- -

الحوار أم الصدام ؟
في الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله ، في مركب جديد متطور ، متفوقٍ على كل ٍمن المركبين السابقين ، وفي الصدام يلغي كلُ طرفٍ الآخرَ، ليموتَ الاثنان في النهاية ، لإنه في اللحظة التي يلغي فيها أحد الأطراف الطرف الآخر يكون قد حكم على نفسه بالإلغاء . فالحوار هي آلية نجاة الجميع . لإنها وثيقة الاعتراف المتبادل بالوجود الذي أسبغه الله على الجميع يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر : هل لك في الحوار ؟ فقال : على عشرة شروط !! قال وماهي ؟ قال : ألا تغضب ، ولاتعجب ، ولاتشغب ، ولاتحكم ، ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ، ولاتجعل الدعوى دليلاً ، ولاتجوز لنفسك تأويل آيةٍ على مذهبك ، إلا جوزت لي تأويلَ مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلاً منا يبغي من مناظرته ؛ أن يكون الحق ضالته والرشد غايته !! (1) دخل عليَّ صديقي التركي ( عاصم ) مع طفله الصغير ، الذي أعجبته مكتبتي وتلون كتبها ، فانطلق في هذا العالم الجديد يعس فيه ويكتشف ؟! إلا أنه سرعان ماعاد إلى منعكسات اللجم التي عُوِّد عليها ، فكانت والدته لاتنطق إلا بلفظ ابتعد لاتلمس أو لاتقترب وممنوع !! المهم كان حرف ( لا ) المقدس يتكرر كالمطرقة على رأس الصبي المذهول ، بين جاذبية المكتبة وأغراضها ، وبين حرف ( لا ) العنيد البئيس والمتكرر ؟!! وبقي الطفل يتأرجح بين كلمات اللجم ، والقانون الميمي الثلاثي ( مايصير . ممنوع . مافي ) ونظرات التخويف ، وبعضاً من صفعات والده التربوية !! وأردت أن أقوم بتجربة صغيرة مع هذا الطفل ، فبدأت في ( حواره ) ، وكان دوري أن أعلمه ( أسماء الأشياء ) ( 2 ) ومن خلال التعريف أسمح له بالدخول إلى العالم المزدحم من حوله ، فبدأ الطفل فتجرأ فـ ( نطق ) وتجاسر فتكلم فـ ( سأل ) ولكنني أدركت أن هذا الطفل ( الصفحة البيضاء ) يتشكل فيه ( نقشنا ) بقدر الجهد المبذول من خلال ساعات العمل . والإنسان في الواقع كمعادلة ليس أكثر من : وضع صيرورة ، ومحصلة تراكمية بطيئة للحظات الجهد الواعي خلال وحدات الزمن التي مرت قبل كل لحظة جديدة ، وهذا التراكم لايتوقف إلا بالموت ، فالموت هو توقف الصيرورة ، وإن كان كثير من الناس أموات وهو محسوبين من الأحياء ***************************** هذه الواقعة السابقة أثارت في ذهني بعض الذكريات من الوسط الألماني ، وطريقة المرأة الألمانية في معالجة طفلها اليومي . كنت أتأملها وهي تعطيه كل الوقت ، تنمي عقله ، بـ ( احترام السؤال ) وتنمية ( الدهشة ) واستثارة ( روح الفضول ) وتشجيع ( الحوار ) وطرد شبح الخوف منه ، وجرأة ( النقد والنقد المضاد ) والتعبير عن وجهة النظر أمام الملأ بدون وجل أو اضطراب ، جنباً إلى جنب ، مع العناية بغذاءه ونظافته وحمَّامه اليومي ، وتشكيل السلوك عنده في عدم إلقاء شيء على الأرض ، أو عدم إخراج الأصوات من فمه أثناء ارتشاف الشوربة أو الشاي ، فهي حضارة النظام والنظافة والهدوء . وأدركت أن الطفل في مجتمعنا ومن خلال تركه للظروف ( تُشَكِّله هي ) ينبت وقد اغتيلت عنده مجموعة من الصفات النفسية الإيجابية ، لعل أبرزها ( روح الدهشة ) في تأمل العالم ، لإنه مع وأد روح الدهشة تتوقف آلية الفضول ، فيُقتل النمو وروح البحث العلمي عنده دفعة واحدة . وبالتالي لذة ( الجِدَّة ) في الحياة التي تخلع على الحياة معنى وتشحنها بالاستمرارية والنمو ، وبكسب العادات العقلية الجديدة هذه ، ينشأ ليس على الانطلاق وروح المغامرة وحب اكتشاف المجهول ، بل على السلبية والجمود والخوف والتقليد الأعمى . كما ذكرتني الواقعة آنفة الذكر ، بالدراسة الشيقة التي قام بها عالم النفس السويسري ( جان بياجييه )( JEAN PIAGET )( 3 ) عندما قام بدراسته على أولاده الثلاثة ، من خلال دراسة ( التطور الروحي الحركي ) وارتقاءه مع ارتقاء الإنسان في العمر ، ووضع اتجاهاً كاملاً بين مدارس علم النفس ، التي اجتهدت في فهم المزيد عن الآليات النفسية وعملها عند الإنسان ، وعلاقة ذلك في بناء العادات العقلية ، ومنها كسب آلية الحوار التي نحن بصددها . يرى ( بياجييه ) أن : (( كثيراً من المفاهيم مثل التفكير والذكاء والوعي والقيم والتوقع )) تعود إلى (( تأثير البيئة على الإنسان )) الذي هو (( محكوم بمدى وعيه بها وهو وعي يمر في مراحل ارتقائية مختلفة )) ( 4 ) فكرة الزوجية ( القانون الانطولوجي _ الوجودي - وعلاقته بالحوار ) : إن الزوجية هي القاعدة الأولى التي ينطلق منها الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى فكل شيءٍ من الأناسي والحيوان والثمار و( الأفكار ) خُلق زوجين وليس فرداً ، وبغرض التزاوج ( ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ( 51 : 49 ) فالإنسان يولد من زوجين أب وأم ، كذلك الحيوان والنبات ، وكذلك الأفكار ، فكل فكرة هي مولودٌ من أب وأم ، وفروع وأصول ... ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون ) ( 36 : 36 ) .. وتزاوج فكرتين _ بشروط الزوجية _ يخصب العلاقة بذرية جديدة صحيحة البنية ، ولكن مع هذا قد يحدث زواج ولايحصل الإنجاب ، بفعل عقم أحد أو كلا طرفي العلاقة . فالشرط العضوي أساسي في الزواج ، ولايتم الإنجاب بدونه ، ولكنه مع هذا فهو شرط غير جامع ولامانع . إذا فشلت العلاقة الجنسية فشل الزواج في الغالب ، ولكن إذا نجحت فإنه لايعني أن الحياة الزوجية في مركب استقرار ، بل لابد من الشرط الكامل ( الجامع والمانع ) : ( المودة والرحمة ) ؛ فحتى يأتي الأطفال إلى الدنيا لابد من زواج بين رجل وامرأة ، وحتى يرى الحيوان ذريته من أي نوع ، لابد من زواج ذكره بأنثاه ، وحتى يتم إثمار النبات ، لابد من اللقاح والزوجية ، فـ ( ولادة ) البشر و ( تكاثر ) الحيوان ، و( إثمار ) النبات ، يتوقف كله على التلاقح والزوجية . فالزوجية هي : (( أس الكون وأساس الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى )) . هذا القانون ينطبق أيضاً على الأفكار ، باعتبارها وحدات مخلوقة . فشرط الخصوبة والتكاثر الإيجابي ، بل وحتى السلبي في الوجود المخلوق هو الزوجية ، وتعبير القرآن ( من كل شيء ) يجعل القاعدة تعم المخلوقات كلها ، فتدخل دنيا الأفكار تحت هذه القاعدة ، باعتبار أن كل فكرة هي ( مخلوقة ) من مخلوقات الله فكما أن كل شيء مخلوق ، كذلك فهو خاضع لقاعدة الزوجية ... ولاتشذ الأفكار عن هذه القاعدة ، ففكرة ( ا ) عندما تتزاوج مع فكرة ( ب ) يتولد منهما فكرة ( ج ) ، وكما أن كل إنسان له أب وأم ، كذلك فكل فكرة لها آباؤها وأبناؤها بل وأحفادها ، وكما كان للبشر أبناء وحفدة (( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )) ( 16 : 72 ) كذلك كان للأفكار ذرية صالحة وأحياناً طالحة ، ولكن كما قلنا : إن شرط الزوجية هو أساس الخصب ، كذلك تبادل الأفكار واللقاء والبحث ، فإنها تحتاج للأزواج ( العقليين ) المخصبين ، فاجتماع عاقلين يتبادلان الآراء ينتج عنهما أفكار جديدة ، باعتبار ( التلاقح النوعي والفكري ) هنا . مع هذا فإنه ليس كل الأزواج عندهم ذرية (( ويجعل من يشاء عقيما )) ( 42 : 5 ) واجتماع جاهلين هو اجتماع عقيمين ، والعقيم من طرف واحد يسبب عدم الإنجاب فكيف إذا كان من الطرفين ؟!! فالخصوبة تأتي من مخصب وكذلك اجتماعات الناس ... إلا أن علاقات الأفكار في تزاوجها تخضع للقوانين التالية ( بعضها على الأقل ) : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن علاقات الأفكار في التزاوج ليست مثل الواقع الاجتماعي الإنساني ففي عالم الأفكار يمكن للأفكار أن تتزاوج مع أصولها وفروعها إن صح التعبير ، وهذا يعني ذرية برقم قياسي . 2 - وتقول الفكرة الثانية : الذرية التي تخرج من هذا الاقتران ليست ( نُسخاً = كوبي ) ولا أصول ، بل هي أفضل من الأصول ، بل وكل ذرية هي أفضل من التي قبلها ، كما يحصل في اولادنا الذين ننجبهم فأولادنا نسخ أصلية أفضل منا ويحملون نفس القدرة الانتاجية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : الفكرة كائن حي ، بمعنى أنه يحمل صفتي ( الحركة والتكاثر ) وهكذا فالفكرة تحمل في ذاتها قدرة الاندفاع الذاتية ، لذا يجب علينا أن لانزهد بأي فكرة ندلي بها في أي وسط إنساني واعٍ . والقرآن اعتبر الكلمة الطيبة أنها كائن حي ( كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : هناك في عالم الأفكار قانون ( النمو أو الفناء الذاتي ) فالفكرة السيئة فيها خلل كروموزومي ، يقودها إلى وضع سرطاني فتنمو إنما بشكل شاذ ، مما يودي بها في النهاية إلى حتفها ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) . خلافاً للفكرة الجيدة التي فيها صفتي ( الخيرية والديمومة ) . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : اعتبر القرآن أن العاقبة هي للأفكار الصالحة فهي التي ستبقى في حين أن بقية الأفكار السيئة تمتاز بالجزئية وعدم الصمود مع عنصر الزمن ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهكذا سقطت الشيوعية ومضت الفاشية وانقرضت النازية . فهو قانون تاريخي صارم . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إن الكون يقوم على مبدأ التعددية فالجبال مختلف ألوانها ، والألسنة متعددة ، والشعوب متباينة ، والأفكار متضاربة ، وهذه القاعدة متأصلة في الوجود ، وعلى أساسه تمت برمجته ( ولذلك خلقهم ) فهو جل جلاله لو أراد جعل الناس أمة واحدة ، ولكنه خلقهم مختلفين حتى تبقى الحياة في حالة صحة ونمو وحركة ومدافعة ويقظة . وكما أن العقم ليت حالة مستعصية في كل الأحوال وبشكل مطلق ، وثبت علمياً أنه يمكن معالجة العقم كي يصبح منتجاً ، كذلك العقول والأفكار واللقاءات . قد يحصل اجتماع ، وتبادل آراء بين العُقماء ، ولكنه من نوع تبادل الجهل ، وكثير من الاجتماعات هي في الواقع إما في صورة ( مجاملات ) أو إذا حصل خلاف في الرأي حدث ( نزاع ) ، فكثير من الناس يدرجون في لقاءاتهم على الانعكاس على أحد طرفي علاقة مشؤومة هي ( مجاملات - منازعات ) وبذلك يتعطل الجهد العقلي في هذا اللقاء فلا يثمر . إن جو المجاملة في البحث يعني بكلمة أخرى التهرب والالتفاف حول الموضوع ، والاحتفاظ بالخنادق الفكرية ، وبذلك لاتتعرض الأفكار للتجلية والتمحيص ، وبالتالي النمو والبللورة ، فهو تهرب لبق من البحث تحت ضغط فكرة : إن البحث سيقودنا إلى النزاع واختلاف القلوب ، ولذا وحفاظاً على علاقاتنا الشخصية يجب أن نتجنب البحث الجدي والحوار الفعَّال . والكثير لايتصور خلاف الرأي إلا في صورة ( النزاع ) ، مع أن الله خلق البشر بالأصل مختلفين ، لإن في الاختلاف تفاعل وصحة وخصوبة وكشف لصورة الحق (( ولذلك خلقهم )) ( 11 : 119 ) وإذا حصل النزاع حصل تبادل الجهل ، وارتفعت الأصوات ، وعم الصخب ، وتفشت المهاترة ، لذا كان من الأفضل في مثل هذه الأجواء أن يتوقف العقل عن المتابعة ، لإن العتبة العقلية تتوقف هنا ، وتبدأ عتبة الحنجرة والحبال الصوتية !! .. وجرت سنة الله في خلقه أن رفع الصوت في مثل هذا الجو ، يتماشى بشكل طردي مع ضعف الحجة ، فكما يلجأ البعض إلى ثخانة الصوت وذبذبات الحبال الصوتية ، كتعويض عن عمق الحجة وقوة البرهان ، فإن آخرين قد يلجأوا إلى رفع العصا أو فوهة البارودة ، بل وحتى سبطانة المدفع والرأس النووي الموجه ؟! وفي البلاد المتخلفة قد توقف العقل عن العمل منذ فترة طويلة ، فهو في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر ، وعندما ينطق العقل ، فعليه أن يقول قولاً لا يوقظ نائماً ولايزعج مستيقظاً ؟! فلا يرحب بمقلقي ( النوم العام ) ، ذلك أن حركة العقل خطرة أكثر من الانشطار النووي (( ومايستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ومايستوي الأحياء ولا الأموات )) ( 35 : 19 ) . يجب أن نعترف أن الحوار الفعال النشط يحتاج بدون شك إلى أرضية فكرية خصبة ، وطاقة نفسية ، وتحرر فكري وانكسار قيد التقليد ، ولكنه مع هذا يبقى مفتاح دخول وتجاوز العقبة ( فلا اقتحم العقبة ) . إن العقل يتحرر تماماً عندما يتجاوز عتبة الخوف من البحث ، إن الأمان للعقل هو في البحث ، لإنه يتأسس على أرض صلدة . أما الانعكاس على الطرف الآخر للعلاقة المشؤومة ، فهو النزاع والانفعال في البحث ، وفقد ضبط النفس ، والحزبية ، والأسلوب التبريري لدعم الأفكار ، فهذا الجو يعتبر غير منتج ، فهو محاولة دفاع عن الآراء بأي ثمن من أجل الاحتفاظ بها ، وليس أسلوب تنمية الأفكار أو تبين وجه الصواب فيها . وكما أن الحوار وتبادل الآراء _ أي جو النقد الذاتي _ هو جو زوجية الفكر فإن ( الصممية ) هي عقم هذا الجو . والصمم أنواع : فقد يكون عضوياً فيزيولوجياً ، وقد يكون لغوياً ، وقد يكون ثقافياً . فالصوت حركة في وسط مادي ، تنتقل هذه الحركة عبر غشاء الطبل وعظيمات السمع ، فإذا حدث خلل في هذا الطريق العضوي في أي نقطة من شريط الانتقال ، تعطل انتقال الصوت ، وكان الصمم في مثل هذه الحالة عضوياً فيزيولوجياً بحتاً . وقد يحدث صمم من نوع آخر ، وهو ليس قصوراً في انتقال حركة الصوت ، وإنما في تفسيرها في الفص الصدغي في الدماغ ، فيحدث عجز في التفاهم ، ويحدث ( حديث طرشان ) من نوع جديد ، كذلك الصمم الثقافي عندما يتحاور شخصان بلغة واحدة ولكن بخلفية ثقافية متباينة ، فكما أن الحروف لها شيفرتها الخاصة بها ، لكل حرف وكلمة في الدماغ ، ولكل لغة ، كذلك هو في عالم الأفكار . فإذا اجتمع مثلاً من يؤمن بمادية التاريخ وفائض القيمة وآلية وسائل الإنتاج ، مع آخر قضَّى عمره في دراسة النحو والصرف والمعلقات الشعرية فقط ، فإن مايحدث بينهما سيكون عجباً ، ليس لإن الحروف والكلمات غير مفهومة ، بل لإن موجة الحديث كلها متباينة ، كما في جهاز الراديو عندما يوضع على الموجة القصيرة والبث على الموجة المتوسطة ؟! . كذلك حتى يحصل تبادل الآراء وإمكانية التفاهم لابد من تغيير موجة الاستقبال الفكرية بكبس أزرار خاصة في تلافيف الدماغ !! فالصمم هنا ليس فيزيولوجياً ولالغوياً بل ثقافي ببعد جديد ( 5 ) العقل على مفترق الطرق : أحسن الفيلسوف الفرنسي ( ديكارت ) حينما اعتبر أن أفضل الأشياء توزعاً بين الناس وبالتساوي هو العقل ، لإن كل فرد يعتقد أنه اوتي منه الكفاية ، فلا يريد المزيد ولا التغيير ، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فقد يشتهي أن يجعل أنفه أصغر ، أو شفتيه أكثر حمرة ، أو جسده أكثر رشاقة ، أو قامته أكثر طولاً ، ولكنه لايفكر ولا للحظة واحدة أن يجعل عقله أفضل بناءً ، وأكثر نضجاً ، وأحسن توجيهاً ، فعنده شعور الاطمئنان لهذا الجانب ، أكثر من اطمئنان التماسيح وهي تتشمس على شطئان الأنهار !! ويصل ديكارت إلى تقرير حقيقة على غاية من الأهمية . يقول ديكارت : (( إن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين الناس بالفطرة ، وكذلك يشهد بأن اختلاف آراءنا لاينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر ، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ، ولاينظر كل منا في نفس ماينظر إليه الآخر ، لإنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه ، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل ))( 6 ) ، وإذا كان الأمر بهذا الأهمية فيمكن وضع قاعدتين عقليتين هامتين في الحوار والبحث ، تتولد منهما نتائج في غاية الخطورة في أرض الواقع ، سلباً وإيجاباً حسب الزحزحة العقلية . 1 - القاعدة الأولى تقول : في أي حوار عقلي اعتبر إن ماعندي صحيحاً ويحتمل الخطأ ، وماعند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحاً . 2 - وتقول القاعدة الثانية : وهي (( آلية الفيلسوف الألماني ليسنغ ))( 7 ) إن الرغبة إلى البحث أهم من امتلاك الحقيقة ، لإن امتلاك الحقيقة الحقيقية المطلقة إدعاء ، وخدعة ، وتعطيل للجهد الإنساني ، وغير ممكنة لإنها ملك لله وحده فقط . فالعقل بين احتكار تفسير النصوص ، أوتشغيله لفهم النصوص ، فالأول يقع في مغالطة أن فهمه للنص يساوي النص ، والثاني يتحرر بإدراكه أن فهمه للنص هو ( كم ) أقل من النص دوماً _ وإلا أصبح هو النص - ويتناهى إلى الصفر ، لابل قد ينقلب تحت خط الصفر فيصبح سلبياً ، كما حصل للخوارج في التاريخ الذين قتلوا المسلمين وأبقوا على المشركين ، وظاهرة الخوارج هي ( عقلية ) قابلة للتكرار دوماً . يقول ليسنغ : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ، إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) . والآن ماهي النتائج المباركة أو المريعة المترتبة على العقليتين والتفكيرين ؟؟ هذا التحليل يترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية ، فطالما رأت العقلية الأولى أن هناك هامشاً للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله ، فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي ، وبالتالي تفتح المجال أمام تصحيح الأخطاء والنمو والنضج ، في حين أن العقلية الثانية تنبع منها نتائج مختلفة تماماً ؛ فطالما امتلكت ( الحقيقة النهائية ) فهذا يعني وبشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ ، بل كل ماعندها صواب ، وهذا يعني بالتالي أن لاحاجة للمراجعة ، وبالتالي لاداعي لتصحيح الأخطاء إذ لا أخطاء ، وكيف يخطيء من هو مقدس ؟؟ إذن لانمو ولانضج ، أي ( لاحياة ) وبذلك يُستل نور الحياة تدريجيا ًمن هذه العقلية فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة ، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك . إن الله الذي خلق الطرفين ، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع ، لم يلغ طرف على حساب طرف ، بل منح الوجود للطرفين ، إلا أن الطرف الأول لايرضى بهذا ، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر وأحياناً بأسلوب ( لأقتلنك ) ، فإذا قال الطرف الأول إن الله أوجدني ومنحني المشاركة يكون جواب الطرف الآخر ( العملي ) : نعم إن الله منحك الوجود أما أنا فسوف ألغيك ؟؟!! ( إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه ) . ومن الناحية العملية تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر ، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة ، فحين تترك العقلية الأولى المجال لهامش من الخطأ ، وبالتالي قدرة المراجعة والنقد الذاتي ، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر ، بل احترامه ، بل حمايته ، بل طلبه ، لإنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح ، وتقويم الأخطاء ، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً ، ليس فقط للفرملة والتوازن ، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه ، لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني ، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً ، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجودا ً ؟؟!! .. فرق رهيب إذن بين العقليتين ........... العقلية الأولى تقوم على ( ثنائية التفكير = الديالوج ) ، تفسح المجال للأخطاء ، للنقد المضاد ، للمراجعة الذاتية ، للتسامح مع الطرف الآخر ، لاحترامه لما فيه من خير عميم ، ولحمايته لإنها بذلك تحمي نفسها بالذات ( 8 ) لإيجاده إن لم يكن موجوداً لإنها تضمن وجودها باستمرار وجوده . وإذا اختلفت مع الآخرين ، اتخذت بعين الاعتبار أن الموضوع لايتعدى ( خطأ في الفهم ) يمكن إصلاحه بالحوار ، والصبر عليه ، و ( قتل الموضوع بحثاً ) وليس ( قتل الإنسان إعداماً ) . بل والاستعداد ليس لقتل الآخرين ، بل أن تموت هي من أجل فكرتها ، كي تحول القاتل ليس إلى بطل بل إلى مجرم . العقلية الثانية ليس عندها قدرة المراجعة ، ولماذا المراجعة طالما كانت تملك الحق المطلق ؟؟ فمهمتها إذن محصورة في نشر ماتعرفه ، وعلى الآخرين أن يحظوا بشرف الاستماع ، من مصدر المطلق !! . هي عقلية ( أحادية التفكير = المونولوج ) ، لاتقبل الاعتراض ولاتسمح به ، فإذا قام اعتراض العقل كان شاذا غير مرحب به ، فكان مبررا لتصفيته ( ELIMINATION ) وحذفه من الوجود غير مأسوف عليه ، وهي على مايبدو طريقة سريعة واقتصادية !! فلماذا الحوار الطويل في ساعات غبية تافهة ، لمردود هزيل !! في حين أن طلقة واحدة و( كلمحٍ بالبصر ) تحل المشكلة ودفعة واحدة !! كما يحدث في قصف كابول اليومي الآن !! ( ألا ساء مايحكمون ). والتهم جاهزة فإذا اختلف السياسيون تقاذفوا بـ ( العمالة والخيانة ) وإذا اختلف العقائديون كانت الجعبة أدسم فتراشقوا بــ ( الهرطقة ) ، وماهو جزاء الهرطيق سوى القتل؟؟ العقلية الثانية تلغي الطرف الثاني إن كان موجوداً ، وبكل حماس وإخلاص وطمأنينة بال ، بأنها نفذت إرادة الوجود ، كي تنفرد هي بالوجود . إذن فلاتجاه الأول يوجد ملغياً ، والثاني يلغي موجوداً ، وهذا هو الفرق بين العقليتين ، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت ، فلا يستويان ... من كان له أذنان للسمع فليستمع ............... مراجع وهوامش: ( 1 ) مجلة 15 - 21 مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي ، العدد 11 السنة الثالثة - ص 4 - نقلت بشيء من التصرف ( 2 ) تأمل الآية : وعلم آدم الأسماء كلها _ البقرة - الآية رقم 21 ( 3 ) جان بياجييه عالم نفس سويسري ومؤسس مدرسة علم النفس الارتقائي ، وهو اتجاه من خمسة اتجاهات بين ( مدرسة علم النفس التحليلي _ وعلماؤه فرويد ويونج ) و ( المدرسة السلوكية وأبرز روادها سكينر وباندورا ) و ( مدرسة الجشتالت وتنسب إلى فرتهايمر وكوفكا وكوهلر ) وأخيراً الاتجاه الأخير ( مدرسة علم النفس الإنساني ) الذي شق الطريق إليه أبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل ) وينضاف للمدرسة الارتقائية الاتجاه المعرفي المعروف بـ ( الفلاسفة الفينومينولوجيون = أي علم الظواهر ) وكذلك علماء النفس الوجودي بدءً من كيركيجارد وسارتر ، ويرتكز الاتجاه الوجودي على الفكرة القائلة بأن شخصية الفرد تتكون من خلال نضاله الذاتي لتشكيل ذاته الداخلية إلى أن يجد لنفسه في الحياة معنى وقيمة وأسلوباً يحقق به ذاته ( 4 ) راجع في هذا كتاب ( الإنسان وعلم النفس ) سلسلة عالم المعرفة - تأليف عبد الستار إبراهيم - ص 57 ( 5 ) يراجع بالتفصيل كتاب النقد الذاتي للمؤلف بحث لماذا النقد الذاتي - مؤسسة الرسالة ص 93 ( 6 ) رينية ديكارت - المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم - ترجمة فواز الملاح - دمشق - محمود صالح - ص 22 ( 7 ) من فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر ( 8 ) ومفهوم الجهاد في الإسلام ينبع من هنا في حماية الإنسان بما فيه المخالف ، حتى لايبقى إنسان يفتن ويضطهد من أجل آراءه ( حتى لاتكون فتنة ) لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه ( لاإكراه في الدين ) أي مجتمع حرية العقيدة .
اقرأ المزيد
علم تغيير ما بالنفوس
إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما ، فإن العكس صحيح أيضاً ، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي ، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض : فطالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا ، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين ، وطالما كانت أسرار التغيير تحت أيدينا فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا ، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده قبل أن يكون من مصدر آخر !! وأعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي : أن لايلوم أحداً ، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ ، وأن لايلعن الظروف ، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف ، تمهيداً للسيطرة عليها ، وأخيراً فإن علينا أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير ، لإن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره ، والتسخير هي الخدمة المجانية ، وهي متاحة لجميع البشر . مازالت أحداث البوسنة ماثلة في ذهني وبجنبي الأخ معاذ وفي وجهه مظاهر الألم وهي مشاهد مكررة مع اختلاف المواقع. أتذكره حين قال : عندما أسمع أخبار ( بيهاج ) أشعر وكأن أحشائي تتمزق من الداخل ؟! ورد الأخ عماد : إن مايحدث شيء غير معقول ، وتتابعت التعليقات في توزيع ( اللوم ) على الأمم المتحدة أو رؤوساء الدول الأوربية أو موقف أمريكا المتردد ؟؟!! هذه عينة جيدة من آلام المسلمين اليومية ، ولكن هل يمكن فهم كارثة بيهاج بدون كارثة البوسنة ، بل هل يمكن فهم مايحدث في البوسنة بدون الاجتياح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، وهل يمكن فهم عقدة الصرب بدون معركة ( أمسل فيلد - AMSELFELD ) التي حدثت في عام 1389 م ، أو حتى قبل ذلك منذ الشرخ التاريخي بين الكنيسة الشرقية والغربية عام 879 م على أرض البلقان ( 1 ) أم هل يمكن فهم الأحداث الحالية بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني ، ضمن صيرورة الحضارة الإسلامية ؟ وأن مايحدث اليوم لايشذ عن القانون التاريخي الذي يفيد بالعلاقة الجدلية بين الأحداث ، فكل حدث هو نتيجة لما قبله ، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده من الأحداث . وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلايمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها ، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها . في نهاية القرن الثامن الهجري ( الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي ، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط ، يسطر بحثاً في التاريخ ، غريب العنوان طويله ( 2 ) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل ، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون ، فيصل إلى فهم حركة التاريخ ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية ، بهذه الكلمات القليلة (( وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً ، فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 3 ) هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي . وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس ( قانوني - سنني ) مرهف ، فهو يحاول فهم علل الأشياء ، ويدخل إلى بطن الأحداث ، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (( فإن التاريخ في ظاهره لايزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق )) هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابياً ونوعياً في تاريخ الفكر كله ، فهو نزل إلى الحوض التاريخي ، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها ، ليس كقطع ممزقة ، ونثارات مرمية ، وحوادث لايجمعها خيط ، أو ينتظمها قانون ، بل كواقع بشري يخضع لـ ( سنة الله ) في خلقه ، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها ، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق ، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية ، وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ ، فلاغرابة أن اعتبره المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي _ والعلماء يقدرون بعضهم _ بأنه (( أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان - IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE )) ( 4 ) أو أن يعتبره ( فلنت ) : (( إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون ، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه )) ( 5 ) إن فكر ( ابن رشد ) و ( ابن خلدون ) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم ، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه ، ولهذا لم يتابع أحداً هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش ، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن ؟! والذي استفاد من هذا الفكر ( السنني ) هم رواد النهضة الغربية ( 6 ) خاصة في إيطاليا ، حيث أطلق تياراً عقلياً تحررياً ، بدأ ينتبه إلى فكرة ( السنن ) في إدراك الوجود ، و( البحث التجريبي ) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة ( الاستقرائية - INDUCTION ) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة ( الاستنباطية - DEDUCTION ) ( 7 ) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود ، فكانت طريقة ابن خلدون الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين ( العودة إلى الواقع ) لإن أي ( صخرة ) هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أياً كان مصدره ، أي بربط الفكر النظري بالواقع ، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ؟ لاكيف يجب أن تكون كما فكر من قبل أرسطو وإفلاطون ( 8 ) وهي نقلة نوعية في الفكر . هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار ( الطبيعة والتاريخ ) من مصادر المعرفة ( 9 ) هي روح إسلامية وهي بنفس الوقت ثورة على التفكير اليوناني القديم ، ففكرة ( السنة ) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن ، والسنة ليست في التفاعل الكيمياوي ، أو الخواص الفيزيائية لمعدن ما ، بل ولا في البايولوجيا ، عنى القرآن بالسنة ( النفسية الاجتماعية ) ، واعتبر أن هذه السنة ثابتة ، فلا تتغير ولاتتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 10 ) وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون ( السنة ) فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى ، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه ؟؟ هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية ، فالقانون يفرض نوعا ً من ( الحتمية - DETERMINISM ) على العقل ، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البايولوجيا ، كما أن قانون الذرة هو غير قانون المجرة ، وقوانين ( ميكانيكا الكم ) هي غير قوانين ( النسبية ) ، وغير القوانين ( النفسية والاجتماعية ) ، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره ، ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية ، لذا أصبح المجتمع متطوراً وقابلاً للتغيير . يقول مالك بن نبي (( إن كل قانون يفرض على العقل نوعاً من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون ، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً ، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم . فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لاينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببية ضيقة النطاق ... وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لاتتقبل التغيير حسب طبيعتها تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير ، لإن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس )) ( 11 ) وإذا كانت ( السنة أو القانون ) تسيطر على الوجود بكل قطاعاته بدءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة ، من الالكترون حتى النفس الإنسانية ، ومن الجزيء الكيمياوي حتى المجتمعات ، فكيف يمكن فهم قانون تغيير مابالنفوس ؟؟ إن النفس الإنسانية لاتشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود ، ولكن قطاع التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البايولوجي ، فــ ( وحدة التأثير - UNIT ) هنا هي ( الفكرة ) إضافة أو تعديلاً أو ابتداءً ، واعتبرت الآية القرآنية أن إمكانية تغيير مابالنفس ممكناً ، والواقع يمدنا بشواهد يومية على ذلك ، بل إنها ربطت تغيير الواقع ، ومن خلال سنة الله في خلقه ، بتغيير رصيد مابالنفوس (( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم )) ( 12 ) ، ففي هذه الآية الرائعة والتي تشكل بناءً أساسياً وفكرة مفصلية في منظومة المعرفة الإسلامية ( الابستمولوجيا ) تنقدح ( حزمة ) من الأشعة الفكرية !! يقول الشعاع الفكري الأول : إن الإرادة الآلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على أساس مجموعة من السنن المحكمة ، ومن هذه السنن ( الجهد الإنساني ) ، فالله لايغير الواقع الاجتماعي ، مالم يتدخل الفعل الإنساني ، على كل تفاهته وضعفه ، فلولا الماء المهين الذي نمنيه ( نحن ) ماتمت عملية الخلق التي لاحدود لروعتها ، وهذا تكريم إلهي للإنسان على دوره في هذا الوجود من خلال وظيفة الاستخلاف التي أُنيط بها . ويقول الشعاع الفكري الثاني : إن هذا القانون دنيوي أرضي فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في راوندا أو ألمانيا ، لاختار قطعاً ألمانيا ، والسبب بسيط هو وجود الضمانات ، فمنذ اليوم الأول من ولادة الإنسان ، تكون حظوظه أن لايموت في الأمراض ، أو أن لايقتل بحرب أهلية ، أو أن لايموت جوعاً ، أو أن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة ، أو أن يحصِّل تدريساً عالياً ، ولا يعني هذا أن كل من يولد في راوندا يكون فقيراً ، أو من يولد في الصومال مريضاً ، أو من يولد في أفغانستان مقطوع الساقين بقذيفة مدفع ، ولكن احتمالات كل هذه وبنسبة تتراوح تزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي للمجتمع ، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى الجبهات ، أو لو ولد يهودياً أن قضى نحبه في إحدى معسكرات الاعتقال النازية . لذلك كان المسؤولية والحساب في الآخرة فردية ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( 13 ) في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 14 ) ، وفي حديث السفينة عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية ( 15 ) فعندما تنطلق القوارض ؛ من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً ، فإن الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء ، بمافيهم القوارض الفاسدة الحمقاء التي لاتبصر أكثر من أرنبة أنفها ، بتضخم الذات المريضة السرطانية على حساب المجتمع ( مثل تلك المناظر اليومية المؤذية والعدوانية ، من الوقوف أمام إشارة المرور ، فيتحرك المخالف الذي ركب على رقبة الناس وسرق وقتهم ، عندما يزمر له طابور السيارات المصطف خلفه ؟! ) . ويقول الشعاع الفكري الثالث : إن هذا القانون بشري ، يضم تحت شموليته كل البشر مؤمنين وملحدين ، مسلمين وكافرين ، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات : المستوى الأول : إن الكون مسخر ( كمونياً ) بالقوة ، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين تسخيره ، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها ، فهو حقل متاح للجميع ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( الإسراء : 20 ) وهكذا طير الأمريكيون الحديد في الهواء ، وأطلق اليابانيون الإعصار الالكتروني من قمقمه ، ويفتك الصرب اليوم بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون . المستوى الثاني : ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوي في هذا الكون الذي نعيش فيه ، وليس هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن ، والإخلاص بدون حدود ، والحذر من الأخطاء بدون نوم ، ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم ، كما عذب اليهود والنصارى من قبل (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق )) ( 16 ) ويقول الشعاع الفكري الرابع : إن هذا القانون اجتماعي وليس فردي ، فلو أراد فرداً أومجموعة صغيرة أن تغير مابنفسها ، فقد يحصل العكس ، فقد تتعرض للسحق تحت قانون ( الدجاجة الجريحة ) الذي ذكره المؤرخ البريطاني توينبي ، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة المجروحة ، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت ؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين : داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم ، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة ، في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً ، لإن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق ، الحسرة على المزيد والقلق على ماهو موجود ، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ، أن لايكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق اللصوص ؟! ويقول الشعاع الفكري الخامس : إن لفظة ( ما ) في آيةٍ استبدلت بلفظة ( نعمة ) في آية أخرى ، وبذلك فيمكن للنعم أن تتغير لتصبح ( نقماً ) !! والعكس صحيح ؛ من خلال تغيير مابالنفوس ، والنعم كثيرة لايحصيها العدد ، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة وظروف العمل المريحة والأمن الاجتماعي ، ومقابلاتها من انتشار الأمراض ، وفساد التعليم ، وسوء نظم القضاء والخيانات الزوجية ، والتوتر في ظروف العمل ، والخوف الاجتماعي ، وجمعت الآية القرآنية نموذجين متواجهين (( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ( النحل : 112 ) وليس هناك من ( نعمة ) أعظم في المجتمع من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش وراحة البال ، وكنت أتعجب من ( الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة ) مع كل رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي ، واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي ( قوت اليوم ) في مجتمع يوفر ( الضمانات ) للأفراد الذين يعيشون فيه ، ضمن ( الطمأنينة الروحية ) وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل الشوكولاتة الاجتماعية ( وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) فهذه الطمأنينة هي التي كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع الرفاهية ، والعكس صحيح بفقر عالم ( الأشياء ) فالعلماء تفيض قلوبهم بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من الدولارات ، لإنهم ( لايملكون الأشياء كما لاتملكهم الأشياء ) . إذا ً كيف يحصل التغيير الاجتماعي ؟؟ إن جواب هذا يتعلق بفكرتي ( الكتلة الحرجة ) و ( المثلث الاجتماعي ) . فكرة المثلث الاجتماعي : حتى يمكن السيطرة صحياً وفي منطقة ما ، فلايشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء بل يكفي قدراً معيناً ، وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى ويتعلق بمجموعة من العوامل ( عدد السكان _ الأمراض المتوطنة _ الحالة المعيشية _ التعليم _ المواصلات الخ .. ) فكيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما ؟ فأقول تقريباً للموضوع مايلي : حتى يمكن إشباع المجتمع صحياً والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما ؛ لابد من وجود ( كتلة اجتماعية حرجة ) تقوم بالدور الصحي ، هذه الكتلة الحرجة تنتظم ( مثلثاً ) ذو أضلاع ثلاثة يجلس في الضلع الأول ( الأشخاص الفنيون ) ( الأطباء والممرضون والفنيون .. الخ ) ، ويكون في الضلع الثاني ( المؤسسات الصحية ) ( المشافي المستوصفات المخابر مراكز البحث العلمي الخ .. ) ، وأما الضلع الثالث فيحوي ( الأفكار ) وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي ، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد ، فلا يكفي بناء مشفى وشراء لأحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية ، ذلك أن الحضارة ليست شراءً للأشياء ، بل هي عملية بناء ، والشراء مهما كانت الأموال خلفه ( سينفد ) ( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ) ( النحل : 96 ) وتختصر في ثلاث كلمات ( بناءٌ لها وصيانتها والقدرة على تطويرها لإنها تمتلك السر الحضاري وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف ) . إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية . وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية وانتهاءً بأعلاها . و كذك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية بما فيها المؤسسة العسكرية . وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لايخرج أيضا ً عن القاعدة الصحية التي ذكرناها فيما سبق أي وجود المثلث الذي يضم ( أشخاص + مؤسسات + وعي فكري مطابق ) . فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية من خلال تشكيل الكتلة الحرجة والشبكة الاجتماعية المتوترة . وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لابد من تهيئة عناصره الأولية ، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هي الإنسان الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره . فكرة الكتلة الحرجة : يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى ، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لاينقصون عنها ولافائدة من زيادتها إن لم تربك ( كتلة حرجة CRITCAL MASS ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية ، لإن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى ، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوماً ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود ، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية ( التورم غير الصحي والموت بعد حين ) وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي ( خبيثة - MALIGNANT ) ، وفكرة الكتلة الحرجة كونية سواء في المادة الصلبة أو السوائل ، في البايولوجيا أو النفس ، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي ، فهو قانون انطولوجي وجودي . ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا ً ، من أن التراكم ( الكمي ) يحدث انقلاباً ( نوعياً ) مع الزمن ( 17 ) ولمزيد من فهم الفكرة نقول : من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن ، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج ، ولايكفي مجرد الإضافة ، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً ، أي يختلط بدرجة التجانس ، وتستمر هذه ( الإضافة ) وهذا ( التفاعل ) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أشبع إلى ( الدرجة الحرجة ) بحيث أننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح . إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة ، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى ( الكتلة الحرجة ) فلاتنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية ، بل لابد من كتلة حرجة ، بحيث تضغط كتلتان من مستوى ( ماتحت الحرج ) كي تصبحان بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة ؛ فيحصل الانفجار المهول . هذه ( الكتلة الحرجة ) تعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي . ويسري هذا القانون على النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة ( التأثر الحرج ) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ( 5 : 83 ) . ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لاتحدث إلا بــ ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد ، فلايتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100سنتجراد . وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي ، فلايحدث الغليان مالم يصل إلى الدرجة الحرجة . وهكذا فـ ( الماء ) حتى يغلي لابد له من ( الدرجة الحرجة ) و( القنبلة الذرية ) تحتاج لانفجارها إلى ( الكتلة الحرجة ) و( الجبن ) حتى يُحفظ يحتاج لــ ( الوسط الحرج ) والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة سواء ( نوعياً ) أو ( كمياً ) حتى يتم الإصلاح المنشود . ولتبسيط الموضوع أكثر نقول ، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة مايحكمون به على تشبع الوسط بالكمية الحرجة ، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة ، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً بل وتنبؤاً عن تغير المجتمع . والآن إلى أخطر قطع البحث ، إلى قاعة العمليات الجراحية : للتداخل على استئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية ، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية . لابد قبل العمل الجراحي من معرفة ( تشريح الخارطة النفسية ) فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى ( المعرفة المحيطة بالتشريح - ANATOMY ) كذلك لابد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية ، ونحن هنا لانحتاج إلى معرفة ( كنه وحقيقة النفس ) فهذه يبدو لاجدوى منها ولن نصل إليها - على الأقل في القريب العاجل _ مايهمنا هو كيفية عمل النفس ( ديناميكية النفس ) ، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها ، وهذه تحت السيطرة الإنسانية ، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية ، بجراحات دقيقة . إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة ( الوعي ) وشريحة ( اللاوعي ) ، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار ، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر ، هو مدى تشبع النفس بالفكرة ، أو على حد تعبير القرآن ( الرسوخ ) ، فالفكرة قد يكون وزنها ( ميكروغرام ) وقد يكون وزنها ( ميجاطن ) !! فعندما تترسخ الفكرة وتهضم جيداً تتحول إلى اللاوعي ، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل ، فلايعرف الراحة كما يتصور البعض ، حتى في النوم كما ثبت من الدراسات الالكترونية المتقدمة ، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها ، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش ، فهو ( يعالج ) المعضلات حتى لو تركها الإنسان ، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة ( حسب التجلي ) وهو مايحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء . وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات ، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً . فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات ، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي ، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان ، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي ، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية . حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير ، و ( العواطف ) هي تعبيرات اللاوعي ، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولانعرف عنها شيئاً ، ولكنها توجهنا بشكل مرعب ، فالصربي الذي يقتل المسلم اليوم ، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة ( أمسلفيلد ) في كوزوفو قبل 600 عاماً ، قد امتلأ ( اللاوعي ) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة ، ومعالجة كيمياوية ضد السرطان مكثفة ، واختراق فكري شعاعي لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن . والمثل الصربي واضح ، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبأة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية . كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل ، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولط إلى 220 ، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ، ولكن ( التردد الكهربي ) داخلنا هو عادة في فولتاج ( الوعي - اللاوعي ) وليس العكس ، بمعنى أن الأفكار تمشي أولاً إلى الوعي ( باستثناء الأطفال والعوام التي قد تمر الأفكار مباشرةً الى اللاوعي عندهم كما في تشكل السلوك بالتقليد ) حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي ، فأصبحت في اللاوعي ( خبرة ) و ( تحرر ) الوعي لاستقبال أفكار جديدة ، وهي في حالة سيالة متصلة ، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت ( العواطف ) فأفرزت ( السلوك ) فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس . وإذا كنا من أجل ( أجهزة ) معينة نضطر لتحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولط إلى 220 فولط ، كذلك يمكن نقل سيالة ( اللاوعي ) إلى ( الوعي ) وهو مايفعله المحللون النفسيون أحياناً ، فإذا ظهرت تلك ( العفونات ) المختبأة بدون ( أكسجين عقلي ) إلى الضوء والهواء الطلق تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال . وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم . هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان ، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ . تقول الأسطورة أن عملاقاً أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة ، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول ، فهرع إليه لينتقم منه والأرض تهتز تحت أقدامه ، فلما سمع الثاني وقع الأقدام أصيب بالرعب ، فهدأته زوجته ، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى الأمر هي بآلية ( الأفكار ) لا بآلية ( العضلات ) ، وغطته باللحاف باستثناء قدميه الضخمتين ، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر ، اعتذرت عن عدم وجود زوجها ورجته أن لايرفع صوته حتى لايوقظ ( ابنها النائم ) فلما التفت فرأى الأقدام الفظيعة البارزة قال في نفسه إن كان هذا غلامه فكم يكون الأب ، فأصيب بالرعب وولى الأدبار ( 18 ) ؟؟!! . مراجع وهوامش : ( 1 ) وقعت عام 1389 ميلادي حيث انتصر فيها العثمانيون بقيادة معركة أمسل فيلد السلطان مراد خان الأول على الصرب الذين كان يقودهم الملك لازار ، ومن غرائب الأحداث التاريخية أن كلاهما قتل في هذه المعركة ، فأما السلطان العثماني فغدراً من جريح في المعركة ، وبعدها سقطت البلقان بما فيها صربيا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون _ راجع كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف محمد فريد بك المحامي ص 135 - ومازال الصرب حتى اليوم يحتفلون بذلك التاريخ المر ، ويندبون قتلى تلك المعركة التي مضى عليها مايزيد عن ستة قرون ؟! وأما النزاع الديني فيراجع في هذا كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص 161 وكان منشأ الخلاف أن الكنيسة الشرقية اعتبرت أن روح القدس هو من الآب فقط في حين أن الكنيسة اللاتينية قالت إنه مشتق من الاثنين الآب والأبن ؟! ( 2 ) كتاب التاريخ لابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) ( 3 ) المقدمة ص 33 ( 4 ) مقدمة كتاب التحرير لمقدمة ابن خلدون ص 8 ( 5 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ص 162 ( 6 ) يراجع في هذا بالتفصيل كتاب عندما تغير العالم - كتاب عالم المعرفة رقم 185 _ تأليف جيمس بيرك _ ترجمة ليلى جبالي (( وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) ( AVERROISM ) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية )) ص 94 - 95 ( 7 ) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 562 ( 8 ) ، وتقوم الطريقة الاستنباطية على وضع المقدمة والقياس عليها وهي مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة ( كل انسان فان . أحمد انسان . أحمد فان ) في حين أن الطريقة الاستقرائية تعمل من تحت لفوق بالعكس ، فهي تجمع الوقائع ثم تخرج بالقانون الذي ينتظم الوقائع ويفسرها ، والفرق الجوهري أن المنطق الأرسطي الصوري يبقى في الإطار النظري في حين أن منطق البحث التجريبي ، والذي انطلق به المسلمون من روح القرآن ، هو الانطلاق من الواقع واستخراج قانونه الذي يفسره . يراجع كتاب ( منطق ابن خلدون ) للدكتور علي الوردي ص 21 والمثل المضحك عن ( أسنان الحصان ) حيث اجتمع رهط من تلامذة أرسطو يتناقشون في أسنان الحصان ، فاختلفوا وكل مكنهم أراد إثبات وجهة نظره ( نظرياً ) فلم يكلف أحدهم خاطره ويلوث يده بفتح فم الحصان والنظر في نوعيتها !! ( 9 ) يراجع كتاب تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ( غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ ) ص 146 ( 10 ) فاطر 42 ( 11 ) كتاب ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) تأليف جودت سعيد _ تقديم مالك بن نبي - ص 11 ( 12 ) لاتوجد سوى آيتان في القرآن في هذا المعنى الأولى من سورة الرعد المذكورة أعلاه ، والثانية من سورة الأنفال استبدلت لفظة ( ما ) بلفظة ( نعمة ) فقالت : ذلك بأن الله لم يك مغيراً ( نعمة ) أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) ( 13 ) الأنعام 94 ( 14 ) الأنفال 25 ( 15 ) الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ًولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وماأردوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ( 16 ) المائدة 18 ( 17 ) يراجع المقدمة ص 29 ( 18 ) حتى يغيروا مابأنفسهم ص 91
اقرأ المزيد
انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية
(( إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة : 1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي . 2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ . 3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! ) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه . الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا . والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها . والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !! والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟ لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية ) فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم . عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم . جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 ) كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين . كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير . وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 ) مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته : الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ . والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري . في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات . يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان . إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية . أن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لايسقط طريح الفراش ، لإنه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة - COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريرية - CLINICA ) أي لايحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير ، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج ، الذي أصيب ( التجرثم الدموي - SEPTICEMIA ) مع معركة صفين ، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج ، والنزف ( BLEEDING ) العباسي ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسية ، والغيبوبة ( COMA ) المملوكية ، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتي ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر ، ثم ( التشريح ) في قاعة العمليات ، حيث جرت عمليات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل ) ، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أُكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى ، لانستطيع أن نقول شيئاً ، لإننا لانعرف ماذا يجرى لنا ، ولانعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية ، ولانملك العقل الخلدوني التحليلي . إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً ، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني ، أي تحت خط الصفر ، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي ، حيث ينحدر الخط إلى ماتحت الخط الأفقي ، الذي هو خط الصفر . إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرخ لـ ( المعجزة الأوربية ) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة ، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين ، حسب الخانات التي يوزعها . ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات ( الدراويش ) ، وازدراد الأساطير ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأخبار الجن والعفاريت ، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على مايحدث كان يجيب : سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً !! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك ، أنه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا ، وراجعوا قصة ( علي التركي - ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة . يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى : (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لاتتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية ؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسارالسياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى لاعلى الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق ، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار ، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية ، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية ، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد ، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد ، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق ، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب ، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى ، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار ، ونظم معين من ( العقلية ) المتشكل . إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليلية ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس ، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبية ) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار ) ، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء ) ، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر ، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه ، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! ( 11 ) . وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات ، ويطُوَّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين ، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة ( استعصاء تاريخية ) لم يتعافى منها حتى الآن ، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثر كل طرف على الآخر سلباً ، بين ( العطالة ) العقلية و( العجز ) الحضاري . إن الفوضى الاجتماعية في العالم الأسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكييك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي . يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك ، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل ، وينقله إلى الآخر ، فأرشده ( l ) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطل ، فلا يستفيد من أعظم الكنوز ، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل ( 15 ) وهذه الواقعة إن دلت على شيء ؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لايستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به ، ويمر على الآيات ( وهو عنها معرض ) لإن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً . وأن ماحدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق . فالقانون الألهي يطوق عباده جميعاً . هوامش ومراجع : ( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24 ( 8 ) كتبها رجل ألماني تزيَ بزي تركي ، وعمل لمدة ثلاث سنوات ، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعاً زاد عن عشرة مليون مارك !! ( 9 ) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص 38 و49 و50 ( 10 ) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتمناع ، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان ، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل ، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت ، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد ، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم ( الخط البياني ) - عالم المعرفة 185 - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص 201 ( 11 ) سورة القصص 76 ( 12 ) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزئين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية ( 13 ) الزخرف 23 ( 14 ) الحديث : (( ذكر النبي ( l ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قلنا يارسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والانجيل ولاينتفعون مما فيهما بشيء )) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 66 المائدة وصححه ( 15 ) تأمل الآية القرآنية ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) سورة الجمعة آية 5 .
اقرأ المزيد
العقل النقلي والعقل النقدي
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات ( تمرير الأفكار ) بدون مناقشة و ( تكرارها ) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت . فبالأولى : يتحول العقل إلى ( وعاء ) يضم ( كم ) فوضوي من الأفكار بدون نسق معرفي ( الابستمولوجيا ) ، وبالثانية : تتشكل الدوغمائية ( 1 ) لإن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك ، وبالثالثة : تتشكل ( العقلية أحادية الرؤية ) المريرة ، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص ، مبني على الراديكالية ( التطرف ) ، فالوجود أبيض أو أسود ، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير ، معنا أو ضدنا ، والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل بل اصطياد الاتباع ، وبناء حلقات الدراويش الجدد . فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة ، ويزداد التقليد ، يشتد التعصب ، ويتعمق اتجاه العنف ، يتحنط العقل ، ويتوقف النمو ، يتعطل التطور ، وتصبح الحياة مستحيلة ؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة ، فلاغرابة أن يتحول المجتمع ( كمونياً ) إلى مايشبه الحرب الأهلية المبطنة ، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين ، فالعقلية النقلية تسبح بين ( الاطمئنان البارد ) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة ، و ( كراهية الآخر ) المارق ، ومع الكراهية تتبرمج ( الحرب ) سلفاً ، لإن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد . أما العقل ( النقدي ) فيقابل المعطيات السابقة ، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على ( تنقية وغربلة ) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على ( تأمل ) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ ، ولإنها تحولت إلى نظم ( تردد - FREQUENCY ) يشبه سريان التيار الكهربي ، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم ، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة ، والحياة مثل ( الطريق السريع ) ذو اتجاه مزدوج ، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب ؛ لإن جوهر الحب مشاركة ، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر ، فالعقلية النقدية سلامية ، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين . هذا التكوين ( الطفلي ) للعقل من خلال تأسيس (العقلية النقلية) والمحافظة عليها ونشرها في المجتمع وتربية الجيل عليها في (الجامع) و(الجامعة) له آثار اجتماعية مدمرة ، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة ، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر ، إما إذا ملك الشباب ليس ( الكلام والفتوى ) بل السلاح ؛ فنموذج ( كابول ) والصومال جاهزة ، فلايُتْعب أحدهم ذهنه ؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد ، وأنه قد يكون ( مخطيء ) لا أكثر ، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم ( يُكَفِّرون ) ومن عادة أهل العلم أنهم ( يُخَطِّئون ) ، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض ( الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض ( الهرطقة . إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى ، مصيبة مرض ( الآبائية ) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة ، فمالم ينكسر التقليد ؛ لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة ، فضلاً عن الإبداع ، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة ، عند مواجهة الكوارث والمصائب ، بتحرير منهج ( الشك ) فإنه لن يصل إلى شاطيء اليقين ، لإن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج ، والعقلية النقلية لاترى ربطاً بين الأمرين ، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة ، فلا صدفة في الكون ولاعبثية ، وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث . فإذا انهدمت بناية ، أو مات مريض ، أو توقف جهاز عن العمل ، أو حلت هزيمة عسكرية أوتردي اقتصادي ، أو نكبة حضارية ، فيجب أن نفترض أن خط أً ما قد حصل ، وليس لإن قوى لانعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك ، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة ، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه ، وهذا مبدأ قرآني ( قل هو من عند أنفسكم ) ( 2 ) ينكفيء العقل ( النقدي ) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي ( الذات ) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون ( جمع ) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات ، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم ( العفوية ) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن ( الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع ، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس . إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها ( ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال ( الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على ( الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و ( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي ( تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين . والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : (( لإن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق )) ( 3 ) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ) . وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون : (( واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح )) ثم يخلص إلى هذه النتيجة : (( وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه )) ( 4 ) إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه ( الفهم البنيوي التركيبي ) ، والثاني ربطه بالواقع ( في الآفاق وأنفسهم ) لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم ، واقتلاع نص من مكانه ، بدون سياقه العام ، والحيثيات التي ولد فيها ، والترابطات التاريخية ، لايقرب من فهم النص ، بل قد يكون خطراً ومعطلاً . والأخ الذي كان ( يقتلع ) نصف آية من سياقها يبرر بها ( العنف ) الذي يمارسه (( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء ، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (( كفوا أيديكم )) مروراً بــ (( كتب عليكم القتال )) وانتهاءً بــ ( قاتلوا المشركين كافة ) ، وغاب عنه ثانياً أن هذه ( الوظيفة العسكرية ) هي أداة خطرة للغاية ، لإنها مرتبطة بسفك الدماء ، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION ) وبيد ( الحاكم المسلم ) فقط ، فهي ليست لــ ( وظيفة فرد ) كما أنها ليست ( مهمة جماعة ) ، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة ، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح ، وضمن السياسة الشرعية ، التي هي لدفع ( الظلم ) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة ، بل بالأحرى لدفع الظلم ، سواء صدرت من كافر أو ( مسلم ) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته ، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم ، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة ( الجهاد ) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم ، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى ، إنما يفجر الكوارث في كل مكان ، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد ، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح . وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر ، ولاعلاقة له بالصراع المسلح في البوسنة ، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف . فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من ( الفتنة ) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة ، أو بإخراجه من بيته ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ( 5 ) ، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه ، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة ، بما فيه الإسلام ، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( 6 ) فالإسلام وفر نفس الصرب ، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب. ولكي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها . الأول : عمل الجهاز الكهربي ، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة ، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة ، كذلك يقوم العقل ( النقدي ) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع ، أي أخذ النتائج ، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي ، فنتائج عملنا ( جراحي الأوعية ) فوري ، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية ، ونتائج جراحة البطن ( تظهر ) في مدى أيام ، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام ، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع ، حتى يمد رجله ويحمل ثقله ، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة ، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد ، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات ، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً ، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى . كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع ، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين ، ومع البشر عقوداً ، أما التغيرات الاجتماعية ، فليس عندنا من ( مطل ) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال ( بانوراما ابن خلدون ) أي الحقل التاريخي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ( 7 ) . الثاني : هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال ( PUZZEL ) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل ، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر ، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع ، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة . الثالث : وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة ، والصورة لاتفهم إلا بتضام أجزاءها ، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه ؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه ، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال ( حركة ) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء ، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها ، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع . نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء ، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة ، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده) ( 8 ) وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا ، في معنى العقل ( النقدي ) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار ، والعقل ( النقلي ) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص ، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه ، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام ، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء ، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز ، واللحم إلى ( الحروف الأولى ) في صورة الأحماض الأمينية ، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب ، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة ، أو إطلاق الطاقة من السكر . إنه يفعل مايفعله ( العقل النقدي ) مع اللغة ، فكلمة ( فكر ) تتكون من ثلاث حروف ، ولكن حسب نظرية الاحتمالات ، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات ( فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك - ) بمعاني عجيبة ، فالأول ( فكر ) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية ، والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء ، والثالث ( فرك )عمل يدوي ، والرابع ( كرف ) ( شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟! ) والخامس والسادس ( ركف + رفك ) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر ) فيحيلها إلى ( فكر وإيمان ) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن . كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية ، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي ( BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية ، قد تخصصت في ( النقد الذاتي ) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد ؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة ، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن ، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه ، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد ، ويتمهل في اتخاذ قراراته ، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني ، تحتاج إلى ستين ساعة ، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور ( 9 ) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية ؟ وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً ، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد ، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية ، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب ، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية ، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع ( العقل النقلي ) إلى وضع ( العقل النقدي ) ؟؟ ، وفي ضوء هذا فإن ( جراحة الفكر ) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها ، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً ، بل انغلاقاً عقلياً ، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً ، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية ، فتحطم الأغلال العقلية ، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية ، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس). توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به !! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض ، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها ؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي ، لأن الرجل حبس من داخل عقله ، وليس حقيقة بل وهماً ، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً ؟؟ هوامش ومراجع : ( 1 ) الدوغما ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة ، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة ، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن ( 2 ) سورة آل عمران - رقم 165 ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قل أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 3 ) المقدمة ص 9 ( 4 ) المقدمة ص 37 ( 5 ) الممتحنة الآية 8 ( 6 ) البقرة 256 ( 7 ) الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 ( 9 ) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ ( بول اهرلنج ) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم ، حقيقة فريدة من نوعها . لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون ( الحاجز بين الدم والمخ ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة ، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة . وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
اقرأ المزيد
مصير الحرب .. إلى أين ؟
قد يستغرب القاريء لو قلت له : إن زمن الحرب قد ولَّى وأننا نطأ بأقدامنا عتبة (عالم السلام) ونحقق علم الله القديم فينا ( 1 ) وسيعتبرني بعضهم مسرفاً في التفاؤل أو غير واقعي بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم !! نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع ، سيكشف الغطاء عن بصيرتنا ؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أومحتضر في سكرات الموت ، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها ، فدماغه مع العهد الجديد ، وأطرافه مازالت في العهد القديم ، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و ( شهود ) مايحدث فيه ، والكهنة ( الجدد ) للعالم الصناعي يدركون تماماً أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لاتضر ولاتنفع ، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير . مازلت أتذكر أحداث الشيشان حين هز الدكتور كامل رأسه متألماً على وضع مدينة (جروزني) وهي تتحول إلى أنقاض ويتصاعد منها رائحة البارود وتسقط في بركة دم . وعقبت زوجته قائلة : يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم ؛ فالروس سمحوا باستقلال الكثير من الجمهوريات فلماذا يحرمون منها الشيشان ؟ إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما ( الصورة الشمولية ) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية ، فماذا نقول عن مذابح راوندا والبوسنة ؟ وصراع اذربيجان والأرمن ؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان ؟ بل ماذا نقول أمام شهادة ( ويل ديورانت ) وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له : (( الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والاربعمائة سنة الأخيرة ( 3421 ) من التاريخ المسجل لاتوجد سوى ( 268 ) سنة بغير حرب))( 2 ) فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط ، لإنه مع كل دورة ( 14 ) أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ( 13 ) ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني وسكت منجل ( عزرائيل ) ملك الموت سنة واحدة فقط ؟! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة ، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الازتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا مسألة الآخر ) ( 3 ) حيث كشف النقاب بعد مرور خمس قرون ومن خلال استنطاق نفس النصوص التاريخية للغزاة الاسبان ( المبشر لاس كاساس ) عن إبادة ( 80 ) ثمانين مليون من أصل ( 100 مائة ) مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين ، تم إبادة معظمهم على يد الاسبان والبرتغاليين . أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد وحمل ماتبقى منهم عبيداً إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين ، أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب ( الوبيخ ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية ، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط ، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة ( آخر الراحلين ) ( 4 ) بحيث تنقل لنا بوضوح مآساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر ، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر ( 5 ) هذه القصة من قصص التراجيديا التي لاتقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء ، لاقصة البؤساء أو قصة عاصفة وقلب ( 6 ) لــ ( فيكتور هوجو ) ، لاقصة ماجدولين للمنفلوطي ، أو قصص ديستوفسكي وتولستوي ، لإنها رواية شعب يفنى بكامله فلايبقى حتى من يقص خبر اختفاءه من سطح الأرض ، إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية ، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل ، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولايتركها إلا وقد بكى مرات ومرات .. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال ، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل ، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للانسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى ، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الانسان وظلمه ... ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجأوا إلى الكهوف ، لإنهم توقعوا شر ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) كله بسبب الخلاف في الرأي ، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع ، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان ؟! ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا ) ( 6 ) ولاغرابة في هذا الكلام فالمجتمع الإسلامي لاتموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات ، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشاناً ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت . *********************** ولكن صبراً فهذه ليست القصة ولاكامل الجرعة ، فلابد من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد ... والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب ؟ كيف يقتل الإنسان أخيه الإنسان ؟ كيف نشأت الحرب وتطورت ؟ أين نشأت وماهي ظروف تكوينها الجنينية ؟ وماهي جذور العنف والحرب عموماً ؟ ثم إلى أين وصلت اليوم ؟ وماهو مصيرها في المستقبل ؟ ************************** إن الحرب هي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان ، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لاثالث لهما لحل المشكلة القائمة بينهما ، إما محاولة التفاهم بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة ، وإما باستخدام أساليب ( الاكراه ) للآخر بصور شتى لاتنتهي ، فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة ، وأشكال السلوك العنيفة لاتنتهي من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية ، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية ، فالحرب هي الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لانعترف بوجوده ، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح النووي والكيمياوي؟! فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان . *********************** الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة ، وتشكلت كخطأ ( كروموسومي ) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني ، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية ، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية ، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم ( المؤسسة + العلوم + التكنولوجيا ) ولدت الحرب من رحم العنف ؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو بأشد من السرطان والغيلان ، بل إن مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلى مجتمعات عسكرية بالكامل كما حدث مع مجتمع ( اسبرطة ) القديم والذي أصبح مضرب مثل السوء ، مقابل مجتمع ( أثينا ) مركز العلم والفلسفة والفنون . ومع تطور آلة الحرب وعلوم استخدامها ، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة ، تفجرت الحروب والصدامات كتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية ، وكلها تحت ستار ( الدفاع ) عن النفس المشروع ، أو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع ، وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل البارود الذي لايحتاج لأكثر من عود ثقاب كي يتفجر ، فكانت الحرب كما وصفها ( غاستون بوتول ) بنت الحضارة وقاتلتها بنفس الوقت ( 7 ) فالحروب قررت مصير العديد من الدول والامبراطوريات فارتفعت لتسقط بعد حين وبنفس الآلية . ************************ ومرت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع سواء في الصدم أو الوقاية أو الحركة ، وهكذا طور الآشوريون العربة الحربية ، واستخدم هانيبال الفيلة ، وطور الاسكندر نظام الفالانكس ببراعة ، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة وتفوق ، وفتح الاتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار ، وحول كل من جنكيزخان وهتلر جيوشه إلى فرق محمولة سواء بالخيالة أو البانزر ( الدبابات ) ، ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون ، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الانكليز دولة التعايشي خليفة المهدي في السودان ، كما حصد الرشاش أرواح مايزيد عن ستين ألفاً من خيرة الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي 12 ساعة فقط ( معركة السوم ) ، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما معلناً وصول الإنسان إلى سقف القوة ، ممتلكاً هذه المرة سلاحاً ليس كالأسلحة ، فهذه المرة وضع يده ودفعة واحدة على الوقود النووي وأصبح مصير الجنس البشري برمته مهددا بالفناء ، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي ( القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن ) أصبح بالإمكان مسح عاصمة دولة عظمى تضم 20 مليون نسمة ؟؟؟!! وتحويل سطح الأرض في النهاية إلى مايشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر ، وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما ؟! . ********************* تعتبر الحرب حسب تعريف المعهد الفرنسي لعلم الحرب أنها كارثة ذات ( 18 ) ثماني عشر وجه فهي : (( هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية وعدم الاعتراف بالغير بل وإنكار وجوده واندلاع العنف وغياب الحق والمخاطرة بحياة الإنسان وتدمير الثروات المتنوعة وتكريس جميع النشاطات للمجابهات الدموية وأفضلية اللامعقول على المعقول والمطلق على النسبي في إطار عقلي شمولي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة والفوضى واشتداد الأزمات والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب )) ( 8 ) . مع كل صورة ( التنين ) ذو الألسنة النارية الثمانية عشر هذه كما تتكلم الأساطير ، فإن الإنسان يخطط لها ويبرمج ، ويسعى لها ويحفد ، يتدرب ويستعد ، فالثكنات العسكرية كلها للتدريب على قتل الإنسان أخيه الإنسان ، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه ؟؟!! ******************** لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما ( الرق ) و ( الحرب ) فالحرب كانت تفرز الرقيق ، والرق كان ( الآلة القديمة ) فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرض وحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وماشابه ، وبدخول الإنسان عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية ، فلولم يُلغ الرق قانوناً لألغته الآلة عملياً ، فاختراع الإنسان الآلة وفر الجهد البشري ، فكان تحرير الرق تابعاً لهذا التطور النوعي ، وبنفس هذه الآلية يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني ( الحرب ) وكل توابعها وتأثيراتها على الإدارة والعلوم والفنون . وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر النووي ، فلابد من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد . يقول غورباتشوف (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى وتكتسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام ، فالوظيفة السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون وخاسرون لإن الحضارة العالمية سوف تفنى فالنزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )) ( 9 ) وانتبه الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) إلى هذا التحول النوعي منذ عام 1956 م فأشار إلى أن الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار وبأن عصر التسلح قد ولى ؟! ( 10 ) ************************* وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا ، في اذربيجان والشيشان ؟؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين . إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه . وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر : ( 1 ) تقول الفكرة الأولى : إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين ، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه ، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولاتخطر ، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) أي أنه لاسبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة ، وفض النزاعات عن طريق الحروب ، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها بعضاً ، وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة ، وتشكلت الوحدة الأوربية التي يزداد أعضاؤها كل يوم ، بحيث تتحول البحيرة الأوربية مع كل يوم إلى بحيرة سلام ، وأرض تفيض عسلاً ولبناً . والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لارجعة فيها ، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في نهاية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش عقلياً في القرن التاسع عشر ، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق ؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ ( صنم ) السامري الجديد ، سلاح شمشون الجبار ، القنبلة النووية ، التي يفككها من بدأ بصناعتها ، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها ، ويعلم علم اليقين أنها سلاحاً ليس للاستخدام ، فهي صنم السامري الذي له خوار ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ) ولكنه لايضر ولاينفع ولايملك موتا ولاحياة ولانشورا ، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة ً ، في حرب فيتنام وكوريا وسواه . ( 2 ) وتقول الفكرة الثانية : إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم ، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه ، بعد أن شعر أنه صنم لايضر ولاينفع ، وبدأ يكتشف أن أعظم سلاح هو الانسان الجديد المسلح بالعلم والسلم ، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل ، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار ، بل والمضحك أكثر ، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلايبيعه ، ويبيع السلاح السخيف ، فيقبض عليه أموالا ً وفيرة ، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع ( مليون مليون = تريليون ) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال ، كل ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه . ( 3 ) وتقول الفكرة الثالثة : إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية ، يدركها أساطين السياسة ، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين ، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن ، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم ، ويتراجع مركزهم في العالم ، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة . ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك ، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد ، ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك ، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا ، بل تحت سيطرتهم ، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم ، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره ، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم ، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج ، كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين ، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي ، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين ، وتجربة البوسنة التي تمثل ( حي أوربي ) داخل أوربا لاتخرج عن هذه اللعبة المقيتة ، التي آخر ماينظر فيها مقياس العدل والحق ، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه . ( 4 ) وتقول الفكرة الرابعة : طالما هم الذين ( يدركون ) و ( يستطيعون ) فلماذا لايطفؤون الحرائق ، أو لايشعلونها على الأقل ، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم ، فالعلم شق الطريق إلى السلم ، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة ، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين مازالوا لم يقفزوا نفس القفزة النوعية التي قفزها العلم ، فهم مازالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة ، ولكن وضع ( الغاز ) في ( قربة جلد) تنتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير ، كما هي في حروب السياسيين التي لاتنتهي ، ومايحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار إليه غورباتشوف ، فمسلمة ( كلاوسفيتز ) القديمة في فن الحرب ، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جدبدة ، قد طواها الزمن وأكلها العث ، ولكنها مازالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد . ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثاراً بعيدة ، فلايظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه ، فابن رشد مازال يعيش في ذاكرة التاريخ في الحين الذي لانذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها . إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حل مشاكلنا بسهولة ، من توديع العالم القديم ، عالم الحرب والسلاح ، وأن دخولنا إلى دائرة النار تجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخَّرات ( بالفتح ) تحت رحمته ، وسنبقى ندفع فواتير الدم والدموع وحفلات التهجير الجماعي وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم كما وصف القرآن اليهود ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ) . يقول المثل ( الله يطعمك حجة والناس راجعة ) عن الرجل الذي أراد أن يذهب إلى الحج ، عندما قفل الناس عائدين إلى بيوتهم ، فإن أبينا الا سلوك طريق القوة ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة ، تنفض عن كاهلها الغبار الذري وهي لاتصدق أنها مازالت على قيد الحياة فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معاً . مراجع وهوامش : ( 1 ) تأمل الحوار بين الله ( جل جلاله ) والملائكة في سورة البقرة ، فالإنسان في نظر الملائكة متهم بأنه مجرم ومخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) في حين رأى الله تعالى فيه كائناً آخر (( إني أعلم مالاتعلمون )) ( 2 ) دروس التاريخ - ول واريل ديورانت - ترجمة علي شلش - دار فكر ص 155 ( 3 ) فتح أمريكا مسألة الآخر - تزفيتان تودوروف - سينا للنشر - ترجمة بشير السباعي - ص 143 ( 4 ) آخر الراحلين - رواية قفقاسية _ باغرات شينكوبا - ترجمة ونشر محي الدين سليق ( 5 ) تتناثر قرى ( الشراكسة ) في المناطق المذكورة وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا ولذا فإن الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة السابقة ( 6 ) الكهف الآية رقم 18 ( 7 ) راجع كتاب الحروب والحضارات - المعهد الفرنسي لعلم الحرب - ترجمة أحمد عبد الكريم ( 8 ) المصدر السابق ص 28 ( 9 ) بيروستريكا - غورباتشوف - دار الفارابي - ص 199 ( 10 ) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية - جوناثان شيل - ترجمة موسى الزعبي - مكتب الخدمات الطباعية دمشق ص 14 (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد انتهى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت ))
اقرأ المزيد
جدلية الممكن والمستحيل
(( في مواجهتنا للأشياء نحن حيال ثلاث معادلات : أشياء ( يمكن ) أن ننفذها ، وأشياء ( يستحيل ) أن نحققها ، وبين الممكن والمستحيل هناك ( طيف ) من الإمكانات ، فضمن الممكن هناك أشياء ( يسهل ) فعلها ، وهناك أشياء ( يصعب ) إنجازها ، ولذا يجب أن نسأل أنفسنا دوماً هذا السؤال المحوري : هل الأمر الذي يواجهنا ( مستحيل ) أم ( صعب ) ؟؟ لإنه بناء على تحديد الإجابة يتولد أمر في غاية الأهمية ، فــ ( المستحيل ) يعني أن لا فائدة من بذل الجهد ، في حين أن ( الصعب ) يتطلب بذل الجهد المكافيء ، فوحدات من طاقة العمل تذلل الصعوبات حسب حجم الصعوبة ، وهي مرتبطة بعامل ( الزمن ) حتى يتم تحريرها من الاستحالة ، فالعملية الجراحية مهما بلغت من سهولة التداخل وصغر الحجم وقصر الوقت تعتبر ( مستحيلة ) إذا افترض العقل إنجازها في خمسة ثواني !! ونقل جبل يصبح في حيز ( الممكن ) إذا توفرت ( الإرادة = الجانب النفسي ) و ( القدرة = الجانب الفني ) مضافاً إليهما عنصر ( الزمن ) .
المستحيل يعني العبثية في الاتجاه فكل حركة في هذا الاتجاه هي مضيعة للوقت والجهد وعمل في الحقل غير المفيد ، وهذه الفكرة إنارة رائعة للحديث الذي ينهى عن البكاء على الماضي تحت مقولة ( لو ) ( 1 ) والاختلاط يقع بين تداخل هذه الحقول الثلاثة ( المستحيل ) و ( الممكن ) بشقيه ( السهل ) و ( الصعب ) حيث تصبح عقليتنا ترى الأشياء في ( تردد = ذبذبة ) بين ذهان ( السهولة ) وذهان ( الاستحالة ) وبذلك يختفي مفهوم الصعوبة الذي يعتبر المحرك الأساسي لتحريض آلية بذل الجهد ، وهكذا رأى العقل العربي في يوم من الأيام ( اسرائيل ) دويلة عصابات وشذاذ الآفاق ، أما اليوم فهي التنين النووي وشمشون الجبار الاستراتيجي ، والأمر ليس بهذا ولاذاك ، وينطبق القانون التاريخي على الجميع ، ولن تشذ اسرائيل عن قانون التاريخ ، فهي منخس التحدي التاريخي ، وترمومتر انهيارنا الحضاري ، ومشعر مرضنا وعجزنا ، ولذا فهي تمثل كمية ( من العمل الصعب المليء بالتحدي والقابل للانجاز ) ، ومن الضروري في المستوى الفردي والاجتماعي تحديد مساحات الممكن والمستحيل والعلاقة الرياضية بينهما ، فحين نزهد في ( الممكن ) ونحلم بــ ( المستحيل ) نصبح عملياً في إجازة مفتوحة ، وحين نتعامل مع الممكن فنستفيد منه ؛ فإننا عملياً ومن خلال الجهد نربط بين طرفي معادلة ( الممكن - المستحيل ) لنقفز من عتبة الممكن _ مع الزمن _ إلى فضاء المستحيل )) .
أحجار على رقعة شطرنج كبيرة ؟؟!!
وضع الموظف البنكي الكبير ساقاً على ساق ثم نفث في وجهي دخان سيكارته ؛ الذي لم يكلف نفسه في الاستئذان كثيراً قبل الهجوم على صحة رئتي وسلامة أوعيتي الدموية ، وحدَّق في الحضور وتابع الحديث : ياجماعة كل مايحدث لنا يتم وفق تخطيط خارجي ونحن لسنا أكثر من أحجار على رقعة الشطرنج ؟!! وباعتبار مهنتي المزدوجة ( جراح أوعية ) فأنا أصلح الأوعية الدموية في قاعات العمليات ، والمجاري الفكرية في جلسات البحث العقلية ، وكنت قد فرغت لتوي منذ أيام قليلة من تصليح شرايين مدخن عمره 38 سنة كان يجرُّ قدمه بسبب فقر التروية الدموية ( ISCHAEMIA ) في ساقه اليسرى ، ولإنني أصبت بالصداع في جو الدخان ، فقمت بتداخلين لاصلاح الوسط : ضباب الدخان لانقاذ رئتي وأوعيتي من هجوم النيكوتين ، عن طريق المدخنة المسلطة فوق رؤوسنا ، وضباب الأفكار السلبية المعيقة للتنفس العقلي الصحيح !!
الأمثال الشعبية :
من خلال خبرتي الميدانية لفت نظري موضوع ( الأمثال الشعبية ) وعلاقتها بالثقافة
السائدة ولاحظت أن هناك تياراً من الأمثلة يشكل عقلية انسان المنطقة ، ومن الغريب تكرر المثل مع تباين اللهجات المحلية ، وهكذا نسمع ( موطالع بايدنا شي ) , ( عين ماتقاوم مخرز ) و ( ياللي اخد أمنا بنسميه عمنا ) و ( الايد اللي ماتقدر تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر ) و ( من حيط لحيط وربي سترك ) و ( مادخلنا ) و ( فخار يكسر بعضو ) ؟؟!!! ........ ومازلت أتذكر حادثة جرت لي في مدينة الدمام عندما كنت عند بياع ( الشاورما ) عندما سمعنا ضجة كبيرة فصاح البياع ( مادخلنا = أي لادخل لنا فيما يجري ؟؟!! ) ثم أردف ( فخار يكسر بعضو = أي فليكن مثل جرات الفخار التي يكسر بعضها بعضاً طالما أنا في الحفظ والصون ؟؟!! ) .
من القصة السابقة والأمثلة الشعبية التي أُوردت يمكن أخذ ( عينات ) ثقافية للتحليل المخبري العقلي البارد ، فكما أن المريض يأتي إلى المخبر فتؤخذ عينة من دمه للتحليل فيكشف من هذه العينة البسيطة أشياء لاتنتهي عن وضع بدنه وأجهزته البيولوجية المعقدة ، من مثل فقر الدم وارتفاع الكولسترول وقصور الكبد وفشل الكلية والتهاب المعثكلة واضطراب الشوارد المعدنية ، كذلك الحال في ( العينات الثقافية ) ، فصاحب ( الشاورما ) عندما صرخ مع صوت الاصطدام ( مادخلنا ) كان في الواقع يعبر عن ثقافة سائدة وعقلية مسيطرة ومفاهيم لها اليد العليا في المجتمع ، فكلمته هذه تمثل ثقافة الانسحاب والارتداد والانكفاء على الذات وتوقف روح ( المبادرة الفردية ) هو يريد أن لايسمع شيئاً غير إطار عمله اليومي ، كون العالم الخارجي لايحمل الا الشر والأذية والرض ( TRAUMA ) هو لايرغب أن يكون شاهداً على واقعة ، فهو قد خسر وظيفة ( الشهادة ) التي تكلم عنها القرآن منذ زمن بعيد ، هو لايحب من قريب أو بعيد رؤية ( البوليس = الشرطة ) فيعينهم على كشف جريمة ، هو غير مستعد لاسعاف انسان مصاب طالما أنها لاتخصه ، فهو مؤشر فاضح لتفكك الشبكة الاجتماعية . فهذه الثقافة السلبية في مجتمعنا يمكن الكشف عنها بمثل هذه العينات من ( الأمثال الشعبية ) . وبالمقابل مازلت أتذكر برنامجاً كان يبث في ألمانيا بعنوان ( XY ) حيث كان يعرض للجرائم فيعرضها ويعيد تركيبها ( RECONSTRUCTION ) ثم يتم مخاطبة الجمهور في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وليشتنشتاين ( المناطق الناطقة بالألمانية ) للافادة بأية معلومات هامة حول الواقعة ، وكان يتم بواسطة ( المبادرات الفردية ) الكشف عن الكثير من الجرائم المروعة ، فالفرد هناك يفتح عينيه على كل مايحدث ويشارك بدون خوف ومعه كل حس الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه ، وعندما نرجع لتحليل مقولة الرجل آنف الذكر لفهم الآليات الخفية خلف حدوث الواقعات يبرز أمامنا السؤال المفصلي : هل حقاً أننا لانملك من أمرنا شيئاً أي أننا أمام ذهان ( الاستحالة ) أم أن هناك هامش يمكن أن نتحرك به ؟ وماهو مقداره ؟ وأين هو حقله ؟ إذاً من الواجب أن نتأمل قطاع ( الممكن ) الذي يمكن أن نحدث فيه شيئاً بـــ ( جهدنا ) .
الممكن والمستحيل في الواقع الأرضي :
لنطرح الأسئلة البسيطة التالية : هل هناك قوة في الأرض تمنع الانسان أن يحرص أن يأتي لموعده على وجه الدقة ؟ هل هو في حكم الاستحالة أن يلبس الانسان ثوباً نظيفاً أو أن تكون رائحته طيبة وشعره مسرح ؟ هل هناك من يمنع أن يحترم الانسان زوجته ويثقف ابنه ويبتسم في وجه جاره ويقرأ كل يوم نصف ساعة بحثاً مجدياً ؟؟ هل هناك من يحول بين المرء وأن ينظف أمام بيته وأن لايلقي زجاجات الببسي في الطرقات ؟ هل هناك صعوبة بالغة أن يوطن الانسان نفسه أربع وعشرين ساعة أن لايذكر أحداً الا بخير ؟؟ هل من يمنع أن يتسامح الانسان مع الآخرين وأن يعذرهم وأن لايسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم ؟ هل في إمكان الانسان أن يدرب نفسه على أن لايفعل أمراً يخالف القواعد الأخلاقية ولو أُمر بذلك ؟ هل بإمكان الفرد أن يتخلص من التحول إلى ( شيء ) في صورة بوق أو مسدس ؟ هذه الاسئلة البسيطة وأمثالها تعطينا الانطباع أن مساحة الممكن هي العظمى في الحياة وأن بإمكان المرء أن يفعل أشياء كثيرة جداً . إن أعظم إحباط يصاب به الانسان عندما يضع لنفسه هدفاً لايستطيع الوصول اليه !! وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم ؟ وأشد تدميرا منه عندما ينتظر الصدف أن تولِّد هذا الواقع الذي يحلم به !! فكلها سلسلة من الأخطاء الرهيبة التي تلغي آلية الجهد .
يحمل الانسان جدلاً رهيباً ، فهو لاشيء إذا قورن باللانهاية ( كما هو معلوم في الرياضيات أن نسبة الرقم الى اللانهاية تساوي الصفر ) وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية . بين الممكن والمستحيل ، فهو لايستطيع خلق نفسه ولاخلق أولاده ( لايخلقون شيئاً وهم يخلقون ولايملكون لانفسهم ضرا ولانفعا ولايملكون موتا ولاحياة ولانشورا ) ( 2 ) ولذلك سحب الله إمكانية الخلق منا ولو كانت ذباباً تافهاً (( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له )) (3)
العلاقة الرياضية بين الممكن والمستحيل :
نحن نرى في اللحظة الواحدة السهل والصعب والمستحيل في الشيء الواحد في ثلاث حالات ، وفي الأشياء الثلاثة في الحالة الواحدة ، فمن الممكن ( حمل ) الصحن ، ولكن يصعب حمل الطاولة الكبيرة ، ويستحيل حمل البيت ، كما أنه نستطيع أن نحمل الصحن ولكن يصعب تحويله الى قدح ولكن يستحيل قلبه إلى أرنب . نحن لانستطيع تغيير عقول كل الناس ، ولكن نستطيع عدم إضاعة الوقت في ( الشدة والطرنيب ) والالتفات إلى تثقيف أنفسنا . نحن لانستطيع تغيير قوانين المرور ، ولكن بإمكاننا أن لانخالف إشارة المرور ، حتى لو كنا وقت صلاة الجمعة والشارع فارغاً ، وإذا دخل في روعنا هذا وجب أن ندخل عنصراً آخر هو عدم الاستخفاف بأي إنجاز ( ممكن ) مهما كان زهيداً وصغيرا ، فالكل يفكر بالأشياء الكبيرة وينسى الأشياء الصغيرة التي هي مكونات الأشياء الكبيرة وعناصرها الأولى ولبناتها الأساسية ، فأكبر الأرقام هو تجمع رقم الواحد فوق بعضه البعض مهما بلغت ضخامة الرقم ، والانجازات العظيمة هي محصلة تراكمية للانجازات التافهة الصغيرة ، والجبل تجمع هائل للحصى الصغيرة وحبات الرمل التافهة ، والهرم تركيب ملايين الأحجارالصغيرة ( الممكنة الحمل ) ( 4 ) والانسان هو محصلة تراكمية بطيئة للجهد الواعي المتشكلة عبر وحدات الزمن ، وفي معركة بدر التي سماها القرآن فرقاناً كانت ( إظهاراً ) لإمكانيات تشكلت فيما سبق ، وليست إنجازا برز فجأة إلى السطح ، والمجتمع كم هائل من الأفراد منظمين ضمن شبكة علاقات ، وتغيير الأفراد التدريجي سيقود في النهاية إلى تغيير المجتمع ، ولايتطلب ذلك تغيير كل الأفراد فليس مطلوباً ولاممكناً ، بل تغيير الكم الحدي ( أو الكتلة الحرجة ) وعند الوصول إلى تغيير الكتلة الحرجة يبدأ التيار الاجتماعي في التشكل وعلى العكس فإن ( شذوذ ) فرد منه بتصرفات وأفكار يعرضه لقانون ( الدجاجة المجروحة في القن ) حيث روى لي صديقي الدكتور الصناديقي عن ملاحظة أمه التي تربي الدجاج ، أن الدجاجة إذا جُرحت عمدت بقية الدجاجات إلى نقرها في مكان الجرح حتى الموت ، ولذا تعمد أمه _ على ماروى _ إلى عزل الدجاجة المجروحة فوراً ، وهذا يفسر لنا بعض الوقائع التاريخية البشرية فــ ( جرح ) ابن تيمية في ( القن البشري ) في الفتاوى التي ( تميز ) بها في عصره في الطلاق وشد الرحال ( 5 ) عرضه للنقر الاجتماعي حتى الموت ، فرمي في سجن القلعة حتى فاضت روحه خلف القضبان . كما يفسر لنا الانسحاب الذي يقوم به الانبياء في مرحلة من دعوتهم ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) وهو مأشار إليه المؤرخ البريطاني ( توينبي ) في كتابه ( دراسة التاريخ ) عن قانون الاعتزال والعودة .
جدلية الممكن وتطوره :
عند وضع اليد على المفتاح السحري : ( أن بإمكاننا أن ننجز شيئاً ) تتولد سلسلة من الأمور الايجابية :
الأمر الأول : ( النجاح يقود إلى النجاح ) فالنجاح يولد الشعور بالثقة بالنفس ، عندما يحس الفرد أن بإمكانه أن يفعل شيئاً . والعكس بالعكس فالفشل يخلق الاحباط والخوف من المحاولة الجديدة ، مالم يزود بميكانيزم نفسي مرافق وهو أن المشكلة ليست في ( المشكلة ) بل في موقفنا منها ، فأي استعصاء في حل المشاكل يرجع بالدرجة الأولى إلى عجزنا أكثر من تعقيدها الذاتي ، والمشاكل تنبع من ( مواقفنا) غير السليمة منها ، فنحن مستعدون إلى لعن كل شيء واتهام كل أحد ، وغير مستعدين لمراجعة أنفسنا لحظة واحدة ، وهذا ميكانيزم خبيث للغاية ( MALIGNANT ) لإنه يقود إلى تعطيل الجهد البشري وتدخله في إصلاح الخلل ، طالما كانت التهمة للآخر جاهزة وعدم الالتفات إلى إدخال الذات في معادلة التصليح ، ولذا وجب تدريب أنفسنا على قانون نفسي قاسي هو ( عدم لوم أحد ) في مواجهة أية مشكلة ، ليس لعدم وجود طرف آخر في المشكلة ، فالنزاع الانساني في العادة مزدوج الطرفين ، ولكنه التدريب على العمل في الحقل المفيد ، فأفكارنا تحت سيطرتنا ، أما اتهام الآخرين فهو _ بشكل غير مباشر _ دعوة إلى إراحة الذات من التفعيل والمراجعة وتعب إدخال التصحيح ، فهو تعطيل ( قانون الجهد ) ، بل إن ( تغيير نفوسنا ) هو طرف ( الرافعة ) الميكانيكية النفسية الاجتماعية ، كما هو عند الأطفال عندما يجلسون في الحديقة على طرفي الرافعة ، فإذا أمكن التأثير فهو من الطرف الذي يستقر عليه ثقلنا ، وهكذا فالساحة النفسية عندنا هي حقل تأثيرنا ، أما الآخر فنحن غير مسؤولين عما يعمل الآخرون ( ولانسأل عما تعملون ) ، والمسؤولية فردية ( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) ( وأن ليس للانسان إلا ماسعى ) .
الأمر الثاني : ( النجاح يعطي قدرة ( تمكن ) أعلى ) فبعد انتهاء العملية الناجحة فإنه يخرج منها بغير حصيلة الخبرة قبلها بل زيادة الخبرة الجديدة ، وكل ضربة لاتكسر الظهر تقوي أكثر كما يقول المثل .
الأمر الثالث : ( ينعكس النجاح على النفس فيعطي السعادة ) في حين أن الفشل يدخل الانسان في دوامة الحزن ويجب أن يتخلص منه بالنجاح ، وفي الواقع يجب أن نرى الديناميات النفسية في ( حقل ) متحرك ( ديناميكي ) وليس وسط جامد ( استاتيكي ) كما هو في علم الميكانيك ، وهذا نعرفه من يومياتنا العادية ، فعندما يتعرض الانسان لخطر ما فإنه يصاب بالخوف الذي يدفعه إلى شعور وحركة ، شعور بالكراهية لمصدر الخطر ، وحركة بالهرب من الخطر المحدق ، أما النجاح فيعطي شعورين مترادفين ، الأول : الثقة بالنفس التي قد تنتفخ إن لم تلجم فتصل إلى الغرور ، فتتدخل الطبيعة لتفرمل الغرور حيث يصاب صاحبها بالخطأ فالنكس فالارتداد للموقع الأول ، والثاني : السعادة الغامرة التي تنعكس على البيولوجيا إيجابياً . وهذا نراه في مضاداتها أيضاً فالغضب يقود إلى جفاف الفم وانحباس البول والامساك وخفقان القلب وارتفاع التوتر وزيادة الحركات التنفسية ، والحزن يولد الوهط والكسل والتوقف عن النشاط والكآبة والميل للعزلة والانسحاب ، ومع الكآبة يشعر الانسان كأنَّ السموم تتدفق في كل خلية من جسمه ، وأنا أعرف من الأطباء الذين بقوا تحت ضغط نفسي لفترة طويلة من أصيب بارتفاع في التوتر وانسداد شرايين القلب على عمر مبكر ، والسبب تلك العلاقة الخفية التي لم نفهمها ولم يماط اللثام عنها حتى الآن كيف تؤثر الحالة النفسية على البيولوجيا ، فوالد يوسف ( عليهما السلام ) ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، كما ارتد إليه بصره مع بشارة العثور على يوسف ( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا )
الأمر الرابع : قانون ( التراكم الكمي يقود إلى التغير النوعي ) : هناك علاقة بين الكم والنوع انتبه لها العلامة ابن خلدون في المقدمة ، وهو أمر ملاحظ في الطبيعة ، فرفع درجة حرارة الماء إذا زادت بشكل تراكمي قادت في النهاية إلى تغير نوعي في طبيعة الماء ، عندما تصل درجة الحرارة إلى درجة الغليان ، فهو يتبخر ويطير في الهواء ، كما أن انخفاض درجة حرارته إلى الصفر تقود إلى تجمده وزيادة حجمه ( خلافاً لكل العناصر التي ينكمش حجمها مع البرودة ) وهذا يعني أن التراكمات ( الممكنة ) ستقود في النهاية إلى شق الطريق لكسر المسلمات والحتميات ، فالكثير منها نحن الذين نصنعها ونمنحها الحتمية فتتحول هذه الأفكار مع الوقت إلى ( أصنام ) ، ومشركو قريش رفضوا الاسلام تحت ضغط أمثال هذه الأفكار ، وهكذا تم كسر الكثير من المسلمات عبرالتاريخ ، في النظام الفلكي ، وتحطيم الذرة ، وقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب ( بواسطة إضافة البروتونات والنترونات ، فالذهب يتحول إلى زئبق بإضافة بروتون واحد أو بالعكس فيتحول الزئبق ذهباً بسحب بروتون واحد منه ، ذلك أن قلب نواة الذهب تحوي 79 بروتون والزئبق 80 ) وإيقاف القلب وإعادة تشغيله ، وانتقال الصوت والصورة بسرعة الضوء .
الأمر الخامس : إن أخطر مرض عقلي يهدد التقدم الإنساني هو عقدة الآبائية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) أي التقليد ، فبقدر مايجعلنا المجتمع بشراً ( من خلال العادات واللغة وسواهما ) بقدر مايشكل الطوق الاجتماعي خطراً يغتال العقل الانساني ، وهذا هو السر في بطء نمو مجتمعات وتطور أخرى ، والمجتمع الياباني مااستطاع الطيران للعصر لولم يتحرر من العادات العقلية المفرملة ، وأول قفزة له كانت باتجاه الاستفادة من إضافات المعرفة الانسانية الجديدة ( ثورة الميجي - العهد الامبراطوري لعام 1868 م ) ( 6 ) وكان إدراك اليابان حاداً في أهمية الخلاص من الحذاء الصيني الحديدي ( العقلي ) ( في الصين جرت العادة آنذاك وضع قدم الطفلة الصغيرة في حذاء حديدي لايغير حتى تكبر الفتاة وهي تحافظ على أقدام صغيرة ؟!! )
تجربة نفسية محرجة
من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة قاسية فسألت الموظف : لو أُعطيت مسدساً ، ووُضِع على صدغك مسدس ، ثم طُلب منك قتل هذا الذي أنت في ضيافته ، وهو من أعز أصدقاءك ، ماكنت فاعلاً ؟؟ فإذا لم تضغط الزناد قُتلت أنت !! ..... فوجيء صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل !! .... إلا أنه اكتشف نفسه ويداه ملوثتان بالدم ، وقد تحول إلى ( مجرم ) ... عندها تدفق من فمه سيلًٌ من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لإنه ( مُكْرَه ) .
هنا تعرت الآليات النفسية تماماً وأدركنا في جو الحوار الذي لايخلو من توتر أمام كشف ( آركيولوجي ) نفيس كهذا ، في حفريات تضاعيف النفس ، أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر ، إن لم يكن هذا هو تصرف معظم الناس ، في مثل هذه المواقف الصعبة ، يشفع لها المناطق المظلمة من النفس الانسانية التي لم تشكلها الثقافة الجديدة بعد .
إن هذا المثل فظيع ولاشك ولكن هل يدخل في إطار ( الممكن ) أو ( المستحيل ) ؟؟؟!!!
هوامش ومراجع :
( 1 ) جاء في الحديث الصحيح النهي عن ( لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن ليقل أحدكم قدر الله وماشاء فعل ) لإن التمني على تغيير الماضي يعتبر في حكم ( المستحيل ) ولذا وجهنا الحديث للعمل في الحقل المفيد أي حقل ( الممكن ) ( 2 ) الفرقان الآية رقم 3 ( 3 ) الحج 73 ( 4 ) صحح ابن خلدون في مقدمته معلومة هامة عن بناء الاهرامات حين ضل بعض الناس فظنوا أنها بنيت بيد بشر عمالقة ، وقال إنها بنيت بيد بشر مثلنا تماماً ولكن الذي مكنهم من ذلك هو استخدامهم لتقنيات هندسية متطورة في عصرهم في الرفع والبناء ( 5 ) كلفت فتوى الطلاق ابن تيمية غالياً فهو الذي رأى أن الطلاق الثلاث في وقت واحد يبقى واحداً ، كما اعتبر الحلف بالطلاق يبقى في إطار الحلف وكفارته صوم ثلاثة أيام ولايقع طلاقاً ، كذلك واستناداً إلى الحديث أن الرحال لاتشد إلا الى ثلاثة مساجد ونحن نستغرب اليوم كيف ألقي في السجن من أجل هذه الآراء ليموت فيه ، بل تمت المطالبة بإهدار دمه ؟!! وهذا يشي بتناقضات الصراع الانساني وأنها قابلة للتكرار بنفس الصورة في أوقات شتى يراجع في هذا كتاب ( ابن تيمية ) لــ ( هنري لاوست ) كتاب ( آراء ابن تيمية في الاجتماع والسياسة ) وكتاب ( ابن تيمية ) سلسلة أعلام العرب بقلم محمد يوسف موسى ( 6 ) جاء في كتاب الشرق الأقصى - فوزي درويش - ص 60 النص الكامل للعهد الامبراطوري الذي دُشِّن عام 1868 م وهو مكون من خمس فقرات تقول الفقرة الخامسة ( سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم وعلى هذا النحو سوف تترسخ الامبراطورية على أسس متينة ) .
اقرأ المزيد
الصراع حول امتلاك المستقبل الجوجول ـ الفيسبوك ـ آبل ـ الأمازون
قديما كانوا يقولون من يملك البحار يملك الثروات ويملك العالم. ولكن بحار العالم اليوم خضراء إلكترونية والبشر يتواصلون عبر شبكة إلكترونية فيتعارف بعضهم على بعض محققين كلمة الله القديمة: جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. التقوى بمعنى أكثر التزاما بخدمة البشرية. حاليا عالم الانترنت يحوم فوقه أربع نسور خاطفة تحاول سبيه وسلبه إلى عشها في حرب ضروس. القوى العالمية الجديدة ليست عسكرية ولا سياسية بل علمية ثقافية اقتصادية تكنولوجية. العمالقة الأربعة المتصارعون هم الجوجول وآبل والفيسبوك والأمازون. وكل له حقله الذي نبت فيه واشتدت أذرعته وبأسه .المؤسسات الأربعة تمثل أربع حقول مختلفة؛ الجوجول يمثل المعرفة الكلية. والفيس بوك الشفافية الكلية. وآبل الديناميكية الكلية. والأمازون العرض والسوق الكلية. وحتى نأخذ فكرة عن العمل الخارق والقوة العظمى التي تمثلها قوى المستقبل الأربعة، فيمكن بلغة الأرقام أن نقول التالي: في الجوجول يجري يوميا من الداخلين على النت بحث عن مليار سؤال يحتاح الإجابة والشرح. أذكر جيدا حين بحثت عن كلمة (غثبر) في قاموس المحيط والصحاح لابن منظور الأفريقي لم يسعفني فأسعفني البحث في الجوجول فتأمل! (أصيب بالتَّعنية، وهي انقباض مؤلِم في الشَّرج مع الرَّغبة الملحَّة في التبرُّز مصحوب بحزق لا إراديّ وتبرُّز قليل) رئيس آبل الحالي تيم كوك (كوك تعني الطباخ) أعلن عن بيع 146 مليون جهاز من نوع آي فون    (iPhones)  في الربع الثالث من عام 2011م فكم سيكون الرقم في عام 2020م؟ حين أحضرت لي ابنتي هديتها من هذا الجهاز ضحكت وقالت لاتخاف منه جربه فقط. أنا شخصيا ارتحت مع جهازي الدمعة المطور ولكن من يعتاد على الآيفون ينسى ما عداه لحد العشق؛ فقد ربطوا الانترنت على الموبايل؛ فأصبحت المعلومات تركب سيقانا للحركة. الأمازون تصل الطلبات عندها في كل شيء تقريبا وفي أيام الذروة إلى 13.7 مليون طلب. وصفحات البيع تغطي ما يبحث الشاري وما يحير الباحث. كانت سابقا في الكتب أما الآن فهي تبيع كل شيء، وسوف تضرب سوبرماركات العالم أجمعين. إنها تبيع السيارات والطيارات وإطارات السيارات والكتب النفيسة وحمامات السباحة. أذكر جيدا قبل فترة كيف قام المزاد العلني في لندن في بيع نسخة قديمة أصلية من كتاب أصلي بخط أرخميدس، عثر عليه من بيت راهب قد يكون أصله من كنيسة في القدس، مما دفع راعي الكنيسة أن يطارد المخطوطة عبثا. وصادها (جيف بيزوس) ملياردير الأمازون بمبلغ 2.3 مليون دولار ولا خوف من هذا الرقم فالرجل في جيبه خزانة من تسعين مليار دولار وهي الآن فوق المائة مليار، وأضحكني طلاق زوجته إنها وضعت في حقيبة تجميلها وكحلها عشرات المليارات من الدولارات وهي مبالغ سوف يعوضها البيزوس وأكثر. أما الشاب العفريت علامة جبل السكر (مارك شوجر بيرج) Mark Zuckerberg)) مؤسس الفيسبوك فيجمع حوله نادي عالمي بما لم يحلم به إنس ولا جان بعضوية 800 مليون إنسان ويزيد على مدار ارجاء المعمورة. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ هؤلاء العمالقة الأربعة غيروا حياتنا وطرائق تفكيرنا بما لم يسبق إليه أحد من قبل!. في البداية اقتسموا عالم الديجتال فيما بينهم؛ أما الآن فبعضهم لبعض عدو يحاول كل واحد إزاحة الثاني ورميه من العرش واغتصاب حقه وملكه. وهناك الكثير من الإفكار والاكتشافات وبراءات الاختراعات، يقوم بها كل لوحده، ولكن ماوصل إليه هذا الرباعي هي كنوز من المال مالم يجمعه خوفو في هرمه، ولا قارون في خزائنه، ولا زورو (Soros) اليهودي الحالي. إنه مال أكثر من التصور .. مال كثير وفي فترة قصيرة نسبيا. تصوروا مافعله الشاب علامة جبل السكر (Mark Zuckerberg) ذو الـ 36 عاما (ولادة 14 مايو 1984م) مخترع الفيسبوك من فقير خاوي الوفاض إلى ملياردير بجيب محشي بمائة مليار دولار خلال سبع سنين بين عامي 2004 و 2011م وجمعية تضم 800 مليون عضو من الأنام وهي الآن أضخم وجيبه أكبر! هل يمكن تصديق هذا؟ ليس هذا فقط بل الإعلان عن دخول الفيسبوك إلى سوق البورصة، كما أعلنت عن ذلك مجلات مهمة في عالم الاقتصاد مثل (ميجا بورزينجانج Boersengang  Mega)  وحمى الفيسبوك Facebook Fieber إن ثروة هذه العمالقة الأربعة شيء مخيف! لنقرأ الأرقام التالية  :أقلهم (الأمازون Amazon) بـ 90 مليار دولار بقيادة الإمبراطور جيف بيزوس  (Jeff Bezos) ومع كتابة هذه الأسطر قفزت إلى 120 مليار، وبعده جبل السكر  (Zuckerberg)  سيد (الفيس بوك) بمبلغ 100 مليار دولار، يأتي بعده (الجوجول) الذي يملكه الثنائي المرح لاري الصفحة (Larry Page) وسيرجي برين (Sergey Brin) بمبلغ 200 مليار دولار. وعلى قمة الثروة تتربع آبل بمبلغ خرافي يصل إلى 360 مليار دولار!. حاصل جمع الأرقام السابقة يصل إلى سقف ينقلب إليك البصر فيه خاسئا وهو حسير. إنه رقم 750 مليار دولار قريبا من تريليون دولار. ما يتمناه الاتحاد الأوربي للخلاص من ورطة الحريق اليوناني وانخساف الأرض باليورو، وكل إنفاق أمريكا العسكري لايصل إلى تخومه (500 مليار للعقد القادم) إنه رقم تقوم على أكتافه إمبراطوريات وتنهدم دول وعروش.هذا المال.. المال الكثير هو ملكية أربع مؤسسات وخمس أشخاص!. (جيف بيزوس  (Jeff Bezos) + Mark Zuckerberg = مارك جبل السكر +  (Larry Page) وسيرجي برين (Sergey Brin) + ستيف جوبز ومن بعده) وهذه العمالقة الأربعة هي أمريكية مما يجعلنا نرى نوعا من التجدد الخفي في شرايين إمبراطورية اليانكي، بعد سلسلة من الهزائم في حروب خاسرة بين العراق وأفغانستان، وما حصل في وول ستريت حيث طالب المتظاهرون باحتلاله، بعد سمعته السيئة تالية لنكبة السوق العقارية وتبخر مئات المليارات في سوق الحرامية. وتوقف إرسال المسابر والمنصات للملأ العلوي منذ فترة وبوار سوق صناعة السيارات. وإعلان البنتاجون التقشف لإيجاد جهاز دفاعي أرشق بتكاليف أقل وارتفاع ديون أمريكا إلى ذرى لم تصل إليه في كل تاريخها بتريليونات! هؤلاء العمالقة الأربعة يبدلون العالم ومعه أيضا أمريكا التي تقود العالم... إلى حين. مع هذا فالحرب ضروس بين العمالقة الأربعة هي حول امتلاك المستقبل. الجدير بالذكر أن هذه المؤسسات ليست عسكرية وسياسية بل تكنولوجية اقتصادية وثقافية. ولكن متى بدأ عمل أولئك العباقرة وولد إنتاجهم فضربوا ضربتهم ووضعوا أيديهم على سطح الكرة الأرضية؟ أين مكان توضعهم؟ وإلى أين يميل ميزان القوى؟ مع مزايا العمالقة الأربعة تطير أمريكا بأربعة أجنحة إلى المستقبل. منتجات آبل تنقل المعلومات مع الحركة. الجوجول يفتح خزائن معرفته لكل سائل بالمجان. واجهات لخزائن كل شيء يطلبه الشاري والباحث في مخازن الأمازون. ويقوم الفيسبوك بربط الناس بشفافية فيبنون الصداقات ويتذكرون طفولة بعضهم بعضا وقرابتهم عبر القارات. مجموع كل هذا يكرر إنتاج مايعرف بالطريقة الأمريكية في الحياة. الأربعة هم القوى العظمى وديناصورات عالم الديجتال. بينهم لايوجد سلام. وما يدفع الكل هو جنون العظمة أن يسيطر كل واحد على كل شيء، ما يجعل المستقبل طوع أمره وفقط. الاربعة شركاء متشاكسون لايرضون بأقل من السيطرة على عالم الانترنت في الغابة العالمية. فلمن سيكون المستقبل؟الوضع الحالي يقول أن الاشتباك حاصل بين هذه الحيتان الضخمة؛ الجوجول يحاول السيطرة على سوق الموبايلات فيدفع آبل بعيدا. الفيسبوك يحاول منافسة الجوجول في السيطرة على المعلومات فينافس في مجال البحث عن المعلومة. الأمازون ينافس آبل بأجهزة القراءة ليزر مما يتفوق به على آي باد (iPAD). آبل تحاول غزو سوق التلفزيونات. بقية العالم يتفرج على هذا التخاطف لآخر معاقل الثقافة الإنسانية طالما تتحول إلى ديجتال.لمن سيكون الاجتياح ؟ لا أحد عنده الجواب النهائي؟ والآن ماذا يمثل كل من العمالقة الأربعة وما هي مراكز ثقلهم وحقول تأثيرهم؟ عالم الديجتال هو قارة جديدة مجهولة ونحن نعيش عصر ما بعد الرأسمالية. والكون الإلكتروني ليس له إرادة أو أخلاق أو هدف. إنه بكلمة مختصرة نسيج ابتكرته العقول الإنسانية واستخدمه الجنس البشري فانقلب العالم فجأة. أنا شخصيا أتذكر نفسي جيدا عام 1993م حين كنت أرسل مقالاتي بالبريد لنتحول فجأة إلى الفاكس ونحن مسحورون! كان الكمبيوتر في بداياته عام 1988م وقوة الذاكرة في حدود 20 ميجا بايت ونحن نفرك عيوننا من الدهشة. كانت المراسلات بيني وبين أصدقائي بالبريد العادي وليس الإلكتروني. كنت أجلس يوم الخميس بعد صدور مقالتي (جريدة الرياض يومها) فأصور منها عددا ثم أطويها في مغلفات خاصة وأرسلها لأصدقائي. قال لي أبو محمد من حلب إن المخابرات السورية رابها الإرسال المنتظم للمقالات ففتحت صندق بريده وحققت معه! قال لهم هل أقول له أن لايرسل؟ قالوا لا دعه يرسل لنعرف ماذا يرسل؟ كانت المقالات في معظمها علمية. حاليا اضحك أنا من غباء الأجهزة الأمنية وعدم مواكبتها التطور العلمي. إنهم يشبهةن من جهة ساحرات العصور الوسطى يريدون اصطياد طائرات نفاثة تئز من فوقهم بعصا! إن الثورات في الربيع العربي تدين بقسم منها إلى عالم الديجتال. الرباعي الذي يتقاسم عالم الديجتال حاليا هم (الجوجول Google) الذي يدعي (المعرفة الكلية). و(الآبل Apple) صاحب المعرفة المتنقلة (الحركة الكلية) كما وصفته مجلة در شبيجل الألمانية (49\2011) أما الثالث (الأمازون Amazon) فهو المورد لكل شيء فلم تعد مبيعات الأمازون الكتب بل يبيع كل شيء ويكسر احتكار الطفيليين بين البائع والمشتري. أخيرا (الفيسبوك Facebook) مملكة مارك جبل السكر (تسوكربيرج) فهي عالم الشفافية الكاملة. ولنبدأ أولا بعالم الجوجول فما هو؟ 1 ـ جوجول (GOOGLE) : المعرفة الكلية (Total Knowledge): الجوجول: دنيا المعرفة الكلية. يمكن مقارنة ما فعله الجوجول بإيصال المياه المركزية النقية إلى البيوت. أنا شخصيا عرفت هذا التحول بعد أن كنا نعتمد على مياه الآبار. كانت ثورة في عالم السكن أن تمد يدك فتغسل من صنبور (حنفية = روبين بتعبير المغاربة) تعطيك الماء النقي فتغسل بالماء الدافئ على مدار الساعة، بعد أن اقترنت خدمة البيوت بالكهرباء والماء. هذه هي الحياة العصرية. سفلتة الشوارع. المياه. الكهرباء. السيارة، والآن يتوج البشر بعالم الديجتال الذي يوصل العالم من أقصاه لأقصاه، وتتربع الجوجول على ينابيع لانهاية لها من المعرفة، يدخل على أبوابها السائلون بأكثر من مليار استفسار وبحث يوميا. حين بدأ الثنائي (سيرجي برين) و (لاري بيج) عملهما عام 1998م تحت عنوان سنجمع كل معلومات الجنس البشري، وحين ولد المشروع في في كاراج كان أشبه بالمزحة ولكن هذا ماحصل، وحاليا يعمل الشابان في إمبراطورية رأسمالها 200 مليار دولار و24400 خبير في كاليفورنيا في جبل الرؤية (ماونتن فيو Mountain View). لم يقف الأمر عند المعلومات؛ فبعد سبع سنوات (عام 2005م) من الإقلاع في عالم الديجتال وخزن المعلومات جاء الدور على جوجول إيرث (جوجول الأرض Google Earth) وبدمج المعلومة على الموبايل، أمكن للإنسان أن يعرف نفسه في أي مكان بالعالم، بعد أن تم ترسيم خرائط العالم أجمع، بل المشي في الشوارع سياحة بدون سياحة. أنا شخصيا أتأمل بيتي في هضبة الجولان حيث بنيت لنفسي فيلا جميلة وحرمني منها البعثيون العبثيون فحولوها إلى مركز تعذيب المواطنين العبيد، بنفس الوقت أقفز لكندا فأرى رأي العين بيتي في مونتريال، وكذلك حافة الأطلنطي في المغرب حيث سكنت في مجمع كاليفورنيا في مدينة الجديدة. إنه عالم جديد أليس كذلك ذلك الذي حققه الجوجول؟ فلم يعد يدهش أحد وهو يستخدم جوجول الأرض في التحليق فوق الكرة الأرضية يديرها كيف يشاء؛ فيستعرض القارات والبحار؛ فيعرف أي أرض تقله وأي سماء تظله، وأي نجم يشع فوق رأسه، وكل مكتبات العالم المليونية تحت تصرفه. إنه عالم بهيج وخطير بنفس الوقت؛ فنحن نودع الذاكرة البشرية في أيدي مؤسسات متطاحنة، تريد السيطرة على أفكارنا ووسائلنا واتصالاتنا، والويل لنا من هذا الفخ الذي نصبناها لأنفسنا بأيدينا. يقول المثل العربي (يداك أوكتا وفوك نفخ) عن ذلك البدوي الذي نفخ القربة ليعبر بها نهر الفرات؛ فلما كان في اللجة نفَّست القربة فقد كانت مثقوبة، ولما كان صاحبنا لايحسن السباحة فقد غرق؛ فذهب مثلا في الحماقة التي يرتكبها صاحبها بيده وينتهي بالهلاك. بالمناسبة كلمة جوجول كان أول تعرفي عليها من عالم البيولوجيا من كتاب الدماغ لسيد رصاص، حين ذكر أن جزيئات الكون كلها تبلغ عشرة قوة 83 ولكن ترابطات نورونات الدماغ تقفز فوق عشرة قوة مائة إنه الجوجول. وهي رمز المعرفة الكلية كما ذكرتها مجلة در شبيجل الألمانية عن هذه القفزة النوعية في المعرفة الإنسانية. كنت قبل أيام في صدد البحث عن كلمة غثبر؟ عييت في القاموس المحيط للفيرز آبادي وكذلك لسان العرب لابن منظور الأفريقي ولكن الجوجول اعطاني المعنى بسرعة خرافية. قال هو الذي يعكر المياه والأخلاط . ربما أو ذلك الذي يعاني من جهازه الهضمي؟ في الحقيقة الكلمات نحن من يشحنها بالمعنى فهذه هي فلسفة الكلمة. يقول رئيس المؤسسة (ايريك شميدت) أنه لو أمكن تسريع البرنامج 2 ـ 5 ثواني في البحث فلسوف نوفر على البشرية مائة ألف من سنين البحث. المعرفة الكلية أصبحت في متناول كل إنسان، وفي أي حقل معرفي، وفي السؤال عن أي شيء. لم يعد من حاجة لدخول مكتبة والعس فيها الأيام  والليالي؛ بل بكبسة زر فتتداعى المعلومات من دماغ عملاق يلف الأرض والجغرافيا والتاريخ وفنون المعرفة، التي تعبت في تحصيلها جهود الجنس البشري خلال ستة آلاف من السنين. مع هذا فالتطاحن الآن مع المؤسسات الثلاث الأخرى آبل + فيسبوك +أمازون في أكثر من ميدان واختراع، مثل (كيندل فاير Kindle fire) في وجه آبل وجوجول + في وجه الفيس بوك أو الاندروئيد الذي طوره الجني (أندرو روبين) فاحترق قلب (ستيف جوبز) مؤسس آبل وقال لقد سرقوه من إبداعنا للآي فون (iPhone) ولسوف أكرس كل قرش من ثروتي البالغة أربعين مليار دولار في إشعال حرب نووية حرارية معهم! ثم ودع وأصبح ضيف التراب الأبدي. إنهم يبالغون جدا أليس كذلك! أعذب الشعر أكذبه أليس كذلك؟ كان البدوي الصحراوي الشاعر يقول أن لو أغضبوه ملأ البحر سفينا وهو لم ير البحر كما ورد عن عمرو بن كلثوم في قصيدته مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا            وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا إِذَا بَلَـغَ الفِطَـــــامَ لَنَا صَبِـيٌ             تَخِـرُّ لَهُ الجَبَــابِرُ سَاجِديْنَـا إنه جميل أن تجمع المعرفة الإنسانية على هذا النحو الكلي واستدعاءها بالسرعة الخارقة حتى لو أراد الإنسان قطع مسافة بين مدينة وأخرى. أذكر سفرتي بين مونتريال وفيلادلفيا في أمريكا وكيف زرنا منطقة الأميش الذين لايعرفون كل هذه التقنيات الجديدة، ويتنقلون بالحناطير (عربات تسوقها الخيل) ولايستخدمون الكهرباء، ويتعاملون بسلام مع المجتمع الأمريكي المحيط بهم؛ فهم قوم لايؤمنون بالدفاع عن النفس. لقد مثلهم فيلم الشاهد (Witness) الذي كان بطله هاريسون فورد خير تمثيل. الطريق إليهم أعطانا الجوجول تفصيلات عجيبة في كل كيلومتر نعبره من نقطة الانطلاق حتى الوصول؛ فأين مقتفي الآثار ليروا العالم الجديد الذي أصبح لكل احد منا مثل كفه؟ فيقرأ الخطوط والثنيات والتعرجات والبصمات . ومن سنحت له فرصة زيارة مكان الجوجول في كاليفورنيا فلسوف يدهش من عالم ملون مريح. حمامات سباحة. دراجات. أمكنة رياضة واستجمام لكل من يريد. زوايا قهوة. وأذرع من الخضرة البهيجة في كل مكان. إنه مكان مريح للعمل؛ وفي المنتصف تمثال هائل لديناصور برونزي. وحسب المدير الحالي فهو يطمح إلى عالم الجوجول الذي ينتج سيارات خاصة به، تغذى بالكمبيوتر، وتلفون جوجول يعمل بطرق التخيل. إن طموح الشركة لاحدود له كما قال (ايريك شميدت) ذلك لمجلة (البوردا) أثناء زيارته لميونيخ.   آبل (Apple) : الحركة الكلية (Total Mobility) إن مبيعات آبل التي اقتحمت كل بيت، ووصلت مبيعاتها في ربع عام 2011م إلى 146 مليون جهاز في العالم، بدأت متأخرة عن الأمازون، التي كانت السباقة بين العمالقة الأربعة، فقد بدأت الأمازون عام 1995م وببيع الكتب فقط وتحت عنوان هل هناك كتاب لم تعثر عليه بعد؟. تلتها الجوجول عام 1998م . لتلحق بها آبل عام 2001م بالموسيقى بجهاز آي بود (iPod) ثم وفي عام 2003 تثني بالآي توينس (iTunes) قبل أن تقفز إلى آي فون الشهير عام 2007م (iPhone) الذي لم يبق مدر ووبر إلى ودخله. صديقي عبد الواحد يلعب ابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات في  واحد منه ويسمع الموسيقى. أنا شخصيا مازلت على موبايل الدمعة المطور، مرتاح معه ومسرور من إداءه، تحت فلسفة الموبايل للحديث بصوت واضح، وإرسال رسائل نصية واضحة. حتى فاجأتني ابنتي بهدية من تلفون ذكي بدل العالم عندي فبدأنا نتحدث مع كل العالم مجانا على نظام الواتس أب والأيمو. أخيرا في عام 2010م قفزت آبل إلى بناء كتابها الخاص بنظام آي باد (iPad)والتحدي كبير امامها بعد وفاة مؤسس الشركة (ستيف جوبز) أن تبقى على معدل التنافس والسباق ومد السوق بهذه المعيارية من جمال الأجهزة. يقول (مارتين ليندشتروم) من التسوق العصبي إن جهاز الايفون يعمل فعل الإدمان ولكن بالحب لهذه الجهاز الأنيق. يبدو أن كل من تعامل معه أحبه وأصبح صديقه. حتى عام 2007 حين بدأت آبل في تثوير نقل المعلومات كما رايت أنا عند ابنتي في مونتريال وهم يتلقون الأخبار من كل مكان يتحركون به، ومن خلال الفيس بوك آخر أخبار الثورة السورية. لم يعد التلفزيون في البيت. إنه الآن في جيبك مع المعلومة. هذا هو إبداع آبل كما سمتها مجلة در شبيجل الألمانية: الحركة الكلية. قالت يومها (موتورولا) و(نوكيا) لايمكن أن يحدث هذا؟ ولكنها نفس مقولة الموبايل بذاته كيف يمكن أن يسمع الإنسان التلفون بدون شريط وجهاز؟ الموبايل كسر الجمود لصالح الحركة، وحاليا توجد مليارات الموبايلات على امتداد الأرض وبعشرات الأشكال. وكل من المؤسسات الأربعة تريد ربط هذه الأجهزة بنظامها فقط. هذا هو الصراع الجديد. وماعملته آبل ليس أحهزة جميلة أنيقة بل عالم يقترب من المثال. تأمل جهاز الآي فون لتدرك ذلك وكل يوم هو في شان. وأعلن ستيف جوبز (الحمصي الأصل بالمناسبة) قبل موته بشهرين أنه في صدد نقل مشاريعه إلى عالم التلفزيون، ولسوف يصمم جهازا سهل التحكم والقيادة، وكانت توقعاته أن يكون في نهاية عام 2012م ولكن يد المنية كانت أسرع فمات شابا وهذه هي الحياة ونهاية المبدعين. إن ستيف جوبز مثال للنموذج الفردي الأمريكي، كيف يمكن لفرد أن يصل إلى بناء إمبراطورية برأسمال 360 مليار دولار، وبشركة تضم 46600 خبير وبوقت قصير نسبيا. قارن هذا الإبداع بما تفعله ديكتاتوريات العالم العربي ومنظر الدماء المسفوحة لأهل حمص وستيف جوبز هو من أصل حمصي! فأين وصل هو؟ وماذا نال أهل حمص من صواريخ طاغية دمشق البراميلي إنها الغابة البعثية العبثية أليس كذلك؟   ولادة العمالقة الأربعة استفدنا من المفكر الجزائري (مالك بن نبي) قاعدة تقول أن كل حدث هو علاقية جدلية بين السبب والنتيجة؛ بمعنى أن كل حدث هو في نفس الوقت سبب ونتيجة في جدلية الزمن؛ بكلمة أخرى هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده. ومن هذه القاعدة يجب معرفة ظروف ووقت ولادة العمالقة الأربعة؟ يبدو أن نهاية القرن العشرين هو الذي دشن هذا الفتح المبين؛ فبين عامي 1995م و2011 على امتداد 15 عاما تلاحقت فتوحات عالم الديجتال. أنا شخصيا كان من أدخلني إلى عالم الكمبيوتر ابنتي مريم حين أدخلنا إلى منزلنا الكمبيوتر بسرعة بسيطة و رام (RAM) لايتجاوز 16 اليوم 256 عادي وكنا مع البنتيوم فرحين ونحن الان على عتبة كمبيوتر الكوانتوم حسب قانون التسارع المعروف في عالم الكمبيوتر وبناؤه، بل يقوم ماركرام في لوزان بمحاولة تقليد بناء الدماغ من عمل شيبس الكمبيوتر (الرقائق). في عام 1995م بدأ الأمازون في أمريكا وانطلق من عالم الكتب. أنا شخصيا أتذكر مكتبة عجان الحديد في حلب وفي مكتبته ليس من كتاب في التراث إلا وجدته عنده. من الخارج لم تكن تغري كثيرا أما محتواها فهائل. الأمازون في عام 2010 بعد 15 سنة من الانطلاقة كانت مبيعاته السنوية 32.2 مليار دولار بربح سنوي 1,2 مليار دولار وشركة تجمع من العاملين 33700 خبير! مركز إمبراطورية جيف بيزو في سياتل ـ واشنطن. فكر جيف بيزوس في عالم الكتب فضرب آبل بدل (آي باد) بتنزيل الكيندل فاير (Kindle ire) حيث يمكن قراءة 1400 كتاب لمكتبة عامرة وبطريقة سهلة وبمزايا أنيقة في تتبع القراءة والكتب. في نفس الوقت جعلت هذا الجهاز من ملكياتها فلا يمكن لأي جهاز أن يعمل عليه إلا مايختارون. بعد الأمازون بثلاث سنين في عام 1998م تأسست شركة الجوجول ليلحقها بعد سبع سنين (2005) جوجول الأرض (Google - Earth) مع خدمة الخرائط التي تصل حاليا إلى أبعاد لم يحلم بها إنس ولا جان. اليوم كنت أسمع من قناة مونت كارلو عن تقنيات جديدة لراكبي السيارة أن تمسح لهم المنطقة من حولهم حيث يسافرون بل ويتخاطبون مع السيارات المجاورة لهم وهو يقودون عرباتهم المرفهة. إنها جنات من ديجتال مصفى ولهم فيها ماتشتهي الأنفس وتلذ الأعين. الجوجول تعمل حاليا في جبل الرؤية (ماونتن فيو ـ كاليفورنيا) وبعمل يصل إلى 29,3 مليار دولار وربح سنوي وصل عام 2010م إلى 8,5 مليار دولار ويعمل في المؤسسة 24400 عامل وخبير، وضربت الجوجول ضربات مضاعفة جديدة في تقوية مركزها في السوق فانزلت الاندروئيد وهو مطور عن الآي فون ويقرأ حالة الجو وتلوث المناخ ودرجات الحرارة وما شابه، وفي وجه منافسة الفيسبوك أنزلت نظام جوجول بلس (Google +) آبل (Apple) تأخرت قليلا في السباق وبدأت بعد ست سنوات من الأمازون عام 2001م  وثلاث سنوات بعد الجوجول. بدأت بالموسيقى فأبدعت  آي توينس وآي بود (iTunes , iPod). آبل أسسها شخص واحد (ستيف جوبز) يقال أن أصله حمصي ربما من باب عمر حيث قصفت براجمات الصواريخ الأسدية في شتاء 2012م! آبل مقرها في (كيوبريتنو) في كاليفورنيا بلغت عملياتها عام 2010م 64,2 مليار دولار وربحت 14 مليار دولار يعمل عندها 46600 خبير. إنها مدينة عقول وخبرات أليس كذلك؟ استطاعت آبل لاحقا عام 2007 م تنزيل الآي فون الرائع وتبيع في ربع سنة حوالي 150 مليون جهاز في العالم. جيلنا ينظر حاليا إلى أطفال الآي فون بدهشة. أنا شخصيا مازلت أحمل جهاز دمعة مطور وقد خسر السباق مع الآب فون بشكل ملحوظ أداء وأناقة. آبل تخطط لغزو عالم التلفزيون ولكنها تلقت ضربة هائلة مع موت مؤسسها ستيف جوبز فمن سيربح في هذا الماراتون؟ أما مؤسسة الفيسبوك فتأخرت عن المازون تسع سنين عددا وعن الجوجول سبع سنين وعن آبل أربع سنوات، ولكن (مارك تسوكربيرج) ضرب ضربته وحقق فائض مالي تجاوز مائة مليار دولار في سبع سنوات سمان. بدأ الفيس بوك ع عام 2012م بنادي عالمي يضم 800 مليون عضو وعملة خاصة وآلية عمل خاص ونظام ضرائب ويدخل سوق البورصات بقوة وهو ما يرشحه أن يستولي على عالم المستقبل كما جاء في مجلة در شبيجل الألمانية (49\2011م) الفيسبوك (Facebook) اليوم رابضة في بالتو ألتو في كاليفورنيا (Palto - Alto) وتعمل بمليارين من الدولارات وتربح 0,6 مليار دولار سنويا ويعمل فيها من الخبراء ألفي شخص. الشفافية الكاملة (Complete Transparence) الفيس بوك: 800 مليون عضو على امتداد مساحة الكوكب. بمعدل كل واحد من ثلاث من سكان الأرض يدخل على النت. في ألمانيا كان العدد 14 مليونا ارتفع إلى 22 مليونا. خطتهم من يدخل على اليوتيوب يكون دخل على النت. يوصف مارك تسوكربيرج (Mark Zuckerberg) ملك الفيس بوك بأنه شاب في الثلاثينات بسيط الثياب والهندام جم النشاط والذكاء فالمال يفتح المواهب والرجل أصبح في جيبه أكثر من كنوز خوفو وقارون فقد تراكمت ثروته في سبع سنين سمان من الصفر إلى 100 مليار دولار. والرجل كريم يتبرع بمائة مليون دولار ضربة واحدة مساعدة للمدارس. شعاره سنغير العالم. ويريد معرفة كل شيء عن المشتركين عنده في الفيسبوك. الأمازون (كل شيء تحت التصرف ويمكن الوصول إليه). أنتجوا الكندل فاير بـ 1400 كتاب في مكتبة متنقلة ملئية بذخائر المعرفة. إنها تذكرني بمشروعي الفكري قوانين البناء المعرفي فقد حرصت على جمع كتب تنمي المعرفة أقل من هذا فيمكن بذلك لكل شاب يريد بناء نفسه معرفيا أن يحمل هذه الكتب الألفية ويشتغل عليها عشرين عاما. إنه مشروع تثوير القراءة وتراكم المعرفة الكمي. جهاز الكندل خفيف الوزن مثل الهاندي (Handy) وإذا مرت كلمة لم يفهمها القاريء أتاه الجواب بكبسة زر فلا حاجة لقاموس الفيروزآبادي و قاموس المحيط أو لسان العرب لابن منظور الأفريقي. وهناك القراءة الاجتماعية فيمكن الاطلاع على ملاحظات الأخرين، كما أن المكان الذي توقف عنده القاريء ليلا يجده صباحا وهو يقرأ في الكاندل الفقرة الأخيرة التي توقف عنده فلا حاجة لتشخيط المكان وطوي الصفحة. كله عالم عبقر بدون ورق وحبر. يباع الكندل حاليا بمبلغ 79 دولارا وفي ألمانيا بـ 99 يورو. إنها قفزة نوعية في التحصيل المعرفي.. جيف بيزوس إمبراطور المازون يريد الاحتفاظ بالاحتكار لنفسه ويشبه في هذا روكفلر قبل مائة عام وإضاءة العالم بنور القناديل. لذا فكتب الجهاز كندل لاتعمل عند غيره. كذلك فإن مبيعات الأمازون حاليا أقل مافيها الكتب، فهي تبيع كل شيء بدء من حمامات وأحواض السباحة إلى إطارات السيارات وقطع الغيار. خطورة هذا التطور أمران؛ من المصنع إلى البيت توصل الأغراض بدون طفيلي، وسوبر ماركت دونه كل سوبر ماركات العالم أجمعين. إن مجمع الأمازون في مدينة مثل (لايبزيج) يضيع فيها الإنسان من كثرة الأشياء الموجودة فيها من كتب ومعلبات ومصنعات واختراعات مايعرفه المرء ويجهل معظمه. نحن ندخل عصرا جديدا من البيع والشراء عن طريق النت. كنت يوما في البريد وقلت لهم انتهى عصركم بعد الفاكس والنت؟ قالوا على العكس اليوم بدأ عملنا. هذا الكلام صحيح على مستوى مبيعات المازون ولكن لامكان للكسالى والمتخلفين عن نبض التاريخ والتكنولوجيا وعالم الديجتال. بضاعة تصل لأي إنسان في أي مكان فقط عليه أن يحدد مكانه ويدفع الثمن عن طريق البطاقات الائتمانية. في عام 2010م باعت الأمازون 6 مليون جهاز كندل وبلغ سقف المبيعات عام 2000م 2.7 مليار دولار ليصل عام 2010 م إلى 34 مليار دولار. شعاره صديقي الشاري هل ثمة كتاب لم تعثر عليه؟ وغرض تعثرت في الوصول إليه؟ نحن في خدمتك وبالطبع يدنا في جيبك؟ وهكذا فأي شيء في أي مكان أصبح تحت التصرف وبأبخس الأثمان أو هكذا يزعمون. بوجود الحيتان الأربعة نشي صراع ضاري على امتلاك القارة المجهولة الجديدة عالم الديجتال.. فلمن ستكون الغلبة في امتلاك المستقبل؟ أذكر جيدا حين بدأ نظام (الفيديو ـ Vedio) عام 1979م . كنت حينها في ألمانيا والثورة الإيرانية في أوجها. بدأ النظام واشترينا من وكالة جرونديك (Grundig) أشرطتها الثقيلة العريضة وفرحنا. ولكن لم يدم فرحنا طويلا فلم ينجح النظام. جاء نظام (البيتا ماكس Beta Max) ففاز وكان حجم الشريط صغيرا عمليا، ثم نافسه (VHS) وكان بحجم الكف أكبر من البيتاماكس فطار وحلق ونسينا نظام الجرونديك. أتذكر تلك الأيام جيدا وكيف بدأ نظام الفيديو فيلم أيضا وكان جهاز التصوير منفصلا عن الفيديو بوزن خمس كيلوجرام. وحاليا لم يبق نظام بيتا ماكس إلا في الذاكرة. ومازلت أحتفظ بأشرطة من نظام (VHS) وهي جيدة وتعمل ولو بعد مرور ربع قرن، ولعلها أفضل من نظام الأقراص الليزرية (CD) من جهة حيث تعمل بدون مشاكل، ولكن ليس بنقاوة الأقراص الليزرية كما لاننس فارق الحجم، حيث يمكن حمل قرص واحد عليه العديد من الأفلام بدل الشريط الثخين القديم فلا يستويان مثلا، ولذا هجر الناس النظام القديم إلى الجديد؛ فلم يعد يشتري الناس أجهزة تعمل فيها الأشرطة القديمة إلا ربما من أجل نقل التراث القديم من أفلام شتى، حيث بلغ عدد الأفلام الممثلة حتى اليوم حوالي مائة ألف فيلم ويزيد. قانون التاريخ يتقدم على ساقين من الحذف والأضافة؛ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. مازلت أتذكر عام 1979 م فلا أنساه ونحن نسجل وقائع الثورة الإيرانية على أشرطة (VHS) والغرب يرجف من يقظة الشرق، ولم يكن يخطر على بالي ولو في أشد كوابيس المنامات أن تتحول الثورة الإيرانية إلى عدو للشعب السوري، وتساند نظاما قمعيا إجراميا دمويا، فقد انقلبت الثورة إلى دولة، ومن نظام حرية إلى وضع طائفي بغيض خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، كل همها بناء صنم نووي ليس للاستخدام بل وحتى ليس للأكل مثل صنم عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فكان إذا جاع أكله! إنها السياسة الوسخة فلنرجع إلى العلم النقي.عالم الديجتال كما ذكرنا يشبه من وجه قارة الانتراكتيس أي القطب الجنوبي؛ فهي أرض خلاف القطب الشمالي الذي هو جليد وصقيع من ماء. وعلى الرغم من انخفاض درجة الحرارة هناك دون الخمسين تحت الصفر ولكنها أرض عذراء نقية بما فيها من بحيرات عذبة لم تتلوث منذ خمسين ألف عام. عالم الديجتال يختلف عن الانتراكتيس أنه اختراع وليس اكتشاف؛ فهي قارة مجهولة ولكن مخترعيه عباقرة ضربوا ضربتهم وأبدعوا وغيروا العالم وملأوا جيوبهم من مال وفير. (الأمازون Amazon) يضع تحت تصرفك ما ترغب، و(الآبل Apple) يعطيك التنقل الكامل بالمعلومة وتلقيها أينما كنت، و(الفيسبوك Facebook)الشفافية الكاملة، أما (الجوجول Google) فيدخلك إلى كهف معرفة لاتنضب معلوماته وتزداد كل يوم فهو بحر المعرفة الكلية. ولكن هناك مشكلة خطيرة بين هذه المؤسسات الرباعية فهي تخوض صراعا ضاريا في الاستحواذ على خريطة الديجتال، وقد نفاجيء بخامس يضاف لهذا الرباعي فيضيف لما نعرف الجديد والمفيد. المشكلة في هذه المؤسسات العملاقة أنها تعطي المزيد من الراحة لكل من يتعامل معها، ولكن من جهة خفية تسحب منه مزيدا من الحرية؛ فالفيسبوك يخترقنا، والجوجول أئتمناه على ذاكرتنا. إنها مؤسسات تصطاد الأفراد بشبكات تحتبس فيها هذه الكائنات. فلسفة الجوجول قد تحمل لونا من التناقض فهي تعطي المعلومة بالمجان، ولكنها حصرية عليها ولها؛ فهل هي عين الصدق ونبع التقوى؟ تأمل مثلا الويكيبيديا ومن يدخل عليها. الفيسبوك يقضي على الخصوصية وتقع كامل الشبكة في قبضة الشمولية. وتشتهي حكومات كثيرة أن تمتلك عن الأفراد ماتعرفه الفيسبوك عن 800 مليون إنسان في المعمورة. لاغرابة أن لايثق الواحد بالبقية، والكل يتجسس على الآخر، والكل يسرق من الكل. إنها حكومات جديدة متشاكسة. (ستيف جوبز) مؤسس الآبل أقسم وتوعد وهدد أنه سينفق كل قرش يملكه من ثروته التي تبلغ 40 مليار دولار أن يدمر الاندروئيد الذي طورته الجوجول! قال الرجل إنه نسخة عن الآيفون! قال إذا تطلب الأمر أن نشن حربا نووية فأنا مستعد، ولكن الموت كان أسرع إليه من شراك نعله. إن المبالغات لا حد لها كما نرى. ولكن بنفس الوقت عمق الإحباط وهو يرى أجمل ماتعب عليه يلعب به الآخرون وجهده يسرقون! ما هو الاندروئيد؟ رجل ذكي كان من صنعه من وادي السليكون اسمه (اندرو روبين) ويمكن أن يعمل الجهاز على 300 نوع من الموبايلات خلاف الآيفون. ومستوى بيعه خرافي فقد ظهر مخطط البيع صاعدا مثل طائرة تقلع من ارض مطار. يقول روبين سوف نجعل الايفون من آبل من منسيات التاريخ! ميزة الاندروئيد أنه صالح لآلاف الاستخدامات في أجهزة القياس وحرارة الكون ورطوبة الجو ومقدار تلوث الهواء ويعطيك التفصيلات عن مشكلة الاحترار الكوني وهو يجمعها من ملايين نقاط المعلومات المتفردة. أما الفيسبوك فقد نبعت الحاجة لها من حاجة الناس إلى العلاقات الاجتماعية الحميمة أكثر من من المعلومات والمعلومات فقط. الصراع بين الجوجول والفيسبوك بلغ الذروة حول الأدمغة والخبرات، ولذا فقد تقدم الجوجول لخبير مهم بنصف مليون دولار هبة مع زيادة مترقية في الراتب. مع هذا فهؤلاء (الأدمغة) ينظرون للمستقبل ومع دخول الفيسبوك إلى مستوى البورصات فلسوف يحققوا من الارباح أكثر من عظيم الرواتب فهم إلى حقول الفيسبوك يزحفون. يسري (مثل) في أمريكا الشمالية أن أصحاب الرواتب الثابتة لن يصبحوا أغنياء قط مهما علا مقدار الراتب. أذكر جيدا من كندا ذلك الشاب المضارب (ميشكو) كيف حقق ثروة باللعب بهذا القمار فخلال سنوات من المضاربات جمع ثروة ارتاح على ظهرها ولا أعرف هل أفلس أم زاد؟ إنها أمريكا وسحرها وسحاريها أليس كذلك؟ حاولت الجوجول الرد على الفيس بوك وقالت حسنا هل تريدون أكثر من المعلومات من حميمية الاتصالات فلنخترع شيئا جديدا فيه ميزة المعلومة والاتصال وهكذا اخترعت الجوجول ماسمي بجوجول بلس (Google +). (آميت سينجهال Amit Singhal) يعتبر من الأدمغة الخمسين في أمريكا الشمالية خلف نظام المعلوماتية هو من طور القفزة الجديدة لجوجول وهو يرى أن المعلومة يجب أن لاتكون قطعة مفردة بل لها بعد شخصي أيضا وهذا يعني ثورة عالمية. بالمقابل يرى (جون كالاس John Callas) وهو رائد في تطوير نظام آبل أن من يستفيد من التطوير والمعلومات يعني بالنسبة للمؤسسات أرض فلاحية وزراعة تنتج رؤوس سلطة، والحصاد هو المهم، تماما كما يفعل أصحاب المحميات في بيع الخضار. أين وصلت الأمور؟ يعتبر ستيف جوبز نموذج الحلم الأمريكي شخص واحد يبني مؤسسة تضم أكثر من أربعين ألف موظف وخبير وبرأسمال يقترب من حافة 400 مليار دولار. مشكلة آبل أن مؤسسها فارق الحياة بسرعة. وفي اليوم 14 من تكريمه اجتمع عمال وموظفو آبل ليتحدث إليهم الخليفة الجديد تيم الطباخ (كوك) قال بصوت خاشع لاتكونوا مثل والت ديزني الذي انتهت شركته مع موته ليتابع كل منكم مايستطيع فعله ولكن القول سهل أليس كذلك! كان مشروع ستيف جوبز الأخير هو دخول عالم التلفزيون فبعد نقل المعلومة لتصبح متحركة مع جهاز الآيفون يحاول أن يقوم بنفس الحركة فترى بجهازه ماتراه في منزلك من التلفزيون. كلام الرجل فيه قدر من المصداقية فهناك العديد من المؤسسات التي تحاول كسر الهيمنة الأمريكية بوجود أو موت مؤسسيها مثل (IBM) و (Microsoft) و (Yahoo)  و ((Netscape و (AOL )  و My) Space ) وعند الصينيين مثل Baida)  و Sina ). الخلاصة التي تنتهي لها مجلة در شبيجل الألمانية أن آبل استنفدت إمكانياتها، ومع موت مؤسسها لن تصمد أمام زحف الفيسبوك، وقد قدمت أفضل ماعندها، وجميل لها أن تحافظ على مكتسباتها، أمام تنافس سمك القرش العالمي. فمن سوف يسيطر؟ يبدو أنها جمهورية علامة جبل السكر (مارك تسوكر بيرج). يبدو أن المستقبل سيكون للفيس بوك فقد تجنبت أغلاط شركات مثل AOLالتي وقعت في أغلاط الجمهوريات الاشتراكية التي تضخمت فيها البيروقراطية إلى درجة الانهيار كما حدث مع جمهورية ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية فانهارت مع هونيكر. إنها لحظات مخيفة لانهيار الأنظمة كما حصل مع الرحيل الجماعي من جمهورية ألمانيا الشرقية. وحاليا تقوم الفيسبوك على سياسة حكيمة من عملة خاصة ونظام ضريبي وتشجيع مغري للعاملين وأعضاء وصل عددهم إلى 800 مليون عضو بشفافية خطيرة وقواعد مرنة للتعامل وما ينتظر هذه المؤسسة غد من نزوح جماعي من باقي المؤسسات إليها! فهل هذا الكلام جدي وصحيح؟ تعلمنا من القرآن قوله: قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. جبابرة المستقبل الأربعة عالم اليوم ديجتال، والكرة الأرضية غرفة صوتية. والعلم حطم الجغرافيا محققاً كلمة الله القائلة بأن الشعوب والقبائل واللغات والمذاهب تتعارف. لكن من قاد هذا الانقلاب في تفكير وعلاقات البشر، ليسوا العسكر ولا الساسة، وإنما شباب مدوا أيديهم إلى عالم الديجتال فامتلكوه. إنهم الرباعي المرح: "جيف بيزوس" إمبراطور "الأمازون"، والثنائي "لاري بيج" و"سيرجي برين" سيدا جوجول، و"تيم كوك" صاحب التفاحة الذي باع من أجهزة الآي فون في عام واحد 146 مليون جهاز وبنى ثروة تصل 360 مليار دولار، مقابل 80 مليار دولار للأمازون و200 مليار لجماعة الجوجول و100 مليار لمارك شوكربيرج الذي حقق ثروته من الصفر وخلال سبع سنوات فقط. إنهم يذكرون بجيتس وبرنامج السوفت وورد والماوس الرهيب الذي حببنا في الفيران، مثل قصة الراتتيو التي أنتجتها والت ديزني عن الفأر الطباخ. يطلب على جوجل يومياً مليار باحث بسؤال يريد إجابة، ويتكدس حول شوكربيرج 800 مليون عضو في الفيس بوك. ويطلب من الأمازون يومياً 800 مليون طلب، فقد آن الأوان لإغلاق السوبر ماركت وحدوث انقلاب في تكديس وتوزيع البضائع، في ضربة موجعة للسوق الرأسمالية. إنه عصر ما بعد الرأسمالية تحمله أمواج البحر الأخضر الإلكتروني بأجنحة من الإنترنت، ويطوف فيه من يريد معرفة العالم محلقاً حول الكرة الأرضية وما حوت، بواسطة "جوجل إيرث". كلهم ضربوا ضربتهم بقفزات في ثلاث سنوات (الأمازون 1995 ، جوجل 1998، آبل 2001، الفيس بوك 2003) وملأوا خزائنهم بمال كثير... أكثر من خزائن قارون ومستودعات خوفو. وكانت بركتهم بدون حدود لحركات احتجاج الشباب العربي، فأشعلوا الأرض ناراً في الشوارع والساحات بين شباب بطال عطال لا أمل له في المستقبل، فمنحوه أمل التغيير، وقفز الإسلاميون إلى سلطة تجهزت لهم على غير موعد لكن على طبق من جوجول وفيس بوك. هذا الرباعي يتنافسون بل ويتحاربون على امتلاك المستقبل. "جوجل" الذي يملك المعرفة الكلية ويزداد مخزونه من المعلومات ما تبكي أمامه مكتبة الإسكندرية لأنه يخزن يومياً عشرة أضعاف ما تحويه المكتبة في أطنان الكتب. الأمازون: كل شيء للبيع. آبل منحتنا الحركة الكلية بأجهزة تربطنا بعالم الإنترنت. وأخيراً الفيس بوك الذي يملك الشفافية وبناء مجتمعات الصداقة واكتشاف الأصدقاء. إذن هذا المزيج من العمالقة الأربعة الذين يملكون مفاتيح المستقبل الأربعة: المعرفة، الحركة، الخدمة، الشفافية، بدأوا الآن حرباً تذكر بقول الرب "بعضكم لبعض عدو" في عضاض ونهاش. أما الذي سيملك المستقبل فهو من كان خير زكاة وأقرب رحما، حتى ولو طال الصراع، فالكون مبني ليس على العبث بل على الحق. وحالياً هناك اتجاه في عالم الأدوية يطرح إمكانية دمج الأدوية المختلفة التي يتناولها شخص يعاني من عدة أمراض في دواء واحد. والسؤال الآن: لماذا لا يمتزج هذا الرباعي في حبة واحدة لفائدة الجنس البشري؟
اقرأ المزيد
خرافة الدولة والخلافة الإسلامية، وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟
التحريريون من جماعة حزب التحرير الذي أسسه المقدسي التقي الدين النبهاني أفنوا عمرهم في البحث عن دولة وخرافة؟ والفلسطينيون يحلمون بدولة وعلم حتى تقاتلت فتح وحماس بكل حماس؟. والكشميريون يقاتلون للانفصال عن الهند من أجل تكوين دولة. و(خطاب) الذي قتل في الشيشان ومن بعده يقودون  حرب عصابات من أجل إقامة دولة إسلامية. والأكراد يحلمون بدولة كردية، تمتد من مرتفعات الهندوكوش إلى ماردين وأرمينيا؟ حتى تقاتل الكل مع الكل، ولوحق أوجلان من الكرد والترك والعرب والعجم  ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. وفي مناقشة على الهواء من محطة فضائية قال الكردي أنه لا مانع لديه  أن يضرب بالعصي آناء الليل وأطراف النهار بيد مخابرات كردية على أن يعيش في ظل دولة غير كردية. ودول الطوائف في الأندلس زادت عن عشرين بين بني (الأفطس) و(ذي النون) و(بني العباد) مما جعل الإمام (ابن حزم) يتبرأ منهم جميعاً، ويذكر قول الشاعر (ألقاب مملكةٍ في غير موضعها .... كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد). واليوم تبلغ الدول العربية أكثر من عشرين دولة، ومع كل زيادة في العدد يزداد التناقض والشقاق والنفاق، ويستفحل الوباء والغلاء والعناء والغباء، ويحجز المواطن العربي في مزيد من مربعات التخلف، وكل زيادة في الأرقام تعني نقصا فيها عكس قوانين الرياضيات. وقديماً شكا بنو إسرائيل إلى موسى سوء الأوضاع وتمنوا الخلاص من فرعون، ولكن موسى اعتبر أن إزالة فرعون ليست حلاً للمشاكل بقدر من سيكون البديل. "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وفي كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لـ (عبد الرحمن الكواكبي) أشار إلى ثلاث أفكار رئيسية تشكل مثلث الخلاص من الاستبداد: 1 ـ أن يكون (سلمياً بالتدريج) 2 ـ و(أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية) 3 ـ وأنه ( يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد). وإلا كان على حد تعبير الكواكبي استبدال صداع بمغص والسل بالشلل. إن استبدال فرعون بفرعون لا يتقدم في حل المشكلة إلا بإلغاء كل حل. فيتغير الأشخاص ويبقى الوسط مريضا كسيحا. (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). إن التحدي الأكبر ليس في الهدم بل البناء. ومازلت أتذكر (آية الله منتظري) ـ وكنت يومها زائرا لإيران بمناسبة العام الثاني على الثورة ـ وهو يخطب بعد نجاح الثورة الإيرانية قائلاً:"لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي اليوم هو في إيجاد بناية أفضل". واليوم لم يبق منتظري وطالقاني وعلي شريعتي وثورة، بل أوتوقراطية خانقة ودولة بوليسية، ورئيس دولة يتلمظ لصنم نووي، ويدعو لشن الحروب. وهكذا فقد استبدلت إيران الإسلام بإسلام شاهنشاهي، والشاه بشاه يلبس عباءة ويطلق لحية ويحمل سبحة، كما جاء في فيلم مرملوك الإيراني، الذي ظهر لأسبوعين ثم اختفى. إن القضاء على الشاه كان أول الطريق وأسهله، فهو عملية هدم لا أكثر، وكل التحدي هو في التخلص من وضع " اللاشرعية" بإقامة الشرعية. والقضاء على صدام كان الفصل السهل من المسرحية الأمريكية، واستئصال السرطان لا يعني بالضرورة عدم وجود انتقالات ورمية. والتخلص من الإقطاعي السابق لا يعني استبداله بإقطاعيين جدد، أكثر عددا وأظلم وأبطش كما حصل مع الثوريين البعثيين السوريين الذين واجهوا منكر ونكير الألماني الحلس ميلس. إن إزالة الظلم هي أقل من نصف الحل، ولكن كل الحل هو في إقامة العدل. وعندما يستأصل جراح الأوعية الورم الدموي لا يعني أن العملية انتهت، بل الأصعب فيها قد بدأ، بإعادة ترميم المنطقة بالكامل من خلال وضع الشريان الصناعي محل الورم المستأصل. وفي كتاب (المقال على المنهج) لفيلسوف التنوير (رينيه ديكارت) اعتبر أن المهم في تغيير الأفكار ليس هدم البنى القديمة فهو سهل، ويجب الحذر فيه، بل وعدم البدء فيه، تماماً مثل الذي يعيش في بيت خرب قذر وتريد إسكانه الفسيح النظيف من البيوت. يقول (ديكارت): لا تهدم بيته، بل ابن له الجديد، ثم خذه ليدخل البيت الجديد، وهو من تلقاء نفسه لن يعود إلى بيته القديم. من المهم إذن أن لا نهدم شيئا ليس عندنا بديل عنه؛ بل يجب أن نمتلك ما هو أفضل منه أو مثله على الأقل. ويقول الجراحون هناك خمس قواعد فلسفية في الجراحة منها أن الجراحة تجرى إذا لم يكن عنها بديلا. وأن لا يدخل الجراح إلى وسط  لزيادة الفساد فيه أكثر مما كان. كمن أراد أن يصلح تضيقا في المعي فقاده عمله إلى انسداد كامل مهدد للحياة. وفي القرآن تقول آية النسخ أنه " ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير". فالنسخ حالة تطورية نحو الأحسن وليس نكسا للخلف. فهذه قوانين وجودية ثقيلة، وهي تتنوع وصالحة للتطبيق في الكيمياء وعلم النفس والفيزيولوجيا والجراحة والفلسفة والعمران الإنساني والسياسة. واستبدال وضع سيء  بوضع سيء مثله أو أشد سوءً لا يعني شيئا، وعندما عُرض الملك على رسول الله (ص) رفضه لأنه لم يرد بناء دولة هرقلية. والتخلص من دولة قمعية بدولة أشد قمعا هو مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. أو بتعبير (لينين) عن الرأسماليين الذين اشتروا حبل مشنقتهم بيدهم، عندما أرادوا التخلص من القيصر الروسي بالشيوعيين، وكان ذلك عندما شحن الألمان (لينين) في عربة قطار مغلقة إلى روسيا عبر أراضيهم مثل من ينقل جرثومة (الانثراكس) إلى عدوه بتصوره أنه سيقضي على الدولة القيصرية فجاء منه البلاء المبين، وهلكت القيصرية الألمانية وصعد نجم الشيوعية حتى حين. والذي حصل أن لينين قضى فعلاً على عائلة (رومانوف) بدداً فلم يترك منهم أحداً بحفلة إعدام جماعية في (كاترين بورج)، ولكن الثورة الشيوعية اندلعت في وسط الفوضى، وخسر الغرب الرهان على (كيرنسكي) فكانوا في مرض، فانتقلوا إلى اختلاط للمرض أدهى وأمر. مثل من كان يعاني من الحمى فأصيب بانثقاب معوي، أو كان يعاني من سعال بسيط فتعرض لالتهاب رئوي قاتل. وكلف هذا الحلفاء لاحقاً أن يحشدوا كل إمكانياتهم ليقضوا على السرطان الشيوعي عبثاً، وما حصل مع أمريكا وجماعات المجاهدين في أفغانستان يشبه هذا التورم الخطير، وكذلك في تسليح العراق، ففي النهاية انقلب السحر على الساحر. ويكون الإنسان في ورطة فيخرج منها ليقع في ورطة ألعن. فهذه عظة التاريخ، ولقد كان في قصصهم عبرة  لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى. واليوم يحتفل الروس بنقل بقايا جماجم العائلة المالكة القديمة التي دفنت في مستنقع، ولكن عائلة (رومانوف) شطبت من ملفات التاريخ، وإلى الأبد، ودلفوا إلى مستودعات النسيان، كما حصل لمن قبلهم قرونا كثيرة، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ إن وهم الدولة أسطورة مضاعف مرتين كل منهما أشد خطراً من الآخر. الأول بتصور الانتقال إلى دولة جديدة مثل العبور من مفازة النار إلى الجنة، ووهم فكرة (الدولة الإسلامية). ومنذ أيام (الخوارج) ادعى الناس أنهم يقيمون دولاً إسلامية، فليس أسهل من رفع الشعارات واغتيال الحقائق وتفريغ المضامين. كما حصل مع البعثيين بالثالوث المقدس. الوحدة والحرية والاشتراكية فأصبحت الخراب والديكتاتورية والطائفية. ولم تعتبر الأمة وكل مدارس الفكر الإسلامية والمذاهب أن جهاد الخوارج كان جهادا، مع أن الخوارج أثاروا قضايا فكرية جديرة بالمناقشة مثل انتخاب الحاكم من الأمة ولو كان رأسه "زبيبة"، ولكن مشكلتهم كانت في التشدد والتكفير والعنف المسلح لقلب الأوضاع. وهذا الميل المريض تشربته اليوم جماعات الإسلام السياسي اليوم، ومن الملفت للنظر أن الخوارج انعزلوا تاريخيا في الواحات البعيدة في الصحاري في الأطراف كما هو بين الطوارق في الجزائر والأباضية في مسقط. واليوم نرى أشد العنف الإسلامي ينبع حيث يقل الفقه ويشتد الحماس. والخوارج لم يكن ينقصهم الحماس  بقدر الوعي، فهذه هي كارثة العالم الإسلامي المعاصرة بالفراق بين الفهم والتقوى، وانفكاك النص عن الواقع والتاريخ. استباح الخوارج دماء المسلمين باسم الإسلام، واليوم تحت اسم الحرية اغتيلت الحرية أضعافا مضاعفة، وترسخت الديكتاتوريات بأشجار باسقة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وباسم الشعب خسف بالشعب. وعندما أراد البعض اغتيال فكرة القرآن رفعوا القرآن على رؤوس المصاحف في خديعة معاوية الكبرى. ومن المعروف في علم الكيمياء العضوية أن نفس المركب يتحول من ترياق إلى سم بقلب جذر الهدركسيل فيه؛ فيبقى الشكل كما هو والمفعول مقلوبا. ويمكن تحت اسم (مسجد) أن يمارس الضرار والتفريق بين المؤمنين، وأن يتحول إلى بؤرة تحيك الموآمرات وشبكة تجسس مضادة، كما في قصة (مسجد الضرار) الذي تحصن فيه المنافقون فأمر النبي بهدمه " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا  كفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون". ومازلت أتذكر خطبة الجمعة في فيرجينيا في أمريكا عندما شاركت في مؤتمر التعددية وقام خطيب أمريكي مسلم فحذر من خرافة الدولة، وأنها يمكن أن تتحول إلى مصيدة لكل الفكر. وتحت هذا الوهم سقط في شراك العنكبوت من كل اتجاه زوجان. وعندما اعتلى الإنقلابيون ظهر الحصان العسكري تحت إغراء إقامة (دولة) تحقق أحلامهم وطموحاتهم لم يروا سوى كوابيس وتشردا وقتلا. وعندما سئل (حارس سيلاجيج) عن البوسنة (الدولة الإسلامية) كان جوابه صريحاً وفي غاية الوعي والتألق :"نحن لسنا دولة إسلامية. نحن دولة علمانية تضم خليطاً من المسلمين والكروات والصرب تتعايش فيها كل الأقليات". إنه ليس أسهل من وضع خنادق نفسية أمام زحف الإسلام ببناء دول خرافية تحت أسماء إسلامية ليست بريئة تماما، ويمكن محاربة الإسلام باسم الإسلام، ويمكن لصدام أن يضع فوق علم العراق الله أكبر وليس شيء أكبر من صدام، أو بتعبير (النيهوم) (إسلام ضد الإسلام). فهذه خديعة يجب الانتباه إليها، وأن نبحث بدون ملل عن الحقائق، ولا نغتر بالشعارات أو الكلمات، التي وصفها القرآن أنها "كلمات ما أنزل الله بها من سلطان". أي كلمات فارغة من رصيد الحقيقة مثل العملة الورقية المزيفة. ويلفت نظرنا (روجيه غارودي) المفكر الفرنسي المسلم إلى هبوط مساجد فخمة ضخمة عملاقة، كأنها صرح ممرد من قوارير "بباراشوت" من السماء، في مدن العالم الغربي؛ فتثير هلعهم أكثر من إقبالهم، في الوقت الذي يمكن نشر الإسلام بمراكز إسلامية بسيطة متواضعة، تعتمد قوة الفكر، وحسن التنظيم، وفهم عقلية المواطن الغربي، وإتقان لسانه فلا بيان دون لسان "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم". وفي أفغانستان كان (كمال بربك) وهو الشيوعي الأحمر يتظاهر بأنه مسلم تقي نقي حتى مخ العظام، وعندما دخل (نابليون) مصر ادعى الإسلام وأصبح اسمه الحاج نابليون. فهذه قصص مهمة لأيقاظ الذاكرة على الحقائق. واليوم أزالت أمريكا (حكومة) طالبان ووضعت دمية اسمها حامد قرضاي يتحرك بريموت كونترول، تحت دعوى إقامة حكومة ديمقراطية تعددية وباسم الحرية. ويحذرنا (نعوم تشومسكي) في كتاب كامل بعنوان (ردع الديمقراطية)، أننا يجب أن نفهم قانون التعامل مع القوى العظمى، وأنها عندما تنصر فريقا على آخر، تنصره بما يتفق مع مصلحتها، أكثر من مصلحة الفريقين المتصارعين، كما جاء في قصة القرد الناسك والقطين اللذين سرقا الجبنة فأرادا منه عدالة التقسيم، فاستقرت الجبنة في بطن القرد. وبالمقابل فإن هناك شريحة ترى أن حكومة طالبان ربما هي حكومة شرعية باعتبارها تنادي بالشريعة. ولكن الصراع الجاري في أفغانستان هو لم يزد عن صراع قبلي على السلطة، ولم يظهر هذا على السطح إلا حين تم طرد الروس، وهو التحدي الخطير الذي ذكرناه فيما سبق أن زوال فرعون ليس بشيء، ولكن من سيخلف فرعون؟ أو بتعبير الآية "ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". والنموذج الأفغاني ليس ذلك النموذج الذي نرفع به رأساً، وبلد من هذا النوع يفضل للمرء فيه أن يحزم المرء حقائبه ويفر منه. وهذا يظهر مرة أخرى فكرة خرافة الدولة. والخلاصة إن هذا الغرام بإقامة دولة مستقلة، أو دولة إسلامية وهم كبير، و (النميري) في السودان وتحت اسم الدولة الإسلامية أعدم مفكرا صاحب مدرسة مثل محمود طه لآرائه، مما جعل الترابي يقلب يديه على ما أنفق في الانقلاب العسكري ويقبع في إقامته الجبرية، وكما يقول المثل العربي: "يداك أوكتا وفوك نفخ". حتى إذا خرج بدأ يكتب في الحريات وهو الذي وأدها.. وكان حظه أفضل ممن سبقه فما زال يحتفظ على برأسه بفضل الروح القبيلة. وفي مصر قتل حسن البنا من وراء أعمال التنظيم الخاص، كما اغتيل صلاح البيطار بيد الرفاق من نفس أبناء الحزب الذين تربوا عل يديه. ويقول مالك بن نبي أن مولودا لو خير أن يولد؟ هل سيختار أفغانستان فيمشي بعكازة خشبية أو يرى بعين واحدة. أو في اريتريا فيقتل في جبهات حرب بائسة. أو في بلد عربي فيقضي نصف عمره في أقبية الاستخبارات والنصف الباقي يرتعش خوفا على رزق عياله؟ أم يختار السويد حيث الضمانات؟ إنه سؤال ثقيل ومزعج ولا أحد يطرحه؟ ويحتفل العراقيون والسوريون ويهنيء بعضهم بعضا حينما ينال أحدهم الجنسية البريطانية أو الكندية. بعد أن لم يبق وطن ومواطنة، وبعد أن فروا من دولهم باتجاه العدالة والأمن والرزق، فهذا هو الوطن وهذه هي دولة الإنسان. هذه المسألة أشكلت على الفيلسوف (محمد إقبال) مع ضخامة فكر الرجل وبعد نظره، حينما دعا إلى تكوين دولة إسلامية في شبه القارة الهندية، وهو النموذج المشوه الذي ولد مع باكستان في قطعتين من الأرض بينهما بعد المشرقين، لتتمزق إلى دولتين باكستان وبنغلادش، بعد أن بنيت على أنهار من دماء ملايين القتلى، في عملية جراحية دموية من أجل إرضاء غرور سياسيين من نوعية (علي جناح)، يتربع فيها على عرش السلطة، وتطبع صورته البهية على الأوراق النقدية، ويفرش بين قدميه السجاد الأحمر في المطارات، وأن يلقب في كل مكان سيدي سيدي أو بتعبير الإنجيل " يعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي    سيدي" . إنه حلم قديم لكل السياسيين المغامرين من عشاق السلطة وبناة حكم الأسر الإقطاعية المسلحة. لقد انتبه (مالك بن نبي) إلى هذه الولادة المشئومة بحيث اعتبر أن خلق دولة  باكستان كان حاجزاً نفسيا أمام انتشار الإسلام في القارة الهندية، التي كانت في طريقها إلى التحول الإسلامي البطيء. يقول (بن نبي) أن (تشرشل) كان في طريقه إلى تحقيق هدف ثلاثي من وراء خلق باكستان: (حصانة ضد الشيوعية) و(حاجز نفسي أمام انتشار الإسلام في القارة) و(كسر فكرة أي اتحاد هندي). جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي):" لقد استطاع الثعلب الهرم أن ينشئ في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجراً صحياً ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضاً كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية أخرى، ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس، تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء ملايين الضحايا، من أجل هذا التحرير الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود". وهي طريقة بريطانيا المعهودة عندما تغادر منطقة ما، أن تخلق فيها خراجاً مزمنا على صورتين، فإما خلقت وضعاً من العشق لا يقاوم لبناء دولة كما في مشكلة كشمير. أو بناء دول خرافية كما في دولة إسرائيل. بحيث تجعل المنطقة تغلي في هذا القدر قرونا وينطبخ فيها العرب واليهود معا. ولكنه داء أصيبت به بريطانيا في مشكلة شمال أيرلندا كما يقول المثل العربي رمتني بدائها وانسلت. لقد أدرك  غاندي خطورة التقسيم، وأن التفاحة نضجت كفاية لتسقط في اليد، وأن كل التحدي هو في بناء هند جديدة بعد التخلص من بريطانيا، واقترح أن يتولى علي جناح منصب رئيس أول جمهورية في الهند المتحدة، ولكن جناح كان يحوم فكره في اتجاه مختلف يسيل له اللعاب أكثر. إن الغرام بالدولة قديم، وعشق القوة متأصل في القلوب، وفكرة الدولة تأسر القلوب بسحر لا يقاوم، ويظن المغفلون أنه مع بناء الدولة سوف يبدلهم الله بعد خوفهم أمنا وفقرهم غنى وذلهم رفعة، فحصدوا الديكتاتورية والفقر ومزيدا من التقسيم. وبنوا أصناما نووية أدخلت الفزع إلى كل بيت في القارة الهندية. واليوم يحلم الأكراد بدولة كرمنجية، فيستبدلوا طاغوت عربي بطاغوت كردي ومغص بصداع. وما حصل مع تقسيم القارة الهندية أنه كان عملية جراحية نازفة لولادة قيصرية مرعبة، فلم ينفصل كل المسلمون ـ لحسن الحظ ـ ويعيش اليوم في الهند أكثر من 100 مليون مسلم، كما لم يبق من انفصل في دولة واحدة بل انشطروا بسرعة إلى اثنتين باكستان وبنغلادش، بعد أن انتزعوا قلب مجيب الرحمن من صدره، والدور اليوم على باكستان أن تنشطر إلى دويلات، وبقيت قضية كشمير بدون حل معلقة غير مطلقة على شكل خراج مزمن كما أرادت بريطانيا لها قبل نصف قرن. ووقعت باكستان في قبضة جنرالات قساة، من خلال سلسلة محمومة من الانقلابات العسكرية. ونضحك ولا نكاد نصدق اليوم أن باكستان التي أنفقت آخر مليم من جيبها لإنتاج صنم نووي خذلها في يوم الفصل. والناس عادة يشترون السلاح ليفيدهم يوم الفصل، ولكن باكستان خافت على السلاح الذي صنعته يداها. فبدل أن يحميها السلاح تبين أنه يحتاج لحماية. إنها نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. وينطبق هذا القانون على (الشيشان) وغيرها. واليوم نرى الشيشان وقد تحولت إلى أنقاض ولا تحمل مقومات دولة، وتريد الانفصال لبناء دولة تشبه دولة الطالبان. ألم يكن أجدى للشيشان أن يبقوا ضمن إطار دولة عظمى يستفيدون من مزاياها، ويمارسوا المقاومة المدنية في حال وقوع الظلم. كما بدأته النساء في أول الحملة الروسية، وتفاءلنا به، لولا انتقال عدوى المتشددين ووباء السلفية الجهادية مثل أنفلونزا الطيور إلى هناك. هل الأفضل للإنسان أن يركب غواصة نووية روسية من نوع كيرسك أم حمارا في جبال القفقاس؟ إنه سؤال محرج مزعج ولكن قابل للطرح. إن الأرض لله. والله رب العالمين. وحيث العدل فثم شرع الله. والعبرة ليست في قيام كيان سياسي يحمل ثوبا إسلاميا ويمارس الديكتاتورية. فهذا قانون جوهري في ممارسة النقد الذاتي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كما أن هناك علاقة بين النفس والآلة، وعندما يعمد الإنسان إلى السلاح فيستخدمه ويحل له السلاح الإشكالية يتحول إلى عبد له مرتهن في قبضته. وعندما يحل المشكلة بدون سلاح يتخلص من القوة مرتين وبالاتجاهين، فهو لا يفرض آراءه بالقوة، كما لا يخضع للآخرين تحت ضغط القوة، فهذه آلية هامة في تحرير الإنسان، وهو ما فعله الأنبياء بتربية الإنسان الجديد في التخلص من علاقات القوة. وفي إضاءة هذه الفكرة عن مشكلة الدولة يمكن وضع مفاصل هامة في الصراع العربي الإسرائيلي. 1 ـ (أولا)ً: الصراع العربي ـ الإسرائيلي هامشي وجانبي والصراع العربي ـ العربي هو الجوهري والأساسي ظهر هذا واضحا في حرب الخليج الأخيرة عندما نسينا إسرائيل واصطف الجنود العرب بجانب الأمريكيين. 2 ـ  (ثانياً) إن التخلص من الحكم الإسرائيلي لا يعني شيئا، إذا تم استبداله بما هو أسوء. واستبدال طاغوت صهيوني بطاغوت عربي لا يزيد الأمور إلا سوءً. وهذا الشيء يصعب تصوره ولكنه وارد. وقيام إسرائيل بالأصل  لم يكن إلا نتيجة طبيعية وتحصيل حاصل لانهيار الجهاز المناعي العربي، وهذا الجهاز لم يتعافى بعد، وفي جعبتنا الكفاية من أسلحة التدمير الذاتية، وعدم احترام بعضنا البعض، أو التآمر على بعضنا البعض، أو الغدر ببعضنا، فنحن نعيش أزمة ثقة مروعة. وهذا هو السبب في وجود الديكتاتوريات في المنطقة بسبب فقد (قدرة تقرير المصير) عند الأمة، مما جعلها مستباحة، يمكن أن يعلو ظهرها أي مغامر جريء أو انقلابي لا يتورع عن سفك الدم. كما جاء الأسد وصدام والنميري والقذافي والسادات، وآخر من شكله أزواج، من الانقلابيين المغامرين، فالمشكلة ليست في هذا البعوض التعيس، بل المستنقع الذي يشجع تفريخ هذا النوع السام من الحشرات. واستمرار الأوضاع يعني أن الأزمة قديمة ومستحكمة وعميقة جدا بحيث تصلبت مفاصل العمل السياسي. وحتى يمكن للأمة أن تمشي وتتحرك على نحو طبيعي أمامها معالجات فيزيائية مكثفة، وعمليات ترميم وتصليح متواصلة لكل الأجهزة المعطلة عن العمل، كما يحصل مع مريض معتل بعلل مختلفة. وهناك الآن حرص على بناء دولة فلسطينية ولكن يجب أن نضع في الحساب أن الإنسان الفلسطيني يمكن أن ينتقل من سجن إلى سجن أبشع،  ومن عبودية إلى عبودية مع تبديل السلاسل والسيد. وخلال نصف القرن الفائت قامت ثورات حاولت بكل إخلاص نقل الأمة إلى التحرر فتكبلت الأمة أكثر، ونحن اليوم نعاني من نقص العافية أكثر مما كنا عليه قبل خمسين عاما؛ فالعالم يتقدم ونحن نتراجع. وفي الوقت الذي تضاعف دخل الكوري الجنوبي 13 ضعفا تراجع دخلنا 13 مرة بموجب إحصائيات المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي). 3 ـ (ثالثاً) إن أمامنا خيار أن نكون في حالة (لا حرب ولا سلم). كما لو دخل رجل فاحتل بيتا في حارة وقاطعه أهل الحي لحين حزم حقائبه والانصراف بسلام وبدون ضرب وحرب، بحيث نحول الورم الصهيوني كما يفعل  الجسم بضرب نطاق حوله (محفظة Capsule)، والفرق بين الورم الخبيث والحميد أن الأخير محاط بمحفظة كاملة. وفكرة مقايضة الأرض بالسلام معناه حسب التعريف الطبي السابق أن الجسم يكسر المحفظة من أجل السماح للورم بالانتشار في الجسم. والعرب ليس عندهم مشكلة نقص في الأراضي، وفكرة السلام مع إسرائيل قاصرة، وهناك احتمال واحد للسلام، عندما تتغير طبيعة الورم الصهيوني من السرطانية إلى الورم السليم. ويجب استيعاب حقيقة مرة أن إسرائيل اليوم هي رأس حربة العالم الغربي، فهم من زرعها وتعهدها بالسقاية والسماد ومازال، وهذه حقيقة ثقيلة، أننا نواجه العالم الغربي في صراعنا وليس دولة إسرائيل، رأينا ذلك واضحا بمدها بالجسر الجوي في ساعة العسرة. ومراجعة بسيطة في كتاب (خيار شمشون) لـ (سيمور هيرش) تعطيك النبأ اليقين عن الغرب الذي مكنها من تطوير السلاح النووي وملحقاته من الصواريخ. لقد تغير العالم ولم يعد كما كان سابقا في مواجهات الحروب الصليبية عندما كان يواجه طاغية طاغية، بل تحول اليوم إلى طاغية يواجه مجتمعا غربيا تغيرت طبيعته كلياً يحكم بإدارة جماعية أحكمت قبضتها على العالم بتكنولوجيا متقدمة ومؤسسات علمية ومصارف من المال تحوي أكثر من مال قارون. 4 ـ (رابعاً) وهناك من يعترض أن إسرائيل لن ترضى بهذا الوضع ولسوف تحاول الامتداد إلى الجوار ولذا يجب التسلح وإنفاق المليارات في الأسلحة المتطورة. ولكنها مصيدة فالسلاح من الغرب، ولا يعقل أن يبيعك خصمك سلاحا تستطيع أن تتفوق به عليه، طالما لم نتمكن حتى الآن من بناء القاعدة العلمية لامتلاك التكنولوجيا المتطورة. وفي كتاب (اليابان تقول لأمريكا لا) بقلم (شينتارو أيشيهارا) نعرف أن التكنولوجيا النووية لأمريكا متوقفة على الميكرو شيبس المصنوع في اليابان. والارتهان للسلاح المتطور ورطة، ويمكن أن يدمر خلال الساعات الأولى من أي مواجهة، وهو ما رأيناه في المواجهة بين الدبابات العراقية ت 72 وأبرامز الأمريكية في حرب 1991م . وفي جنوب لبنان لم تهزم إسرائيل بأسلحة متطورة وجيوش نظامية بل بأسلحة فردية وحرب عصابات، وخروج إسرائيل أيضا عليه إشارة استفهام بهذه الطريقة، كما أن من نجح ضد إسرائيل على فرض نجاحه لا يعني أنه سينجح في لعبة الديموقراطية فلا يستويان مثلا. وفي عام 2006 م فاز حزب الله في صراعه مع التمساح الصهيوني، ولكنه تحول بدوره إلى ديناصور لاحم فالتهم لبنان عام 2008م في مناورة ساعات؟ وإسرائيل غير حريصة على اجتياح الجوار، ولقد جربت حظها عام 1982 في دخول بيروت وتراجعت. ثم جربت من جديد عام 2006م فتدمرت لبنان ولم يتدمر حزب الله، مثل مقاومة السرطان بالمواد الكيماوية فيهلك الجسم وتبقى خلايا السرطان؟ واليوم ينتقل كل الصراع مع الجيوش العربية والجيران إلى داخل إسرائيل. ويجب أن نعترف أن المواطن العربي اليوم يستطيع تحت الحكم الإسرائيلي أن يخرج في مظاهرات، ويكتب ما يشاء، وينظم الأحزاب، ويضرب بالحجارة، ولكنه في العواصم العربية عاجز عن أي تظاهرة، بآلية مزدوجة من الخوف المتبادل، فلن تكون المظاهرة سلمية، والقمع سيكون دموياً من خلال عقلية عنفية مسيطرة على الطرفين. ولولا الحضور العالمي ما تغيرت المنطقة العربية. وهذه حقيقة بغيضة ولكنها حقيقة. ولا ينطق بها إلا قليل. 5 ـ (خامساً) بين أيدينا تجربة جنوب أفريقيا تقول أن النظام العنصري مات في النهاية، وحكمت الأكثرية السوداء، وجاء منديلا من السجن إلى الرئاسة، وهذا الشيء يمكن أن يحدث في فلسطين، وحسب دراسات (عبد الوهاب المسيري) سيشكل عدد الفلسطينيين ديموغرافياً الغالبية في المجتمع الإسرائيلي عام 2050 م، ولكن الكلام في هذا الموضوع حرام. ونحن نرى اليوم عرب 48 يدخلون الكنيست ويشكلون الأحزاب ويعترضون ويتظاهرون. بل إن بعض الإحصائيات أظهرت رغبة بعض الأقليات العربية عدم الانضمام إلى البلدان العربية، وتفضيل البقاء في إسرائيل حيث الرعاية الصحية وضمانات العمل والتعليم واحترام الإنسان. رغم التفريق العنصري، فالمسألة درجات كما نرى. إنها حقائق فاجعة ولكنها حقائق. وهو مؤشر عميق على أزمة الأمة الحضاري. 6 ـ (سادساً) لقد جربت الأنظمة العربية خوض حروب نظامية ضد إسرائيل انتهت في معظمها إلى كوارث، واليوم مع السلاح النووي لا يبقى في المنطقة إلا (خيار شمشون)، بمعنى أن الحرب انتهت بامتلاك سقف القوة، وأي مقاومة مسلحة داخل فلسطين سيكون حظها أضعف من حظ الأنظمة العربية في النجاح، مما يؤكد خيار المقاومة المدنية. ويجب التفريق بين حالتين: الجنوب اللبناني حيث نجحت المقاومة المسلحة ضد أفراد غرباء يعيشون وسط أمة ولا يعتبرونها أرضهم، وبين أمتين متداخلتين في الجوار كما هو حاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين مما دعا ياسر عرفات في يوم تشبيه الوضع في جمعية الأمم المتحدة في خطابه المشهور أنها حالة تشبه تلك التي عرضت على النبي سليمان حينما ادعت امرأتان ملكية ولد واحد فاقترح أن يقطع الغلام إلى نصفين وتعطى كل أم شق منه. فصرخت الأم الحقيقة إنه ليس ولدي لا تقطعوه. فما كان من صاحب الحكمة نبي الله سليمان عليه السلام إلا أن أعطى الأم المشفقة الغلام. وأمامنا الآن النظر في هذه المسألة من جديد للتفريق بين الحكومة الدينية والحكومة المدنية،  ونعرف من التاريخ أنه في شتاء 1979 م انفجر الطلبة في فبراير (بهمن) من عام 1979 م  بالثورة الإيرانية ضد الشاه فقمعها بكل سبيل ولم يفلح. وأسس الخميني دولته الدينية. وفي يونيو 2003م انفجر الطلبة في طهران بمظاهرات ضد الحكومة الدينية فتم قمعها كما فعل الشاه من قبل. هذه المرة باسم الدين. واعتبرت الحكومة الدينية أن أولئك الطلبة مارقون يحاربون الشريعة. وفي لحظة تحول من قاوم الاضطهاد إلى جلاد. وهذا الانقلاب في الأدوار سنة كونية. كما في قصة طالوت وجالوت. واليوم يمثل دور داوود صبي الانتفاضة. وجالوت التنين النووي الإسرائيلي. وبقدر اضطهاد المسيحيين في الكولسيوم في روما وحرقهم وإلقائهم إلى الأسود. فقد فعلت المسيحية بخصومها ما هو أفظع مما فعلته روما بالمسيحيين. وهذا القانون النفسي يقول إن جرثومة الاضطهاد تنقل عدواها من طرف إلى طرف. بحيث يتم تبادل الأدوار من حيث لا يشعر أتباع الأنبياء ومقلدي الأفكار العظيمة. ولعل أعظم فتح وصلت إليه الديمقراطيات الحديثة هي وجود المعارضة والحكم في نفس الوقت تتبادل نقل السلطة السلمي. مثل دعسة البنزين والفرامل في السيارة. وأعظم ما فعله  الآباء الأمريكيون أن حددوا فترة الرئاسة أربع سنوات ولا تزيد عن مرتين ولا عودة بعدها. مقابل سبع سنوات في الشرق المنكود تتكرر حتى موت الرئيس أو اغتياله. واليوم تشكو المعارضة العربية من سوء حقوق الإنسان تحت بعض الأنظمة ولكن لو كانت محل الحكومة فلن تتغير الصورة. فهذه قوانين اجتماعية مثل الضغط الجوي وتبخر الماء بالحرارة. وعندما نجحت الثورة الإيرانية فإنها لم تقل للناس اذهبوا فأنتم الطلقاء بل استفتحت العهد الجديد بسلسلة لا نهاية لها من الإعدامات خلدها الخلخالي بمنظره الكاريكاتوري في محاكم هزلية باسم الشريعة . وفي فبراير من عام 1981 كنت في زيارة لطهران بمناسبة الذكرى الثانية للثورة فسألت إبراهيم يزدي عن الإعدامات التي لا تنتهي فاعتبر سؤالي (رأسماليا) مضادا للثورة. وقبل سقوط تشاوسسكو بأربعة أيام كان في زيارة طهران. وهكذا طرد الشاه من إيران ثم عاد فدخل بعباءة وقفطان ولحية. وفي السودان نجح الترابي في إقامة خلافته الدينية ولكن الحصان العسكري الذي جاء به إلى السلطة جمح به فكاد أن يدق عنقه. وهو الآن يكتب مخطوطة كبيرة في السياسة والحكم في الإسلام بأن الحريات هي أم القضايا بعد أن قضى على الحريات. وفي أفغانستان حكم الطالبان فوأدوا المرأة وقتلوا المخالف وحطموا الأماكن الأثرية بدعوى الأصنام ومشى الناس على رؤوسهم إلى الخلف. كل ذلك تم باسم الحكومة الدينية. وفي العراق كتب صدام على العلم العراقي الله أكبر ولم يكن في العراق من إله إلا صدام. وهو أمر صادم ولكن هذا ما يقرره القرآن، فيوسف قال لمن كان معه في السجن اذكرني عند ربك، ولم يكن سوى نظير صدام. ومن لم يصدق هذه الحقيقة الصادمة فليجرب حظه في أي عاصمة عربية أن يتعرض لرئيس البلد ثم الله، ليعلم أيهما أسرع في أن تمتد إليه يد المخابرات بالاعتقال والضرب والإهانة. فهذه تجربة ميدانية لنعرف الله الحقيقي، والوثنية الفعلية التي دلف إليها العربان في عالم الأوثان. وفي الجزائر ذبح أكثر من مائتي ألف بالسواطير والسكاكين بدعوى الجهاد لإقامة حكومة دينية. وعندما نشب الصراع بين محمد ذي النفس الزكية وأبو جعفر المنصور ساق كل طرف كل الأدلة العقلية والقلية أنه صاحب الحق في الخلافة. والذي حسم الصراع كان السيف فكان أصدق من كل الأدلة العقلية والنقلية. وفي سوريا تم توزيع منشورات سرية بفتوى من ابن تيمية بجواز قتل النصيرين بأي سبيل فهذا أقرب للتقوى. مما دعا السلطة إلى إصدار بلاغ بإلقاء القبض على ابن تيمية؟ وفي عام 1980 جرت محاولة لاغتيال رئيس الجمهورية في سوريا مما جعل النظام يتورط في قتل ألف معتقل سياسي وهم في عنابر السجن فهذا أدعى للأمن. وكما نرى فالكل يستحم في نفس العين الحمئة من نجاسة الدم المسفوح. كل هذا الصراع يدور حول تأسيس الحكومة الدينية، ولكن هل الحكومة المدنية تتعارض مع الإسلام؟ وهل أثبتت الحكومات التي رفعت الشعارات الدينية جدارتها ونجاحها في عالمنا المعاصر؟ وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟ هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تاريخية وسير في الأرض لرؤية المكاسب والخسائر التي جلبتها للناس. فمن الواضح رؤية المشهد الدامي عبر العصور لأتباع الأنبياء وهم يتقاتلون وكل حزب يريد إقامة حكومته الدينية. ويدعي أن كل ما عداها باطل يجب محوه. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" لماذا يقتتل أتباع الأنبياء؟ في البداية كان الناس يقتتلون على الطعام والمال والأرض والنساء. والقرآن يذكر أول حادثة قتل في تاريخ البشرية لأنه لم يُتَقَبل منه قربانه. فالسبب هو الإحباط والنقمة لما نزل به من فضيحة دينية حيث كشف عدم صدقه في التقرب إلى الله. وأن شعاراته الدينية كانت هزيلة وزائفة. وكثير من الدول المستكبرة الآن على مذهب قابيل ترفع الشعارات الطيبة وأحياناً الدينية وتقتل من يحاول كشف زيفها. ثم جاء بنو إسرائيل وأقاموا دولتهم الدينية على الجماجم والدماء وصوروا إلههم أنه الجبار الدموي الذي لا يرتوي إلا بحصد دائم للبشر. وحتى سليمان يخدم ربه بهذا الأسلوب "فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها" وجاء عيسى فتبرأ من كل هذه المجازر ونادى بالحب والتزم أتباعه في البداية بالحب والرحمة وبشروا أن مملكة الرب في السماء. ولم يهتموا بإقامة حكومة دينية على الأرض. إلى أن جاء قسطنطين وعقد مجمع نيقية لعلماء النصارى. ثم أصبحت النصرانية التي حددها المجمع هي دين الدولة وكل ما عداه خارج على الدولة ويجب تصفيته ومنها فرقة آريوس. وأصبح الناس يقتُلون ويُقتَلون باسم الحكومة الدينية. وقصة أصحاب الأخدود مثال على ذلك من تحريق الناس في نجران. وجاء الإسلام وأنشأ دولته في المدينة وكانت دولة راشدية هي الحكومة الدينية الأولى التي لم تقتل الناس من أجل دينهم وأفكارهم. ومع ذلك فقد قتل اثنان من الراشدين أي نصفهم ربما بسبب الاختلاف القبلي. وكانت الفتوحات في البداية حرب تحرير للإنسان من الظلم. ثم دخلها الطمع في الغنائم. ثم انفجرت الحروب الصليبية لتعرض علينا مقدار شناعة الحروب الدينية وأن تحت الشعارات الدينية مطامع دنيوية كبيرة. ولكن أتباع الأنبياء كانوا يظنون باستمرار أن الله يأمرهم أن يقاتلوا الآخرين ويفنوهم من الأرض كي يمنحهم أرضهم وديارهم وأموالهم مكافأة ومغانم. فهل أمر الله فعلاً بتصفية الكافرين؟ لماذا قال لنا إذن "لا إكراه في الدين"؟ لا بد من دراسة آيات القتال في القرآن دراسة تاريخية ضمن ظروفها وملابساتها فلكل مقام مقال، ولكن العالم الإسلامي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ لأنه عجز عن هذه الرؤية التاريخية. فهو يلغي "لا إكراه في الدين" و"ادخلوا في السلم كافة" و"كفوا أيديكم" و"كلا لا تطعه واسجد واقترب" و" فأعفوا واصفحوا" و"ادفع بالتي هي أحسن" و"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم". والقرآن يقول إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون" ويقول "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" ويقول لمحمد ص "وان احكم بينهم بما انزل الله". هل يعني ذلك إقامة حكومة يهودية لليهود ونصرانية للنصارى ومسلمة للمسلمين؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا في بلد واحد يضم مواطنين من الأديان الثلاثة؟ إن تاريخ أوربا منذ الحروب الصليبية حتى الآن يعرض باستمرار الحروب الدينية بين المذاهب المختلفة وحتى في الدين الواحد. وانظر إلى ما جري حتى الآن بين بريطانيا وايرلندا. فكل طرف يريد أن يجعل الحكم لمذهبه وكل حزب بما لديهم فرحون. والآخر هو الشيطان. والصرب انتقموا مما فعله الكروات بهم عام 1941م حين قتل ثلاثمائة ألف من الصرب. فهل يعقل أن ينزل الدين من السماء ليكون سببا دائماً للقتال بدلا من أن يكون رحمة للعالمين؟ من الواضح أن المآسي علمت الشعوب الأوربية  أن تعيد النظر وتفكر في مصالحها وما ينفع الناس بعيدا عن المذاهب والنعرات الدينية. وتركت لكل إنسان حريته في الإيمان بما يشاء من الأديان. ولكن المتحمسين من المسلمين يقولون: لكن الحكومة الإسلامية مختلفة عن ذلك إنها ترفع الظلم عن الناس وتمنحهم الأمن والعدل؟ والسؤال من هي الحكومة الإسلامية؟ أهي السلفية أم المذهبية؟ أهي السنية أم الشيعية؟ أهي التي ظهرت في بنغلادش أم أفغانستان وإيران؟ أما من سبيل لإيقاف هذه المآسي والمجازر التي ترتكب باسم الدين وطلبا لرضى الله.  وكل ما يجري في العالم الإسلامي يقول كل حزب بما لديهم فرحون. ولكن الله غير حزبي ولا يتحزب. ولا بد من الانتباه إلى أن الحكومة المدنية تسمح بالمعارضة وبوجود أحزاب متعددة تقدم أكثر من رأي حول الموضوع. أما الحكومة الدينية فإنها تعتبر المعارضة والاختلاف معها خروجا من الدين وكأن الذي يعترض عليها يعترض على الله. لأنها تعتبر نفسها تمثل حكم الله. وفي قول للرسول ص وهو يوصي الصحابي أن "لا ينزلهم على حكم الله بل على حكمه فإنك لا تدري هل يوافق حكمك حكم الله" سيقولون الله أمرنا بأن نحكَّم شرع الله؟ حسناً ولكن ما هو "ما أنزل الله؟ إنه "لا إكراه في الدين" فهذا الآيات وأمثالها تمثل مباديء قرآنية يسميها علماء الشريعة مقاصد الشريعة. وهي مباديء لا يرفضها أحد من الناس مهما كان كافرا. فلماذا لا يدعى الناس على اختلاف أديانهم إلى حكومة تتبنى هذه المباديء ويتولى شئونها مخلصون متخصصون في السياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة النفسية والجسمية. وتكون الحكومة مسئولة ومحاسبة أمام شعبها عن صلاحيتها وأحكامها. ويترك كل  إنسان ليختار من الأديان ما يشاء مع ضمان حرية الرأي وحرية الدعوة للأديان. إن الحكم بهذه المباديء سيكون حكما بالإسلام وبكل الأديان السماوية. إن دارس قصة الحضارة يتأمل في المذاهب والأديان التي تتالت على البشرية فيجد أنها اتفقت على أساس كبير واحد أن "تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟" والإسلام قال: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. أي أن نكون جميعا سواء و لا يكون أحد منا فوق القانون. قالوا باستغراب ولكن أهل الكتاب هم أهل ذمة وعليهم دفع الجزية "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" وهنا مشكلة كبيرة نعاني منها وهي العجز عن الخروج عن القوالب التاريخية التي فات أوانها. وأن هناك آيات تمثل حالة (الطوارئ) كما دفع العراق تعويضات اجتياح الكويت عن يد وهو صاغر. وكما فعل القذافي بعده، وهناك من العلماء العاصرين من تكلم عن الموضوع وقال:لم يعد هناك أهل ذمة وأصبح الجميع مواطنين لهم حقوقهم ويدفعون الضرائب لتحقيق الضمانات لهم لرفع مستوى بلدهم". إن أجمل تعريف للشريعة وضعه ابن قيم الجوزية حينما اعتبر أنه" فحيث العدل فثم شرع الله" وعندما نرى محاسبة توني بلير من مجلس العموم البريطاني في صيف 2003م على التورط في حرب العراق بمعلومات كاذبة في الوقت الذي يستعطف مواطنون عرب حكوماتهم أن يمنحوا أولادهم من الجيل الثالث جوازات سفر يصبح السؤال الجدي أين شرع الله؟ إنه سؤال مزعج ولكن لا بد منه؟
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram