الكاملة، ويرتفع العور فبصرك اليوم حديد.
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (7) 
القطيع فيه 400 رأس من الغنم :   ومن هذه الروح ( الحدسية ) التي تتذوق الجمال المباشر في العلاقات الخفية بين الأرقام والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ، وإذ مر بجانبهم قطيع من الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد الأغنام التي تسرح في المرج . وكان الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!    موقفه الفلسفي من الرياضيات :   ومن هذا الفهم الرياضي في علاقات الأرقام والأشكال الهندسية الفنية ، وصل الى كشف هام آخر في العلاقات الرياضية ، سيخرج منه بعد ذلك بخلاصة فلسفية في قضية اللانهايتين وجدلية الانسان ، أما في المستوى الرياضي فوصل الى مبدأ يقول إن بين المراتب العددية اختلافاً لانستطيع أن نقول عنه الا أنه لامتناهي ، وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهر له عام 1654 م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ، الذي رأى فيه الأرقام على أشكال هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقداراً متصلاً لايكبر إن أضفنا له مقداراً أياً كان من مرتبة هندسية فوقه ، فلايمكن جمع النقاط الى الخطوط ، ولا الخطوط الى المساحات ، ولا هذه الى الحجوم ، أو بتعبير آخر لاحساب للجذور أمام المربعات ، ولا للمربعات أمام المكعبات ، ولا لهذه أمام مربعات المربعات ، فأمام الكميات العليا علينا أن نهمل الكميات الدنيا كما لو كانت عدماً مطلقاً )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجة المشكلة الانسانية الكبرى ، في خمسة اسقاطات : مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم اللانهايتان ؛ فإذا كانت هناك خنادق يتعذر اختراقها أو القفز من فوقها في الرياضيات ، أو تشكل الفضاءات بينها مسافات لانهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس الانسانية والمجتمع .    مشكلة العدالة الانسانية أو العدل الكوني :   تمثل العدالة الأرضية أكبر التناقضات الانسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط ولا السطوح الى الحجوم ، فهو في مشكلة العدالة الكونية يقيمها على جدلية ثلاثية بين الانفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء لايلزم دائماً الابتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجية العنيفة دون تردد ، والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس . وأثر الخوف واضح كل الوضوح لو توطدت سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ، وبواسطة العنف تم لجم الناس بالرعب فاعتادوا النظام ، فأساس الدولة هو عنف وخوف ، عنف خارجي وخوف داخلي ، ولايظهر هذا العنف والخوف الا في مواجهات فجائية ، والذي يعطي الاستمرارية لهذا الوضع هو اعتياد الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ، فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضى مع الخوف . وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة . الدولة وفق تأسيس النظام الداخلي تحرم القتل وتعاقب عليه وتعتبره رأس الكبائر وأعظم الجرائم . ولكن نفس الدولة تأمر بالقتل في الحروب والثورات ، وتشجع عليه وتكافيء ، وتعتبر أنَّ من يُقتل من طرفها شهيد ، وأنَّ من يُقتل من الطرف الآخر مجرم . في علاقة معكوسة في الدولة المقابلة . فالشهيد هناك مجرم هنا والعكس بالعكس .   علاقة الشهيد _ـ المجرم :  فعلاقة ( الشهيد ـ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخلاقية وعقلانية لها . وعندما تحدث الحروب يتم قتل الانسان بكل سهولة بالأوامر ، حتى أن الجيوش تستخدم سلاحاً خاصاً لاستمرار المجزرة ، بحيث أن الذي لايَقْتِل يُقتل ، كما صور ذلك الكاتب الأمريكي ( ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعاً أيها السلاح ) . لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضيَّف الواحد الآخر فنجاناً من القهوة ، فلا توجد عداوة بينهما ، ولكن في الحرب يقتل الانسان أخيه الانسان بالأمر فقط مع عدم معرفته سلفاً فضلاً عن وجود عداوة أو حقد سابق . فالقتل يتم على الجغرافيا أو الهوية الشخصية . على الجغرافيا في الحروب الاقليمية فيُقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبل الذي يفترق عنا ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام الاتصالات كما في أجهزة الدش ) ويُقتل على الهوية في الحروب الأهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ، يمثل الآخر ، يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر الأرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛    العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة :   كأنَّ العدالة إذاً في طريقها الى نفق مسدود ؟! يرى باسكال أن الانسان في جدلية لاطريق الى حلها ، وهو شقي لأنه لايلقى حكماً عادلاً ويرضخ للظلم ، ولكنه بنفس الوقت عظيم لأنه لايرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن بإمكانية العثور عليها ، فالانسانية في جدلية محيرة وفي وضع غير قابل للحل ، وينتقل من موقف الى ضده ، لايرضى بالواحد ولا الآخر .
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (6) 
فهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( PENSEES ):  كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان البرق الحارق الخارق تضيء الوجود في لحظة واحدة ، ويذكرنا هذا بكتاب ( الخاطرات ) لجمال الدين الأفغاني ، وكتاب هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) وهذه الومضات الفكرية هي أحد اتجاهات علم النفس المعروفة بالجشتالت ، وكلمة ( GESTALT ) تعني بالألماني الاطار الكبير أو النسق الشامل أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشر ، حيث يصل العقل لفهم وضعٍ بدون الانتقال التدريجي التحليلي لفهم الواقعة ، وهو كما نرى أحد نزعات عمل الدماغ  الانساني . هذه النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشف قانون الاحتمالات ، عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتمالات الربح والخسارة ؟ فأجاب فوراً وبعفوية ناطقاً بقانون رياضي مدهش مازال يعتمد حتى اليوم في عالم الرياضيات لمشكلة الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا التركيب العقلي عنده هو الذي جعله يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قانون الاحتمالات الرياضي الى المصير الانساني .    الرهان الرياضي والمصير الانساني :   وهي فكرة لاتخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة الإيمان باليوم الآخر تبقى أفضل حتى من الناحية البراغماتية المحضة ، في ضوء قانون الاحتمالات حيث يبقى أمام الانسان خياران ، يترتب على الأول الفوز بكل شيء ، في حين أن عكسه لايعرضه لأي خسارة ، وهي نفس الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري شعراً : قال الطبيب والمنجم كلاهــــما      لاتحشر الأجساد قلت إليكــــما إن صح قولكما فلست بخاسر      وإن صح قولي فالخسار عليكما طهرت ثوبي للصلاة وقبله طهرٌ    فأين الطهر من جســــــــــديكما ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله : (( وإنما نظرته الى الرهان نظرة براجماتية محضة . إن وزنه للمخاطر والتركيز على ماهو أكثر نفعا ، على مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة اللامتناهية )    علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية :  ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حاول فهم المشكلات الانسانية في ضوء الفلسفة ، والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصحيح ، كما أنها لاتتولد الا في مناخ خاص ، فهناك علاقة جدلية بين التكنولوجيا والقاعدة العلمية والمناخ الفكري ، أي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار على حد تعبير المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) أو كما يقول المثل الأمريكي : ( الأشخاص التافهون يتكلمون في الأشياء ويحرصون على امتلاكها . والسطحيون يروقهم الحديث عن الآخرين . اللامعون والنابهون هم الذين يعنون بالعلم ويتذوقون الأفكار وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضي وقتك وماذا يفعل بالفراغ ؟ ولاكتشاف الذات تبقى الوحدة أفضل مشعر على التذوي والتخوي والتقعر الداخلي من غناه وخصبه وحيويته . علوم الكوسمولوجيا والفيزياء النووية والبيولوجيا والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ، ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع .  جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر :   الانتاج التكنولوجي لايأتي من فراغ بل لابد له من قاعدة علمية ، واستواء هذه القاعدة بدورها يتطلب مناخاً عقلياً خاصاً . والقرآن في هذا الصدد يجب أن يفهم ليس على أنه كتاب طب وكشوف علمية ، بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم . وفي ضوء هذه الفكرة فإن فلاسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباسكال وهيجل دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية . ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطورة من الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مالم ننتج القاعدة التي تولد ( الأشياء التكنولوجية ) وهي قاعدة علمية . ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خاص . من أبرز صفات هذا المناخ حرية الفكر ، فالفكر الغربي اليوم يبحث بدون ( تابو) بدءً من الدراسة النقدية للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة . وفي جامعة مك - جيل ( Mc. GIL ) في مونتريال يدرس الطلاب أنظمة الحكم في العالم ، حيث تخضع النظم الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبرية ، كما يدرس الأطباء الباكتريا وتفريخها وتمكنها واستفحال مرضها ، كذلك العثور على الترياق المناسب لسمومها ، ليس لتصديرها الى الدول البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ، بل للاحتفاظ بها في الأدراج السرية للمؤسسات العسكرية ، كما رأينا في فيروس الموتابا في فيلم الانفجار الفيروسي (OUTBREAK ) فالسياسة علم ، والجنس علم ، وعلاقة الايمان بالعلم أيضاً علم ، وفي اللحظة التي نوحد فيها طرفي معادلة العلم والايمان ، كما وحد آينشتاين المادة والطاقة فسوف تحل أعظم مشكلة واجهت العقل الانساني حتى اليوم .    سحر الشكل الهندسي في الأرقام عند باسكال :   كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ، ففي الوقت الذي حاول ديكارت أن يقلب الهندسة الى أرقام ، فإن باسكال استولى عليه روح الجمال في رشاقة الهندسة فَفَهِم الأرقام من خلال تراكيب هندسية ، كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فالأعداد تتركب فيما بينها وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو الأمر عند فيثاغورس وفي تقدم باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضاً من شكل هندسي الى شكل هندسي آخر ، ولايرجع أبداً الى العبارات الرمزية العامة التي نجدها في الجبر ولا الى التركيبات العقلية الخيالية التي نجدها عند ديكارت . إنه يرجع دائماً وأبداً الى نظرة فنية كاشفة )(*)  
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (5) 
الحكم القريبة المحجوبة  :   هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفة هي لب قانون الأواني المستطرقة أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمه ثم صبه على شكل قانون رياضي يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل . هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مستوى بحر على آخر ، وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر شغلت بال الانسان منذ أيام الفراعنة ، للاقتصاد في دروة كاملة للالتفاف حول القارة الأفريقية ، وكان هناك خوف من ارتفاع منسوب المياه في البحر الأبيض عنه في الأحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على بعض _ الى غرق مصر الكامل . وفكرة باسكال في ضغط السوائل أدخلت الى العقل الانساني فهماً جديداً في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين الأحواض المتصلة ، فإذا كان مرج البحرين يلتقيان ، فهناك برزخ غير منظور لايجعل أحد البحرين يطغى على الآخر ، فبينهما برزخ لايبغيان .   التخلص من ضغط مسلمات الأفكار السابقة :  كان باسكال عالماً تجريبياً قبل أن يكون فيلسوفاً روحانياً يمزج التصوف بالفلسفة في عصير روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ، والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة الخلاء في أنبوب الزئبق ، وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ، الذي كان يؤمن بأن الطبيعة تكره الخلاء ، ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلة هذا المفهوم ، فإذا مليء أنبوب مفتوح أحد الطرفين بالزئبق ، ثم وضع على حوض مملوء بالزئبق ، نزل مستوى الزئبق في عمود الزجاج الى مستوى معين واستقر عنده ، تاركاً خلاءً في أعلى الانبوب . وتتكرر هذه الظاهرة مع كل تجربة . وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الذي كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة . عمد باسكال الى إعادة التجربة في مستويات شتى بين البحر والجبل والسهل ، واستخدم سوائل منوعة فعمد الى الماء والكحول والزيت فكانت هذه الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد . لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعة لغة الخلق الأساسية ، التي تنطق بصدق وصرامة ، بدون تحريف وتزوير ومحاباة ، فهي أعظم من كل نص كَتب عنها ، من أي جهة كانت مصدره ، لقد لاحظ أن مستوى السائل الزئبقي يرتفع أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبق 76 سم ويقل هذا مع الارتفاع علواً . من هذه الملاحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضغط الجوي الذي قاد الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية لاحقة ليس أقلها في ميدان الطب في معالجة الحروق والغانغرين الغازي في غرف مرفوعة الضغط عالية التركيز في الاكسجين ( HYPER  -  BARIC - OXYGEN - CHAMBER )    تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال  :  إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن السابع عشر للميلاد كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ، وكان أبرز مافي هذا الفكر كسر المسلمات العقلية السائدة ، التي تحولت الى أغلالٍ بثقل حجر الرحى ، فهي الى الاذقان فهم مقمحون . مع هذا كان باسكال نسيجاً فكرياً لوحده . كان يشترك مع ديكارت في مستوى العمق الفلسفي واستخدام الرياضيات للمنطق الفلسفي ، كما أشار الى ذلك في كتابه الخواطر ( PENSEES ) وأثنى على ديكارت ، ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقع سطحياً . ففي الوقت الذي كان ديكارت تحليلياً كان باسكال ( حدسياً ) أقرب الى مدرسة الجشتالت ( GESTALT ) وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شمولي سنني يستخدم فيه أداةً معرفية لتطبيقها بشكل وجودي في حقول معرفية شتى ، كان باسكال يرى تعقيداً وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقلٍ معرفي . وهو ماأكدته مدرسة علم النفس السلوكي . وفي الوقت الذي كان عقل ديكارت ينفر من التجربة وجوها ولايميل الى الحقل التجريبي ؛ كان باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ، كما حصل مع اختراعه الآلة الحاسبة وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ، وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ، وتعتبر مقدمة لتطوير نظام الكمبيوتر . فإذا قرأ الانسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (PASCAL ) عليه أن يتذكر ذلك العبقري ، الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميلاد ، وأنجز ماأنجز ولم يعمر أكثر من تسع وثلاثين سنة . وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق التاريخي ، كان باسكال مهتماً بالعلم وقدره التاريخي وتاريخ العلوم ، فعندما وصل الى فهم الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصدد منذ أيام أرخميدس حتى عصره . جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي : (إن لباسكال أسلوباً خاصاً في البحث والتفكير والتعبير وقد رأينا باسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة، لايفرض على العلم وأقسامه نظاماً سابقاً، إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قسم منه على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ، ولاشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه في العلوم ، عبارة عن حدس وكشف لااستدلال وتنظيم استدلالي للأفكار ، وأخص ماتمتاز به النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كاملاً على الموضوع المدروس ، وربما كان أخص مايمتاز به التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر لابتحرير كتاب منسق كل التنسيق )(*)
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (4) 
الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير :   كذلك تظهر هذه الثنائية التي لاتملك حتى الفلسفة الاجابة عليها في تفسير الشقاء والحبور الانسانيين : (( وشقاء الانسان لغز آخر ، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ، كثير التعرض للألم في كل عصب ، وللحزن في كل حب ، وللموت في كل حياة ؟؟ )) إن كلمات باسكال تحلق الى الأفق الانساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العقل ، فهذه المعاني لاتوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ، إنها هنا تعبيرات مليئة بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع . وتبرز الثنائية في صورة أخرى بين الطبيعة كيف تتصرف والانسان الضعيف في مواجهة جبروتها الذي لايرد : (( مع ذلك فإن جلال الانسان عظيم في معرفته أنه شقي ... ماالانسان الا قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ، ولكنه قصبة مفكرة ، والكون كله لاحاجة لأن يتسلح كي يسحقه فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ، ولكنه بعد أن يسحقه الكون لايزال أنبل من هذا الذي يقتله ، لأنه يعرف أنه مفارق الحياة ، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الانسان ))    زحزحة الأفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة الانسان الأساسية :    في نوع من هذه المتحارجات في علاقة اللهو بالضجر ، وثنائية الانسان المبنية على التناقض الذي لايمكن توحيده ، وفكرة العدالة الأرضية التي يستحيل إقامتها ، واليقين الذي يعجز الانسان عن قنصه ، وسعادة الانسان التي لايمكن تحقيقها بدون فهم الانسان . حاول باسكال الغوص في بعد نوعي جديد لفهم المشكلة الانسانية في جذورها في محاولة لحل تراكيبها الخفية واكتشاف معادلاتها المجهولة وهو الرياضي الذي طور حساب التفاضل والتكامل ، ودشن رياضيات الاحتمالات ، وفهم مبدأ الضغط الجوي ، ليضع في النهاية مبدأ ضغط السوائل ، الذي مكن المهندسين لاحقاً  فتح قناة السويس وبناما ، بعد أن كان المهندسون يرتعبون من إمكانية علو مستوى بحر على آخر . قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مستوى النفس وتقرير المصير ، ليس باستخدام المنطق الفلسفي ، فقد نفض يده منها بعد أن رأى كلال أدواتها المعرفية في حل المشكلة الانسانية . وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م .    الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م :   حدث هذا قبل أن يموت بثماني سنوات ، حيث زلزلت قناعاته كلها ووصل معها الى اليقين والفرح والدخول الى حل مشكلة الانسان . في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى سالت دموعه الى الأرض ، وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ، فخرجت كلمات التجربة الروحية مهزوزة مقطعة متناثرة لاترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والفرح والسعادة . كانت تسجيلا تجربة دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ، في تلك الليلة عند السحر حيث يهدأ الليل حدث التجلي ، وكأن ناراً اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بنور خاص فكانت أول كلمة كتبها : نار .  كانت نارا أحرقت الشكوك والذنوب ومعها الثنائية في ضربة موفقة واحدة . ثم خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خلاصات لمذاقات روحية ، أكثر منها جملاًُّ معبرة عما خالجه من أفكار ، واستفتح تجربته الروحية بنداء خاص الى .. اله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب .. لا إله الفلاسفة والعلماء .. إن باسكال اكتشف ثلاث عظمات كل واحدة تنفصل عن الأخرى بلانهاية في المسافة : المادة والعقل والمحبة ، الأولى للقادة والأغنياء ، والثانية للفلاسفة والعلماء ، والثالثة للقديسين والأولياء ، .. إن حل اللغز الانساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتبة الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها .    ينقل عن باسكال قوله : صنفان من الناس فقط يصح أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه ، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لايعرفونه )(8)  عندما شرع ( سنوفرو ) الجد الأعلى من الأسرة الفرعونية الرابعة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد في حملة بناء الاهرامات ، أُصيبت مشاريعه بكارثة محبطة ، انهار فيها الاهرام الأول بالكامل ، وبدأ الثاني في التشقق ، مما حمل مهندسي الاهرامات من الفراعنة الاوائل الى إمالة زاوية انتصاب الهرم ، فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطحاً ملتصقاً الى الأرض خائفاً من الانتصاب . هذه البداية المخيبة للآمال وضعت التحدي أمام الجيل التالي ، مما جعل الفرعون ( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ، في استقصاء هندسي وتجارب ميدانية مع الادمغة العلمية المحيطة به ، من جامعة هليوبوليس المدينة المقدسة قبل الانطلاق بمشروع جبار يستغرق عشرين عاماً بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجلات ، بدون حديد ، بدون حصان ، بدون بكرات رفع . فكلها تقنيات تم اكتشافها لاحقاً ؛ فالاهرام بني بالسواعد والادمغة والحجارة فقط ... والارادة الحضارية . كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهرم على خط الأفق تماماً ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقة حفر مكعبات في الأرض على امتداد مساحة قاعدة الهرم ، ثم وصلوا بينها بممرات ثم ملأوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء الأفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم .  
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (3) 
السجن الانفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البشر . بين من يحدق في ذات شقية ، ومن يعشق التأمل والاعتكاف واكتشاف العالم الداخلي الغني . الوحدة مشعر النضج والاقتراب من الله . على كل حال سيغادر الانسان هذا العالم وحيدا وسيدخل الآخرة لاينفعه في معاناة الخلاص الأخيرة أحد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه . النفس التي ستفاجيء للمرة الأولى بمواجهة الذات ستكون من نوع مزلزل وتجربة تحدث للمرة الأولى . السجن الانفرادي يقود الانسان الى الجنون أو الحكمة ، لأنه يحبسه مع ذاته ضمن أربع جدران . من الغريب أن هذا العزل وهذه المواجهة المفروضة للاعتكاف ، وهذه المواجهة الأليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ، وفيها غاية المتعة لأفراد قلائل من الجنس البشري ، ولجوا هذا العالم الخفي ، وعرفوا مساراته الداخلية بنور خاص ، فهذا القبو عميق حالك الظلام ، لايضاء تماماً الا بمشاعل جهنم يوم يبعثون ، ولكن هذا الصنف تخصبت عندهم الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي .     الثنائية المتناقضة : اللانهايتان   كذلك يطرح باسكال في رؤيته للانسان فكرة اللانهايتان في ثنائية تحمل التناقض ولاحل لها حتى على يد الفلسفة . ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجمل ماكتب في النثر الفرنسي في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ، لأنها تدفقت من خلايا عصبية متوقدة الى أبعد الحدود ، قد ذاقت الاستنارة الداخلية . كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي حدثت معه في نوفمبر من عام 1654 م . لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الجدل الانساني المستعصي على الحل في مذكراته ( الخواطر )( PENSEES ) التي لم ترى النور بشكل كامل الا بعد 289 عاماً ؟! :  (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ، ولكن هناك لانهائية أخرى وتلك هي لانهائية صغر الذرة وقبولها النظري للانقسام قبولاً لاحد له ، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا لانملك الا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .   إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهاية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور . من الانسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟  إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه ، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي أخذ منه واللانهائي الذي يغمره) يرى باسكال بهذا العرض الأَّخاذ أن الانسان ليس مركز الكون كما رآه الفيلسوف اليوناني أرسطو ، بل هو في وسط الكون ، في حالة فقدان توازن ، وعجز مطلق عن الفهم ، معلقاً بأفظع من ألعاب البهلوان على حافة غير مرئية بين الكل والعدم ، بين لانهايتان في أي اتجاه سار ، باتجاه الكبير العالم العلوي ، أو باتجاه الأسفل الى العالم الأصغر ، هو عاجز عن إدراك العدم الذي خرج منه وقرر مصيره ، وهو أعجز عن إدراك العدم الذي يمشي باتجاهه مدفوعاً بجبروت لايقاوم ، نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مسرح الحياة . بين لانهايتان تطوقانه ، كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ، الذي يصعد فيه الأول الى الملكوت الفسيح الجبار ، ويهبط الثاني الى العالم الأصغر الذي يسبح الله بطريقته الخاصة . ولكن الانسان حينما يقارن نفسه يصاب بالذهول ، فهو الى اللانهاية لاشيء وعدم وصفر ، ولكنه مقارناً الى العدم يتحول الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية في ضربة غير موفقة وفي ثنائية تناقضية محيرة . عدم وكل شيء بنفس الوقت بنفس اللحظة . هذا ماجعل باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشياً عليه .    الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود :   تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة الانسان مرة أخرى على شكل تناقض محير مزلزل في حالاته النفسية الديناميكية : (( وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان ... يالهذا الانسان من كمير !! ياله من بدعة ووحش وفوضى ، وتناقض ومعجزة ، هذا الحكم في كل شيء ، ونموذج الغباء في الأرض ، مستودع الحق ، وبالوعة الضلال والشك ، مفخرة الكون ونفايته ، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ )) ويُظهر الموت هذه الجدلية الرهيبة ، ففي لحظة واحدة ينهار الانسان من قمة الوجود في النطق والتعبير والحب والأماني والحلم الجميل والعيش الرغيد والحياة البهيجة والنور ، كله ينهار وبخبطة واحدة ، الى السلبية الكاملة والاستسلام المطلق والدمار الساحق والظلام المطبق .  
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (2) 
تواتر الانسان بين الملل واللهو :   حللَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول :  (( انظر الى برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافلاً كل يوم بمختلف الأشغال والمواعيد وألوان اللهو المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أصدقاء إلى زيارة الندوات وحضور الولائم ، فالصيد من جديد ، فندوة جديدة ، فمقابلات العمل أو الأصدقاء ، فموائد الميسر أو محافل الرقص أو كلاهما ، وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل لافراغ فيه ، والناس من حوله مكلفون بالمساهمة في شغل أوقاته ، وإن توقف التيار لحظة وترك الرجل أعماله أو أغلق بابه على الزوار ، وإن أسرع الى الريف طالباً الراحة والهدوء ، لما بقي في الريف طويلاً ، وسرعان مايعود الى المدينة ، أما إن اُضطر الى ترك الأعمال أو اعتزال الوظيفة أو العيش في الريف بمفرده ، لضاق بالحياة ذرعاً وحل به الضجر ) ليصل في النهاية الى تقرير ارتباط الضجر باللهو (( اللهو إذاً مرتبط بالضجر أشد الارتباط )) فالانسان من أجل أن يهرب من السآمة يُهرع الى اللهو ، ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ، وهذا بدوره ليس له مخرج إلا باللهو ، فهناك تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مثل تركيب الأحماض الأمينية في الكروموسوم الخلوي . ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا يصاب الانسان أصلاً بالسآمة والملل   تفكيك نفسي لظاهرة الملل :   يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثافة الشعور بها هي التي تقود الى الملل ، ولكن ماعلاقة الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ، وهذا يعطينا توضيحات في غاية الأهمية لتناذر ( متلازمة )( SYNDROM ) يوم الأحد عند الغربيين ، فأثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا تعجبت من ملاحظة مزدوجة : أولها كراهية يوم الاثنين الذي هو بداية العمل ، وتقابله ساعة النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ، عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنهك ، فتحمِّر الأعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ، بين باكي حظه وفاشي أسراره ، عند غربي لايحرص على الاقتراب منه أحد ، في حركة تدشين القطط الاجتماعية الجديدة . وثانيها كآبة يوم الأحد خاصة بعد الظهر ، فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نكدا وتنغيصاً ، في أعجب تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنينة القلوب . لم أعرف السر خلف ذلك الا متأخراً ، من خلال هذا التحليل ( الباسكالي ) .    ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة الاغتراب الداخلي :   إن قساوة العمل الاسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية الاسبوع ، ولكنهم منفردين كقطط اجتماعية ، كل لنفسه ، فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجهة للذات ، عندما تتخوى النفس من الداخل ، تتفرغ وتتقعر وتفقر داخلياً . ويدخل الانسان الحالة النفسية التي وصفها المفكر الاسلامي علي شريعتي ( حالة الاغتراب الداخلي)  . هذه المواجهة مؤلمة وتقود الى الشعور بالبؤس والحقارة والشقاء ، في حين كان العمل الاسبوعي عملية خروج وشرود من الذات ، أي عملية نسيان مؤقت للذات ، ومن هنا يدرج باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ، لأنه يؤدي نفس وظيفة الهرب من الذات وعدم مواجهتها ، وتفيد الآية في نفس الاتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) . هذا هو السر في محاولة هرب الانسان بعد انتهاء العمل الى نوع جديد من العمل هو لهو وتسلية ، ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كلها من صنف عمل جديد قد يكون أشد إرهاقاً وأعظم مجهودا ، ولكنه يفترق عن العمل الأساسي باندماج الانسان فيه وبمتعة أكثر ، فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نشاط آخر من أنشطة العمل الذي نقوم به ، وتسعى منظومة الفكر الغربي اليوم الى تحويل العمل الى متعة مثل لعب المباريات والصيد ، من خلال بناء الديموقراطية في حقل العمل ، أي جعل العمل أيضاً ضرباً من اللهو طالما كان اللهو ممتعاً ، ولكن كلا العمل واللهو عملية تقوم في عمقها على الهروب من الذات وعدم مواجهتها ، لأن الذات فارغة لم تدرك معنى الحياة ولم تحل جدلية المشكلة الانسانية ، فيرى الانسان نفسه على هذه المرآة الشقية .  لماذا كان السجن مؤلماً مخيفاً ؟   فالذات فارغة لم تحل الجدلية الأصلية للوجود ومواجهتها يسبب الألم والشقاء ، لذا كانت ألعن أنواع السجون الافرادية ، والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس لأنه مصادرة للحرية فقط ، بل لأن الانسان يكف عن الذهول الخارجي ، والذوبان في أحداث يومية روتينية تافهة متلاحقة تختصر الحياة الى أشياء وحاجيات وغذاء ومتع رخيصة ، وتختزل الوجود الانساني الى ترانزستور حيواني منكمش ضامر لايتلقى إشعاعات الوجود العظيم ، في السجن يواجه الذات بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل والاعتكاف ، كل أمتعة الانشغال الخارجي توقفت عن تحويل انتباه الانسان ، وسقط الانسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالماً جديداً لأول مرة .
اقرأ المزيد
المشكلة الإنسانية وحلها عند باسكال (1) 
لماذا يشعر الانسان بالملل ؟ ولماذا يكافحه باللهو والتسلية ؟ وهل اللهو واللغو يكسران حلقة الضجر والسآمة حقاً ؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوحدة والانفراد ؟ لماذا شكلت قضية العدالة المشكلة الانسانية العظمى حتى اليوم واستعصت على الحل ؟! مامعنى الثنائية المشحونة بالتناقض المحيرة في الانسان ، بين قطبي الشيطان والملاك ، والموت والحياة ، والحزن والحب ، والشقاء والسرور ، واللانهائية والعدم ؟ لماذا لايتدفق برد اليقين الى صدر الانسان ويبقى على سطح المعلومات ؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه الانسان فيولد من جديد مكتشفاً ( المعنى ) في الحياة ؟؟   باختصار هل هناك حل للمشكلة الانسانية ؟ وهل استطعنا فهم الانسان ؟ أو على الأقل وضعنا قدمنا في طريق فهمه ؟ هذه المسائل الفلسفية الضخمة المليئة بالتحدي أغرت الفيلسوف الفرنسي ( بليز باسكال )(BLAISE - PASCAL ) فتصدى لمواجهتها في محاولة للامساك بمفاتيح الفهم الكبرى للانسان ، وهي تروي لنا قصة طريفةً من روائع مغامرات العقل الانساني في القرن السابع عشر للميلاد ، يقوم بها انسان مثقل بالأمراض ، يكاد دماغه يتفجر من الصداع ، فيحل أعقد المسائل الهندسية ، في فك لغز المنحنى الهندسي الدحروجي وهو يئن تحت وطأته ويتلوى كالأفعى من آلام الأمعاء التقرحية ، ويقترب من الشلل النصفي السفلي فيمشي على عكازتين ، ولايعمر في النهاية أكثر من ( 39 ) تسعٍ وثلاثين عاماً ( 1623 _ 1662 م ) في شهادة واضحة أن العمر في إنجازاته وليس في طوله ، وأن الزمن هو حال النفس وليس دورة الفلك كما يشير الى ذلك الفيلسوف المسلم محمد إقبال في كتاباته    ظاهرة محيرة عند المفكرين :   أجسام نحيلة يعضها المرض حيناً ، وتفترسها العلل طوراً آخر ، وتقضي عليها الأمراض في سن مبكرة ، أشبه بآلة استُهلكت بكثافة لامتناهية فطواها الموت بسرعة . نفوس عظيمة ، وأدمغة متوقدة . عيون تلتمع بالذكاء والنباهة ، ومسلك طاهر ونظافة أخلاقية ، ومواقف تشع بالحكمة والتصرف المحير الذي لايخطر على بال ، فعندما تقدم اليهود الى عيسى عليه السلام وهم يدفعون أمامهم الزانية كان حرصهم أشد على الإيقاع به عند السلطات الرومانية من إقامة الحد ، كما يروي القصة أبو الأعلى المودوديلأنه سيكون بين مطرقة السنهدرين وسنديان الحكم الروماني ، إن تأخر في النطق بالحكم اعتُبر هرطيقاً ، وإن نفذ الحكم أصبح قاتلاً أو محرضاً على القتل في نظر التشريع الروماني . كان جوابه عليه السلام عجيباً غير متوقع هادئاً عميقاً ( من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ) وانقشع جمهور الفقهاء المزورين عن رأسه .    فلاسفة وعلماء عليلون ؟؟!!   ظاهرة ملفتة للنظر تصدمنا بين الحين والآخر ونحن نقرأ للمفكرين والفلاسفة ، فنرى التحدي المخيف في إعاقة مرض وسيطرة علة ، أطلقت كوامن طاقة غير معقولة في التاريخ ، بين ظلام الرؤية في عمى أبو العلاء المعري ، وموت سبينوزا المبكر عن 42 عاماً بسلٍ رئوي افترس رئتيه ، ولكنه ترك من خلفه أربع كتب مازالت تهز الفكر الانساني حتى هذه اللحظة ، وتعتبر محطات عقلية لكل من دخل الاوقيانوس العقلي لمعرفة مغامرات الفكر الانساني الضخمة . والتقرح المعوي الممض عند باسكال ، وجنون نيتشه بمرض الافرنجي الذي استلب دماغه ، وشلل هاينه الشاعر الألماني ، ويصل المرض الى ذروته عند ( ستيفن هوكينج )( STEVEN  HOWKING ) الفيزيائي الكوني البريطاني الذي صعد عنده الشلل الى أطرافه الأربعة ورقبته ، فهو مشلول الأطراف الأربعة ، مربوط الى عربة معاق يستطيع تحريك أصبعين من يده اليسرى ، ويتنفس بثقب صناعي في الرغامى ، ويتكلم عبر كمبيوتر مربوط الى حلقه ،  باختصار هو دماغ فقط ولكنه اعتبر نيوتن القرن العشرين بالاختراق العلمي الذي قام به عندما طرح كتابه ( قصة قصيرة للزمان )( A  BRIEF  HITORY  OF  TIME ) الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية    ظاهرة التحدي :   يبدو أن التحدي يشكل قانوناً وجودياً ، فهو يستوفز الطاقات لتشكل حلقة حركية ، فالفكر أطلق باسكال ، والهم الفكري قاده الى المرض العضوي ، فمظم قرحات الجهاز الهضمي تندلع من تربة نفسية ، وهذا بدوره ولَّد شرط التحدي ، الذي قاد الى مزيد من الانتاج في حلقة تصاعدية ، ولايعني هذا أن كل مبدع أو مفكر يجب أن يكون مريضاً ، ولكن البدانة والشراهة في الأكل لم تكن في يوم من الأيام صفة المبدعين ، الذين يحملون هماً فكرياً يتجاوز معدتهم ، ذلك أن الهم الفكري يحرم في الغالب أو يقلل شهية التمتع بالطعام والإقبال على مايتقاتل ويتزاحم عليه الناس من المقتنيات ، ويحدد الاندفاع باتجاه هذا المتاع الرخيص ، وتفيدنا العضوية بآلية هامة في هذا الصدد وهي أن الطعام يوجه الدم الى الجهاز الهضمي ، مما يخفف دورانه في الدماغ ، فهو يقود آلياً الى تباطيء عمليات التفكير وإعمال العقل والعكس بالعكس ، وهي ظاهرة فيزيولوجية يشعر بها كل واحد منا بعد وجبة ثقيلة ، من ميل للكسل والاسترخاء ، ويظهر عكسها في الصيام أو قلة الطعام من صفاء الذهن وحدة القريحة وتألق الفكر . تحدي الظروف بما فيها المرض والعاهات تطلق طاقة الانسان بشكل تعويضي ، وتحدي الظروف التاريخية تستنهض المجتمع ، وتحدي البيئة يحرك الجموع البشرية باتجاه الحضارة ، كما اعتبر المؤرخ البريطاني توينبي عندما رأى في وجود اسرائيل في المنطقة العربية منخس حضاري وتحدي يدفع للمواجهة وتقرير المصير .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram