- -

مستنقع الطائفية (2)
وغالب أقطار العروبة وقعت في قبضة عائلات إقطاعية مسلحة. في مربعات لسجن الضمير. وأول شيء برعت فيه السلطة الفلسطينية أنها فرَّخت تنينات أمنية تقذف باللهب. وجدير بالذكر أن أجهزة الرعب في أقطار أخرى اشتقت اسمها من فلسطين (فرع فلسطين) ، فما عجزت عنه بقية الأجهزة حله فرع فلسطين بكل اقتدار. مع هذا فهناك دول عربية ليس فيها مرض الطائفية، بل يدين البلد كله بالإسلام، وبمذهب واحد (سني) ولكنه مبتلى بأشد من الطائفية من جنود فرعون وهامان، مما يدل على أن الجثة تتناوب عليها أشكال شتى من الحشرات. وجثة العالم العربي اليوم تنهش فيها الديدان والذبان من كل صنف زوجان. فبلد عموده الفقري طائفي. وآخر الأمن المركزي. وثالث قبائل بني دوس وهذيل. ورابع عائلة تنتسب إلى النبي بسلسلة ذهبية. وخامس يزعم أن الكريات الحمر التي تدور في عروقه ملونة بلون نبوي أخضر. ومنهم من زعم أنه وصل إلى حل كل مشاكل الجنس البشري بما وضع نفسه في مكان الله رب العالمين بقرآن أخضر، كما كان من حكاية القذافي المقذوف الذي انتهى على الخازوق. إننا نعيش عصر الجنون العربي بدون مصحات عقلية وأسوار وأطباء وصدمات كهرباء وانسولين كالذي عولج به جون ناش العبقري المجنون؟ الطائفية مرض مثلث الزويا كل زاوية فيه تعلن إلغاء الإنسان: فهي أولاً انشداد لطائفة لا حرية للإنسان في اختيار الرحم الذي انقذف منه إلى الحياة؛ فمن ولد في الناصرية سيكون شيعياً على الأغلب. ومن ولد في منطقة البربر نطق الأمازيغية. ومن ولد في جبل سنجار سيكون يزيدياً يعبد الشيطان ـ أو يخافه ـ ويقول أنه (طاووس) مستخلف من الله بحكم الأرض عشرة آلاف من السنين! ومن ولد في حي الميدان في دمشق سيكون سنياً ما لم يحدث تسرب من فيروس شيوعي أو جرثوم بعثي عبثي؛ فيغير الكود الوراثي فيخرج كافرا بكل الملة. يحدث هذا حتى يثبت العكس. وله الحق في ذلك إذا اختار، ولكن هل هامش الخيار كما نتصور أم أنها إكراهات المجتمع. والطائفية ثانيا تعني استقطاب واستخدام من هو من نفس الفصيلة الحيوانية، مثل تعاون الحشرات على التهام الفتات، والذئاب في مطاردة الفريسة؛ فهنا يغيب الوعي وتعمل الغريزة. كما حصل في سوريا بانتشار عفن الطائفية مثل الفطر في الغابات والبعوض في شرق ألمانيا والجراد في الصومال. فكلها مناخات مريضة تنمو فيها العلل القاتلة. والطائفية ثالثا تعني العمل لصالح مجموعة، والقتل باسمها بما يجر عداوة كل الطوائف. وهو بكلمة ثانية تصدع المجتمع وبرمجة الحرب الأهلية ولو بعد حين. وإذا سالت الدماء في العراق أنهارا فهو أمر طبيعي. وإذا تكرر هذا الشلال المنكود المنكوب في بلد آخر فهو تحصيل حاصل كما في سقوط المطر إلى الأسفل وصعود الغازات لأعلى. وإذا قتل الناس بعضهم بعضا بأشد من يوغسلافيا فهو تحصيل حاصل. وهذا الكلام يفسر… ولا يبرر. والقوانين الاجتماعية لها نظمها الخاص. سنة الله في خلقه. قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا (طوائف) ويذيق بعضكم بأس بعض؟؟ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون؟ الطائفة في الأصل جمود في الزمن، وانتساب لعصر ولى وأدبر، وانتماء لأناس لسنا مسئولين عن تصرفهم وفهمهم؟ وقتل للفردية، وإعدام للاستقلالية وسلب كل ذي لب لبه. وتعتبر مصر ـ بالمناسبة ـ مركز خصب لتفريخ الطوائف والأحزاب؛ فمنها خرج الإخوان المسلمون، والحاكم بأمر الله الفاطمي والإسماعيلية والحشاشون. أما في مصر فقد أذابهم حمض الزمن، ولكن في سوريا حمتهم الجبال والعزلة والتاريخ، وسوف تذيبهم التكنولوجيا الحديثة.. كان ذلك في الكتاب مسطورا.. وكمال جنبلاط في لبنان لم يسم نفسه الحزب الدرزي وعقلاء الجبل، بل الحزب التقدمي؟ فهل هو تقدمي بكود وراثي طائفي؟ أم حقا تقدمي يتقدم إلى عرض التاريخ؟ على العموم التاريخ تقدمي ولو مع نكسات كما في مخططات البورصة وصعود وهبوط العملات والمعادن. المدهش في مصر أنها رحم للطائفية بدون طائفية؛ فهي تصدر الأمراض ولا تصاب به مثل مرض الهيموفيليا (الناعور ـ سيلان الدم لأتفه جرح كما عرف التاريخ عن الكسي ابن نيقولا الثاني الروسي وراسبوتين الدجال ) الذي تحمله الإناث ولا يصبن به. والسبب في مصر جغرافي بحت. فالنيل لا يسمح بتشكل الطائفية والطائفة. وليس أمام الناس على ضفتي النيل إلا الاختلاط والتجانس أو الموت في الصحراء. ولعل هذا كان من أسرار نجاح ثورة 25 يناير 2011م حين التحم الأقباط والسنة والشيعة والأرمن وحركة كفاية و6 أبريل بفلاحيهم ومثقفيهم جاهلهم وعالمهم؛ فالمصريون يشبهون اليابانيون من جهة شدة التجانس واللغة والعادات منذ أيام الفرعون بيبي الثاني؟ كان هذا من أسرار نجاحهم حتى جاءتهم علة السلفية والإخوان، ولن يصلح أمرهم إلا بالتجانس من الجديد، وتعقيم البلد من جراثيم العسكر.
اقرأ المزيد
مستنقع الطائفية (1)
قرأت لأخي الدكتور أحمد كنعان تحليله الجميل عن مر ض الطائفية في سوريا. وقرأت فيما سبق للكاتب اليساري العظم وهو ينقد الفكر اليساري ويشير إلى شيء اسمه العلونة السياسية في سوريا. وأخطر ماحدث مع الربيع العربي أن سوريا تدمرت ليس في الأبنية ولكن في النسيج الاجتماعي فتمزقت شر ممزق. وفي القرآن سورة كاملة تحمل اسم حضارة قامت وبادت في اليمن. حين قال القرآن: فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لايؤمنون! واليوم لم يبق الفلسطينيون مشردين بل لحقهم السوريون أيضا على قائمة التمزق والتشرد. والفرق بين النسختين أن الفلسطينيين عدوهم واضح من بني صهيون ولكن المرض السوري أدهى وأمر من السرطان الداخلي. فالاحتلال أمره سهل مثل احمرار الجلد بالالتهاب السطحي فيتظاهر بالألم الموضعي والاحمرار والحرارة ومعالجته هينة. أما السرطان فهو على العكس تماما ينتشر بدون ألم ويتسرب خفيا لواذا وينتشر على غفلة مثل الورم القتاميني (وحمة أو شامة الجلد) وإذا اكتشف مبكرا فعلاجه الاستئصال الواسع، وإن تأخر قضى على المريض فلا عودة. كذلك هو حال السرطانات الاجتماعية كما هو الحاصل في سوريا. تضم قائمتها الحالية البتر والهرب والديكتاتورية الطائفية البغيضة. لحسن الحظ الأفراد يموتون ولكن المجتمعات لاتموت بل تنهض من رقدة الموت ولو بشكل مختلف وهو الذي سيحصل مع سوريا حتى نهاية القرن الحالي. وحين تفجر الربيع العربي دخلت سوريا منعرجا خطيرا في الانزلاق إلى مستنقع أشد هولا من كل مامر من التسلح والاحتراب الدموي. المستنقع هو الطائفية وليس المرض الوحيد. وعلينا وضعه تحت مبضع التشريح لفهمه. وكان ابن خلدون بارعا حين وضع عنوانا لمقدمته في اعتراف غير مباشر للتعددية حين قال كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. الطائفية مرض مثل الخراج الخفي. موجود في أكثر من قطر عربي. والكل يعلم به. والكل يكذب فلا يعترف به إلا همساً للرفاق والإخوان. والكل يكذب على الكل. والكل يصرّ على الأسنان للانتقام يوم لا ينفع مال ولا بنون.إلا من رحم ربك اللطيف المنان؟ ومن ينطق به يحاكم بتهمة الطائفية فيندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه ويقول يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا؟ وأفضل علاج له الاعتراف به. كما أن أفضل علاج للخرَّاج فتحه للخارج. وإلا فتح نفسه للداخل فأصيب المريض بتسمم دموي فمات به. ولكن هل اعترف البابا الكسندر السادس أنه مصاب بالزهري؟ والعالم العربي مصاب بمرض الطائفية وآخر من شكله أزواج. من أمراض (القبلية) و(احتقار المرأة) و(الإيمان بالغدر) و(تأليه الزعيم) و(عبادة القوة). لقد دخلت مستوصفا قميئا في الجولان (خان أرنبة حيث احترب يوما جيشان) فرأيت 17 صورة للثالوث المقدس من الآب والابن والروح القدس، وهي صور مكررة في معظم مطارات العروبة، في إحياء لمركب الأقانيم الوثني في ديار تزعم أنها إسلامية؟؟ ويتحول نظام الحكم إلى شكل فرانكنشتاين ليس فيه مقومات الحياة، إلا أن يقتل؛ كما قتل بيده من أوجد فرانكنشتاين، كما حصل مع دوللي النعجة المستنسخة. ووضع العرب هذه الأيام يذكر بجو دول الطوائف في الأندلس، أو جو الفرق المذهبية قديما، بين (معتزلة) و(شيعة) و(خوارج) و(مرجئة) و(قدرية) في خمس شعب، لا ظليل ولا تغني من اللهب. فأما الشيعة فقد رفعوا من قدر علي وذريته؛ فزعموا أن القمر نزل في حضنه، وأن في دمه كريات حمر مختلفة مقدسة. وأما الخوارج فكفروا الجميع وقَتَلوا وقُتِلوا. وأما المرجئة فهم أولئك السياسيون الملاعين والعسكر الخائبين، الذين يرون أن الله يغفر الذنوب جميعا، ولو قتل القاتل أمة من الناس؟ يكفي أن يلوك الإنسان كلمات سخيفات بلسان مصاب بالآفت (القلاع). وأما القدرية فقالوا بالحرية الإنسانية المطلقة، ودوروا القمر والشمس بأصابعهم، وعلى هذا الفكرة ذبح الجعد بن درهم. وأما المعتزلة فحاولوا تحريك العقل، في وسط يموت، فماتوا مع الأموات، إلى يوم الدين.. واليوم تنهض هذه المذاهب بكل أمراضها وعيوبها، من التوابيت، وترجع إلى الحياة، ونحن مذهولون من هذه الرؤية غير المتوقعة، لجثث تدب فيها الحياة مذكرة بالزومبي.. ونقول يا ويلنا من بعثهم من مرقدهم؟؟؟ وما جري في العراق وسوريا وباء طام، يهدد كل المنطقة بطوفان نوح، من المذابح الطائفية والمذهبية، فبعد أن سبح العرب طويلا في قذارات النتن القومي البعثي، يتحول زورقهم المنكوب، إلى مستنقع أشد هولا وقذارة؛ من المذابح الدينية، باسم الله والصليب، وعلي والحسين، والحاكم بأمر الله الفاطمي، في رحلة انقلاب في محاور الزمن، نكسا إلى العصور الوسطى الظلماء. وهكذا فبدل دخول الحداثة؛ ينتكس العرب على وجوههم، عميا وبكما وصما، مأواهم جهنم الطائفية، كلما خبت زدناهم سعيرا. وإذا كان صدام قد حول البعث العراقي، إلى ماكينة للعبادة الشخصية بتجنيد المرتزقة والعشيرة، فقد فعل البعثي الأخر من فصيلة السنوريات في سوريا الأسد بتجنيد الطائفة والعصابة من الأزلام إلى ماكينة للعبادة الفردية. يضاف إلى كل حزمة الأمراض السابقة من الأمراض تسلط ديناصورات أمنية تقذف بشرر كالقصر تذكر بملائكة العذاب عليها تسعة عشر.منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
اقرأ المزيد
السجون الأربعة وهامش الحرية
نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة واكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم. ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه. (الجينات) الشيفرة السرية للخلق تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي. الجينات في الخلايا تحدد العمر والاستعداد لمرض السكر والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه. علينا أن نتنفس والا اختنقنا، أن نأكل ونشرب والا هلكنا. وأن نمارس الجنس والا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية فلانستطيع الانتقال بسرعة الضوء في استحالة يفرضها قانون النسبية باستهلاك طاقة لانهائية وتوقف كامل في مربع الزمن. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال الى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي الى الحياة بدون ارادتنا، ونخرج منها بدون ارادة ورغبة بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد. نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته لانتحكم في وقت المجيء اليه في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة الى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف الى مستودعات النسيان فلاتسمع لهم ركزا. اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الانسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لاشيء اذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه واللانهائي الذي يغمره. نحن لانستطيع ركوب آلة الزمن فنعود الى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومين بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم. نحن أسرى (ثقافة) ننتسب الى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه. من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا. كذلك كان الانتساب الى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في راوندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في افغانستان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو أو وسوريا في مملكة القرود يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج ترجع رفاهيته الى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين، ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي قد يكون رهين الاعتقال، لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، لايستطيع فتح فمه الا عند طبيب الاسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الارجنتين، أو لاجئا سياسيا في السويد والمانيا، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والابكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته. مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البايولوجيا فقد يفر عراقي الى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتننق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الانسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر. نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات، والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت، وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والاذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: من ظهر الأرض الى قبر السجن، ومن دفء الجماعة الى برد العزلة، أومن شاطيء الحياة الى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي. هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات وزنزانة الزمن وقفص الثقافة ومعتقل المجتمع. مع هذا فلايتقدم المجتمع الا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الانسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا وتطور. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة. ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دروة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها الى لمواجهة حادث مروع. العجل يمشي بعد الولادة بساعات والارانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الانسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي. نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين ولكن الانسان وضع قدمه على القمر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الانسان يقودها (لاوعي) أعمى. ثقب العين صغير ومنه يرى الانسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى الا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايرى منه عشر معشار مالايرى، لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية. الانسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون. كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابن أفضل منه.
اقرأ المزيد
صراع ولدي آدم
وظيفة الجهاد قد تستخدم ضد الكافر (الظالم) أو ضد المسلم (الظالم) المهم أن يكون ظالما وليس كافراً. كما فعل الإمام علي ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم ( خوارج) بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون انفسهم مجاهدين و(شراة) أي باعوا أنفسهم في سبيل الله. في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس (جهاداً) بل خروجاً بسبب تبني (القوة المسلحة) لفرض آراءهم بالقوة ، وهو ماوقعت فيه معظم الحركات الأسلامية في التاريخ المعاصر، لذا فالاتجاهات الاسلامية المعاصرة (العنيفة) هي (خوارج) العصر الحديث بكل أسف. لإنها ضلت طريقها مرتين. مرة في (الهدف) و أخرى في (الوسيلة). (الأولى): بوضع الغاية أن الوصول إلى الحكم يحل المشاكل (كلها ودفعة واحدة). ولم تعلم أن المشاكل تبدأ فعلاً بعد ذلك. و(الثانية) في تبني (العنف) وسيلة للتغيير. هناك آيتان في القرآن واحدة في سورة يونس والأخرى في سورة الأعراف تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق أن المشكلة ليست (نزيحكم ونقعد محلكم؟!) بل المشكلة هي تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض أن ينتشر، وأننا سوف نعيد أخطاء الاخرين على أبشع عندما تكون تحت (العباءة الإسلامية) على ماتوقع الكاتب (حسان حتحوت) في كتاب (أوراق في النقد) من أن وصول القوى الإسلامية إلى الحكم سوف يفرز ديكتاتورية جديدة، لاتختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتوريات المنطقة في شيء، ولايظن الأسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر، ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر. تأمل الآية ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تاتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف 128 - 129 ). لقد انتبه الإمام ابن تيمية قديماً إلى هذه النقطة أي أن الجهاد هو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الظلم. إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة حينما فاتته حرية الفكر والدفاع عنه وبنفس (مبدأ الجهاد) لذا فإن ابن تيمية دفع حياته ثمناً لفتواه التي أفتى بها، فهاهو قد ألقي به في السجن حين اختلفت الآراء، ليموت شريداً حزيناً في سجن القلعة بسبب آراءه، ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر مهما كان لنعم بحريته في أيامه الأخيرة. من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي لإن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد، فلا الحكومات ترحب بالمعارضة فضلاً عن إيجادها، ولا المعارضة تدرك أن المشكلة هي (ليست) في (الإطاحة بالأنظمة). لقد أدرك (عبد الرحمن الكواكبي) الحلبي على نحو مبكر هذه النقطة بمنتهى البللورة قبل قرن وسجلها في كتابه القيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ورأى أن الحل لايكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها مع تعديلها، الذي سيكون آليا مع نمو المعارضة. إن السيارة تحتاج إلى ( دعسة بنزين وفرامل) معاً. وليس إلى نزع دعسة البنزين ووضع أخرى محلها. ذلك أن سيارات العالم العربي كلها تمشي بدون فرامل وتقود شعوبها إلى الكوارث. إن مانحتاجه هو تغيير نظام الفكر وليس الحكومات، لإن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب، وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبات لانهاية لها. من هنا ندرك خطأ الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقود إلا إلى الكوارث، ومن هنا ندرك أيضا ًعمق المعنى في الآية القرآنية بأن الله لايغير مابقوم ليس حتى يغيروا حكامهم بل يغيروا ما بنفوسهم . الملاحظة الرابعة: كنت في كندا في مطلع عام 1990 م، فقدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتقنية في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف وتناولت قصة ولدي آدم، فعقب أحدهم: ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقتل؟ كما في الآية (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؟ تدخل شاب ذكي في النقاش حيث أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية واستوعب عمق القضية. حيث انتبه إلى كلمتي (الخاسرين) و (النادمين). وهكذا استرسلنا في شرح موسع للظاهرة: (أولاً): لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر بل العكس اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم ولم ير أية خسارة للمقتول، وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). (ثانياً): دخلت القصة بعداً جديداً حين محاولة إخفاء آثار الجريمة حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تكبيت الضمير والندم على مافعل وهذا هو بيت القصيد، لإن تفاعل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي حتى مع موت أحد الأطراف، والأطراف كلها ميتة على كافة الأحوال (إنك مين وإنهم ميتون). ولكن الموت هنا وبهذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود. الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف يصحة موقف المقتول أو تبني رأيه وإحياء أفكار الذي مات، ففي الوقت الذي مات الأول واستشهد، كان هذا هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنيه لإفكار الذي مات لأجلها ودفن. دفن الأول بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن (الفكر) الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود؛ لذا وجب أن ينظر الفرد ليس إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ، فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن، والأفراد يموتون، والحبة حتى تنبت لابد من دفنها أولاً . يجب أن يكرس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في العالم العربي، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي ومحاولة إلغاء الآخر ولو من طرف واحد، لإن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر، كما هو الحال في قصة ولدي آدم. الاصرار على مبدأ الحوار ولو رفض الطرف الآخر، وعدم التراجع عن مبدأ المبادىء كلها (الحوار) لإنه بالحوار والثبات عليه، حتى والاستشهاد في سبيله هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف. إن كان هناك إصرار فليكن على التخلي ودفعة واحدة عن العنف المسلح، لإن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار يقود في النهاية إلى النزاع المادي. لإن الحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية . وإعلان الرأي - وضمن شروطه المنتجة - مع تحمل تبعة مسؤولية إعلان الرأي حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد . من هنا نعلم أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص، إلا أنه على كافة الأحوال ليس بقدر تدريب الثكنات العسكرية، كما أنه أقل تكلفة في الوصول إلى أهدافه؛ بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم إلى التوبة والرجوع إلى صوابه حين يدرك أن ماتريده ليس إلغاءه وتصفيته، بل إنك مستعد ليس لقتله، بل لإن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض؟!. بل إن هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمتها بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات. هذه الصورة من الاستشهاد، أي من أجل فكرة سامية تعطي للحياة معنى، وتمد جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة كما حصل مع ابن آدم الذي خلد القرآن موقفه بأن طرح أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية، فخلد موقفه بخلود القرآن الذي يتلى إلى قيام الساعة. فأما جسده الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة، وأما موقفه فبقي خالداً لايموت . (ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
اقرأ المزيد
العامل الداخلي أم الخارجي، أيهما أهم في الانهيار ؟
ماهو السبب خلف سقوط غصن أو اندلاع حرب؟ ماهو عامل تفشي مرض وهزيمة أمة؟ ماهي المسببات الرئيسية خلف انفجار ثورة وتفكك دولة وتحلل حضارة؟ هل هناك رؤية مشتركة لفهم خلفية ولادة كل هذه الواقعات غير المتشابهة؟ هل يمكن وضع اليد أو قنص السر المخفي والقانون المهيمن خلف خروج هذه الحوادث الى السطح؟ هل هناك رؤية أنطولوجية (وجودية مشتركة) لكل هذه الأحداث غير المتناسقة والمتشابهة، غير المتناسقة في مظهرها الخارجي، والمتشابهة في خلفية علة ولادتها. مع مواجهة كل أزمة تاريخية، أو الوقوع في كارثة قومية، يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام الى العدو الخارجي، ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة؟‍! إن هذا الضرب من التفكير لايقود الى حل المشكلة والخروج من الورطة بسلام، بل يقود الى نوع من المرض النفسي الخطير، فطالما كانت ذواتنا خارج حقل المشكلة، بقي الحل في الظلام بعيداً عن متناول اليد، وبقيت بالتالي ذواتنا مبرأة عن أي خطأ، والمساهمة في أي خلل، فذواتنا فوق الخطأ ودون النقد ولاتقترب منها يد التشريح وأدوات السبر والتمحيص، واستمر الخطأ يقود الى مزيد من الخطأ، بتعطل آلية تصحيح الخطأ، كما كان العثور على كبش فداء جاهز يقود إلى فرملة آليات الجهد الذاتي بشكل كامل مطبق، وعندما يكون المتسبب عن الخطأ خارج ذاتنا يتولد عنه تلقائياً أمران: الراحة النفسية بالعثور على سبب وهمي، وإيقاف كل آلية يمكن أن تتدخل في مسار الأحداث لإصلاحها. في مستوى الطبيعة يطرح السؤال نفسه ماالذي يتسبب في سقوط غصن ما؟ هل هي الريح؟ لو كان الريح سبباً لسقطت كل الأوراق، وتناثرت كل الأغصان! ولما سقطت الأوراق بدون ريح في فصل الخريف! فلا عنفوان الريح أسقط كل الأوراق، ولاهدوءها منع وحمى الأوراق من التهاوي. ولكن البحث الأعمق يصل الى اكتشاف عنصر خفي لاتراه العين بسرعة هو قوة ارتباط الورقة بالشجرة، فالعنصر الخارجي الممثل بالريح لعب دوراً واضحاً عاصفاً مثيراً ظاهراً للعيان، ولكن النخر الداخلي مختبيء خفي لايطل برأسه الا بالبحث المنظم المعمق التأملي السببي. العامل الخارجي تضافر مع العامل الداخلي في ولادة الحدث، ولكن العامل الداخلي هو الذي هيء الظروف الموضوعية لولادة الحدث وسقوط الورق وتناثر الأغصان. وفي مستوى البيولوجيا مع حدوث (المرض العضوي) وخلل البيولوجيا يلتفت الناس الى الجرثوم أو الفيروس الخبيث، الذي فجر عاصفة المرض، ولكن الجرثوم موجود دوماً، ولايصاب كل الناس في كل الأوقات مع حضور الجرثوم وتواجده الدائمين، وفي كل فوهاتنا وداخل أمعاءنا ومع كل وجبة طعام تزدحم الملايين من طوابير الباكتريا، وينسى الناس أو لايدركوا دور جهاز المناعة الداخلي في تنظيم السلامة والمرض. ياترى ماهو المرض وماهي الصحة طبياً وفلسفياً؟ الصحة هي حالة التوازن بين هجوم جرثومي لايعرف الاستراحة والتقاعد والإجازة، وبين جهاز مناعي تأخذه السنة والنوم أحياناً لسبب أو آخر فينهار، ومع انكسار التوازن يتولد المرض فيسقط الانسان طريح الفراش لإعادة آليات التوازن الى مسارها الطبيعي، بتغلب جهاز المناعة (الداخلي) على العدو الخارجي الممثل في الجرثوم والفيروس وسواهما. ويلعب الدواء والغذاء والراحة دور العناصر المساندة والمريحة لإتمام وتنشيط آليات عمل جهاز المناعة الداخلي للقضاء على المرض وسحق الهجوم الجرثومي ـ الفيروسي. وفي المستوى النفسي يفضح شعور المجرم سلوكه ويدلل عليه، كما في قصة حكيم القرية الذي أراد ضبط لص القرية فجمعهم في صعيد واحد، وصاح بهم إن لصنا لم يكتف بجريمته، بل قام يتبجح بها فينصب على رأسه ريشة طاووس زاهية الألوان، فعمد أحدهم الى رأسه فمسحه، فتسابقت الأيدي إليه تحكم الخناق عليه! وفي المستوى الاجتماعي يروج الدجل وتتفشى الخرافة ويتكاثر ظهور الجن فجأة في منطقة ما، بفعل ضعف المناعة الاجتماعي، وتدني طبقة الوعي أمام المشعوذين والدجاجلة؛ فعندما يغتال العقل بشكل منظم لايبقى حدود لحماقات البشر. إن فلسفة القرآن تؤسس لفكرة لم يعتاد عليها الناس وهي (ظلم النفس) فالناس اعتادوا ومستعدون ان يلوموا كل أحد واتجاه وقوة موهومة الا أنفسهم، والقرآن يمشي بشكل مخالف 180 درجة تماماً؛ فهو يدربنا على أن نلوم أنفسنا فقط (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). إن كثيراً من شرائح المفكرين والسياسيين عندهم الاستعداد للوم كل القوى، كسبب لعجزنا من الصهيونية والماسونية والاستعمار والصليبية والشيطان، بل وحتى إحالتها في النهاية الى مصدر يخرس كل متحدث عندما تنسب فضائحنا اليومية الى إرادة الله، ولكن ليس عندهم استعداد ولو لوضع (احتمال) أن نفوسهم شاركت في توليد الهزيمة، وتراكم العجز، واتساع الخرق! وإذاكان ظلم الانسان لنفسه هو الظلم الأعظم ، فهو يؤسس بدوره لفهم جذور المشكلة الانسانية ، وفهم الظلم الاجتماعي عندما يتحول المجتمع من مجتمع أفقي الى مجتمع طبقي ، تتمزق فيه وتتصدع الشرائح الاجتماعية الى ( مستكبرين ) و ( مستضعفين ) كما تحدث القرآن عن طبيعة المجتمع الفرعوني ، ومصدر هذا الخلل هو خلاف مايتصور الناس من طبقة المستضعفين ، أكثر من طبقة الجبارين المتكبرين . إن الظاهرة المزدوجة ، أو علاقات القطبين المشؤومين ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) ذات مصدر موحد ، كما في أي فيلم ، فالصورة الملونة تعتمد الأساس الأسود بعد التحميض ، وكذلك علاقات القوة في المجتمع هي من خلل هذه الرافعة بين بني البشر ، فالمستكبر هو مستضعف في أعماقه لاعتماده آلية القوة والقهر ، والمستضعف مستعد بالقوة للتحول الى مستكبر يتلمظ لامتلاك القوة . ودعوة الانبياء جاءت لانتاج نسخة بشرية جديدة بالتخلي عن علاقات القوة ، وبالتالي كسر رافعة ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) . الضعفاء هم الذين يخلقون الأقوياء . والمستضعفون هم الذين يوجدون المستكبرين . والأمم الهزيلة هي التي تنبت الطواغيت . والمستنقع هو الذي يولد البعوض . والغربان تحط على البقرة الميتة . والنمل يتجمع على جثث الصراصير . والقابلية للاستعمار هي التي تقول للاستعمار أنا هنا تعال فاركب على رقبتي . والدول تنهزم بتفككها الداخلي . وانهيار الحضارات يتم بعلة الانتحار الداخلي أكثر من قصور طاقة التكنولوجيا أو اكتساح خارجي . والاتحاد السوفيتي سقط مع امتلاكه أسلحة تدمير الكون مرات ؛ بفعل مرض داخلي أكثر من هجوم خارجي عاتي ؛ فلم يهاجم هذه المرة من الجيوش النازية أو مدفعية نابليون ، بل كان سقوطه داخلياً صرفاً . هذا القانون يمسك بإحكام جنبات الوجود ، بوتيرة مكررة ، بدءاً من الذرة الى المجرة ، مروراً بعالم النفس ، ومحيط المجتمع ، وإطار الدول ، وحزام الحضارات ، ومن أبسط الأفكار الى أعظم الامبراطوريات . ماالفرق بين آدم والشيطان ؟ رفض الشيطان السجود عندما لم يراجع نفسه ويمارس النقد الذاتي ، فاعتبر نفسه أنه لم يمارس الخطأ وأن خطأه سببه الله ( بما أغويتني ) كما اعتمد آلية علمية أثبتت الفيزياء النووية خطأها ، عندما رأى نفسه خير من آدم ، فاعتبر نفسه طاقة شريفة وآدم مادة خسيسة ، والفيزياء النووية ترى اليوم أن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة ، بل إن المادة هي في حقيقتها لاتزيد عن طاقة مكثفة . أما آدم فقام هو وزوجته ـ خلافاً لتفسيرات العهد القديم عن قصة التفاحة ـ بمراجعة نفسية قاسية من خلال اعتماد منهج النقد الذاتي ، بقدرة الاعتراف بالخطأ ( إنا ظلمنا أنفسنا ) ، فأرجع آدم الخطأ الى نفسه ، فأمكنه طلب المغفرة والرحمة له ولزوجته ولذريته من بعده ، ففاز بموجب هذا بعقد الوكالة العامة من الله ( الاستخلاف ) . طريق الشيطان بعدم اعتماد منهج المراجعة والنقد الذاتي قاد الى اللعنة الأبدية ، وطريق آدم من خلال التوبة التي هي تجسيد قدرة الاعتراف بالخطأ قاد الى المغفرة والرحمة والجنة كان المللا الكردي يشرح نصاً باللغة العربية لطلابه الأكراد . كان النص الفقهي يقول : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حيةً يبقى السمن حلالاً . بدأ المدرس الفقيه يترجم على الشكل التالي : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً ؟! يعترض تلميذ : يامللا كيف خرجت ثعباناً ولم تكن سوى فأر ؟! يرد المدرس : اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر .. وتروي رواية أخرى أن المؤذن خرج لصلاة الصبح متأخراً ؛ فاجتمع بالناس في الطريق وقد بزغت الشمس ليقول لهم : أنا حضرت حسب الموعد ولكن الشمس خرجت اليوم مبكراً خلاف عادتها ؟!! إن هذه القصص المسلية تحكي لنا أزمة ثقافتنا ، فنحن على استعداد لتوريط الكون في تناقضات ، على أن نراجع أنفسنا وتصرفاتنا لحظة واحدة لإدخال ( احتمال ) مشاركتنا الجزئية ، في الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس .
اقرأ المزيد
سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي
هل تقود الحروب إلى السلام فعلاً ؟ أم يفضي العنف إلى السعادة ؟ أم أن تدمير الخصم وتطويع إرادته ينهي الصراع ؟ أم أن الكراهيات المتقابلة والخوف من الاستئصال المتبادل يفضي إلى وضع مستقر ؟ هناك مذهبان في العالم لاثالث لهما : يقوم الأول على العنف وتدمير الآخر وإلغائه ، والثاني على احترام الإنسان والحفاظ عليه ، وكلا المذهبين خلفهما عواطف متباينة ، فالأول يُسقى بالحقد والثاني يُغَذَّى بالحب ، والحقد عملياً هو الانكفاء والارتداد على الذات ولذا فهو مدمر لإنه يحذف الآخر ، والحب مشاركة ولذا فهو حياة ونماء ، وسوف يقص علينا علم النفس خبراً من هذا الموضوع . كيف يمكن مقابلة العنف بالسلام ، ولايُقابَل بما تفرضه الغريزة البحتة والقائلة : من يضربني كفاً ضربته اثنان ، وكِلْتُ له الصاع صاعين ، وتركته عبرة لمن يعتبر !! هذه هي الثقافة التي يتشربها الإنسان في العادة ، وتبثها العادات والتصرفات اليومية ، وتكرسها أفلام هوليوود ، ويتكرر ترسيخها في أذهان الأطفال من خلال لعب ( أدوات الموت ) من المسدسات والدبابات وماشابه من أفلام الكرتون من أمثال ( غراندلايزر ) وسواها . كتب إلي أخ فاضل فقال : (( إلا أن النقطة التي استعصى علي فهمها هي مسألة العنف ، والسؤال الذي لم أجد له إجابة أبداً كيف تحاور الكلمة الرصاصة ؟ نعم قد أحاور من يرغب في حواري ولكن كيف أحاور من يرغب في استئصالي بغض النظر عن فكرتي التي أحملها ، وقد تابعت لك عدة مقالات تتحدث فيها عن نبذ العنف وعبثية الحرب فياحبذا لوسلطت مزيداً من الأضواء على هذا الجانب )) . عندما وضعت سؤال الأخ الفاضل تحت المجهر للتحليل _ وأعتبر أن تساؤله هذا يمثل شريحة ليست بالقليلة من القراء _ فإنني أثير مجموعة النقاط التالية في أول بحثي : 1 - تقول الأولى : إن هذا الموضوع مختلط ونظراً لنوعية تعقيده فإنني _ على الرغم من قلة زادي فيه _ أخذ مني طاقة فكرية كبرى حتى وصل إلى مرحلة البللورة المتألقة _ على الأقل في ذهني _ وأفاض على قلبي من ضروب السعادة والتحرر من العقد وتوديع التقليد ، ماجعلني أشعر بما يشبه الولادة الجديدة والنور الجديد ( وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) . حيث أن هذه المشكلة أقضت مضجعي وشغلتني منذ مايزيد عن عشرين عاماً ، حتى انتهيت إلى وضوح في هذه الفكرة وتماسك في بنائها ويقين في محتواها ، ولاأزعم أن هذا هو اليقين المطلق بل هو حصيلة البحث الذي وفرت له طاقتي الفكرية منذ ربع قرن من الزمان ، ولذا فإنني أكتب في هذا المجال بشعور المتخمر والسعيد والشغوف في إعلان هذا التوجه. 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن وضع العالم العربي هو _ ولنكن صريحين _ فيما يشبه الحرب الأهلية المهدِّدة في أي مكان في أي زمان ، فما اشتعل في لبنان ودمر في الصومال وتكرر في أفغانستان واليمن والجزائر والعراق وسوريا وليبيا ، إن هي إلا عينات أو لنقل بالتعبير الطبي ( خراجات ) قابلة للتفتح والانفجار في أي مكان ، وليس هناك من بلد عربي بمنجى من هذا الخطر المدمر الماحق ، والذي يظن نفسه أنه في جزيرة ( الأمل ) كما جاء في مسلسل الأطفال ( عدنان ولينا ) فهو في سراب خادع ووهم كاذب ، وسوف تلد الأيام الحبالى ماأقول به ، ويشاطرني فيه الكثير من أصحاب الفكر والقلم ، وهذا يوجب على أهل الفكر والمثقفين المساهمة في تحليل هذا المرض وتسليط الضوء على هذه الظاهرة المرعبة التي تأكلنا يومياً . ولانظن ونسرف في التفاؤل أن مصير ( راوندا ) بعيد عنا ، فالشروط لحدوث حريق مثل هذا قائم في أكثر من بلد عربي ، وإن في قصصهم عبرة لإولي الأباب . وتقول الفكرة الثالثة : إن ظاهرة العنف مرض عام في أي بلد عربي ؛ فهي بلاسما ثقافية يسبح فيها الجميع ، وجو مسموم يتنفس فيه الكل ، ومرض عام لكل الفرقاء المتنازعين ، والاتجاهات المختلفة تقريباً ، وإن اختلفوا ففي التوقيت فقط ، فهم بهذا تبنوا الغدر وشرعوه . هذا الوباء بل الطاعون الفكري والإيدز الاجتماعي هو ثقافة مكررة تنتج نفسها ( وذرية بعضها من بعض ) ولذا فالانفجارات موجودة في كل بيت وزاوية ودولة . إن مرض الكوليرا عندما يجتاح بلداً ما ؛ فهو عندما يأتي لشخص ما لايسأله عن هويته العقائدية وانتماءه العرقي وانتسابه القبلي أو الطائفي ؛ بل يصيبه المرض كظاهرة بيولوجية بحتة ، والأمراض الاجتماعية شبيهة بهذا ، إلا أن ( وحدة ) المرض الاجتماعي أي الكينونة الإمراضية الناقلة والمسببة للمرض هي هنا ( الفكرة ) تماماً كما في ( وحدة ) الأمراض البايولوجية فهي ( البكتريا أي الجرثوم أو الفيروس ) . لذا ففي الواقع إننا في العالم العربي نسبح في بلاسما ثقافية موحدة مشربة بالعنف سواء اعترفنا بهذا أم لا ، يتجلى هذا من خلال ( علاقات القوى ) بين الزوج وزوجته ( 1 ) والأب وابنه ، والضابط بالجندي ، والموظف بالمراجع ، والطبيب بالمريض ، والشرطي بسائق السيارة ، والعسكري بالمدني ، والدولة بالفرد ، والأعلى بالأدنى ، فكلها في معظمها علاقات إنسانية مشؤومة ، ونظراً لأهميتها فقد عالجها القرآن في أكثر من ثماني مواضع ، واستخدم فيها مصطلح ( استكبار - استضعاف ) أو مايسمى في المصطلح الطبي العلاقة ( السادية - المازوخية ) ( 2 ) . وتقول الفكرة الرابعة : إن هذه العلاقة الإنسانية المشؤومة ( المستكبر - المستضعف ) ( 3 ) أو ( السادية - المازوخية ) هي في حقيقتها وجهان لعملة واحدة ، وإذا أردنا تفهم هذه الظاهرة فيمكن ملاحظة كيفية أخذ ( اللقطات ) في الكاميرا ، فإن الفيلم ( الأسود - السلبي ) هو الذي يكون أساس اللقطة ، ثم وبعد التحميض يخرج الفيلم الملون ، ونحن إذا أردنا المزيد من الصور ( نسخ إيجابية جديدة ) فإننا نرجع دوماً إلى الأصل ( الأسود وغير المعبر والمشوه ؟! ) ، وهكذا يمكن فهم علاقة ( المستكبر - المستضعف ) أو العلاقة ( السادية - المازوخية ) فهما وجهان لحقيقة واحدة ، أصلها هو الأسود بمعنى أن ( المستكبر ) هو الوجه البارز والملون والمبهرج ، ولكنه في حقيقته هو ( الأسود المستضعف ) ، وكذلك فـ ( السادي ) هو في أعماقه ( مازوخي ) ، وكما في الفيلم قبل وبعد التحميض ، كذلك الحال في مرض الاستكبار والاستضعاف ، فالاستضعاف هو الذي يولد الاستكبار ، هو أسه وأساسه وجذره ومنبعه الذي يولده بدون توقف ، فإذا أردنا فهم المشاكل الاجتماعية ، وهذا المرض الاجتماعي الرهيب بالخاصة ، والذي سلط القرآن عليه الضوء لمعالجته فيمكن فهمه من خلال مثل الفيلم الأسود وتحميضه . وهكذا فانهيار الجهاز المناعي هو الذي يهيء الوسط للمرض ، وتفكك الأمة الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي ، والبيت القذر هو الذي يفرخ الصراصير والجرذان ، والمستنقع هو الذي يولد البعوض ، والأمم الهزيلة هي التي تصنع فرعونها ، والحضارات تنهار بعلة الانتحار الداخلي ( 4 ) . ويترتب على هذا نتيجة في منتهى الخطورة وهي أن التغيير يجب أن يبدأ من تحت : في البناء المخفي ، في طبقة الوعي الداخلية ، في الفيلم الأسود الذي لم يحمض بعد ، في الأمة أو حسب تعبير القرآن ( تغيير مابالنفوس ) ( 5 ) . وتقول الفكرة الخامسة : وإذا استقامت هذه الفكرة عندنا أمكن لنا تحليل العديد من المواقف والمشاهد اليومية في ضوء هذه الفكرة ، وإذا أردنا الإنسان ( الحر ) مثل بلال فيجب أن نتخلص من هذا المرض ( السادي - المازوخي ) وبالتالي الوصول إلى حالة الامتلاء النفسي والتواضع ، فلاتبطر القوة صاحبها ، ولاتسكره خمرة الانتصار ، ولاتستبد به اللحظة ، ولايعلو مع امتلاك المال ، ولايفقد توازنه إن جلس خلف طاولة كبيرة أو تسلم منصبا ً حساساً ، وبالمقابل لايصبح ذليلاً حقيراً حينما يحرم من القوة ، أو يخسر المال ، أو تتدهور الصحة ، أو يواجه مشكلة ما ، بل حتى مواجهة الموت !! وهذه كانت رسالة الإسلام القديمة الحديثة إيجاد المجتمع العادل من خلال إيجاد الإنسان العادل من خلال إحكام التوازن الأخلاقي عنده . وتقول الفكرة السادسة : إنني أقدر تساؤل الأخ واختلاط الموضوع ، وتشابك المفاهيم وضغط المعاصرة ، وثقل مفاهيم التراث ، كل هذا يفرض علينا وعيا ً حاداً ، وتأملاً تاريخياً ، ومطالعة علمية لاتنضب من أجل تحرير هذه المفاهيم ، والأخ في تساؤله إنما يعبر عن ضغط مجموعة من المفاهيم في الوسط الثقافي الذي نسبح فيه ، والطرح الذي تقدمتُ به يخلق إشكاليةً لابد من حلها ، ولذا أحببت في مقالتي هذه أن أضع يدي محاولاً تلمس هذه الفكرة في دينامية النفس وكيفية عملها ، وكيف يفعل العنف ويؤثر ، وكيف تعمل الأفكار السلامية ؛ تلك التي أشعر أن العالم العربي يحتاج إليها اليوم أكثر من المصاب بصدمة نزف الدم والمحتاج لنقل الدم لإنقاذ حياته ، فوضع العالم العربي لم يعد يحتمل الانتظار أمام كوارث العنف اليومية التي تتفجر مثل القنابل الموقوتة في كل مكان ، وعلينا أن نتقدم بهذا الطرح بدون خجل أو خوف من أجل إعلان ماأسميه ( ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي ) لكل الأطراف من عرقية واثنية ودينية ، وجنسية للمرأة والرجل ، لكل من يعيش في هذا المجتمع أين كان موقعه ، للحكم والمعارضة ، للدولة والفرد ، ذلك أن آلية الإعدام والإفناء المتبادل تفعل فعلها المدمر بين كل الأطراف الاجتماعية اليوم . وربما مانحتاج إليه أكثر من الصلح مع إسرائيل هو صلح الإنسان العربي مع الإنسان العربي ، والدولة العربية مع جارتها العربية . وتقول الفكرة السابعة : إن درس ( أفغانستان ) البليغ يعطينا توسعاً وتعميقاً لهذا المفهوم الذي نطرحه ، فالمشكلة كما نراها ليست فقط عربية ، وإن كان حظ العرب منها كبيراً ، بل هي إسلامية ، بل هي عالمية ، لإنها إنسانية في جوهرها ، ولذا فإن الطرح الذي أتقدم به يشكل خلاصاً إنسانياً محلياً وعالمياً في تقديري ، وهو طرح لن يتضرر منه أحد بل سيربح منه الجميع ، فلن يخسر أحد أرضاً أو زعامة أو مالاً ، بل يربح الجميع كما يفعل الأوربيون اليوم حيث يتحدون ولايخسر أحد شيئاً بل يربح الجميع . وفصائل المجاهدين الأفغان فعلوا ببعضهم اليوم وفي وقت قريب نسبياً ، مالم يفعله الشيوعيون والروس مجتمعون ، وهي بأيديهم ومن عند أنفسهم وظلموا أنفسهم و ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟؟ قل هو من عند أنفسكم ) ( 6 ) كلها لإن النفوس تشربت العنف ، ومارست القتل ، وشربت الدم ، ولم يخالط قلوبها الحب ، أو سيطر على عقولها مفهوم السلام ، الذي أود شرح ديناميته بعد قليل . فعلينا مع درس أفغانستان ألا نبحث عن ( كبش فداء ) و ( علاَّقة مهازل ) نلقي عليه اللوم ونتهمه أنه الذي يتآمر علينا ، فالمسؤول عن الدمار اليوم ليس الشيوعيون والروس ، أو الاستخبارات الأمريكية ، أو الصهيونية والموساد ، أو الصليبية العالمية وقوى التنصير ، أو الماسونيين وقوى النورانيين الخفية ، هذه المرة انكشفت عورتنا ، وبانت عيوبنا الذاتية بغير غطاء ، وأن العجز هو مرض عميق متأصل في العالم الإسلامي ، ونحن المسؤولون عنه ، وأن تدمير كابول اليوم يتم بيد المسلمين أنفسهم و ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) ، ولكن ( جعبة ) العاجز حاملة ماهو أدهى من جعبة ( حاوي السيرك ) الذي يخرج الأرانب والثعابين من المنديل ، فيمكن إلقاء اللوم على الشيطان ، أو لامانع من إدخال الأرادة الألهية أحياناً التي أرادت هذا الدمار لكابول ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . وهذا التوجه هو في أعماقه نفس طريق اللاعودة ، طريق اللعنة الأبدية التي دخلها الشيطان لإنه ألقى اللوم على الله في ضلاله ( بما أغويتني !! ) في حين أن طريق ( الآدمية ) ودخول الجنة دشنها آدم باعترافه بالخطأ من خلال عملية نقد ذاتي قاسية ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) . وأريد أن أشير إلى أن الروس والحلفاء معاً ينسحبون من الأرض الألمانية بدون طلقة رصاصة واحدة من ( مجاهد ) كما لايزهق بعضهم أرواح بعض بعد الانسحاب ، كما حققوا وحدتهم بدون صواريخ على المدن أو حرائق في مصافي البترول . واليابان هو البلد الوحيد الذي ضُرب بالسلاح الذري في تاريخ الجنس البشري وربما لن يتكرر ذلك مرة أخرى ، واستسلم بدون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية ، هو الذي ( تترجاه ) أمريكا اليوم أن يتسلح ، فيرد بكل اللطف الشرقي المعهود ، أنه ملتزم بالفقرة الثالثة من وثيقة الاستسلام التي تنص على عدم عودة اليابان إلى التسلح في المستقبل ، مع العلم أن اليابان لو أرادت الوصول إلى السلاح النووي لامتلكته في شهر واحد لايزيد بسبب القاعدة التكنولوجية التي تمتلكها ، ذلك السلاح الذي يتلمظ ويتبارى في شرائه وتكديسه كثير من دول الأطراف ، بل تستفيد منه كثير من دول ( الامتيازات ) كما نسمع اليوم عن تهريب البلوتونيوم ، فباب الخلاص للأمم كما نرى ليس مثل ( باب الحمصي ) ( 7 ) ولايحتاج دوماً لطلقات المجاهدين ، الذين أفرزوا مشاكل لاتنتهي من خلال تشرب العنف وتسريبه للعالم الإسلامي . وتقول الفكرة الثامنة : إن حركة الخوارج قديماً وبإجماع الأمة ، لم يعتبر المسلمون حربهم أو خروجهم جهاداً في سبيل الله ، في الحين الذي كانوا يلقبون أنفسهم بالمجاهدين والشراة ( أي الذين شروا أي باعوا أنفسهم في سبيل الله ) بل واعتبروا كل من عداهم كافراً مارقا ً يستباح دمه ( 8 ) وعرضه ولاتؤكل ذبيحته ؛ كونه مشركاً ، كل هذا تولد من صراع سياسي ضاري ، وكانوا يعتبرون أنفسهم أنهم يمثلون الإسلام النقي ، ودشنوا حركتهم بقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وكان إخلاصهم لإفكارهم بدون حدود ، وتضحيتهم لما يعتقدون به شيء مرعب ، مع هذا لم ينفعهم إخلاصهم لإن وعيهم وفقههم لم يكن في مستوى هذا الحماس والاندفاع الذي اشتهروا به ، وخير من وصفهم هو نفس الإمام علي حينما اعتبرهم طلاب حق أخطأوا الوصول إليه فقال فيهم : (( ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ؟؟!! )) . ومانراه اليوم من بروز هذا التوجه في مصارعة الأنظمة ومناطحة الحكومات من خلال الصراع الدموي العنيف والمسلح ، هو في الواقع ( إحياء ) لمذهب ( الخوارج ) من حيث أرادوا أصحابها أو لم يريدوا ، وبكلامي هذا لااريد إدانة طرف أو تزكية آخر ، لإننا كلنا نسبح في مستنقع العنف وندفع فواتيره اليومية ، وكله ينبع من ثقافة إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به فضلاً عن إيجاده إن لم يكن موجوداً أخي السائل : إنك عندما تدخل إلى روع الاخر أنك لن تسمح له بالوجود ، مع أن الله منحه الوجود بالأصل ومنحه كرامة أن خلقه بشراً سوياً وليس عشباً أو قطاً ؛ فإنه لن يسمح لك بالوجود أيضاً ، والوصول إلى كسر حلقة العنف والعنف المضاد هو برمي السلاح كلية ومرة واحدة إلى الأبد كما فعل ابن آدم الأول ، وإلا كيف تنشأ الحروب بين الدول أو الحرب الأهلية ضمن الدولة الواحدة ؟ إنها تنشأ من عقدة أو حلقة فظيعة من هذه السلسلة ، لنتأمل ذلك . ************************************* كيف تنشأ الحرب الأهلية مثلاً ؟ إنها تبدأ من تخمر وتفشي فكرة ( الدفاع عن النفس ) في وسط مشحون بالتوتر والهلوسات العقلية عن الآخر !! كما هو الحال في معظم مناطق تفجر النزاعات العرقية . إن استيلاء فكرة واحدة على الطرفين هي التي تدفع الطرفين لافناء بعضهما بعضاً ، الأول تستولي عليه فكرة ( قبل أن يقتلني علي أن أقتله !! ) والثاني يقول ( سوف يقتلني وأولادي لذا يجب أن ادافع عن نفسي واهلي !! ) فالمرض ناشيء من هذا الشعور الطاغي والمشترك والمتسلط على الفرقاء المتنازعين ، و( تشابهت قلوبهم ) والبداية المروعة بدأت وكانها بريئة ومبررة ومعقلنة تماماً أي مبدأ ( الدفاع عن النفس ) وهو مقبول ومهضوم من كل شخص أو فريق إذا اقتنع به ، ولكننا ننسى أن كلاً من الطرفين ينطلق من فكرة ( الدفاع ) ليصل إلى ( الهجوم ) ولاتوجد اليوم في العالم كله ( وزارات هجوم ) بل كلها ( وزارات دفاع ) ؟!! وحين يحصل الهجوم من أي طرف فإنه ينطلق تحت ضغط الدفاع تماماً ، أو الضربة الاستباقية للدفاع ، فهي ليست هجوماً بل دفاعاً ، أو كما يقول المثل الشعبي ( اتغدى به قبل أن يتعشى بي ) أو حسب مبدأ هتلر الشهير ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) ******************************** إننا لو استطعنا كسر هذه الحلقة المعيبة ومن ( طرف واحد ) وأدخلنا إلى قناعة الآخر ( من خلال تاكيد المفهوم وتكراره واتخاذ المواقف المناسبة ) ؛ بأن الطرف الأول لن يدافع عن نفسه حتى لو هوجم ، فإن النتيجة سوف تكون أن الآخر سوف يتوقف عن الهجوم وتخمد حدة اندفاعه فهذا هو جذر سيكولوجية العنف والسلام ، فطالما لايوجد خطر ( حس الدفاع المشترك المتبادل ) فسوف يتوقف هذا المرض عن التفشي وإحداث الكوارث ، ولماذا يهاجم مسالماً أعزل ؟ قد يركب رأسه ويقوم بالهجوم !! هنا تبرز الآلية الثانية في عملية تحرير النفس من مركب ( الاستضعاف _ الاستكبار ) التي أشرحها على الشكل التالي : إن عدم الرد على الأذى والعدوان باتخاذ موقف عدم الدفاع عن النفس ، سوف يدخل إلى الماكينة الهجومية للطرف الآخر الفرملة الأولى ، ومن خلال الدفع بالتي هي أحسن سوف تحرض عند الطرف الآخر آلية تنبيه الضمير والخير التي هي في كل إنسان فينا ، فكل فرد هو ملك وشيطان بنفس الوقت ، فإذا لم تنفع الآليتان في وضع كمية الفرملة المناسبة ، تدخل عند ذلك آلية جديدة متقدمة لوضع الفرملة النهائية المتدرجة لكل حركة العنف المتقدمة . إن الذي يستقبل ضربات الطرف الاخر يتصرف على نحو مضاعف ؛ الأول بعدم رد الأذى بمثله ، وعدم شحن النفس بالحقد والكراهية تجاه الطرف المعتدي ، كل الهدف هو فرملة التصرف فقط ، ولذا لايتراجع السلامي عن موقفه بل يدعوه إلى الحوار ، فهو بهذه الالية النفسية المزدوجة يقوم بعكس مايريد العنيف ، العنيف يريد إلغاء الطرف الاخر ، يريد كسر إرادته وتطويعها تمهيداً في النهاية لإلغائها ، تمهيداً لتوليد الوسط المشؤوم ( السادي - المازوخي أو التابع والمتبوع ) ( 9 ) أما الطرف السلامي فهو ومن خلال عدم الرد وعدم الحقد والدعوة للوصول إلى الحقيقة وعدم التراجع ، يفسح المجال أمام وجود الآخر والاحتفاظ بأرادته وعدم إعدامها ، وبالتالي المحافظة على الطرفين ، وهكذا فالأول يريد الربوبية المحرمة ، والثاني يريد العبودية لله رب العالمين وتآخي البشر ووحدتهم وتساويهم . إن الطرف المعتدي إذا استمر في اندفاعه واستمر الاخر في عدم بسط يده حتى لو أراد الأول قتله كما جاء في قصة ولدي آدم في القرآن ، فإن جوا ًنفسياً عجيباً سوف يحدث ، وهذا الذي كشف عنه علم النفس الحديث ( 10 ) فالمهاجم سوف يدخل في مرحلة نفسية أولى تتسم بالدهشة والسبب هو عنصر المفاجاة ، فالجندي اعتاد أن يهاجِم ويُهاجَم ، ولكنه غير معتاد على الهجوم فلايصادف دفاعاً !! ولذا فالنشاط السلامي يستخدم تكتيكاً ذكياً بإدخال عنصر المفاجأة في اللعبة !! ثم يبدأ الفصل الثاني في اللعبة وهو أخطرها إن لم يكن السلامي قد تدرب تماماً واقتنع بالفكرة حتى مخ العظام ، فكما يتدرب الجندي في الثكنة العسكرية ، فإن أمام السلامي تدريباً من نوع مختلف ، باستثناء أنه غير مؤذي وأكثر بركة في نتائجه ، ويمكن لكل شرائح الأمة المشاركة فيه بما فيه النساء والأطفال ، ودخول المرأة هذا النشاط الاجتماعي سيجعل الحياة تدب فيه ، باعتبار أن المرأة هي نبع الحياة والمحافظة على الحياة وهي مصدر طاقة الأمومة والحب ، وسبب قوة سلاح هذه المقاومة هو توجهها إلى ضمير الخصم من أجل إدخال النشاط إليه ؟! . إن العنيف مع استمرار هجومه قد يقنع نفسه أن خصمه حقير وتافه ( من نفس شجرة إلغاء الآخر ) ولكن صمود وعدم تراجع السلمي وعدم حقده والاستمرار على دعوة الحوار سوف يحول موقف العنيف تدريجيا ًبحيث يتشرب الموقف تدريجياً بآلية المحاكاة ، حيث تحصل ( عدوى ) في الموقف ، سوف يشعر العنيف أنه قد يخسر المعركة ولكن بعد قليل سوف يتبين له أن طبيعة المعركة الآن مختلفة فليس هناك إلغاء للأرادات بل حالة ( التئام وتكامل ) في الأرادات . وبذا ينتهي الصراع ليدخل الاثنان في عملية بناء سلمية وفي جو ديموقراطي ، لإنه لاديموقراطية مع العنف ، فإذا أردنا حصد الديموقراطية في العالم العربي علينا بزرع روح السلام ونبذ فكرة العنف . *************************************** وفي النهاية أريد أن أقول للأخ السائل لقد كشف علم النفس الحديث أيضاً عن آليات عمل النفس في جو الصراع التقليدي ونوع الصراع الجديد الذي أطرحه ، إن صح تسميته بالصراع لإن نصفه من العالم القديم ونصفه الاخر من عالم السلم العالم الجديد ، الذي أخبر الله عنه الملائكة حينما رأت جانب العنف في الإنسان فقال لها مبشرا ًبالإنسان الجديد ( إني أعلم مالاتعلمون ) . عندما ينشب الصراع على طريقة ( كلاوسفيتز ) الضابط الألماني صاحب كتاب ( فن الحرب ) من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة ، أي إخضاع إرادة الخصم لإرادتنا . ياترى ماذا يتشكل عند هزيمة الطرف الاخر في الصراع والحرب ؟؟ هل نظن أن السلام يولد من جوف الحرب ؟؟ هل يمكن لشجرة الحنظل أن تنبت تمراً ؟؟ ولشجرة الحسك أن تنتج تيناً ؟؟ هيهات هيهات لما توعدون !!! . إن الحرب لم تقد إلى السلم مطلقاً ، وهي مظاهرة جوفاء فارغة وسطحية ومؤقتة في انتظار جولة الحرب الجديدة ، وهذا الكلام ينطبق أيضا ً على الشرائح السياسية المتصارعة داخل البلد الواحد ، وأصبع الإدانة توجه أيضاً إلى عالم الكبار الذين أوقفوا الحروب بين بعضهم ليس قناعة بالسلام ، بل خوف الدمار الذري !! إن المهزوم سوف يحمل الحقد في انتظار الثأر المخبأ في ضمير الغيب ! وسوف يكون الثأر مروعاً ومنتجاً بدوره لثأر مضاد ، وهكذا تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال ، في حين أن عدم هزيمة إرادة أحد الطرفين والدخول في تكامل من أجل توليد عالم جديد ليس فيه مكان للحقد هو السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم ، الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانت . إن القرآن لم يقص علينا هذا الأسلوب عبثاً في صراع ولدي آدم في فجر التاريخ الإنساني ، فهو طرح أسلوبين لاثالث لهما كأسلوب لحل المشاكل ، الأسلوب الأول هو إلغاء الآخر إلى درجة قتله ، والثاني الذي زكَّاه القرآن وأثنى عليه هو رفض الدفاع عن النفس من أجل كسر حلقة العنف الشيطانية ( ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) . ********************************** إن الثبات على هذا الموقف وحتى الموت سيجعل النهاية أن نفس القاتل يندم على فعلته ، لإنه سوف يكف أن يكون ( بطلاً ) بل سوف يتحول إلى ( مجرم ) . إننا بآلية ( الدفاع ) سنحرض عنده آلية الدفاع الغريزية فسيقتلنا وهو يقوم بعمل ( بطولي ) مبرر ؟! أما بعدم دفاعنا فسنحول عمله إلى ( جريمة ) !! والفرق كبير بين الشعور بـ ( البطولة ) والشعور بـ ( الجريمة ) ومذبحة الحرم الإبراهيمي مثلاً جعلت اليهود ليس في إسرائيل لوحدها بل حتى في مونتريال في كندا يمشون مطأطيء الؤوس خجلاً ، وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع ، عن أولئك الذين قتلوا صبراً ظلماً عزَّلاً مصلين ، بل إن تكتيك داوود القديم حيث يعيد التاريخ دورته بعد ثلاثة آلاف سنة ، حيث ينقلب داوود إلى المدرع ( جالوت ) = إسرائيل النووية الجديدة ، وينقلب جالوت القديم إلى داوود الجديد ، ليستخدم نفس المرقاع و ( الحجر ) لدحر جالوت الجبار ، أقول هذا التكتيك ( الداوودي ) وروح الشهادة ، أسهم في دفع القضية الفلسطينية أكثر من كل عمليات التفجير والاغتيالات والحروب العربية مجتمعة . يجب أن ندرب انفسنا على عدم قتل الاخرين ، بل الاستعداد للموت من اجل افكارنا إذا تطلب الأمر ، وبذلك نحول أنفسنا إلى ( شهداء ) والآخرين القاتلين إلى ( مجرمين ) ، وميكانيزم الشهادة عجيب ، لإن المقتول ظلماً هو الذي يتحول إلى قديس يعصر القلب ويدمع العين ويحرض إرادة الآخرين لسلوك نفس الطريق الذي سلكه صاحبه ، وراجع قصة أصحاب الأخدود تعطيك الخبر اليقين ، ومذبحة ( صبرا وشاتيلا ) حركت الضمير العالمي كله بل وحركت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم ، بسبب موتهم بغير دفاع ، خلافاً للقتل المتبادل في كل الحرب الأهلية اللبنانية . مع أن الذين قتلوا في الحرب الأهلية هم أضعاف أضعاف المذبحة ، كل هذا بسبب تحريك الميكانيزم الإنساني ، الذي يجب أن نثق به ، ونعلم أنهم مغروس في أعمق أعماقنا فطرتنا ويستيقظ في الحادثة الإنسانية . وجرت سنة الطبيعة أن البذرة حتى تنبت لابد من دفنها بالتراب أولا ً . إن القاتل سوف يندم في النهاية ( فكان من النادمين ) والندم هو التوبة ، لإنه لن يقدر أن يبقى تحت الضغط الساحق الماحق لفكرة كونه ( مجرماً ) ، إنه في النهاية سوف يحمل أفكارنا التي قَتَلنا هو من اجلها ، وبذا تدخل أفكارنا الخلود ؛ لإنها لم تمت مع موت صاحبها وهذا هو خلود الشهداء بخلود أفكارهم ومواقفهم ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ؟!! أنا صوت صارخ في البرية .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .. هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لإنها صوت الحفاظ على الجنس البشري (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) هوامش ومراجع : ( 1 ) تقول الأمثال العامية وهي معين لاينضب للثقافة اليومية ، أن ليلة الدخول في العرس ( ليلة الدخلة ) يجب أن يسيطر فيها وعلى مسرح العائلة ومنذ اللحظة الأولى الرجل ( الذكر الفحل ) ؛ فيقطع رأس القط من الليلة الأولى !!! تعبيراً عن الرجولة وسيطرة الذكر وانعدام المشاركة في البناء الجديد ، فهي صورة وأد خفي في الواقع لإنها إلغاء إرادة الأنثى التي تنتقم فيما بعد عندما يشيخ الذكر من خلال أولادها ، وهناك ثقافة عجيبة غير مكتوبة وهي قتل الفتاة غير المتزوجة في الانحراف الجنسي وترك الشاب بدون عقوبة ، مع أن الشريعة الإسلامية واضحة لأبعد الحدود في هذا الموضوع فهي لم تشرع القتل للفتاة ولاالسكوت للشاب بل الجلد للاثنين ، ومن هنا نرى أن الثقافة غير الناطقة والتي تدمغ سلوكنا اليومي شيء عجيب من حيث لاندري ، وإذا كان هذا المثل واضحاً جداً فهناك من الأمثلة ماهو أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء ، مما يتطلب مراجعة قاسية وكبيرة لثقافتنا التي تراكمت عبر العصور . ( 2 ) السادية تنسب إلى المركيز دي ساد وهي حالة التمتع بالأذى عند إنزاله بالآخرين ، والمازوخية عكس ذلك وهي التمتع بالألم عند استقباله من الآخر ، وهناك حالات عجيبة من الشذوذ الجنسي لها علاقة بهذا المركب ، بحيث أن صاحبها لايصل لقمة اللذة الجنسية إلا بالوضع المازوخي مثلاً بالضرب بالكرباج أو التقييد بالسلاسل وما شابه ، وفي العادة فإن المازوخي سادي وبالعكس ، وهذا معنى عجيب في اختلال النفسية الإنسانية وإصابتها بهذا الضرب من الأمراض . ( 2 ) تأمل الآية من سورة سبأ رقم 31 : (( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استُضعفوا للذين استكبَروا لولا أنتم لكنا مؤمنين )) ( 4 ) يراجع في هذا البحث القيم الذي كتبه المؤرخ البريطاني ( ج . أ . توينبي ) في كتابه الموسوم ( مختصر دراسة التاريخ ) تحت بحث انهيار الحضارات . ( 5 ) الآية من سورة الرعد ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) رقم 11 . ( 6 ) الآية من سورة آل عمران رقم 165 . ( 7 ) تروي النكتة السورية وهم يتندرون كثيراً على الحمصيين مع أنهم من أذكى وأطيب أهل سوريا ، وهناك تنافس بينهم وبين الحمويين بسبب قرب المدينتين من بعض ، أن حموياً طلب من نجار حمصي أن يصنع له باباً ، فلما جاء لأخذه كان الحمصي في الصلاة ، فما كان من الحموي إلا أن أخذ الباب فاشتد الحمصي في أثره لأخذ أجرته وثمن الباب فالتقيا في فلاة واسعة ، فما كان من الحموي إلا أن أغلق الباب ، فبدأ الحمصي في قرع ااباب : افتح الباب افتح ، والنكتة معبرة ولكننا في كثير من مشاكلنا ننسى كل الفلاة ونريد فقط الدخول من باب الحمصي !! . ( 8 ) الصحابي أو التابعي الذي حدثت معه هذه الواقعة المشهورة هو واصل بن عطاء وجاءت بشكل مفصل في كتاب الكامل في اللغة والأدب للمبرد 2 \ 122 ( نقلا ً عن كتاب أدب الاختلاف في الإسلام _ تأليف طه جابر العلواني _ إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي _ الطبعة الخامسة عام 1992 الموافق 1413 هـ _ ص 12 ) : (( يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج فقال واصل لإهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا : شأنك فخرج إليهم فقالوا : ماأنت وأصحابك قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده ، فقالوا قد أجرناك قال : فعلمونا فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا قال : ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن )) ( 9 ) تأمل الآية من سورة البقرة رقم 166 : ( إذ تبرأ الذين اُتبعوا من الذين اتبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) . ( 10 ) راجع البحث الممتع ( سيكولوجية واستراتيجية المقاومة اللاعنفية ) للكاتب ريتشارد غريغ ، وكتاب نحو اللاعنف لخالد القشطيني ، وكتاب تجاربي مع الحقيقة لغاندي ، وكتاب قانون الحب والعنف لتولستوي ، وكتاب العصيان المدني لهنري ثورو ، وكتاب نحو السلام الدائم لعمانويل كانت .
اقرأ المزيد
بانوراما القوة عبر التاريخ
مع فجر الحضارة أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب ، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة ، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة ، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لانتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع ، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود ، والعدم يلف الكون ، والانتحار ينتظر الجميع ، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة . لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة ، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة : ياأبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم ، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد ، أو سباق الماراتون ؟؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته ، كما اعترف للقاريء بأنني استغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة ، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام !! قلت لصديقي الدكتور عماد : هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون ؟ هز رأسه بالنفي ، قلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس ( دارا ) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون مما جعل العدَّاء اليوناني ( فيديبيدس _ PHEIDIPPIDES ) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين ( كم ) واسبرطة التي تبعد ( 224 كم ) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة وطلب المساعدة الاسبرطية من جهة أخرى ، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل ، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي . وصف المؤرخ ( ولز ) ( H . G . WELLS ) عبور كزركسيس ( XERXES ) لمضيق الدردنيل ( HELLESPONT ) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان : (( حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال ، قال عن نفسه إنه لسعيد ، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع فسأله عمه أرطبانوس فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك : أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة ، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين )) ( 1 ) وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الأغريق بحراً وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس ( MARDONIUS ) في معركة بلاتيا عام ( 479 قبل الميلاد ) براً على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس ، وكانت معركة بلاتيا ( PLATAEA ) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً ، لإنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية ، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الاغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها ، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة ؟ رحلة القوة نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح ، فهذا له بحثه الخاص ، والمقالة حصرت نفسها في تطورأداة القوة وطريقة استخدامها ، ومانريد تسليط الضوء عليه هو ( رحلة القوة ) كيف بدأت ؟ كيف نمت ؟ كيف تطورت ؟ وأين وصلت اليوم ؟ أي إننا نطبق منهج ( الجنيالوجيا ) ( GENIALOGY ) على علم الحرب (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))( 2 ) ، فهي محاولة لفهم كيفية بدء ( خلق ) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح ؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة !! . يمكن بللورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الأحدى عشر القادمة : 1 - المرحلة الأولى : يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي ، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما ، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً ( أسلوب لأقتلنك ) ، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة ، مقابلاً أسلوب ( القتل ) بأسلوب جديد مدهش هو ( التخلي عن القوة من طرف واحد ) ، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية .... ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر . 2 - المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة ، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي ( التعددية ) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات ( لأقتلنك ) ، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح ، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش ( الذكورية ) ، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة ، لإن مرض الحرب دخل في تركيب احلضارة فيما يشبه الخطأ ( الكروموسومي ) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا ( مرض ) . إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت ( دورة الحرب ) تأخذ نظماً تاريخياً ، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف . 3 - المرحلة الثالثة : أصبحت ظاهرة الجيوش ( الذكورية ) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة ( الدفاع ) عن المجتمع ، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وامبراطوريات التوسع إلى مايلي : أولاً : تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة . ثانياً : تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص ، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري . هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة ، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان ، أو الحرب ( العالمية ) القديمة بيم روما وقرطاجنة ، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب ، والثانية إلى ( العدمية ) فوق التراب وبذا ماتت الاثنتين عملياً !! (3) 4 - المرحلة الرابعة : كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين ( الأول ) : هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم ( هدنات ) لأخذ النفس ومتابعة الحرب ، من خلال قانون العنف والعنف المضاد ، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في القوة ، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد ( رد الفعل ) أي نصل لـلاتجاه ( الثاني ) : فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة ، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة ، فلو أردنا تصوير مايحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس ، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري ، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف ، أو هي حلقات الماء بألقاء حجراً فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية . أو انتشار موجات الصوت أو الضوء !! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة ، أو هي خدعة مؤقتة ، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس ( كذا ) 5 - المرحلة الخامسة : كان أمل القوى المتصارعة دوماً ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود ، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار ، ويلغي حتى وجوده الخاص ، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير ( أداة البطش ) وهكذا أغرى قديماً مثلاً الدولةَ الآشورية براعةُ الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع ( العربة الحربية الآشورية ) ذات الأنصال الباترة حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش ، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه !! ، وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة ، ومع امتداد هذه الذراع البطَّاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم ، فكلما زاد ( كمال ) أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب ، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا ، فحكمت بدون رحمة ، ودمرت ولم تأبه ، وسوَّت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب ، وحملت شعوباً بأكملها إلى معسكرات الاعتقال ، ومايزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع ( نبوخذ نصر ) . كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين ، إلا أن الحملات التي لاتنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور ، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لاتنتهي ، استنفدت في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ ( توينبي ) عن مصير النزعة الحربية ( الجثة في الدرع ) ( 4 ) 6 - المرحلة السادسة : تحت شعور ( السيطرة ) على مقدرات الناس تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن ، وسُخر العلم لذلك ، وهكذا حدث تناقض عجيب ، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب ، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له !! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافاً لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع ، كل ذلك تحت معلومات كاذبة ، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به ، وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب ، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئاً يذكر ( 5 ) ، بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان ، أنه لم يكن هو المستهدف به بالدرجة الأولى بل الإعلان الأمريكي لمرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية ، لإن اليابان كان في حكم المهزوم . ويقع الاتحاد السوفييتي في رأس قائمة الذين يجب إرعابهم ؟! . 7 - المرحلة السابعة : انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة ( الصدم ) و ( القذف ) والوقاية من خلال جهاز ( الدروع ) ، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية أثناء الهجوم كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة ، وكما يحدث تماماً أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس ، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة ، فالخيالة الخفيفة ، فالخيالة المدرعة ، وأخيراً العربات المدرعة . ( 6 ) وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم ، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع ، فراكب الحصان المدرع ، فراكب العربة المدرع ، والذي غلب ( كزركسيس ) في معركة ( بلاتيا ) كان نظام ( الفالانكس الأغريقي ) ( PHALANX ) عام ( 479 ) ق . م . الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ ( المطرقة الثقيلة ) ، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني والد ( الاسكندر الكبير ) الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة ، حيث تم صقل جهاز الفالانكس بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل ، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان ، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاماً لتطحن جيوش داريوس في معركة ( أربيلا ) عام 333 ق . م . استطاع الاسكندر بجيش لايتجاوز ( 47 ) ألف مقاتل أن يحطم جيوش ( داريوس ) كما تفعل المطرقة في صدم وعاء من الفخار !! فعلى الرغم من جيش داريوس الهائل والمكون من قرابة مليون من الجنود !! والفيلة والعربات ذات الأنصال ( العربات الآشورية ) فإنها لم تصمد أمام جهاز ( الفالانكس ) الأغريقي والمكون بشكل رئيسي من المشاة المدرعين ، المزودين بالحراب الثقيلة الطويلة ، في أرتال منظمة تعمل كالمطرقة في الاختراق وتتحرك في مجموعات تشبه كل مجموعة ( القنفذ ذو الأشواك ) . ثم جاء دور ( الليجيون - LEGION ) الروماني الذي تسيد الصراع لقرون لاحقة بفضل التطوير الجديد على نظام ( الفالانكس ) الاغريقي ، فأضاف السيف الاسباني القصير المعمر وأنقص طول الرمح ليطور الرمح الخاص به بطول قدمين ( PILUM ) ، إلا أن نظام الليجيونات الرومانية تم هزيمته واختراقه سواء بمبدأ ( الكماشة ) الذي طبقه هانيبال في معركة ( كاني - CANNAE ) ( 7 ) بحيث أصبح لفظ كاني دليلاً على الكماشة الفظيعة !! أو عن طريق الجرمان الذين طوروا ( الفأس مخترق الدروع - الفرانسيسكا ) أو أخيراً على يد الخيالة القوط في معركة ( أدريانوبل - ADRIANOPLE ) عام ( 378 ) م حيث تسيد راكب الحصان الذي يستخدم سلاح الصدمة ( الرمح والقوس ) للفترة التالية . ثم جاء الدور من جديد ليُلغى دور الخيالة الخفيفة وأقواسها الممتازة على الرغم من براعة أصحابها كما حصل لجيش ( العاصفة ) القديم المتمثل في جيوش جنكيزخان التي لم تقهر ، كان ذلك بواسطة ظهور الخيالة المدرعة والتي أرعبت الناس حينما ظهر الملك ( شارلمان ) يلمع بالحديد المخيف تحت اشعة الشمس حينما حقق انتصاره في معركة ( بافيا ) عام 814 م ؟! ثم جاءت هزيمة الدروع من داخلها فقد أثقلت الفارس إلى الدرجة التي لم يعد الحصان قادراً على حمل كل هذا الحديد ، وكان منظر سقوط الفارس المدرع من ظهر الفرس على الأرض يثير الشفقة لإنه لايعود بعدها يستطيع حراكاً كما يحصل مع الحيوان البحري إذا اخرج من الماء !! وعندما بدأ ترقيق الدروع فاجأتها أسهم القوس المتصالب والقوس الطويل في كلٍ من معركة ( هاستنجز ) عام 1066م تلك التي انتصر فيها الدوق ويليام واحتل فيها بريطانيا ، أو في معركة كريسي عام 1346 ميلادي حيث كان بإمكان السهم اختراق الدرع والفخذ وتسمير الفارس في سرجه الخشبي !! وعندما أراد الفلاحون السويسريون التخلص من الأقطاع الألمان طوروا سلاحهم الخاص بهم والذي يُرى في المتاحف الآن ( الهالبارد ) ذو نهاية ثلاثية : رمح للطعن وفأس لضرب الخوذة ثم خطاف لنتر الفارس من ظهر الحصان . ثم جاءت القفزة النوعية في تطوير الأسلحة النارية فمع البارود بطل دور قلعة ( الإقطاعي ) ومعه النظام الإقطاعي ، إلا أن البندقية الأولى وحاملها ( الموسكيتير ) وجد صعوبة في التكيف معها بين الحشي والإشعال والإطلاق لمرة واحدة ، حتى جاء القائد المبدع فريدريك لينجز انتصاره الرائع في معركة ( لوثن ) من خلال الاستخدام الجيد للسلاح الناري ، وأمكن تطوير أمد الرصاصة وقوة انطلاقها من خلال أمرين تطويل السبطانة و ( حلزنتها ) ، ولبطء الحشي في المراحل الأولى تم إضافة ( السونكي ) كي تأخذ البارودة وظيفة الرمح والبارودة بنفس الوقت !! واستمر تطوير نظام ( لأقتلنك ) ، وعندما أمكن الوصول إلى ( الماشين غن - الرشاش ) استطاع الجنرال كيتشنر دحر المهديين ورماحهم في السودان ، كما قُتل من خيرة جنود كيتشنر في الحرب العامة الأولى ستين ألفاً في إحدى الهجمات برشاشات الألمان المتمركزين في وحول ( السوم ) ، ويعتبر نابوليون المعلم الكبير في استخدام النظام المدفعي وبه شق الطريق لأمجاده في حروب أوربا قبل أن يهزم في واترلو ، ومع تطوير الطيران والرشاشات والمدفعية ثم الدبابات وأخيراً الغازات السامة بدأت معارك الحرب العالمية الأولى تتحول إلى مسالخ بشرية فعلية ، حيث قتل في إحدى المعارك في ( السوم ) في مدى أربعة أشهر مليون و265 ألفاً من الشباب الأوربي بين ألماني وفرنسي وبريطاني . ثم ( ختامها مسك ) ؟! اختتمت الحرب العالمية الثانية بتطوير الصاروخ والسلاح النووي ، وبتركيب الثاني على ظهر الأول لم يبق مكان على وجه الأرض ينعم بالامن ، وبذا انقلب السحر على الساحر . 8 ـ المرحلة الثامنة : كانت الحروب في العصور الوسطى تعتمد الجنود المرتزقة ، فأعدادهم قليلة والمعارك تعتمد الفروسية ، وتكاليف ساحات المعارك يبقى بين حملة السيف ، ومع الثورة الفرنسية والأمريكية حصل انعطاف في تركيبة الجيوش ، فأصبحت شعبية وبالتالي بدأ المدنيون يعانون من الحروب بشكل مباشر وغير مباشر ، وبدأ مايسمى ( الحرب الشاملة ) ، وأصبح أكثر الضحايا بين المدنين وهكذا تغيرت الصورة وانقلبت الآية . 9 ـ المرحلة التاسعة : في صباح يوم 16 تموز - يوليو من عام 1945 ميلادي وفي تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً ، حصل انعطاف ( نوعي ) في امتلاك القوة ، حيث وضع الإنسان يده على الوقود الكوني هذه المرة ، حيث تم تفجير قنبلة ( البلوتونيوم 239 ) التجريبية ، وكانت قوة التفجير التجريبية في ذلك الصباح البارد حوالي 15 ألف طن من مادة ت . ن . ت . ، وطبق هذا السلاح بكل أسف في إبادة البشر مثل فئران التجارب تماماً وكانت كل قنبلة ( مع أن كل محتواها لم ينفجر تماماً كما تبين بعد ذلك ) قد مسحت مدينة عظيمة بمعظم سكانها ، مع أن قدرة التدمير كانت متواضعة ؟! وقد يتساءل القاريء وكيف كانت متواضعة ؟ والجواب أن الجيل الثاني من السلاح النووي طور قوة التفجير حتى وصل بقنبلة تجريبية إلى ( 58 ميجاطن ) أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 3800 مرة ) ؟؟!! واعتمد الجيل الثاني على مبدأ الالتحام ( لمادة الهيدرجين ولذا سميت هيدرجينية ) وليس الانشطار ( انشطار مادة اليورانيوم 235 أو 239 ) كما كان مع الجيل الأول . وكان وراء القنبلة الأخيرة الاتحاد السوفيتي فأراد البنتاغون إنتاج قنبلة بقوة 100 ( مائة ) ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 6666 ) مرة ، وعند مناقشة الموضوع شعر الجميع أن هذا الطريق الذي يمشون فيه ليس إلا ( جنون مطبق ) و ( انتحار جماعي ) و ( تلويث للبيئة ) وتهديد جدي للإنسانية ، التهديد هذه المرة بالفناء الماحق المترع بالعذاب ، حيث لاتوجد كرة أرضية ثانية نجرب عليها أو ننتقل إليها بعد خراب الأولى ؟! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) . ثم مشت الرحلة إلى جيل ثالث من القنابل النووية ، ثم مالت النفوس إلى إنتاج ( تفاح ) من الحجم الصغير أي عيار كيلو طن واحد فقط كما هي مع الألغام المزروعة في الجولان السوري ، أو تلك التي تحمل في المعارك التي ينبغي تطويقها لتطلق من مدافع بسيطة ؟؟ هذه المعلومات هي يوميات بسيطة لاستراتيجي الدفاع والأمن والتسلح العالمي اليوم ، وكما ذكرتُ فهذه المعلومات هي لرفع مستوى ( الوعي ) عند إنساننا ، كي يدرك طبيعة العالم الذي نعيشه ، وأن عهد البطولة قد ولى ، وملف الحروب قد طوي ، وأن أشعار ( أبو تمام ) لم تعد تطرب ( السيف أصدق أنباءً من الكتب ) . 10 ـ المرحلة العاشرة : عندما كتب ابن خلدون في مقدمته عن عدم اعتماد الأخبار لمجرد نقلها عن الثقات ، بل يجب عرضها وقارنتها مع ( أصول العادة ) و ( قواعد السياسة ) و ( طبيعة العمران ) الخ ... قام بستة تطبيقات على ذلك ، منها أن جيش موسى في التيه لايعقل أن يبلغ ( 600 ألف مقاتل ) واعتمد ابن خلدون مشكلة الاتصالات في الجيش في تفنيد الخبر ، فكيف يقاتل جيش لايعرف طرفه مايحدث في الطرف الآخر ؟! وهو محق بالنسبة لعصره ، ولو بعث ابن خلدون في أيامنا الحالية لما تعجب من حملة ( بارباروسا ) التي قادها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي بخمسة ملايين جندي ، والسبب هو أن مشكلة الاتصالات أمكن حلها والسيطرة عليها . إن تحقق هذه الإمكانيات قفز بالحرب قفزة ( نوعية ) ، فمع التراكم المعرفي والتقنيات الحديثة ، لم تعد الحرب كائناً بسيطاً ، بل تحولت إلى كائن خرافي ، ولم تعد الحرب ( حرباً ) بالمعنى الحرفي للكلمة . يقول صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة الجنرال فيكتور فيرنر : (( إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل ؛ ذلك أن حجم التدمير وسرعته اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط ، وإنما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب ، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ، ووزنه 200 كلغ فإنه يبقى إنساناً بالرغم من أنه غير عادي . ولكن هل يمكن أن نعتبره كائناً بشرياً إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه عدة أطنان ؟؟ )) ( 8 ) 11 ـ المرحلة الحادية عشر : ثم رأت أعيننا شيئاً لم يخطر على قلب بشر في العالم القديم ، فلو قام من قبره الآن داريوس أو الأسكندر الكبير أو نابوليون أو جنكيزخان لفركوا عيونهم من هول الجبروت الذي امتلكه الإنسان المعاصر ، ثم سوف يتحول عجبهم إلى مايشبه الجنون فلايكاد يصدقون رؤية الظواهر التالية : الأولى : سقوط أعظم امبراطورية ، تملك أعظم سلاح امتلكته قط أي قوة مرت على وجه البسيطة حتى اليوم ، فالاتحاد السوفيتي هوى صريعاً لليدين والجنب ، وفي قدرته تدمير الكوكب الأرضي أربع مرات ؟! الثانية : صعود قوى لاتملك أي سلاح ، بل هي مجردة من السلاح ومشروط عليها أن لاتتسلح مثل اليابان وألمانيا ، وهذا يعلمنا أن الصعود لايحتاج لقوة ، فهل يدرك الأفغانيون هذا الدرس من التاريخ ؟! أو هل تفهم الحركات الإسلامية المتلمظة للقوة منطق التاريخ ؟؟! الثالثة : إن المشكلة التي تواجه مالكي البلوتونيوم والسلاح النووي اليوم هو كيفية التخلص منه وليس تركيبه ؟؟ إن هذه المرحلة التي عاصرناها شيء عجيب حقاً فقد رأينا ثلاث أمور كل واحدة أعجب من أختها ؛ رأينا توقف ظاهرة الحروب عند من يملك العلم والمعرفة واستمرارها عند المتخلفين ، ورأينا اتحاد الأوربيين الذين اقتنعوا بأن الحرب لاتحل المشكلات بل تخلق المشكلات سواء منتصراً أو مهزوماً ، ورأينا انتهاء الحرب الساخنة والباردة ووُدعت الأخيرة بجنازة خاشعة في باريس إلى المقبرة عام 1989 م . فإذا استطعنا هضم الأفكار السابقة في مجمل بانوراما القوة فيمكن طرح الأفكار التالية : 1 ـ تقول الفكرة الأولى : إن الجنس البشري جرب حظه من الحروب وامتلاك القوة ، ووصل ليس فقط إلى نهاية الطريق المسدود ، بل مشى كالأعمى يتلمس الطريق في هذا الكهف المظلم ، حتى لمس الجدار الصاعق الحارق فاحترقت يداه فهو مايزال يعالج يديه المحروقتين ، وسمع دمدمة الشياطين في جهنم ( الفناء النووي ) خلف الجدار !! وهذا أكثر من درس للمغفلين والحمقى الذين يريدون دخول مخاضات عبرها غيرهم ، ووصلوا إلى هذه النتيجة من عبثية الحرب وعدم جدوى امتلاك الأسلحة بما فيها خرافة السلاح النووي ، ولعل عدم امتلاك العرب لهذا الصنم سوف يوضع في تاريخهم كرواد إنسانيين . 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن الذين وصلوا إلى نهاية الرحلة واحسوا بعدمية هذا الاتجاه أخذوا يرجعون عنه ، ونحن مثلنا كما يقول المثل السوري ( يطعمك حجة والناس راجعة !! ) فإذا فات موسم الحج أبينا إلا أن نقيم كل يوم موسم حج للعنف والقوة ؟! وهذا يوحي بأن هناك فريق من الناس خارج التاريخ والجغرافيا ، وتشوش عليهم الفرقعات التي تحدث هنا وهناك ، بل يمضي بعضهم إلى اعتبار أن الحروب ستبقى إلى قيام الساعة ، والعالم المعاصر يحتفل بتدشين إغلاق هذه الدكاكين العتيقة . 3 ـ الفكرة الثالثة تقول : إن نفس القوى العظمى التي أدركت هذه الحقيقة تحاول أن تعمي على عيون وعقول الآخرين كي ( تزغلل ) الرؤية عندهم ، وهكذا مازالت أسواق الأسلحة قائمة ( بما فيها البلوتونيوم المهرب ) وهم يدركون تماماً أنهم يبيعوننا عتاداً ميتاً ولى وقته وانقضى ، ويفعلون هذه من أجل المحافظة على امتيازاتهم في العالم ، فالعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين منها 10% تأكل خيرات 90% وشريحة مقلوبة بنفس النسبة أي تشكل 90% ولكنها تمنح 10% من خيرات العالم ؟؟!! وبالطبع فهذا وضع مرضي يجب التخلص منه ، وهي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى ، فسوف نبقى ندفع فواتير ( نعال الجمال ) حتى نرشد ( 9 ) 4 ـ والفكرة الرابعة تقول : إن الذين يريدون إشعال الحروب يخطئون مرتين وليس مرة واحدة ، الأول أنهم انقادوا ودخلوا الحقل الذي لايسيطرون عليه ، بل يسيطر عليه الآخر ويعرف أسراره ، فنهاية الحرب لن تكون بأيديهم ، بل بيد من يملك تمويلها ، فينصر من يرى أن من مصلحته نصره والعكس بالعكس ، وهذا تناقض عجيب يعيشه العالم هذه الأيام حيث لايقاتل من يستطيع ، ويقاتل من لايستطيع ولايملك مقدرات نهاية الحرب !! وهكذا فإن من يدخل الحرب يدخل مكان اللعبة التي لايعرف أسرارها بل يتحول هو إلى أحد رموز اللعبة ، وللخلاص من هذا وجب إما الخروج الكامل من اللعبة أو عدم دخولها ابتداءً .. من كان له أذنان للسمع فليسمع . بقلم الدكتور خالص جلبي هوامش ومراجع : ( 1 ) معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) - هـ . ج . ولز - المجلد الثاني - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ص 367 . ( 2 ) سورة العنكبوت - الآية 20 ( 3 ) راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر في كتابه أفول الغرب عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما - الجزء الأول ( 4 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ - جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية ( 5 ) كشفت مجلة صورة العلم الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر ، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت ، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء ، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار _ لحسن الحظ _ في موضوع السلاح النووي ، ولكن بنفس الوقت فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ ف 1 وف 2 الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب الثانية ( 6 ) راجع في هذا كتاب الأسلحة والتكتيكات - ونترنغهام وبلاشفورد- سنل - ترجمة المقدم حسن بسام - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 7 ) معركة كاني عام 216 قبل الميلاد سحق فيها القائد القرطاجي جيشاً رومانياً ضخماً وبلغ قتلى الرومان فيه حوالي خمسين ألفاً من أصل ثمانين ألف مقاتل ، واعتمد مبدأ الكماشة على تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين حيث ينسحب القلب إلى الداخل وينفرج الجناحان ، فيجر معه الجيش الروماني إلى الداخل في الحين الذي تطبق فيه الأجنحة من الجانبين والخلف وبالتالي يتحول الجيش المقاتل إلى كتلة مختنقة تقاتل فيها الحافة فقط ، ويتحول جيش هانيبال إلى مفرمة لحم !! ( 8 ) الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير - الجنرال فيكتور فيرنر - ترجمة هيثم كيلاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 21 ( 9 ) يروى أن وصياً كان يعرض على القاصر كل سنة أمواله وفي نهاية الحساب يقول : وقد دفعنا يابني ثمن كذا وكذا لنعال الجمال ، ففي إحدى السنوات قال الغلام : ولكن ياعماه ماأراه أن الجمال لاتنتعل الأحذية ، قال الوصي أردت امتحانك فقد رشدت فهذه أموالك أعيدها إليك . والفرق بيننا وبين القصة أننا لن نسترد مادفع ثمناً للأحذية .
اقرأ المزيد
خيار شــمشــون الجبار !! (السلاح النووي الإسرائيلي بين الاسطورة والحقيقة)
لم تولد فكرة السلاح النووي الاسرائيلي في ( المدراشا )( 1 ) بل ولدت في ( الفانين زي )( WANNENSEE ) ( 2 ) . لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل ، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م ، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م ؛ حينما خطط ( هايدريش ) الرهيب مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليون من اليهود في أوربا ، ولم يولد الجنين النووي الاسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا ، ومن الغريب _ وهذه آلية معروفة في علم النفس _ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته ، فهذه مأساة إسرائيل ( اسبرطة ) الجديدة ، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني ( تيطس ) ( 3 ) ومحارق النازية في ( آوسشفيتز _ AUSSCHWITZ _ ) و ( تيريبلنكا ) . فالنازيون خططوا لـ ( الحل النهائي ) الجرماني ، ومؤسسوا الصهيونية خططوا لـ ( الحل النهائي ) الاسرائيلي خيار شمشون . ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم فلنسمع قصته المثيرة . قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلاً _ وهو محق في هذا _ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن ( يفهمون ) في العالم العربي : يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوباً من القهوة !! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب ، هل تنظر متفرجاً بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء ؟ وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق ( المجنون ) من أجل الردع والتوازن ، أي أنه ينصح بالمضي في نفس الطريق الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد ( العتيق ) . وعقب الزميل الثاني : الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل ، أما الزميل الثالث فأضاف أنا مع أفكار السلام ( النظرية ) ولكن الواقع أثقل في الميزان ، والذي أوصل أوربا إلى السلام هو الردع المتبادل ، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل . ************************************* هذه الأفكار التي أنقلها إلى القاريء تمثل ( عينة ) من فهم العالم الذي نعيش فيه ، كما تمثل تشرب البيئة لـ ( ثقافة العنف ) التي يستحم فيها العالم جميعاً ، هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلاً لأشخاص بأعينهم ، بل إفراز ثقافة ، وتعبير وسط اجتماعي ، وفهم لطبيعة علاقات البشر ، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه . لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين _ فضلاً عن السياسيين _ لزيادة معلوماتهم ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة ، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث ، هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقاريء العادي كي تمنحه ( وعي ) العالم الجديد الذي نعيش فيه ، مسارات القوة ، تطور التكنولوجيا النووية _ بما فيها الاسرائيلية _ دورة التاريخ وعبرة الماضي ، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم . ***************************************** لايمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه ، معلقاً في الفضاء ، مفصولاً عما حوله ، مالم يدخل ضمن ( القانون الجدلي ) الخاص به ، ضمن شبكة علاقاته ، فكل ( حدث ) هو ( نتيجة ) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو بنفس الوقت ( سبب ) لما سيأتي بعده ، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات ، ولايشذ عن هذا القانون بل ويصدق عليه أكثر حدث ( شمشون الجبار ) الذي بين أيدينا ؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال ( ايرنست بيرغمان ) و ( بن غوريون ) و ( عاموس ديزحاليط ) ولدوا وعاشوا في ( الهولوكوست ) ( 4 ) ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى ، وحذرهم غير متناه ، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود ، بما فيها الغرب ممثلاً بفرنسا التي بنت لهم مفاعل ( ديمونا ) ونظام الصواريخ ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الاسرائيلي ( 5 ) ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء . وأكثر من هذا فحتى مشروع ( مانهاتن ) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من ( شبح ) أن هتلر يُصَنِّع السلاح النووي ، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئاً يذكر ، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك ( 6 ) وكان في مشروع ( لوس آلاموس ) _ المخبر الذري الذي ضم الفيزيائيين النوويين في ذلك الوقت _ طائفة من العلماء اليهود الذين اندفعوا أيضاً للعمل تحت ضغط هذا الشعور ، يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو ( روبرت اوبنهايمر ) ، ولاننسى أن نذكر أن نفس آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت ، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي ( سيلارد ) الهنغاري الهارب ، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام ، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله : الرياضيات خالدة والسياسة زائلة !! . ********************************** لابد قبل الدخول في البحث من شرح كلمة ( خيار شمشون ) ( SAMPSON OPTION ) ومن أين جاءت ؟ فهذا المصطلح تم طرحه في لقاء ( المدراشا ) الذي أشرنا إليه في قبو الموساد ( الاستخبارات الإسرائيلية ) حيث تم استعماله في ذلك اللقاء التاريخي الحاسم ، وأصل هذه الكلمة من العهد القديم ( التوراة ) وخلاصتها أن شمشون كان جباراً عاتياً ، وكان يكفيه أن يقتل ألف شخص بلحي ( فك ) حمار ، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة ، فأرسلوا له فتاة جميلة هي ( دليلة ) كي يُغرم بها ويَدُلَّها على قوته ، ويفضي إليها بسره ( قوتي في خصائل شعري السبعة فإذا حُلقتْ ذهبت قوتي ) فلما نام على ركبة دليلة خرج الكمين فقص شعر شمشون ليتحول إلى قط وديع ، وإمعاناً في إذلاله أعموه بأن سملوا عينيه ، ثم سَخَّروه في الطحن بدلاً عن حمار الرحى ، ثم عرضوه لكل الإهانات الممكنة أمام الناس ، وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لايعلمون (( وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح ، نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون ، فدعا شمشون الرب وقال ياسيدي الرب اذكرني وشددني ياالله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ، وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره وقال شمشون : لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته )) ( 7 ) فمغزى هذه القصة إذن هي المثل الشعبي المعروف ( علي وعلى أعدائي ) أي أن مصممي السلاح النووي الإسرائيلي أدركوا من نقطة البداية ، أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط ، هي لحظة التهديد بالفناء ، فإذا واجهوا خطر الفناء فإنهم لن يعيدوا قصة ( الماسادا ) قصة الانتحار الجماعي مرة أخرى ، هذه الفكرة كانت ومازالت محور التفكير الاسرائيلي ( لن تتكرر مآسينا مرة أخرى ) و ( لن تتكرر محارق آوسشفيتز ) ، هذه هو ( الدينمو) الفكري ، والنظارة اللونية التي ترى إسرائيل بها العالم . ******************************** لنسمع القصة من بدايتها إذن ............ إن الذي دشن القصة لم يكن ( ارنست ديفيد برغمان ) ولا ( أهارون كاتزير ) ولا ( شالحفين فراير ) الأدمغة العلمية اليهودية ، الذس دشن المشروع فعلاً هم ( هملر ) و ( هايدريش ) و ( أوزفالد بول ) !!! ( 8 ) ففي صبيحة يوم بارد هو العشرين من يناير كانون ثاني عام 1942م في ألمانيا النازية وعلى ضفاف بحيرة برلين ، تم لقاء على غاية الأهمية بين أقطاب الحكم النازي ، هذا اللقاء السري الذي أعد بعناية فائقة وبسرية مطلقة إلى درجة إنه لم يخلف وراءه أية مخطوطات أو وثائق ورقية ، كان قائد اللقاء ( هايدريش ) مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو والحرس الخاص ( اس اس )( SS ) في هذا اللقاء تم طرح ( فكرةً ) ترتعد لها المفاصل ، وهي تنظيف أوربا من كل يهودي ( 9 ) وهذا يحمل ضمناً القضاء على حوالي ( 11 ) مليون يهودي موزعين على الشكل التالي : ( 131800 ) يهودي مازالوا يقيمون في أراضي الرايخ الأصلية ، وخمسة ملايين في الاتحاد السوفيتي ، وثلاثة ملايين في أوكرانيا ومليونان وربع في بولندة وثلاثة أرباع المليون في فرنسا وثلث مليون في بريطانيا ( 10 ) . كتب ويليم شيرر عن هذا اللقاء : (( وقد دعا هايدريش إلى اجتماع ضم ممثلي كافة الوزارات المختلفة والوكالات المتفرعة عن الحزب النازي والفرقة لخاصة ، وعقده في وانسي ضاحية برلين الجميلة في العشرين من كانون ثاني عام 1942م ، وقد لعبت الوقائع المدونة لهذا الاجتماع دوراً مهماً في بعض المحاكمات الأخيرة التي أقيمت في نورمبرغ ، وعلى الرغم من النكسات الراهنة التي منيت بها القوات المسلحة الألمانية في روسيا فقد اعتقد الموظفون النازيون أن بلادهم قد كسبت الحرب وأن ألمانيا ستتحكم عما قريب في جميع انحاء أوربا بما فيها انكلترا وإيرلندا ، ولهذا فقد أبلغ هايدريش هذا المؤتمر الذي ضم نحواً من خمسة عشر موظفاً من كبار الموظفين أن نحو من أحد عشر مليوناً من اليهود سوف يشملهم الحل النهائي للمشكلة اليهودية في أوربا )) ( 11 ) هذه الأجواء هي التي فرخت السلاح النووي الإسرائيلي قبل أن يولد في صحراء النقب ، فأفران الغاز في آوسشفيتز هي التي قادت إلى أفران المفاعل النووي في ديمونا . ولكن جرت العادة أن العقل يتعطل عن التفكير في الرعب الشديد والحزن الشديد وهذا ماحصل للعقل اليهودي المعاصر المحاصر بذكريات الإعدام الجماعي وغرف الموت بالغاز !! ****************************** لم يمر اجتماع ( المدراشا ) بدون معارضة سواء أخلاقية أم تقنية ، خاصة من أولئك الذين عاشوا ( الهولوكوست ) فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك ؟! وقد صدرت عدة أفكار معوقة لفكرة الانطلاق النووي ، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول ( بلغت 15000 دكتوراة ) وأفضل الأيدي الماهرة ، وزبدة الصناعات ، وجبلاً من الدولارات ، ثم في سبيل سلاح لن يستخدم ؟؟ هل هناك حماقة أكبر من هذا ؟! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ورقة تقدم بها دماغ مهم هو ( بنيامين بلومبرغ ) تفيد أن العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاماً ، كما ورد عائق تقني آخر برز في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي فضلاً عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية . لذا انتهى الاجتماع على ثلاث خيارات بين متابعة البحث العلمي ، وإيجاد قطع تجميع السلاح ، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم ؟؟ وهذا الذي كان . ************************* بدأ حفارو القبور النوويين بالعمل الصامت في إزاحة مئات الأطنان من التربة في صحراء النقب لايراهم إلا الغربان في السماء ، وحشرات النهار وأفاعي الليل البهيم ، يبنون طبقاً تحت طبق حتى بلغت ثمانية . كانت التقنية الفرنسية تصب عصارة فكرها وأحدث تقنياتها ، وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة ( يو - 2 ) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس ، ولكن الإدارة الأمريكية كانت بين من يغض الطرف ومشجع ومتذمر إلا أنه لم يكن هناك أمر لإيقاف هذه العمل أو التأكد منه بجدية . وفي عام 1986 روى رجل اسمه ( فانونو ) كان يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل ( ديمونا ) وزعم أن عنده صوراً التقطها بنفسه ( 57 صورة ملونة ) لكل أجزاء المفاعل ، عندها ادرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطاً بعيدة في إنتاج السلاح النووي ، وكلف هذا فانونو أن تصطاده الموساد في لندن ويحكم بالسجن لمدة 18 عاماً . وفي عام 1991 نشرت مجلة الشبيجل الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ ( الرحم النووي ) في ديمونا . بعد الهجوم الثلاثي على مصر وانسحاب إسرائيل من سينا ، قايضت فرنسا قبول إسرائيل بقبول الانسحاب مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل ( ماركول ) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي الرون . وبدأ المشروع يغلفه السرية والصمت المطبقين . وفي أوائل عام 1968 بدأ إنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كغ اسبوعياً ، وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج مالايقل عن خمس قنابل نووية سنوياً وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى . ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت اسرائيل في مطلع عام 1970 مالايقل عن عشرين رأس نووي ، وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي ، ثم مشى التطوير في نفس بانوراما القوة الدولية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة سواء في اتجاه التكبير أو التصغير . وكما كان المفاعل يبنى تحت الأرض ، كان هناك وفي نفق آخر في منطقة ( هربات زكريا ) وبمساعدة تقنية فرنسية ( شركة داسو ) يتم تطوير نظام الصواريخ (( ذهل يغال ألون لما رآها وصرخ : كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وهاهي اسرائيل تبني صواريخ نووية ، إننا شعب عظيم ، لقد انبعثنا أحياء بعد أن كنا أمواتاً ، في جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين . إننا سبارطة عصرنا )) ( 12 ) هل ماقاله يغال ألون صحيحاً ؟؟ في الواقع لقد تحول داوود إلى جوليات المدرع بعد مرور ثلاثة آلاف سنة !! ************************* وفي الوقت الذي كانت الرؤوس النووية تنضج في إسرائيل لتحمل من النقب إلى حيفا حيث تركب تهيأة ليوم الفصل ؛ يوم شمشون الجبار ، كان العالم يمضي في طريق القوة بكل عنف ، وإذا أردنا أن نأخذ بانوراما للاستراتيجية النووية الجديدة ، فإنها تبدأ مع قنبلة هيروشيما ، حيث تم إلقاء قنبلة انشطارية من قوة ( 15 ) كيلو طن ، أي ( 15 ) ألف طن من مادة ت . ن . ت شديدة الانفجار ويمكن تقسيم رحلة الصعود النووي إلى المراحل التالية : 1 - كانت البداية مع السلاح الانشطاري بشكليه ( اليورانيوم ) و ( البلوتونيوم ) ، ويتم استخلاص اليورانيوم ( 235 ) من خام اليورانيوم ( 238 ) إلا أن البلوتونيوم ( 239 ) هو تركيبي وتم الوصول إليه من خلال المفاعل النووي الذي نجح في إنشائه للمرة الأولى الإيطالي ( انريكو فيرمي ) والقنبلة التي أُلقيت على هيروشيما كانت قنبلة يورانيوم ( 235 ) ( سميت الولد الصغير وحجمها بقدر اسطوانة الغاز الكبيرة ) وبدون تجريب ، في حين أن قنبلة ناغازاكي كانت قنبلة البلوتونيوم ( 239 ) وأخذت اسم ( الرجل السمين ) بسبب انتفاخها ، وبلغ وزنها 2 طن واختلفت تقنيتها تماماً عن قنبلة الولد الصغير ، وهي التي جربت في صحراء نيو مكسيكو ، في منطقة ( ألاموجوردو ) وأعطيت لقب ( ترينتي ) أي الثالوث المقدس !! وكانت القدرة التدميرية لاتزيد عن عشرين ألف طن من مادة الـ ت . ن . ت . لكلا القنبلتين ، ومع تركيب المفاعل النووي أصبح هذا ( التنور ) يخرج من ( الأرغفة النووية ) مايشاء !! فلاغرابة أن أصبح مخزون الدولتين العظميين مايزيد عن خمسين ألف رأس نووي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي عدة مرات !! 2 _ مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفيتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949 وأعطاها لقب ( جو 1 ) نسبة إلى جوزيف ستالين ، فجُن جنون البنتاغون واستدعوا ( ادوارد تيللر ) للمضي في مشروع جهنمي كبير لاتعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء ، في الحين الذي تم استدعاء الرأس العلمي ( روبرت اوبنهايمر ) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيت وتهمة الجاسوسية . وفي آذار من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن ( أقوى من قنبله هيروشيما بألف مرة !! ) فقنبلة هيروشيما متواضعة جداً فهي من عيار ( 18 ) كيلو طن أي ألف طن ، أما هذه فهي من عيار ( مليون طن ) من المادة المتفجرة ، كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود ، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق ( درجة ثالثة ) حتى بعد 45 كم من مركز الانفجار ؟! وتُوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفييتية من عيار 58 ميجاطن أي أقوى من قنبلة هيروشيما ب( 3800 ) مرة !! وفكر البنتاغون بمشروع أشد هولاً ( تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن ) ، ولكن الطرفان شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق !! 3 - في المرحلة الثالثة تم الوصول لما اعتبروه قنبلة نظيفة وماهي بنظيفة ( القنبلة الشعاعية النيوترونية ) حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية ( البشر ) دون المعدات والأبنية والمنازل لإنها أثمن من الإنسان !! 4 - في المرحلة الرابعة بدأوا في اتجاه تصغير القنبلة فبدلاً من الكيلو طن ؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم انتاج قنابل من عيار 30 - 100 طن من المادة المتفجرة ، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما ، أي بروز السلاح النووي التكتيكي ، ويمكن لهذه ( التفاحات ) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها ، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي ، بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة ، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة ( التقليدية ) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام ( بدايات ) السلاح النووي ( التكتيكي ) ليصل في النهاية إلى السلاح النووي ( الاستراتيجي ) تحت مبدأ ( التصاعد الآلي ) الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال ( بيير غالوا ) ( 13 ) 5 - كانت الحاجة ماسة إلى ( نظام نقل ) للرأس النووي ، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم ، والتي كان قدوضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيداً عن قاذفات الحلفاء ، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي ، ومع إرسال ( اسبوتنيك ) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي أصبح بالأمكان حمل رأس نووي بدلاً من قمر صناعي !! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات ، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق !! فالغواصات النووية السوفيتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والاطلنطي كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 - 6 دقائق . 6 - كان التكتيك الأول هو ( الهجوم ) فتحول إلى ( الدفاع ) ثم بطل كلاهما وشرح ذلك كما يلي : ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم ، ولكنن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب ، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم ، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما ً عليه ، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاسترتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها ، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب ، فبرزت عقيدة ( الانتظار النووي ) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي ، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي !! ولكن بأربعة شروط : 1 - الصواريخ المضادة المحمية 2 - التمكن من اختراقات العدو المهاجم 3 - الكمية الكافية 4 - العمل الآلي . ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة الأول : ( السيلو ) أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى ، وليس هذا فقط بل خرسانة مسلحة لسبعين متر ويزيد تحيط بالصاروخ النووي ، بحيث لاتؤثر فيه حتى الزلازل ، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة ( البئر ) النووي المختبيء في الأرض وبقنبلة هيدرجينية ، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم ، ومن هنا ندرك عمق كلام ( شينتارو ايشيهارا ) الياباني الذي كشف النقاب في كتابه ( اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا ) حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان . الثاني : المنصات المتحركة والثالث المحمول في الغواصات النووية . ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتباً وأفنوا اعمارهم يمكن عرض حزمة الأفكار التالية : 1 - الفكرة الأولى تقول : إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية ، ورحلة القوة النووية . وأن العصر ( الحراري النووي ) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ، ولا عصر المدفع والبارجة ، والذي تفطن لهذا هم العلماء ولا السياسيون ، لإن كثيراً من السياسيين لايرون أبعد من أرنبة انفهم ، وهو ماانتبه إليه غورباتشوف في كتابه ( البيروستريكا ) فطرح فكرة ( الانتحار النووي ) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أُهاجِم أو أُهاجَم يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة ، وإن في قصة ( شيرنوبيل ) لعظة . وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي ، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون ( المعرفة ) سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه ، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب ، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين ، عجزاً عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها . 2 - الفكرة الثانية تقول : أصبح السلاح النووي مثل ( الصنم ) الذي لايضر أو ينفع ، فالناس يعظمونه ويهابونه ، وهو سلاح ليس للاستخدام ، ثبت هذا في أحلك الظروف وأكثرها احتياجاً ، مثل حرب ( كوريا ) و ( فيتنام ) ، وماحدث مع بني إسرائيل في هذا الصنم هو ماحدث مع السامري الذي أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى !! 3 - الفكرة الثالثة تقول : أن المضي في رحلة التسلح ستنتهي بالإفلاس والارتهان للآخرين كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي يفكك سلاحه الذري ، ويبيع البلوتونيوم ، ويصدر علماء الذرة ، وأن الذي طلَّق القوة هو الذي يبني المستقبل ويكتسح الأسواق كما في نموذج اليابان . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال ( معركة حضارية ) ، فالانتاج النووي يحتاج لقاعدة تكنولوجية علمية متقدمة ، وهزيمة الجيوش العربية المتكرر أمام اسرائيل هي هزيمة الشرق أمام الغرب المتفوق تكنولوجياً ، لإن إنجاز اسرائيل وعقول اسرائيل هي غربية كانت ومازالت ، وليست اسرائيل أكثر من امتداد ( جيب ) غربي للمنطقة . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن مشكلة العالم العربي هي ليست اسرائيل بالدرجة الأولى فهي ليست أكثر من ( ميزان حرارة ) لكشف حرارة الجسم العربي المعتل ، ومايخيف أكثر من الخراج الإسرائيلي وسلاح شمشون هو النزاع العربي العربي ، وفي اللحظة التي يشعر فيها الغرب أن العالم العربي نهض كما نهض الصين فسوف يتخلى عن فورموزا الشرق الوسط . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إذا كانت هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة فلماذا تنتج ؟ هل يجهلون أنها لاتضر ولاتنفع ؟ أغلب الظن أنهم يعرفون كل أبعاد اللعبة ، ولكن الذي لايعرف ينقلب إلى الأشياء المسخرة ، والذي يعرف قانون تسخير الأشياء هو الذي يتسخر له الكون أشياؤه وأناسيه يقول المفكر ( فؤاد زكريا ) في كتابه ( خطاب إلى العقل العربي ) : (( ويظل بعد ذلك سؤال محير هل هم يجهلون هذا ؟ أغلب الظن أنهم لايجهلون ، وإنهم على وعي بأن الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة ( عقلياً ) ، مادامت تؤدي إلى عكس المقصود منها ، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر ، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب الحرب ، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة ، أما إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب فسوف يكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه ، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج ( لعب ) مميتة لن يستخدمها أحد . وأغلب الظن أن هذا بعينه هو المقصود : فأسلحة الدمار الشامل تنتج من أجل الإنتاج ، لامن أجل الاستخدام ، لإن الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد ، أما الاستخدام فسيكون الجميع خاسرين ، ومن هنا كان واجبنا نحن شعوب العالم الثالث أن نحدد موقفنا من هذه المسألة مادمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة ، لإننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسية من حقائق الكون) (14) الهوامش والمراجع : ( 1 ) ( المدراشا ) مجمع الموساد ( الاستخبارات الاسرائيلية ) جنوب تل أبيب ( 2 ) ( الفانن زي _ WANNENSEE _ ) بحيرة برلين وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية لاستئصال اليهود من العالم ( 3 ) ( تيطس ) القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م ( 4 ) الهولوكوست أصبح تعبيراً معروفاً عن محرقة اليهود في التاريخ وبخاصة معسكرات الإبادة النازية ( 5 ) في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الاسرائيليين قال لهم : إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة وأنها ثانياً لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل وثالثاً يعرف الاتحاد السوفييتي ذلك . راجع سيمور هيرش \ خيار شمشون مكتبة بيسان ص 140 ( 6 ) يراجع في هذا كتاب ( سجناء العالم الذري ) الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم ( اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم ( ايرفين ) والحقيقي في مشروع ( مانهاتن ) هو ( روبرت ) من أن الألمان انتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان !! ولم يثبت هذا تاريخياً ( 7 ) سفر القضاة - العهد القديم ص 408 - 409 وقصة الماسادا انتحر فيها 900 من اليهود المحاصرين دفعة واحدة أثناء هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيطس عام 73 بعد الميلاد ( 8 ) ( هملر ) رئيس الجستابو الاستخبارات النازية و ( هايدريش ) مساعده الأيمن و ( أوزفالد بول ) الحاكم النازي البولندي وأحد الرؤوس الإجرامية في الحرب العالمية الثانية ، كانت نتيجة الثلاثة بالانتحار للأول والاغتيال للثاني والشنق للثالث راجع تاريخ ألمانيا الهتلرية - وليم شيرر - الجزء الرابع ص 52 ، وأما العلماء الثلاثة اليهود المذكورين فهم الرؤوس العلمية التي تسلمت رئاسة المشروع النووي بالتالي ( 9 ) استخدمت الكلمة الألمانية بالضبط ( تنظيف ) = SAUEBERUNG ) وهناك من فلول النازيين اليوم من نسمع خبر إحراقهم للأجانب كما هي في حادثة إحراق العائلة التركية أخيراً في ألمانيا !! ( 10 ) تاريخ ألمانيا الهتلرية جزء 4 ص 63 ( 11 ) شركة ( سان غوبان ) الفرنسية هي التي بنت المفاعل النووي الاسرائيلي بقوة 24 ميجا واط ، وكان يعمل بقوة أربع إلى خمس أضعاف طاقته أي حتى 120 ميجاواط أما شركة ( داسو ) فقد بنت لهم نظام الصواريخ _ راجع كتاب سيمور هيرش \ خيار شمشون ( 12 ) سيمور هيرش ص 138 ( 13 ) كتاب استراتيجية العصر النووي - الجنرال بيير غالوا \ ترجمة اللواء الركن محمد سميح السيد \ دار طلاس \ ص 10 .( 14 ) عن كتاب ( خطاب إلى العقل العربي ) - فؤاد زكريا - كتاب العربي - ص 164 .
اقرأ المزيد
بين السرطان البيولوجي والسرطان الاجتماعي (2)
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه ، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض ؟ ( 1 ) هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ ( الخبث ) في تصرفاتها كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم ؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر ؟ وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة ؟ بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية ، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة ( الاجتماعية الكيمياوية والشعاعية بل والجينية ) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق ؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة ؟ بل هل هناك بالأصل ( موت اجتماعي ) فتموت الأمة كما يموت أي فرد ؟ وإذا وجد فكيف تتجلى صورته ؟ دعنا نغوص في أعماق البحث الفيزيولوجية والاجتماعية على حد سواء لنرى تجليات العلم الحديثة في هذا الصدد ؟ دخل علي الزميل ( أبو حسن ) وقد استشاط غضباً ؛ فارتفع صوته وتهدجت نبراته ، على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد ، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم ، وغرر بهم ، تحت سراب الربح الوفير ، فيأتيهم رزقهم رغداً ، وإلى بيت بابهم بالعشي والإبكار ، وهم مستلقون على ظهورهم ، يأكلون السمن والعسل ، وهكذا قام ( الساحر ) الاقتصادي الجديد بالمعجزة الألمانية الاقتصادية الثانية ؟! وأراح العباد من همِّ المستقبل واستثمار الأموال ، فهرع الناس إليه زرافات ووحدانا ، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي ، وتراكمت الأموال والآمال ، حتى انقشع السراب الخادع _ كالعادة _ فانهارت المؤسسة المالية الجبارة المذكورة ، وأفلس صاحبها ( المظلوم ) !! وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية ، وتبخرت أموال الناس بين يدي ( الدجال ) الاقتصادي ، وأصابهم ماأصاب أهل البستان ( فأصبحت كالصريم ) وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة ، وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد ، بين اقتصاد مدمر ، وثقة تخلخلت بين الناس ، وأسعار للعقارات ارتفعت وبشكل وهمي ، بأشد من سرعة الصاروخ وبأعلى من قمم الغمام ، وجمود في حركة المبايعات . فالعقارات أصبحت معلقة في الهواء بعد انتفاخ الأسعار الوهمي ، في انتظار مسيلمة كذاب جديد ، ولاغرابة لماحدث لإن الحمق لوحده ليس له علاج ، فكيف إذا انضاف إليه الطمع ، وقديماً سأل الجاحظ غلاماً فقال له ياغلام : أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمقاً ، قال لاوالله ياعماه ، قال له الجاحظ : ويلك ياغلام ولم ؟ قال ياعماه : أُضيِّع الدنانير وأبقى أحمقاً !! ( 2 ) ************************** هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث ، بمحاولة الفرد ( الانتهازي ) أن يتضخم فـ ( يتورم ) و ( يتسرطن ) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى ( مجموعة القوارض الاجتماعية ) ( 3 ) ، التي تقضم الشبكة الاجتماعية !! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية ، ياترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة ( أمراض اجتماعية ) لاتحصى ؟ فكما يصاب الفرد بالمرض سواء العضوي أو النفسي فإن الجماعات لها أمراضها ( النوعية ) الخاصة بها ، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان ، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية ، فالجعبة مليئة ، وليس المثل السابق إلا واحد من الكثير من أمثال ( عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور ) و ( كراهية النظام والانضباط ) و ( السطحية في معالجة الأمور ) و ( عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان !! ) و ( نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ ) و ( النطق بلا مسؤولية ) و ( عدم احترام الآخرين ) ( 4 ) و ( التسيب الوظيفي ) و ( واللافعالية ) و ( البيروقرطية غير المنتجة ) و ( عدم تقدير الوقت ) و ( ضعف الذوق الجمالي ) و ( غياب الروح العملية ) و ( انطفاء روح المبادرة ) و ( عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام ) ، وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها ( الرشوة ) و ( المحسوبية ) و ( والوساطة ) واختصرها القرآن بالثلاثي : الشفاعة التي تقابل الوساطة ( ولايقبل منها شفاعة ) والعدل مقابل الرشوة ( ولايؤخذ منها عدل والمحسوبية مقابل ( لاتجزي نفس عن نفس شيئاً ) ويمكن القول باختصار : تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه ، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون ، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون ، لإن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي ، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات . ويظن أولئك ( المغامرون ) أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم ( شطار ) و( أذكياء ) ويعرفون كيف ( تؤكل الكتف ) ، ولكن السرطان حينما ينمو ، فأول مايفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة ، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة ، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه !! . وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لايشعر ، حين يدمر مصادر وجوده ، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم . **************************** هناك ( قانون اجتماعي ) ( 5 ) يربط بين العلاقات الشخصية وشبكة العلاقات الاجتماعية ، وأي زحزحة من قطب لآخر يعطي الفكرة عن مدى تماسك المجتمع وقوته من ضعفه ، وفكرة المركزية واللامركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات ، كذلك تربط علاقة صارمة بين فكرتي ( الحقوق ) و ( الواجبات ) فالواجب هو ( حق ) من جانب ، وهو ( واجب ) من الوجه الآخر ، تماماً مثل وجهي العملة !! ، لنتأمل هذه الفكرة المهمة : إن أية ( معاملة ) هي واجب للموظف يؤديها في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها ، وتنعكس الأدوار ، فنفس الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى ، في الوقت الذي يعتبر هذا واجباً للطبيب يؤديه ، وهكذا تصبح ( العملة الاجتماعية ) تدور بين ( حق - واجب ) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية ، ويجب أن لاتزور هذه العملة ، فيجب أن يقوم الطبيب بعمله في غير تذمر وملل ، كي يتحرك الموظف بنشاط وهمة لتسيير المعاملة وترك طاولته في نهاية الدوام نظيفة ، كي يؤدي الشرطي مراقبته للمرور بدون محاباة ، وهكذا يتم تبادل هذه العملة في مرافق الحياة . وحسب قواعد الاقتصاد ، متى ياترى يعتبر المجتمع معه ( فائض في العملة ) إذا نظرنا إلى العملة الاجتماعية المذكورة سلفاً ؟؟ أو أنه غني ، أو أنه في حالة بحبوحة حضارية ؟؟ الجواب عندما يتم تحصيل فائض في الواجبات !! إذاً نحن أمام ثلاث معادلات اجتماعية في الواقع : الأولى هي تلك التي تقول بفائض الواجبات عن الحقوق ، وهي تشي بالتالي بحقيقة مجتمع متفوق حضارياً ، الثانية بتساوي الحقوق والواجبات وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن ، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية ، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار . ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر على غاية الأهمية وهو : عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب ، لإن المجتمع الذي تعلم ان يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتعطيه حقوقه ، فالحقوق لاتؤخذ ولاتعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب . يقول المفكر السعودي الدكتور محمود محمد سفر في كتابه ( ثغرة في الطريق المسدود ) : (( لقد فقدنا الوعي الصحيح بدورنا كأفراد وجماعات في عمليات التنمية وأصبحنا جميعاً من (( أصحاب الحقوق )) .. وماأدراك ما (( أصحاب الحقوق )) إنها سمة التخلف في جيلنا .. حيث أصبحنا لانعرف إلا حقوقنا على حكومتنا .. وجهلنا تماماً واجباتنا وتكونت هنا وهناك في عالمنا الإسلامي جمعيات وهيئات للمطالبة بالحقوق .. حقوق المرأة وحقوق العمال وغيرهم . وقد آن لنا أن تتكون بيننا (( هيئات للقيام بالواجبات )) التي أغفلتها أو عجزت عنها الإدارات الحكومية . إن سيكولوجية مدمرة تتكون عندما يعيش الإنسان في أجواء المطالبة بالحقوق واللهث وراءها عند أجهزة غير قادرة على منحها .. حيث يصبح الإنسان عبداً لوهم اسمه (( الحقوق )) يستبسل في المطالبة بها وربما أعطى حياته من أجلها .. ولو أنه أنفق في سبيل الواجب بعض ماأنفقه في سبيل الحقوق لبلغ كثيراً مما يرجو من تقدم وازدهار .. إن التنمية في مجتمع ما تبدأ مسيرتها عندما ينسى أفراد هذا المجتمع حقوقهم ويذكروا واجباتهم .. إن الأمة تحتاج في ساعات (( الإنقاذ التنموي )) إلى النفر القدوة الذين لايسألون أين الرزق الوفير وإنما يسألون أين الواجب الكبير .. ولقد ساقنا الحديث عن التنمية إلى دور الأثرياء في مجالاتها لإننا نؤمن أنه في غياب الدور الحضاري للمال يمكن أن يصبح الثراء مدمراً . فعندما تصبح وسائل الثراء سريعة ورخيصة يبدأ المجتمع في الانصراف عن التنمية الحقة والتي تتطلب جهداً ومشقة حيث يصبح كل هم أفراد المجتمع أن (( يغترفوا من نهر طالوت )) ولاينتظروا ويصبروا أمام مشاكل التنمية ))(6) عندما زارنا الأستاذ ( مالك بن نبي ) في دمشق عام 1971 م وجلست معه وسألناه عن العديد من القضايا ، بدأت تضغط على عقلي فكرة ، في صدد الذهاب إلى العالم الغربي للاختصاص الطبي ، وخلاصتها إن الرحلة تحمل مبررها الكبير ليس من أجل تحصيل الفن الطبي ، فهذا هو أقل المبررات وأكثرها هامشية ، وهو الذي جعلني أيضاً أتردد في مغادرة الوطن ، في الوقت الذي كان يتسابق زملائي في شد الرحيل للخروج ، وأنا أعذرهم طبعاً فلكلٍ وجهةٌ هو موليَّها ، كان مايضغط علي ويؤرقني هو ( فعالية الغرب ) الكامنة خلف الطب وكل العلوم ، بل وخلف كل التكنولوجيا ومراكز البحث ، وهذه قضية أثرناها مع الاستاذ مالك بن نبي ، وكانت وجهة نظره أن معظم أبناءنا يذهبون إلى الغرب فلايفهمون عليه ( سر الفعالية ) وإنما يحصل معهم ماسماه _ رحمه الله _ الارتماء إما في ( مزابل الحضارة ) أو الانزواء في ( مقابر الحضارة ) ؟! ويعني بكلامه هذا رؤية الحضارة الغربية من ثقبين ، إما الفساد الأخلاقي والإباحية الجنسية الفظيعة ، وإما المخابر العلمية وبطون الكتب وأجواء المستشفيات ، والحضارة ليست هذا ولاذاك ، كما أنها لم تخلق في هذه الأمكنة . كان الاستاذ مالك يريد من الشباب المسلم والعربي ، أن يذهب إلى الأماكن التي تولد فيها الحضارة فعلاً ، كان يريد بناء بانوراما ضخمة ، وجغرافية عقلية ، لفهم الحضارة ككائن عضوي مترابط . التعرف على المؤسسات التي تحافظ على الحضارة وتطورها باستمرار ، التعرف على فعالية الفرد والشروط النفسية والاجتماعية التي تولِّد هذه الفعالية وتحافظ عليها باستمرار ( 7 ) . التفريق بين ( العلم ) و ( الثقافة ) حيث يشترك في الثقافة الرئيس والأجير ، ويختلف في العلم الطبيب عن الممرض ، ولذا فالطبيب يرجع بالعلم دون الثقافة ، وكان حرص الاستاذ مالك على الثقافة قبل العلم . الثقافة هي المحتوى الضخم لعالم ( اللاوعي ) والذي بموجبه يتصرف الفرد أمام الأحداث ، والثقافة تتشكل منذ لحظات مقابلة الإنسان للعالم الجديد بعد الولادة إن لم تكن حتى في الرحم ؟1 فالطفل الذي يتعلم منذ ساعات عمره الأولى أن العالم ( المتمثل بأمه ) أنه يستجيب له بالبكاء ، يتعلم البكاء وسيلة لحل المشاكل !! إلا أن العالم القاسي من حوله سوف يحمل له العديد من المشكلات الصعبة والمفاجآت ، التي سوف تحيل حياته إلى جحيم ونكد وإحباط ، لإن العالم يمشي وفق سننه الخاصة ، وليس هو أمه التي أفسدت ( ثقافته ) ولذا فلن يستجيب له بالبكاء والصراخ ، كما حصل مع العرب في هزيمة حرب 1967 م ، والتي لم يستجب لهم العالم فيها ، عندما بكوا وصرخوا وزعقوا باعلى صوتهم ، والتي يحاولون فيها حتى الآن إصلاح ذلك الخرق الذي لم يرقع بالشكل الملائم حتى اليوم ، هذه هي الثقافة العاجزة التي نعيش فيها بكل أسف !! وهذه هي القضية الكبرى التي كرس المفكر مالك بن نبي نفسه لها ( مشكلة الحضارة ) . هذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة في الإجابة والتفسير عن بعض الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً في البدء ، لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته بصورة غير التي كان يتصرف بها هناك ؟ فلا يحافظ على الموعد ، أو يلقي بالبقايا على الأرض ، أو يستخدم زمورالسيارة كالبقية ، أو لايتقيد بإشارات المرور ، أو يعتقد بالخرافة إلى أخمص قدميه ومخ عظامه . كما أنني أدركت أن سفرتي إلى الغرب حيثما كانت وجهتي كانت مصيرية وحيوية ، فإن أي باب من أبوابها سوف يدخلني إلى بنائها الداخلي ، سواء كان الاختصاص في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا ( الابن البكر لأوربا ) أو حتى أوربا الشرقية ، أو اسبانيا الحالمة المسترخية على ظهر جبل طارق ؟! فكما يدخل المسلم إلى الصفا والمروة من أبواب شتى ، كذلك الحال في دخول فناء كنيسة الحضارة الغربية ذات الأبواب العديدة ( 8 ) *************************** هناك مغالطة يجب تحريرها واكتشفت هذا أثناء مؤتمر حضرته في مدينة ( ميونيخ ) الألمانية في المركز الإسلامي أثناء إقامتي في المانيا ، حيث تم التعرض لمشكلة المرأة ووضعها في الغرب ، وكان محور المتكلمين في إطار ( تَسَقُطْ عورات الغرب ) والكشف عن نقاط الضعف التي يعرفونها هم بالذات وعن انفسهم أكثر مما نعرف نحن ، والفكرة التي استولت علي حينذاك وقمت في وقتها بشرحها بكثير من القوة والتحليل ، وخلاصتها الأفكار الثلاثة التالية : الأولى : إننا في الواقع وكأننا نريد تطمين أنفسنا اننا بألف خير ، طالما كان الغرب على وشك السقوط منتحراً بعيوبه التي لاتنتهي ( كذا !! ) والثانية : إننا نتأمل الغرب من خلال عيوبه وهذه فضلاً عن كونها غير عادلة فهي مضللة لنا نحن بالذات أكثر منهم ، والثالثة : فليموتوا بعيوبهم لإن ماينقصنا ليس التعرف على عيوبهم ، بل التعرف على عيوبنا نحن بالذات ، والقيام بعملية النقد الذاتي ، كي نبدأ مسيرة الإصلاح والإقلاع الحضارية ، مانحتاج إليه أكثر هو الاستفادة من مزاياهم الإيجابية ، والتعرف على أسرار الفعالية عندهم ، وينابيع القوة والتفوق . وهذا سيقودنا إلى موقف مختلف تماماً وعادل وإنساني ، فنحن لانريد تدميرهم ، كما لانشمت بسقوطهم ، ولانفرح بنكس القيم الإيجابية التي تعبوا في تحصيلها . بل يجب معاملتهم تحت قانون : عامل الناس بما يليق بك لابما يليق بهم ، من أجل علاقات إنسانية غير استعمارية للمستقبل ، كنت أقول لبعض الألمان أحياناً إن عندكم من القيم مايجب أن أدافع أنا عنه ، من أجل المحافظة عليه لإنه ذخر إنساني قبل أن يكون إنجازاً غربياً . ********************* إن العديد من القيم التي رأيناها في المجتمع الغربي ، وأزعم لنفسي معرفة متواضعة بالمجتمع الألماني ، الذي يعتبر من قمم مجتمعات العالم ، فألمانيا هي صيدلية العالم ، وأرض الفلاسفة ، ومكان الموسيقيين المبدعين ، وأرض حملة جوائز نوبل ، ولكنها وبنفس الوقت محرقة آوشفيتز وأرض الهولوكوست ( 9 ) ومستنقع العنصرية ، ومزبلة كبيرة لكل الإباحيات الجنسية ممتدة من مدينة ( فلينسبورج - في معهد بيآته BEATE - INSTITUT-IN FLENSBURG ) حتى الغابة السوداء ( SCHWARZ - WALD ) وما يهمني من الألمان ، واستفدت منهم في ذلك بأكثر من تكنيك ( شق ) الجلد للجراحة أو ( ثقبه ) بالمناظير أو ترقيع الشرايين وتقطيع الأوردة ، استفدت منهم ( أخلاقيات العمل ) فالإنسان الألماني أو الغربي عموماً قد يسكر ويخمر في الليل ويعربد جنسياً ، ولكنه في صباح اليوم التالي لايتأخر في حضوره للعمل ، لإن العمل عنده مقدس بل إنك إذا أردت تعذيب الألماني فاجعله يكف عن العمل ، ويشهد لهذا ظاهرة ( متلازمة ظهر يوم الأحد ) ( 10 ) ( SYNDROM SUNDAY - ) وهي مؤشر خطير عن ( التخوي والتجوف الحضاري ) كما يحصل مع تجوف نخاع الشجرة الداخلي مع كل فخامة القشر الخارجي . إن عندهم من الفائض في ( العملة الاجتماعية = الواجب ) مايجعل أمراضهم مسيطرٌ عليها ، وهذا يعني أن عندهم من الأمراض مايكفي ، ولكن قوتهم تأتي من مصدرين الأول : معرفتهم بطبيعة هذه الأمراض ، والانتباه الدائم لها ، ومراقبتها سواء بسواء مثل مراكز مراقبة انتشار الأمراض والعدوى ، بما فيها إدمان التلفزيون والإباحية الجنسية ، كل ذلك من خلال توفر أداة النقد الذاتية الاجتماعية ، قد تحدث عندهم سرقات ومخالفات ولكن الصحافة لها بالمرصاد ، ومن المعروف طبياً ، أن معالجة الخراجات هي في شقها وفتحها للخارج كي ترى الضوء ، كما أن أخطر أنواع الباكتريا ، هي الباكتريا ( اللاهوائية ) ، أي تلك التي تعشعش في الظلام ، والغانغرين فيه ليس له علاج إلا البتر المفتوح !! كما أن الأمراض النفسية تعالج بنقل آليات ( اللاوعي ) المختبئة في الظلام إلى ( الوعي ) أي الضوء الصحي والنور المطهر . لذا فإن آلية النقد الذاتي ( بشروطها ) هي تلك الآلية المطهرة للفرد والنفس والأسرة والمجتمع بل وحتى والمجتمع الدولي . الثاني : إن المحصلة الكمية للأخلاق الاجتماعية تعطيهم الوضع الطبي المعروف ( عدم انكسار المعاوضة ) ، فقد يمرض الإنسان كما هو في داء ( أديسون ) أي تخرب خلايا الغدة فوق الكظرية ( 11 ) المسؤولة عن تنظيم السكر والملح والهورمونات في الجسم . طبياً لاتظهر أعراض المرض حتى يحترق مايزيد عن 75% من مجموع الخلايا في الطرفين ، وعندما يصل البدن إلى هذه المرحلة يكون قد دخل في مرحلة ( انكسار المعاوضة ) والمجتمع الغربي مازال في مرحلة ( المعاوضة الاجتماعية ) ، وذلك بفضل زخم مجموع الأخلاقيات والقيم السائدة حتى الآن ، ويخطيء الكثير حينما ينعت الحضارة الغربية بصفتين : إما اللا أخلاقية أو أنها حضارة مادية ، ويجب طبعاً أن نحدد مامعنى ( المادية ) ؟؟ **************************** الحضارة الغربية لاتحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم إن شئنا أم أبينا ، سواء في جناحها الانجلو سكسوني أو اللاتيني أو الجرماني أو حتى الأصفر الياباني ، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى . ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم ، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير ، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها . إنني كنت ( شاهداً ) في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب ( أمريكا التي رأيت ) بل عاينت القوم ، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم ، وطرفاً من أسرار قوتهم ، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه ، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لايحسدون عليها ، فلم يعد الشرق يعجبهم ، كما أن الغرب لم يسعدهم ، فهم ( نفسياً ) في الأرض التي لااسم لها !! والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب ، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة ، والرؤيا عندهم واضحة مبللورة ، وهذه لايصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب ، ونحن الذي أدينا وظيفة ( الشهادة ) علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ وبأمانة . فلاشيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السوات والأرض . *************************** إنني يجب أن اعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولاعدلاً في مثل هذه الأمور - إننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم ، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق ، وهو مالاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع ( رفاعة الطهطاوي ) الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها ( الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز ) . منذ اللحظة الأولى بين بيروت و ( نورمبرغ - مكان ولادة الحزب النازي أكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط ، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة ، ولكن ثلاثين سنة لاتكفي للفهم العميق للثقافة . في بيروت وأنا نزيل الفندق الذي يدفع ثمن ( البيات ) لم أعرف طعم النوم بسببين الأول قرقعة ( القباقيب ) والثاني ( انبساط ) صاحبنا المشرف على إراحة نزلائه ، فلم يطب له النوم إلا على أغاني ( صباح وأم كلثوم ) وبأعلى صوت ، وبالطبع أنا لست ضد الغناء إلا في هذا الوقت ، أما في نورمبرغ فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر ظاهرة ( السكون ) كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً و( هادئاً ) فعرفت أنني فارقت حضارة ( الضجة والوسخ والضوضاء ) واستقبلت حضارة ( النظافة والسكون والهدوء ) إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم لإنني أنتمي إليها ، مع شعوري الذي لايختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها ، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة ، بل وشق الطريق لمجتمع مابعد الحداثة ، هذا الشعور سبب لي الألم مرتين ، فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها ( وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك !! ) ( 12 ) في الوقت الذي أزكي ( في جانب ) مزية من هم خصومنا أو من لايحبونا على أقل تقدير ، ولكن هذا ماتتطلبه الشهادة التاريخية ، ويوجبه العدل ، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا ، التي لاتحتمل التاجيل ، وكانت الملاحظة الثانية ( لاشيء في الأرض ) وتذكرت الحديث ( وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان ) ( 13 ) ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً ، وبانوراما ضخمة ، وخريطة تفصيلية ، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً ، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها ، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات ( وكيف أن في رأسهم أغنية خاصة لمشكلة البوسنة ، وإلا حلوها كما احتل هتلر كل يوغسلافيا في مدى 11 يوماً ، وليس تأديب صرب البوسنة فقط ، وبالمناسبة فخريطة الهجوم النازي قد وضعها وزير الدفاع الألماني في درجه لساعة الصفر - معلومات مجلة الشبيجل ) . يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص ، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي ( 14 ) ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها ، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة ، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة ( دوراة المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر ) . هذه النظافة ليست ( الحكومة فقط ) ورائها وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة ، والتثقيف المستمر ، والتنبيه الدائم ، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد . يقول جان جاك روسو في كتابه ( في العقد الاجتماعي ) عن القانون الرابع : (( يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً ، وهو القانون الذي لاينقش على الرخام ولاعلى البرونز وإنما في قلوب المواطنين ، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي ، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة ؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفيء ، يحرك أوارها أو يتممها ، ويحافظ على شعب في روح نظامه ، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة . وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام ، وهو فرع مجهول لدى ساستنا ، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به : ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر في حين يبدو أنه لايهتم إلا بتنظيمات خاصة ، إلا انها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع ، الأكثر بطئاً في نشوئها ، مفتاحه الذي لايتزعزع )) ( 15 ) كان مارأيناه هو ( النظام والانضباط في دقة الساعة ) و ( الدقة بحب وشغف ) ( المثابرة بجلدلايعرف الممل ) و ( التعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب بين عناصره ) و ( اليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح ) و ( النطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية والنظر في وجه السائل !! ) و ( المحافظة على الموعد إلى درجة الهوس ) و ( الالتزام ومعرفة معنى المسؤولية ) و ( الصدق فهو انفع للمعاملات والحجز وسواه ) و ( احترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة ) و ( الفعَّالية في معالجة المشاكل ) و ( البيروقراطية الميسرة ) فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لايقف ، فلاتحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج !! وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل . والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع ، فشكلت ( ظاهرة اجتماعية ) و ( تياراً مسيطراً هادراً ) وليست حوادث فردية ، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة تغلف المجتمع كله ، وتهبه اللون الخاص به ، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه . ************************ هل نريد الآن ان نفهم الأخلاق والقيم ( السرطانية ) في مجتمعنا ؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً ؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم ، وهو في صورة ثانية ( الخلل الوظيفي الزماني المكاني ) ، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة ، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكان خاصاً بآخرين ، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع ، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير ( سرطان العظام ) ، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة ( سرطان الجلد ) ، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب فيه في الكبد والرئة بل والدماغ ( سرطان الكولون ) ... ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات .. ويشذ الناس على القانون .... إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى ، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء ، أو هو يسير نحو الفناء لإنه فقد مبرر الحياة ، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة ( 16 ) ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد ، تموت الجماعات ، وتدول الدول ، وتفنى الأمم ، وتنقرض الحضارات فـ ( لكل أمة أجل ) ومن خلال السرطان النوعي الخاص بكل مستوى . هوامش ومراجع : ( 1 ) يجب أن نستثني من هذا الوضع اكتشاف السرطان المبكر قبل انتشاره مما يحسن إنذار المرض عموماً حسب المرحلة التي يضبط فيها ، والجراحة الحديثة تحاول فك هذا اللغز ، بحيث تكتشف بشكل مبكر الخلايا المتسرطنة المتحولة الأولى فتقضي عليها ( 2 ) دُمر أقرب الناس إلي اقتصادياً تحت أسنان سمك القرش الاقتصادي الجدد وبالطبع كنت من المدعوين لهذه الوليمة إلى فم الحوت ، كيف لا والأرباح الفلكية تلمع ( للمغفلين ) ، ومن الغريب أنه بعد كل الكارثة لايصدقون أن ماحدث هو اقتصاد ( سيقان الخشب ) بل مازالوا يعيشون أحلام ( النظرية التآمرية ) ؟؟!! ( 3 ) هذا المصطلح هو للمفكر الجزائري مالك بن نبي ، تأمل مثلاً الذي لايحترم شارات المرور ، إنه يشعر أنها لم توضع له ، فهو فوق القانون ولكنه يدمر النسيج الاجتماعي الذي يحافظ عليه بالذات ، ويذكر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه هل للإنسان مستقبل عن حماقة الحمار ، أنه يأبى أن يخرج من الزريبة أثناء الحريق مع كل حرص الآخرين على إنقاذه ( 4 ) مما كان يلفت نظري في ألمانيا أثناء وجودي الطويل فيها أن الموظف يعامل المراجع على ثلاث قواعد الأولى : إنجاز مسألة واحدة في وقت واحد ( وماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه !! ) فهو يهتم كل الاهتمام بمن هو أمامه وينسى كل النسيان من هو خلفه ، بل إذا أراد التكلم معه لم يرد عليه ، الثانية : الإنجاز الكامل والدقيق لوحدة العمل التي يتعامل معها ، وهكذا فمحاسب الصندوق لايبدأ مع الشاري الثاني مالم ينتهي من الأول قبضاً وتسديداً الثالثة : الاهتمام بالإنسان الواقف أمامه فيعطيه كل وجهه مع الكلمة الطيبة والابتسامة العذبة ليسأله في النهاية إن كان هذا كل شيء أو هناك ماتبقى لقضاءه ، وأريد أن أسجل لموظفي الخطوط السعودية سبقهم في هذه الأخلاقيات ( 5 ) أول من التفت إلى فكرة القانون الاجتماعي هو العلامة ابن خلدون ، لتتوقف من بعده ، ثم ليعاد بعثها من جديد على يد عالم فرنسي هو ( أوجست كومت ) ( 1797 - 1857 ) صاحب مدرسة ( الفلسفة الوضعية ) يراجع في هذا كتاب دراسة المجتمع - مصطفى الخشاب - مكتبة الانجلو مصرية - ص 35 ( 6 ) ثغرة في الطريق المسدود دراسة في البعث الحضاري _ د . محمود محمد سفر \ د . سيد دسوقي حسن _ سلسلة آفاق الغد - ص 78- 82 ( 7 ) يراجع كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي بحث الأفكار القاتلة والأفكار الميتة ( 8 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن حقل الدراسة التاريخية - ترجمة فؤاد محمد شبل - جزء 1 ص 3 حيث يعجز عن شرح التاريخ البريطاني منفرداً وإنما يمكن فهمه من خلال وحدة الحضارة الغربية ( 9 ) من الأرض الألمانية انطلقت الحروب العالمية ، التي أزهقت أرواح مالايقل عن سبعين مليون البشر ، ونزاعاتهم مع جيرانهم لاتنتهي خاصة الفرنسيين ، وأما محرقة اليهود على أيديهم فتعجز عنها حتى أبالسة الجحيم ، فمصطلح ( هولوكوست - HOLOCAUST ) أي المحرقة هي تلك العملية المنظمة التي شحنت اليهود من كل أوربا إلى معسكرات الاعتقال الجماعية ، والموت في غرف الإعدام بالغازات السامة ثم المحارق المخصصة ، واشتهر معسكر ( آوشيفيتز ) في بولونيا بشكل خاص حيث التهمت نيرانه اليهود وغيرهم بالملايين ( 10 ) من الغريب أن الألمان يشعرون بالكآبة يوم الأحد بعد الظهر ، لإنهم سوف يستقبلون يوم العمل والواجب في اليوم التالي وهو أمر متناقض مع شعب العمل والشغف به أعني الشعب الألماني ، وهذا يوحي بالمرض الداخلي العميق للإنسان والمجتمع الألماني ، بل والمجتمع الغربي للمستقبل البعيد ، وهذه أمراضهم ولكنها أدويتنا فما ينقصنا نحن ليس التنافس في الكسل بل العمل ( 11 ) غدة الكظر تجلس فوق الكلية في كل جانب بوزن حوالي ثلاثين غراماً ، مكونة من لب مسؤول عن تنظيم الضغط الشرياني من خلال إفراز هورمون خاص هو الأدرينالين ، وقشر يفرز ثلاث أنواع من الهورمونات لتنظيم الاستقلاب السكري والملحي والهورموني ، بالاشتراك مع البانكرياس والغدة النخامية في الدماغ والخصيتين أو المبيضين ( 12) من أفلام التراجيديا الفرنسية فالفارس ( سيرانو دي بيرجاك ) الذي يستطيع هزيمة مائة ويحب ابنة عمه ، يحمل أنفاً كبيراً اعطاه دمامة فحجبه عن طلب يدها ، وتمضي القصة في اعتصار قلب البطل حتى لحظة الموت التي يبوح فيها بالحب لابنة عمه ( 13 ) من العجيب في هذا الحديث الذي هو من ثقافتنا أنه ينص على أن الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها شهادة أن لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ، فنحن ليس فقط أننا لانرفع القذى من الطريق ، بل نلقي زجاجات الببيسي كولا ، وهذا يعطي فكرة أن التعطل العقلي يحرم من الاستفادة من كل الكنوز حتى لو وجدت في الثقافة ، ويجب ان نسجل لبلديات المملكة إنعاشنا بالنظافة والمنظر الجمالي الذي عهدناه في أوربا ( 14 ) يراجع في هذا كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية لفيلسوف عالم الاجتماع الألماني ( ماكس فيبر ) عن أثر الأخلاقيات البروتستانتية في انتشار الرأسمالية روح الادخار + روح المبادرة + قيمة الشغل ( 15 ) في العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم ص 101 ( 16 ) يراجع بالتفصيل كتاب الطب محراب الإيمان - جزء 2 - للمؤلف عن السرطان والتمرد في الجسم - دار الكتب العربية ص 103 .
اقرأ المزيد
موت المجتمعات وهلاك الأمم وانحلال الحضارات
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين ، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لاتفارقنا يوماً واحداً ، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة ، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة ، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما ، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد ، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت ؟ أو أنه كائن من نوع غير ( بايولوجي ) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت ؟ وإذا كانت ( سنة أو قانون ) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه ( المجتمع ) وتشكل مصيره ، فقد بات علينا معرفة هذا ( البعد الجديد ) في الحياة الإنسانية ، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك ؟ وبأي آلية ؟ وفي أي ظرف ؟ وتحت أية شروط ؟ ( لكل أمة أجل ) مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي: اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم : إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت ، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم . صدمت وبعمق ، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS ) ( 1 ) يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان ، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه ، مع هذا يبقى المريض مريضاً ، أي أنه مازال حياً يرزق ، ولو أنه محكوم بالإعدام . لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد ، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده !! فمن أين جاء بتحليله هذا ياترى ؟؟ إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات ( INDEX ) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع ، ولادة أو موتاً ، صحة أو مرضاً ، عافية أو اعتلالاً ، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص ( DIAGNOSIS ) فاعتبر الجسد الاجتماعي ( جثة ً ) . قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت : إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات مافيه الكفاية على موت الفرد ( عضوياً ) من انعدام النبض ، وتوقف ضربات القلب ، وغياب التنفس ، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد ، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة ، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة ، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة ، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة ( الصمل الجيفي ) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل ، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك ، الذي يتمزق في كل لحظة : باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل قد طالما أكلوا دهراً وماشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب : بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب ؟!! مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل ؟! ماهو المجتمع بالفعل ؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي ؟ لايمكن أن نفهم ( موت المجتمع ) مالم نفهم ماهو ( المجتمع ) بالأصل ؟ فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن ( النوعي ) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته ، وموته من حياته ، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو ( شبكة علاقات ) تنظم نشاط الأفراد ( 2 ) ، فإذا أردنا تصور ( الشبكة الاجتماعية ) أو ( النسيج الاجتماعي ) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد ، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة ، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد ، وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع ، حيث تترابط مايزيد عن ( 100 ) مليار خلية عصبية ( النورونات - NEURONS ) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف ، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط ، بحيث يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في رأسه ، من زاوية الاتصالات ؛ أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا . وتتعاون هذه ( النورونات ) من خلال ( نظام التحام ) بين كل خلية وأخرى ، تسري فيها سيالة عصبية ، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه ، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة ، والنسيج الاجتماعي أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها ، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود ، المتوتر أو المسيَّب ، النشيط أو الخامل ، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها ، وينبنى على هذه الفكرة أمرين هامين : 1 - الأمر الأول : إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لإنها من صناعتهم 2 - الأمر الثاني : إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة ، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد ، وهي ( الظاهرة الورمية ) التي تحدثنا عنها في بحث السرطان الاجتماعي ، حيث يؤدي ضخامة الفرد ( العقدة في الشبكة الاجتماعية ) إلى قطع الأوتار الاجتماعية ، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة ( السرطان ) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص ، غير عابئة بما يحصل للجسم ، ولكن السرطان كما عَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه ، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية ، يقضي على وجوده بالذات . يقول مالك بن نبي : (( بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات ، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا ، بينما شبكة علاقاته مريضة ، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد ، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب ( الأنا ) عند الفرد من ( تضخم ) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية ، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم ، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً ))( 3 ) المجتمع يعتبر شبكة علاقات وليس كماً من الأفراد كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية ، فالسكر السداسي ( الغلوكوز ) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا ، مكون من ذرات من الفحم الأسود ( الكربون ) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد ، مكون من ذرات من ( الكربون الأسود ) المضغوط بشكل جبار . والذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة ، هو طبيعة ( التركيب الداخلي ) لذرات الكربون ، فأصبحت ( يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار ) والمجتمع بدوره هو ( طبيعة تراص ) خاصة بين أفراده ، فإذا بقي ذرات كان سخاماً أسوداً ، وشحاراً قاتماً ، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة ، أو لمعان تفوق عبر التاريخ . فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة ، وأعطى ذرة الألماس الصلابة المخيفة والتألق المدهش الفذ ، هو طبيعة التركيب الداخلي ، مع أن ذرات الكربون بالأصل سواد وقتام ، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية ، بل يعتبر الفحم ( شبه معدن ) وليس معدناً ، فهو ليس في صلابة الحديد ، أو ندرة الذهب ، أو ثقل الزئبق ، أو إشعاع اليورانيوم ، فالذي يعطي التركيبَ القوةَ الضاربة ، أو النوعية الممتازة ، أو التميز والتفوق ، هو كيفية ( اجتماع ) عناصره الأولية . وكذلك المجتمعات ، فالذي يَسِمْ المجتمع بالقوة أو الضعف ، بالتميز أو السطحية ، بالتفوق أو الانحطاط ، هو نوعية علاقة ذراته ( أشخاصه ) الداخلية . وبذلك تفوق المجتمع الياباني وتأخر المجتمع العربي ، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين بالمجتمع الغربي كانت متقاربة ، فارتفع المجتمع الياباني وحلق ، في حين أن المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة ، ويعجز عن السيطرة على حل مشاكله ، وبين عامي 1960 م و1990 م حقق المجتمع ( الكوري ) قفزة نوعية وبقي المجتمع ( الغاني ) يتجرع غصص التخلف ، مع أن مستوى دخل الفرد كان واحداً في نقطة البدء !! ( 4 ) . إذاً المجتمع هو تركيب ( STRUCTURE ) تماماً كما في التراكيب الكيمياوية العضوية ، وهو بالتالي ليس ( مجموعة ذرات ) و ( كومة أشخاص ) ونحن نعلم من الكيمياء العضوية ، أن تغيير فاعلية مركب ، من وضع إلى وضع ، يتم من خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية ، ويبقى ( الكم الذري ) كما هو بدون نقص أو زيادة ، فينقلب المركب الخامل إلى فعاِّل وبالعكس ، والدواء إلى سم زعاف ، والسم إلى ترياق ، كما حصل مع باول ايلريش ( PAUL EHRLICH ) بعد ( 606 ) من المحاولات ؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض الأصبغة ، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياقٍ وعقارٍ ، لمعالجة داءٍ فتكَ بالجنس البشري أكثر من ( 400 ) عاماً ( الافرنجي _ SYPHILIS )( 5 ) . كيف يبدأ المرض في المجتمع ؟؟ كيف يتحول المركب إذاً ؟ كيف ينقلب في وظيفته ؟ بل وكيف يمرض المجتمع ؟؟؟؟ كلها تحدث بنفس الآلية ( تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية ) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا إلى ( قوارض اجتماعية ) تلتهم الشبكة الاجتماعية ، انحدر المجتمع صوب الفناء والموت ، وبنفس الآلية التي يموت فيها الأفراد . ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة جيداً ؟ فماالذي يحدث عند موت الفرد ؟ دعنا نتأمل ظاهرة ( الفك والتركيب ) في أي موجود تحت أيدينا من مثل الكرسي أو الطاولة أو السيارة ؟؟ وكيف نسمي الطاولة ( طاولة ) ؟ أم كيف نمنح لقب الكرسي لـ ( الكرسي ) ؟ أو السيارة لـ ( السيارة ) ؟؟ إن هذا يرجع ليس لـ ( القطع أو الأجزاء ) التي تشترك في تركيب الطاولة أو الكرسي فضلاً عن السيارة !! فلو أمسكنا بالكرسي و( فككَّنا ) الأجزاء عن بعضها ، لم تعد الطاولةُ ( طاولةً ) ولا السيارةُ ( سيارةً ) ؟! والسبب هو أن السيارة تأخذ ( وظيفتها ) و ( شكلها ) الذي يمنحها الاسم ، من ( اتصال القطع ) و ( تلاحم الأجزاء ) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة لنقل الركاب والأمتعة . كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه ، فإذا التأمت قطعه ، وتضافرت عناصره الأولية ، لتؤدي وظيفة ( الجلوس ) عليه ، استحال إلى كرسي ، أما قطعه الأولية فليس لها اسم ، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع ومعقدٌ للغاية ، والذي يحدث في الموت ، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه ، وتعود إلى سيرتها الأولى ، أو للسيارة عندما تُفكَّك وترجع إلى وحداتها الأولية ، وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال ( قد علمنا ماتنقص الأرض منهم )(6) فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لاينقص منه شيء ، وبَدَنُنَا في الواقع مكون من برميل ماء ، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير ، وقبضةٍ من الكلس ، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب ، وحفنة من الفوسفور ، وآثارة من اليود والنحاس ، وبقيةٍ تافهة من الفوسفور المتقد ، وكميةٍ من الغازات التائهة !! فنحن كـ ( مواد أولية ) في ( ثمننا ) لانساوي شيئاً مذكوراً ، ولكننا في تركيبنا الإنساني لايصل إلينا ( سعر ) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في منتهى الغباء !! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى دورة الطبيعة ، ولاغرابة عندما نسمع أبو العلاء المعري ينشد : رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٌ من تزاحمِ الأضداد خفِّف الوطءَ ماأظن أديم الأرض إلا من هذه الأجســــــاد إن العنصر الواحد مثل حديد الدم ، أو فوسفور المخ ، أو يود الدرق، أوكلس العظام ؛ مصيره في النهاية إلى التراب ، إلى دورة الطبيعة ، ليعاد تشكيله واستخدامه من جديد ، في غاية جديدة ، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر ، قد يكون بشراً جديداً ، أو أنسجة حيوان ، أو محتويات خلية نباتية ، فأجسادنا الزائلة جاءت من الطبيعة ، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ( 7 ) ، والذي حصل مع الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين ، سبقت إحداهما الأخرى ، فأما الخلل الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو ( توقف الوظيفة ) فيتحول الإنسان إلى صورة جامدة ، لايبكي ولايضحك ، لايتألم ولايحس ، لايتكلم ولايسمع ، فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي ( تحلل الشكل ) فالميت مثل النائم ، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله ، بل يبقى اللحم حاراً ولساعاتٍ بعد الوفاة ، كما تبقى بعض الخلايا حية ، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما ، ثم يسيطر الموت فتبدأ ( علاقات ) الأنسجة بالتفكك و ( ارتباطات ) الخلايا بالتمزق النهائي ، كي يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية . والمجتمع عندما يبدأ الانهيار في مرحلة الموت يمر مايشبه هذه المراحل من ( شلل الوظيفة ) لينتقل بعدها إلى مرحلة ( اندثار الشكل ودماره الكاملين ) .. ليتحول في النهاية إلى ( كومة ) من الأناسي و ( خردة ) من البشر لايجمعها رابط ، أو يضمها مثل أعلى ، أو يحدوها قيم عليا ، أو ينتظمها تنسيق مشترك ، فيعيش كل فرد لنفسه ، أو يتحول الإنسان من ( الشخص ) إلى ( الفرد ) فيخسر ذلك ( البعد ) الذي منحه أياه المجتمع ، حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية ( المعادلة الاجتماعية )( 8 ) موت الأفراد وموت المجتمعات حسب القرآن ومن الملفت للنظر أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين ، فذكر موت ( الفرد ) ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات ( لكل أمة أجل ) ( 9 ) فالأجل هنا جماعي وليس فردي . فالآجال إذاً نوعان : منها ماهو خاص بالفرد والآخر بالمجتمعات ، كلٍ من نوعية متباينة ، وهذا يعني بكلة ثانية أن الأمم تموت ، والدول تنتهي ( 10 ) والشعوب تفنى ( 11 ) والحضارات تباد وتنهار ( 12 ) بل إن حديث القصعة أشار أيضاً إلى طرف من هذا ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) فيتحول المجتمع الإسلامي إلى مواد غذاء وتموين لبناء أجساد أخرى ، عندما يختل تركيب التكوين الداخلي الاجتماعي ، فتتحول طاقات الأفراد المنسابة عبر الأقنية الاجتماعية إلى مصادر تفجير لها ، فتتمزق أقنية الوصل الاجتماعية ، ويتهتك النسيج الاجتماعي . جاء في كتاب ميلاد مجتمع : (( ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع مالم يسبق تكييفها ، أعني مالم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا تعيد تنظيم هذه الطاقة وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع - إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما ))(13) . كما أسعفنا القرآن بأمثلة عن مجتمعات باتت مريضة تمشي باتجاه الموت ، وكيف تم التصرف تجاهها ، بين فتية أهل الكهف ، الذين انطلقوا لتأسيس مجتمعهم الخاص بهم وضنوا حتى بالكلب أن يبقى في المجتمع السابق !! وبين موسى ( ص ) وهو يواجه أعظم حضارة في عصره ، حيث حدد مهمته على وجه الدقة ، من أنه لايريد إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه ، إنه يريد شعبه ، الذي ينتظره أن يُدفن في الصحراء أولاً من خلال ( التيه ) كي يخرج من أصلابهم جيل لايعرف غير الشمس والحرية ، وهو الذي لن يرتعد من ( القوم الجبارين ) الذين توهمهم آباؤهم كذلك . والمثل الثالث في انفلاق مجتمع المدينة الساحلية إلى ثلاث مجموعات أمام تحدي الانحراف ، نجى فيها الفريق الصغير نواة الأمة الجديدة ، بترابط جديد للقيم ، أما بقية المجتمع فتشوه الترابط الداخلي عنده ، ليتحول إلى مجتمع ( القردة الخاسئين ) ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ولاغرابة لإن كروموسومات القردة تشبه 99% من كروموزومات الإنسان ، ولكن الاختلاف في البناء الداخلي ولو باختلاف 1% يقلب البناء رأساً على عقب ، ويحول البشر السوي إلى قردٍ خاسيء !! شهادة التاريخ في موت المجتمعات : إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ ، وبقيت الأهرامات تشهد على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع ( بيولوجياً ) ولم تُغيَّب عناصره الأولية في التراب ، ومازال الإنسان الفرعوني ( المصري ) يعيش ، ولكن كعنصر أولي يشارك في حضارة مختلفة ، فعندما مات المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و ( طوب ) أو ( لبنات ) امتصها مجتمع زاحف نامي متفوق ، كوَّن بها نفسه من ( لبنات ) المجتمع الميت ، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وهكذا تحول المجتمع ( الفرعوني ) إلى مجتمع ( روماني ) ، ثم مات بدوره ليتحول إلى مجتمع ( إسلامي ) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى ، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ) مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والازتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني الخ ... (( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )) ( 14 ) تحليل يومي تشريحي لحركة المجتمع : ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع والكيمياء العضوية والبايولوجيا بل وحتى علم الأدوية ، نتوجه لتسليط الضوء على فكرة ( السلسلة الذهبية ) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي ، وتقطع شبكة الربط الحضارية !! مامعنى أن ( معاملة ) ما في أي قطاع اجتماعي لاتمشي إلا بطريقة ( الدفع المتتابع المستمر ) مع شيء من المقبلات من ( الوساطة ) ؟؟!! إن هذا المرض خطير للغاية ، ومؤشر لأزمة اجتماعية ، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي _ إن شِئنا أم أبينا _ وحتى تنجز تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية ، يقودها الأفراد الاجتماعيون ، من خلال معادلة ( حق - واجب ) أي أن الواجب الذي يؤديه فرد في سلسلة ( آ ) ستكون له حقاً في سلسلة ( ب ) مثل العلاقة بين ( علاج طبي لمريض ) و ( استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور ) و ( نقل رسالة بريدية ) فالعملة أي ( الخدمة الاجتماعية ) هي عملة ذات وجهين ( حق - واجب ) فما كان حقاً لفرد هو واجب للتأدية في ذمة آخر . هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل ( حلقات السلسلة ) بمافيهم الفرَّاش وحامل الأوراق ، لإنه يكفي أن ( تنام ) المعاملة في ( درج ) أو يضطرب التعقيم في مرحلة طبية ، أو يهمل أي موظف الخدمة الاجتماعية ، أن تضطرب السلسلة كلها وتحل الكارثة !! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية . فإذا كانت ( السلسلة الاجتماعية ) مكونةً من عشر حلقات بين الرئيس ، ومساعده ، والسكرتير ، والموظف المتلقي ، وحامل الأوراق ، والمدقق ، والناسخ ، والضارب على الآلة الكاتبة ، وصاحب الكمبيوتر ، والجالس خلف سنترال التلفون . يكفي أن تضطرب ( حلقة واحدة ) وحلقة واحدة فقط لاغير ، من هذا السلسلة كي يختلَ العمل بأكمله ، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي ، فعندما يكون الموظف متسلِلاً بدون إذن ( 15 ) والساعي مهملاً ، والمدقق نعساناً ، والناسخ فوضوياً ، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً ، والقاعد خلف السنترال نائماً ؟! يكفي الخلل في ( حلقة مفردة يتيمة ) ولو كانت كل ( السلسلة ) من الذهب الخالص و24 قيراط ، أن تحل الكارثة وتقع المصيبة ، وتتوقف السلسلة أن تمر بها ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وبذا ينطفيء الضوء الاجتماعي ، ويذهب نوره ، وتحترق الآلات ويعم الخراب ، وتسود الفوضى ، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع ... نفسي نفسي . إن هذه الحقيقة المرة والموجعة هي الإصابة العصبية الاجتماعية الكبرى ، والتي تحول المجتمع إما إلى ( مشلول ) بانقطاع العصب ، أو متشنج مضطرب بإصابة العصب الجزئية ، مشلول عندما يعطب العصب بالكامل فلايمرر السيالة العصبية الاجتماعية ، ومتشنج بعدم تناسق عضلات الفعل الاجتماعي في اضطراب مرور السيالة العصبية حسب نسبتها ومقدارها موت المجتمع لايعني بالضرورة فناء الأفراد إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهقة إلى أبعد الحدود ، مزعجة إلى حد المرض ، مضيِّعة للوقت بدون مبرر ( لإننا ملوك الزمان ) بل وتأكل الكرامة الإنسانية أحياناً ، فلا موظف يبقى خلف طاولته ، ولاعامل يبقى مرتبطاً إلى عمله ، والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها اللهَ في نهاية المطاف على السلامة ، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد( أليس للعجائب ) و( عبقر ) للجن ، وإنجازها وكأنها إزاحة جبل ، والسر في هذا هو تقطع ( نقط الاتصال والالتحام الاجتماعية ) بين ( حلقات ) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها ، فلا تعود ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك ، وحديد صدأ ، والصدأ على كل حال يعني التفكك والعودة إلى حالة ( الخام الطبيعي ) ، فإذا اضطربت ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وتقطعت حلقاتٌ متعددة ، من سلاسل شتى ، كان مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج الاجتماعي ، وكان معناه أن المجتمع يبدأ يكف أن يكون مجتمعاً ، بل يتحول إلى ( مُجمَّع هزيل ) و ( مافيات اجتماعية ) وحوضاً مرعباً لسمك القرش وقنافذ البحر والاخطبوط الاجتماعي ، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الاوقيانوس ( المحيط ) اللاجتماعي المتخبط ، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى ، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق ، وعليه أن يولد من جديد ، إما بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع ( البشر الخام ) في الجاهلية ، حيث لم يكن يهم ( طرفة بن العبد ) إلا قدحاً من الخمر ، وقتالات طائشة ، وممارسة الزنا مع بنات الهوى ( 16 ) أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة ، واندثار ثقافة المجتمع ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم ) وقد حدث هذا في التاريخ ويتكرر . مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع الكهربائي والالكتروني : ماالفرق بين مجتمع ومجتمع ؟؟ هناك ثلاث أنواع من المجتمعات فيما لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية !! مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع ( الكهربائي ) و ( الالكتروني ) ، فعندما لاتمشي المعاملات إلا بطريقة ( الدفش المتتابع المستمر ) !! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء ) فالماء يتدفق طالما بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي ، فإذا توقفت عن( الدفش ) انقطع الماء وتوقف الخير !! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بملمتر واحد ؛ لاتصل إلى هدفها بدون ( الدفعة الأخيرة ) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لاشيء ، فلا تولد أو ترى النور بدون الحقنة الأخيرة !! أما المجتمع ( الكهربي ) فهو الذي يتحرك بكبس الأزرار ، فتمشي المعاملة لوحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير ، بسبب قوة كل حلقة من ( السلسلة الذهبية ) ، وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما حركَّها ، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم ، وهي من أسرار تفوقهم وقوتهم ، فلاتحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة ، فضلاً عن نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية ( تخليص المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري ؟؟!! ) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات ( النبض الالكتروني ) فهي تلك التي تتربع على عرش الالكترونيات ، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان ، من مثل المجتمع الياباني ( 17 ) وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء ) إلى ( الفعل الكهربي ) فضلاً عن ( التوهج الالكتروني ) فإنه يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية ، فإذا أدى أحد ( حلقات ) السلسلة عمله بفعل ( جذبي بانتكاس داخلي ) قعد المجتمع وانشل ، وإذا تحول إلى روح ( الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي ) تحول إلى مجتمع ( حركة الكهرباء ) فإذا قفز إلى روح ( المبادرة ) أصبح بسرعة الومض الالكتروني !! ولله في خلقه شؤون . ثمن الانهيار الاجتماعي مع تمزق شبكة المجتمع يدفع كل عناصر المجتمع الثمن ومع كل فوائده المركبة ، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي ، والسبب بسيط هو أن ( الماكينة الاجتماعية ) لاتعمل ، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى أسفل ، فتتباطيء ويتوقف الانتاج ، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية ، فهي تبرد مع الوقت ، والتحرك باتجاه المحيط ، أي أن الفعل الاجتماعي يتحول من فعل ( واعي إرادي ) إلى عمل ( فيزيائي ) وشتان بين الإرادة والمعدن ، والحي والجماد ، والفعل والانفعال ، والطبيعة والإنسان ، في حين أن المحافظة على الشبكة الاجتماعية يجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها ، ممتعة لكل فرد ، حلوة لكل من يشارك في نشاطها ، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم ( الاستقامة ) والفائض في الحياة الاجتماعية ( غدقا ) ( وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً ) ( 18 ) مثل انكليزي معبر : يقول المثل الانكليزي أن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص أسماؤهم ( كل واحد ) و ( أي واحد ) و ( لا أحد ) والرابع كان اسمه ( بعض الناس ) ، وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز . فُسئل ( كل واحد ) كي ينجزه ، إلا أن ( كل واحد ) كان يتوقع من زميله ( بعض الناس ) أن يقوم به ، إلا أن ( بعض الناس ) غضب لإن المهمة كانت مهمة الزميل ( كل واحد ) ، إلا أن ( كل واحد ) فكر أن ( أي واحد ) يمكن أن يؤديها ، ولكن الزميل ( لا أحد ) تحقق أن ( أي واحد ) يمكن أن يفعلها ، وبذلك كانت المحصلة أن ( كل واحد ) لام ( بعض الناس ) لإن ( لا أحد ) فعل ماكان يجب أن يفعله ( أي واحد ) !!! THIS IS A STORY ABOUT FOUR PEOPLE NAMED ( EVERYBODY ) , ( SOMEBODY ) , ( ANYBODY ) , AND ( NOBODY ) . THERE WAS AN IMPORTANT JOB TO BE DONE AND ( EVERYBODY) WAS ASKED TO DO IT . ( EVERYBODY) WAS SURE ( SOMEBODY) WOULD DO IT . ( ANYBODY ) COULD HAVE DONE IT . ( SOMEBODY ) GOT ANGRY ABOUT THAT , BECAUS IT WAS ( EVERYBODY) ,S JOB . ( EVERYBODY ) THOUGHT ( ANYBODY) COULD DO IT BUT ( NOBODY ) REALIZED THAT ( EVERYBODY) WOULD,NT DO IT . IT ENDED UP THAT ( EVERYBODY ) BLAMED ( SOMEBODY) WHEN ( NOBODY ) DID WHAT ( ANYBODY ) , COULD HAVE DONE . قصة الملك وشعبه المحب : وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له ، بأن نصب في الميدان العام للبلد حوضاً كبيراً ، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل ، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً ، لإن كل واحد فكر بنفس الطريقة : (( وماالذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير !! )) مراجع وهوامش: ( 1 ) الإنذار مصطلح طبي عن توقع حالة المرض للمستقبل ( 2 ) جاء في كتاب ( ميلاد مجتمع ) لمالك بن نبي - ترجمة عبد الصبور شاهين - إصدار ندوة مالك بن نبي - ص 15 : (( المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد ، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني ، يتم طبقاً لنظام معين ، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ماتقدم على عناصر ثلاثة : 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها )) ( 3 ) كتاب ميلاد مجتمع - المصدر السابق - ص 40 (( فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية ، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام ، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي )) ( 4 ) يراجع كتاب ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) تأليف باول كندي - النسخة الانكليزية ص 193 ، ويذكر المؤرخ أن دخل الفرد كان في البلدين عام 1960 م 230 دولار في السنة ليصبح اثني عشر ضعفاً للكوري ويبقى الغاني راوح مكانك ( 5 ) يراجع قصة الميكروب تأليف ( بول دي كرويف ) - ترجمة أحمد زكي - لجنة التاليف والترجمة والنشر - بحث الرصاصة المسحورة ص 339 ( 6 ) سورة ق الآية 4 ( 7 ) سورة طه الآية رقم 55 ( 8 ) يراجع في هذا التحليل القيم لاوسفالد شبنجلر في أفول الغرب عن مفهوم كم البشر الذي تضم خليطه المدن العالمية الكبرى بدون أي رباط قيم ( 9 ) راجع الآية رقم 49 من سورة يونس : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون وراجع الآية رقم 19 من سورة ق : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ( 10 ) أشار ابن خلدون في مقدمته أن الهرم إذا نزل بدولة فلايرتفع لإن لها أجل طبيعي راجع المقدمة ص 293 - 294 ( 11 ) راجع القصة المروعة لفناء شعب الوبيخ في شمال قفقاسيا من خلال القصة الدرامية ( آخر الراحلين ) ( 12 ) راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن انقراض 23 حضارة من أصل 28 حضارة مرت على ظهر البسيطة ( 13 ) مالك بن نبي المصدر السابق ص 100 ( 14 ) ميلاد مجتمع - ص 8 : ولقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت ، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت مثل المجتمع الغالي بعد معركة اليزيا والمجتمع القرطاجني بعد معركة زاما والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على بومبي ، وحضارة الازتيك عاشت في أمريكا الوسطى والانكا في أمريكا الجنوبية وكلاهما دمرهما الأسبان ، أما شعب الوبيخ فقد دُمر بيد روسية عثمانية مشتركة !! راجع قصة آخر الراحلين ( 15 ) تأمل الآية من سورة النور رقم 62 - 63 وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يستأذنوه .... قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ( 16 ) يراجع في هذا معلقة طرفة بن العبد ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ...... وجدك لم أحفل متى قام عودي .. شربة الخمر التي يعلوها الزبد+ الكر في الحروب الفارغة + والبهكنة ( الفتاة الناعمة ) للمتعة الرخيصة ( 17 ) يراجع في هذا كتاب آفاق المستقبل - جاك أتالي - عن تحول القلب الصناعي في المحيط الهادي باتجاه طوكيو وكذلك كتاب ( اليابان الذي يستطيع أن يقول لأمريكا لا ) تأليف عضو الدايت الياباني ( شينتارو إيشيهارا ) ( 18 ) السورة الجن الآية 16 .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram