- - -

انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية
(( إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة : 1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي . 2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ . 3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! ) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه . الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا . والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها . والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !! والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟ لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية ) فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم . عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم . جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 ) كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين . كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير . وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 ) مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته : الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ . والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري . في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات . يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان . إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية . أن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لايسقط طريح الفراش ، لإنه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة - COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريرية - CLINICA ) أي لايحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير ، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج ، الذي أصيب ( التجرثم الدموي - SEPTICEMIA ) مع معركة صفين ، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج ، والنزف ( BLEEDING ) العباسي ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسية ، والغيبوبة ( COMA ) المملوكية ، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتي ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر ، ثم ( التشريح ) في قاعة العمليات ، حيث جرت عمليات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل ) ، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أُكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى ، لانستطيع أن نقول شيئاً ، لإننا لانعرف ماذا يجرى لنا ، ولانعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية ، ولانملك العقل الخلدوني التحليلي . إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً ، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني ، أي تحت خط الصفر ، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي ، حيث ينحدر الخط إلى ماتحت الخط الأفقي ، الذي هو خط الصفر . إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرخ لـ ( المعجزة الأوربية ) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة ، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين ، حسب الخانات التي يوزعها . ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات ( الدراويش ) ، وازدراد الأساطير ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأخبار الجن والعفاريت ، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على مايحدث كان يجيب : سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً !! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك ، أنه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا ، وراجعوا قصة ( علي التركي - ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة . يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى : (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لاتتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية ؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسارالسياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى لاعلى الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق ، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار ، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية ، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية ، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد ، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد ، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق ، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب ، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى ، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار ، ونظم معين من ( العقلية ) المتشكل . إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليلية ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس ، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبية ) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار ) ، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء ) ، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر ، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه ، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! ( 11 ) . وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات ، ويطُوَّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين ، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة ( استعصاء تاريخية ) لم يتعافى منها حتى الآن ، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثر كل طرف على الآخر سلباً ، بين ( العطالة ) العقلية و( العجز ) الحضاري . إن الفوضى الاجتماعية في العالم الأسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكييك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي . يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك ، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل ، وينقله إلى الآخر ، فأرشده ( l ) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطل ، فلا يستفيد من أعظم الكنوز ، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل ( 15 ) وهذه الواقعة إن دلت على شيء ؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لايستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به ، ويمر على الآيات ( وهو عنها معرض ) لإن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً . وأن ماحدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق . فالقانون الألهي يطوق عباده جميعاً . هوامش ومراجع : ( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24 ( 8 ) كتبها رجل ألماني تزيَ بزي تركي ، وعمل لمدة ثلاث سنوات ، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعاً زاد عن عشرة مليون مارك !! ( 9 ) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص 38 و49 و50 ( 10 ) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتمناع ، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان ، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل ، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت ، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد ، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم ( الخط البياني ) - عالم المعرفة 185 - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص 201 ( 11 ) سورة القصص 76 ( 12 ) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزئين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية ( 13 ) الزخرف 23 ( 14 ) الحديث : (( ذكر النبي ( l ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قلنا يارسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والانجيل ولاينتفعون مما فيهما بشيء )) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 66 المائدة وصححه ( 15 ) تأمل الآية القرآنية ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) سورة الجمعة آية 5 .
اقرأ المزيد
مصير الإنسان .. إلى أين ؟
جاء في كتاب ( الخواطر ) للفيلسوف الفرنسي باسكال ( PASCAL ) مايلي : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ولكن هناك لانهائية أخرى هي لانهائية صغر الذرة ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .. إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهائية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور ، فماهو الإنسان بعد كل هذا في الطبيعة ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل إلى استكناهه ، وهو عاجز على السواء عن رؤية العدم الذي أُخذ منه واللانهائي الذي يغمره )) ( 1 ) إذا لم نعرف كيف كان الإنسان ( قبل ) عشرة آلاف سنة ، فإن القفز عبر الزمن لرؤية مصير الإنسان ( بعد ) عشرة آلاف سنة ، يصبح ضرباً من المستحيل ، فالوجود الإنساني في حالة صيرورة وكم معرفي تراكمي ، ومعرفة البدايات يعطي تصوراً عن تشكل النهايات ، ذلك أن المجتمع الإنساني لايبقى على حال ، بل هو في حالة ديناميكية متغيرة متطورة نامية ، ومالم يتشكل عندنا بانوراما - نظرة شمولية ( PANORAMA ) للرحلة الإنسانية عبر التاريخ ، ومعرفة المنحنى البياني للصيرورة الإنسانية ، فإننا سوف نبقى نوجه أصبع الاتهام تجاه الإنسان ، ولانرى فيه إلا مارأته الملائكة : أنه كائن مجرم وشقي مخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) ( 2 ) ولكن توقع الملائكة هذا يمثل نصف الحقيقة فقط ، ولمعرفة بقية الحقيقة للاقتراب من رؤيا شمولية ومسح طوبوغرافي للطبيعة الإنسانية ، فإن قراءة التاريخ والانثروبولوجيا وعلم الحضارات وقوانين المجتمع ، سوف تسعفنا في إلقاء الضوء على فهم المصير الإنساني بشكل مختلف في ضوء جواب الله تعالى للملائكة ( إني أعلم مالاتعلمون ) . ********************** في مقالتي السابقة عن ظاهرة ( انطفاء العقل ) وأثر ذلك في مركب ( الانحطاط ) الذي تسلط على الجسم الإسلامي ، وكانت أفظع تجلياته ولحظة الانكسار الكبرى في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، الذي لم يرتفع عنه حتى اليوم ، فإن هذه المقالة خصصت نفسها ليس لمسيرة الحضارة الإسلامية ، بل لرحلة الإنسان عبر التاريخ ، وبفهم طبيعة هذه المرحلة ، وبتجميع نقاط حركتها في المنحنى البياني التاريخي ، يمكن الاقتراب لفهم أفضل لآليات الحركة التاريخية . ************************ ياترى كيف يمكن التوصل إلى معرفة حقيقة عمر الأرض والشمس ؟ وكم أصبح للإنسان وهو يدب على ظهر هذا الكوكب ؟ يطيب لأفلام الخيال العلمي إظهار الإنسان مع الديناصورات ، ولكن هذا الترافق الزمني غير صحيح ، كما كشفت عنه الأبحاث العلمية الجديدة ، فبعد اختفاء الديناصورات بفترة طويلة ظهر الإنسان ، فالديناصورات دبت على الأرض بأطنانها الثقيلة وأدمغتها الصغيرة قبل 570 مليون سنة ( 3 ) واختفت عن وجه اليابسة قبل حوالي 65 مليون سنة ، في حين أن بدايات الإنسان ظهرت قبل حوالي ( 2.3 ) مليون سنة ، وفي هذا الصدد يواجهنا سؤال ملح هو : كيف استطاع العلماء تحديد هذه الأشياء وبهذه الأرقام ، وليس هناك من أثر تاريخي أو وثيقة تقر على هذه الحقيقة ؟ كيف تم استنطاق الوجود وبأية وسيلة تم معرفة عمر وسيرة حياة هذه الكائنات ؟ إذا كانت الديناصورات وطأت الأرض بهياكلها العملاقة وأنيابها المرعبة وأدمغتها القاصرة ، قبل نصف مليار سنة فكم أصبح للحياة على وجه الأرض ؟ سواء وحيدات الخلية ، أو عديدات الخلايا ، متمثلة في بقية الحيوانات من زواحف وطيور وحيوانات ثديية ؟ بل كم أصبح للكون من عمر ؟ ومتى تشكلت المجموعة الشمسية ؟ ومتى بدأت الحياة على وجه البسيطة ؟ وأين تقع الحياة الإنسانية في هذه الرحلة الطويلة ؟!! ****************************** لابد إذن من معرفة ( الأداة ) التي يمكن بواسطتها استنطاق الشجر اليابس والحجر الصلد ، النجم اللامع والهيكل الرميم ، عن عمره فيما أفناه ؟ ومنذ متى غُيب في أحشاء الثرى ؟؟ فــ ( اللغة ) هنا التي تنطق ، تختلف في طبيعة أقلامها ومدادها وورقها ، والقرآن أشار إلى أعضاء تتكلم ليس في طبيعتها النطق والإفصاح عن نفسها ، بل يمضي القرآن أبعد من هذا ، حيث يُنطق من ليس في طبيعته النطق ، ويُسكت من في طبيعته النطق (( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم )) ( 4 ) فالفم الذي للنطق يُغلق ، وتبدأ اليد بالكلام على طريقة جديدة ولغة مستحدثة لابد من ترجمتها ، وتفسير حركاتها ، فالأصابع لاتنطق ولكن بأمكانها أن تكتب وتشير وتنقر وتعزف وتضغط وتلمس وترسم وتنحت وتشكل ، فأمامنا شريحة واسعة من إمكانيات التعبير الجديدة . فــ ( اللغة ) يعبر بواسطتها عادةً إما نطقاً أو كتابةً ، وهي الشكل التجريدي الراقي عند بني البشر ، ولكن الطبيعة لها لغةُ نطقٍ مختلفة ، فهي لاتصوت أو تكتب على طريقتنا ، بل على طريقتها الخاصة بها ، وماعلينا سوى اكتشاف هذه اللغة من واقع الطبيعة ، وأشار القرآن إلى إمكانية أن تتحدث الأرض ( يومئذ تحدث أخبارها ) ( 5 ) إلا أن هذا الحديث ليس تصويتاً بشرياً ، بل نطقاً خاصاً بالشجر والحجر علينا أن نفهمه بعد ترجمته ، وانتبه ( غاليلو ) سابقاً إلى حديث الطبيعة هذا فاعتبر أن الطبيعة كتبت بلغة خاصة وهي لغة رياضية ، علينا اكتشافها وصياغتها على شكل معادلات ، وأصاب غاليلو في حديث الطبيعة التي تتحدث بطريقتها الخاصة ، ولكن حديث الطبيعة يبقى حديث الطبيعة الذي تمثل المعادلات تعبيراً غير نهائي عن حقيقتها ، فالطبيعة هي أكبر من الطب والهندسة والرياضيات والاقتصاد والمعادلات ، فلا يمكن قياس العواطف والتجليات الروحية مثلاً بالغرامات أو درجات السلم الزئبقي ، بالسنتمترات المكعبة أو الفهرنهايت على الشكل الذي افترض غاليلو!! عملية استنطاق هذه ( اللغة ) من الطبيعة هي التي حرمت المؤرخين قديماً من عدم إمكان الغوص في بطن التاريخ لمعرفة كيفية بدء ( خلق الأشياء ) (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )) ( 6 ) بسبب عدم انتباههم إلى إمكانية هذه اللغة الجديدة ، إلى درجة أن شراح العهد القديم في أوربا اعتبروا أن العالم بدأ في العام 4004 قبل الميلاد ، وهي التي منحت العلماء اليوم ، وبطرق علمية مختلفة معرفة عمر العناصر المعدنية ، والشجرة المعمِّرة ، والصخرة الراقدة عبر الأحقاب الجيولوجية ، والهياكل العظمية التي حفظتها طبقات الأرض ، المدن التي طواها التاريخ ، والحضارات التي انهارت ولفها ليل الزمن . لم تعد الإمكانيات محصورة في تحديد عمر الشجرة فقط من خلال حلقاتها الداخلية ، بل حتى قراءة هذه الحلقات على شكل ( سيرة ذاتية - C . V. ) ومعرفة سنوات الخصب من الجفاف التي مرت خلال حياة الشجرة ، كُتبت القصة وحُفظت ووُثِّقت وخُتمت بختم ( الواقع ) الذي لايكذب ولايزور ، لايحرف النصوص أو يؤولها ؛ فهي وثيقة أكيدة سطرتها يد الزمن كوثيقة أصلية غير مزورة ، لذلك كانت طبقات الأرض في حفظها للنصوص التاريخية ووقائعه أدل على نفسها بنفسها من أي نص كتب عنها مهما كان مصدره ، كل ماتحتاجه هو المحاولة الدؤوبة لفك ألغاز هذه اللغة ، كما حصل مع حجر رشيد في مصر . ************************** وإذا امتلكنا هذه الأداة سواء من خلال العناصر المشعة في الطبيعة ، مثل اليورانيوم أو الراديوم وسواهما ، أو الكربون 14 من الشجر ، أو الحفريات المختومة مثل البصمات على الحجر وفي طبقات الأرض ، أو حلقات الشجر الداخلية ، أو تحليل كلس العظام في الهياكل العظمية ، أو التحليل الطيفي لــ ( اللون ) القادم من المجرات ، كما في ظاهرة ( دوبلر والزحزحة الحمراء ) ( 7 ) التي طبقها العالم الأمريكي ( إدوين هابل ) لاكتشاف تباعد المجرات وظاهرة تمدد الكون . كل هذه الأدوات المنوعة يغوص الإنسان بواسطتها مثل أدوات الجراح في قاعة العمليات ، ولكن الحقل هنا هو الوجود كله وليس جسم المريض ، فيتأمل المجرات بالتلسكوب ، والباكتريا بالمجهر ، ينبش طبقات الأرض بحثاً عن الهياكل العظمية وبقايا الحفريات ، يقلب النظر في مخلفات المدن البائدة والحضارات التي ابتلعتها الأرض ، فيصل ليس فقط إلى ( عمر ) هذه الأشياء ، بل إلى تسجيل ( موثق ) إلى أبعد الحدود ، وبدون أي تزوير للقصة الكاملة التي حدثت . إن بصمات المجرمين ومخلفات الشعر والدم تقود إليهم مهما أقسم أحدهم بالأيمان المغلظة أنه لم يرتكب الجريمة ، لإن آثارهم تنطق بشكل حيادي وموضوعي عما حدث ، فإمكانية الخطأ بين بصمة وأخرى هي بنسبة واحد إلى 64 مليار ، فالخطأ هنا ممتنع ، ولعل الآية القرآنية أشارت بشكل خفي إلى هذا السر في تفرد البصمة ، من أن البعث سوف يكون كاملاً غير منقوص بما فيها البصمة ( البنان ) التي هي تفرد قائم بذاته لكل شخصية إنسانية ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) ( 8 ) كذلك الحال في ( بصمات الحفريات ) على الصخر وطبقات الأرض فلا يمكن أن تضلل . هكذا استطاع العلماء الذين ( مشوا في الأرض ) استنطاق الحجر والشجر ، النجم وطبقات الأرض ، الراديوم والكلس ، العظام والدماء ، وهذا الاختراق لهذا الفضاء المعرفي هو في حالة زيادة يومية وتراكم معرفي نامي ، تتفاعل عناصره مع بعضها فتولد عناصر جديدة ، وهكذا أمكن الكشف عن هياكل العائلة المالكة الروسية للقيصر نيقولا الثاني الذي غاب في بطن الأرض مع الثورة البلشفية برصاص الشيوعيين الحمر . ************************************* وطالما أمكنتنا هذه الأدوات الجديدة من كل هذه المعرفة الغزيرة والمنوعة ، فإننا نقترب اليوم من لغز بداية الكون في إطار نظرية ( الانفجار العظيم - BIG - BANG - THEORY ) التي تفيد ببداية عجائبية خارقة للوجود ، بدأت فصولها قبل حوالي 15 مليار سنة ، من نقطة لم يستطع العلماء إلا اعتبارها أنها لحظة ( متفردة - SINGULARITY ) حيث انفجر الكون على صورة كرة نارية هائلة في جزء من ( سكستليون ) من الثانية أي واحد مقسوم على عشرة أمامها 36 صفراً ، حيث كان الكون كله بما فيه من كل المجرات الحالية مضغوط في حيز أقل من بروتون واحد .. حيث لازمان أو مكان .. لاطاقة أو مادة .. لاقوانين تنتظم الكون أي غياب كامل لكل مفاهيم الوجود التي نتعامل معها اليوم ؟!! هذا ماتقوله باختصار نظرية الانفجار العظيم التي جاءتها التأكيدات من كشوفات ( هابل ) في تمدد الكون ، ثم الكشف عن ( الإشعاع الأساسي ) في الكون على يد كل من ( آرنو بنزياس ) و ( روبرت ويلسون ) عام 1965 م ( 9 ) والتي تمشي معظم الدلائل باتجاه تأكيدها حتى الآن . وإذا كانت نقطة البداية قد دشنت للكون قبل 15 مليار سنة ، فإن مجموعتنا الشمسية التي ننتمي إليها ربما تكون قد بدأت قبل حوالي ثماني مليارات سنة ، أما أمنا الأرض فتتأرجح الأرقام عند( 5.4 ) مليار عام ، ويبقى السؤال عن الحياة التي باشرت وجودها قبل حوالي ( 5.3 ) مليار سنة ، وكانت الحياة البدائية في صورة وحيدات الخلية التي لاتحتاج للأكسجين ، حيث لم يكن في تلك العصور الساحقة وجود للأكسجين في غلاف الكرة الأرضية، وفي مسلسل الحياة هذا تأتي الحياة الإنسانية في قمة الخلق الألهي ، حيث يرجح أن تكون قد بدأت قبل حوالي ( 2.3 - 4.3 ) مليون سنة وفي أفريقيا الساخنة ، ربما في شرق الحبشة ، على النحو الذي كشف عنه العالم الأمريكي الانثروبولوجي ( دونالد جوهانسون ) في نوفمبر عام 1974 م ( 10 ) في مثلث عفار شرق الحبشة ، حيث تم الكشف عن 80% من هيكل عظمي لإمرأة تمشي منتصبة ، تعود إلى مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين ( هيكل لوسي ) فإذا وضعنا الآن الحياة على شكل كتاب ، شكلت الحياة الإنسانية فيه الصفحة الأخيرة من كتاب سماكته ألف صفحة . ****************************** بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش والوحوش تطارده ، يأكلها وتفترسه ، يعيش على الصيد وجمع الثمار ، بدون ذكر في التاريخ ، فلاتدوين ، فكان خارج التاريخ ، ولفترة ملايين السنين ، ثم حدث الانعطاف الأول والخطير في تاريخ الإنسان باكتشاف النار والمحافظة عليها متقدة ، فصرف خطر الحيوانات عنه ، كما استطاع أن يتقدم للعيش في المناطق الباردة ، وكانت هذا قبل حوالي 900 ألف سنة ، وبذلك خرج من أفريقيا في أرجح الأقوال ليعمر القارات كلها ، وأما أمريكا فانتشر إليها من أقصى الشمال عبر مضيق بهرنج ، الذي كان يصل آلاسكا بآسيا ، ولعل شبه أهل الأسكيمو بأهل الشرق الأقصى والصين يوحي بمجيئهم من هناك . **************************** وبقيت فترة الصيد وجمع الثمار واعتماد النار والانتشار في الأرض فترة طويلة من الزمن وبدون أي قفزة نوعية ، حتى دشنت المرأة الانعطاف الخطير الثاني بدخول الثورة الزراعية ، وكان ذلك قبل حوالي عشرة آلاف سنة ، ففي الوقت الذي كان الرجل فيه يركض خلف الصيد على ماخلدته نقوشات الكهوف ، انتبهت المرأة للزراعة ففجرت التاريخ وعطفت مجراه وحققت القفزة النوعية للجنس البشري ، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان تحرر الإنسان ودفعة واحدة من الموت ( جوعاً ) فسيطر على إنتاج غذاءه ، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة ، وانبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه ، على ماأشار إليه عالم الاجتماع ( دركهايم ) في كتابه تقسيم العمل ، وعلى النحو الذي فهمه ابن خلدون في ( المقدمة ) في ضرورة المجتمع الإنساني من نقطة ( الغذاء ) الذي لايمكن تحصيله بدون تعاون التخصصات ، وبتوفير الغذاء ازداد السكان ، في صراع مع حصد الأمراض التي كانت تعالج بيد ( السحرة ) حيث كانت أحد وظائف الساحر ( الطب ) ، وبدأت التجمعات السكانية الكبرى في التشكل ، وببناء المدن وتخصص فريق الفلاحين بالسيطرة على إنتاج مايزيد عن حاجة الجماعة ، تحول بقية الفريق الاجتماعي إلى تخصصات مختلفة ، وبدأ الانسان في وضع قدمه في أول طريق الحضارة ، فتشكلت المدينة ، وولد النظام السياسي الذي احتكر السلاح والعنف ، وبدأ الإنسان مع أخيه الإنسان في تشكيل مجتمع المدينة ( الآمن ) وبذلك تحرر الإنسان من الخوف من أمرين : فوضى الغابة وعنفها وجوعها ، وهو ماأشار إليه القرآن عن نعمه على الإنسان من أنه ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . وهو مانوه به ابن خلدون كاعتبار ثاني للتجمع الإنساني بعد الغذاء ( المدافعة ) ***************************** ظهرت على وجه الأرض مجموعات إنسانية على شكل مجتمعات بدائية تجاوزت ( 600 ) مجتمعاً ، على ماحررَّه المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه ( دراسة التاريخ ) ، ولكن الحضارة كان عليها الانتظار بضع آلاف من السنين قبلا أن تنبثق ، فانطلقت أول حضارة من جنوب العراق الحالي قبل ( 6000 ) سنة ، لتتلوها 28 حضارة أخرى ، في ظروف مازالت قيد التحليل من قبل فلاسفة التاريخ ، منهم توينبي الذي أشرنا إليه والذي رأى في قانون ( التحدي والاستجابة ) آليةً تفسر بزوغ الحضارات أو بالعكس انطفاؤها ، سواء كان التحدي في البيئة أم النفس كما في حضارة ( البلوبينيز ) مع تحدي ( المحيط ) أو حضارة جنوب الرافدين والنيل في تنظيم الري . ******************************** ومع ولادة الحضارة حصل خطأ ( كروموزومي ) رهيب ذي قرنين أو شعبتين أو مرضين ؛ كل منهما يزيد في تفشي القيح عند الآخر ، هما ( الحرب والرق ) ، الحرب كانت تولد الرق ، والرق هي القوة العضلية ( الآلة في ذلك الوقت ) المستخدمة في مزيد من الانتاج ، الذي اعتاد القوة العضلية المباشرة الإنسانية أو الحيوانية ، ولعل أفظع مرضين أصيب بهما الجنس البشري في تاريخه كانا ( الحرب والرق ) لإنه بالحرب يدمر وجود الإنسان بالكامل ، وبالرق يمسح من عالم البشر المعنوي فهو ميتة من نوع جديد ، ومن هنا نفهم أيضاً النتيجة المباشرة ، لتفشي مرض ( قوة العضلات - العجول الآدمية ) على وضع ( المرأة ) فطالما كانت المرأة لاتمتلك ( العضلات ) فإن المجتمع تعرض لاختلال فظيع ، بغياب المرأة عن التوجيه المشترك مع الرجل ، فوقع المجتمع تحت سيطرة الذكور فقط ، ونمت المؤسسات العسكرية ، التي هي ذكورية بالدرجة الأولى ، فكان اندلاع الحروب تحصيل حاصل ، فالحرب هي عملية ذكورية كاملة في التخطيط والقيادة والتنفيذ بل والموت في النهاية ؟! فالذكور يخوضونها بكل ضراوة ويموتون في ساحاتها ، في حين أن الانثى لاتشارك في هذه المذبحة الجماعية ، بل تحافظ على الحياة ، وتنجب الحياة ولاتموت في حمامات الدم المرعبة هذه ، فهي خزان الحياة المتجدد وينبوع الحب المتدفق ، وبترسيخ الثقافة العسكرية الاسبرطية تم تحويل وتشويه كامل للثقافة الإنسانية باستلاب الإنسان من أهم عناصر إنسانيته ، بسل روح المبادرة والبعد الفردي والاستقلالية ، وتحويل المجموع إلى كتلة لحمية مضغوطة تعمل كالمطرقة ولاتناقش ، وتحويل تيار الثقافة بكامله في الفنون والأدب والجمال وسواه ، ليصب في تيار اتجاه تكريس ثقافة البطولة و ( العنترية ) وهي كارثة إنسانية عامة ، عانت ومازالت تعاني منها كل شعوب الأرض ، ووضع لها محمد ( l ) حلاً : (( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) . ********************** وقبل خمسة آلاف سنة حصل انعطاف ثالث لايقل في وزنه وثقله عن الانعطافين السابقين باختراع الكتابة ، فبواسطة الحرف والكلمة أمكن حبس المعنى ورسمه في الأوراق وشبهها ، وبذلك أمكن وللمرة الأولى في التاريخ الإنساني ( حفظ ) الذاكرة الإنسانية ، وبدأ تيار التراكم المعرفي وثورة المعلومات ، ولعل فواتح السور من الحروف المكررة من ( ألف ولام وميم وعين وصاد ) والتي اختلف فيها المفسرون على مذاهب شتى ومازالت أحد أسرار القرآن ، لعل أحد تفسيراتها هي إشارتها إلى هذه الثورة الخطيرة في العقل والتاريخ الإنساني ، فالإنسان قبل ( الكتابة ) كان يتفاهم بالنطق والتصويت ، ولكن حصيلة التجربة الإنسانية كانت تموت مع كل جيل فلا تحفظ ، تماماً كما لو تصورنا أن خلايا الدماغ تتكاثر وتموت كما يحصل مع الكريات الحمر في الدم والتي تتبدل كل 120 يوماً فتتكسر لتعطي حمضاً يذيب دهن الطعام ويلون بعد ذلك فضلات الأمعاء الخارجة ، ذلك ان خلايا الدماغ هي من عمر الإنسان تولد معه برقم محدد وتبقى معه وترافقه إلى رحلة القبر الأخيرة ، فهي تخزن المعلومات وتبني الذاكرة تنمي الخبرة وتصقل المواهب ، تشحذ القدرات الفنية ، وهي بعد هذا مركز الإبداع وتجلي الشخصية ، ولو تبدلت وأعيد صناعتها كما هو الحال مع باقي خلايا الجسم إذاً لكان على الإنسان أن يتعلم اللغة كل بضعة أشهر من جديد . هذا الشيء كان يحدث مع الإنسان عبر التاريخ ، كما لو كان الجنس البشري بدون دماغ وخلايا عصبية ، وباختراع الكتابة تشكلت الخلايا العصبية الحافظة والدماغ الرائع للجنس البشري ، الذي يحفظ الخبرات والذاكرة البشرية والتراكم المعرفي طبقة فوق طبقة . ************************************ وبين القرن السابع والرابع عشر للميلاد تم تطوير الفكر بشكل نوعي على يد المسلمين الذين ودعوا الفكر اليوناني ، ليولِّدوا _ بدفع من روح القرآن _ المنهج الاستقرائي التجريبي وروح البحث الواقعي واعتماد التجربة ، لتتخمر بعد ذلك بعد نقلها في إيطاليا ، لتفجر بعدها روح النهضة الجديدة في أوربا ، ومع تطوير الطباعة قبل 500 سنة بدأ العقل يتحرر ، وتم ربط العالم ببعضه من خلال قوة البخار التي استخدمت قبل 200 سنة ، ليتلوها تسخير الكهرباء قبل 120 سنة ، وأما الاستعمال السلمي للذرة فتم قبل 30 عاماً فقط ، وكل إنجازات الجنس البشري الرائعة من الطب الحديث وجراحة الأوعية والمناظير والتخدير والالكترونيات والبريد والفاكس والطيران ، كله تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية . ************************* كذلك حصل انفجار سكاني بتسارع لم يعهده الجنس البشري من قبل ، خاصة بعد ارتفاع المستوى الصحي ، فالجنس البشري بين محطات عام 1800 - 1930 - 1960 - 1975 - 1988 م قفز من مليار واحد إلى خمس مليارات ، وربما يصل العدد إلى 120 مليار مع نهاية القرن القادم ؟! عندها ستتحقق نبؤة جول فيرن عن الغواصة ناوتيلوس والكابتن نيمو والمدينة في قاع البحر كما عرض في فيلم عشرين ألف فرسخ تحت الماء . حيث تسخر إمكانات البحر لإيواء وإطعام المليارات المتدفقة من البشر ، وفي الوقت الراهن فإن الأرحام تدفع مع كل شروق شمس إلى الحياة بــ 270 ألف إنسان ، في حين تبلع القبور مع كل غروب شمس 140 ألف انسان ، فيزداد البشر كل 24 ساعة 130 ألف انسان جديد ضيفاً على الكرة الأرضية . *************************** وأما رحلة القوة عبر التاريخ والصراع المسلح ، فكانت كل دورة تمضي أشد هولاً في إيقاعها من التي قبلها ، في دورات جنونية من التخريب المتكرر للجهد الإنساني ، والتدمير المعاد للمدن والدول والحضارات ، حتى حصل الانعطاف السادس في مسار عشق القوة ، بعد اكتشاف النار والثورة الزراعية ودخول الحضارة واختراع الكتابة والثورة الصناعية ، ولعل الانعطاف الأخير الأخطر من نوعه ، باعتبار توقف مصير الجنس البشري عليه ، والمثير فيه أنه أفضى إلى عكس ماأراد أصحابه ، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم 16 تموز يوليو من عام 1945 م في تجربة السلاح الذري الانشطاري الأول ( قنبلة البلوتونيوم )، حيث وضع الإنسان يده هذه المرة على وقود المجرات ، ولمس جدار جهنم الصاعق ، وأدرك أن هناك انقلاباً نوعياً في مفهوم القوة ، هي حزمة من الأفكار التالية : 1 - الأول : لم يبق غالب ومغلوب في هذه الحرب بعد اليوم ، ولن يدخل أحد الحرب وهو يعلم أنها انتحار جماعي 2 - الثاني : لن تحل المشكلات بعد اليوم بالقوة المسلحة ، فهذا هو المنطق الجديد ، منطق العصر النووي ، وبالتالي وجب على الإنسان كما ودع هراوة الغابة أن يودع عقلية الغابة 3 - الثالث : كانت بنفس الوقت إعلاناً غير مباشر ودعوة مبطنة إلى عودة الإنسان إلى انسانيته فوجب أن يودع المواجهة والصراع والدماء والصدام ، ويدخل العهد الجديد ويعتاد اللغة الجديدة : الحوار وامتزاج الثقافات والتفاهم وتكوين الثقافة السلمية وتوديع روح العنف والبطولة الفارغة 4 - الرابع : تحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة يرى الناس بعضهم ويتخاطبون بسرعة الضوء ويتحركون بأسرع من الصوت ، فهم قفزوا فوق ثقل الجسد ليلتحقوا بخفة الروح ونبض الأفكار 5 - الخامس : النزاعات المسلحة اليوم وتكديس ( خردة ) السلاح هي بضاعة المتخلفين عقلياً ، والذين لايملكون ( المعرفة ) ونواتجها من التكنولوجيا ، واستعراضاً سريعاً لبؤر النزاع المسلح في العالم يرينا أن عالم الكبار ( لايتقاتل ) والذي يتقاتل هم دول الأطراف المتخلفة فقط 6 - السادس : من يتقاتل من هذه الدول الهزيلة لايملك مصير ومخرج القتال ، بل خاتمتها متوقفة مرة أخرى على دول المركز التي تملك المعرفة والتكنولوجيا والمال ، فمن ينطلق في شراء السلاح وتكديسه يكون كمن اُرتهن لعالم الكبار وباع قضيته إليهم 7 - السابع : يتحول العالم تدريجياً الى شريحتين : شريحة من يفهم وشريحة من لايعقل ، كما يتشكل العالم إلى طبقتين مسخِّرة ( بالكسر ) ومسخَّرة ( بالفتح ) ، مستكبِرين ومستضعَفين على حد تعبير القرآن ، من يملك ( البرستيج PRESTIGE= الوجاهة والنفوذ ) ويأكل 80% من خيرات العالم ، وأخرى تشكل كعدد 80% من سكان العالم ولكنها تحظى بأقل من 20 % من خيرات العالم ويشكل العالم الإسلامي اليوم مركز الثقل فيه فيجب أن نعي هذه الحقيقة المرة من أجل تغييرها ، بتغيير مابنفوسنا أولاً 8 - الثامن : تعلم شريحة ( المستكبرين ) في العالم علم اليقين أن زمن القوة انقضى وولى ، وأن هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة ، التي لاتضر ولاتنفع ، وهم ( سحرتها ) ومانحتاجه هو توحيد محمد بن عبد الله ( l ) كي يبطل السحر الجديد 9 - التاسع : قد تتغبش هذه الرؤية عند البعض بمذابح راوندا وقتال الشيشان وقذائف مدافع الأفغان والبوسنة ، ولكن العالم الذي نعيش فيه هو عالم النور والكهرباء والكمبيوتر وجراحة الجينات والسلام ، بالطبع مازال بعض الناس يعيشون على فتيل المصباح والعد باليدين والكي واستخدام هراوة الغابة ، ولكن العبرة بخواتم الأعمال وآخر الفتوحات العلمية ، فإذا أصر المرء على ركوب الدواب والعد بالأصابع بدل استخدام الكمبيوتر تحول إلى عالم المسخَّرات ( بالفتح ) ************************** يقدر عالم الفيزياء الكونية ( ستيفن هوكينج ) في كتابه ( قصة قصيرة للزمان ) أن الشمس استهلكت من وقودها حوالي النصف ، وأن أمام الشمس في إطلاق النور والحرارة مايزيد عن خمسة مليارات من السنين ؟! فإذا كانت الحضارة الإنسانية بدات قبل ستة آلاف سنة فقط ، والثورة الزراعية تسعة آلاف ، وأفضل إنجازات الجنس البشري تمت في مدى الخمسين سنة الفائتة ، فماذا ينتظر الإنسان في مدى مائة عام القادمة فضلاً عن الآلاف أو الملايين ، كيف سيكون الإنسان بعد عشرة آلاف سنة ياترى ؟ خاصة وأن العلم يمشي بشكل متسارع ؟ قد نصاب بالحزن في اكتشاف أن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد ، وأننا ولدنا مبكرين للغاية وحرمنا من الرؤية المتألقة لعلم الله الذي سيتحقق فينا بعد حين ( إني أعلم مالاتعلمون ) . مراجع وهوامش : ( 1 ) مات باسكال ( 1623 - 1662 م ) دون الأربعين ( 39 سنة ) ويقول سانت بيف عن هذه الفقرة (( ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لانظير لها )) راجع قصة الحضارة - تأليف ويل واريل ديورانت - طباعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1979 م - ترجمة فؤاد اندراوس - الجزء 31 - ص 100 ( 2 ) البقرة 20 ( 3 ) يراجع كتاب ( EVOLUTION ) - كتاب طيف العلم الأمريكية - الطبعة الألمانية ص 17 _ ) SPECTRUM SCIENTIFIC AMERICAN4 ) سورة يس 65 ( 5 ) سورة الزلزلة الآية 4 ( 6 ) العنكبوت الآية رقم 20 ( 7 ) تم كشف هذه الظاهرة على يد العالم النمساوي كريستيان دوبلر وسميت باسمه ومفادها معرفة موجة الصوت أو الضوء القادم من الهارب ، حيث تكبر الموجة وتنضغط في حال هجوها علينا والعكس بالعكس ، وفي الضوء باعتباره مكون من حزمة من الألوان فإن رأسه القادم باتجاهنا هو أزرق ، في حين أن ذنبه الهارب عنا ذو لون أحمر ، وهي ماترسله كل المجرات لإن الكون يتوسع مثل البالونة ( 8 ) سورة القيامة الآية 4 ( 9 ) طالما انفجر الكون في كل اتجاه فلابد أنه ترك أثراً من إشعاع في كل الكون ، هذا ماكشف عنه العالمان المذكوران بدقة وتبلغ ( 5.3 ) فوق الصفر المطلق ( - 273 ) راحع كتاب العلم في منظوره الجديد تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو - ترجمة كمال الخلايلي - عالم المعرفة 134 - ص 61 ( 10 ) تراجع القصة بالكامل في مجلة المختار عدد ديسمبر من عام 1981م صفر عام 1402 هـ ( ص 114 ) عن اكتشاف هيكل لوسي .
اقرأ المزيد
مصير الحرب .. إلى أين ؟
قد يستغرب القاريء لو قلت له : إن زمن الحرب قد ولَّى وأننا نطأ بأقدامنا عتبة (عالم السلام) ونحقق علم الله القديم فينا ( 1 ) وسيعتبرني بعضهم مسرفاً في التفاؤل أو غير واقعي بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم !! نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع ، سيكشف الغطاء عن بصيرتنا ؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أومحتضر في سكرات الموت ، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها ، فدماغه مع العهد الجديد ، وأطرافه مازالت في العهد القديم ، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و ( شهود ) مايحدث فيه ، والكهنة ( الجدد ) للعالم الصناعي يدركون تماماً أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لاتضر ولاتنفع ، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير . مازلت أتذكر أحداث الشيشان حين هز الدكتور كامل رأسه متألماً على وضع مدينة (جروزني) وهي تتحول إلى أنقاض ويتصاعد منها رائحة البارود وتسقط في بركة دم . وعقبت زوجته قائلة : يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم ؛ فالروس سمحوا باستقلال الكثير من الجمهوريات فلماذا يحرمون منها الشيشان ؟ إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما ( الصورة الشمولية ) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية ، فماذا نقول عن مذابح راوندا والبوسنة ؟ وصراع اذربيجان والأرمن ؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان ؟ بل ماذا نقول أمام شهادة ( ويل ديورانت ) وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له : (( الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والاربعمائة سنة الأخيرة ( 3421 ) من التاريخ المسجل لاتوجد سوى ( 268 ) سنة بغير حرب))( 2 ) فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط ، لإنه مع كل دورة ( 14 ) أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ( 13 ) ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني وسكت منجل ( عزرائيل ) ملك الموت سنة واحدة فقط ؟! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة ، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الازتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا مسألة الآخر ) ( 3 ) حيث كشف النقاب بعد مرور خمس قرون ومن خلال استنطاق نفس النصوص التاريخية للغزاة الاسبان ( المبشر لاس كاساس ) عن إبادة ( 80 ) ثمانين مليون من أصل ( 100 مائة ) مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين ، تم إبادة معظمهم على يد الاسبان والبرتغاليين . أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد وحمل ماتبقى منهم عبيداً إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين ، أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب ( الوبيخ ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية ، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط ، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة ( آخر الراحلين ) ( 4 ) بحيث تنقل لنا بوضوح مآساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر ، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر ( 5 ) هذه القصة من قصص التراجيديا التي لاتقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء ، لاقصة البؤساء أو قصة عاصفة وقلب ( 6 ) لــ ( فيكتور هوجو ) ، لاقصة ماجدولين للمنفلوطي ، أو قصص ديستوفسكي وتولستوي ، لإنها رواية شعب يفنى بكامله فلايبقى حتى من يقص خبر اختفاءه من سطح الأرض ، إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية ، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل ، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولايتركها إلا وقد بكى مرات ومرات .. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال ، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل ، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للانسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى ، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الانسان وظلمه ... ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجأوا إلى الكهوف ، لإنهم توقعوا شر ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) كله بسبب الخلاف في الرأي ، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع ، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان ؟! ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا ) ( 6 ) ولاغرابة في هذا الكلام فالمجتمع الإسلامي لاتموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات ، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشاناً ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت . *********************** ولكن صبراً فهذه ليست القصة ولاكامل الجرعة ، فلابد من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد ... والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب ؟ كيف يقتل الإنسان أخيه الإنسان ؟ كيف نشأت الحرب وتطورت ؟ أين نشأت وماهي ظروف تكوينها الجنينية ؟ وماهي جذور العنف والحرب عموماً ؟ ثم إلى أين وصلت اليوم ؟ وماهو مصيرها في المستقبل ؟ ************************** إن الحرب هي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان ، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لاثالث لهما لحل المشكلة القائمة بينهما ، إما محاولة التفاهم بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة ، وإما باستخدام أساليب ( الاكراه ) للآخر بصور شتى لاتنتهي ، فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة ، وأشكال السلوك العنيفة لاتنتهي من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية ، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية ، فالحرب هي الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لانعترف بوجوده ، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح النووي والكيمياوي؟! فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان . *********************** الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة ، وتشكلت كخطأ ( كروموسومي ) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني ، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية ، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية ، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم ( المؤسسة + العلوم + التكنولوجيا ) ولدت الحرب من رحم العنف ؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو بأشد من السرطان والغيلان ، بل إن مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلى مجتمعات عسكرية بالكامل كما حدث مع مجتمع ( اسبرطة ) القديم والذي أصبح مضرب مثل السوء ، مقابل مجتمع ( أثينا ) مركز العلم والفلسفة والفنون . ومع تطور آلة الحرب وعلوم استخدامها ، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة ، تفجرت الحروب والصدامات كتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية ، وكلها تحت ستار ( الدفاع ) عن النفس المشروع ، أو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع ، وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل البارود الذي لايحتاج لأكثر من عود ثقاب كي يتفجر ، فكانت الحرب كما وصفها ( غاستون بوتول ) بنت الحضارة وقاتلتها بنفس الوقت ( 7 ) فالحروب قررت مصير العديد من الدول والامبراطوريات فارتفعت لتسقط بعد حين وبنفس الآلية . ************************ ومرت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع سواء في الصدم أو الوقاية أو الحركة ، وهكذا طور الآشوريون العربة الحربية ، واستخدم هانيبال الفيلة ، وطور الاسكندر نظام الفالانكس ببراعة ، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة وتفوق ، وفتح الاتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار ، وحول كل من جنكيزخان وهتلر جيوشه إلى فرق محمولة سواء بالخيالة أو البانزر ( الدبابات ) ، ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون ، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الانكليز دولة التعايشي خليفة المهدي في السودان ، كما حصد الرشاش أرواح مايزيد عن ستين ألفاً من خيرة الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي 12 ساعة فقط ( معركة السوم ) ، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما معلناً وصول الإنسان إلى سقف القوة ، ممتلكاً هذه المرة سلاحاً ليس كالأسلحة ، فهذه المرة وضع يده ودفعة واحدة على الوقود النووي وأصبح مصير الجنس البشري برمته مهددا بالفناء ، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي ( القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن ) أصبح بالإمكان مسح عاصمة دولة عظمى تضم 20 مليون نسمة ؟؟؟!! وتحويل سطح الأرض في النهاية إلى مايشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر ، وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما ؟! . ********************* تعتبر الحرب حسب تعريف المعهد الفرنسي لعلم الحرب أنها كارثة ذات ( 18 ) ثماني عشر وجه فهي : (( هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية وعدم الاعتراف بالغير بل وإنكار وجوده واندلاع العنف وغياب الحق والمخاطرة بحياة الإنسان وتدمير الثروات المتنوعة وتكريس جميع النشاطات للمجابهات الدموية وأفضلية اللامعقول على المعقول والمطلق على النسبي في إطار عقلي شمولي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة والفوضى واشتداد الأزمات والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب )) ( 8 ) . مع كل صورة ( التنين ) ذو الألسنة النارية الثمانية عشر هذه كما تتكلم الأساطير ، فإن الإنسان يخطط لها ويبرمج ، ويسعى لها ويحفد ، يتدرب ويستعد ، فالثكنات العسكرية كلها للتدريب على قتل الإنسان أخيه الإنسان ، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه ؟؟!! ******************** لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما ( الرق ) و ( الحرب ) فالحرب كانت تفرز الرقيق ، والرق كان ( الآلة القديمة ) فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرض وحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وماشابه ، وبدخول الإنسان عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية ، فلولم يُلغ الرق قانوناً لألغته الآلة عملياً ، فاختراع الإنسان الآلة وفر الجهد البشري ، فكان تحرير الرق تابعاً لهذا التطور النوعي ، وبنفس هذه الآلية يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني ( الحرب ) وكل توابعها وتأثيراتها على الإدارة والعلوم والفنون . وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر النووي ، فلابد من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد . يقول غورباتشوف (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى وتكتسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام ، فالوظيفة السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون وخاسرون لإن الحضارة العالمية سوف تفنى فالنزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )) ( 9 ) وانتبه الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) إلى هذا التحول النوعي منذ عام 1956 م فأشار إلى أن الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار وبأن عصر التسلح قد ولى ؟! ( 10 ) ************************* وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا ، في اذربيجان والشيشان ؟؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين . إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه . وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر : ( 1 ) تقول الفكرة الأولى : إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين ، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه ، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولاتخطر ، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) أي أنه لاسبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة ، وفض النزاعات عن طريق الحروب ، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها بعضاً ، وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة ، وتشكلت الوحدة الأوربية التي يزداد أعضاؤها كل يوم ، بحيث تتحول البحيرة الأوربية مع كل يوم إلى بحيرة سلام ، وأرض تفيض عسلاً ولبناً . والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لارجعة فيها ، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في نهاية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش عقلياً في القرن التاسع عشر ، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق ؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ ( صنم ) السامري الجديد ، سلاح شمشون الجبار ، القنبلة النووية ، التي يفككها من بدأ بصناعتها ، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها ، ويعلم علم اليقين أنها سلاحاً ليس للاستخدام ، فهي صنم السامري الذي له خوار ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ) ولكنه لايضر ولاينفع ولايملك موتا ولاحياة ولانشورا ، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة ً ، في حرب فيتنام وكوريا وسواه . ( 2 ) وتقول الفكرة الثانية : إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم ، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه ، بعد أن شعر أنه صنم لايضر ولاينفع ، وبدأ يكتشف أن أعظم سلاح هو الانسان الجديد المسلح بالعلم والسلم ، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل ، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار ، بل والمضحك أكثر ، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلايبيعه ، ويبيع السلاح السخيف ، فيقبض عليه أموالا ً وفيرة ، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع ( مليون مليون = تريليون ) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال ، كل ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه . ( 3 ) وتقول الفكرة الثالثة : إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية ، يدركها أساطين السياسة ، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين ، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن ، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم ، ويتراجع مركزهم في العالم ، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة . ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك ، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد ، ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك ، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا ، بل تحت سيطرتهم ، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم ، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره ، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم ، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج ، كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين ، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي ، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين ، وتجربة البوسنة التي تمثل ( حي أوربي ) داخل أوربا لاتخرج عن هذه اللعبة المقيتة ، التي آخر ماينظر فيها مقياس العدل والحق ، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه . ( 4 ) وتقول الفكرة الرابعة : طالما هم الذين ( يدركون ) و ( يستطيعون ) فلماذا لايطفؤون الحرائق ، أو لايشعلونها على الأقل ، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم ، فالعلم شق الطريق إلى السلم ، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة ، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين مازالوا لم يقفزوا نفس القفزة النوعية التي قفزها العلم ، فهم مازالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة ، ولكن وضع ( الغاز ) في ( قربة جلد) تنتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير ، كما هي في حروب السياسيين التي لاتنتهي ، ومايحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار إليه غورباتشوف ، فمسلمة ( كلاوسفيتز ) القديمة في فن الحرب ، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جدبدة ، قد طواها الزمن وأكلها العث ، ولكنها مازالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد . ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثاراً بعيدة ، فلايظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه ، فابن رشد مازال يعيش في ذاكرة التاريخ في الحين الذي لانذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها . إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حل مشاكلنا بسهولة ، من توديع العالم القديم ، عالم الحرب والسلاح ، وأن دخولنا إلى دائرة النار تجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخَّرات ( بالفتح ) تحت رحمته ، وسنبقى ندفع فواتير الدم والدموع وحفلات التهجير الجماعي وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم كما وصف القرآن اليهود ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ) . يقول المثل ( الله يطعمك حجة والناس راجعة ) عن الرجل الذي أراد أن يذهب إلى الحج ، عندما قفل الناس عائدين إلى بيوتهم ، فإن أبينا الا سلوك طريق القوة ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة ، تنفض عن كاهلها الغبار الذري وهي لاتصدق أنها مازالت على قيد الحياة فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معاً . مراجع وهوامش : ( 1 ) تأمل الحوار بين الله ( جل جلاله ) والملائكة في سورة البقرة ، فالإنسان في نظر الملائكة متهم بأنه مجرم ومخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) في حين رأى الله تعالى فيه كائناً آخر (( إني أعلم مالاتعلمون )) ( 2 ) دروس التاريخ - ول واريل ديورانت - ترجمة علي شلش - دار فكر ص 155 ( 3 ) فتح أمريكا مسألة الآخر - تزفيتان تودوروف - سينا للنشر - ترجمة بشير السباعي - ص 143 ( 4 ) آخر الراحلين - رواية قفقاسية _ باغرات شينكوبا - ترجمة ونشر محي الدين سليق ( 5 ) تتناثر قرى ( الشراكسة ) في المناطق المذكورة وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا ولذا فإن الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة السابقة ( 6 ) الكهف الآية رقم 18 ( 7 ) راجع كتاب الحروب والحضارات - المعهد الفرنسي لعلم الحرب - ترجمة أحمد عبد الكريم ( 8 ) المصدر السابق ص 28 ( 9 ) بيروستريكا - غورباتشوف - دار الفارابي - ص 199 ( 10 ) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية - جوناثان شيل - ترجمة موسى الزعبي - مكتب الخدمات الطباعية دمشق ص 14 (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد انتهى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت ))
اقرأ المزيد
ترنح الدولار ... هل هو مؤشر لبداية سقوط أمريكا العالمي ؟!!
بين عامي 1949 - 1995 م تعرض الدولار الأمريكي إلى مرض عضال لم يتعافى منه حتى اللحظة ، فخسر مقابل المارك الألماني أكثر من ثلثي قوته ( 1 ) فهو يكافح للبقاء بأقل من ثلث طاقته الأصلية ، ولم ينتشله من وضعه البئيس حتى الآن ، كل حفلات تدخل البنوك العالمية ، ولاحقن الكورتيزون المالية ، أو جرعات العلاج الكيمياوي الاقتصادية ، فهو يذوي ويضمر مع كل يوم مثل مريض السرطان المدنف ، أو مثل البيت المنهار الذي نسمع قرقعة جدرانه المتساقطة ، وتَقَصْفَ سَقْفِه المتداعي ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لايشعرون )( 2 ) وهذا يطرح العديد من الأسئلة فهل هذا مجرد تراجع لعملةٍ في السوق ؟ أم مظاهرة عميقة لافلاسٍ اقتصادي بدون قاع ؟ وانكماش مالي خطير يضع الولايات المتحدة في حالة صدمة مالية غير قابلة للتراجع ؟ كما هو معروف في الوفيات الجراحية ( IRREVERSIBLE SHOCK ) وعلى الشكل الذي شرحها الاقتصاديان الأمريكيان ( هاري فيجي ) و ( جيرالد سوانسون ) في كتابهما ( الأفلاس 1995 الانهيار القادم لأمريكا ) بمخطط عصا الهوكي في العجز المالي الأمريكي ، والذي تنبأ بكارثةٍ للدولار الأمريكي في فبراير - شباط من عام 1995 م ( 3 ) . هل نحن شهود تراجع أعظم امبراطورية عرفها الجنس البشري حتى الآن ؟ لتصبح دولة من الدرجة الثانية كما يتنبأ لها بذلك المؤرخ الأمريكي ( باول كينيدي ) تحت دراسته الموسعة لصعود وأفول نجم القوى العظمى خلال القرون الخمسة الفارطة ، فينطبق على أمريكا ماانطبق على الامبراطورية الاسبانية في القرن السادس عشر والانكليزية في القرن العشرين ( 4 ) ، لتودع أمريكا صدارة العالم مع القرن الواحد والعشرين ، مخلِّيةً المكان لليابان التي تستعد لاستلام قيادة مجال الباسفيك _ على الأقل _ كخليفة جديد مرشح بعد انهيار الولايات المتحدة الأمريكية على النحو الذي طرحه ( شينتارو ايشيهارا ) عضو الدايت ( البرلمان ) الياباني في كتابه ( اليابان تقول لأمريكا لا ) ( 5 ) . هل ستسقط الولايات المتحدة كما سقط الاتحاد السوفيتي صريعاً لليدين والجنب بدون أي هجوم خارجي وهو يملك أسلحة تدمير الكون عدة مرات ؟ وهل كان صراع الديناصورات العظمى واستنزاف معظم الامكانيات في التسلح ومتعلقاته والنزف المالي الرهيب الذي يضخ رحلة التسلح بدون توقف هو الذي قاد الى هذا السقوط المريع ؟ هل كان مؤشر موت الديناصور الأول دلالةً بعيدة المغزى للسقوط الوشيك للديناصور الثاني وبنفس آلية النزف السابقة التي أودت بحياة مملكة لينين وأتباعه ؟ ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( 6 ) وهل سيكون القرن الواحد والعشرون قرن اليابان وألمانيا وعصر الين والمارك ؟؟ أم أن هناك قوى جديدة غير متوقعة ستبرز للساحة ؟ وأين مصير العالم الاسلامي كله في هذه البانوراما الكونية ؟ ********************* من الغريب أن نكبة الدولار الحالية قد تنبأ بها اثنان من المحللين الاقتصاديين الأمريكيين ، اللذين أعلنا صيحة الخطر بشكل مفزع عن الوضع الاقتصادي الأمريكي ، في كتابٍ صدر لهما قبل سنتين ، بأن أمريكا مقبلة على أفلاس مالي كامل ، وأن الدولار لن يبقى له أية قيمة مع حلول عام 1997 م !! (( لن يبقى للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول عام 1995 م ففي هذا العام ستنزلق البلاد نحو الافلاس وحينها سيزول عصر القوة الامريكية بزوال طريقة الحياة الأمريكية ولن تخرج البلاد من أزمتها اطلاقا مالم يبدأ العمل فوراً لانقاذها من الكارثة الوشيكة ))( 7 ) !! ويتوقع هذا المحلل الاقتصادي أن البلاد ( ستعيش تحت وطأة كابوس اقتصادي يفوق الكساد العظيم بمراحل ، ويحول أمريكا إلى دولةٍ سادت ثم بادت )) ( 8 ) . قد يكون هذا الكلام الذي تقدم به صاحبه فيه قدرٌ من المبالغة ولايخلو من تأثير الحملات الانتخابية الأمريكية ، حيث أنه كتب مع نهاية خلافة بوش ، إلا أن الاحصائيات التي يتقدم بها والتي عمل عليها قرابة عقد من السنوات يجعلنا نتأمل هذا التحليل في ضوء مرض الدولار الذي لاينتهي (( وفيما يتعلق بالاحصائيات والرسومات المرفقة في هذا الكتاب ، فإنني وعلى الرغم من انهماكي في اعدادها ودراستها لمدة ثماني سنوات كاملة ، لازلت أشعر بالصدمة والذهول لدى رؤيتي لها ولازلت أشعر بالأسى والحنق عند مقارنتي للديون الأمريكية التي تراكمت خلال مائتي عام وتلك التي تراكمت بشكل مخيف خلال عشر سنوات فقط ، وكلما رأيت الرسمين البيانيين المتعلقين بذلك ، أدركت أن جيلنا فقد كل قيم الشجاعة والإيمان والتضحية والجد التي تحلت بها كل الأجيال السابقة والتي بذلت كل جهد ممكن لإيجاد دولة قوية وثرية وحرة ، وبعد استلامنا لهذه الدولة بدأت تفقد الكثير من مزاياها فياللعار !! ) ( 9 ) . وهذان المؤلفان يبنيان هذا الحكم القاسي على خريطة تطور الديون الأمريكية التي ستصل في فترة قريبة إلى رقم فلكي ، بحيث ستعجز كل إمكانيات أمريكا حتى عن سداد فوائد الديون التي ستصل إلى قرابة ( 1520 ) مليار دولار في العام ، أما الديون الفيدرالية فهي حاليا ( 56.6 تريليون دولار ) وسوف تقفز مع عام 2000 ميلادي إلى ( 13 ) تريليون دولار ( التريليون = مليون مليون ) وهذا يعني _ حسب وجهة نظر الاقتصاديين _ صدمة اقتصادية لانهوض منها . *********************** والآن لنتأمل هذه الظاهرة خارج سطوع المارك وكسوف الدولار وبريق الذهب وجنون البورصات ، بوضع سؤال محوري ( عقلاني ) بعيدا عن توترات الأسواق المالية وانفعالاتها اللاعقلانية ، هل وضع الولايات المتحدة حقا كما يقول الاقتصاديون ؟ ثم ماذا يعني الاقتصاد بالنسبة للوضع الثقافي للأمة ؟ وهل يمكن قياس الوضع الحضاري من خلال المشعر الاقتصادي ؟ بل ماهو المال في الأصل وكيف نفهمه ؟ وكيف يؤثر على الوضع الحضاري سلباً وإيجاباً ؟ ******************** في الواقع ومن خلال تحليل جهات شتى ، نرى أنها كلها تصب في نفس هذا المعنى يزيد أو ينقص ، من شهادات المؤرخين أو السياسيين فضلاً عن الاقتصاديين ، وبين أيدينا في هذا المقالة تحليل مؤرخ أمريكي ( باول كينيدي ) ومفكر فرنسي ( جاك أتالييه ) وسياسي ياباني ( شينتارو ايشيهارا ) ، من ثلاث قارات متباعدة ، وثلاث ميادين متباينة ، في محاولة تبين الأسباب العميقة لهذا الانهيار الوشيك ، أو ليل الظلام الذي بدأ يلف ، والانحسار الذي بدأ يضرب بكل قوة في مفاصل المجتمع الأمريكي . خلافاً للطرح الذي تقدم به فيما سبق ( فرانسيس فوكوياما ) الأمريكي ذو الأصل الياباني الذي رأى النموذج الأمريكي أنه نهاية التاريخ والنموذج الأخير للإنسان أو الذي صرح به لمندوب وكالة اورينت برس ( نحن الأقوى والأعظم ) ( 10 ) ********************* لنبدأ بشهادة الأمريكي المؤرخ ( باول كينيدي ) في مؤلفه الهام صعود وسقوط القوى العظمى ، فالمؤلف يرى بلده في متحارجةٍ لايحسد عليها ، بين ( المدفع والزبدة والاستثمار )(11) وهو يعني بكلماته هذه الخيار الصعب بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار ) : (( ليست هناك إجابات سهلة في التعامل مع التوتر الثلاثي بين الدفاع والاستهلاك والاستثمار القومي )) ( 12 ) ثم يخلص بنتيجةٍ مفادها أن الولايات المتحدة قد أصيبت بالترهل الامبراطوري ، وأن نسق التاريخ سينطبق على بلده كما انطبق على روما وبابل (( وهكذا فإن الإجابة على السؤال المطروح عن إمكانية احتفاظ الولايات المتحدة بوضعها الحالي هي : لا )) (( فإذا كان هذا هو حقا نسق التاريخ فإن المرء يمكن أن يقول ماقاله برناردشو : روما سقطت وبابل سقطت وسيأتي الدور على غيرهما )( 13 ) وفيما يتعلق بالديون فإنه يورد نفس احصائيات فيجي وسوانسون السابقة (( إن استمرار هذه الاتجاهات سيدفع بالدين القومي الأمريكي إلى حوالي 13 ألف مليار دولار عام 2000 ( 14 ضعفا عما كان سابقا عن عام 1980 ) وبفوائد هذا الدين إلى 1500 مليار دولار ( 29 مثلا عن عام 1980 ) ويخلص في النهاية إلى أن الولايات المتحدة ستنكمش إلى حجمها الطبيعي فتمتلك 16% من الثروة والقوة العالمية ، في حين أنها تمتلك اليوم قرابة 40% . ********************* أما المفكر الفرنسي ( جاك أتالي ) فإنه يقرر بشكل قطعي بعنوان مستقل : هبوط الولايات المتحدة الأمريكية بأنها (( متحدة الاتجاه ولايمكن نكرانها )) ( 14 ) وبأن ( الولايات المتحدة لم تعد تصدر عمليا من أراضيها لاسيارات ولا أجهزة تلفزيون ولاسلعاً تجهيزية بالرغم مــــــن جهودها المتكررة لاعطاء الاقتصاد الامريكي قدرة تنافسية مصطنعة عن طريق التخفيضات المتكررة للدولار )( 15 ) وعندما يأتي أتالي لتفسير هذا الهبوط فإنه يمسك بالمفتاح (( هذه التطورات كلها تكمن جذورها في تحولات ثقافية عميقة فالصورة التي يكونها الشعب الامريكي عن نفسه تتمركز حول ابراز حنيني لمجده الذاتي ، إن الاهتمام المفرط بالحاضر السريع والانصراف عن المستقبل الواسع لدى أمة أخذت تنطوي على ذاتها بالرغم من ماضيها المتميز بالنزعة العالمية يفسر هذه الظاهرة أحسن من أي شرح اقتصادي )) ( 16 ) ويرد على من يزعم بأن العجز الأمريكي ناتج عن سياسة الحماية اليابانية وتخلف شبكات التوزيع فيقول : (( إن سياسة الحماية اليابانية تزيد بالتأكيد من العجز الأمريكي ولكنها لاتستطيع أن تخلقه فليس من حماية جمركية قادرة على الثبات طويلا أمام منافسة المنتجات )) ( 17 ) وبنفس الوقت فإن أتالي يفسر صعود اليابان مرة أخرى بخلفية ثقافية : (( إن أسباب هذا الصعود الياباني المدهش هي في جوهرها ثقافية أيضا )) ثم يلخص بعض هذه الشروط (( وهكذا تتجمع لليابان جميع الشروط للقيام بدور القلب : رؤية بعيدة المدى لمصالحها ، وطاقة على العمل ، وإرادة تدعم مستوى الأداء ، وسيطرة على تقنيات الاتصال الحديثة ، وأهلية لاختراع وإنتاج السلع الجديدة ذات الاستهلاك الجماهيري ، وإرادة التعلم ، وديناميكية موجهة للخارج ، وبدون أن تعلــن عـــن ذلـــــــك أو تجعل غيرها يعلنه تتحول اليابان إلى مركز القطب المسيطر في مجال المحيط الهادي )) ( 18 ) ومصطلح القلب الذي يستعمله يفسره في مكان آخر ، عندما كان يتحول القلب النابض التجاري العالمي من مكان لآخر ، بدءاً من القرن 13 حتى القرن العشرين حيث مر في ثماني مراكز ضخمة بدءاً من نابولي وجنوة في ايطاليا ومرورا بانفرس وامستردام في هولندا ثم لندن وانتهاءا بنييورك وهو الآن يزحف ليتشكل في طوكيو . ********************** وأما السياسي الياباني ( شنتارو ايشيهارا ) فإنه يصرح بأمور في غاية الأهمية في كتابه ( اليابان تقول لأمريكا .. لا ) فهو يكشف النقاب عن انتهاء الحرب الباردة بسبب ياباني !! فهو يقول : (( فمنطلق الدولتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في منع استخدام الاسلحة النووية لم يكن لادراكهما المشترك بخطورة هذه الاسلحة على الانسانية ، قد يتصور البعض أن نجاح مباحثات الحد من الاسلحة يعود الى الدوافع النبيلة لكلتا الدولتين ، ولكنني وجدت اسباب نجاح المباحثات تقبع في مكان آخر ، فالاسلحة المتوسطة المدى تعتمد على دقة التصويب في الصواريخ البلاستية عابرة القارات على نوعية الحاسبات المستخدمة ، فالصواريخ عابرة القارات تحمل عدة رؤوس مستقلة ( ميرف ) تستطيع شن ثماني أو تسع هجمات بقنابل هيدروجينية كل منها قادر على اصابة هدف مختلف ولدى كل من الدولتين العظميين قائمة بالأهداف التي تسعى لمهاجمتها فهدف الضربة الأولى لموسكو اصابة قاعدة الصواريخ في قاعدة ( فاندنبرج ) الجوية في كاليفورنيا ، التي توجد تحت الأرض تحدها حوائط سميكة من الخرسانة المسلحة يبلغ سمكها خمسين أوستين مترا ، وتستطيع مستودعات الصواريخ هذه مقاومة الهزات الأرضية القوية ومصدر الخطورة يكمن في انفجار قنبلة هيدروجينية بشكل مباشر فيها )) وهذه تعتمد على التوجيه الدقيق وخطأ السوفيات هو في حدود 60 مترا في حين أن الأمريكيين يصل الى 15 مترا ، وهنا يكشف ايشيهارا السر فيقول إن دقة التصويب تعتمد الكمبيوترات المتقدمة التي تستخدم الرقائق الحاسبة التي هي انتاج ياباني ، وهكذا تتدخل اليابان في تفوق أي فريق نووي بقدر ماتقدم له من الشراح الكمبيوترية ؟! ( 19 ) ليصل في حديثه عن التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به على الولايات المتحدة منها ( القطارات المغناطيسية الطائرة ) تلك التي تسير بسرعة 500 كم في الساعة على وسادة مغناطيسية ، فهذه برع فيها الألمان وايابانيون ، فأما الألمان فاستطاعوا أن يُطِّيروا القطار عن القضبان 8 ملم ، في حين أن اليابانيين جعلوه يقفز فوق القضبان عشرة سنتمترات !! ولم يلحق أحد من العالم بهم حتى الآن . كما يملك اليابانيون أكبر عدد ممن الروبوت ( الانسان الصناعي ) ، وعندما يتحدث عن أخلاقيات العمل عند الأمريكيين يشير إلى حمى البورصات وجنون قفزات أسعار العقارات والسهم ( والذي جاءتنا عدواه بدلاً من روح العمل والانتاج اليابانية ) والبحث عن الربح السريع وعقلية النظر إلى الأمام عشرة دقائق وليس عشر سنوات (( ينصب اهتمامهم على العائد السريع والمرتفع لرؤوس أموالهم )) ثم يقول (( لايساعد اللعب في أسواق المال على تقدم الصناعة أو تقديم الخدمات في المدى الطويل )) ( 20 ) ويعرض حلقات من الضعف تبلغ ستة في الأداء الصناعي الأمريكي منها الضعف التقني ومحدودية الأفق والاستراتيجيات المتخلفة وانهيار التعاون ... الخ وعندما يصل الى مشكلة ديون أمريكا يكرر أن اجمالي ديون امريكا لليابان تبلغ 3.1تريليون دولار واستثمارات اليابان في أمريكا بـــ ( 700 ) سبعمائة مليار دولار ، فاليابان تشتري أمريكا اليوم وترتهنها ، بل وتضربها بقنبلة نووية ولكن من نوع اقتصادي !! ********************** إن قصة انهيار الدولار فيها مجموعة من العظات والعبر نختصرها على الشكل التالي : أولاً : إن التراجع الحالي للدولار ليس مؤقتاً كما يخيل لسمك القرش المالي ومضاربي البورصات المعتوهين ، فهو قدر قد طوق أمريكا لافكاك منه ، فإذا هبط الدولار أمام المارك فأصبح بعد خمس سنوات نصف مارك وأمام الين أقل من خمسين ين فهو أمر طبيعي ، لإن قوة العملة هي من صحة الاقتصاد ، فالعملة هي مثل نضارة الوجه أو اصفراره ، وهي مؤشر قوة الأمة ، فالاقتصاد المتين يخلق عملة قوية والعكس بالعكس . ثانياً : إن مصيبة التسلح والانفاق العسكري عليه وأحلام حرب النجوم التي حلم بها ريغان وأحلام الصراع مع الاتحاد السوفيتي وجعله ينزف اقتصاديا حتى اليوم في رحلة تسابق التسلح المحمومة لنا فيها أكثر من عظة بأن القرن الواحد والعشرين هو عصر من نوع جديد ليس للتسلح فيه مكان ، وعندما يسقط الاتحاد السوفيتي نزفا فسوف يلحقه من دخل معه الصراع ولو بعد حين ( وعلينا أخذ العبرة من الاتحاد السوفيتي الذي كان القوة الأولى في العالم ، والذي أصبح دولاً مشتتة ، وقد يحل بنا ماحل بالاتحاد السوفيتي إذا بقينا ساكنين ) ( الافلاس ص 81 ) ثالثاً : ومن الغريب في موضوع التسلح هذا أن العالم الإسلامي مازال يتلمظ إليه ، مع أن أصحابه ودَّعوه ونفضوا أيديهم منه بعد أن مشوا الشوط إلى نهايته ، والانهيار الاقتصادي الامريكي هو مكرر لانهيار امبراطوريات سابقة مثل امبراطورية النمسا وهنغاريا أو القيصرية أو روما وبابل وآشور قديما . رابعاً : إننا في الواقع ونحن نودع القرن العشرين ونستقبل القرن الواحد والعشرين ، فإن قوى جديدة سوف تبرز إلى الساحة العالمية ، وسوف تتراجع الولايات المتحدة كما تراجعت قوى عظمى سابقتها سنة الله التي خلت في عباده ، كما تراجعت الامبراطورية الاسبانية في القرن السادس عشر ، وانكمشت الهولندية في السابع عشر ، وذوت البريطانية في القرن العشرين ، كذلك سـتنـحسر أمــــريكـــا مع القـــــرن الواحد والعشرين لتبرز اليابان والشرق الأقصى بشكل خاص . خامساً : إن الاقتصاد هو عمل وعرق وتعب وإنتاج أولاً وأخيراً وإن الله لايضيع أجر من أحسن عملا ، في حين أن عمل البورصات والمقامرين ، وسمك القرش الاجتماعي المتلمظ للربح السريع بدون تعب ، كله قد يوصل إلى بعض الربح المؤقت ، ولكنه في النهاية يصير إلى ماقال الله عنه ( وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) وهو في حقيقته سراب خادع كما حصل مع ارتفاع الدولار الكاذب في فترة حكم ريغان ، وأدرك العلماء ذلك وركض معه مجانين البورصات ليروا في النهاية ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وهذا هو جوهر المرض الأمريكي ، وهو بنفس الوقت سر فعالية وتفوق الياباني ، فالأول يريد أن يربح بدون أن يعمل والثاني يعمل ليربح ، وهو مايقوله اليابانيون للأمريكيين دوماً . سادساً : إن قرابة ألف مليار دولار تعوم وتسبح في كل الاتجاهات كل 24 ساعة بيعاً وشراءً ، ومشكلتها أن هناك من أبطال البورصات والحيتان المالية من ينهش في الاقتصاد العالمي فيورثه العطب ، ونحن الذين نعمل ندفع من دمنا وتعب عمرنا لهؤلاء الأشقياء ، وإلا كيف نفسر أن في مدى أشهر قليلة تتبخر مدخرات الربع أو الثلث ممن ادخر وتعب وعرق ، في هذه العواصف المرعبة في الأسواق المالية ، وكله مبني كما نرى على خُلُق النهب المنظم لتعب الآخرين ، كما أن الذين يخوضون هذا الميدان طمعا في الربح لايعــرفون هــــــــــــذه الأقنية المظلمة وكهوفها المظلمة ، فتتحول اللعبة إلى قمار صريح ، ومن هنا نفهم معنى تحريم الاسلام للقمار وتزكيته للعمل والانتاج . كما نفهم المعنى المرعب لتحول القيم العليا في الحياة إلى ربح وتكديس للمال فقط ( الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده ) وهكذا ظنت أمريكا بالخلود ، والذي يحدث كما يقول المؤرخ البريطاني تونبي أن الامبراطوريات العظمى تسقط ، في الحين الذي يظن ابناؤها أن مقود التاريخ استسلم لهم ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ). سابعاً : وأمام هذه الفوضى المالية العالمية وجب علينا أن نقف للتأمل وأخذ العظة لبناء حياتنا الاقتصادية بشكل ( عقلاني ) و( مستقل ) و ( مستقر ) فإذا أردنا لمجتمعاتنا أن تتحرك بأرادة مستقلة فلابد من استقلال اقتصادي ، ومن أبرز دروس الدولار الأمريكي هو عدم الوقوع في مصيدة الدين الرهيبة ، ليتحول الانتاج بعد ذلك لتغطية فوائد الدين بدون توقف ، فإذا كانت اعظم دولة في الأرض تترنح لتسقط من عبء الديون فكيف الحال بدول الأطراف الفقيرة ثامناً : ويجب أن نفهم أيضاً أن مايحصل من مرض حالي هو مرض الرأسمالية عموماً ، ففي تحليل الاقتصادي الأمريكي ( رافي باترا ) الهندي الأصل ، في كتابه ( الكساد العظيم ) وصل الى اكتشاف مرض دوري يصيب النظالم الاقتصادي الرأسمالي كل حوالي ( 60 ) ستين عاماً ، بحيث تهب عاصفة مالية تحول الأسواق المالية إلى حصاد الهشيم فيما بعد ، وتنبأ لأمريكا بذلك والعالم في التسعينات من هذا القرن ، على أساس أنها ستون عاماً بعد الكساد الرهيب الذي حدث عام 1930 ميلادي قبل الحرب العالمية الثانية ، وهذا المرض الرأسمالي سيصيب في المستقبل أيضاً نفس الاقتصاد الياباني والألماني المزدهران ، بسبب بناء كلا الاثنين على نفس الأسس الرأسمالية ، ولذا فمن الطبيعي أن يصيبهم في المستقبل مايصيب الأمريكيين اليوم ، وهنا ندرك المعنى العميق لفلسفة الربا ، ودورة المال الربوية ، التي هي العمود الفقري للنظام الرأسمالي ، وأثره في إحداث هذه الأزمات الدورية التي يدفع الناس من جهدهم وأعصابهم الشيء الكثير ، وكما يعرف أهل الاقتصاد الحقائق الضخمة في عالم المال والاقتصاد ، وإحداثياته في كل اتجاه ، فكما يعرفون أن أعمدة الاقتصاد العالمية هي الين والايكو الأوربي والدولار ، وكما يدركون الوعاء الاقتصادي بالنقد والسلع والخدمات ، كذلك فإنهم يعرفون أن أثر الفائدة على الانتعاش الاقتصادي ، مثل تأثير الهورمونات وضخ القلب لكتلة الدم في شرايين الجسم ، نرى هذا واضحاً من إصرار الولايات المتحدة على عدم رفع الفوائد ، ولاينسون أبداً ( طير ريغان ) الذي ارتفع برفع الفوائد المخيف ، ليسقط بعده كما نرى اليوم فتدق عنقه ؟! . ******************* تاسعاً : وما ذكرناه عن أمريكا لايعني أنها ستتحول بين يوم وليلة إلى دولة تشبه غانا أو الصومال ، والذي سيحدث هو أقرب إلى تصـــــــــور المؤرخ كينيدي ، من انها ستنكمش وتتحول إلى مايوازي حقيقتها بدون زيادة أو نقصان ، أي ربما إلى ربع أو ثلث وضعها الحالي ، وفي مدى العشرين سنة القادمة ، وستبقى دولة مهمة ذات نفوذ في العالم ، ولكنها لن تبقى الأولى والعظمى والأقوى . عاشراً : إن الانهيار المالي لن ينتهي بنزهة جميلة في العادة ، فهناك حوت ( التضخم المالي ) حين تفقد الأوراق المالية القوة الشرائية ، وينقل لنا التاريخ قصصاً مرعبة في هذا الاتجاه ، ففي عهد الأباطرة الرومان الثلاثة ( كاليجولا وكلاوديوس ونيرون ) (( نضبت الأموال في الخزينة بسبب قيام هؤلاء الحكام بصرفها على إقامة الأعياد والاحتفالات وبناء البيوت الفخمة وتشييد المعابد ، وعلى رشوة الجيش والحرس الخاص من أجل ضمان ولائهم ، ولما جفت الأموال قاموا بفرض الضرائب المرتفعة وبالاستيلاء على أموال الميسورين ، كما أنهم قاموا بضرب العملة من جديد ......... وكنتيجة لهذه الممارسات الخاطئة مرت البلاد بأزمة حادة من التضخم ، ففي القرن الثالث قبل الميلاد وفي فترة لاتتجاوز الثلاثين عاماً ارتفع سعر القمح بمقدار ( 100000 % مائة ألف بالمائة ) أي أنه لو افترضنا أن ثمن رغيف الخبز كان حينها لايتجاوز 2 دولار فقد أصبح من خلال التضخم ألفي دولار وقبيل انهيار روما كان الاقتصاد الروماني قد دُمر تماماً ) ( الافلاس 1995 ص 132 ) وكما انهارت روما فإن نفس الشيء سرى على الامبراطورية الاسبانية التي ( اضطرت للاقتراض لتغطية تكاليف الحرب والخدمات المدنية ومحـــــاربة الفساد ، وبحلول القرن السادس عشر لم تعد الواردات تغطي سوى نصف النفقات الحكومية ، ومرة أخرى تكرر المشهد ذاته حيث فقدت العملة قيمتها وبدأ التضخم بالازدياد ، ودمرت الضرائب المرتفعة اقتصاد الدولة ومواردها الزراعية ، وأدى فقر البلاد إلى فقدان نفوذها إذ انكمشت رقعة الامبراطورية إلى حدودها الأصلية ) ( الافلاس 1995 ص 132 ) ، كذلك الحال بعد الحرب العالمية الأولى لكل من النمسا وألمانيا حيث وصل سعر رغيف الخبز في ألمانيا ( المزدهرة اليوم ) في نهاية عام 1923 م إلى 428 مليار مارك ؟؟!! ********************* عندما كان الشاعر القديم أبو البقاء الرندي يرثي سقوط الاندلس لم يكن يعلم أن مرثيته ستنطبق على أمم شتى ، وستقرأ في جنازات دول عظمى بين الحين والآخر : لكل شيءٍ إذا ماتمَّ نقـــــــــــــصانُ فلا يُغرَّ بطيبِ العيشِ انسانُ هـــــــي الأمـورُ كما شاهدْتَها دولاً من سرَّه زمنٌ ساءته أزمـــــانُ وهذه الــــدارُ لاتُبقي على أحــــــدٍ ولايدومُ على حالٍ لها شــــــانُ أين الملوكُ ذوو التيجانِ من يمنٍ وأيــن منهم أكاليلٌ وتيجـــــانُ وأين ماشـــــــــــــاده شدَّاد في إرمٍ وأين عادٌ وعدنانٌ وقحطــــــانُ أتـــى على الكلِ أمرٌ لامـــــــردَّ لــه حتى قَضوا فكأنَّ القومَ ماكانوا هوامش ومراجع : ( 1 ) في عدد مجلة الشبيجل الألمانية ( 11 ) الصادر في 13 \ 3 \ \ 1995 م ص 101 ( كان سعر صرف الدولار الأمريكي يعادل في 19 \ 9 \ 1949 م ( 2.4 ) مارك ألماني ليصبح في 8 \ 3 \ 1995 بأقل من ( 37.1 ) من المارك الألماني ( 2 ) سورة النحل الآية 26 ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الافلاس الأمريكي لعام 1995 - تأليف هاري فيجي وجيرالد سوانسون - ترجمة محمد دبور - الأهلية للنشر والتوزيع - ص 74 حيث عرض المؤلف الديون الأمريكية منذ عام 1780 م حتى نهاية القرن على فرض استمرارها فأعطى المخطط البياني صورة ( مضرب لعبة الهوكي مقلوبة ) حيث ارتفعت الديون بشكل حاد مفاجيء ، فقبل حكم جونسون لم يتجاوز العجز 44مليار دولار ليصل في عهد ريغان الى 3.1 تريليون دولار وهي حاليا مايزيد عن 6 ستة تريليون والتوقعات أنها ستصل مع نهاية القرن عام 2000 ميلادي الى 13 ثلاث عشرة تريليون دولار؟!! ( 4 ) يراجع في هذا كتاب صعود وسقوط القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 ميلادي ص 705 : وفي هذا الصدد هناك بعض الصدق في تشبيه وضع الولايات المتحدة اليوم بوضع القوى المهيمنة السابقة التي اعتراها التدهور ( 5 ) ترجمة هالة العوري الناشر يافا ص 34 : (( ان العالم على أبواب مرحلة زمنية تتسم بالتحول .. فالواقع ان قوة العالم اليوم التقنية والصناعية والاقتصادية آخذة في التحول التدريجي من الغرب إلى الشرق ولست أدري إن كان هذا يعني بزوغ الحقبة الباسيفيكية .. ولهذا ينبغي على الساسة الامريكيين توضيح الامرلشعبهم بان الزمن آخذ في التغيير )) ( 6 ) آل عمران الآية رقم 140 ( 7 ) نفس المصدر السابق ص 9 ( 8 ) نفس المصدر السابق ص 19 ( 9 ) نفس المصدر السابق ص 199 ( 10 ) نهاية التاريخ - فرانسيس فوكوياما - ترجمة حسين الشيخ - دار العلوم العربية - ص 7 ( 11 ) باول كينيدي - القوى العظمى - من 1500 إلى 2000 - ترجمة عبد الوهاب علوب - مركز ابن خلدون - ص 710 ( 12 ) نفس المصدر السابق ص 706 ( 13 ) نفس المصدر السابق ص 708 ( 14 ) آفاق المستقبل - جاك أتالي - ترجمة محمد زكريا اسماعيل - دار العلم للملايين ص 84 ( 15 ) وهو خلاف ظن البعض الذين يرون في أمريكا الحذق بهذه الطريقة وهي تنقلب عليها في النهاية ( 16 ) نفس المصدر السابق ص 87 ( 17 ) نفس المصدر ص 89 ( 18 ) نفس المصدر السابق ص 91( 19 ) اليابان تقول لأمريكا لا ص 25 ( 20 ) نفس المصدر ص 89 . رحلة سقوط الدولار المتواصلة أمام المارك الألماني بين عامي 1949 - 1995 م 1- 19\ 9 \ 1949 م الولار يعادل 2.4 مارك ألماني 5 - اتفاقية بلازا في 20 \ 9 \ 1985 م فرملة صعود الدولار الكاذب الى 89.2 2- 6 \ 3 \ 1961 يصبح الدولار 4 ماركات 6 - اتفاقية اللوفر في 22 \ 2 \ 1987 م ايقاف هبوط الدولار الى 83.1 مارك 3 - 27 \ 10 \ 1969 ترفع قيمة المارك ليصبح الدولار مساوياً 66.3 مارك 7 - 19 \ 10 \ 1987 م يوم الاثنين الأسود 77.1 4 - 19 \ 3 \ 1973 تحرير الدولار من الذهب ليصبح 82.2 مارك 8 - مستوى الدولار ,1 37 مارك في 8 \ 3 \ 1995 والحبل على الغارب ؟ !!!
اقرأ المزيد
الحرب التي لاتنسى
كانت الساعة قد شارفت الرابعة صباحاً من يوم التاسع والعشرين أبريل من عام 1945م عندما انتهى هتلر من إملاء وصيته:" وعلى الرغم من أنني طيلة سني كفاحي كنت أعتقد بعجزي عن تحمل مسؤولية الزواج، فإنني الآن وقبل إنهاء حياتي، قررت أن ابني بالمرأة التي جاءت بعد سنوات طويلة من الصداقة الحقة، طائعة مختارة، إلى هذه المدينة بعد أن تم تطويقها لتشاطرني قضائي وقدري، وستمضي معي إلى العالم الثاني كزوجتي بمحض اختيارها، ويعوض علينا هذا المصير ما خسرناه معاً في سنوات عملي الطويلة في خدمة شعبي، . أما الرسوم الموجودة التي ابتعتها طيلة السنوات الماضية فلم يكن هدفي منها خاصاً بي، بل كنت راغباً في ضمها إلى متحف للصور أقيمه في المدينة التي شهدت مولدي وهي لينز الواقعة على الدانوب. وقد آثرت أن أموت مع زوجتي لنخلص من عار الانقلاب أو الاستسلام، وأن ما نريده هو أن تحرق جثتانا فوراً في نفس المكان الذي أديت فيه القسم الأكبر من أعمالي اليومية طيلة أثني عشر عاماً من الخدمة لشعبي". وفي اليوم التالي الاثنين الثلاثين من أبريل وعند الساعة الثالثة ظهراً أخذ هتلر بيد زوجته إيفا براونEva Braun إلى جناحهما الخاص حيث قدم لها حبة السم والمسدس بنفس الوقت كي تتم عملية الانتحار مزدوجة، أما هتلر فابتلع كبسولة سم السيانيد التي تزهق روح الإنسان في أقل من دقيقة، ثم أطلق العيار الناري داخل فهمه فهشم جمجمته، أما إيفا براون فكانت ميتتها بدون دماء حيث تجرعت كبسولة السم الزعاف. تم لف الجثتان بعدها بالبطانيات ووضعت في حديقة المستشارية حيث كان يختفي هتلر تحتها في ملجئ محصن للغاية ومزود بكل شيء، ثم دلق على الجثتين الباردتين مائة وثمانون ليتر من البنزين وتم إحراقهما بكل عناية وفق الوصية، أما وزير الدعاية النازي غوبلز فقد عمد مع زوجته أولاً إلى تسميم أولادهم الستة، ثم صعدا إلى الحديقة حيث أمر أحد الجنود بإطلاق الرصاص عليهما في مؤخر الجمجمة، وتم حرق الجثتين بشكل غير كامل، مما أمكن فيما بعد من تبين هوية الجثتين أما هتلر وجثته فلم يعثر لها على أثر إلى درجة أن البعض توهم أنه اختفى وسوف ينظم المقاومة من مكان آخر، بل زعم البعض أنه هرب إلى أمريكا الجنوبية فهو يعيش فيها في مكان سري؟! الشي الأكيد ليس اختفاء هتلر أو موته من عدمه؛ بل هو نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا واستسلام ألمانيا بعد أسبوع واحد للحلفاء بدون قيد أو شرط في السابع من مايو عام 1945م بعد أن تحولت مدن أوروبا إلى أنقاض. " وتوقفت المدافع عن الهدير في أوروبا، كما توقفت الطائرات عن إلقاء قنابلها عند منتصف ليلة الثامن- التاسع من مايو من عام 1945 وسيطر صمت غريب وإن كان من النوع المرغوب فيه على القارة الأوروبية لأول مرة من اليوم الأول من شهر سبتمبر من عام 1939، وفي هذه الفترة التي أنقضت والتي امتدت خمس سنوات وثمانية أشهر وسبعة أيام قتل الملايين من الرجال والنساء في أكثر من مائة ميدان وفي أكثر من ألف مدينة تعرضت للقصف الجوي، بالإضافة إلى ملايين أخرى قتلهم الألمان في غرف الغاز أو عند خنادق العمل الجماعي، وغدا القسم الأكبر من مدن أوروبا العريقة حطاماً، ومع مجيء الطقس الدافئ انبعثت الروائح الكريهة من الجثث التي لم تجد من يدفنها والتي لا عد لها ولا حساب". هذه الحرب المروعة والتي يجب أن لا تنسى ، ويجب أن تدرس لأبنائنا وأحفادنا، لأن البشر الذين قتلوا في ساحاتها كانوا مثلنا، ولكن حظهم السيء كان في ولادتهم بين هذه الأعوام 1915-1945 وفي الساحة الأوروبية على وجه الخصوص، وهناك ما يبرر للأوروبيين أن يحتفلوا على إنتهاء هذه الحرب التي مثلت ذروة العنف الإنساني في كل تاريخه المكتوب والمعروف، ففي مدة ستة سنوات كانت الحصيلة مقتل ما يزيد عن خمسين مليونا من البشر، وأكثر من 80 ثمانين مليون جريح ومعاق ومفقود خسر فيها الروس لوحدهم أكثر من عشرين مليون إنسان، وخسر الألمان ما يزيد عن ستة ملايين من البشر، وأصبح أكثر من مليون طفل ألماني يتيماً، وهاجر وهجر ما يزيد عن عشرة ملايين من الألمان من مناطق خارج ألمانيا والتي كانوا يشكلون فيها غالبية سكانية مثل السوديت في تشيكوسلافاكيا وبروسيا في بولندا فمات منهم في الطريق ما لا يعلمه إلا الله ودفع العالم 1384000 مليون دولار ثمناً لنفقات الحرب، ناهيك عن مبلغ 260000 مليون دولار قيمة ما دمرته الحرب التي امتدت آثارها إلى 59 دولة طرفاً فيها، واظلمت مدن أوربا على مدار السنوات الست فلم تعرف سراجاً أو مصباحاً كهربائياً في الليل وتحولت مصانع أوروبا لإنتاج السلاح وحشر الملايين في معسكرات السخرة، ومات مئات الألوف في ساحات القتال، وانتزعت أرواح عشرت الآلاف في معسكرات الاعتقال بالموت البطيء وفي ظروف في غاية المهانة. إنها أفظع من قصة عاد وثمود فما أبقى. ويبقى القتال الضاري في البرد وعواصف الثلج فصلاً مأساوياً قائماً بذاته " الرياح الثلجية الآتية من الشرق كانت تصفع الوجوه التي أكلتها والتهمتها اللحى الطويلة وآلاف من البللورات الصغيرة كانت تمزق هذه الوجوه وكأنها شفرات موسى، الوجوه التي لم يكن قد بقي منها غير الجلد والعظم، وبقدر ما كان الإنهاك مستولياً على الرجال فقد كان الجوع مستولياً عليهم بالقدر نفسه، هذه الرياح الثلجية كانت تدبغ جلود الرجال وتنتزع دموعاً من عيونهم الغارقة وهي أشبه ما تكون بالكهوف، كما كانت هذه الرياح تخترق ثياب الجنود المهلهلة حتى تبلغ العظم، وعندما يفقد واحد من هؤلاء الرجال كل قدرة له على الحركة بل عندما يفقد الخوف من الموت كل معنى له في نفسه، لا يلبث جسده الخاوي أن يتساقط و يتجمد تجمداً تاماً، تماماً كالآلة التي تتوقف بعد أن تستهلك آخر قطرة من وقودها، ويمتد كفن من الثلج ليغطي هذا الشيء المتجمد باستثناء طرف الحذاء أو ذراع تجمدت وهي مرتفعة قليلاً، وكأن هذا المشهد شاهد على أن في هذا المكان رجلاً متمدداً جثة هامدة" (3). وهذا التصوير البليغ لمعارك الجبهة الروسية بلغت ذروتها في معركة ستالينغراد التي استغرقت قرابة الألف يوم ومات فيها ما يزيد عن المليون من البشر، وعندما حوصرت مجموعات الجيش السادس الألماني بقيادة (فون باولوس) ومعها فرقتان رومانيتان، مع الهجوم الروسي المعاكس الذي شنه مليون ونصف المليون من الجنود، وقع في الكماشة في جيب لا يزيد عن 40كم بعرض 20كم عشرون فرقة ألمانية من خيرة فرق الجيش الألماني، ولم يبق في النهاية من أصل (360) ألف جندي ألماني سوى تسعين ألفاً يجرون أقدامهم المتجمدة في الثلوج إلى الأسر، لتأكلهم البراغيث اللعينة بأمراض التيفوس في مستنقعات سيبريا، ولا يعود منهم في النهاية من بقيتهم الباقية سوى خمسة آلاف جندي تكتحل عيونهم بمرأى الوطن الأم مرة أخرى بعد أن شاخوا قبل المشيخ يتجرعون غصص الذكريات المرة... لعل العظة الكبرى و المأساة بنفس الوقت من قصة الحرب العالمية الثانية هي في علاقة العالم بالسياسي، فالسياسيون الذين كانوا يخططون لمصير الشعوب الأوروبية في ذلك الوقت اقترفوا من الأخطاء ما فجر حربين كونيتين في مدى ثلاثين عاماً، وكانت أدمغة العلماء في قسم من نشاطها تخدم وبواسطة التكنولوجيا رغبات السياسين وكانت ذروة هذه العملية التي ختمت الحرب العالمية الثانية هو التوصل إلى السلاح النووي. ولعل هذا التناقض بين العالم والسياسي لم يحل تماماً حتى الآن، فالسياسيون في أوروبا احتفلوا في الوقت الذي اشتعلت فيه حرب البوسنة، وكذلك اقيمت الاحتفالات في موسكو في ظل حرب الشيشان في القوقاز، فهل استفاد الجنس البشري حقاً من عظة التاريخ؟! لعل في قصة العالم الفيزيائي "فيرنر هايزنبرغ" عندما تجمعت سحب الحرب في سماء ألمانيا النازية عشية الحرب مغزى كبير لرؤية التاريخ والأحداث عند العلماء، فهو يروي لنا في كتابه "الجزء والكل –محاورات في مضمار الفيزياء الذرية"(4) عن رؤيته لحتمية الحرب القادمة "إذا كان لا بد على سفينة من السفن في إعصار مدمر فإنه يتحتم غلق فتحات السفينة وشد حبالها وتثبيت الأجزاء المتحركة فيها وذلك لمواجهة هذا الدمار بأكبر درجة من الأمن يمكن الوصول إليها، إنطلاقاً من هذه الفلسفة قمت بالبحث في ربيع عام 1939 عن بيت ريفي لأسرتي في المرتفعات الجبلية بحيث يمكن أن تلجأ إليه زوجتي وأولادي عندما تنهدم المدن"؟!(5). ثم يكشف لنا اللثام عن محاورة عجيبة جرت بينه وبين العالم الإيطالي (انريكو فرمي) الذي دشن اختراع أول مفاعل نووي عام 1942 فيما بعد وكان العالم الإيطالي فيرمي قد فر من إيطاليا من الاضطهاد الفاشي، وكانت المقابلة والمحاورة بين الرجلين في صيف عام 1939 أي قبل وقوع الحرب بشهر أو أقل، ومن الملفت للنظر أن العالم الألماني (فيرنر هايزنبرغ) الذي كان يعلم بالقدوم والوشيك لعاصفة الحرب من خلال تحليل عقلي علمي بارد، كان يصر بنفس القوة على العودة لألمانيا لبناءها في مرحلة ما بعد الحرب، حيث كان هايزنبرغ في زيارة لأمريكا في ذلك الوقت عشية الحرب كي يزور أصدقاءه العلماء قبل أن لا يتمكن من ذلك. قال هايزنبرغ مجيباً فيرمي الذي سأل "ماذا ترغب بعد في ألمانيا؟ إنك لن تستطيع إيقاف الحرب،... أما هنا فإنك تستطيع أن تبدأ من جديد إن كل البلد قد بنيت من الأوروبيين الهاربين من أوطانهم لأنهم لم يتحملوا ضيق العلاقات هناك، لم يتحملوا الخلافات والصراعات بين الأمم الصغيرة والقهر والتحرير والثورة وكل البؤس الملازم لهذه الظروف، لأنهم يريدون الحياة هنا في بلد آخر واسع متحرر بدون عبء تاريخ الماضي كله...لماذا تريد التغاضي عن هذا الحظ السعيد؟! كان جواب هايزنبرغ:"إن ما تقوله أحس به جيداً وقد قلته لنفسي أكثر من ألف مرة، كما أن احتمال مجيئي من أوروبا الخانقة إلى السعة هنا ظل يراودني باستمرار منذ زيارتي الأولى قبل عشر سنوات، ربما كان من الواجب علي أن أهاجر في ذلك الحين، ولكنني قررت تكوين دائرة حولي من الشباب الذين يرغبون في المشاركة في الجديد من العلم والذي سيعنون بعد الحرب مع آخرين بوجود علم حسن في ألمانيا. إنني سوف أشعر بالخيانة إذا تخليت عن هؤلاء الشباب الآن"(6). وعندما وجه إليه فيرمي السؤال "ألا تعتبر أنه من المحتمل أن يكسب هتلر الحرب؟ كان جواب هايزنبرغ:"لا إن الحروب الحديثة تقاد بالتكنولوجيا، ولأن سياسة هتلر قد عزلت ألمانيا عن كل الدول العظمى الأخرى فإن الجهد التكتولوجي على الجانب الألماني أقل بكثير منه على جانب الأعداء المحتملين. إن هذا الموقف واضح لدرجة أنني أحياناً أميل إلى الأمل أن هتلر-خلال معرفته للحقيقة- سوف يمتنع عن المخاطرة في دخول الحرب، ولكن ذلك كله الآن يعتبر حلماً محضاً، وذلك لأن رد فعل هتلر ليس عقلياً ولعله سوف لا يريد ببساطة رؤية الواقع"(7). وتبلغ دهشة (فيرمي) أقصاها في هذه المحاورة من إصرار (هايزنبرغ) على العودة إلى ألمانيا مع قناعته بوقوع الحرب الوشيك وأن هتلر سوف يخوض الحرب باللاعقلانية، فمتى كانت الحرب عقلانية؟ يقول فيرمي سائلاً :"وبالرغم من هذا فإنك ترغب في العودة إلى ألمانيا؟" ويجيب هايزنبرغ :" لقد ولد كل منا في بيئة محددة وله حيز لغوي وفكري محدد، وإذا لم يحل نفسه مبكراً من هذه البيئة فسوف يترعرع كأحسن ما يكون في هذا الحيز وانه سيمكنه التأثير فيه كأحسن ما يكون. إنه لمن المعروف من تجارب التاريخ أن كل بلد سوف تجتاحها مبكراً أو مؤخراً الثورة والحرب وبالطبع فإنه ليس من النصيحة المتريثة الهجرة في كل مرة قبل وقوع أي منهما، أن الجميع لا يستطيعون بالقطع الهجرة وعلى الناس إذن أن يتعلموا منع وقوع الكارثة بقدر الإمكان وليس الهرب منها ببساطة، ربما يكون المطلوب بالعكس هو أن يتحمل كل إنسان عبء الكوارث في بلده، لأن ذلك يعتبر حثاً له على إتخاذ الإجراءات اللازمة قبل ذلك لمنع وقوع الكارثة"(8)... عندما سقطت ألمانيا انطلق الأمريكان كالمحمومين يبحثون عن غنائم الحرب ليس في السبائك الذهبية بل المادة الرمادية كناية عن الأدمغة الإنسانية وتقدم الكولونيل باش يبحث عن فريسته المتمثلة في الفيزيائي النووي فيرنر هايزنبرغ. كان الأمريكيون يريدون معرفة أمرين على وجه الدقة الأول:إلى أين وصل الألمان في أبحاثهم في صدد القنبلة الذرية والثاني: تقنية الصواريخ التي استعملها الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية ممثلة في صواريخ ف1 وف2 (v1,v2) لأنه بامتلاك الرأس النووي المحمول على صاروخ موجه يمكن لمالكه إن يتحول إلى قوة عظمى، فالقوة لم عد مرتبطة بالمساحة وعدد السكان. يقول هايزنبرغ عندما تقدم إليه الكولونيل باش ليلقي عليه القبض كان شعوره :"كسباح استمر في العوم حتى الموت ثم رأى للمرة الأولى أثراً للأرض اليابسة" وتوجه بالسؤال إلى أحد الحراس الأمريكين :"عما إذا كانت بحريتنا القابعة بين الجبال تعجبه" فكانت إجابته :"إن هذه تعتبر أجمل بقاع الأرض التي عرفها حتى الآن".(9) كانت الورطة التي وقع فيها السياسيون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أشد من قصة القرد والنجار الذي انحبس ذنبه في الشق. جاء في كتاب كليلة ودمنة أن قرداً أبصر بالنجار وهو ينشر لوح الخشب ويضع اسفيناً في الشق، فلما انصرف النجار لبعض حاجته قام القرد ليقلد النجار وهو لا يعلم أسرار المهنة فانزلق ذيله في الشق فلما رفع الوتد انحبس ذيله في الشق فكاد أن يغمى عليه من شدة الألم، فأدركه النجار وهو يصرخ فبدأ بضربه فكان ما ناله من النجار أشد من انحباس ذنبه في الشق. لقد رأى السياسيون العلماء وهو يبنون السلاح النووي فأرادوا المزيد ولكنهم انحشروا في النهاية بورطة مرعبة كيف يتخلصون منها، ولم يروا جدوى إلا أن يسحبوا ذيلهم من هذا الشق العلمي وهكذا أصبحوا تلاميذ نجيبين للعلماء فبدأوا في دخول مدرسة العلم والأخلاق والقيم يتعلمون منها اللغة الجديدة. أما عندنا فما زالت المسرحيات المسلسلات تمطرنا بثقافة الفتوحات وضرب السيف وقرع التروس وهمهمة الخيل، فنحن غائبون عن روح العصر وأين وصلت طلائعه. الهوامش والمراجع: 1. تاريخ ألمانيا الهتلرية -خيري حماد- تأليف وليام شيرر –الجزء الرابع- ص 350- دار الكتاب العربي. 2. المصدر السابق –الجزء الرابع- ص370. 3. الحرب العالمية الثانية –رمضان لاوند- دار العلم للملايين- ص270. 4. الجزء والكل محاورات في مضمار الفيزياء الذرية –تأليف فيرنر هايزنبرغ- ترجمة محمد أسعد عبدالرؤوف يراجع فصل: تصرف الأفراد أثناء الكارثة السياسية- ص 201 حتى ص217. 5. نفس المصدر السابق ص 205. 6. نفس المصدر السابق ص 206. 7. نفس المصدر السابق ص 207. 8. نفس المصدر السابق ص 208. 9. نفس المصدر السابق ص 233.
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram