- - -

سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي
هل تقود الحروب إلى السلام فعلاً ؟ أم يفضي العنف إلى السعادة ؟ أم أن تدمير الخصم وتطويع إرادته ينهي الصراع ؟ أم أن الكراهيات المتقابلة والخوف من الاستئصال المتبادل يفضي إلى وضع مستقر ؟ هناك مذهبان في العالم لاثالث لهما : يقوم الأول على العنف وتدمير الآخر وإلغائه ، والثاني على احترام الإنسان والحفاظ عليه ، وكلا المذهبين خلفهما عواطف متباينة ، فالأول يُسقى بالحقد والثاني يُغَذَّى بالحب ، والحقد عملياً هو الانكفاء والارتداد على الذات ولذا فهو مدمر لإنه يحذف الآخر ، والحب مشاركة ولذا فهو حياة ونماء ، وسوف يقص علينا علم النفس خبراً من هذا الموضوع . كيف يمكن مقابلة العنف بالسلام ، ولايُقابَل بما تفرضه الغريزة البحتة والقائلة : من يضربني كفاً ضربته اثنان ، وكِلْتُ له الصاع صاعين ، وتركته عبرة لمن يعتبر !! هذه هي الثقافة التي يتشربها الإنسان في العادة ، وتبثها العادات والتصرفات اليومية ، وتكرسها أفلام هوليوود ، ويتكرر ترسيخها في أذهان الأطفال من خلال لعب ( أدوات الموت ) من المسدسات والدبابات وماشابه من أفلام الكرتون من أمثال ( غراندلايزر ) وسواها . كتب إلي أخ فاضل فقال : (( إلا أن النقطة التي استعصى علي فهمها هي مسألة العنف ، والسؤال الذي لم أجد له إجابة أبداً كيف تحاور الكلمة الرصاصة ؟ نعم قد أحاور من يرغب في حواري ولكن كيف أحاور من يرغب في استئصالي بغض النظر عن فكرتي التي أحملها ، وقد تابعت لك عدة مقالات تتحدث فيها عن نبذ العنف وعبثية الحرب فياحبذا لوسلطت مزيداً من الأضواء على هذا الجانب )) . عندما وضعت سؤال الأخ الفاضل تحت المجهر للتحليل _ وأعتبر أن تساؤله هذا يمثل شريحة ليست بالقليلة من القراء _ فإنني أثير مجموعة النقاط التالية في أول بحثي : 1 - تقول الأولى : إن هذا الموضوع مختلط ونظراً لنوعية تعقيده فإنني _ على الرغم من قلة زادي فيه _ أخذ مني طاقة فكرية كبرى حتى وصل إلى مرحلة البللورة المتألقة _ على الأقل في ذهني _ وأفاض على قلبي من ضروب السعادة والتحرر من العقد وتوديع التقليد ، ماجعلني أشعر بما يشبه الولادة الجديدة والنور الجديد ( وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) . حيث أن هذه المشكلة أقضت مضجعي وشغلتني منذ مايزيد عن عشرين عاماً ، حتى انتهيت إلى وضوح في هذه الفكرة وتماسك في بنائها ويقين في محتواها ، ولاأزعم أن هذا هو اليقين المطلق بل هو حصيلة البحث الذي وفرت له طاقتي الفكرية منذ ربع قرن من الزمان ، ولذا فإنني أكتب في هذا المجال بشعور المتخمر والسعيد والشغوف في إعلان هذا التوجه. 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن وضع العالم العربي هو _ ولنكن صريحين _ فيما يشبه الحرب الأهلية المهدِّدة في أي مكان في أي زمان ، فما اشتعل في لبنان ودمر في الصومال وتكرر في أفغانستان واليمن والجزائر والعراق وسوريا وليبيا ، إن هي إلا عينات أو لنقل بالتعبير الطبي ( خراجات ) قابلة للتفتح والانفجار في أي مكان ، وليس هناك من بلد عربي بمنجى من هذا الخطر المدمر الماحق ، والذي يظن نفسه أنه في جزيرة ( الأمل ) كما جاء في مسلسل الأطفال ( عدنان ولينا ) فهو في سراب خادع ووهم كاذب ، وسوف تلد الأيام الحبالى ماأقول به ، ويشاطرني فيه الكثير من أصحاب الفكر والقلم ، وهذا يوجب على أهل الفكر والمثقفين المساهمة في تحليل هذا المرض وتسليط الضوء على هذه الظاهرة المرعبة التي تأكلنا يومياً . ولانظن ونسرف في التفاؤل أن مصير ( راوندا ) بعيد عنا ، فالشروط لحدوث حريق مثل هذا قائم في أكثر من بلد عربي ، وإن في قصصهم عبرة لإولي الأباب . وتقول الفكرة الثالثة : إن ظاهرة العنف مرض عام في أي بلد عربي ؛ فهي بلاسما ثقافية يسبح فيها الجميع ، وجو مسموم يتنفس فيه الكل ، ومرض عام لكل الفرقاء المتنازعين ، والاتجاهات المختلفة تقريباً ، وإن اختلفوا ففي التوقيت فقط ، فهم بهذا تبنوا الغدر وشرعوه . هذا الوباء بل الطاعون الفكري والإيدز الاجتماعي هو ثقافة مكررة تنتج نفسها ( وذرية بعضها من بعض ) ولذا فالانفجارات موجودة في كل بيت وزاوية ودولة . إن مرض الكوليرا عندما يجتاح بلداً ما ؛ فهو عندما يأتي لشخص ما لايسأله عن هويته العقائدية وانتماءه العرقي وانتسابه القبلي أو الطائفي ؛ بل يصيبه المرض كظاهرة بيولوجية بحتة ، والأمراض الاجتماعية شبيهة بهذا ، إلا أن ( وحدة ) المرض الاجتماعي أي الكينونة الإمراضية الناقلة والمسببة للمرض هي هنا ( الفكرة ) تماماً كما في ( وحدة ) الأمراض البايولوجية فهي ( البكتريا أي الجرثوم أو الفيروس ) . لذا ففي الواقع إننا في العالم العربي نسبح في بلاسما ثقافية موحدة مشربة بالعنف سواء اعترفنا بهذا أم لا ، يتجلى هذا من خلال ( علاقات القوى ) بين الزوج وزوجته ( 1 ) والأب وابنه ، والضابط بالجندي ، والموظف بالمراجع ، والطبيب بالمريض ، والشرطي بسائق السيارة ، والعسكري بالمدني ، والدولة بالفرد ، والأعلى بالأدنى ، فكلها في معظمها علاقات إنسانية مشؤومة ، ونظراً لأهميتها فقد عالجها القرآن في أكثر من ثماني مواضع ، واستخدم فيها مصطلح ( استكبار - استضعاف ) أو مايسمى في المصطلح الطبي العلاقة ( السادية - المازوخية ) ( 2 ) . وتقول الفكرة الرابعة : إن هذه العلاقة الإنسانية المشؤومة ( المستكبر - المستضعف ) ( 3 ) أو ( السادية - المازوخية ) هي في حقيقتها وجهان لعملة واحدة ، وإذا أردنا تفهم هذه الظاهرة فيمكن ملاحظة كيفية أخذ ( اللقطات ) في الكاميرا ، فإن الفيلم ( الأسود - السلبي ) هو الذي يكون أساس اللقطة ، ثم وبعد التحميض يخرج الفيلم الملون ، ونحن إذا أردنا المزيد من الصور ( نسخ إيجابية جديدة ) فإننا نرجع دوماً إلى الأصل ( الأسود وغير المعبر والمشوه ؟! ) ، وهكذا يمكن فهم علاقة ( المستكبر - المستضعف ) أو العلاقة ( السادية - المازوخية ) فهما وجهان لحقيقة واحدة ، أصلها هو الأسود بمعنى أن ( المستكبر ) هو الوجه البارز والملون والمبهرج ، ولكنه في حقيقته هو ( الأسود المستضعف ) ، وكذلك فـ ( السادي ) هو في أعماقه ( مازوخي ) ، وكما في الفيلم قبل وبعد التحميض ، كذلك الحال في مرض الاستكبار والاستضعاف ، فالاستضعاف هو الذي يولد الاستكبار ، هو أسه وأساسه وجذره ومنبعه الذي يولده بدون توقف ، فإذا أردنا فهم المشاكل الاجتماعية ، وهذا المرض الاجتماعي الرهيب بالخاصة ، والذي سلط القرآن عليه الضوء لمعالجته فيمكن فهمه من خلال مثل الفيلم الأسود وتحميضه . وهكذا فانهيار الجهاز المناعي هو الذي يهيء الوسط للمرض ، وتفكك الأمة الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي ، والبيت القذر هو الذي يفرخ الصراصير والجرذان ، والمستنقع هو الذي يولد البعوض ، والأمم الهزيلة هي التي تصنع فرعونها ، والحضارات تنهار بعلة الانتحار الداخلي ( 4 ) . ويترتب على هذا نتيجة في منتهى الخطورة وهي أن التغيير يجب أن يبدأ من تحت : في البناء المخفي ، في طبقة الوعي الداخلية ، في الفيلم الأسود الذي لم يحمض بعد ، في الأمة أو حسب تعبير القرآن ( تغيير مابالنفوس ) ( 5 ) . وتقول الفكرة الخامسة : وإذا استقامت هذه الفكرة عندنا أمكن لنا تحليل العديد من المواقف والمشاهد اليومية في ضوء هذه الفكرة ، وإذا أردنا الإنسان ( الحر ) مثل بلال فيجب أن نتخلص من هذا المرض ( السادي - المازوخي ) وبالتالي الوصول إلى حالة الامتلاء النفسي والتواضع ، فلاتبطر القوة صاحبها ، ولاتسكره خمرة الانتصار ، ولاتستبد به اللحظة ، ولايعلو مع امتلاك المال ، ولايفقد توازنه إن جلس خلف طاولة كبيرة أو تسلم منصبا ً حساساً ، وبالمقابل لايصبح ذليلاً حقيراً حينما يحرم من القوة ، أو يخسر المال ، أو تتدهور الصحة ، أو يواجه مشكلة ما ، بل حتى مواجهة الموت !! وهذه كانت رسالة الإسلام القديمة الحديثة إيجاد المجتمع العادل من خلال إيجاد الإنسان العادل من خلال إحكام التوازن الأخلاقي عنده . وتقول الفكرة السادسة : إنني أقدر تساؤل الأخ واختلاط الموضوع ، وتشابك المفاهيم وضغط المعاصرة ، وثقل مفاهيم التراث ، كل هذا يفرض علينا وعيا ً حاداً ، وتأملاً تاريخياً ، ومطالعة علمية لاتنضب من أجل تحرير هذه المفاهيم ، والأخ في تساؤله إنما يعبر عن ضغط مجموعة من المفاهيم في الوسط الثقافي الذي نسبح فيه ، والطرح الذي تقدمتُ به يخلق إشكاليةً لابد من حلها ، ولذا أحببت في مقالتي هذه أن أضع يدي محاولاً تلمس هذه الفكرة في دينامية النفس وكيفية عملها ، وكيف يفعل العنف ويؤثر ، وكيف تعمل الأفكار السلامية ؛ تلك التي أشعر أن العالم العربي يحتاج إليها اليوم أكثر من المصاب بصدمة نزف الدم والمحتاج لنقل الدم لإنقاذ حياته ، فوضع العالم العربي لم يعد يحتمل الانتظار أمام كوارث العنف اليومية التي تتفجر مثل القنابل الموقوتة في كل مكان ، وعلينا أن نتقدم بهذا الطرح بدون خجل أو خوف من أجل إعلان ماأسميه ( ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي ) لكل الأطراف من عرقية واثنية ودينية ، وجنسية للمرأة والرجل ، لكل من يعيش في هذا المجتمع أين كان موقعه ، للحكم والمعارضة ، للدولة والفرد ، ذلك أن آلية الإعدام والإفناء المتبادل تفعل فعلها المدمر بين كل الأطراف الاجتماعية اليوم . وربما مانحتاج إليه أكثر من الصلح مع إسرائيل هو صلح الإنسان العربي مع الإنسان العربي ، والدولة العربية مع جارتها العربية . وتقول الفكرة السابعة : إن درس ( أفغانستان ) البليغ يعطينا توسعاً وتعميقاً لهذا المفهوم الذي نطرحه ، فالمشكلة كما نراها ليست فقط عربية ، وإن كان حظ العرب منها كبيراً ، بل هي إسلامية ، بل هي عالمية ، لإنها إنسانية في جوهرها ، ولذا فإن الطرح الذي أتقدم به يشكل خلاصاً إنسانياً محلياً وعالمياً في تقديري ، وهو طرح لن يتضرر منه أحد بل سيربح منه الجميع ، فلن يخسر أحد أرضاً أو زعامة أو مالاً ، بل يربح الجميع كما يفعل الأوربيون اليوم حيث يتحدون ولايخسر أحد شيئاً بل يربح الجميع . وفصائل المجاهدين الأفغان فعلوا ببعضهم اليوم وفي وقت قريب نسبياً ، مالم يفعله الشيوعيون والروس مجتمعون ، وهي بأيديهم ومن عند أنفسهم وظلموا أنفسهم و ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟؟ قل هو من عند أنفسكم ) ( 6 ) كلها لإن النفوس تشربت العنف ، ومارست القتل ، وشربت الدم ، ولم يخالط قلوبها الحب ، أو سيطر على عقولها مفهوم السلام ، الذي أود شرح ديناميته بعد قليل . فعلينا مع درس أفغانستان ألا نبحث عن ( كبش فداء ) و ( علاَّقة مهازل ) نلقي عليه اللوم ونتهمه أنه الذي يتآمر علينا ، فالمسؤول عن الدمار اليوم ليس الشيوعيون والروس ، أو الاستخبارات الأمريكية ، أو الصهيونية والموساد ، أو الصليبية العالمية وقوى التنصير ، أو الماسونيين وقوى النورانيين الخفية ، هذه المرة انكشفت عورتنا ، وبانت عيوبنا الذاتية بغير غطاء ، وأن العجز هو مرض عميق متأصل في العالم الإسلامي ، ونحن المسؤولون عنه ، وأن تدمير كابول اليوم يتم بيد المسلمين أنفسهم و ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) ، ولكن ( جعبة ) العاجز حاملة ماهو أدهى من جعبة ( حاوي السيرك ) الذي يخرج الأرانب والثعابين من المنديل ، فيمكن إلقاء اللوم على الشيطان ، أو لامانع من إدخال الأرادة الألهية أحياناً التي أرادت هذا الدمار لكابول ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . وهذا التوجه هو في أعماقه نفس طريق اللاعودة ، طريق اللعنة الأبدية التي دخلها الشيطان لإنه ألقى اللوم على الله في ضلاله ( بما أغويتني !! ) في حين أن طريق ( الآدمية ) ودخول الجنة دشنها آدم باعترافه بالخطأ من خلال عملية نقد ذاتي قاسية ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) . وأريد أن أشير إلى أن الروس والحلفاء معاً ينسحبون من الأرض الألمانية بدون طلقة رصاصة واحدة من ( مجاهد ) كما لايزهق بعضهم أرواح بعض بعد الانسحاب ، كما حققوا وحدتهم بدون صواريخ على المدن أو حرائق في مصافي البترول . واليابان هو البلد الوحيد الذي ضُرب بالسلاح الذري في تاريخ الجنس البشري وربما لن يتكرر ذلك مرة أخرى ، واستسلم بدون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية ، هو الذي ( تترجاه ) أمريكا اليوم أن يتسلح ، فيرد بكل اللطف الشرقي المعهود ، أنه ملتزم بالفقرة الثالثة من وثيقة الاستسلام التي تنص على عدم عودة اليابان إلى التسلح في المستقبل ، مع العلم أن اليابان لو أرادت الوصول إلى السلاح النووي لامتلكته في شهر واحد لايزيد بسبب القاعدة التكنولوجية التي تمتلكها ، ذلك السلاح الذي يتلمظ ويتبارى في شرائه وتكديسه كثير من دول الأطراف ، بل تستفيد منه كثير من دول ( الامتيازات ) كما نسمع اليوم عن تهريب البلوتونيوم ، فباب الخلاص للأمم كما نرى ليس مثل ( باب الحمصي ) ( 7 ) ولايحتاج دوماً لطلقات المجاهدين ، الذين أفرزوا مشاكل لاتنتهي من خلال تشرب العنف وتسريبه للعالم الإسلامي . وتقول الفكرة الثامنة : إن حركة الخوارج قديماً وبإجماع الأمة ، لم يعتبر المسلمون حربهم أو خروجهم جهاداً في سبيل الله ، في الحين الذي كانوا يلقبون أنفسهم بالمجاهدين والشراة ( أي الذين شروا أي باعوا أنفسهم في سبيل الله ) بل واعتبروا كل من عداهم كافراً مارقا ً يستباح دمه ( 8 ) وعرضه ولاتؤكل ذبيحته ؛ كونه مشركاً ، كل هذا تولد من صراع سياسي ضاري ، وكانوا يعتبرون أنفسهم أنهم يمثلون الإسلام النقي ، ودشنوا حركتهم بقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وكان إخلاصهم لإفكارهم بدون حدود ، وتضحيتهم لما يعتقدون به شيء مرعب ، مع هذا لم ينفعهم إخلاصهم لإن وعيهم وفقههم لم يكن في مستوى هذا الحماس والاندفاع الذي اشتهروا به ، وخير من وصفهم هو نفس الإمام علي حينما اعتبرهم طلاب حق أخطأوا الوصول إليه فقال فيهم : (( ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ؟؟!! )) . ومانراه اليوم من بروز هذا التوجه في مصارعة الأنظمة ومناطحة الحكومات من خلال الصراع الدموي العنيف والمسلح ، هو في الواقع ( إحياء ) لمذهب ( الخوارج ) من حيث أرادوا أصحابها أو لم يريدوا ، وبكلامي هذا لااريد إدانة طرف أو تزكية آخر ، لإننا كلنا نسبح في مستنقع العنف وندفع فواتيره اليومية ، وكله ينبع من ثقافة إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به فضلاً عن إيجاده إن لم يكن موجوداً أخي السائل : إنك عندما تدخل إلى روع الاخر أنك لن تسمح له بالوجود ، مع أن الله منحه الوجود بالأصل ومنحه كرامة أن خلقه بشراً سوياً وليس عشباً أو قطاً ؛ فإنه لن يسمح لك بالوجود أيضاً ، والوصول إلى كسر حلقة العنف والعنف المضاد هو برمي السلاح كلية ومرة واحدة إلى الأبد كما فعل ابن آدم الأول ، وإلا كيف تنشأ الحروب بين الدول أو الحرب الأهلية ضمن الدولة الواحدة ؟ إنها تنشأ من عقدة أو حلقة فظيعة من هذه السلسلة ، لنتأمل ذلك . ************************************* كيف تنشأ الحرب الأهلية مثلاً ؟ إنها تبدأ من تخمر وتفشي فكرة ( الدفاع عن النفس ) في وسط مشحون بالتوتر والهلوسات العقلية عن الآخر !! كما هو الحال في معظم مناطق تفجر النزاعات العرقية . إن استيلاء فكرة واحدة على الطرفين هي التي تدفع الطرفين لافناء بعضهما بعضاً ، الأول تستولي عليه فكرة ( قبل أن يقتلني علي أن أقتله !! ) والثاني يقول ( سوف يقتلني وأولادي لذا يجب أن ادافع عن نفسي واهلي !! ) فالمرض ناشيء من هذا الشعور الطاغي والمشترك والمتسلط على الفرقاء المتنازعين ، و( تشابهت قلوبهم ) والبداية المروعة بدأت وكانها بريئة ومبررة ومعقلنة تماماً أي مبدأ ( الدفاع عن النفس ) وهو مقبول ومهضوم من كل شخص أو فريق إذا اقتنع به ، ولكننا ننسى أن كلاً من الطرفين ينطلق من فكرة ( الدفاع ) ليصل إلى ( الهجوم ) ولاتوجد اليوم في العالم كله ( وزارات هجوم ) بل كلها ( وزارات دفاع ) ؟!! وحين يحصل الهجوم من أي طرف فإنه ينطلق تحت ضغط الدفاع تماماً ، أو الضربة الاستباقية للدفاع ، فهي ليست هجوماً بل دفاعاً ، أو كما يقول المثل الشعبي ( اتغدى به قبل أن يتعشى بي ) أو حسب مبدأ هتلر الشهير ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) ******************************** إننا لو استطعنا كسر هذه الحلقة المعيبة ومن ( طرف واحد ) وأدخلنا إلى قناعة الآخر ( من خلال تاكيد المفهوم وتكراره واتخاذ المواقف المناسبة ) ؛ بأن الطرف الأول لن يدافع عن نفسه حتى لو هوجم ، فإن النتيجة سوف تكون أن الآخر سوف يتوقف عن الهجوم وتخمد حدة اندفاعه فهذا هو جذر سيكولوجية العنف والسلام ، فطالما لايوجد خطر ( حس الدفاع المشترك المتبادل ) فسوف يتوقف هذا المرض عن التفشي وإحداث الكوارث ، ولماذا يهاجم مسالماً أعزل ؟ قد يركب رأسه ويقوم بالهجوم !! هنا تبرز الآلية الثانية في عملية تحرير النفس من مركب ( الاستضعاف _ الاستكبار ) التي أشرحها على الشكل التالي : إن عدم الرد على الأذى والعدوان باتخاذ موقف عدم الدفاع عن النفس ، سوف يدخل إلى الماكينة الهجومية للطرف الآخر الفرملة الأولى ، ومن خلال الدفع بالتي هي أحسن سوف تحرض عند الطرف الآخر آلية تنبيه الضمير والخير التي هي في كل إنسان فينا ، فكل فرد هو ملك وشيطان بنفس الوقت ، فإذا لم تنفع الآليتان في وضع كمية الفرملة المناسبة ، تدخل عند ذلك آلية جديدة متقدمة لوضع الفرملة النهائية المتدرجة لكل حركة العنف المتقدمة . إن الذي يستقبل ضربات الطرف الاخر يتصرف على نحو مضاعف ؛ الأول بعدم رد الأذى بمثله ، وعدم شحن النفس بالحقد والكراهية تجاه الطرف المعتدي ، كل الهدف هو فرملة التصرف فقط ، ولذا لايتراجع السلامي عن موقفه بل يدعوه إلى الحوار ، فهو بهذه الالية النفسية المزدوجة يقوم بعكس مايريد العنيف ، العنيف يريد إلغاء الطرف الاخر ، يريد كسر إرادته وتطويعها تمهيداً في النهاية لإلغائها ، تمهيداً لتوليد الوسط المشؤوم ( السادي - المازوخي أو التابع والمتبوع ) ( 9 ) أما الطرف السلامي فهو ومن خلال عدم الرد وعدم الحقد والدعوة للوصول إلى الحقيقة وعدم التراجع ، يفسح المجال أمام وجود الآخر والاحتفاظ بأرادته وعدم إعدامها ، وبالتالي المحافظة على الطرفين ، وهكذا فالأول يريد الربوبية المحرمة ، والثاني يريد العبودية لله رب العالمين وتآخي البشر ووحدتهم وتساويهم . إن الطرف المعتدي إذا استمر في اندفاعه واستمر الاخر في عدم بسط يده حتى لو أراد الأول قتله كما جاء في قصة ولدي آدم في القرآن ، فإن جوا ًنفسياً عجيباً سوف يحدث ، وهذا الذي كشف عنه علم النفس الحديث ( 10 ) فالمهاجم سوف يدخل في مرحلة نفسية أولى تتسم بالدهشة والسبب هو عنصر المفاجاة ، فالجندي اعتاد أن يهاجِم ويُهاجَم ، ولكنه غير معتاد على الهجوم فلايصادف دفاعاً !! ولذا فالنشاط السلامي يستخدم تكتيكاً ذكياً بإدخال عنصر المفاجأة في اللعبة !! ثم يبدأ الفصل الثاني في اللعبة وهو أخطرها إن لم يكن السلامي قد تدرب تماماً واقتنع بالفكرة حتى مخ العظام ، فكما يتدرب الجندي في الثكنة العسكرية ، فإن أمام السلامي تدريباً من نوع مختلف ، باستثناء أنه غير مؤذي وأكثر بركة في نتائجه ، ويمكن لكل شرائح الأمة المشاركة فيه بما فيه النساء والأطفال ، ودخول المرأة هذا النشاط الاجتماعي سيجعل الحياة تدب فيه ، باعتبار أن المرأة هي نبع الحياة والمحافظة على الحياة وهي مصدر طاقة الأمومة والحب ، وسبب قوة سلاح هذه المقاومة هو توجهها إلى ضمير الخصم من أجل إدخال النشاط إليه ؟! . إن العنيف مع استمرار هجومه قد يقنع نفسه أن خصمه حقير وتافه ( من نفس شجرة إلغاء الآخر ) ولكن صمود وعدم تراجع السلمي وعدم حقده والاستمرار على دعوة الحوار سوف يحول موقف العنيف تدريجيا ًبحيث يتشرب الموقف تدريجياً بآلية المحاكاة ، حيث تحصل ( عدوى ) في الموقف ، سوف يشعر العنيف أنه قد يخسر المعركة ولكن بعد قليل سوف يتبين له أن طبيعة المعركة الآن مختلفة فليس هناك إلغاء للأرادات بل حالة ( التئام وتكامل ) في الأرادات . وبذا ينتهي الصراع ليدخل الاثنان في عملية بناء سلمية وفي جو ديموقراطي ، لإنه لاديموقراطية مع العنف ، فإذا أردنا حصد الديموقراطية في العالم العربي علينا بزرع روح السلام ونبذ فكرة العنف . *************************************** وفي النهاية أريد أن أقول للأخ السائل لقد كشف علم النفس الحديث أيضاً عن آليات عمل النفس في جو الصراع التقليدي ونوع الصراع الجديد الذي أطرحه ، إن صح تسميته بالصراع لإن نصفه من العالم القديم ونصفه الاخر من عالم السلم العالم الجديد ، الذي أخبر الله عنه الملائكة حينما رأت جانب العنف في الإنسان فقال لها مبشرا ًبالإنسان الجديد ( إني أعلم مالاتعلمون ) . عندما ينشب الصراع على طريقة ( كلاوسفيتز ) الضابط الألماني صاحب كتاب ( فن الحرب ) من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة ، أي إخضاع إرادة الخصم لإرادتنا . ياترى ماذا يتشكل عند هزيمة الطرف الاخر في الصراع والحرب ؟؟ هل نظن أن السلام يولد من جوف الحرب ؟؟ هل يمكن لشجرة الحنظل أن تنبت تمراً ؟؟ ولشجرة الحسك أن تنتج تيناً ؟؟ هيهات هيهات لما توعدون !!! . إن الحرب لم تقد إلى السلم مطلقاً ، وهي مظاهرة جوفاء فارغة وسطحية ومؤقتة في انتظار جولة الحرب الجديدة ، وهذا الكلام ينطبق أيضا ً على الشرائح السياسية المتصارعة داخل البلد الواحد ، وأصبع الإدانة توجه أيضاً إلى عالم الكبار الذين أوقفوا الحروب بين بعضهم ليس قناعة بالسلام ، بل خوف الدمار الذري !! إن المهزوم سوف يحمل الحقد في انتظار الثأر المخبأ في ضمير الغيب ! وسوف يكون الثأر مروعاً ومنتجاً بدوره لثأر مضاد ، وهكذا تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال ، في حين أن عدم هزيمة إرادة أحد الطرفين والدخول في تكامل من أجل توليد عالم جديد ليس فيه مكان للحقد هو السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم ، الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانت . إن القرآن لم يقص علينا هذا الأسلوب عبثاً في صراع ولدي آدم في فجر التاريخ الإنساني ، فهو طرح أسلوبين لاثالث لهما كأسلوب لحل المشاكل ، الأسلوب الأول هو إلغاء الآخر إلى درجة قتله ، والثاني الذي زكَّاه القرآن وأثنى عليه هو رفض الدفاع عن النفس من أجل كسر حلقة العنف الشيطانية ( ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) . ********************************** إن الثبات على هذا الموقف وحتى الموت سيجعل النهاية أن نفس القاتل يندم على فعلته ، لإنه سوف يكف أن يكون ( بطلاً ) بل سوف يتحول إلى ( مجرم ) . إننا بآلية ( الدفاع ) سنحرض عنده آلية الدفاع الغريزية فسيقتلنا وهو يقوم بعمل ( بطولي ) مبرر ؟! أما بعدم دفاعنا فسنحول عمله إلى ( جريمة ) !! والفرق كبير بين الشعور بـ ( البطولة ) والشعور بـ ( الجريمة ) ومذبحة الحرم الإبراهيمي مثلاً جعلت اليهود ليس في إسرائيل لوحدها بل حتى في مونتريال في كندا يمشون مطأطيء الؤوس خجلاً ، وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع ، عن أولئك الذين قتلوا صبراً ظلماً عزَّلاً مصلين ، بل إن تكتيك داوود القديم حيث يعيد التاريخ دورته بعد ثلاثة آلاف سنة ، حيث ينقلب داوود إلى المدرع ( جالوت ) = إسرائيل النووية الجديدة ، وينقلب جالوت القديم إلى داوود الجديد ، ليستخدم نفس المرقاع و ( الحجر ) لدحر جالوت الجبار ، أقول هذا التكتيك ( الداوودي ) وروح الشهادة ، أسهم في دفع القضية الفلسطينية أكثر من كل عمليات التفجير والاغتيالات والحروب العربية مجتمعة . يجب أن ندرب انفسنا على عدم قتل الاخرين ، بل الاستعداد للموت من اجل افكارنا إذا تطلب الأمر ، وبذلك نحول أنفسنا إلى ( شهداء ) والآخرين القاتلين إلى ( مجرمين ) ، وميكانيزم الشهادة عجيب ، لإن المقتول ظلماً هو الذي يتحول إلى قديس يعصر القلب ويدمع العين ويحرض إرادة الآخرين لسلوك نفس الطريق الذي سلكه صاحبه ، وراجع قصة أصحاب الأخدود تعطيك الخبر اليقين ، ومذبحة ( صبرا وشاتيلا ) حركت الضمير العالمي كله بل وحركت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم ، بسبب موتهم بغير دفاع ، خلافاً للقتل المتبادل في كل الحرب الأهلية اللبنانية . مع أن الذين قتلوا في الحرب الأهلية هم أضعاف أضعاف المذبحة ، كل هذا بسبب تحريك الميكانيزم الإنساني ، الذي يجب أن نثق به ، ونعلم أنهم مغروس في أعمق أعماقنا فطرتنا ويستيقظ في الحادثة الإنسانية . وجرت سنة الطبيعة أن البذرة حتى تنبت لابد من دفنها بالتراب أولا ً . إن القاتل سوف يندم في النهاية ( فكان من النادمين ) والندم هو التوبة ، لإنه لن يقدر أن يبقى تحت الضغط الساحق الماحق لفكرة كونه ( مجرماً ) ، إنه في النهاية سوف يحمل أفكارنا التي قَتَلنا هو من اجلها ، وبذا تدخل أفكارنا الخلود ؛ لإنها لم تمت مع موت صاحبها وهذا هو خلود الشهداء بخلود أفكارهم ومواقفهم ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ؟!! أنا صوت صارخ في البرية .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .. هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لإنها صوت الحفاظ على الجنس البشري (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) هوامش ومراجع : ( 1 ) تقول الأمثال العامية وهي معين لاينضب للثقافة اليومية ، أن ليلة الدخول في العرس ( ليلة الدخلة ) يجب أن يسيطر فيها وعلى مسرح العائلة ومنذ اللحظة الأولى الرجل ( الذكر الفحل ) ؛ فيقطع رأس القط من الليلة الأولى !!! تعبيراً عن الرجولة وسيطرة الذكر وانعدام المشاركة في البناء الجديد ، فهي صورة وأد خفي في الواقع لإنها إلغاء إرادة الأنثى التي تنتقم فيما بعد عندما يشيخ الذكر من خلال أولادها ، وهناك ثقافة عجيبة غير مكتوبة وهي قتل الفتاة غير المتزوجة في الانحراف الجنسي وترك الشاب بدون عقوبة ، مع أن الشريعة الإسلامية واضحة لأبعد الحدود في هذا الموضوع فهي لم تشرع القتل للفتاة ولاالسكوت للشاب بل الجلد للاثنين ، ومن هنا نرى أن الثقافة غير الناطقة والتي تدمغ سلوكنا اليومي شيء عجيب من حيث لاندري ، وإذا كان هذا المثل واضحاً جداً فهناك من الأمثلة ماهو أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء ، مما يتطلب مراجعة قاسية وكبيرة لثقافتنا التي تراكمت عبر العصور . ( 2 ) السادية تنسب إلى المركيز دي ساد وهي حالة التمتع بالأذى عند إنزاله بالآخرين ، والمازوخية عكس ذلك وهي التمتع بالألم عند استقباله من الآخر ، وهناك حالات عجيبة من الشذوذ الجنسي لها علاقة بهذا المركب ، بحيث أن صاحبها لايصل لقمة اللذة الجنسية إلا بالوضع المازوخي مثلاً بالضرب بالكرباج أو التقييد بالسلاسل وما شابه ، وفي العادة فإن المازوخي سادي وبالعكس ، وهذا معنى عجيب في اختلال النفسية الإنسانية وإصابتها بهذا الضرب من الأمراض . ( 2 ) تأمل الآية من سورة سبأ رقم 31 : (( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استُضعفوا للذين استكبَروا لولا أنتم لكنا مؤمنين )) ( 4 ) يراجع في هذا البحث القيم الذي كتبه المؤرخ البريطاني ( ج . أ . توينبي ) في كتابه الموسوم ( مختصر دراسة التاريخ ) تحت بحث انهيار الحضارات . ( 5 ) الآية من سورة الرعد ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) رقم 11 . ( 6 ) الآية من سورة آل عمران رقم 165 . ( 7 ) تروي النكتة السورية وهم يتندرون كثيراً على الحمصيين مع أنهم من أذكى وأطيب أهل سوريا ، وهناك تنافس بينهم وبين الحمويين بسبب قرب المدينتين من بعض ، أن حموياً طلب من نجار حمصي أن يصنع له باباً ، فلما جاء لأخذه كان الحمصي في الصلاة ، فما كان من الحموي إلا أن أخذ الباب فاشتد الحمصي في أثره لأخذ أجرته وثمن الباب فالتقيا في فلاة واسعة ، فما كان من الحموي إلا أن أغلق الباب ، فبدأ الحمصي في قرع ااباب : افتح الباب افتح ، والنكتة معبرة ولكننا في كثير من مشاكلنا ننسى كل الفلاة ونريد فقط الدخول من باب الحمصي !! . ( 8 ) الصحابي أو التابعي الذي حدثت معه هذه الواقعة المشهورة هو واصل بن عطاء وجاءت بشكل مفصل في كتاب الكامل في اللغة والأدب للمبرد 2 \ 122 ( نقلا ً عن كتاب أدب الاختلاف في الإسلام _ تأليف طه جابر العلواني _ إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي _ الطبعة الخامسة عام 1992 الموافق 1413 هـ _ ص 12 ) : (( يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج فقال واصل لإهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا : شأنك فخرج إليهم فقالوا : ماأنت وأصحابك قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده ، فقالوا قد أجرناك قال : فعلمونا فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا قال : ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن )) ( 9 ) تأمل الآية من سورة البقرة رقم 166 : ( إذ تبرأ الذين اُتبعوا من الذين اتبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) . ( 10 ) راجع البحث الممتع ( سيكولوجية واستراتيجية المقاومة اللاعنفية ) للكاتب ريتشارد غريغ ، وكتاب نحو اللاعنف لخالد القشطيني ، وكتاب تجاربي مع الحقيقة لغاندي ، وكتاب قانون الحب والعنف لتولستوي ، وكتاب العصيان المدني لهنري ثورو ، وكتاب نحو السلام الدائم لعمانويل كانت .
اقرأ المزيد
الحوار أم الصدام ؟
في الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله ، في مركب جديد متطور ، متفوقٍ على كل ٍمن المركبين السابقين ، وفي الصدام يلغي كلُ طرفٍ الآخرَ، ليموتَ الاثنان في النهاية ، لإنه في اللحظة التي يلغي فيها أحد الأطراف الطرف الآخر يكون قد حكم على نفسه بالإلغاء . فالحوار هي آلية نجاة الجميع . لإنها وثيقة الاعتراف المتبادل بالوجود الذي أسبغه الله على الجميع يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر : هل لك في الحوار ؟ فقال : على عشرة شروط !! قال وماهي ؟ قال : ألا تغضب ، ولاتعجب ، ولاتشغب ، ولاتحكم ، ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ، ولاتجعل الدعوى دليلاً ، ولاتجوز لنفسك تأويل آيةٍ على مذهبك ، إلا جوزت لي تأويلَ مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلاً منا يبغي من مناظرته ؛ أن يكون الحق ضالته والرشد غايته !! (1) دخل عليَّ صديقي التركي ( عاصم ) مع طفله الصغير ، الذي أعجبته مكتبتي وتلون كتبها ، فانطلق في هذا العالم الجديد يعس فيه ويكتشف ؟! إلا أنه سرعان ماعاد إلى منعكسات اللجم التي عُوِّد عليها ، فكانت والدته لاتنطق إلا بلفظ ابتعد لاتلمس أو لاتقترب وممنوع !! المهم كان حرف ( لا ) المقدس يتكرر كالمطرقة على رأس الصبي المذهول ، بين جاذبية المكتبة وأغراضها ، وبين حرف ( لا ) العنيد البئيس والمتكرر ؟!! وبقي الطفل يتأرجح بين كلمات اللجم ، والقانون الميمي الثلاثي ( مايصير . ممنوع . مافي ) ونظرات التخويف ، وبعضاً من صفعات والده التربوية !! وأردت أن أقوم بتجربة صغيرة مع هذا الطفل ، فبدأت في ( حواره ) ، وكان دوري أن أعلمه ( أسماء الأشياء ) ( 2 ) ومن خلال التعريف أسمح له بالدخول إلى العالم المزدحم من حوله ، فبدأ الطفل فتجرأ فـ ( نطق ) وتجاسر فتكلم فـ ( سأل ) ولكنني أدركت أن هذا الطفل ( الصفحة البيضاء ) يتشكل فيه ( نقشنا ) بقدر الجهد المبذول من خلال ساعات العمل . والإنسان في الواقع كمعادلة ليس أكثر من : وضع صيرورة ، ومحصلة تراكمية بطيئة للحظات الجهد الواعي خلال وحدات الزمن التي مرت قبل كل لحظة جديدة ، وهذا التراكم لايتوقف إلا بالموت ، فالموت هو توقف الصيرورة ، وإن كان كثير من الناس أموات وهو محسوبين من الأحياء ***************************** هذه الواقعة السابقة أثارت في ذهني بعض الذكريات من الوسط الألماني ، وطريقة المرأة الألمانية في معالجة طفلها اليومي . كنت أتأملها وهي تعطيه كل الوقت ، تنمي عقله ، بـ ( احترام السؤال ) وتنمية ( الدهشة ) واستثارة ( روح الفضول ) وتشجيع ( الحوار ) وطرد شبح الخوف منه ، وجرأة ( النقد والنقد المضاد ) والتعبير عن وجهة النظر أمام الملأ بدون وجل أو اضطراب ، جنباً إلى جنب ، مع العناية بغذاءه ونظافته وحمَّامه اليومي ، وتشكيل السلوك عنده في عدم إلقاء شيء على الأرض ، أو عدم إخراج الأصوات من فمه أثناء ارتشاف الشوربة أو الشاي ، فهي حضارة النظام والنظافة والهدوء . وأدركت أن الطفل في مجتمعنا ومن خلال تركه للظروف ( تُشَكِّله هي ) ينبت وقد اغتيلت عنده مجموعة من الصفات النفسية الإيجابية ، لعل أبرزها ( روح الدهشة ) في تأمل العالم ، لإنه مع وأد روح الدهشة تتوقف آلية الفضول ، فيُقتل النمو وروح البحث العلمي عنده دفعة واحدة . وبالتالي لذة ( الجِدَّة ) في الحياة التي تخلع على الحياة معنى وتشحنها بالاستمرارية والنمو ، وبكسب العادات العقلية الجديدة هذه ، ينشأ ليس على الانطلاق وروح المغامرة وحب اكتشاف المجهول ، بل على السلبية والجمود والخوف والتقليد الأعمى . كما ذكرتني الواقعة آنفة الذكر ، بالدراسة الشيقة التي قام بها عالم النفس السويسري ( جان بياجييه )( JEAN PIAGET )( 3 ) عندما قام بدراسته على أولاده الثلاثة ، من خلال دراسة ( التطور الروحي الحركي ) وارتقاءه مع ارتقاء الإنسان في العمر ، ووضع اتجاهاً كاملاً بين مدارس علم النفس ، التي اجتهدت في فهم المزيد عن الآليات النفسية وعملها عند الإنسان ، وعلاقة ذلك في بناء العادات العقلية ، ومنها كسب آلية الحوار التي نحن بصددها . يرى ( بياجييه ) أن : (( كثيراً من المفاهيم مثل التفكير والذكاء والوعي والقيم والتوقع )) تعود إلى (( تأثير البيئة على الإنسان )) الذي هو (( محكوم بمدى وعيه بها وهو وعي يمر في مراحل ارتقائية مختلفة )) ( 4 ) فكرة الزوجية ( القانون الانطولوجي _ الوجودي - وعلاقته بالحوار ) : إن الزوجية هي القاعدة الأولى التي ينطلق منها الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى فكل شيءٍ من الأناسي والحيوان والثمار و( الأفكار ) خُلق زوجين وليس فرداً ، وبغرض التزاوج ( ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ( 51 : 49 ) فالإنسان يولد من زوجين أب وأم ، كذلك الحيوان والنبات ، وكذلك الأفكار ، فكل فكرة هي مولودٌ من أب وأم ، وفروع وأصول ... ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون ) ( 36 : 36 ) .. وتزاوج فكرتين _ بشروط الزوجية _ يخصب العلاقة بذرية جديدة صحيحة البنية ، ولكن مع هذا قد يحدث زواج ولايحصل الإنجاب ، بفعل عقم أحد أو كلا طرفي العلاقة . فالشرط العضوي أساسي في الزواج ، ولايتم الإنجاب بدونه ، ولكنه مع هذا فهو شرط غير جامع ولامانع . إذا فشلت العلاقة الجنسية فشل الزواج في الغالب ، ولكن إذا نجحت فإنه لايعني أن الحياة الزوجية في مركب استقرار ، بل لابد من الشرط الكامل ( الجامع والمانع ) : ( المودة والرحمة ) ؛ فحتى يأتي الأطفال إلى الدنيا لابد من زواج بين رجل وامرأة ، وحتى يرى الحيوان ذريته من أي نوع ، لابد من زواج ذكره بأنثاه ، وحتى يتم إثمار النبات ، لابد من اللقاح والزوجية ، فـ ( ولادة ) البشر و ( تكاثر ) الحيوان ، و( إثمار ) النبات ، يتوقف كله على التلاقح والزوجية . فالزوجية هي : (( أس الكون وأساس الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى )) . هذا القانون ينطبق أيضاً على الأفكار ، باعتبارها وحدات مخلوقة . فشرط الخصوبة والتكاثر الإيجابي ، بل وحتى السلبي في الوجود المخلوق هو الزوجية ، وتعبير القرآن ( من كل شيء ) يجعل القاعدة تعم المخلوقات كلها ، فتدخل دنيا الأفكار تحت هذه القاعدة ، باعتبار أن كل فكرة هي ( مخلوقة ) من مخلوقات الله فكما أن كل شيء مخلوق ، كذلك فهو خاضع لقاعدة الزوجية ... ولاتشذ الأفكار عن هذه القاعدة ، ففكرة ( ا ) عندما تتزاوج مع فكرة ( ب ) يتولد منهما فكرة ( ج ) ، وكما أن كل إنسان له أب وأم ، كذلك فكل فكرة لها آباؤها وأبناؤها بل وأحفادها ، وكما كان للبشر أبناء وحفدة (( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )) ( 16 : 72 ) كذلك كان للأفكار ذرية صالحة وأحياناً طالحة ، ولكن كما قلنا : إن شرط الزوجية هو أساس الخصب ، كذلك تبادل الأفكار واللقاء والبحث ، فإنها تحتاج للأزواج ( العقليين ) المخصبين ، فاجتماع عاقلين يتبادلان الآراء ينتج عنهما أفكار جديدة ، باعتبار ( التلاقح النوعي والفكري ) هنا . مع هذا فإنه ليس كل الأزواج عندهم ذرية (( ويجعل من يشاء عقيما )) ( 42 : 5 ) واجتماع جاهلين هو اجتماع عقيمين ، والعقيم من طرف واحد يسبب عدم الإنجاب فكيف إذا كان من الطرفين ؟!! فالخصوبة تأتي من مخصب وكذلك اجتماعات الناس ... إلا أن علاقات الأفكار في تزاوجها تخضع للقوانين التالية ( بعضها على الأقل ) : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن علاقات الأفكار في التزاوج ليست مثل الواقع الاجتماعي الإنساني ففي عالم الأفكار يمكن للأفكار أن تتزاوج مع أصولها وفروعها إن صح التعبير ، وهذا يعني ذرية برقم قياسي . 2 - وتقول الفكرة الثانية : الذرية التي تخرج من هذا الاقتران ليست ( نُسخاً = كوبي ) ولا أصول ، بل هي أفضل من الأصول ، بل وكل ذرية هي أفضل من التي قبلها ، كما يحصل في اولادنا الذين ننجبهم فأولادنا نسخ أصلية أفضل منا ويحملون نفس القدرة الانتاجية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : الفكرة كائن حي ، بمعنى أنه يحمل صفتي ( الحركة والتكاثر ) وهكذا فالفكرة تحمل في ذاتها قدرة الاندفاع الذاتية ، لذا يجب علينا أن لانزهد بأي فكرة ندلي بها في أي وسط إنساني واعٍ . والقرآن اعتبر الكلمة الطيبة أنها كائن حي ( كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : هناك في عالم الأفكار قانون ( النمو أو الفناء الذاتي ) فالفكرة السيئة فيها خلل كروموزومي ، يقودها إلى وضع سرطاني فتنمو إنما بشكل شاذ ، مما يودي بها في النهاية إلى حتفها ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) . خلافاً للفكرة الجيدة التي فيها صفتي ( الخيرية والديمومة ) . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : اعتبر القرآن أن العاقبة هي للأفكار الصالحة فهي التي ستبقى في حين أن بقية الأفكار السيئة تمتاز بالجزئية وعدم الصمود مع عنصر الزمن ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهكذا سقطت الشيوعية ومضت الفاشية وانقرضت النازية . فهو قانون تاريخي صارم . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إن الكون يقوم على مبدأ التعددية فالجبال مختلف ألوانها ، والألسنة متعددة ، والشعوب متباينة ، والأفكار متضاربة ، وهذه القاعدة متأصلة في الوجود ، وعلى أساسه تمت برمجته ( ولذلك خلقهم ) فهو جل جلاله لو أراد جعل الناس أمة واحدة ، ولكنه خلقهم مختلفين حتى تبقى الحياة في حالة صحة ونمو وحركة ومدافعة ويقظة . وكما أن العقم ليت حالة مستعصية في كل الأحوال وبشكل مطلق ، وثبت علمياً أنه يمكن معالجة العقم كي يصبح منتجاً ، كذلك العقول والأفكار واللقاءات . قد يحصل اجتماع ، وتبادل آراء بين العُقماء ، ولكنه من نوع تبادل الجهل ، وكثير من الاجتماعات هي في الواقع إما في صورة ( مجاملات ) أو إذا حصل خلاف في الرأي حدث ( نزاع ) ، فكثير من الناس يدرجون في لقاءاتهم على الانعكاس على أحد طرفي علاقة مشؤومة هي ( مجاملات - منازعات ) وبذلك يتعطل الجهد العقلي في هذا اللقاء فلا يثمر . إن جو المجاملة في البحث يعني بكلمة أخرى التهرب والالتفاف حول الموضوع ، والاحتفاظ بالخنادق الفكرية ، وبذلك لاتتعرض الأفكار للتجلية والتمحيص ، وبالتالي النمو والبللورة ، فهو تهرب لبق من البحث تحت ضغط فكرة : إن البحث سيقودنا إلى النزاع واختلاف القلوب ، ولذا وحفاظاً على علاقاتنا الشخصية يجب أن نتجنب البحث الجدي والحوار الفعَّال . والكثير لايتصور خلاف الرأي إلا في صورة ( النزاع ) ، مع أن الله خلق البشر بالأصل مختلفين ، لإن في الاختلاف تفاعل وصحة وخصوبة وكشف لصورة الحق (( ولذلك خلقهم )) ( 11 : 119 ) وإذا حصل النزاع حصل تبادل الجهل ، وارتفعت الأصوات ، وعم الصخب ، وتفشت المهاترة ، لذا كان من الأفضل في مثل هذه الأجواء أن يتوقف العقل عن المتابعة ، لإن العتبة العقلية تتوقف هنا ، وتبدأ عتبة الحنجرة والحبال الصوتية !! .. وجرت سنة الله في خلقه أن رفع الصوت في مثل هذا الجو ، يتماشى بشكل طردي مع ضعف الحجة ، فكما يلجأ البعض إلى ثخانة الصوت وذبذبات الحبال الصوتية ، كتعويض عن عمق الحجة وقوة البرهان ، فإن آخرين قد يلجأوا إلى رفع العصا أو فوهة البارودة ، بل وحتى سبطانة المدفع والرأس النووي الموجه ؟! وفي البلاد المتخلفة قد توقف العقل عن العمل منذ فترة طويلة ، فهو في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر ، وعندما ينطق العقل ، فعليه أن يقول قولاً لا يوقظ نائماً ولايزعج مستيقظاً ؟! فلا يرحب بمقلقي ( النوم العام ) ، ذلك أن حركة العقل خطرة أكثر من الانشطار النووي (( ومايستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ومايستوي الأحياء ولا الأموات )) ( 35 : 19 ) . يجب أن نعترف أن الحوار الفعال النشط يحتاج بدون شك إلى أرضية فكرية خصبة ، وطاقة نفسية ، وتحرر فكري وانكسار قيد التقليد ، ولكنه مع هذا يبقى مفتاح دخول وتجاوز العقبة ( فلا اقتحم العقبة ) . إن العقل يتحرر تماماً عندما يتجاوز عتبة الخوف من البحث ، إن الأمان للعقل هو في البحث ، لإنه يتأسس على أرض صلدة . أما الانعكاس على الطرف الآخر للعلاقة المشؤومة ، فهو النزاع والانفعال في البحث ، وفقد ضبط النفس ، والحزبية ، والأسلوب التبريري لدعم الأفكار ، فهذا الجو يعتبر غير منتج ، فهو محاولة دفاع عن الآراء بأي ثمن من أجل الاحتفاظ بها ، وليس أسلوب تنمية الأفكار أو تبين وجه الصواب فيها . وكما أن الحوار وتبادل الآراء _ أي جو النقد الذاتي _ هو جو زوجية الفكر فإن ( الصممية ) هي عقم هذا الجو . والصمم أنواع : فقد يكون عضوياً فيزيولوجياً ، وقد يكون لغوياً ، وقد يكون ثقافياً . فالصوت حركة في وسط مادي ، تنتقل هذه الحركة عبر غشاء الطبل وعظيمات السمع ، فإذا حدث خلل في هذا الطريق العضوي في أي نقطة من شريط الانتقال ، تعطل انتقال الصوت ، وكان الصمم في مثل هذه الحالة عضوياً فيزيولوجياً بحتاً . وقد يحدث صمم من نوع آخر ، وهو ليس قصوراً في انتقال حركة الصوت ، وإنما في تفسيرها في الفص الصدغي في الدماغ ، فيحدث عجز في التفاهم ، ويحدث ( حديث طرشان ) من نوع جديد ، كذلك الصمم الثقافي عندما يتحاور شخصان بلغة واحدة ولكن بخلفية ثقافية متباينة ، فكما أن الحروف لها شيفرتها الخاصة بها ، لكل حرف وكلمة في الدماغ ، ولكل لغة ، كذلك هو في عالم الأفكار . فإذا اجتمع مثلاً من يؤمن بمادية التاريخ وفائض القيمة وآلية وسائل الإنتاج ، مع آخر قضَّى عمره في دراسة النحو والصرف والمعلقات الشعرية فقط ، فإن مايحدث بينهما سيكون عجباً ، ليس لإن الحروف والكلمات غير مفهومة ، بل لإن موجة الحديث كلها متباينة ، كما في جهاز الراديو عندما يوضع على الموجة القصيرة والبث على الموجة المتوسطة ؟! . كذلك حتى يحصل تبادل الآراء وإمكانية التفاهم لابد من تغيير موجة الاستقبال الفكرية بكبس أزرار خاصة في تلافيف الدماغ !! فالصمم هنا ليس فيزيولوجياً ولالغوياً بل ثقافي ببعد جديد ( 5 ) العقل على مفترق الطرق : أحسن الفيلسوف الفرنسي ( ديكارت ) حينما اعتبر أن أفضل الأشياء توزعاً بين الناس وبالتساوي هو العقل ، لإن كل فرد يعتقد أنه اوتي منه الكفاية ، فلا يريد المزيد ولا التغيير ، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فقد يشتهي أن يجعل أنفه أصغر ، أو شفتيه أكثر حمرة ، أو جسده أكثر رشاقة ، أو قامته أكثر طولاً ، ولكنه لايفكر ولا للحظة واحدة أن يجعل عقله أفضل بناءً ، وأكثر نضجاً ، وأحسن توجيهاً ، فعنده شعور الاطمئنان لهذا الجانب ، أكثر من اطمئنان التماسيح وهي تتشمس على شطئان الأنهار !! ويصل ديكارت إلى تقرير حقيقة على غاية من الأهمية . يقول ديكارت : (( إن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين الناس بالفطرة ، وكذلك يشهد بأن اختلاف آراءنا لاينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر ، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ، ولاينظر كل منا في نفس ماينظر إليه الآخر ، لإنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه ، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل ))( 6 ) ، وإذا كان الأمر بهذا الأهمية فيمكن وضع قاعدتين عقليتين هامتين في الحوار والبحث ، تتولد منهما نتائج في غاية الخطورة في أرض الواقع ، سلباً وإيجاباً حسب الزحزحة العقلية . 1 - القاعدة الأولى تقول : في أي حوار عقلي اعتبر إن ماعندي صحيحاً ويحتمل الخطأ ، وماعند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحاً . 2 - وتقول القاعدة الثانية : وهي (( آلية الفيلسوف الألماني ليسنغ ))( 7 ) إن الرغبة إلى البحث أهم من امتلاك الحقيقة ، لإن امتلاك الحقيقة الحقيقية المطلقة إدعاء ، وخدعة ، وتعطيل للجهد الإنساني ، وغير ممكنة لإنها ملك لله وحده فقط . فالعقل بين احتكار تفسير النصوص ، أوتشغيله لفهم النصوص ، فالأول يقع في مغالطة أن فهمه للنص يساوي النص ، والثاني يتحرر بإدراكه أن فهمه للنص هو ( كم ) أقل من النص دوماً _ وإلا أصبح هو النص - ويتناهى إلى الصفر ، لابل قد ينقلب تحت خط الصفر فيصبح سلبياً ، كما حصل للخوارج في التاريخ الذين قتلوا المسلمين وأبقوا على المشركين ، وظاهرة الخوارج هي ( عقلية ) قابلة للتكرار دوماً . يقول ليسنغ : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ، إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) . والآن ماهي النتائج المباركة أو المريعة المترتبة على العقليتين والتفكيرين ؟؟ هذا التحليل يترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية ، فطالما رأت العقلية الأولى أن هناك هامشاً للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله ، فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي ، وبالتالي تفتح المجال أمام تصحيح الأخطاء والنمو والنضج ، في حين أن العقلية الثانية تنبع منها نتائج مختلفة تماماً ؛ فطالما امتلكت ( الحقيقة النهائية ) فهذا يعني وبشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ ، بل كل ماعندها صواب ، وهذا يعني بالتالي أن لاحاجة للمراجعة ، وبالتالي لاداعي لتصحيح الأخطاء إذ لا أخطاء ، وكيف يخطيء من هو مقدس ؟؟ إذن لانمو ولانضج ، أي ( لاحياة ) وبذلك يُستل نور الحياة تدريجيا ًمن هذه العقلية فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة ، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك . إن الله الذي خلق الطرفين ، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع ، لم يلغ طرف على حساب طرف ، بل منح الوجود للطرفين ، إلا أن الطرف الأول لايرضى بهذا ، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر وأحياناً بأسلوب ( لأقتلنك ) ، فإذا قال الطرف الأول إن الله أوجدني ومنحني المشاركة يكون جواب الطرف الآخر ( العملي ) : نعم إن الله منحك الوجود أما أنا فسوف ألغيك ؟؟!! ( إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه ) . ومن الناحية العملية تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر ، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة ، فحين تترك العقلية الأولى المجال لهامش من الخطأ ، وبالتالي قدرة المراجعة والنقد الذاتي ، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر ، بل احترامه ، بل حمايته ، بل طلبه ، لإنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح ، وتقويم الأخطاء ، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً ، ليس فقط للفرملة والتوازن ، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه ، لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني ، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً ، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجودا ً ؟؟!! .. فرق رهيب إذن بين العقليتين ........... العقلية الأولى تقوم على ( ثنائية التفكير = الديالوج ) ، تفسح المجال للأخطاء ، للنقد المضاد ، للمراجعة الذاتية ، للتسامح مع الطرف الآخر ، لاحترامه لما فيه من خير عميم ، ولحمايته لإنها بذلك تحمي نفسها بالذات ( 8 ) لإيجاده إن لم يكن موجوداً لإنها تضمن وجودها باستمرار وجوده . وإذا اختلفت مع الآخرين ، اتخذت بعين الاعتبار أن الموضوع لايتعدى ( خطأ في الفهم ) يمكن إصلاحه بالحوار ، والصبر عليه ، و ( قتل الموضوع بحثاً ) وليس ( قتل الإنسان إعداماً ) . بل والاستعداد ليس لقتل الآخرين ، بل أن تموت هي من أجل فكرتها ، كي تحول القاتل ليس إلى بطل بل إلى مجرم . العقلية الثانية ليس عندها قدرة المراجعة ، ولماذا المراجعة طالما كانت تملك الحق المطلق ؟؟ فمهمتها إذن محصورة في نشر ماتعرفه ، وعلى الآخرين أن يحظوا بشرف الاستماع ، من مصدر المطلق !! . هي عقلية ( أحادية التفكير = المونولوج ) ، لاتقبل الاعتراض ولاتسمح به ، فإذا قام اعتراض العقل كان شاذا غير مرحب به ، فكان مبررا لتصفيته ( ELIMINATION ) وحذفه من الوجود غير مأسوف عليه ، وهي على مايبدو طريقة سريعة واقتصادية !! فلماذا الحوار الطويل في ساعات غبية تافهة ، لمردود هزيل !! في حين أن طلقة واحدة و( كلمحٍ بالبصر ) تحل المشكلة ودفعة واحدة !! كما يحدث في قصف كابول اليومي الآن !! ( ألا ساء مايحكمون ). والتهم جاهزة فإذا اختلف السياسيون تقاذفوا بـ ( العمالة والخيانة ) وإذا اختلف العقائديون كانت الجعبة أدسم فتراشقوا بــ ( الهرطقة ) ، وماهو جزاء الهرطيق سوى القتل؟؟ العقلية الثانية تلغي الطرف الثاني إن كان موجوداً ، وبكل حماس وإخلاص وطمأنينة بال ، بأنها نفذت إرادة الوجود ، كي تنفرد هي بالوجود . إذن فلاتجاه الأول يوجد ملغياً ، والثاني يلغي موجوداً ، وهذا هو الفرق بين العقليتين ، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت ، فلا يستويان ... من كان له أذنان للسمع فليستمع ............... مراجع وهوامش: ( 1 ) مجلة 15 - 21 مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي ، العدد 11 السنة الثالثة - ص 4 - نقلت بشيء من التصرف ( 2 ) تأمل الآية : وعلم آدم الأسماء كلها _ البقرة - الآية رقم 21 ( 3 ) جان بياجييه عالم نفس سويسري ومؤسس مدرسة علم النفس الارتقائي ، وهو اتجاه من خمسة اتجاهات بين ( مدرسة علم النفس التحليلي _ وعلماؤه فرويد ويونج ) و ( المدرسة السلوكية وأبرز روادها سكينر وباندورا ) و ( مدرسة الجشتالت وتنسب إلى فرتهايمر وكوفكا وكوهلر ) وأخيراً الاتجاه الأخير ( مدرسة علم النفس الإنساني ) الذي شق الطريق إليه أبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل ) وينضاف للمدرسة الارتقائية الاتجاه المعرفي المعروف بـ ( الفلاسفة الفينومينولوجيون = أي علم الظواهر ) وكذلك علماء النفس الوجودي بدءً من كيركيجارد وسارتر ، ويرتكز الاتجاه الوجودي على الفكرة القائلة بأن شخصية الفرد تتكون من خلال نضاله الذاتي لتشكيل ذاته الداخلية إلى أن يجد لنفسه في الحياة معنى وقيمة وأسلوباً يحقق به ذاته ( 4 ) راجع في هذا كتاب ( الإنسان وعلم النفس ) سلسلة عالم المعرفة - تأليف عبد الستار إبراهيم - ص 57 ( 5 ) يراجع بالتفصيل كتاب النقد الذاتي للمؤلف بحث لماذا النقد الذاتي - مؤسسة الرسالة ص 93 ( 6 ) رينية ديكارت - المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم - ترجمة فواز الملاح - دمشق - محمود صالح - ص 22 ( 7 ) من فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر ( 8 ) ومفهوم الجهاد في الإسلام ينبع من هنا في حماية الإنسان بما فيه المخالف ، حتى لايبقى إنسان يفتن ويضطهد من أجل آراءه ( حتى لاتكون فتنة ) لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه ( لاإكراه في الدين ) أي مجتمع حرية العقيدة .
اقرأ المزيد
علم تغيير ما بالنفوس
إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما ، فإن العكس صحيح أيضاً ، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي ، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض : فطالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا ، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين ، وطالما كانت أسرار التغيير تحت أيدينا فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا ، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده قبل أن يكون من مصدر آخر !! وأعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي : أن لايلوم أحداً ، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ ، وأن لايلعن الظروف ، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف ، تمهيداً للسيطرة عليها ، وأخيراً فإن علينا أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير ، لإن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره ، والتسخير هي الخدمة المجانية ، وهي متاحة لجميع البشر . مازالت أحداث البوسنة ماثلة في ذهني وبجنبي الأخ معاذ وفي وجهه مظاهر الألم وهي مشاهد مكررة مع اختلاف المواقع. أتذكره حين قال : عندما أسمع أخبار ( بيهاج ) أشعر وكأن أحشائي تتمزق من الداخل ؟! ورد الأخ عماد : إن مايحدث شيء غير معقول ، وتتابعت التعليقات في توزيع ( اللوم ) على الأمم المتحدة أو رؤوساء الدول الأوربية أو موقف أمريكا المتردد ؟؟!! هذه عينة جيدة من آلام المسلمين اليومية ، ولكن هل يمكن فهم كارثة بيهاج بدون كارثة البوسنة ، بل هل يمكن فهم مايحدث في البوسنة بدون الاجتياح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، وهل يمكن فهم عقدة الصرب بدون معركة ( أمسل فيلد - AMSELFELD ) التي حدثت في عام 1389 م ، أو حتى قبل ذلك منذ الشرخ التاريخي بين الكنيسة الشرقية والغربية عام 879 م على أرض البلقان ( 1 ) أم هل يمكن فهم الأحداث الحالية بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني ، ضمن صيرورة الحضارة الإسلامية ؟ وأن مايحدث اليوم لايشذ عن القانون التاريخي الذي يفيد بالعلاقة الجدلية بين الأحداث ، فكل حدث هو نتيجة لما قبله ، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده من الأحداث . وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلايمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها ، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها . في نهاية القرن الثامن الهجري ( الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي ، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط ، يسطر بحثاً في التاريخ ، غريب العنوان طويله ( 2 ) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل ، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون ، فيصل إلى فهم حركة التاريخ ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية ، بهذه الكلمات القليلة (( وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً ، فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 3 ) هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي . وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس ( قانوني - سنني ) مرهف ، فهو يحاول فهم علل الأشياء ، ويدخل إلى بطن الأحداث ، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (( فإن التاريخ في ظاهره لايزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق )) هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابياً ونوعياً في تاريخ الفكر كله ، فهو نزل إلى الحوض التاريخي ، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها ، ليس كقطع ممزقة ، ونثارات مرمية ، وحوادث لايجمعها خيط ، أو ينتظمها قانون ، بل كواقع بشري يخضع لـ ( سنة الله ) في خلقه ، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها ، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق ، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية ، وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ ، فلاغرابة أن اعتبره المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي _ والعلماء يقدرون بعضهم _ بأنه (( أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان - IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE )) ( 4 ) أو أن يعتبره ( فلنت ) : (( إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون ، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه )) ( 5 ) إن فكر ( ابن رشد ) و ( ابن خلدون ) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم ، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه ، ولهذا لم يتابع أحداً هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش ، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن ؟! والذي استفاد من هذا الفكر ( السنني ) هم رواد النهضة الغربية ( 6 ) خاصة في إيطاليا ، حيث أطلق تياراً عقلياً تحررياً ، بدأ ينتبه إلى فكرة ( السنن ) في إدراك الوجود ، و( البحث التجريبي ) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة ( الاستقرائية - INDUCTION ) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة ( الاستنباطية - DEDUCTION ) ( 7 ) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود ، فكانت طريقة ابن خلدون الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين ( العودة إلى الواقع ) لإن أي ( صخرة ) هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أياً كان مصدره ، أي بربط الفكر النظري بالواقع ، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ؟ لاكيف يجب أن تكون كما فكر من قبل أرسطو وإفلاطون ( 8 ) وهي نقلة نوعية في الفكر . هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار ( الطبيعة والتاريخ ) من مصادر المعرفة ( 9 ) هي روح إسلامية وهي بنفس الوقت ثورة على التفكير اليوناني القديم ، ففكرة ( السنة ) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن ، والسنة ليست في التفاعل الكيمياوي ، أو الخواص الفيزيائية لمعدن ما ، بل ولا في البايولوجيا ، عنى القرآن بالسنة ( النفسية الاجتماعية ) ، واعتبر أن هذه السنة ثابتة ، فلا تتغير ولاتتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 10 ) وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون ( السنة ) فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى ، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه ؟؟ هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية ، فالقانون يفرض نوعا ً من ( الحتمية - DETERMINISM ) على العقل ، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البايولوجيا ، كما أن قانون الذرة هو غير قانون المجرة ، وقوانين ( ميكانيكا الكم ) هي غير قوانين ( النسبية ) ، وغير القوانين ( النفسية والاجتماعية ) ، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره ، ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية ، لذا أصبح المجتمع متطوراً وقابلاً للتغيير . يقول مالك بن نبي (( إن كل قانون يفرض على العقل نوعاً من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون ، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً ، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم . فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لاينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببية ضيقة النطاق ... وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لاتتقبل التغيير حسب طبيعتها تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير ، لإن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس )) ( 11 ) وإذا كانت ( السنة أو القانون ) تسيطر على الوجود بكل قطاعاته بدءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة ، من الالكترون حتى النفس الإنسانية ، ومن الجزيء الكيمياوي حتى المجتمعات ، فكيف يمكن فهم قانون تغيير مابالنفوس ؟؟ إن النفس الإنسانية لاتشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود ، ولكن قطاع التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البايولوجي ، فــ ( وحدة التأثير - UNIT ) هنا هي ( الفكرة ) إضافة أو تعديلاً أو ابتداءً ، واعتبرت الآية القرآنية أن إمكانية تغيير مابالنفس ممكناً ، والواقع يمدنا بشواهد يومية على ذلك ، بل إنها ربطت تغيير الواقع ، ومن خلال سنة الله في خلقه ، بتغيير رصيد مابالنفوس (( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم )) ( 12 ) ، ففي هذه الآية الرائعة والتي تشكل بناءً أساسياً وفكرة مفصلية في منظومة المعرفة الإسلامية ( الابستمولوجيا ) تنقدح ( حزمة ) من الأشعة الفكرية !! يقول الشعاع الفكري الأول : إن الإرادة الآلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على أساس مجموعة من السنن المحكمة ، ومن هذه السنن ( الجهد الإنساني ) ، فالله لايغير الواقع الاجتماعي ، مالم يتدخل الفعل الإنساني ، على كل تفاهته وضعفه ، فلولا الماء المهين الذي نمنيه ( نحن ) ماتمت عملية الخلق التي لاحدود لروعتها ، وهذا تكريم إلهي للإنسان على دوره في هذا الوجود من خلال وظيفة الاستخلاف التي أُنيط بها . ويقول الشعاع الفكري الثاني : إن هذا القانون دنيوي أرضي فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في راوندا أو ألمانيا ، لاختار قطعاً ألمانيا ، والسبب بسيط هو وجود الضمانات ، فمنذ اليوم الأول من ولادة الإنسان ، تكون حظوظه أن لايموت في الأمراض ، أو أن لايقتل بحرب أهلية ، أو أن لايموت جوعاً ، أو أن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة ، أو أن يحصِّل تدريساً عالياً ، ولا يعني هذا أن كل من يولد في راوندا يكون فقيراً ، أو من يولد في الصومال مريضاً ، أو من يولد في أفغانستان مقطوع الساقين بقذيفة مدفع ، ولكن احتمالات كل هذه وبنسبة تتراوح تزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي للمجتمع ، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى الجبهات ، أو لو ولد يهودياً أن قضى نحبه في إحدى معسكرات الاعتقال النازية . لذلك كان المسؤولية والحساب في الآخرة فردية ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( 13 ) في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 14 ) ، وفي حديث السفينة عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية ( 15 ) فعندما تنطلق القوارض ؛ من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً ، فإن الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء ، بمافيهم القوارض الفاسدة الحمقاء التي لاتبصر أكثر من أرنبة أنفها ، بتضخم الذات المريضة السرطانية على حساب المجتمع ( مثل تلك المناظر اليومية المؤذية والعدوانية ، من الوقوف أمام إشارة المرور ، فيتحرك المخالف الذي ركب على رقبة الناس وسرق وقتهم ، عندما يزمر له طابور السيارات المصطف خلفه ؟! ) . ويقول الشعاع الفكري الثالث : إن هذا القانون بشري ، يضم تحت شموليته كل البشر مؤمنين وملحدين ، مسلمين وكافرين ، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات : المستوى الأول : إن الكون مسخر ( كمونياً ) بالقوة ، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين تسخيره ، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها ، فهو حقل متاح للجميع ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( الإسراء : 20 ) وهكذا طير الأمريكيون الحديد في الهواء ، وأطلق اليابانيون الإعصار الالكتروني من قمقمه ، ويفتك الصرب اليوم بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون . المستوى الثاني : ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوي في هذا الكون الذي نعيش فيه ، وليس هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن ، والإخلاص بدون حدود ، والحذر من الأخطاء بدون نوم ، ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم ، كما عذب اليهود والنصارى من قبل (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق )) ( 16 ) ويقول الشعاع الفكري الرابع : إن هذا القانون اجتماعي وليس فردي ، فلو أراد فرداً أومجموعة صغيرة أن تغير مابنفسها ، فقد يحصل العكس ، فقد تتعرض للسحق تحت قانون ( الدجاجة الجريحة ) الذي ذكره المؤرخ البريطاني توينبي ، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة المجروحة ، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت ؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين : داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم ، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة ، في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً ، لإن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق ، الحسرة على المزيد والقلق على ماهو موجود ، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ، أن لايكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق اللصوص ؟! ويقول الشعاع الفكري الخامس : إن لفظة ( ما ) في آيةٍ استبدلت بلفظة ( نعمة ) في آية أخرى ، وبذلك فيمكن للنعم أن تتغير لتصبح ( نقماً ) !! والعكس صحيح ؛ من خلال تغيير مابالنفوس ، والنعم كثيرة لايحصيها العدد ، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة وظروف العمل المريحة والأمن الاجتماعي ، ومقابلاتها من انتشار الأمراض ، وفساد التعليم ، وسوء نظم القضاء والخيانات الزوجية ، والتوتر في ظروف العمل ، والخوف الاجتماعي ، وجمعت الآية القرآنية نموذجين متواجهين (( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ( النحل : 112 ) وليس هناك من ( نعمة ) أعظم في المجتمع من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش وراحة البال ، وكنت أتعجب من ( الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة ) مع كل رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي ، واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي ( قوت اليوم ) في مجتمع يوفر ( الضمانات ) للأفراد الذين يعيشون فيه ، ضمن ( الطمأنينة الروحية ) وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل الشوكولاتة الاجتماعية ( وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) فهذه الطمأنينة هي التي كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع الرفاهية ، والعكس صحيح بفقر عالم ( الأشياء ) فالعلماء تفيض قلوبهم بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من الدولارات ، لإنهم ( لايملكون الأشياء كما لاتملكهم الأشياء ) . إذا ً كيف يحصل التغيير الاجتماعي ؟؟ إن جواب هذا يتعلق بفكرتي ( الكتلة الحرجة ) و ( المثلث الاجتماعي ) . فكرة المثلث الاجتماعي : حتى يمكن السيطرة صحياً وفي منطقة ما ، فلايشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء بل يكفي قدراً معيناً ، وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى ويتعلق بمجموعة من العوامل ( عدد السكان _ الأمراض المتوطنة _ الحالة المعيشية _ التعليم _ المواصلات الخ .. ) فكيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما ؟ فأقول تقريباً للموضوع مايلي : حتى يمكن إشباع المجتمع صحياً والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما ؛ لابد من وجود ( كتلة اجتماعية حرجة ) تقوم بالدور الصحي ، هذه الكتلة الحرجة تنتظم ( مثلثاً ) ذو أضلاع ثلاثة يجلس في الضلع الأول ( الأشخاص الفنيون ) ( الأطباء والممرضون والفنيون .. الخ ) ، ويكون في الضلع الثاني ( المؤسسات الصحية ) ( المشافي المستوصفات المخابر مراكز البحث العلمي الخ .. ) ، وأما الضلع الثالث فيحوي ( الأفكار ) وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي ، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد ، فلا يكفي بناء مشفى وشراء لأحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية ، ذلك أن الحضارة ليست شراءً للأشياء ، بل هي عملية بناء ، والشراء مهما كانت الأموال خلفه ( سينفد ) ( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ) ( النحل : 96 ) وتختصر في ثلاث كلمات ( بناءٌ لها وصيانتها والقدرة على تطويرها لإنها تمتلك السر الحضاري وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف ) . إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية . وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية وانتهاءً بأعلاها . و كذك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية بما فيها المؤسسة العسكرية . وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لايخرج أيضا ً عن القاعدة الصحية التي ذكرناها فيما سبق أي وجود المثلث الذي يضم ( أشخاص + مؤسسات + وعي فكري مطابق ) . فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية من خلال تشكيل الكتلة الحرجة والشبكة الاجتماعية المتوترة . وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لابد من تهيئة عناصره الأولية ، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هي الإنسان الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره . فكرة الكتلة الحرجة : يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى ، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لاينقصون عنها ولافائدة من زيادتها إن لم تربك ( كتلة حرجة CRITCAL MASS ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية ، لإن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى ، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوماً ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود ، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية ( التورم غير الصحي والموت بعد حين ) وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي ( خبيثة - MALIGNANT ) ، وفكرة الكتلة الحرجة كونية سواء في المادة الصلبة أو السوائل ، في البايولوجيا أو النفس ، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي ، فهو قانون انطولوجي وجودي . ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا ً ، من أن التراكم ( الكمي ) يحدث انقلاباً ( نوعياً ) مع الزمن ( 17 ) ولمزيد من فهم الفكرة نقول : من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن ، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج ، ولايكفي مجرد الإضافة ، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً ، أي يختلط بدرجة التجانس ، وتستمر هذه ( الإضافة ) وهذا ( التفاعل ) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أشبع إلى ( الدرجة الحرجة ) بحيث أننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح . إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة ، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى ( الكتلة الحرجة ) فلاتنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية ، بل لابد من كتلة حرجة ، بحيث تضغط كتلتان من مستوى ( ماتحت الحرج ) كي تصبحان بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة ؛ فيحصل الانفجار المهول . هذه ( الكتلة الحرجة ) تعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي . ويسري هذا القانون على النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة ( التأثر الحرج ) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ( 5 : 83 ) . ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لاتحدث إلا بــ ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد ، فلايتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100سنتجراد . وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي ، فلايحدث الغليان مالم يصل إلى الدرجة الحرجة . وهكذا فـ ( الماء ) حتى يغلي لابد له من ( الدرجة الحرجة ) و( القنبلة الذرية ) تحتاج لانفجارها إلى ( الكتلة الحرجة ) و( الجبن ) حتى يُحفظ يحتاج لــ ( الوسط الحرج ) والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة سواء ( نوعياً ) أو ( كمياً ) حتى يتم الإصلاح المنشود . ولتبسيط الموضوع أكثر نقول ، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة مايحكمون به على تشبع الوسط بالكمية الحرجة ، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة ، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً بل وتنبؤاً عن تغير المجتمع . والآن إلى أخطر قطع البحث ، إلى قاعة العمليات الجراحية : للتداخل على استئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية ، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية . لابد قبل العمل الجراحي من معرفة ( تشريح الخارطة النفسية ) فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى ( المعرفة المحيطة بالتشريح - ANATOMY ) كذلك لابد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية ، ونحن هنا لانحتاج إلى معرفة ( كنه وحقيقة النفس ) فهذه يبدو لاجدوى منها ولن نصل إليها - على الأقل في القريب العاجل _ مايهمنا هو كيفية عمل النفس ( ديناميكية النفس ) ، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها ، وهذه تحت السيطرة الإنسانية ، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية ، بجراحات دقيقة . إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة ( الوعي ) وشريحة ( اللاوعي ) ، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار ، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر ، هو مدى تشبع النفس بالفكرة ، أو على حد تعبير القرآن ( الرسوخ ) ، فالفكرة قد يكون وزنها ( ميكروغرام ) وقد يكون وزنها ( ميجاطن ) !! فعندما تترسخ الفكرة وتهضم جيداً تتحول إلى اللاوعي ، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل ، فلايعرف الراحة كما يتصور البعض ، حتى في النوم كما ثبت من الدراسات الالكترونية المتقدمة ، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها ، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش ، فهو ( يعالج ) المعضلات حتى لو تركها الإنسان ، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة ( حسب التجلي ) وهو مايحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء . وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات ، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً . فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات ، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي ، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان ، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي ، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية . حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير ، و ( العواطف ) هي تعبيرات اللاوعي ، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولانعرف عنها شيئاً ، ولكنها توجهنا بشكل مرعب ، فالصربي الذي يقتل المسلم اليوم ، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة ( أمسلفيلد ) في كوزوفو قبل 600 عاماً ، قد امتلأ ( اللاوعي ) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة ، ومعالجة كيمياوية ضد السرطان مكثفة ، واختراق فكري شعاعي لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن . والمثل الصربي واضح ، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبأة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية . كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل ، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولط إلى 220 ، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ، ولكن ( التردد الكهربي ) داخلنا هو عادة في فولتاج ( الوعي - اللاوعي ) وليس العكس ، بمعنى أن الأفكار تمشي أولاً إلى الوعي ( باستثناء الأطفال والعوام التي قد تمر الأفكار مباشرةً الى اللاوعي عندهم كما في تشكل السلوك بالتقليد ) حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي ، فأصبحت في اللاوعي ( خبرة ) و ( تحرر ) الوعي لاستقبال أفكار جديدة ، وهي في حالة سيالة متصلة ، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت ( العواطف ) فأفرزت ( السلوك ) فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس . وإذا كنا من أجل ( أجهزة ) معينة نضطر لتحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولط إلى 220 فولط ، كذلك يمكن نقل سيالة ( اللاوعي ) إلى ( الوعي ) وهو مايفعله المحللون النفسيون أحياناً ، فإذا ظهرت تلك ( العفونات ) المختبأة بدون ( أكسجين عقلي ) إلى الضوء والهواء الطلق تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال . وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم . هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان ، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ . تقول الأسطورة أن عملاقاً أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة ، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول ، فهرع إليه لينتقم منه والأرض تهتز تحت أقدامه ، فلما سمع الثاني وقع الأقدام أصيب بالرعب ، فهدأته زوجته ، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى الأمر هي بآلية ( الأفكار ) لا بآلية ( العضلات ) ، وغطته باللحاف باستثناء قدميه الضخمتين ، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر ، اعتذرت عن عدم وجود زوجها ورجته أن لايرفع صوته حتى لايوقظ ( ابنها النائم ) فلما التفت فرأى الأقدام الفظيعة البارزة قال في نفسه إن كان هذا غلامه فكم يكون الأب ، فأصيب بالرعب وولى الأدبار ( 18 ) ؟؟!! . مراجع وهوامش : ( 1 ) وقعت عام 1389 ميلادي حيث انتصر فيها العثمانيون بقيادة معركة أمسل فيلد السلطان مراد خان الأول على الصرب الذين كان يقودهم الملك لازار ، ومن غرائب الأحداث التاريخية أن كلاهما قتل في هذه المعركة ، فأما السلطان العثماني فغدراً من جريح في المعركة ، وبعدها سقطت البلقان بما فيها صربيا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون _ راجع كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف محمد فريد بك المحامي ص 135 - ومازال الصرب حتى اليوم يحتفلون بذلك التاريخ المر ، ويندبون قتلى تلك المعركة التي مضى عليها مايزيد عن ستة قرون ؟! وأما النزاع الديني فيراجع في هذا كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص 161 وكان منشأ الخلاف أن الكنيسة الشرقية اعتبرت أن روح القدس هو من الآب فقط في حين أن الكنيسة اللاتينية قالت إنه مشتق من الاثنين الآب والأبن ؟! ( 2 ) كتاب التاريخ لابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) ( 3 ) المقدمة ص 33 ( 4 ) مقدمة كتاب التحرير لمقدمة ابن خلدون ص 8 ( 5 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ص 162 ( 6 ) يراجع في هذا بالتفصيل كتاب عندما تغير العالم - كتاب عالم المعرفة رقم 185 _ تأليف جيمس بيرك _ ترجمة ليلى جبالي (( وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) ( AVERROISM ) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية )) ص 94 - 95 ( 7 ) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 562 ( 8 ) ، وتقوم الطريقة الاستنباطية على وضع المقدمة والقياس عليها وهي مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة ( كل انسان فان . أحمد انسان . أحمد فان ) في حين أن الطريقة الاستقرائية تعمل من تحت لفوق بالعكس ، فهي تجمع الوقائع ثم تخرج بالقانون الذي ينتظم الوقائع ويفسرها ، والفرق الجوهري أن المنطق الأرسطي الصوري يبقى في الإطار النظري في حين أن منطق البحث التجريبي ، والذي انطلق به المسلمون من روح القرآن ، هو الانطلاق من الواقع واستخراج قانونه الذي يفسره . يراجع كتاب ( منطق ابن خلدون ) للدكتور علي الوردي ص 21 والمثل المضحك عن ( أسنان الحصان ) حيث اجتمع رهط من تلامذة أرسطو يتناقشون في أسنان الحصان ، فاختلفوا وكل مكنهم أراد إثبات وجهة نظره ( نظرياً ) فلم يكلف أحدهم خاطره ويلوث يده بفتح فم الحصان والنظر في نوعيتها !! ( 9 ) يراجع كتاب تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ( غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ ) ص 146 ( 10 ) فاطر 42 ( 11 ) كتاب ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) تأليف جودت سعيد _ تقديم مالك بن نبي - ص 11 ( 12 ) لاتوجد سوى آيتان في القرآن في هذا المعنى الأولى من سورة الرعد المذكورة أعلاه ، والثانية من سورة الأنفال استبدلت لفظة ( ما ) بلفظة ( نعمة ) فقالت : ذلك بأن الله لم يك مغيراً ( نعمة ) أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) ( 13 ) الأنعام 94 ( 14 ) الأنفال 25 ( 15 ) الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ًولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وماأردوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ( 16 ) المائدة 18 ( 17 ) يراجع المقدمة ص 29 ( 18 ) حتى يغيروا مابأنفسهم ص 91
اقرأ المزيد
انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية
(( إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة : 1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي . 2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ . 3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! ) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه . الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا . والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها . والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !! والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟ لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية ) فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم . عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم . جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 ) كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين . كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير . وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 ) مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته : الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ . والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري . في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات . يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان . إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية . أن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لايسقط طريح الفراش ، لإنه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة - COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريرية - CLINICA ) أي لايحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير ، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج ، الذي أصيب ( التجرثم الدموي - SEPTICEMIA ) مع معركة صفين ، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج ، والنزف ( BLEEDING ) العباسي ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسية ، والغيبوبة ( COMA ) المملوكية ، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتي ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر ، ثم ( التشريح ) في قاعة العمليات ، حيث جرت عمليات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل ) ، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أُكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى ، لانستطيع أن نقول شيئاً ، لإننا لانعرف ماذا يجرى لنا ، ولانعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية ، ولانملك العقل الخلدوني التحليلي . إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً ، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني ، أي تحت خط الصفر ، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي ، حيث ينحدر الخط إلى ماتحت الخط الأفقي ، الذي هو خط الصفر . إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرخ لـ ( المعجزة الأوربية ) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة ، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين ، حسب الخانات التي يوزعها . ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات ( الدراويش ) ، وازدراد الأساطير ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأخبار الجن والعفاريت ، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على مايحدث كان يجيب : سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً !! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك ، أنه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا ، وراجعوا قصة ( علي التركي - ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة . يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى : (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لاتتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية ؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسارالسياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى لاعلى الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق ، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار ، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية ، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية ، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد ، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد ، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق ، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب ، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى ، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار ، ونظم معين من ( العقلية ) المتشكل . إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليلية ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس ، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبية ) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار ) ، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء ) ، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر ، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه ، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! ( 11 ) . وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات ، ويطُوَّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين ، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة ( استعصاء تاريخية ) لم يتعافى منها حتى الآن ، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثر كل طرف على الآخر سلباً ، بين ( العطالة ) العقلية و( العجز ) الحضاري . إن الفوضى الاجتماعية في العالم الأسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكييك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي . يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك ، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل ، وينقله إلى الآخر ، فأرشده ( l ) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطل ، فلا يستفيد من أعظم الكنوز ، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل ( 15 ) وهذه الواقعة إن دلت على شيء ؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لايستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به ، ويمر على الآيات ( وهو عنها معرض ) لإن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً . وأن ماحدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق . فالقانون الألهي يطوق عباده جميعاً . هوامش ومراجع : ( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24 ( 8 ) كتبها رجل ألماني تزيَ بزي تركي ، وعمل لمدة ثلاث سنوات ، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعاً زاد عن عشرة مليون مارك !! ( 9 ) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص 38 و49 و50 ( 10 ) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتمناع ، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان ، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل ، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت ، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد ، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم ( الخط البياني ) - عالم المعرفة 185 - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص 201 ( 11 ) سورة القصص 76 ( 12 ) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزئين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية ( 13 ) الزخرف 23 ( 14 ) الحديث : (( ذكر النبي ( l ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قلنا يارسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والانجيل ولاينتفعون مما فيهما بشيء )) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 66 المائدة وصححه ( 15 ) تأمل الآية القرآنية ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) سورة الجمعة آية 5 .
اقرأ المزيد
العقل النقلي والعقل النقدي
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات ( تمرير الأفكار ) بدون مناقشة و ( تكرارها ) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت . فبالأولى : يتحول العقل إلى ( وعاء ) يضم ( كم ) فوضوي من الأفكار بدون نسق معرفي ( الابستمولوجيا ) ، وبالثانية : تتشكل الدوغمائية ( 1 ) لإن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك ، وبالثالثة : تتشكل ( العقلية أحادية الرؤية ) المريرة ، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص ، مبني على الراديكالية ( التطرف ) ، فالوجود أبيض أو أسود ، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير ، معنا أو ضدنا ، والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل بل اصطياد الاتباع ، وبناء حلقات الدراويش الجدد . فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة ، ويزداد التقليد ، يشتد التعصب ، ويتعمق اتجاه العنف ، يتحنط العقل ، ويتوقف النمو ، يتعطل التطور ، وتصبح الحياة مستحيلة ؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة ، فلاغرابة أن يتحول المجتمع ( كمونياً ) إلى مايشبه الحرب الأهلية المبطنة ، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين ، فالعقلية النقلية تسبح بين ( الاطمئنان البارد ) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة ، و ( كراهية الآخر ) المارق ، ومع الكراهية تتبرمج ( الحرب ) سلفاً ، لإن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد . أما العقل ( النقدي ) فيقابل المعطيات السابقة ، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على ( تنقية وغربلة ) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على ( تأمل ) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ ، ولإنها تحولت إلى نظم ( تردد - FREQUENCY ) يشبه سريان التيار الكهربي ، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم ، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة ، والحياة مثل ( الطريق السريع ) ذو اتجاه مزدوج ، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب ؛ لإن جوهر الحب مشاركة ، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر ، فالعقلية النقدية سلامية ، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين . هذا التكوين ( الطفلي ) للعقل من خلال تأسيس (العقلية النقلية) والمحافظة عليها ونشرها في المجتمع وتربية الجيل عليها في (الجامع) و(الجامعة) له آثار اجتماعية مدمرة ، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة ، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر ، إما إذا ملك الشباب ليس ( الكلام والفتوى ) بل السلاح ؛ فنموذج ( كابول ) والصومال جاهزة ، فلايُتْعب أحدهم ذهنه ؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد ، وأنه قد يكون ( مخطيء ) لا أكثر ، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم ( يُكَفِّرون ) ومن عادة أهل العلم أنهم ( يُخَطِّئون ) ، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض ( الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض ( الهرطقة . إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى ، مصيبة مرض ( الآبائية ) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة ، فمالم ينكسر التقليد ؛ لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة ، فضلاً عن الإبداع ، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة ، عند مواجهة الكوارث والمصائب ، بتحرير منهج ( الشك ) فإنه لن يصل إلى شاطيء اليقين ، لإن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج ، والعقلية النقلية لاترى ربطاً بين الأمرين ، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة ، فلا صدفة في الكون ولاعبثية ، وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث . فإذا انهدمت بناية ، أو مات مريض ، أو توقف جهاز عن العمل ، أو حلت هزيمة عسكرية أوتردي اقتصادي ، أو نكبة حضارية ، فيجب أن نفترض أن خط أً ما قد حصل ، وليس لإن قوى لانعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك ، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة ، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه ، وهذا مبدأ قرآني ( قل هو من عند أنفسكم ) ( 2 ) ينكفيء العقل ( النقدي ) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي ( الذات ) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون ( جمع ) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات ، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم ( العفوية ) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن ( الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع ، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس . إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها ( ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال ( الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على ( الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و ( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي ( تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين . والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : (( لإن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق )) ( 3 ) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ) . وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون : (( واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح )) ثم يخلص إلى هذه النتيجة : (( وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه )) ( 4 ) إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه ( الفهم البنيوي التركيبي ) ، والثاني ربطه بالواقع ( في الآفاق وأنفسهم ) لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم ، واقتلاع نص من مكانه ، بدون سياقه العام ، والحيثيات التي ولد فيها ، والترابطات التاريخية ، لايقرب من فهم النص ، بل قد يكون خطراً ومعطلاً . والأخ الذي كان ( يقتلع ) نصف آية من سياقها يبرر بها ( العنف ) الذي يمارسه (( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء ، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (( كفوا أيديكم )) مروراً بــ (( كتب عليكم القتال )) وانتهاءً بــ ( قاتلوا المشركين كافة ) ، وغاب عنه ثانياً أن هذه ( الوظيفة العسكرية ) هي أداة خطرة للغاية ، لإنها مرتبطة بسفك الدماء ، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION ) وبيد ( الحاكم المسلم ) فقط ، فهي ليست لــ ( وظيفة فرد ) كما أنها ليست ( مهمة جماعة ) ، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة ، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح ، وضمن السياسة الشرعية ، التي هي لدفع ( الظلم ) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة ، بل بالأحرى لدفع الظلم ، سواء صدرت من كافر أو ( مسلم ) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته ، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم ، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة ( الجهاد ) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم ، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى ، إنما يفجر الكوارث في كل مكان ، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد ، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح . وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر ، ولاعلاقة له بالصراع المسلح في البوسنة ، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف . فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من ( الفتنة ) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة ، أو بإخراجه من بيته ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ( 5 ) ، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه ، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة ، بما فيه الإسلام ، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( 6 ) فالإسلام وفر نفس الصرب ، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب. ولكي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها . الأول : عمل الجهاز الكهربي ، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة ، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة ، كذلك يقوم العقل ( النقدي ) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع ، أي أخذ النتائج ، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي ، فنتائج عملنا ( جراحي الأوعية ) فوري ، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية ، ونتائج جراحة البطن ( تظهر ) في مدى أيام ، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام ، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع ، حتى يمد رجله ويحمل ثقله ، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة ، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد ، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات ، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً ، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى . كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع ، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين ، ومع البشر عقوداً ، أما التغيرات الاجتماعية ، فليس عندنا من ( مطل ) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال ( بانوراما ابن خلدون ) أي الحقل التاريخي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ( 7 ) . الثاني : هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال ( PUZZEL ) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل ، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر ، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع ، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة . الثالث : وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة ، والصورة لاتفهم إلا بتضام أجزاءها ، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه ؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه ، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال ( حركة ) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء ، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها ، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع . نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء ، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة ، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده) ( 8 ) وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا ، في معنى العقل ( النقدي ) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار ، والعقل ( النقلي ) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص ، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه ، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام ، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء ، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز ، واللحم إلى ( الحروف الأولى ) في صورة الأحماض الأمينية ، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب ، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة ، أو إطلاق الطاقة من السكر . إنه يفعل مايفعله ( العقل النقدي ) مع اللغة ، فكلمة ( فكر ) تتكون من ثلاث حروف ، ولكن حسب نظرية الاحتمالات ، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات ( فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك - ) بمعاني عجيبة ، فالأول ( فكر ) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية ، والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء ، والثالث ( فرك )عمل يدوي ، والرابع ( كرف ) ( شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟! ) والخامس والسادس ( ركف + رفك ) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر ) فيحيلها إلى ( فكر وإيمان ) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن . كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية ، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي ( BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية ، قد تخصصت في ( النقد الذاتي ) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد ؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة ، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن ، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه ، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد ، ويتمهل في اتخاذ قراراته ، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني ، تحتاج إلى ستين ساعة ، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور ( 9 ) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية ؟ وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً ، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد ، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية ، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب ، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية ، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع ( العقل النقلي ) إلى وضع ( العقل النقدي ) ؟؟ ، وفي ضوء هذا فإن ( جراحة الفكر ) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها ، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً ، بل انغلاقاً عقلياً ، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً ، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية ، فتحطم الأغلال العقلية ، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية ، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس). توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به !! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض ، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها ؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي ، لأن الرجل حبس من داخل عقله ، وليس حقيقة بل وهماً ، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً ؟؟ هوامش ومراجع : ( 1 ) الدوغما ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة ، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة ، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن ( 2 ) سورة آل عمران - رقم 165 ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قل أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 3 ) المقدمة ص 9 ( 4 ) المقدمة ص 37 ( 5 ) الممتحنة الآية 8 ( 6 ) البقرة 256 ( 7 ) الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 ( 9 ) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ ( بول اهرلنج ) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم ، حقيقة فريدة من نوعها . لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون ( الحاجز بين الدم والمخ ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة ، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة . وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
اقرأ المزيد
مصير الإنسان .. إلى أين ؟
جاء في كتاب ( الخواطر ) للفيلسوف الفرنسي باسكال ( PASCAL ) مايلي : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ولكن هناك لانهائية أخرى هي لانهائية صغر الذرة ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .. إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهائية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور ، فماهو الإنسان بعد كل هذا في الطبيعة ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل إلى استكناهه ، وهو عاجز على السواء عن رؤية العدم الذي أُخذ منه واللانهائي الذي يغمره )) ( 1 ) إذا لم نعرف كيف كان الإنسان ( قبل ) عشرة آلاف سنة ، فإن القفز عبر الزمن لرؤية مصير الإنسان ( بعد ) عشرة آلاف سنة ، يصبح ضرباً من المستحيل ، فالوجود الإنساني في حالة صيرورة وكم معرفي تراكمي ، ومعرفة البدايات يعطي تصوراً عن تشكل النهايات ، ذلك أن المجتمع الإنساني لايبقى على حال ، بل هو في حالة ديناميكية متغيرة متطورة نامية ، ومالم يتشكل عندنا بانوراما - نظرة شمولية ( PANORAMA ) للرحلة الإنسانية عبر التاريخ ، ومعرفة المنحنى البياني للصيرورة الإنسانية ، فإننا سوف نبقى نوجه أصبع الاتهام تجاه الإنسان ، ولانرى فيه إلا مارأته الملائكة : أنه كائن مجرم وشقي مخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) ( 2 ) ولكن توقع الملائكة هذا يمثل نصف الحقيقة فقط ، ولمعرفة بقية الحقيقة للاقتراب من رؤيا شمولية ومسح طوبوغرافي للطبيعة الإنسانية ، فإن قراءة التاريخ والانثروبولوجيا وعلم الحضارات وقوانين المجتمع ، سوف تسعفنا في إلقاء الضوء على فهم المصير الإنساني بشكل مختلف في ضوء جواب الله تعالى للملائكة ( إني أعلم مالاتعلمون ) . ********************** في مقالتي السابقة عن ظاهرة ( انطفاء العقل ) وأثر ذلك في مركب ( الانحطاط ) الذي تسلط على الجسم الإسلامي ، وكانت أفظع تجلياته ولحظة الانكسار الكبرى في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، الذي لم يرتفع عنه حتى اليوم ، فإن هذه المقالة خصصت نفسها ليس لمسيرة الحضارة الإسلامية ، بل لرحلة الإنسان عبر التاريخ ، وبفهم طبيعة هذه المرحلة ، وبتجميع نقاط حركتها في المنحنى البياني التاريخي ، يمكن الاقتراب لفهم أفضل لآليات الحركة التاريخية . ************************ ياترى كيف يمكن التوصل إلى معرفة حقيقة عمر الأرض والشمس ؟ وكم أصبح للإنسان وهو يدب على ظهر هذا الكوكب ؟ يطيب لأفلام الخيال العلمي إظهار الإنسان مع الديناصورات ، ولكن هذا الترافق الزمني غير صحيح ، كما كشفت عنه الأبحاث العلمية الجديدة ، فبعد اختفاء الديناصورات بفترة طويلة ظهر الإنسان ، فالديناصورات دبت على الأرض بأطنانها الثقيلة وأدمغتها الصغيرة قبل 570 مليون سنة ( 3 ) واختفت عن وجه اليابسة قبل حوالي 65 مليون سنة ، في حين أن بدايات الإنسان ظهرت قبل حوالي ( 2.3 ) مليون سنة ، وفي هذا الصدد يواجهنا سؤال ملح هو : كيف استطاع العلماء تحديد هذه الأشياء وبهذه الأرقام ، وليس هناك من أثر تاريخي أو وثيقة تقر على هذه الحقيقة ؟ كيف تم استنطاق الوجود وبأية وسيلة تم معرفة عمر وسيرة حياة هذه الكائنات ؟ إذا كانت الديناصورات وطأت الأرض بهياكلها العملاقة وأنيابها المرعبة وأدمغتها القاصرة ، قبل نصف مليار سنة فكم أصبح للحياة على وجه الأرض ؟ سواء وحيدات الخلية ، أو عديدات الخلايا ، متمثلة في بقية الحيوانات من زواحف وطيور وحيوانات ثديية ؟ بل كم أصبح للكون من عمر ؟ ومتى تشكلت المجموعة الشمسية ؟ ومتى بدأت الحياة على وجه البسيطة ؟ وأين تقع الحياة الإنسانية في هذه الرحلة الطويلة ؟!! ****************************** لابد إذن من معرفة ( الأداة ) التي يمكن بواسطتها استنطاق الشجر اليابس والحجر الصلد ، النجم اللامع والهيكل الرميم ، عن عمره فيما أفناه ؟ ومنذ متى غُيب في أحشاء الثرى ؟؟ فــ ( اللغة ) هنا التي تنطق ، تختلف في طبيعة أقلامها ومدادها وورقها ، والقرآن أشار إلى أعضاء تتكلم ليس في طبيعتها النطق والإفصاح عن نفسها ، بل يمضي القرآن أبعد من هذا ، حيث يُنطق من ليس في طبيعته النطق ، ويُسكت من في طبيعته النطق (( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم )) ( 4 ) فالفم الذي للنطق يُغلق ، وتبدأ اليد بالكلام على طريقة جديدة ولغة مستحدثة لابد من ترجمتها ، وتفسير حركاتها ، فالأصابع لاتنطق ولكن بأمكانها أن تكتب وتشير وتنقر وتعزف وتضغط وتلمس وترسم وتنحت وتشكل ، فأمامنا شريحة واسعة من إمكانيات التعبير الجديدة . فــ ( اللغة ) يعبر بواسطتها عادةً إما نطقاً أو كتابةً ، وهي الشكل التجريدي الراقي عند بني البشر ، ولكن الطبيعة لها لغةُ نطقٍ مختلفة ، فهي لاتصوت أو تكتب على طريقتنا ، بل على طريقتها الخاصة بها ، وماعلينا سوى اكتشاف هذه اللغة من واقع الطبيعة ، وأشار القرآن إلى إمكانية أن تتحدث الأرض ( يومئذ تحدث أخبارها ) ( 5 ) إلا أن هذا الحديث ليس تصويتاً بشرياً ، بل نطقاً خاصاً بالشجر والحجر علينا أن نفهمه بعد ترجمته ، وانتبه ( غاليلو ) سابقاً إلى حديث الطبيعة هذا فاعتبر أن الطبيعة كتبت بلغة خاصة وهي لغة رياضية ، علينا اكتشافها وصياغتها على شكل معادلات ، وأصاب غاليلو في حديث الطبيعة التي تتحدث بطريقتها الخاصة ، ولكن حديث الطبيعة يبقى حديث الطبيعة الذي تمثل المعادلات تعبيراً غير نهائي عن حقيقتها ، فالطبيعة هي أكبر من الطب والهندسة والرياضيات والاقتصاد والمعادلات ، فلا يمكن قياس العواطف والتجليات الروحية مثلاً بالغرامات أو درجات السلم الزئبقي ، بالسنتمترات المكعبة أو الفهرنهايت على الشكل الذي افترض غاليلو!! عملية استنطاق هذه ( اللغة ) من الطبيعة هي التي حرمت المؤرخين قديماً من عدم إمكان الغوص في بطن التاريخ لمعرفة كيفية بدء ( خلق الأشياء ) (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )) ( 6 ) بسبب عدم انتباههم إلى إمكانية هذه اللغة الجديدة ، إلى درجة أن شراح العهد القديم في أوربا اعتبروا أن العالم بدأ في العام 4004 قبل الميلاد ، وهي التي منحت العلماء اليوم ، وبطرق علمية مختلفة معرفة عمر العناصر المعدنية ، والشجرة المعمِّرة ، والصخرة الراقدة عبر الأحقاب الجيولوجية ، والهياكل العظمية التي حفظتها طبقات الأرض ، المدن التي طواها التاريخ ، والحضارات التي انهارت ولفها ليل الزمن . لم تعد الإمكانيات محصورة في تحديد عمر الشجرة فقط من خلال حلقاتها الداخلية ، بل حتى قراءة هذه الحلقات على شكل ( سيرة ذاتية - C . V. ) ومعرفة سنوات الخصب من الجفاف التي مرت خلال حياة الشجرة ، كُتبت القصة وحُفظت ووُثِّقت وخُتمت بختم ( الواقع ) الذي لايكذب ولايزور ، لايحرف النصوص أو يؤولها ؛ فهي وثيقة أكيدة سطرتها يد الزمن كوثيقة أصلية غير مزورة ، لذلك كانت طبقات الأرض في حفظها للنصوص التاريخية ووقائعه أدل على نفسها بنفسها من أي نص كتب عنها مهما كان مصدره ، كل ماتحتاجه هو المحاولة الدؤوبة لفك ألغاز هذه اللغة ، كما حصل مع حجر رشيد في مصر . ************************** وإذا امتلكنا هذه الأداة سواء من خلال العناصر المشعة في الطبيعة ، مثل اليورانيوم أو الراديوم وسواهما ، أو الكربون 14 من الشجر ، أو الحفريات المختومة مثل البصمات على الحجر وفي طبقات الأرض ، أو حلقات الشجر الداخلية ، أو تحليل كلس العظام في الهياكل العظمية ، أو التحليل الطيفي لــ ( اللون ) القادم من المجرات ، كما في ظاهرة ( دوبلر والزحزحة الحمراء ) ( 7 ) التي طبقها العالم الأمريكي ( إدوين هابل ) لاكتشاف تباعد المجرات وظاهرة تمدد الكون . كل هذه الأدوات المنوعة يغوص الإنسان بواسطتها مثل أدوات الجراح في قاعة العمليات ، ولكن الحقل هنا هو الوجود كله وليس جسم المريض ، فيتأمل المجرات بالتلسكوب ، والباكتريا بالمجهر ، ينبش طبقات الأرض بحثاً عن الهياكل العظمية وبقايا الحفريات ، يقلب النظر في مخلفات المدن البائدة والحضارات التي ابتلعتها الأرض ، فيصل ليس فقط إلى ( عمر ) هذه الأشياء ، بل إلى تسجيل ( موثق ) إلى أبعد الحدود ، وبدون أي تزوير للقصة الكاملة التي حدثت . إن بصمات المجرمين ومخلفات الشعر والدم تقود إليهم مهما أقسم أحدهم بالأيمان المغلظة أنه لم يرتكب الجريمة ، لإن آثارهم تنطق بشكل حيادي وموضوعي عما حدث ، فإمكانية الخطأ بين بصمة وأخرى هي بنسبة واحد إلى 64 مليار ، فالخطأ هنا ممتنع ، ولعل الآية القرآنية أشارت بشكل خفي إلى هذا السر في تفرد البصمة ، من أن البعث سوف يكون كاملاً غير منقوص بما فيها البصمة ( البنان ) التي هي تفرد قائم بذاته لكل شخصية إنسانية ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) ( 8 ) كذلك الحال في ( بصمات الحفريات ) على الصخر وطبقات الأرض فلا يمكن أن تضلل . هكذا استطاع العلماء الذين ( مشوا في الأرض ) استنطاق الحجر والشجر ، النجم وطبقات الأرض ، الراديوم والكلس ، العظام والدماء ، وهذا الاختراق لهذا الفضاء المعرفي هو في حالة زيادة يومية وتراكم معرفي نامي ، تتفاعل عناصره مع بعضها فتولد عناصر جديدة ، وهكذا أمكن الكشف عن هياكل العائلة المالكة الروسية للقيصر نيقولا الثاني الذي غاب في بطن الأرض مع الثورة البلشفية برصاص الشيوعيين الحمر . ************************************* وطالما أمكنتنا هذه الأدوات الجديدة من كل هذه المعرفة الغزيرة والمنوعة ، فإننا نقترب اليوم من لغز بداية الكون في إطار نظرية ( الانفجار العظيم - BIG - BANG - THEORY ) التي تفيد ببداية عجائبية خارقة للوجود ، بدأت فصولها قبل حوالي 15 مليار سنة ، من نقطة لم يستطع العلماء إلا اعتبارها أنها لحظة ( متفردة - SINGULARITY ) حيث انفجر الكون على صورة كرة نارية هائلة في جزء من ( سكستليون ) من الثانية أي واحد مقسوم على عشرة أمامها 36 صفراً ، حيث كان الكون كله بما فيه من كل المجرات الحالية مضغوط في حيز أقل من بروتون واحد .. حيث لازمان أو مكان .. لاطاقة أو مادة .. لاقوانين تنتظم الكون أي غياب كامل لكل مفاهيم الوجود التي نتعامل معها اليوم ؟!! هذا ماتقوله باختصار نظرية الانفجار العظيم التي جاءتها التأكيدات من كشوفات ( هابل ) في تمدد الكون ، ثم الكشف عن ( الإشعاع الأساسي ) في الكون على يد كل من ( آرنو بنزياس ) و ( روبرت ويلسون ) عام 1965 م ( 9 ) والتي تمشي معظم الدلائل باتجاه تأكيدها حتى الآن . وإذا كانت نقطة البداية قد دشنت للكون قبل 15 مليار سنة ، فإن مجموعتنا الشمسية التي ننتمي إليها ربما تكون قد بدأت قبل حوالي ثماني مليارات سنة ، أما أمنا الأرض فتتأرجح الأرقام عند( 5.4 ) مليار عام ، ويبقى السؤال عن الحياة التي باشرت وجودها قبل حوالي ( 5.3 ) مليار سنة ، وكانت الحياة البدائية في صورة وحيدات الخلية التي لاتحتاج للأكسجين ، حيث لم يكن في تلك العصور الساحقة وجود للأكسجين في غلاف الكرة الأرضية، وفي مسلسل الحياة هذا تأتي الحياة الإنسانية في قمة الخلق الألهي ، حيث يرجح أن تكون قد بدأت قبل حوالي ( 2.3 - 4.3 ) مليون سنة وفي أفريقيا الساخنة ، ربما في شرق الحبشة ، على النحو الذي كشف عنه العالم الأمريكي الانثروبولوجي ( دونالد جوهانسون ) في نوفمبر عام 1974 م ( 10 ) في مثلث عفار شرق الحبشة ، حيث تم الكشف عن 80% من هيكل عظمي لإمرأة تمشي منتصبة ، تعود إلى مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين ( هيكل لوسي ) فإذا وضعنا الآن الحياة على شكل كتاب ، شكلت الحياة الإنسانية فيه الصفحة الأخيرة من كتاب سماكته ألف صفحة . ****************************** بقي الإنسان لفترة طويلة يطارد الوحوش والوحوش تطارده ، يأكلها وتفترسه ، يعيش على الصيد وجمع الثمار ، بدون ذكر في التاريخ ، فلاتدوين ، فكان خارج التاريخ ، ولفترة ملايين السنين ، ثم حدث الانعطاف الأول والخطير في تاريخ الإنسان باكتشاف النار والمحافظة عليها متقدة ، فصرف خطر الحيوانات عنه ، كما استطاع أن يتقدم للعيش في المناطق الباردة ، وكانت هذا قبل حوالي 900 ألف سنة ، وبذلك خرج من أفريقيا في أرجح الأقوال ليعمر القارات كلها ، وأما أمريكا فانتشر إليها من أقصى الشمال عبر مضيق بهرنج ، الذي كان يصل آلاسكا بآسيا ، ولعل شبه أهل الأسكيمو بأهل الشرق الأقصى والصين يوحي بمجيئهم من هناك . **************************** وبقيت فترة الصيد وجمع الثمار واعتماد النار والانتشار في الأرض فترة طويلة من الزمن وبدون أي قفزة نوعية ، حتى دشنت المرأة الانعطاف الخطير الثاني بدخول الثورة الزراعية ، وكان ذلك قبل حوالي عشرة آلاف سنة ، ففي الوقت الذي كان الرجل فيه يركض خلف الصيد على ماخلدته نقوشات الكهوف ، انتبهت المرأة للزراعة ففجرت التاريخ وعطفت مجراه وحققت القفزة النوعية للجنس البشري ، وبدخول مرحلة المجتمع الزراعي واستئناس الحيوان تحرر الإنسان ودفعة واحدة من الموت ( جوعاً ) فسيطر على إنتاج غذاءه ، وبها دخل الإنسان مرحلة المدينة ، وانبثاق تقسيم العمل والتخصص فيه ، على ماأشار إليه عالم الاجتماع ( دركهايم ) في كتابه تقسيم العمل ، وعلى النحو الذي فهمه ابن خلدون في ( المقدمة ) في ضرورة المجتمع الإنساني من نقطة ( الغذاء ) الذي لايمكن تحصيله بدون تعاون التخصصات ، وبتوفير الغذاء ازداد السكان ، في صراع مع حصد الأمراض التي كانت تعالج بيد ( السحرة ) حيث كانت أحد وظائف الساحر ( الطب ) ، وبدأت التجمعات السكانية الكبرى في التشكل ، وببناء المدن وتخصص فريق الفلاحين بالسيطرة على إنتاج مايزيد عن حاجة الجماعة ، تحول بقية الفريق الاجتماعي إلى تخصصات مختلفة ، وبدأ الانسان في وضع قدمه في أول طريق الحضارة ، فتشكلت المدينة ، وولد النظام السياسي الذي احتكر السلاح والعنف ، وبدأ الإنسان مع أخيه الإنسان في تشكيل مجتمع المدينة ( الآمن ) وبذلك تحرر الإنسان من الخوف من أمرين : فوضى الغابة وعنفها وجوعها ، وهو ماأشار إليه القرآن عن نعمه على الإنسان من أنه ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . وهو مانوه به ابن خلدون كاعتبار ثاني للتجمع الإنساني بعد الغذاء ( المدافعة ) ***************************** ظهرت على وجه الأرض مجموعات إنسانية على شكل مجتمعات بدائية تجاوزت ( 600 ) مجتمعاً ، على ماحررَّه المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه ( دراسة التاريخ ) ، ولكن الحضارة كان عليها الانتظار بضع آلاف من السنين قبلا أن تنبثق ، فانطلقت أول حضارة من جنوب العراق الحالي قبل ( 6000 ) سنة ، لتتلوها 28 حضارة أخرى ، في ظروف مازالت قيد التحليل من قبل فلاسفة التاريخ ، منهم توينبي الذي أشرنا إليه والذي رأى في قانون ( التحدي والاستجابة ) آليةً تفسر بزوغ الحضارات أو بالعكس انطفاؤها ، سواء كان التحدي في البيئة أم النفس كما في حضارة ( البلوبينيز ) مع تحدي ( المحيط ) أو حضارة جنوب الرافدين والنيل في تنظيم الري . ******************************** ومع ولادة الحضارة حصل خطأ ( كروموزومي ) رهيب ذي قرنين أو شعبتين أو مرضين ؛ كل منهما يزيد في تفشي القيح عند الآخر ، هما ( الحرب والرق ) ، الحرب كانت تولد الرق ، والرق هي القوة العضلية ( الآلة في ذلك الوقت ) المستخدمة في مزيد من الانتاج ، الذي اعتاد القوة العضلية المباشرة الإنسانية أو الحيوانية ، ولعل أفظع مرضين أصيب بهما الجنس البشري في تاريخه كانا ( الحرب والرق ) لإنه بالحرب يدمر وجود الإنسان بالكامل ، وبالرق يمسح من عالم البشر المعنوي فهو ميتة من نوع جديد ، ومن هنا نفهم أيضاً النتيجة المباشرة ، لتفشي مرض ( قوة العضلات - العجول الآدمية ) على وضع ( المرأة ) فطالما كانت المرأة لاتمتلك ( العضلات ) فإن المجتمع تعرض لاختلال فظيع ، بغياب المرأة عن التوجيه المشترك مع الرجل ، فوقع المجتمع تحت سيطرة الذكور فقط ، ونمت المؤسسات العسكرية ، التي هي ذكورية بالدرجة الأولى ، فكان اندلاع الحروب تحصيل حاصل ، فالحرب هي عملية ذكورية كاملة في التخطيط والقيادة والتنفيذ بل والموت في النهاية ؟! فالذكور يخوضونها بكل ضراوة ويموتون في ساحاتها ، في حين أن الانثى لاتشارك في هذه المذبحة الجماعية ، بل تحافظ على الحياة ، وتنجب الحياة ولاتموت في حمامات الدم المرعبة هذه ، فهي خزان الحياة المتجدد وينبوع الحب المتدفق ، وبترسيخ الثقافة العسكرية الاسبرطية تم تحويل وتشويه كامل للثقافة الإنسانية باستلاب الإنسان من أهم عناصر إنسانيته ، بسل روح المبادرة والبعد الفردي والاستقلالية ، وتحويل المجموع إلى كتلة لحمية مضغوطة تعمل كالمطرقة ولاتناقش ، وتحويل تيار الثقافة بكامله في الفنون والأدب والجمال وسواه ، ليصب في تيار اتجاه تكريس ثقافة البطولة و ( العنترية ) وهي كارثة إنسانية عامة ، عانت ومازالت تعاني منها كل شعوب الأرض ، ووضع لها محمد ( l ) حلاً : (( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) . ********************** وقبل خمسة آلاف سنة حصل انعطاف ثالث لايقل في وزنه وثقله عن الانعطافين السابقين باختراع الكتابة ، فبواسطة الحرف والكلمة أمكن حبس المعنى ورسمه في الأوراق وشبهها ، وبذلك أمكن وللمرة الأولى في التاريخ الإنساني ( حفظ ) الذاكرة الإنسانية ، وبدأ تيار التراكم المعرفي وثورة المعلومات ، ولعل فواتح السور من الحروف المكررة من ( ألف ولام وميم وعين وصاد ) والتي اختلف فيها المفسرون على مذاهب شتى ومازالت أحد أسرار القرآن ، لعل أحد تفسيراتها هي إشارتها إلى هذه الثورة الخطيرة في العقل والتاريخ الإنساني ، فالإنسان قبل ( الكتابة ) كان يتفاهم بالنطق والتصويت ، ولكن حصيلة التجربة الإنسانية كانت تموت مع كل جيل فلا تحفظ ، تماماً كما لو تصورنا أن خلايا الدماغ تتكاثر وتموت كما يحصل مع الكريات الحمر في الدم والتي تتبدل كل 120 يوماً فتتكسر لتعطي حمضاً يذيب دهن الطعام ويلون بعد ذلك فضلات الأمعاء الخارجة ، ذلك ان خلايا الدماغ هي من عمر الإنسان تولد معه برقم محدد وتبقى معه وترافقه إلى رحلة القبر الأخيرة ، فهي تخزن المعلومات وتبني الذاكرة تنمي الخبرة وتصقل المواهب ، تشحذ القدرات الفنية ، وهي بعد هذا مركز الإبداع وتجلي الشخصية ، ولو تبدلت وأعيد صناعتها كما هو الحال مع باقي خلايا الجسم إذاً لكان على الإنسان أن يتعلم اللغة كل بضعة أشهر من جديد . هذا الشيء كان يحدث مع الإنسان عبر التاريخ ، كما لو كان الجنس البشري بدون دماغ وخلايا عصبية ، وباختراع الكتابة تشكلت الخلايا العصبية الحافظة والدماغ الرائع للجنس البشري ، الذي يحفظ الخبرات والذاكرة البشرية والتراكم المعرفي طبقة فوق طبقة . ************************************ وبين القرن السابع والرابع عشر للميلاد تم تطوير الفكر بشكل نوعي على يد المسلمين الذين ودعوا الفكر اليوناني ، ليولِّدوا _ بدفع من روح القرآن _ المنهج الاستقرائي التجريبي وروح البحث الواقعي واعتماد التجربة ، لتتخمر بعد ذلك بعد نقلها في إيطاليا ، لتفجر بعدها روح النهضة الجديدة في أوربا ، ومع تطوير الطباعة قبل 500 سنة بدأ العقل يتحرر ، وتم ربط العالم ببعضه من خلال قوة البخار التي استخدمت قبل 200 سنة ، ليتلوها تسخير الكهرباء قبل 120 سنة ، وأما الاستعمال السلمي للذرة فتم قبل 30 عاماً فقط ، وكل إنجازات الجنس البشري الرائعة من الطب الحديث وجراحة الأوعية والمناظير والتخدير والالكترونيات والبريد والفاكس والطيران ، كله تم تطويره بعد الحرب العالمية الثانية . ************************* كذلك حصل انفجار سكاني بتسارع لم يعهده الجنس البشري من قبل ، خاصة بعد ارتفاع المستوى الصحي ، فالجنس البشري بين محطات عام 1800 - 1930 - 1960 - 1975 - 1988 م قفز من مليار واحد إلى خمس مليارات ، وربما يصل العدد إلى 120 مليار مع نهاية القرن القادم ؟! عندها ستتحقق نبؤة جول فيرن عن الغواصة ناوتيلوس والكابتن نيمو والمدينة في قاع البحر كما عرض في فيلم عشرين ألف فرسخ تحت الماء . حيث تسخر إمكانات البحر لإيواء وإطعام المليارات المتدفقة من البشر ، وفي الوقت الراهن فإن الأرحام تدفع مع كل شروق شمس إلى الحياة بــ 270 ألف إنسان ، في حين تبلع القبور مع كل غروب شمس 140 ألف انسان ، فيزداد البشر كل 24 ساعة 130 ألف انسان جديد ضيفاً على الكرة الأرضية . *************************** وأما رحلة القوة عبر التاريخ والصراع المسلح ، فكانت كل دورة تمضي أشد هولاً في إيقاعها من التي قبلها ، في دورات جنونية من التخريب المتكرر للجهد الإنساني ، والتدمير المعاد للمدن والدول والحضارات ، حتى حصل الانعطاف السادس في مسار عشق القوة ، بعد اكتشاف النار والثورة الزراعية ودخول الحضارة واختراع الكتابة والثورة الصناعية ، ولعل الانعطاف الأخير الأخطر من نوعه ، باعتبار توقف مصير الجنس البشري عليه ، والمثير فيه أنه أفضى إلى عكس ماأراد أصحابه ، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم 16 تموز يوليو من عام 1945 م في تجربة السلاح الذري الانشطاري الأول ( قنبلة البلوتونيوم )، حيث وضع الإنسان يده هذه المرة على وقود المجرات ، ولمس جدار جهنم الصاعق ، وأدرك أن هناك انقلاباً نوعياً في مفهوم القوة ، هي حزمة من الأفكار التالية : 1 - الأول : لم يبق غالب ومغلوب في هذه الحرب بعد اليوم ، ولن يدخل أحد الحرب وهو يعلم أنها انتحار جماعي 2 - الثاني : لن تحل المشكلات بعد اليوم بالقوة المسلحة ، فهذا هو المنطق الجديد ، منطق العصر النووي ، وبالتالي وجب على الإنسان كما ودع هراوة الغابة أن يودع عقلية الغابة 3 - الثالث : كانت بنفس الوقت إعلاناً غير مباشر ودعوة مبطنة إلى عودة الإنسان إلى انسانيته فوجب أن يودع المواجهة والصراع والدماء والصدام ، ويدخل العهد الجديد ويعتاد اللغة الجديدة : الحوار وامتزاج الثقافات والتفاهم وتكوين الثقافة السلمية وتوديع روح العنف والبطولة الفارغة 4 - الرابع : تحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة يرى الناس بعضهم ويتخاطبون بسرعة الضوء ويتحركون بأسرع من الصوت ، فهم قفزوا فوق ثقل الجسد ليلتحقوا بخفة الروح ونبض الأفكار 5 - الخامس : النزاعات المسلحة اليوم وتكديس ( خردة ) السلاح هي بضاعة المتخلفين عقلياً ، والذين لايملكون ( المعرفة ) ونواتجها من التكنولوجيا ، واستعراضاً سريعاً لبؤر النزاع المسلح في العالم يرينا أن عالم الكبار ( لايتقاتل ) والذي يتقاتل هم دول الأطراف المتخلفة فقط 6 - السادس : من يتقاتل من هذه الدول الهزيلة لايملك مصير ومخرج القتال ، بل خاتمتها متوقفة مرة أخرى على دول المركز التي تملك المعرفة والتكنولوجيا والمال ، فمن ينطلق في شراء السلاح وتكديسه يكون كمن اُرتهن لعالم الكبار وباع قضيته إليهم 7 - السابع : يتحول العالم تدريجياً الى شريحتين : شريحة من يفهم وشريحة من لايعقل ، كما يتشكل العالم إلى طبقتين مسخِّرة ( بالكسر ) ومسخَّرة ( بالفتح ) ، مستكبِرين ومستضعَفين على حد تعبير القرآن ، من يملك ( البرستيج PRESTIGE= الوجاهة والنفوذ ) ويأكل 80% من خيرات العالم ، وأخرى تشكل كعدد 80% من سكان العالم ولكنها تحظى بأقل من 20 % من خيرات العالم ويشكل العالم الإسلامي اليوم مركز الثقل فيه فيجب أن نعي هذه الحقيقة المرة من أجل تغييرها ، بتغيير مابنفوسنا أولاً 8 - الثامن : تعلم شريحة ( المستكبرين ) في العالم علم اليقين أن زمن القوة انقضى وولى ، وأن هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة ، التي لاتضر ولاتنفع ، وهم ( سحرتها ) ومانحتاجه هو توحيد محمد بن عبد الله ( l ) كي يبطل السحر الجديد 9 - التاسع : قد تتغبش هذه الرؤية عند البعض بمذابح راوندا وقتال الشيشان وقذائف مدافع الأفغان والبوسنة ، ولكن العالم الذي نعيش فيه هو عالم النور والكهرباء والكمبيوتر وجراحة الجينات والسلام ، بالطبع مازال بعض الناس يعيشون على فتيل المصباح والعد باليدين والكي واستخدام هراوة الغابة ، ولكن العبرة بخواتم الأعمال وآخر الفتوحات العلمية ، فإذا أصر المرء على ركوب الدواب والعد بالأصابع بدل استخدام الكمبيوتر تحول إلى عالم المسخَّرات ( بالفتح ) ************************** يقدر عالم الفيزياء الكونية ( ستيفن هوكينج ) في كتابه ( قصة قصيرة للزمان ) أن الشمس استهلكت من وقودها حوالي النصف ، وأن أمام الشمس في إطلاق النور والحرارة مايزيد عن خمسة مليارات من السنين ؟! فإذا كانت الحضارة الإنسانية بدات قبل ستة آلاف سنة فقط ، والثورة الزراعية تسعة آلاف ، وأفضل إنجازات الجنس البشري تمت في مدى الخمسين سنة الفائتة ، فماذا ينتظر الإنسان في مدى مائة عام القادمة فضلاً عن الآلاف أو الملايين ، كيف سيكون الإنسان بعد عشرة آلاف سنة ياترى ؟ خاصة وأن العلم يمشي بشكل متسارع ؟ قد نصاب بالحزن في اكتشاف أن التاريخ الفعلي للإنسان لم يبدأ بعد ، وأننا ولدنا مبكرين للغاية وحرمنا من الرؤية المتألقة لعلم الله الذي سيتحقق فينا بعد حين ( إني أعلم مالاتعلمون ) . مراجع وهوامش : ( 1 ) مات باسكال ( 1623 - 1662 م ) دون الأربعين ( 39 سنة ) ويقول سانت بيف عن هذه الفقرة (( ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لانظير لها )) راجع قصة الحضارة - تأليف ويل واريل ديورانت - طباعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1979 م - ترجمة فؤاد اندراوس - الجزء 31 - ص 100 ( 2 ) البقرة 20 ( 3 ) يراجع كتاب ( EVOLUTION ) - كتاب طيف العلم الأمريكية - الطبعة الألمانية ص 17 _ ) SPECTRUM SCIENTIFIC AMERICAN4 ) سورة يس 65 ( 5 ) سورة الزلزلة الآية 4 ( 6 ) العنكبوت الآية رقم 20 ( 7 ) تم كشف هذه الظاهرة على يد العالم النمساوي كريستيان دوبلر وسميت باسمه ومفادها معرفة موجة الصوت أو الضوء القادم من الهارب ، حيث تكبر الموجة وتنضغط في حال هجوها علينا والعكس بالعكس ، وفي الضوء باعتباره مكون من حزمة من الألوان فإن رأسه القادم باتجاهنا هو أزرق ، في حين أن ذنبه الهارب عنا ذو لون أحمر ، وهي ماترسله كل المجرات لإن الكون يتوسع مثل البالونة ( 8 ) سورة القيامة الآية 4 ( 9 ) طالما انفجر الكون في كل اتجاه فلابد أنه ترك أثراً من إشعاع في كل الكون ، هذا ماكشف عنه العالمان المذكوران بدقة وتبلغ ( 5.3 ) فوق الصفر المطلق ( - 273 ) راحع كتاب العلم في منظوره الجديد تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو - ترجمة كمال الخلايلي - عالم المعرفة 134 - ص 61 ( 10 ) تراجع القصة بالكامل في مجلة المختار عدد ديسمبر من عام 1981م صفر عام 1402 هـ ( ص 114 ) عن اكتشاف هيكل لوسي .
اقرأ المزيد
جدلية الممكن والمستحيل
(( في مواجهتنا للأشياء نحن حيال ثلاث معادلات : أشياء ( يمكن ) أن ننفذها ، وأشياء ( يستحيل ) أن نحققها ، وبين الممكن والمستحيل هناك ( طيف ) من الإمكانات ، فضمن الممكن هناك أشياء ( يسهل ) فعلها ، وهناك أشياء ( يصعب ) إنجازها ، ولذا يجب أن نسأل أنفسنا دوماً هذا السؤال المحوري : هل الأمر الذي يواجهنا ( مستحيل ) أم ( صعب ) ؟؟ لإنه بناء على تحديد الإجابة يتولد أمر في غاية الأهمية ، فــ ( المستحيل ) يعني أن لا فائدة من بذل الجهد ، في حين أن ( الصعب ) يتطلب بذل الجهد المكافيء ، فوحدات من طاقة العمل تذلل الصعوبات حسب حجم الصعوبة ، وهي مرتبطة بعامل ( الزمن ) حتى يتم تحريرها من الاستحالة ، فالعملية الجراحية مهما بلغت من سهولة التداخل وصغر الحجم وقصر الوقت تعتبر ( مستحيلة ) إذا افترض العقل إنجازها في خمسة ثواني !! ونقل جبل يصبح في حيز ( الممكن ) إذا توفرت ( الإرادة = الجانب النفسي ) و ( القدرة = الجانب الفني ) مضافاً إليهما عنصر ( الزمن ) .
المستحيل يعني العبثية في الاتجاه فكل حركة في هذا الاتجاه هي مضيعة للوقت والجهد وعمل في الحقل غير المفيد ، وهذه الفكرة إنارة رائعة للحديث الذي ينهى عن البكاء على الماضي تحت مقولة ( لو ) ( 1 ) والاختلاط يقع بين تداخل هذه الحقول الثلاثة ( المستحيل ) و ( الممكن ) بشقيه ( السهل ) و ( الصعب ) حيث تصبح عقليتنا ترى الأشياء في ( تردد = ذبذبة ) بين ذهان ( السهولة ) وذهان ( الاستحالة ) وبذلك يختفي مفهوم الصعوبة الذي يعتبر المحرك الأساسي لتحريض آلية بذل الجهد ، وهكذا رأى العقل العربي في يوم من الأيام ( اسرائيل ) دويلة عصابات وشذاذ الآفاق ، أما اليوم فهي التنين النووي وشمشون الجبار الاستراتيجي ، والأمر ليس بهذا ولاذاك ، وينطبق القانون التاريخي على الجميع ، ولن تشذ اسرائيل عن قانون التاريخ ، فهي منخس التحدي التاريخي ، وترمومتر انهيارنا الحضاري ، ومشعر مرضنا وعجزنا ، ولذا فهي تمثل كمية ( من العمل الصعب المليء بالتحدي والقابل للانجاز ) ، ومن الضروري في المستوى الفردي والاجتماعي تحديد مساحات الممكن والمستحيل والعلاقة الرياضية بينهما ، فحين نزهد في ( الممكن ) ونحلم بــ ( المستحيل ) نصبح عملياً في إجازة مفتوحة ، وحين نتعامل مع الممكن فنستفيد منه ؛ فإننا عملياً ومن خلال الجهد نربط بين طرفي معادلة ( الممكن - المستحيل ) لنقفز من عتبة الممكن _ مع الزمن _ إلى فضاء المستحيل )) .
أحجار على رقعة شطرنج كبيرة ؟؟!!
وضع الموظف البنكي الكبير ساقاً على ساق ثم نفث في وجهي دخان سيكارته ؛ الذي لم يكلف نفسه في الاستئذان كثيراً قبل الهجوم على صحة رئتي وسلامة أوعيتي الدموية ، وحدَّق في الحضور وتابع الحديث : ياجماعة كل مايحدث لنا يتم وفق تخطيط خارجي ونحن لسنا أكثر من أحجار على رقعة الشطرنج ؟!! وباعتبار مهنتي المزدوجة ( جراح أوعية ) فأنا أصلح الأوعية الدموية في قاعات العمليات ، والمجاري الفكرية في جلسات البحث العقلية ، وكنت قد فرغت لتوي منذ أيام قليلة من تصليح شرايين مدخن عمره 38 سنة كان يجرُّ قدمه بسبب فقر التروية الدموية ( ISCHAEMIA ) في ساقه اليسرى ، ولإنني أصبت بالصداع في جو الدخان ، فقمت بتداخلين لاصلاح الوسط : ضباب الدخان لانقاذ رئتي وأوعيتي من هجوم النيكوتين ، عن طريق المدخنة المسلطة فوق رؤوسنا ، وضباب الأفكار السلبية المعيقة للتنفس العقلي الصحيح !!
الأمثال الشعبية :
من خلال خبرتي الميدانية لفت نظري موضوع ( الأمثال الشعبية ) وعلاقتها بالثقافة
السائدة ولاحظت أن هناك تياراً من الأمثلة يشكل عقلية انسان المنطقة ، ومن الغريب تكرر المثل مع تباين اللهجات المحلية ، وهكذا نسمع ( موطالع بايدنا شي ) , ( عين ماتقاوم مخرز ) و ( ياللي اخد أمنا بنسميه عمنا ) و ( الايد اللي ماتقدر تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر ) و ( من حيط لحيط وربي سترك ) و ( مادخلنا ) و ( فخار يكسر بعضو ) ؟؟!!! ........ ومازلت أتذكر حادثة جرت لي في مدينة الدمام عندما كنت عند بياع ( الشاورما ) عندما سمعنا ضجة كبيرة فصاح البياع ( مادخلنا = أي لادخل لنا فيما يجري ؟؟!! ) ثم أردف ( فخار يكسر بعضو = أي فليكن مثل جرات الفخار التي يكسر بعضها بعضاً طالما أنا في الحفظ والصون ؟؟!! ) .
من القصة السابقة والأمثلة الشعبية التي أُوردت يمكن أخذ ( عينات ) ثقافية للتحليل المخبري العقلي البارد ، فكما أن المريض يأتي إلى المخبر فتؤخذ عينة من دمه للتحليل فيكشف من هذه العينة البسيطة أشياء لاتنتهي عن وضع بدنه وأجهزته البيولوجية المعقدة ، من مثل فقر الدم وارتفاع الكولسترول وقصور الكبد وفشل الكلية والتهاب المعثكلة واضطراب الشوارد المعدنية ، كذلك الحال في ( العينات الثقافية ) ، فصاحب ( الشاورما ) عندما صرخ مع صوت الاصطدام ( مادخلنا ) كان في الواقع يعبر عن ثقافة سائدة وعقلية مسيطرة ومفاهيم لها اليد العليا في المجتمع ، فكلمته هذه تمثل ثقافة الانسحاب والارتداد والانكفاء على الذات وتوقف روح ( المبادرة الفردية ) هو يريد أن لايسمع شيئاً غير إطار عمله اليومي ، كون العالم الخارجي لايحمل الا الشر والأذية والرض ( TRAUMA ) هو لايرغب أن يكون شاهداً على واقعة ، فهو قد خسر وظيفة ( الشهادة ) التي تكلم عنها القرآن منذ زمن بعيد ، هو لايحب من قريب أو بعيد رؤية ( البوليس = الشرطة ) فيعينهم على كشف جريمة ، هو غير مستعد لاسعاف انسان مصاب طالما أنها لاتخصه ، فهو مؤشر فاضح لتفكك الشبكة الاجتماعية . فهذه الثقافة السلبية في مجتمعنا يمكن الكشف عنها بمثل هذه العينات من ( الأمثال الشعبية ) . وبالمقابل مازلت أتذكر برنامجاً كان يبث في ألمانيا بعنوان ( XY ) حيث كان يعرض للجرائم فيعرضها ويعيد تركيبها ( RECONSTRUCTION ) ثم يتم مخاطبة الجمهور في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وليشتنشتاين ( المناطق الناطقة بالألمانية ) للافادة بأية معلومات هامة حول الواقعة ، وكان يتم بواسطة ( المبادرات الفردية ) الكشف عن الكثير من الجرائم المروعة ، فالفرد هناك يفتح عينيه على كل مايحدث ويشارك بدون خوف ومعه كل حس الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه ، وعندما نرجع لتحليل مقولة الرجل آنف الذكر لفهم الآليات الخفية خلف حدوث الواقعات يبرز أمامنا السؤال المفصلي : هل حقاً أننا لانملك من أمرنا شيئاً أي أننا أمام ذهان ( الاستحالة ) أم أن هناك هامش يمكن أن نتحرك به ؟ وماهو مقداره ؟ وأين هو حقله ؟ إذاً من الواجب أن نتأمل قطاع ( الممكن ) الذي يمكن أن نحدث فيه شيئاً بـــ ( جهدنا ) .
الممكن والمستحيل في الواقع الأرضي :
لنطرح الأسئلة البسيطة التالية : هل هناك قوة في الأرض تمنع الانسان أن يحرص أن يأتي لموعده على وجه الدقة ؟ هل هو في حكم الاستحالة أن يلبس الانسان ثوباً نظيفاً أو أن تكون رائحته طيبة وشعره مسرح ؟ هل هناك من يمنع أن يحترم الانسان زوجته ويثقف ابنه ويبتسم في وجه جاره ويقرأ كل يوم نصف ساعة بحثاً مجدياً ؟؟ هل هناك من يحول بين المرء وأن ينظف أمام بيته وأن لايلقي زجاجات الببسي في الطرقات ؟ هل هناك صعوبة بالغة أن يوطن الانسان نفسه أربع وعشرين ساعة أن لايذكر أحداً الا بخير ؟؟ هل من يمنع أن يتسامح الانسان مع الآخرين وأن يعذرهم وأن لايسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم ؟ هل في إمكان الانسان أن يدرب نفسه على أن لايفعل أمراً يخالف القواعد الأخلاقية ولو أُمر بذلك ؟ هل بإمكان الفرد أن يتخلص من التحول إلى ( شيء ) في صورة بوق أو مسدس ؟ هذه الاسئلة البسيطة وأمثالها تعطينا الانطباع أن مساحة الممكن هي العظمى في الحياة وأن بإمكان المرء أن يفعل أشياء كثيرة جداً . إن أعظم إحباط يصاب به الانسان عندما يضع لنفسه هدفاً لايستطيع الوصول اليه !! وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم ؟ وأشد تدميرا منه عندما ينتظر الصدف أن تولِّد هذا الواقع الذي يحلم به !! فكلها سلسلة من الأخطاء الرهيبة التي تلغي آلية الجهد .
يحمل الانسان جدلاً رهيباً ، فهو لاشيء إذا قورن باللانهاية ( كما هو معلوم في الرياضيات أن نسبة الرقم الى اللانهاية تساوي الصفر ) وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية . بين الممكن والمستحيل ، فهو لايستطيع خلق نفسه ولاخلق أولاده ( لايخلقون شيئاً وهم يخلقون ولايملكون لانفسهم ضرا ولانفعا ولايملكون موتا ولاحياة ولانشورا ) ( 2 ) ولذلك سحب الله إمكانية الخلق منا ولو كانت ذباباً تافهاً (( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له )) (3)
العلاقة الرياضية بين الممكن والمستحيل :
نحن نرى في اللحظة الواحدة السهل والصعب والمستحيل في الشيء الواحد في ثلاث حالات ، وفي الأشياء الثلاثة في الحالة الواحدة ، فمن الممكن ( حمل ) الصحن ، ولكن يصعب حمل الطاولة الكبيرة ، ويستحيل حمل البيت ، كما أنه نستطيع أن نحمل الصحن ولكن يصعب تحويله الى قدح ولكن يستحيل قلبه إلى أرنب . نحن لانستطيع تغيير عقول كل الناس ، ولكن نستطيع عدم إضاعة الوقت في ( الشدة والطرنيب ) والالتفات إلى تثقيف أنفسنا . نحن لانستطيع تغيير قوانين المرور ، ولكن بإمكاننا أن لانخالف إشارة المرور ، حتى لو كنا وقت صلاة الجمعة والشارع فارغاً ، وإذا دخل في روعنا هذا وجب أن ندخل عنصراً آخر هو عدم الاستخفاف بأي إنجاز ( ممكن ) مهما كان زهيداً وصغيرا ، فالكل يفكر بالأشياء الكبيرة وينسى الأشياء الصغيرة التي هي مكونات الأشياء الكبيرة وعناصرها الأولى ولبناتها الأساسية ، فأكبر الأرقام هو تجمع رقم الواحد فوق بعضه البعض مهما بلغت ضخامة الرقم ، والانجازات العظيمة هي محصلة تراكمية للانجازات التافهة الصغيرة ، والجبل تجمع هائل للحصى الصغيرة وحبات الرمل التافهة ، والهرم تركيب ملايين الأحجارالصغيرة ( الممكنة الحمل ) ( 4 ) والانسان هو محصلة تراكمية بطيئة للجهد الواعي المتشكلة عبر وحدات الزمن ، وفي معركة بدر التي سماها القرآن فرقاناً كانت ( إظهاراً ) لإمكانيات تشكلت فيما سبق ، وليست إنجازا برز فجأة إلى السطح ، والمجتمع كم هائل من الأفراد منظمين ضمن شبكة علاقات ، وتغيير الأفراد التدريجي سيقود في النهاية إلى تغيير المجتمع ، ولايتطلب ذلك تغيير كل الأفراد فليس مطلوباً ولاممكناً ، بل تغيير الكم الحدي ( أو الكتلة الحرجة ) وعند الوصول إلى تغيير الكتلة الحرجة يبدأ التيار الاجتماعي في التشكل وعلى العكس فإن ( شذوذ ) فرد منه بتصرفات وأفكار يعرضه لقانون ( الدجاجة المجروحة في القن ) حيث روى لي صديقي الدكتور الصناديقي عن ملاحظة أمه التي تربي الدجاج ، أن الدجاجة إذا جُرحت عمدت بقية الدجاجات إلى نقرها في مكان الجرح حتى الموت ، ولذا تعمد أمه _ على ماروى _ إلى عزل الدجاجة المجروحة فوراً ، وهذا يفسر لنا بعض الوقائع التاريخية البشرية فــ ( جرح ) ابن تيمية في ( القن البشري ) في الفتاوى التي ( تميز ) بها في عصره في الطلاق وشد الرحال ( 5 ) عرضه للنقر الاجتماعي حتى الموت ، فرمي في سجن القلعة حتى فاضت روحه خلف القضبان . كما يفسر لنا الانسحاب الذي يقوم به الانبياء في مرحلة من دعوتهم ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) وهو مأشار إليه المؤرخ البريطاني ( توينبي ) في كتابه ( دراسة التاريخ ) عن قانون الاعتزال والعودة .
جدلية الممكن وتطوره :
عند وضع اليد على المفتاح السحري : ( أن بإمكاننا أن ننجز شيئاً ) تتولد سلسلة من الأمور الايجابية :
الأمر الأول : ( النجاح يقود إلى النجاح ) فالنجاح يولد الشعور بالثقة بالنفس ، عندما يحس الفرد أن بإمكانه أن يفعل شيئاً . والعكس بالعكس فالفشل يخلق الاحباط والخوف من المحاولة الجديدة ، مالم يزود بميكانيزم نفسي مرافق وهو أن المشكلة ليست في ( المشكلة ) بل في موقفنا منها ، فأي استعصاء في حل المشاكل يرجع بالدرجة الأولى إلى عجزنا أكثر من تعقيدها الذاتي ، والمشاكل تنبع من ( مواقفنا) غير السليمة منها ، فنحن مستعدون إلى لعن كل شيء واتهام كل أحد ، وغير مستعدين لمراجعة أنفسنا لحظة واحدة ، وهذا ميكانيزم خبيث للغاية ( MALIGNANT ) لإنه يقود إلى تعطيل الجهد البشري وتدخله في إصلاح الخلل ، طالما كانت التهمة للآخر جاهزة وعدم الالتفات إلى إدخال الذات في معادلة التصليح ، ولذا وجب تدريب أنفسنا على قانون نفسي قاسي هو ( عدم لوم أحد ) في مواجهة أية مشكلة ، ليس لعدم وجود طرف آخر في المشكلة ، فالنزاع الانساني في العادة مزدوج الطرفين ، ولكنه التدريب على العمل في الحقل المفيد ، فأفكارنا تحت سيطرتنا ، أما اتهام الآخرين فهو _ بشكل غير مباشر _ دعوة إلى إراحة الذات من التفعيل والمراجعة وتعب إدخال التصحيح ، فهو تعطيل ( قانون الجهد ) ، بل إن ( تغيير نفوسنا ) هو طرف ( الرافعة ) الميكانيكية النفسية الاجتماعية ، كما هو عند الأطفال عندما يجلسون في الحديقة على طرفي الرافعة ، فإذا أمكن التأثير فهو من الطرف الذي يستقر عليه ثقلنا ، وهكذا فالساحة النفسية عندنا هي حقل تأثيرنا ، أما الآخر فنحن غير مسؤولين عما يعمل الآخرون ( ولانسأل عما تعملون ) ، والمسؤولية فردية ( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) ( وأن ليس للانسان إلا ماسعى ) .
الأمر الثاني : ( النجاح يعطي قدرة ( تمكن ) أعلى ) فبعد انتهاء العملية الناجحة فإنه يخرج منها بغير حصيلة الخبرة قبلها بل زيادة الخبرة الجديدة ، وكل ضربة لاتكسر الظهر تقوي أكثر كما يقول المثل .
الأمر الثالث : ( ينعكس النجاح على النفس فيعطي السعادة ) في حين أن الفشل يدخل الانسان في دوامة الحزن ويجب أن يتخلص منه بالنجاح ، وفي الواقع يجب أن نرى الديناميات النفسية في ( حقل ) متحرك ( ديناميكي ) وليس وسط جامد ( استاتيكي ) كما هو في علم الميكانيك ، وهذا نعرفه من يومياتنا العادية ، فعندما يتعرض الانسان لخطر ما فإنه يصاب بالخوف الذي يدفعه إلى شعور وحركة ، شعور بالكراهية لمصدر الخطر ، وحركة بالهرب من الخطر المحدق ، أما النجاح فيعطي شعورين مترادفين ، الأول : الثقة بالنفس التي قد تنتفخ إن لم تلجم فتصل إلى الغرور ، فتتدخل الطبيعة لتفرمل الغرور حيث يصاب صاحبها بالخطأ فالنكس فالارتداد للموقع الأول ، والثاني : السعادة الغامرة التي تنعكس على البيولوجيا إيجابياً . وهذا نراه في مضاداتها أيضاً فالغضب يقود إلى جفاف الفم وانحباس البول والامساك وخفقان القلب وارتفاع التوتر وزيادة الحركات التنفسية ، والحزن يولد الوهط والكسل والتوقف عن النشاط والكآبة والميل للعزلة والانسحاب ، ومع الكآبة يشعر الانسان كأنَّ السموم تتدفق في كل خلية من جسمه ، وأنا أعرف من الأطباء الذين بقوا تحت ضغط نفسي لفترة طويلة من أصيب بارتفاع في التوتر وانسداد شرايين القلب على عمر مبكر ، والسبب تلك العلاقة الخفية التي لم نفهمها ولم يماط اللثام عنها حتى الآن كيف تؤثر الحالة النفسية على البيولوجيا ، فوالد يوسف ( عليهما السلام ) ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، كما ارتد إليه بصره مع بشارة العثور على يوسف ( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا )
الأمر الرابع : قانون ( التراكم الكمي يقود إلى التغير النوعي ) : هناك علاقة بين الكم والنوع انتبه لها العلامة ابن خلدون في المقدمة ، وهو أمر ملاحظ في الطبيعة ، فرفع درجة حرارة الماء إذا زادت بشكل تراكمي قادت في النهاية إلى تغير نوعي في طبيعة الماء ، عندما تصل درجة الحرارة إلى درجة الغليان ، فهو يتبخر ويطير في الهواء ، كما أن انخفاض درجة حرارته إلى الصفر تقود إلى تجمده وزيادة حجمه ( خلافاً لكل العناصر التي ينكمش حجمها مع البرودة ) وهذا يعني أن التراكمات ( الممكنة ) ستقود في النهاية إلى شق الطريق لكسر المسلمات والحتميات ، فالكثير منها نحن الذين نصنعها ونمنحها الحتمية فتتحول هذه الأفكار مع الوقت إلى ( أصنام ) ، ومشركو قريش رفضوا الاسلام تحت ضغط أمثال هذه الأفكار ، وهكذا تم كسر الكثير من المسلمات عبرالتاريخ ، في النظام الفلكي ، وتحطيم الذرة ، وقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب ( بواسطة إضافة البروتونات والنترونات ، فالذهب يتحول إلى زئبق بإضافة بروتون واحد أو بالعكس فيتحول الزئبق ذهباً بسحب بروتون واحد منه ، ذلك أن قلب نواة الذهب تحوي 79 بروتون والزئبق 80 ) وإيقاف القلب وإعادة تشغيله ، وانتقال الصوت والصورة بسرعة الضوء .
الأمر الخامس : إن أخطر مرض عقلي يهدد التقدم الإنساني هو عقدة الآبائية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) أي التقليد ، فبقدر مايجعلنا المجتمع بشراً ( من خلال العادات واللغة وسواهما ) بقدر مايشكل الطوق الاجتماعي خطراً يغتال العقل الانساني ، وهذا هو السر في بطء نمو مجتمعات وتطور أخرى ، والمجتمع الياباني مااستطاع الطيران للعصر لولم يتحرر من العادات العقلية المفرملة ، وأول قفزة له كانت باتجاه الاستفادة من إضافات المعرفة الانسانية الجديدة ( ثورة الميجي - العهد الامبراطوري لعام 1868 م ) ( 6 ) وكان إدراك اليابان حاداً في أهمية الخلاص من الحذاء الصيني الحديدي ( العقلي ) ( في الصين جرت العادة آنذاك وضع قدم الطفلة الصغيرة في حذاء حديدي لايغير حتى تكبر الفتاة وهي تحافظ على أقدام صغيرة ؟!! )
تجربة نفسية محرجة
من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة قاسية فسألت الموظف : لو أُعطيت مسدساً ، ووُضِع على صدغك مسدس ، ثم طُلب منك قتل هذا الذي أنت في ضيافته ، وهو من أعز أصدقاءك ، ماكنت فاعلاً ؟؟ فإذا لم تضغط الزناد قُتلت أنت !! ..... فوجيء صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل !! .... إلا أنه اكتشف نفسه ويداه ملوثتان بالدم ، وقد تحول إلى ( مجرم ) ... عندها تدفق من فمه سيلًٌ من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لإنه ( مُكْرَه ) .
هنا تعرت الآليات النفسية تماماً وأدركنا في جو الحوار الذي لايخلو من توتر أمام كشف ( آركيولوجي ) نفيس كهذا ، في حفريات تضاعيف النفس ، أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر ، إن لم يكن هذا هو تصرف معظم الناس ، في مثل هذه المواقف الصعبة ، يشفع لها المناطق المظلمة من النفس الانسانية التي لم تشكلها الثقافة الجديدة بعد .
إن هذا المثل فظيع ولاشك ولكن هل يدخل في إطار ( الممكن ) أو ( المستحيل ) ؟؟؟!!!
هوامش ومراجع :
( 1 ) جاء في الحديث الصحيح النهي عن ( لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن ليقل أحدكم قدر الله وماشاء فعل ) لإن التمني على تغيير الماضي يعتبر في حكم ( المستحيل ) ولذا وجهنا الحديث للعمل في الحقل المفيد أي حقل ( الممكن ) ( 2 ) الفرقان الآية رقم 3 ( 3 ) الحج 73 ( 4 ) صحح ابن خلدون في مقدمته معلومة هامة عن بناء الاهرامات حين ضل بعض الناس فظنوا أنها بنيت بيد بشر عمالقة ، وقال إنها بنيت بيد بشر مثلنا تماماً ولكن الذي مكنهم من ذلك هو استخدامهم لتقنيات هندسية متطورة في عصرهم في الرفع والبناء ( 5 ) كلفت فتوى الطلاق ابن تيمية غالياً فهو الذي رأى أن الطلاق الثلاث في وقت واحد يبقى واحداً ، كما اعتبر الحلف بالطلاق يبقى في إطار الحلف وكفارته صوم ثلاثة أيام ولايقع طلاقاً ، كذلك واستناداً إلى الحديث أن الرحال لاتشد إلا الى ثلاثة مساجد ونحن نستغرب اليوم كيف ألقي في السجن من أجل هذه الآراء ليموت فيه ، بل تمت المطالبة بإهدار دمه ؟!! وهذا يشي بتناقضات الصراع الانساني وأنها قابلة للتكرار بنفس الصورة في أوقات شتى يراجع في هذا كتاب ( ابن تيمية ) لــ ( هنري لاوست ) كتاب ( آراء ابن تيمية في الاجتماع والسياسة ) وكتاب ( ابن تيمية ) سلسلة أعلام العرب بقلم محمد يوسف موسى ( 6 ) جاء في كتاب الشرق الأقصى - فوزي درويش - ص 60 النص الكامل للعهد الامبراطوري الذي دُشِّن عام 1868 م وهو مكون من خمس فقرات تقول الفقرة الخامسة ( سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم وعلى هذا النحو سوف تترسخ الامبراطورية على أسس متينة ) .
اقرأ المزيد
خَلَقَ الانسان .. علمه البيان

( معلومات مثيرة من مؤتمر تكسون حول الادراك والوعي الانساني ومنطق الطير )

في اللقاء العلمي الضخم الذي انعقد في مدينة تكسون ( TUCSON )  الأمريكية (ولاية أريزونا )(ARIZONA ) القريبة من الحدود المكسيكية في منتصف أبريل ـ نيسان من عام 1996 م الذي سافر إليه كمٌ ضخم من الفلاسفة والاخصائيين في البيولوجيا العصبية والباحثين في آليات عمل الدماغ وعلماء النفس ، تقدمت ثلاث سيدات باحثات في آليات السلوك في تطبيقات ميدانية حول فهم الوعي والنطق عند الحيوان وبداية التفاهم معه باللغة الانسانية ، وكان أكثر ماشدَّ انتباه الحاضرين ببغاء يحمل اسم ( اليكس )( ALEX ) يستطيع العد حتى رقم ستة ويستطيع التفريق بين الألوان ، كما ظهر شمبانزي يمتلك قاموسا لغويا حتى 256 كلمة ، وتقدمت السيدة الثالثة ببحث حول دلفين يتجاوب مع أنغام صفارة الكمبيوتر . كان السؤال المثير والمحير عند الفلاسفة والباحثين في آليات الوعي والادراك عند الانسان والذي سيطر على جو المؤتمر : هل يمتلك الطير منطقاً ؟ هل يوجد وعي عند الحيوان ؟ (1) أم هل يتفرد الانسان باللغة التي هي العمود الفقري للوعي ؟ ) قصة الببغاء المثير اليكس ( ALEX ) : بدأت المحاضرات في اللقاء العلمي بشكلها الاكاديمي الرتيب ، فَعُرضت مشكلة الوعي وحرية الارادة عند الانسان ، تأثير اللاوعي ، بزوغ عصر الكمبيوتر العصبي (2) وانشغل الباحثون في قراءة تدفق التيارات الكهربية القادمة من الدماغ في النوم وخلال الأحلام ، فالدماغ لاينام على مايبدو ، كل مايحدث هو تغيير طبيعة نشاطه ، كما تناقش الحاضرون حول عمل الخلايا العصبية وآليات اتصال النهايات العصبية بالخلايا ، وكيفية مرور التيارات الكهربية ؟ وعمل الافراز الكيمياوي في الخلايا العصبية ؟ ماهو الوعي الانساني عموما ؟ وأين هي الارادة ؟ وهل لها مركز محدد ؟ (3) ولكن التحدي الأكبر الذي حاول العلماء التقرب من فهمه هو المشكلة القديمة الحديثة : الوعي الانساني وكيف يتم؟   في هذا الجو فوجيء الحاضرون في المؤتمر بتقدم السيدة ايرينه بيبربيرج ( IRENE  PEPPERBERG ) وهي تحمل على يدها ببغاء رمادي اللون يذكر بقصة جزيرة الكنز والكابتن سيلفر الذي لايفارقه ببغاؤه الجميل . مالبثت أن صاحت فيه : اليكس .. عُدْ للسادة ماذا تعرف من أرقام .. لم يكرر كلماتها كما هي عادة الببغاوات ، بل بدأ في العد واحد .. اثنين .. ثلاثة .. حتى الستة . أمسكت السيدة (ايرينه) مفاتيح ملونة بيدها ثم طلبت منه : اليكس كم مفتاح أحمر اللون في يدي ؟ فصاح بلغة مشبعة بلهجة أهالي الوسط الغربي لأمريكا ؛ لهجة مدربته ايرينه : اثنين . وكم مفتاح بلون أزرق ؟ أجاب ثلاثة !! وعدد المفاتيح الصفراء ؟ أجاب بثقة : واحد .. ومالون هذا المفتاح ؟ أجاب : أخضر .. كانت إجاباته صحيحة دوماً . منطق الطير الجديد : صُعق الحاضرون لأجوبة الببغاء الحكيم ، هذه المرة لم يظهر غبياً يكرر الكلمات فقط كما هو معروف عن الببغاوات عادة . وبدأت الأرض تميد تحت أقدام السادة النخبة الذين شاركوا في المؤتمر ، فالوعي والنطق عند هذا الطير اخترق بعداً نوعياً جديداً . شعر العلماء المختصون في فهم الوعي الانساني هذه المرة بنوع من الاحساس الخفي بعدم الأمان في المسلمات القديمة ، بتفرد الانسان بالنطق بين الكائنات ، فالطير يملك منطقه الخاص ، الذي يحتاج مثل النبي سليمان عليه السلام من يفك ألغاز حروفه . وبدأ الحاضرون يتناقلون كلمات الببغاء متعجبين متسائلين كيف وصل الى هذه العتبة ؟ أين وصل قاموس ( اليكس ) الببغاء ؟ كان قاموس ( اليكس ) اللغوي قد وصل الى مائة كلمة (4) يفرق بين الألوان السبعة ، يهتدي الى خمسة أشكال من مثل المربع والمدور والمثلث والكروي ، استطاع الوصول بالعدد الى رقم ستة ، ويستطيع التفريق بين الأشياء حسب الشكل والحجم واللون ، فهذا صندوق كبير ، وذلك مفتاح أخضر ، وهذه كرة مدورة ؟!! وكان الاستنتاج مزلزلاً : هذا الطير يمتلك من الوعي مايقترب به من مستوى الذكاء الانساني لطفل عمره خمسة سنوات !! السيدة ( ايرينه بيبيربرج ) بدأت نشاطها المهني منذ حوالي عشرين عاماً كباحثة في آليات السلوك ، بزيارة الى محل يبيع الحيوانات والطيور ، حيث صادفت ببغاء رمادي اللون ، انطلقت من إمكانياته في تقليد الأصوات الانسانية ، الى فضاء معرفي جديد . كان مشروع الباحثة ( بيبربرج ) الطموح ليس صدح الكلمات وترداد الأصوات ، فهي قصة قديمة معروفة عند الببغاء ، ولكن برنامجها كان في إدخال الطير الى دائرة الوعي والفهم و( مغزى الكلمات ) التي يكررها أو تعرض عليه ، فعصرت دماغها للتفكير في ابتكار وتطوير طريقة حديثة تدرب فيها الطير على دخول هذه البوابة الجديدة ، أو بالعكس الدخول الى دائرة الطير الداخلية ، الى وعيه الداخلي إن كان ثمة وعي يمتلكه ، فالمشكلة مع الحيوان أنه عالم قائم بذاته (5) لايملك لغتنا لنتفاهم معه ، بل يجب التمكن من لغته لمخاطبته ، أو إدخاله الى عالم اللغة الانسانية كي يُعَبِّر عما يدور في نفسه ؟ طرائق التدريب لتفتيح منافذ الفهم : كانت السيدة المساعدة في المختبر تُمَرِّر أمام عيني الطير شيئاً ما قطعة فلين .. جوزة .. مفتاح .. ثم تسأله ماهذا ؟ وفي الوقت الذي تكون الاجابة صحيحة يتلقى الثناء والتشجيع وتدفع له القطعة . بسرعة اكتشفت الباحثة ( بيبربيرج ) أنها أيقظت الكوامن الخفية عند هذا الطير ، وحرضت عند هذا الببغاء الفضولي للمعرفة ، آلية التعبير عن العالم الخارجي ، وفي النهاية كان ينعق بالكلمات فلين .. مفتاح .. كرة .. بصوته الصادح المزعج . بصبر بالغ ودأب بدون حدود وبمئات الجلسات المكثفة ، كرست العالمة نفسها للحديث مع هذا الطير لاكتشاف طاقات الفهم ومنافذ الادراك عنده وتطويرها ، وكانت الخاتمة مثيرة للغاية حيث بدأ بنفسه في الرد على بعض الاسئلة المعقدة ، فعندما تعرض أمام عينيه ثلاث مفاتيح حمراء اللون واثنان زرقاء ، لايكتفي بالرد فقط بأن هذه حمراء أو زرقاء ، بل يجيب على سؤالها : ماالذي يفرق هذه المفاتيح عن بعضها البعض ؟ يجيب الببغاء اليكس فوراً وبدون تردد : الألوان !! حَدَّق الحضور في مؤتمر ( تاكسون ) مذهولين وتذكروا قصة الهدهد الحكيم مع النبي سليمان عليه السلام ، عندما حَدَّثه باكتشافه مملكة سبأ في اليمن ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين )(6) وطرح السؤال نفسه مباشرة ؟ إذا استطاعت فعلاً الخبيرة ايرينه بيبربيرج وحالفها الحظ ، أن تفتح بوابة عالم الفكر عند الحيوان والطير ، الذي كان قد حُجز للانسان سابقاً ، واعُتبر رمز تفرده ، بعد أن فشلت معايير أخرى لتفرد الانسان (7) وطرد منه أي كائن آخر ، فالحيوانات ( صفت على الدور ) ومن سيكون الحيوان القادم الذي سيُعترف له بامتلاكه الوعي ياترى ؟ السلاحف ؟ الدببة ؟ أم النمل الذي سميت سورة من القرآن باسمه . وقف الفلاسفة في المؤتمر يتساءلون إذا أردنا إنكار الوعي جملة وتفصيلاً عن الببغاء اليكس ، فكيف يمكن أن نعلل ذلك ؟ وماذا يفرق حقاً الببغاء ، حينما يفرق بين الألوان بهذه الطريقة عن جواب طفل عمره خمس سنوات ؟؟ كان تساؤل الفلاسفة وبحاثة الدماغ بمثابة نقطة تحول في تاريخ دارسي سلوك الحيوانات والطيور ، الذين لم يأخذوا اعترافا علمياً بجدية النتائج التي وصلوا إليها . لذا فإن فريق البحث العلمي المرافق للباحثة بيبيربرج انتشى وهو يرى ذهول العلماء اللامعي الاسماء وبعيدي الصيت ، وهم يتأملون هذا الطير الفصيح ، وهو يجمع بين صفتي النطق والتفكير ، التي كانت خاصية محصورة بالانسان ، وحجراً محجورا عن غيره ؟!! ماذا يجري في عالم الطير والحيوان ؟ عندما أردت حفظ علبة الحلوى بعيدا عن النمل وضعتها في مكان عال لايصل إليه النمل في تقديري ، إلا أنني اكتشفت في اليوم التالي أن علبة الحلوى ( الحلبية ) كانت مثيرة لشهيتهم أكثر من شهيتي ، فاجتمع جيش عرمرم من النمل داخل العلبة وهو يعمل بهمة بالغة في سلب مايستطيع من الحلوى المفضلة ، وهذه الملاحظة جعلتني أفكر في أنه لابد من طريقة ما يتفاهمون بها على الحلوى ومكانها حتى يتجمعوا عليها !! فهناك إذاً درجة من التفاهم والوعي الداخلي عند طائفة النمل ، فلاغرابة أن كتب الجاحظ سبعة مجلدات حول الحيوان وسلوكه في سابقة علمية ملفتة للنظر ، وأجمل مافيها تجربة النظَّام على الحيوانات وأثر الكحول على الأسد والظبي الذي كان من أظرف ماشاهد؟!! لقد تكدس لدى الباحثين في سلوك الحيوانات أكواماً رهيبة من الملاحظات من عالم الطير والحشرات ، توحي جميعها بهذا المنحى من وجود درجة من الوعي عندها ، وكان موقف العلماء السخرية من هذه الملاحظات وأنها أقرب لرواة القصص أو دعاة العلم الشعبيين ، ولكنها لاتمت بصلة للبحث العلمي الرصين . ومن الأفضل ترك مثل هذه الأمور لهواة الحيوانات أو قصص كليلة ودمنة أو لجماعة الرومانسيين . ملاحظات ملفتة للنظر من عالم الحيوان : إن الذين يدافعون عن نظرية الوعي عند الحيوان يعتمدون مجموعة من الملاحظات العجيبة ، فالدجاج البري عندما يجتمع في حفل الزواج والتكاثر في موسم اللقاح ، تقوم الانثى بالبحث بين المتقدمين للزواج منها بكل دلال ، ولفترة طويلة درس الباحثون عبثاً عن القرائن التي تدفعها لاختيار الذكر المناسب . كان خيار الانثى عجيبا فهي لاتختار الأقوى في العضلات ولا الأجمل في الشكل ، ليس أكثرهم زعيقاً ولا أكثرهم انتفاشاً بريشه ، ولاالذي تدلت حنجرة الذكورة أمامه ، كل هذا لم يكن الحاسم في اختيار الزوج ، وينكشف السر فقط في وقت لاحق بعد أن يكون مصير الزواج قد بُتَّ فيه حيث يكتشف الباحثون مذهولين أن الانثى كانت أكثر حكمة من كل تقديرات الباحثين ، أو الأشكال الخارجية للذكور المتقدمين للزواج ، لأنها اختارت أفضلهم صحة وأطولهم عمرا كي يعني بها وبفراخها . ماهي القرائن التي اعتمدتها هذه الزوجة الحكيمة ؟ وكيف تنبأت سلفاً بطول العمر ودوام الصحة للزوج المقبل ؟ إنها ضرب من الأحجية المغلقة حتى الآن في وجه الباحثين !! ذكاء الاخطبوط : كذلك تمتلك الحيوانات عديمة الفقار طاقة ذكاء غير عادية ، كما هو الحال في الاخطبوط الذي روى عنه ( جول فيرنيه ) الروائي الفرنسي قصته المشهورة ( عشرين ألف فرسخ تحت الماء ) ومثَّله الأمريكي المشهور كيرك دوغلاس ، أو في الصورة المثيرة التي عرضها الكاتب الفرنسي المرموق ( فيكتور هوغو ) في قصته الرومانسية المبكية ( عاصفة وقلب ) فهذا الحيوان الذي تمتد أذرعته الرهيبة لايُقتل بقطع أذرعته ، بل بضرب رأسه الذي يمتلك أكبر دماغ بين الحيوانات اللافقرية . ولاحظ الباحثون قدرة هذا الحيوان على التعلم والتمييز بين الكرات البيضاء والحمراء ، عندما يطوق بأحد أذرعته الكرة ويكافيء على ذلك ، فالسلوك ينمو مع مضاعفة التعزيز . وليست هذه كل القصة فحيوان آخر من نفس الصنف يتعلم من خبرة زميله بمجرد معايشته للواقعة والسعيد من وعظ بغيره . حذر الجراذين من السموم : بدأ بعض الباحثين في السلوك في التردد من استخدام لفظ الثقافة والتعلم ونسبها فقط للانسان ، فلم تعد تتداول في أوساطهم ، عندما لاحظوا أن الجرذان فيها من الحذر والحكمة بحيث تتجنب الطُعم المسموم . ليس هذا فقط بل القيام بما يشبه الدروس التلقينية لأولادها كي تستفيد من خبرتها ، فتتجنب السموم المهلكة ولو كانت رائحة الجبن منها قوية !! . جدلية الغريزة والوعي : ولكن على الرغم من كل هذه الخبرات الميدانية الموحية ومهما كانت قيمتها في الحفاظ على حياة الحيوان ، فإن الفريق الثاني الذي يدافع عن تفرد الانسان بالوعي والحرية والارادة والبيان في اللغة ، يرى أن الحيوانات تبقى أسيرة غريزتها في عبوديةٍ لافكاك منها . لاشك أن التذكر وقدرة التعلم وتجنب المهالك والسلوك الجماعي المعقد والحواس المتطورة ، ليست بالقليلة في عالم الحيوان ، ولكنها كلها مبرمجة في التصرف لاتحيد عنه قيد شعرة ، وبالتالي فإن الوعي لايتولد من حياة في مثل هذه القيود . قصص ودروس من حياة النحل الذكي : ومن المهارات المدهشة في عالم الحيوان مايتصرف به النحل عندما يقوم برقص في غاية الابداع ، لتخبر النحلة رفيقاتها على وجه الدقة ، أن هناك شجرة للزيزفون على بعد 800 متر في الجهة الجنوبية الغربية من المملكة ، وعلى وجه التحديد في مكان تصل إليه بكل سهولة ، أو عندما تبحث الخلية المهاجرة عن مكان تلجأ إليه ، فعندما تكون المملكة كلها مدلاة فمايشبه عنقود العنب ، تنطلق 500 نحلة مثل الجواسيس تعس في الأرض ، حتى تعثر على المكان المناسب ، وقد يطول هذا التحري أياماً . المهم المكان المناسب بدون تعريض حياة الخلية المهاجرة للخطر . غباء بدون حدود عند الدبور : مع كل هذا الذكاء عند النحل والتخطيط الجيد فإنه لايتعدى البرنامج المغروس في دماغها الذي لايتجاوز حجم رأس دبوس ، ولاظهار هذه الرتابة والمحدودية في التصرف فإن العالم الفرنسي ( جان هنري فابري )( JEAN - HENRI - FABRE ) قام بتجربة على الدبور الذي يهيء الطعام لنسله بقتل الصرصور بسمه ثم سحبه الى العش ، وهناك أمام العش يبقي جثة الصرصور كما هو ثم يقوم بتهيئة العش وتنظيفه قبل إيداع الطعام فيه . قام العالم بدفع جثة الصرصور سنتمترات قليلة عن مكانها ، فوجيء الدبور باختفاء الفريسة ، فلم يبحث طويلاً عن هذا المقلب ومن وراءه ، كل مافعله البحث عن صرصور جديد وقتله وإحضاره مجددا الى النفق ، وهكذا بدون أي تفكير وتمحيص عن سر الخدعة ومن يخطط لها؟  أعاد العالم الفرنسي العملية عشر مرات الى عشرين الى أربعين مرة بدون أن يستفيد الدبور من أخطاءه . كان الدبور يكرر العملية مثل الآلة بدون كلل وملل وتذمر ، وكان صبره بدون حدود مع شقاوة الانسان ؟! ولكن أين تنتهي الغريزة وأين يبدأ الوعي ؟ بل قبل كل شيء كيف يمكن العثور على الوعي وأين مركزه في الدماغ ؟ حتى لو ثقبنا جمجمة الحيوان فلن نستطيع معرفة ورؤية الوعي والتفكير وتفسير سلوكه !! المدرسة السلوكية في علم النفس _ اتجاهات في علم النفس : من هذه النقطة بالذات نشأت ( المدرسة السلوكية )( BEHAVIORISM ) في علم النفس ، فمدارس النفس تطورت على شكل موجات متلاحقة ، بدءً من مدرسة ( التحليل النفسي )( PSYCHOANALYSIS ) الذي لمع فيه فرويد النمساوي وبقية رجال المدرسة الألمانية يونج وآدلر وميننجر ، أو مدرسة ( الجشتالت )( GESTALT ) التي برز فيها فيرتهايمر وكوهلر وكيرت كوفكا وكولر ، أو الموجة الثالثة المدرسة الارتقائية التي عنيت بظاهرة ارتقاء الانسان وألمع رجالها عالم النفس ( جان بياجييه ) السويسري ، ويمكن أن يضم الى هذه المدرسة الفلاسفة الفنومنولوجيون ( المعنيين بدراسة الظاهرة الانسانية )(8) وعلماء النفس الوجودي بدءً من كيركجارد وسارتر ولينج ورولوماي ، وكانت ( المدرسة السلوكية ) الموجة الرابعة وهي التي رأت أن الانسان وعاء مغلق فلايمكن فهمه الا من خلال تصرفاته ، فيجب أن ينصب البحث على تصرفاته في محاولة لفهمه ، مثل الآلة تماماً الى درجة التحكم في تصرفاته ، حينما نفهم القانون الذي يحكم تصرفاته ، وأشهر رجال هذه المدرسة بافلوف الروسي وواطسون وباندورا والعجوز المخضرم ( سكينر ) صاحب كتاب ( تكنولوجيا السلوك الانساني ) قبل أن تظهر الموجة الخامسة في ( علم النفس الانساني )  التي رأت أن أفضل فهم للانسان هو دراسة الانسان ، بعيداً أن يكون شحنة غريزة ، أو حركة آلة سلوكية ، وأبرز رجالها أمريكيون مثل ابراهام ماسلو وروجرز وبيرلز أو فيكتور فرانكل الذي دشن نظريته في كتابه الرائع ( الانسان يبحث عن المعنى )(9) وسيكون لنا عودة خاصة للغوص في ديناميات السلوك الانساني ومدارس علم النفس لتسليح عقلية القاريء العربي المسلم بمنجزات العصر العقلية في هذا الاتجاه ، في حملة إدخال العقلية العربية روح العصر ومنجزاته . المدرسة السلوكية وإنكارها الوعي الانساني : تعرض المدرسة السلوكية وجهة نظرها على الشكل التالي :  إذا كانت النحلة ترقص فتدل على شجرة الزيزفون ، والدبور يحفر النفق لنسله القادم ، والدجاجة تختار العريس المناسب الأطول عمرا والأفضل صحة ، والجرذ يروي خبرته لأولاده في تجنب الجبن المسموم والمصيدة المتربصة ، والببغاء يحاور العلماء مذكرا بقصة الهدهد والنملة في القرآن ، كلها تحت آليات معقدة من السلوك المبرمج ، فما هو الجديد في سلوك الانسان الذي يزيد في التعقيد لاأكثر ولاأقل ؟ القضية هي في الدرجة كما في فولتاج الكهرباء الخفيف والعالي ولكن طبيعته واحدة فما يسمى الوعي الانساني ليس أكثر من وهم ( ILLUSION )؟!! . يقول العالم الأمريكي ( ب . ف . سكينر )(B . F . SKINNER ) الحجة في المدرسة السلوكية موضحاً قواعد هذا الفهم : (( مانحتاجه هو تكنولوجيا للسلوك ، فحينئذ يمكننا أن نحل مشكلاتنا بسرعة معقولة اذا مااستطعنا ضبط نمو سكان العالم بالدقة نفسها التي نضبط بها مسار سفينة فضاء ، أو تحسين الزراعة والصناعة بشيء من الثقة التي نسرع بها ذرات الطاقة العالية ، أو السير نحو عالم ينعم بالسلام بشيء شبيه بالتقدم المطرد الذي تقترب به الفيزياء من الصفر المطلق برغم أن كليهما ( السلام والصفر المطلق ) افتراضان بعيدا المنال)(10) ولكن هذا الموقف المتطرف ابتعد عنه العلماء والباحثون تدريجياً وخف الحماس للمدرسة السلوكية وخمد بريقها منذ فترة طويلة ، ولنا عودة موسعة لمدارس علم النفس في المستقبل ، ويرى البيولوجيون أن الوعي وسط يمكن بحثه بنفس أدواته . ولكن جذوره مغروسة في بقية الكائنات التي يجب دراسة الوعي ومستواه فيها . رأي العالم دونالد جريفين وخندق اللغة : إذا كانت جذور الوعي الأولى مغروسة في الطير والحيوان ، فإن إشراقة الوعي الانساني المتدرجة والفهم والادراك المتميز يجب أن تكون في رأس القائمة المهمة لأبحاث السلوك ، هذا مايدعو إليه العالم الأمريكي ( دونالد جريفين (( DONALD  -  GRIFFIN ) الباحث في علم السلوك ، ولكن الخندق الذي لايمكن القفز من فوقه هو والذي يفصل الباحثين عن مشروع عملهم هو بكلمة واحدة اللغة !! اللغة .. سحر البيان وقفزة الانسان النوعية : في الوقت الذي ينفذ علماء النفس الى تضاعيف الروح الداخلية بواسطة اللغة ، فإن الباحثين في السلوك أمام جدار شبه أصم وليس عليهم سوى استخراج الخلاصات من تضاعيف السلوك : اللغة الجديدة . قد تطلق الحيوانات بعض الأصوات ولكنها محدودة ، ويبدو أن البيان اختص به الانسان فتفوق الى أعلى عليين ، فقرود البحر الخضراء يتنوع عندها الزعيق بين ثلاثة أنواع ، في محاولة تنبيه المجموعة الى خطر نمر مفترس أو نسر محلق أو أفعى زاحفة ، كما أن القرود من نوع البابون تتفاهم ببعض الأصوات بحيث تلتقي معا في أماكن محددة ، ولكن هذه الأصوات القليلة الهزيلة لم تمنح حتى الآن مفتاحاً لدخول العالم النفسي للقردة كي يتم فهم تضاعيف النفس الداخلية . هذا الباب المغلق حاولت السيدات الثلاث في مؤتمر تكسون اقتحامه وتجلية ضبابه . الفضاء المعرفي الجديد في فهم سلوك الحيوان والطير : قدمت السيدة الأولى ( سافيج _ روم باو )(SAVAGE - RUMBAUGH ) التي تعمل في جامعة جورجيا ؛ شمبانزي صغير قفز في مفرداته اللغوية فوق مستوى الببغاء اليكس فوصل الى 256 مفردة لغوية . كلها بلهجة الخرسان ، حيث فشلت كل محاولات رفعه لمستوى أن ينطق ، ويعرف العلماء البيولوجيون اليوم أن اللغة تعتمد على أمرين لايملكها الشمبانزي أصلاً : المراكز العقلية في الدماغ المسؤولة عن القواعد ( الجراماتيك ) وتفسير المعاني ، وجهاز التصويت في الحنجرة ،  فالمراكز الدماغية هي ( بروكا ) و( فيرنيكيه ) في الدماغ ، الموجودتين في الفص الجداري في قشر المخ الأيسر عادة ، منطقة بروكا التي كشفها الجراح باول بروكا في القرن الماضي المسؤولة عن القواعد اللغوية ، ومنطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، أو ماتسمى المنطقة الحركية والحسية ، وعندما تعطب هذه المناطق لسبب أو آخر فإن المريض يتوزع بين عدم القدرة على النطق ، كما في إصابات الفالج الدماغي ، هو يريد أن يتكلم وتحضره الكلمة ومعناها ولكن لسانه يخونه فلا يقدر أن ينطق ، أو أنه يسمع الكلمات ولكنها تطير بجانب أذنه بدون أي إدراك لمعناها ، أما جهاز التصوت ففي القرد ارتفعت عنده الحنجرة ، فهو يستطيع التنفس والأكل معاً ، ولكن حنجرته تحولت الى عود مختنق فعجز عن اللحن الجميل ، أما في الانسان فغطست الحبال الصوتية للأسفل ؛ فتحول الصدر والرئتين الى عود جميل يصدر أعذب الأنغام . اعتمدت الباحثة فقط على لغة الاشارات . ويستطيع الشمبانزي الآن المدعو ( كانزي )( KANZI ) أن يتكلم فيشير الى كلمتي ( أنا جائع ) أو ( الكرة في الغرفة ) و( العصا في غرفة النوم ) كما يستطيع التعبير عن رغباته بصورة أخرى ، فيخبر مدربته ماذا يريد أن يلعب ؟ الى أين يمضي ؟ أو ماذا يشتهي ؟ حتى أنه يفهم بعض النماذج النحوية اللغوية . ويقوم بإطاعة الأوامر بشكل حاذق كما لو أخبر اذهب الى غرفة النوم وأحضر منها الكرة ثم أعط فلان وردة ، فإن الكرة الموجودة بقريه لايلمسها بل يحضر ما ُأمر به على وجه الدقة فيحضر كرة غرفة النوم (11). أما دايانا رايس ( DIANA - REISS ) من جامعة روتجرز ( RUTGERS ) ولاية نيوجيرسي فإنها تدرب دلفيناً على الاستجابة لصفارة الكمبيوتر في محاولة للحديث معه ، ولكنها لاتعرف على وجه الدقة ماذا يفهم منها ضمن عالمه المغلق ، كل مالاحظته هو حماسه لتلقي هذه الترحيبات من العالم العلوي ومحاولة تقليدها . ولعل أكثر الباحثات حظاً هي السيدة ايرينه بيبربرج بفضل تدريبها لطير يقلد الأصوات الانسانية بالأصل ، فلايحتاج الى لوح إشارات أو كمبيوتر يزمر ، ولعلها الصدفة الكونية السعيدة في الدخول الى عالم الوعي عند الكائنات من خلال هذا الطير ، الذي ينطق ويدل على قضايا رمزية مجردة كالألوان والأشكال والأعداد . جلال الدين الرومي والببغاء والتاجر الهندي : وكما كان الفيلسوف المتصوف جلال الدين الرومي يطرح أفكاره من خلال قصة التاجر الهندي والببغاء ، فيروي على لسان الببغاء بشكل رمزي أفكاره من خلال القصة (12) فإن مؤتمر تكسون الذي جمع هذا الخليط من علماء النفس وباحثو الدماغ والفلاسفة ، فإن السؤال الجوهري أمامهم ، بعد أن رأوا جرأة هذا الطير في اقتحام عالم الوعي وفهم المجردات مثل الأعداد هو توضيح سؤال جديد آخر ؟؟ ماهو حقاً لغز الوعي الذي اجتمع الكل له وانفض الجميع بدون ملامسته أو فهم كنهه .         مراجع وهوامش: (1) تأمل الاية من سورة النمل التي يصرح فيها النبي سليمان عليه السلام أنه يعرف لغة الطيور ( وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) سورة النمل الآية رقم 16 كما يذكر بعدها أنه ضحك من حديث النمل عندما تم أعلان النفير العام بالانسحاب الى الاعشاش تحت الأرض (2) على الحدود النمساوية الألمانية في مدينة جراتس ( GRATZ ) في المعهد التقني الالكتروني والطبي الحيوي ، يتم حالياً تطوير الكمبيوتر العصبي حيث يمكن أن يعمل بالارادة الانسانية بدون الفارة وبدون برامج ، بحيث يقرأ أفكارنا مباشرة بواسطة الأمواج الكهربية الدماغية التي تتدفق بشكل تيارات متلاحقة من مائة مليار من الخلايا العصبية المتوقدة في قبة السماء الدماغية  كتوقد النجوم في قبة المجرة _ تراجع مجلة ب . م . ( الألمانية )( P . M  ) العلمية عدد 3 \ 1996 م ص 10 _ 17 (3) أجرى الدكتور وايلدر بنفيلد ( WILDER  PENFIELD ) في كندا دراسة استغرقت منه حوالي نصف قرن لرسم خارطة كاملة لقشر الدماغ من خلال تطوير تقنيات حديثة على مرضى في حالة الوعي وتم تحديد معظم المناطق وأماكن عملها . الشيء الوحيد الذي كان يتملص من اليد هو عدم القدرة على تحديد مكان واضح لعمل الارادة الانسانية ، وخرج في نهاية أبحاثه في عام 1975 م بكتاب بعنوان لغز الدماغ ( THE MYSTERY OF MIND ) يراجع في هذا كتاب العلم في منظوره الجديد بحث العقل ص 35 _ تأليف روبرت آغروس وجورج ستانسيو _ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 (4) أشارت مجلة الشبيجل الألمانية عدد 20 عام 1996 م الى الواقعة في قسمها العلمي تحت عنوان أبحاث السلوك : بوابة الى عالم آخر _ ص 188 _ 190 (5) تأمل الآية القرآنية من سورة الأنعام ( ومامن دابةٍ في الأرض ولاطائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ) الآية رقم  28 (6) سورة النمل الآية رقم 22 (7) اعتبر مثلاً أن الانسان تفرد باستخدام الأدوات وتم العثور على العديد من الحيوانات التي تستخدم الأدوات في غذائها كما في ثعالب البحر عند سواحل كندا في المحيط الاطلسي حيث يغوص في الماء فيصطاد السرطان ثم يضع الحجر على بطنه ثم يضرب السرطان به _ براجع في هذا كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم لمعرفة رقم 67 فصل قرد أم ملاك ص 7 (8) كتاب الانسان وعلم النفس _ تأليف عبد الستار إبراهيم _ سلسلة عالم المعرفة رقم 86 بحث الاتجاهات النظرية العامة لعلماء النفس ص 54 (9) كتاب الانسان يبحث عن المعنى وهو كتاب أكثر من رائع يهز قارئه تماماً فهي خبرة جاءت من جحيم المعتقلات النازية وفيها خسر زوجته الشابة _ تأليف فيكتور فرانكل _ نشر دار القلم _ ترجمة طلعت منصور (10) تكنولوجيا السلوك الانساني _ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 _ ترجمة عبد القادر يوسف _ ص 6 وأصل الكتاب باللغة الانكليزية ماخلف الحرية والالتزام (  BEYOND  FREEDOM  AND  DIGNITY  BY B . F . SKINNER )(11) مجلة الشبيجل عدد 43 عام 1995 م ص 152 (12) كتاب ( المثنوي ) الذي استفاد منه المفكر والفيلسوف الاسلامي محمد إقبال ، وكان يكرر دوما  هذه العبارة في المثنوي :  ذا حديث ماله من آخر فلنعد الى حديث ذلك التاجر .   كيف نطق الإنسان ؟   تيك ( TIK ) هل هي الكلمة الأولى التي تمكن الانسان من نطقها ؟ هذا مايدعيه على الأقل باحث أمريكي معاصر في دراسة اللغات وعلم الالسنيات ، ولكن هذا لايفسر على الإطلاق لماذا بدأ الانسان في النطق ؟ وكيف بدأ رحلة التعبير ؟ ومتى بزغ عصر الكلمة ؟ فاختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تدب على البسيطة . ما أهمية التعبير ؟ وماهي أهمية اللغة في علاقة الانسان بالواقع ؟ مامعنى الترميز ؟ ماهي وظيفة اللغة ؟ مامعنى النطق عند الانسان ؟ وماعلاقة التصويت باللغة ؟ بل ماهي فلسفة اللغة ؟ ومامعنى الاسماء التي تعلمها آدم ؟ إن كل هذه الاسئلة الضخمة والمصيرية فجرت في الوقت الراهن مجموعة من العلوم الجديدة كان أهمها علم الالسنيات ( LINGUISTICS )  . عندما أراد القرآن توثيق فكرته ، قال عنها إنها تشبه في الحق الذي تحمله نطق الانسان ( فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثلما أنكم تنطقون )(1) فما هو هذا النطق الذي اعتمدته الآية كمصدر لتوثيق الحق ؟ وماهي الاسماء التي عجزت عن علمها الملائكة وأنبأ بها آدم ؟ تجربة الفرعون بساميتك الأول ( PSAMMETICH   I ) : استولت فكرة عجيبة على ذهن الفرعون لم تغادره ليلاً نهاراً مفادها لو تركنا الأطفال بدون أن نعلمهم لغتنا فهل سينطقون باللغة الأصلية للانسان ؟ وهل ستكون نفس اللغة الهيروغليفية أم ستكون متباينة ؟ وإذا اختلفت فأي لغة ستكون ؟ كان ذلك قبل 2600 سنة من الآن  فانطلق الفرعون ( بساميتك الأول ) بعد أن استولت عليه الفكرة تماماً  الى ميدان التجربة اللغوية ( الالسنية ) . يذكر المؤرخ اليوناني ( هيرودوت )( HERODOT ) عن هذه التجربة المثيرة أن الفرعون أخذ طفلين حديثي الولادة فدفعهما الى عائلة راعي تحت رقابة مشددة ، بحيث تم تغذية الطفلين بدون لفظ كلمة واحدة لهما ، وكان الفرعون يتفقدهما شخصياً ليرى نتائج تجربته ، ولعل هذه التجربة الالسنية الأقدم في هذا الاتجاه ، لمعرفة أصل اللغات بواسطة التجربة البشرية (2) وبعد مرور سنتين تذكر الرواية أنهم نطقوا شيئاً يشبه لفظة ( بيكوس )( BEKOS ) وعندما سأل الفرعون الحكماء حوله عن شعبٍ ينطق هذه اللفظة ، ذكروا له الشعب ( الفريجي )(PHRYGIER ) الذي يعيش في آسيا الصغرى ويعرفه المؤرخون أنه كان من الشعوب الهندية الجرمانية (3) وأن هذه الكلمة تعني الخبز في لغة الشعب الفريجي ؟!! فهل لغة هذا الشعب هي فعلاً أصل كل اللغات ؟ لو صدق هذا لحُلت هذه المشكلة بأبسط السبل ، ولكننا نعلم اليوم أن الشعب الفريجي الذي كان يعيش قبل ثلاثة آلاف سنة ليس شيئاً في عمر الزمن مع الانسان ، الذي أثبتت عظامه المرمية في طبقات الأرض في شرق أفريقيا ، أنه يعود ليس الى خمسة آلاف سنة ؛ بل خمسة ملايين من السنين ؟!!  هذه الفكرة التي استولت على الفرعون المصري قديماً تحركت مرة أخرى في العصور الوسطى ، على يد حاكم مستنير حكم صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي ، محب للعلم ، متأثر بالثقافة العربية ، ويتكلم لغة الضاد ، لغة الثقافة العالمية في ذلك الوقت ، أراد أن يعرف بدوره أصل اللغات هل هي اللغة العربية أم العبرية أم السنسكريتية أم سواهم ؟ تجربة القيصر فردريك الثاني : يذكر العالم الأمريكي ( بيتر فارب )( PETER  FARB ) صاحب كتاب بنو الانسان ( HUMAN  KIND ) تجربة قاسية أجراها هذا الملك الموهوب الفنان الشاعر وبنفس طريقة الفرعون السابق ، فدفع عدداً من الأطفال حديثي الولادة الى من يهتم بأمر الغذاء والنظافة دون أن يتكلم معهم بحرف من نداء أو مناغاة . وكانت النتيجة صاعقة لأن الأطفال _ خلافاً لما روى هيرودوت المؤرخ اليوناني _ ليس فقط أنهم  لم ينبسوا ببنت شفة ؛ بل قضوا نحبهم فماتوا بالجملة ، متأثرين من هذه التجربة المدمرة !! (4) تجربة ملك سكوتلاند يعقوب الرابع ( JAKOB - IX - OF SCOTLAND ) : تروي المجلة الألمانية المعنونة ( معجزة التطور )( P . M . P . DAS WUNDER DER EVOLUTION  ) قصة مشابهة أخرى مثيرة قام بها ملك سكوتلاندا قديماً  ، بعد ثلاثة قرون من تجربة الملك فريدريك الثاني حاكم صقلية ، لاكتشاف جذر اللغات واللغة الأصلية ، التي تحدث بها الانسان ، تحت وهم أن نطق الانسان كان بالأصل موحداً ، وأن اللغة في حالة كمٍ ثابت غيرِ متطور ، ويزعم مراقبو التجربة أنهم أي الأطفال تكلموا في خاتمة المطاف اللغة العبرية ، ولاغرابة لأن أهل كل ثقافة يعتبرون لغتهم هي سرة العالم وأصل اللغات وسر الكون وأنهم أفضل ماخلق الله ، ولكن تجربة الصبي ( فيكتور ) التي برزت الى السطح في القرن التاسع عشر هزت الأوساط العلمية ، ونحن نعرف اليوم طائفةً من الحقائق المزلزلة حول المشكلة الالسنية . قصة الصبي فيكتور والدكتور ايتار : جاء في المجلة العلمية الألمانية ( الاتصالات )( P. M . P . KOMMUNICATION )(5) أن طفلاً عاش في الغابة وحيداً في ظروف غامضة ، قريباً من مدينة أفيرون الفرنسية ( AVEYRON ) حتى بلغ الثانية عشر ، ثم استسلم في الشتاء القارس ليد الناس في عام 1799 م في ظروف صعبة طلباً للدفء والغذاء ،  وخضع بعدها لفحص وتدريب متواصلين من إجل إدخاله الحظيرة الانسانية ؛ فالطفل كان كالحيوان تماماً (( كان طفلاً قذراً الى حد يثير الاشمئزاز ، وكان يهز جسمه جيئة وذهابا كما لو كان قردا في حديقة الحيوان ، وتعتريه حركات تقلصية ، كما كان يعض ويخدش بأظافره من كان يحاول إطعامه دون أن يظهر محبة نحو أي انسان ))(6) ولكن الشيء المزلزل في القصة كان موضوع اللغة ؛ فالفلاسفة الفرنسيون الذين عاينوا ظاهرته المحيرة وعدم قدرته على النطق والتواصل مع الانسان ؛ افترضوا أنه أبله قاصر العقل ، ولكن الدكتور ( جين مارك كاسبار إيتار ) خالفهم في ذلك لعدم وجود سابقة من هذا النوع ، فركز كل جهوده على فهم هذا الانسان الجديد ، واعتمد طريقة الخطأ والصواب ، وحاول جهده في ابتكار العديد من الطرق في محاولة ( تحضير ) هذا الطفل ورده الى المجتمع الانساني وتمكينه من اللغة التي هي سمة الانسان الأولى . الخلاصة المزلزلة في علم الاجتماع : استطاع الدكتور ( ايتار ) بعد سنوات من الجهد المكثف أن يعلمه بعض الانماط الانسانية ، فبدأ يحسن الجلوس وارتداء الملابس وتناول الطعام وقضاء الحاجة ، ولكن الشيء المعند الذي لم يستجب له مع كل المحاولات هو النطق ، فهذا الطفل ذو الاثني عشر عاماً تقريباً بدأ يفهم بعض الألفاظ الفرنسية ، ولكنه لم يستطع التكلم بها رغم كل المحاولات ، ووصل بذلك الدكتور ايتار الى هذه الخلاصة الصاعقة ، أن العزلة الاجتماعية في السنوات الأولى من العمر تركت عنده مصيبة لم يعد بالإمكان إصلاحها قط فكتب يقول : (( يأتي الانسان الى هذا العالم بدون قوة جسدية ، وبدون أفكار تولد معه ، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الاساسية التي ترفعه الى قمة المملكة الحيوانية ، ولايستطيع الوصول الى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة الا إذا كان في وسط مجتمع ، وبدون حضارة يكون الانسان واحداً من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاءً )(7) الانسان يسبح بين معادلتين : المعادلة البيولوجية والاجتماعية : إذاً فقصة حي بن يقظان وروبنسون كروزو تبقى للاستهلاك غير المجدي ، فالصبي حي بن يقظان الذي تصوره الفيلسوف الاندلسي قديماً ( ابن طفيل ) الذي عاصر الفيلسوف ابن رشد ، كان في وهمٍ كشفه علم الاجتماع حالياً ؛ أن المجتمع هو الذي يجعل الانسان بشرا سويا ، وبدون المجتمع لايتكون الانسان ، ولايصبح الانسان انساناً ، واللغة التي ننطقها تشبه قاعدة ( الدوس )( DOS ) في الكمبيوتر ، والتي على أساسها يمكن تعلم اللغات بدون حصر ، بل يصبح تعلم كل لغة جديدة أسهل من التي قبلها ، خلافاً لما يتوهمه البعض من العبقرية المفرطة عند من يتكلم ثمانية لغات ، ففي منطقة الجزيرة في سوريا يوجد مالايقل عن سبعة لغات ، تزحف بجانب بعضها البعض في التعامل اليومي ، من الكردية والعربية والتركية والسريانية والكلدانية والآشورية والارمنية ، بالاضافة الى مالايقل عن عشرة لهجات محلية بين لغة أهل الداخل واللهجة المحلية ولهجة البدو ، يضاف إليها بضع لغات محدودة جانبية ، مع كل الفرق الدينية بما فيها الفرقة النسطورية ( المسيحية ) المنقرضة التي تحمل اسم الكلدان اليوم ، فمدينة ( القامشلي ) تشبه بهذا التنوع المذهل من اللغات واللهجات والاثنيات والأديان المتحف الحي . إن الصبي ( حي بن يقظان ) الذي كان يبني عليه فلسفته المفكر الاندلسي ( ابن طفيل ) سوف يفاجيء أن ممثل روايته سيكون أقرب الى الحيوان ، بل سيبدو كحيوان بئيس ، لأنه عاش لوحده مع الغزالة، فالانسان يأتي الى الدنيا بالمعادلة البيولوجية ، ولكنه يصبح انساناً بالمعادلة الاجتماعية . المجتمع يشكل الثقافة _ يعلِّم اللغة _ يمنح الحظوظ الدنيوية :    وأكثر من ذلك فإن المعادلة الاجتماعية تتنوع من مجتمع لآخر ، ولذا فحظوظ الانسان في الدنيا هي من المجتمع الذي ينتسب إليه أكثر من كفاءته الشخصية ، فجراح الأوعية في أمريكا يأتيه دخل يصل الى قرابة مائتي ألف دولار في السنة على الأقل ، ولكنه في مصر لايصل الى عشر معشار هذا المبلغ ، وينطبق هذا الكلام على حاملي جنسية البلد وتنقلهم في العالم ، حيث يتمتعون بهذه الامتيازات سلباً أو إيجاباً ،  التي منحهم أياها المجتمع الذي أعطاهم عضوية الانتساب للبلد . فكما أن المجتمع يجعلنا بشراً أسوياء ، كذلك المجتمع يمنحنا حظوظاً مختلفة في هذه الدنيا ، فالذي يولد في بنغلادش غير الذي يولد في ألمانيا واليابان ، وهذه مرتبطة بدورها بقَدر المجتمع في مرحلة ما ، فالذي يولد في المجتمع الألماني الآن ، غيره الذي يولد في مطلع القرن العشرين في هامبورغ في ظروف عمل قذرة ، أو في أيام الحروب العالمية ليموت في ساحات المعارك المهولة مثل الجبهة الروسية في الصقيع القاتل . المجتمع هو الذي يعطينا اللغة ، هو الذي يمنحنا الحظوظ الدنيوية . هو الذي يشكلنا ثقافياً . فالذي يولد في اليابان سيتكلم اللغة اليابانية ويؤمن بالعقيدة البوذية أو الكونفوشوسية ، ومن يولد في بافاريا في ألمانيا سينطق الألمانية ويدين بالمسيحية في أحد جناحيها الكثلكة أو البروتستانتية في الأغلب ، ومن يولد من رحم امرأة يهودية سيتشكل سيكولوجياً في الأغلب بكل التراث اليهودي وإشكالياته ، ومن يولد في جنوب العراق سيكون شيعياً ، ومن يولد في شمال العراق سيكون تركمانياً أو كردياً ، ومن يولد في الاناضول قد يقتل في إحدى هجمات جيش العمال الكردستاني من أجل بناء دولة كردية ، من حيث يعلم أو لايعلم ، وهذه ليست فكرة قدرية بل هي حقيقة دامغة ساحقة ، فالمجتمع يشكلنا إن أردنا أم لا ، رغبنا أم رفضنا تحت قوة خفية ساحقة ماحقة لارد لها . ولعل هذا يلقي ضوءً على بعض أسرار آية التغيير في القرآن ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) حينما يعتبر أن التغيير الاجتماعي لايتم بشكله الفردي بل بكم جماعي وكتلة حرجة أي تشكل تيار اجتماعي مسيطر ، بل إن الفرد الذي يسبح ضد التيار يتعرض للتمزيق والتدمير بحس الدفاع الاجتماعي وهو أمر طبيعي ، فالآية واضحة أن التغيير لايتم بصورة فردية ( حتى يغير ) بل لابد من الكم الجماعي ( حتى يغيروا ) ونفهم من نهاية الآية أن الزلزال الاجتماعي حينما يقع فلامرد له ولامفر منه ( وإذا أراد الله بقوم سوءً فلامرد له ومالهم من الله من وال ) على صورة القدر الاجتماعي الذي شرحناه. إن هذه الحقيقة مزلزلة وتقلب الرأس فعلاً ، فالانسان يتشكل ويصبح انسانا ً فقط عندما يتصل بالمجتمع ، والانسان ينطق باللغة فقط عندما يعيش ضمن الوسط الانساني ، فاللغة والنطق هما مزيج من الوراثة والكسب الاجتماعي ، فالقرد لوعاش بين البشر لن ينطق ، كما أن الانسان لو عاش خارج الجماعة بين القرود لن ينطق ، وتأتي حقيقة رهيبة أخرى من قصة الصبي ( فيكتور ) وهي أن المرحلة التي تزرع فيها اللغة في دماغ الانسان ، حاسمة للغاية وهي السنوات الأولى من عمر الطفل ، فالطفل ينطق قبل أن يقرأ ، ويتعلم اللغة سماعياً ، وعندما يتجاوز هذه المرحلة فلايتعلم اللغة ؛ فإنها تفوته والى الابد بغير رجعة . نظرية العالم الأمريكي ( جرينبيرج ) حول أصل اللغات : والآن هل هناك لغة ( أم ) ترجع إليها كل اللغات ؟ إن كل أمة ترى أن لغتها هي سرة العالم ومحور التاريخ ، ولكن الفيلسوف افلاطون ذهب الى أن كل لغة هي اختراع انساني قائم بذاته ، واليوم لاتوجد نظرية موحدة حول وجود ( لغة أم ) ترجع إليها كل اللغات ، إلا أن عالم الالسنيات الأمريكي ( جوزيف جرينبيرج )(JOSEPH - GREENBERG ) وهو من علماء اللغة المرموقين يدافع عن نظرية ( وحدة الجذر)( MONOGENETIC ) قام بمسح عملاق لذخيرة الألفاظ وبعض القواعد النحوية الثابتة في مئات اللغات ، في محاولة لوضع ضابط بين كل هذه اللغات العالمية التي تم مسحها . إن التصنيف الذي اقترحه جرينبيرج ليس بدون نزاع بين علماء الالسنيات ، ولكن العالم الأمريكي يصر على أن لغات العالم التي تصل الى خمسة آلاف لغة في المتوسط ، تعود كلها في النهاية الى لغة أم مشتركة واحدة كما نعود نحن في النهاية الى أم واحدة ، بل ذهب في تصوره الى أبعد من ذلك فقال إن الكلمة التي لها أصل في كل اللغات هي لفظة ( تك ) وهي حسب الترجمات المنوعة بين اللغات تصير الى معاني لانهائية وكلها موجودة ككلمة في كل اللغات من واحد... الى بعض .. أصبع ... ذراع .. والى معنى أشار بأصبعه !! اللغة كمٌ نامي متطور عبر الزمن : ونظراً للوقت الرهيب الذي مر على الانسان عبر الأحقاب ، ونظراً لارتباط النطق بالدماغ وجهاز التصويت المكون من الحنجرة والحبال الصوتية والبلعوم والأنف ، فإن الأثر الانثروبولوجي الذي يتم العثور عليه من العظام والجماجم لايستطيع الإفصاح بشكل أكيد عن سر النطق عند الانسان متى بدأ ؟ وكيف بدأ ؟ وكيف كانت مسيرته على العموم ؟ نظراً لارتباط النطق بأعضاء تفنى وتندثر بعد موت صاحبها . ولكن الذكاء الانساني احتال على المشكلة مرة أخرى بشكل غير مباشر ، كما روينا سابقاً في قصة الكربون 14 وساعة البوتاسيوم الأرغون الكونية ، أو كما فعل الباحث الانثروبولوجي الهولندي ( فريد سبور )( FRED - SPOOR ) الذي يقوم في جامعة لندن بدراسة مشكلة انتصاب الانسان ، من خلال دراسة الأذن الباطنة في الجمجمة التي تملك جهازاً رائعاً بالغ الاتقان مسؤول عن آلية الاتزان عند الانسان، وبالتالي تشير الى انتصابه من عدمه ، حيث درس حوالي عشرين جمجمة ، وكلها دلت على تشابه ( الانسان المنتصب )( الهومو_ ايريكتوس ) معنا ، خلاف باقي الكائنات ، ويعود الى حوالي مليون ونصف من السنين (8). دراسة الجمجمة بالكمبيوتر تدل أيضاً على تطور الدماغ مع الزمن من خلال انطباعاته التي تترك أثرها على باطن عظام الجمجمة ، ونظراً لوجود مراكز النطق في القشرة الدماغية اليسرى وأعضاء التصويت في أسفل الجمجمة ؛ فيمكن الاستدلال بشكل غير مباشر على الحدث الانثروبولجي عبر الزمن . اللغة والواقع _ اللفظ والمعنى : بقي أن نقول أنه مع الزمن تكسرت اللغات وتفرعت الى مالانهاية ، واللغة كائن ينمو مع الزمن سواء في المحتوى أم الشكل ، وأمة لاتطور لغتها تعتبر في حكم الأمة الميتة ، لأن تطور اللغة يعني الحياة ، فالحركة والنمو دليل الحياة ، والجمود والتحنط دليل الموت والفناء (9) ونظراً لهذا التطور المستمر في اللغة فلاغرابة من نشوء نظريات مختلفة حول أصل اللغة ، هل كانت من لفظة تيك أو تونج أو سونج أو سواها ، فإمكانية الوصول الى اللغة الأولى النموذجية ( PROTOTYPE ) هي في حكم المستحيل ، والأقرب أن اللغة هي أمر اصطلاحي ، وأن اللفظة لاتشع بالمعنى بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، فالكلمة كالقمر تعكس المعنى ، والمعنى كالشمس التي ترسل أشعتها ، أو على حد تعبير الفيلسوف المتصوف ( الغزالي ) الذي عاش في القرن الرابع الهجري ( 450 _ 505 هـ ) في كتابه المستصفى من أصول الفقه : أن من أراد أخذ المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد المغرب وهو يستدبره ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا (10) ولنا عودة لهذا البحث لاحقاً في فهم علاقة اللغة بالواقع ، فهناك دراسات في الوقت الحاضر تمشي باتجاه توليد المعاني من الألفاظ بدون حدود كما في السيرك والبهلوان الذي يخرج من قبعة الاخفاء مايريد من مناديل وأرانب ، مثل كلمة ضرب في القرآن ، أو اتجاه أن اللغة عندما تشكلت كانت انفعالاً كاملاً للواقع الحقيقي (11) بمعنى أن معرفة اللغة بجذورها الأولى سيقودنا لفهم أسرار الكون دفعة واحدة ، وفي تقديري أن الطريقة الأولى على الرغم من إغراءها لاتقود الى الحقيقة ، والثانية فيها عدم الأخذ بعين الاعتبار تدرج مرور الحقيقة الخارجية الى صورة ذهنية ؛ فالتعبير عنها الى الآخرين فكتابتها ، فالوجود الموضوعي يمر بــ ( فلترة )( FILTERATION ) ذات أربعة مستويات ، وكلها تدرجات وانكسارات محفوفة بمخاطر الانزلاق العقلي الكبرى ، فرؤية الشيء لاتعني أبداً أن الصورة الذهنية تساوي الحقيقة الخارجية ، والا لماذا حرق الناس من أجل رأيهم أن الشمس لاتدور ؛ بل الأرض هي التي تمشي في مدارها حول الشمس ؟!  كذلك فإن تصوراً من هذا النوع سينهي الخلاف الانساني دفعة واحدة ، طالما كانت رؤية الوجود الموضوعي يقود الى تصور ذهني واحد لجميع الناس ، إن القضية ليست بهذه البساطة كما نرى إذاً. إن منتقدي نظرية جرين بيرج حول أحادية الجذر يرون أن اللغة متعددة الجذور ، وأنها نشات في أماكن شتى في العالم ولاعتبارت اصطلاحية ، حيث انتقل الانسان من لغة الاشارات باليدين الى الترميز ، ومازالت حركات أيدينا وتعبيرات وجوهنا بواقي تلك اللغة القديمة البدائية قبل انتقال الانسان الى الترميز المجرد . ولكن كيف يتكلم الانسان حقاً ؟ وماهي أدوات التصويت ولماذا يتكلم الانسان وتخرس بقية الكائنات ؟ نظرية عالم اللسانيات نعوم تشومسكي(12): يرى العالم الأمريكي تشومسكي (NOAM - CHOMSKY ) عالم الالسنيات أن السر يكمن في إضافات خاصة للانسان مكنته من التصويت ، فالنطق يعتمد جهازين واحد للانتاج وآخر للإطلاق ، الأول عقلاني منظِم في منطقتين ، واحد لتنظيم القواعد الجراماتيك ، والثاني لتفسير المعاني . وجهاز التصويت فيزيائي بحت ، يعتمد إطلاق الصوت وتقطيعه وصدمه ونفخه في أماكن شتى بين الحلق والفم ، الرغامى والبلعوم ، الأنف والشفاه وتجاويف الجمجمة ، وهذه قد غُرست فينا بشكل جيني مختلف عن كل الكائنات ، فأما جهاز انتاج النطق أي كمبيوتر الكلمات فهو الدماغ ، ولقد عُرف أن الفص الجداري الأيسر يملك منطقتين منفصلتين لتنظيم الكلام ، الأولى مختصة بالتنظيم القواعدي والنحو والصرف وهي المعروفة بمنطقة (بروكا BROCA ) نسبة للجراح ( باول بروكا ) أول من أشار إليها عند أصابة الانسان بها والآثار المأساوية المترتبة على ذلك ، فهي تعطي الأوامر للحلق والحبال الصوتية بتقطيع الهواء ولللسان بالتقعر أو التجوف ، الاندفاع للأمام أو الاختباء للخلف ، وللفم بالفتح أو الانقباض ، وللأسنان بالتقارب أو التباعد ، في سيمفونية من أعجب ماخلق الله ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون ) فالنطق يبدأ من الرئتين مثل المنفاخين في قذف الهواء ، ليمر الهواء على حبال تهتز فتعطيه تردد وتر العود في الشدة المطلوبة ، لينصدم بعد ذلك على مسارات مختلفة تعطيه الأنغام بدون نهاية . أما المنطقة الثانية الحسية في قشر الدماغ الأيسر فهي منطقة ( فيرنيكيه ) المسؤولة عن تفسير معاني الكلمات ، وكلا المنطقتين مترابطتين بجسر مدهش من التعاون  فالدماغ يعمل كوحدة كلية ، ولنا عودة تفصيلية في بحث الدماغ وعلاقته بالنطق واللغة والتفكير . الاعتراضات على نظرية تشومسكي : اعتبر نعوم تشومسكي أن الانسان يتفرد باللغة ، وأن اللغة حققت له تفوقاً نوعياً ، ولكن الاعتراضات توافدت في صورة تجارب ميدانية ليس آخرها مؤتمر ( تكسون )( TUCSON ) الأخير في ولاية أريزونا ، الذي عقد في أبريل من هذا العام ، عندما تقدمت السيدة ( ايرينه بيببربيرج )( IRENE - PEPPERBERG ) ببغاء يعد حتى الستة ويفرق بين الألوان والأشكال في صورة تجريدية ، كما أن فريقاً من العلماء أخذ الصغار الرضع للشمبانزي ، وبدأ في تربيتهم مثل الأطفال تماماً وبعد جهود سنوات استطاعت القرود تناول الطعام في صحون ، وقضاء الحاجة في تواليت ، وغسل أدوات الطهو ، ولكن كل الجهد المصبوب لم يصل الى درجة النطق عند الشمبانزي ( فيكي )( VICKY )سوى أربعة كلمات ( ماما .. بابا .. كاسة .. أعلى )( MAMA .. PAPA .. CUP .. UP.. ) تجربة آلان وبياتريكس جاردنر مع الشمبانزي واشو : عمد الباحثان ( جاردنر )( ALAN&BEATRIX - GARDNER ) بعدها الى تجربة جديدة بعد الفشل الذريع في أي نطق للشمبانزي باعتماد طريقة التكلم مع الصم البكم ( لغة الاشارات )( AMERICAN - SIGN - LANGUAGE = ASL ) واستطاعا تحقيق إنجاز كبير في هذا الصدد وكذلك السيدة ( سافيج راوباوم ) من جامعة جيورجيا مع الشمبانزي كنزي ، فأما شمبانزي الزوجان جاردنر ( واشو )( WASHOE ) فقد وصل الى 132 مرادفة ، وأما كانزي وهو انجاز جديد فقد قفز الى 256 كلمة ، ولكن الشيء المؤكد في هذا الانجاز أن إمكانية الشمبانزي توقفت عند هذا الحد بمايشبه الاختناق ، في مستوى عقل طفل لايزيد عن عامين ، في جمل محدودة للغاية من مثل : أنا جائع _ الكرة هناك وهكذا . فالحيوان دخل الى عالم الكلمة ولم يبقى الانسان متفرداً الا في المدى والكم ، فالببغاء أخذ عقل طفل في الخامسة والشمبانزي فهم طفل في السنتين . كيف تخرج الكلمات ؟ يرى الباحث الأمريكي ( فيليب ليبرمان )( PHILIP - LIEBERMAN ) في علم الأصوات (PHONETIKER ) الذي يعمل منذ ثلاثين سنة على فهم آلية تطور اللغة أن تمفصل ( ARTICULATION ) جهاز النطق والتمكن من إخراج الكلمات شيء سحري حقاً ، فخلق الانسان اعتمد قاعدة في غاية الجمال ، فجهاز التصويت لم يلجأ الى فتح ثقوب جديدة في الرأس ، بل استفاد من نفس فتحات الطعام والشراب ، ففي الوقت الذي تستفيد الحيوانات الثديية من الفم في الطعام والحلق للتنفس ، فإن حلق الانسان برزت فيه صفة تقدمية للغاية وهي دفع الحنجرة للأسفل ، وتحويلها الى جهاز نطق على حساب ( الشردقة ) في الطعام ، فالانسان لايستطيع أن يتكلم ويأكل بنفس الوقت خلافاً للقرود التي تسطح عندها الفم والبلعوم وصعدت الحنجرة الى الأعلى ، فالقرد يتفوق علينا بأنه يستطيع المضغ أفضل ، ويأكل ويشرب في نفس الوقت الذي يتنفس فيه ، في حين تراجعت هذه الصفة عند الانسان لينمو جهاز النطق الرائع من نفس مستودعات الأكل والشرب ، ليصبح كياناً واعياً ناطقاً يعبر عن نفسه ويحقق الاتصال بغيره ويفكر بواسطتها فاللغة لها ثلاث حقول جبارة : إمكانية أن يخرج مابداخل الانسان الى خارجه بالتعبير ، وبواسطة الاتصال مع بني جنسه من خلال الترميز برزت الحضارة للوجود ، واللغة ثالثاً هي أداة التفكير وفهم العالم كما أشار الى ذلك الفيلسوف الألماني هومبولدت (HUMBOLDT )(13) مابين رحلة نفثة الهواء من الصدر الى استقرار المعنى في الذهن يعمل جهاز عملاق من التنظيم العصبي حتى يتم تدفق الحروف وتآلف الكلمات وانسياب الجمل وتتابع الأفكار ، تتعاون فيه سبع عشرة عضلة في اللسان وثلاثة أعصاب في الرأس وحزام متدفق من السيالة العصبية ، مع مركز مستقر في نصف الدماغ الأيسر ينظم تدفق الحروف ، من خلال تنظيم عملية التصويت لأخراج النغم المناسب والكلمة المتزنة ، فالكلمة ملك لك قبل أن تنطقها فإذا نطقتها ملكتك هي ، والكلمة مسؤولية وليست خروج هواء بل هي إفراز عصارة الفكر ، ولذا تباينت ثقافة عن ثقافة في اختيار الكلمات وتحمل مسؤوليتها .         هوامش ومراجع (1) سورة الذاريات الآية رقم 23 (2) ذكرت القصة بالكامل في المجلة الألمانية العلمية ( P . M . PERSPIKTIVE - DAS  WUNDER DER  EVOLUTION - 044 \ 96 ) ص 72 (3) جاء هذا التعريف في القاموس الألماني ( WAHRIG  -  DEUTSCES - WOERTERBUCH ) ص 2722 (4) كتاب بنو الانسان _ تأليف بيتر فارب _ ترجمة زهير الكرمي _ سلسلة عالم المعرفة _ رقم 67 _ ص 12_13 يقول صاحب الكتاب (( وكان هدفه من إجراء هذه التجربة معرفة ماإذا كان الأطفال سيتكلمون اللغة العبرية التي كانت الأقدم أو اليونانية أو العربية أو اللغة المحلية في صقلية التي يتكلمها آباؤهم وأمهاتهم ، ولكن جهده ذهب عبثاً إذ مات جميع الأطفال الذين دفع بهم الى التجربة ، ذلك أنهم لم يستطيعوا العيش بدون تدليل المرضعات ورؤية وجوه باسمة وسماع كلمات أو أصوات تشعرهم بالحب والحنان ))(5)المجلة المذكورة ( الاتصالات ) عدد 12 عام 1989 م ص 37 المقالة عن النطق عند الحيوان والانسان بقلم ( P . J . BLUMENTHAL )(6) راجع القصة المثيرة في الكتاب السابق بنو الانسان ص 10 (7) نفس المصدر السابق ص 11 (8) مجلة الشبيجل عدد 42 عام 1995 م ص 238 (9) في مشروع عابد الجابري المفكر المغربي في كتابه دراسة بنية العقل العربي يصل الى هذه المحصلة المؤسفة من توقف فضاء النمو في اللغة العربية (10) كتاب المستصفى من أصول الفقه _ الغزالي _ الجزء الثاني ص 23 (11) يراجع في هاتين النقطتين كتاب شحرور القرآن والكتاب وكتاب محمد عنبر جدلية الحرف العربي (12) يعتبر نعوم تشومسكي عالم مرموق في اللسانيات ، كما أنه ناقد اجتماعي سياسي قوي ، ولعل كتابه ردع الديموقراطية أو فبركة القرار من الكتب التي تكشف عورة الديموقراطية الغربية  (13) كتاب فلسفة اللغة _ تأليف الدكتور محمود فهمي زيدان _ نشر دار النهضة العربية ص 57 (( عند همبولدت الذي رأى أن اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل أفكارنا الى الآخرين ولكننا لانستطيع إدراك العالم أو معرفته الا عن طريق اللغة وهذا الادراك مستحيل بدون استخدام اللغة )) ويعلق المؤلف على ذلك بقوله : ان الانسان بلغ انسانيته حين استخدم اللغة فالنطق ليست مهمتها توصيل المعلومات بين فرد وآخر وإنما هي التي تحدد تصورات العقل .   لغات التعلم الثلاث ( 1-2 ) ( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة ) يظن الانسان أنه يتعلم اللغة من المدرسة ، ويظن أن نقل الأفكار والمعرفة تتم بالكلمة المطبوعة ، ونقول عن الانسان أنه أميِّ من لايحسن توقيع اسمه . المسلمات الثلاث كلها خاطئة . اللغة يتعلمها الطفل بالسماع قبل كتابة حرف واحد ، وهي الطريقة المثلى لتعلم لغة جديدة . وهناك قبل اتقان اللغة سماعياً مرحلة أعمق وأهم وهي لغة لاتنطق بل يتعلمها الطفل من سيما الوجوه . فاللغة كما نرى تتدرج في ثلاث مراحل ، باختراق ثلاث حواجز ، تركبها طبقاً عن طبق . طبقة اللغة العميقة تتقن بالاشارات وتعبيرات القسمات بدون حرف واحد . الطبقة الثانية أقرب الى السطح وتتقن من البيت والبيئة بالتصويت ، بلفظ الحرف قد اعتلى متن الفيزياء وموجات المادة . الطبقة السطحية الظاهرة تتم عن طريق المدرسة بإتقان رسم الحرف والكلمة ونظام الخطاب بواسطة الكتابة المقروءة . الأولى تشكيلية والثانية تركيبية فوق الأولى والثالثة عائمة سطحية ظاهرة يراها الجميع . الأولى تفرز السلوك وتشكل العواطف العميقة . الثانية تبني عالماً جديداً يعتمد الصوت والحنجرة والألفاظ ، الثالثة هي حقل الخلاف الانساني لإنها سطحية عائمة تتملص وتتفلت بعنف وقوة ولاتعبر تماماً ولايتفق الناس حولها . لابد من تفكيك الكلمات وإدراك نظم الخطاب . كتب فيلسوف الحداثة الفرنسي ( ميشيل فوكو ) كتاباً كاملاً بعنوان ( نظام الخطاب ) وقبله كتب الجاحظ كتابه اللامع ( البيان والتبيين )  من أصل أربع كتب تعتبر أجود كاتب في اللسان العربي القديم ، ( مثل الكامل للمبرد والأمالي للقالي ) . نظام الخطاب والكلمات المكتوبة هو مايتصارع البشر حوله ، فيما يعرف بمشكلة النصوص ، كونها مكتوبة بالكلمة المقروءة . لاتعتبر ( لغة المدرسة ) أكثر من نهاية المطاف في رحلة اللغة بثلاث عتبات ، طبقاً فوق طبق . استطاع الانسان نقل الأفكار فيزيائياً بالصوت ، ولقن الطفل الكلام ؛ فاللغة سماعية ، وتعلم اللغة عند الطفل يعتمد الأذن قبل رؤية حرف واحد ، ويبقى تعريفنا للأمي قاصراً ، فالذي لايجيد الكتابة يكون قد مخر عباب أوقيانوس اللغة ( سيميائياً ) وبالصوت . المعرفة ( السيميائية ) هناك ( لغة فكرية ) ليس لها اسم  ولايلتفت إليها الناس ، وهي أهم مراحل تكوين الطفل عقلياً ، يبدأ الطفل فيها رحلة تكوينه العقلي ، لغة لاتعتمد الصوت ولا الرسم ، لاالنطق ولاالكتابة ، بل عمل ( السيمياء ) والايحاء ، أو في تعبير القرآن ( فلعرفتهم بسيماهم ) ثم يضيف ( ولتعرفنهم في لحن القول ) ؟!! اللغة تشتغل هنا ليس من ( الموجة الأساسية ) للقول بل من ( اللحن الجانبي ) فقد يقول أحدهم ( السلام عليكم ) وكلماته وتعبيرات وجهه تقول ليتني لم أرك ولم أجتمع بك . فهنا يتشكل نوع جديد من ( المعرفة ) في ( سيما الوجوه ) و( اللحن الإضافي ) في ذبذبة الصوت ، وإفرازات السلوك المتناقضة . عالم الكلمات السحري نحن هنا أمام حاجزين عجيبين لعالم الكلمات السحري . هناك لغتان أضافيتان غير المنطوقة المتعارف عليها ، وغير المكتوبة التي يتنازع البشر حول تفسير نصوصها . في حرب الخليج الأخيرة لم تحل الأزمة باستنطاق النصوص ، كما لم تقد المؤتمرات التي انعقدت في كلا الجانبين الى أي انفراج ، والذي حلها في النهاية ( بيزنطة ) بدون نصوص ، ولحاجة في نفس يعقوب قضاها . مازال نص الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بالقوة مفتوح لعالم كامل من التأويل بإضافة حرف واحد فقط ، هل الانسحاب من أراضي ( عربية ) أو من الأراضي ( العربية ) . حرف ( الـ ) العجيب هذا في النص الانكليزي ( THE ) قلب ظهر المجن وفتح الباب لتفسيرات لانهائية ، في شهادة صاعقة عن مشكلة ( استنطاق النصوص ) . نحن نعرف أن أول صراع في الاسلام تم فيه استدعاء النصوص ، ولم يكن الذي رفع المصاحف على رؤوس الرماح بأنزه الطرفين وأتقاهما . غضبت عائشة (ر) عندما سمعت كلمة التحية من اليهود وهم يدخلون مجلس رسول الله (ص) وغضب هارون الرشيد من التحية واطراءه بالعدل ؟! السبب هو ( لحن القول ) فاليهود لفظوا ( السلام ) بابتلاع حرف اللام خفية فأصبحت اللفظة ( السام ) بمعنى الموت ، فردت عليهم عائشة وعليكم ( السام واللعنة ) فقال المعلم الأكبر ( ص ) لقد رددت عليهم بقولي ( وعليكم ) فكان الجواب يغطي كل الاحتمالات بذكاء وخلق وافتراض حسن النية بالآخرين . المرأة البرمكية التي حيت هارون الرشيد قالت له تمدحه ( حكمت فقسطت ) ؟! بإسقاط حرف ( الألف ) فتحولت الكلمة من ( أقسطت ) الى ( قسطت ) من العدل الى الظلم ؟! إن الله يحب المقسطين بمعنى العادلين ولكنه يحكم على القاسطين أنهم كانوا لجهنم حطبا ؟! الفرق هائل بين ( السام والسلام ) وبين ( المقسطين والقاسطين ) إنها لعبة خطرة تراهن على لحن القول . وتبقى اللفظة بريئة فنحن من يشحنها بالمعنى ، أو نفرغها ونعيد تعبئتها من جديد ، في آلية تجري في كل لغة انسانية . النفس في حالة مخطط لايعرف الراحة اعتبر القرآن ( الإيمان ) شبيه بهذا ؛ فطالما حصل التصميم على عدم مراجعة الموقف و اعتماد ( الأحكام المسبقة ) وتعطيل آلية ( النقد الذاتي ) وأغلاق منافذ الفهم ( صم بكم عمي فهم لايعقلون ) فلن ينفع فيه أي نص أو آية أو معجزة ( ولوجاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) ؟! الكفر هو التغطية والستر . من هنا عبر القرآن عن المزارعين الذين يغطون الحبة بالتراب أنهم ( كفار ) ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) . تعطيل منافذ الفهم والمراجعة والتأمل يدخل الانسان هذه الحلقة النفسية المعيبة التي يسميها القرآن (الكفر) ويراها علم النفس ( وضع نفسي ) قابل ان ينزلق باتجاهه أي انسان ، كثقب أسود متربص للشفط في كل حين . الحديث حثنا على الدعاء دوماً أن لاتموت قلوينا . اعتبر القرآن بالمقابل حالة الإيمان أنها وضع نفسي تنشرح فيه النفس ( أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه )( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) . الإيمان والكفر حالة نفسية . النفس في حالة تذبذب ورجرجة لاتتوقف وفي مخطط صعود ونزول ، وعلى الانسان أن يسأل نفسه دوماً في أي نقطة من المخطط تسكن نفسه ؟ هل هو في حالة انشراح في معظمها ؟ إن الميل أو الاتجاه ( TREND & TENDENCY ) يحكم على الوضع ، ويوم القيامة هناك نظام كمبيوتري خاص يحاسب الانسان بموجبه نفسه بنفسه ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) . مراحل التشكل الفكري عند الطفل من الأهمية أن نعرف كيف تتشكل ( الخرائط الذهنية ) عند الطفل ومراحل تأسس اللغة وجدليتها مع ( الفكر ) و( الواقع أو التاريخ ) ؟؟ يمر الطفل وهو يتكون ( فكرياً ) بثلاث مراحل جوهرية : 1 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( السلوك ) فيقرأها الطفل من كتاب الوجوه والتصرفات 2 ـ مرحلة نقل الأفكار بواسطة ( الكلام ) فتنتقل الفكرة على متن الصوت فيزيائياً . 3 ـ مرحلة تلقي ( الأفكار ) بواسطة الكتاب والقراءة ؛ فيحدث التحول العقلي ونقل المفاهيم بنبضات الضوء الكترونياً . تبدأ المرحلة الأولى بعد الولادة مباشرة ، عن طريق التأثر بالمحيط ، وينقل الطفل رغباته بلغة لاتعتمد الحرف ، مثل تعلم قضاء الحاجة بالبكاء ، ثم يتم امتصاص المفاهيم عن طريق قراءة ( كتاب الوجوه ) فيتأمل السحنة الغاضبة والتعبير الحاقد ، تكشيرة العبوس وتقطيب الوجه ، استرخاء الضحك وبشاشة الابتسام ، ارتفاع الأصوات الغاضبة ، أو هدوء وروحانية الأصوات الراضية . كلها تنتقل على ظهر الموجة الفيزيائية الضوئية ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الانسان عربية كانت أم ألمانية ؛ فنحن نعلم أن المتكلم غاضب وإن كنا لانعرف لغته التي ينطق بها ، والطفل يمتص معنى الحرام والعيب والمحظور والجيد من المواقف والتصرفات أكثر من الكلمات والحروف ؛ فهو دائم التحديق في وجوه من يحيط به خاصة الوالدين ؛ فيمتص السلوك المقبول والمرفوض ، من الانفعالات ومؤشرات تعبيرات الوجوه وتلويح اليدين . ويبقى تصرف الطفل في معظمه ارتكاساً للمحيط ، هل يعزز تصرفه أم يثبطه ؟؟ وكلها تحدث بطريقة لاتعتمد الوعي ، بل الايحاء والتقليد . الطفل دائم التطلع الى وجوه القوم المحيطين به يقرأ التعبيرات ويفسر السحنة ؛ بصرف النظر عن نوع الحروف والكلمات ؛ فإذا تصرف الطفل أدنى حركة درس ارتكاس الوسط المحيط به ، وكله يتم بآليات اللاوعي ، فهي لغة سلوكية ، ويتم الفهم فيها والإرشاد بالتصرف لابواسطة اللغة . نحتاج الى الى ابتكار اسم جديد لهذا الاسلوب في التلقي غير اللغة ، والبعض يسميه نظام الفكر ، ويمكن أن نسميه اللغة التحتية ، أو الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والقيم . هذه المرحلةتشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت التشريح المجهري فيمكن فك أسرار حديث الفطرة ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ؟‍! هذه اللغة التحتية تتغلغل وتستحكم في الطفل قبل أن ينطق خلال السنتين والثلاث الاوائل الحاسمة من عمر الانسان . نمو الحنجرة التشريحي سبب النطق نحن نعرف اليوم من علم ( الانثروبولوجيا ) و ( التشريح ) أن النطق عند الانسان قريب العهد بسبب تشريحي بسيط  هو نمو ( الحنجرة ) . الطفل والقرد كلاهما لايستطيع التصويت والنطق . أكثر ماكشف في عالم القردة إطلاق صيحات محدودة لاتتجاوز الخمسة تنبيهاً لمخاطر الغابة . الطفل بعمر السنة تبقى حنجرته أقرب الى حنجرة الشمبانزي قبل ان تكبر وتبدأ بالتصويت . حجم الدماغ ونمو الحنجرة هو الذي قاد الى النطق وانبثاق العقل . الطفل عندما يولد يكون دماغه بنصف حجمه الأصلي بسبب بقاءه تسعة أشهر فقط في الرحم ، حتى يولد مكتمل الرأس والدماغ لابد له من ضعف المدة وحوض انثوي خرافي الحجم . هذا السبب البيولوجي يفسر تأخر النطق عند الطفل وعجزه الكامل عند الولادة . العجل يمشي بعد ولادته بلحظات ، والأرانب تزحف بعد ولادتها بساعات وتركض خلال أيام . التطور الروحي الحركي عند الانسان يستغرق سنوات ؛ فهو عند الولادة أضعف مخلوقات الله قاطبة ، في تناقض وجودي يدعو للتأمل . القرود بسبب انخفاض حنجرتها تستطيع الأكل والصياح معاً ، بسبب زحف الحنجرة عند الانسان للأعلى يجب أن يكف الانسان عن الكلام عند الطعام والا ( تشردق واختنق ) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم . بين نفخ الرئتين واهتزاز الحبال الصوتية وانطلاق الهواء بين اللسان والحلق والأضراس ، وعمل الأجواف المجاورة في البلعوم كحجرات طنين ، مكَّن الانسان من النطق والترميز من خلال لغة مفتوحة ، وعلم آدم الأسماء كلها . ولكن هذه هي اللغة الصائتة المنطوقة . اللغة الأخرى هي اللغة الصامتة تشكل البنية التحتية لنظام الخطاب . جبل الجليد الثقافي البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار . المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة ) الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟‍! لكن ( الكتبة والفريسيين )  لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون . المرحلة التشكيلية في حياة الطفل إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل . لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون . قارة جديدة في عالم الوعي المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث . ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت  ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها . المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة . حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية . إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية . الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس . نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب . قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) . الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد . العمليات الجراحية على الثقافة كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها . كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة . جدلية  الكلمة الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك )) نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) . قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام ) وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت . تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت . تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة . نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف .     لغات التعلم الثلاث ( 2-2 ) ( اللغة الصامتة .. والصائتة .. والمرسومة ) جبل الجليد الثقافي البعض يسمي هذه اللغة نظام الفكر ( الابستمولوجيا EPISTMOLOGY ) واعتبرها المفكر الجزائري مالك بن نبي ( الثقافة ) حينما يحل الطفل مشاكله بالبكاء وضرب القدمين في الأرض ، فينشأ على حل مشاكله لاحقاً على هذه الطريقة ، كما بكى وانتحب العرب في ماساة حرب يونيو حزيران 1967 م ، شهادة على طفولة عقلية في تفسير الأحداث وفهم منطق التاريخ ، وبعضهم يسميها ( اللغونة ) ويمكن أن نسميها ( اللغة التحتية ) فهي الاسلوب العميق في نقل المفاهيم والأفكار . المفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة تكون في حديها ( الإعطاء والتقبل ) عفوية تتدفق بآليات ( اللاوعي ) سواء من قبل الممارس أو المتأمل ، وكثيراً ماننكر على أنفسنا تصرفاً سخيفاً مارسناه ، وبالمقابل لايعرف الطفل بدقة ولابوعي كيف أخذ السلوك ، وهذه كشف عنها علم النفس التحليلي كمصدر للعقد ، فهي تشكل جبل الجليد التحتي في الثقافة والأخلاق والخبرات ، ولايشكل فيها الوعي أكثر من رأس جبل الجليد الطافي 5% فوق سطح الماء . هذه المرحلة تشكل خطورة ذات تحدي خاص تتطلب وضعها تحت ( التشريح المجهري ) وبواسطتها يمكن فك بعض أسرار الفطرة البشرية ( كل مولود يولد على الفطرة ) الولادة الجديدة والعودة لبراءة الطفولة هذه اللغة التحتية تتمكن من تشكيل الطفل خلال السنوات الأولى من عمره قبل أن يحسن النطق والتعبير ؛ ليدرك لاحقاً ( فراق ) الصوت عن السلوك ، وكل إشكاليات النفاق والاحتيال والكذب والتظاهر ، في حزمة الأمراض السيكولوجية ، ووداع بدون رجعة لبراءة وطهارة الطفولة الجنة الانسانية . لاعجب أن أشار عيسى عليه السلام للذين طلبوا نصيحته أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يرجعوا أطفالاً أو حتى يولدوا من جديد ؟ العودة الى الرحم غير ممكنة ، والنكص باتجاه الطفولة أكثر استحالة ؟‍! لكن ( الكتبة والفريسيين )  لم يفهموا المغزى العميق خلف جدار الكلمات . العودة الى الطفولة هي البراءة والنظافة الأخلاقية ، والولادة من جديد هي بالإيمان ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . طوبي للودعاء لإنهم يرثون الأرض . طوبى لأنقياء القلب لإنهم يعاينون الله . طوبى للجياع والعطاش الى البر لإنهم يرتوون . طوبى لصانعي السلام لإنهم عباد الله يدعون . المرحلة التشكيلية في حياة الطفل إن اضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة والناس لايلتفتون الى هذه المرحلة ولايعدونها شيئاً مهماً بارزاً في حياة الناس ؛ ليس لإنها غير ملاحظة ، ولا لإنها غير مهمة ، وكننا لم نعطها بعد ماتستحق ؛ فالجميع يمرون عليها مروراً عابراً كريماً ، غير مدقق ولامعاد ، بدون جهد ، بدون تأمل ، ولانبذل جهدنا في إبرازها .، في دراسة تضاعيف هذه المرحلة التشكيلية التأسيسية في حياة الطفل انسان المستقبل . لايقدر الانسان أن يعطي الشيء المهمل قيمة والا لم يبق مهملاً ؟! هكذا جرت سنة الاشياء ؟!! إن أساليب التخصصات الدقيقة بدأت تبرز أهمية بعض الجوانب الخفية والهامة في آثارها وعمقها ؛ إلا أنها مازالت مهملة وغير مركز عليها .. وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . لاينتبه الانسان الى خفايا وبواطن وغوامض الاشياء في تدفق الحوادث وصيرورتها الا بالتنبيه الى أهميتها ، وأما الاصطدام بها عفوياً فهو النادر في حياة البشر ، ولكن ندرة اليورانيوم لايعني أنه عنصر غير مشع أو غير تفجيري ؟! ومن هذه الجدلية تم شق الطريق الى فضاءات معرفية شتى بالانتباه الى جزيئات تافهة ، وأمور قريبة محجوبة ، كما يسميها العلاَّمة ابن خلدون . قارة جديدة في عالم الوعي المرحلة الثانية أو اللغة الثانية التي يتقنها الطفل لاحقاً هي مرحلة الكلام وهي فيزيائية بنظام التصويت ، فينتقل الكلام على متن ذبذبات مادية ، وتنتشر المفاهيم عبر مفاصل الكلمات المنطوقة ؛ وتبقى آثار طفيفة من لغة الإشارات ؛ فنحن مازلنا نهز رؤوسنا ، ونشير بأصابعنا ونحن نتحدث . ربما يصدم الطفل في هذه المرحلة ويصاب بالحيرة في التفسير عندما يغادر عتبة امتصاص الأفكار بالسلوك وعدم القدرة عن التعبير باللغة ؛ ليدخل عالم الصوت  ؛ فيكتشف ألواناً من النفاق وعدم الصدق واضطراب التوافق ، عندما يكتشف أننا نقرر أشياء باللغة ولانلتزمها بالسلوك ؛ فهذا التحول قارة جديدة في العلم ينبغي اكتشافها والعس في فيافيها . المرحلة الثالثة أبسطها وأكثرها سطحية في مرحلة التعلم من الكتاب بواسطة القراءة ، عندما يأتي الطفل الى المدرسة وقد تكونت شخصيته وليس أمامها الا النمو على المفاصل والبنى القديمة . حفريات آركيولوجية في طبقات النفس الكتيمة مايتعلمه الانسان من القراءة سطحي أكثر بكثير مما نتصور ، وتبقى طبقة السلوك الأولى والعميقة والكتيمة والراسخة والعفوية . إن مفاهيم المرحلة الأولى تسيطر على المرحلتين التاليتين ؛ فمن يعرف قراءة نظام وآلية وأسلوب تكونها واشتغل بوعي وإدراك لسبر هذه الطبقات الاركيولوجية من حفريات النفس في المعرفة والتعلم سيتمكن من حل المشكلات التي تحدث في المرحلتين التاليتين . وقد انتبهعالم النفس النمساوي ( سيجموند فرويد FREUD ) بتأسيسه لعلم النفس التحليلي الى شق الطريق الى هذه الطبقة العنيدة والكتومة والمخفية واللامفكر فيها ، وهي أفضل شيء أتت به مدرسة علم النفس التحليلي ، بتسليط الضوء على هذه الزوايا المظلمة في النفس البشرية . الدراسات اهتمت بالمرحلتين الأخيرتين دون الأولى مع أن الأولى الهم والأخطر تأسيساً ، وهناك دراسات حول التفريق بين الأمي المتكلم الذي لايقرأ ، وبين المثقف المتعلم الذي يقرأ ، فالأول معها محتقر خجول ، ولاينتبه الى أن تعلمه يقوم على طبقات ذات سلطان عميق ، كما أن المتعلم بالمقابل يمنح الكثير من ضرب الاحترام ، ولكن لابساط بدأ يسحب من تحت أقدامه ؛ فهذا الاحترام مبالغ فيه ، ووهمه كبير مسيطر على النفوس . نظام الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) المرحلة الأولى لم يعطها أحد من العناية ماتستحقها ، وحاول الفيلسوف الفرنسي ( ميشيل فوكو ) أن يبحث عنها ؛ فتحدث ليس عن هذه المرحلة بالذات ، وإنما تحدث عن نظام الفكر الذي يسيطر على بيئة ما ، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها ؛ فالعالم الاسلامي اليوم على اختلاف لغاته يعيش حالة نظام فكري مغلق ، محمي ومحروس ومحصن ومدافع عنه بخنادق لانهاية لها ، واحساس مرهف بالشعور بالخطر ؛ فالجميع في توافق تام باجماع متواطيء عليه ، غير محكي ، غير مكتوب ، لحراسة شجرة الحياة الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب . قبور للأفكار الميتة وصادات للأفكار القاتلة كما كان للأمراض وحدتها ( UNIT ) الإمراضية ، كذلك المجتمع والعلاقات الانسانية وأمراضها تقوم وتبنى انطلاقاً من وحدة ( الفكرة ) . الجراثيم نوعان ومقاومتها بطريقتان . من الجراثيم ماهو غير ضار ومنها السمي الخطير كذلك الأفكار منها الضار وبشكلين : ميت وقاتل ؟! الأفكار الميتة على حد مصطلحات المفكر الجزائري ( بن نبي ) هي تلك التي فقدت وظيفتها وعلاقتها بالواقع كقيمة حيوية فعالة لثقافة ودعت حركة التاريخ . الأفكار القاتلة هي التي نزعت من بيئتها لتغرس فب بيئة ثانية بدون شروط زرعها . نقل الدم بغير شروطه يقتل الانسان من حيث نريد إنقاذه ، بعدم الانتباه الى الزمرة الدموية مثلاً ؟ الأفكار الميتة تترك رائحة العفونة فيجب أن تدفن . كما كان لكل قرية مقبرتها كذلك يجب رسم معالم قبور فكرية للأفكار التي ودعت شروطها التاريخية . الميت الذي لايدفن يتأذى من رائحة الجيفة أقرب الناس إليه فيبقى القبر خير ستر . الأفكار التي لاتدفن تعفن الوسط . ولكن أكثر الناس لايذكرون . الجراثيم يتم مكافحتها بواسطة الصادات الحيوية بطريقتين : الصادات المثبتة والقاتلة . الأفكار الميتة يجب أن تثبت وترحل الى عالم المدافن . الأفكار القاتلة نشطة تفعل بعمل تهديمي مدمر فيجب أن تمزق بقتلها المضاد . العمليات الجراحية على الثقافة كل عملية جراحية على الثقافة يجب ان تشق جلد الكلمة الى بطن الثقافة الصامت ؛ للوصول الى احشاء الثقافة الصامتة ، لتعديلها واستئصال الأعضار الضارة منها . كل عملية جراحية لاتستهدف القاع وتنزل الى الاحشاء وتمد يدها الى الاعضاء الفاسدة تعالج على شكل هامشي سطحي غير جذري ، مه هذه لابد من المرور على ظهر فيزياء الكلمة وجدليتها للانصات الى الهمس الخفي للغة الصامتة . جدلية  الكلمة الكلمة تحمل كل التناقض ، كما يمكن إعادة شحنها بالمعنى ، كما أن ظلالها تعطيها معنى مقلوباً تماماً حتى لو لفظت ، فهي ( الفاسق ) كما جاء في القرآن . لايمكن التعامل بدون الكلمة ؛ فهي التي بنت الحضارة ، كما يجب ان نحترس من الكلمة وإشكاليتها فقد يهوي صاحبها في النار سبعين خريفاً ، بأخطاء شتى من التفسير والتزييف والتبديل والتحريف وادعاء تساوي الفهم مع النص ، مثل تساوي الطاقة والمادة في معادلة آينشتاين . وكلها أوهام يجب أن يدرب العقل نفسه على توليد آليات النقد الذاتي بدون ملل كما يقول فيلسوف القوة نيتشه في نفثاته ، في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ALSO SPRACH ZARZOSRTA ) : (( لايكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده ؛ بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه ؛ لإ، عاشق الحقيقة إنما يحبها لالنفسه مجاراة لإهوائه؛ بل يهيم بها لذاتها ....... عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار ؛ فإن ذلك من شأن الحقيقة لامن شأنك )) نظام الخطاب عالم معقد محير لايكفي فيه النطق الأخرس للكلمات وهي حقيقة فاتت رجل عاش أيام الجاحظ فكتب عنه هذه القصة الطريفة ، في النقاش الذي قلب فيه الموازين ذو العقل الجبار ( النظَّام ) . قصة أبو شمرة مع ( ابراهيم النظَّام ) وصف الجاحظ عالم الكلام ( أبو شمرة ) أنه كان يتحدث وكأنَّ الكلام يخرج من صدع صخرة ، لاعتقاده أن البيان لايحتاج الى شيء خارجه ؛ فلايحتاج الى التلويح باليدين ، أوهز الرأس ، والتأشير بالأصابع ، والتلاعب بطبقة الصوت . تكفي الكلمة بما فيها من صقل بياني ودلالة معنى أن تؤدي دورها ، وكل زيادة انفعالية عليها ليست من أصلها ، وعنصر ضعف في تكوينها ؛ حتى فاجأه ( ابراهيم النظَّام ) ذو العقل الجبار يوماً ؛ فناقشه واشتد عليه وأحرجه في تداخلات الأفكار ونظم الخطاب ؛ فقفز من كرسيه وجلس الى النظَّام وهو يخبط فخذيه قد علا صوته وكشر وجهه ؟!يعلق الجاحظ على ذلك أن طلابه الذين جلسوا إليه لم يعارضوه ، ولو فعلوا لانقلب الجو العقلي البارد الى حياة وحيوية بحركة أيادي وتعبيرات وجه وطبقة صوت . تبقى المرحلة الثالثة من التعلم كما نرى ، بواسطة المعنى المحبوس في الرسم أبسط المراحل وأكثرها سهولة . نقرر إذاً أن طبقة السلوك الأولى هي العميقة والكتيمة والراسخة والعفوية ، والثانية دونها في العمق ، وأما الثالثة فهي عائمة سطحية ، فلابد من الكشف الدقيق الموسع لهذه المراحل الثلاث للدخول الى التمييز بين اللغة الصامتة ، واللغة الصائتة ، واللغة المرسومة على الورق بالحروف . البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية مصدرها ثلاث كلمات باللغة الإنكليزية هي: Neuro-linguistic-programming وتختصر بثلاث حروف هي: NLP. والذي تقدم بهذا المصطلح هما عالمان في اللغويات هما: (جون غراندر) وعالم الرياضيات (ريتشارد باندلر) في عام 1975م في كتاب بعنوان (بنية التخيل Structure of Magic). وهذا العلم في الواقع ليس جديداً تماماً فقد اشتغل عليه (الفلاسفة) و(الصوفية) و(المربون) و(مدارس علم النفس) منذ فترة طويلة. وخلاصته هي فهم تشريح العقل الإنساني وكيف يتصرف الإنسان ومن أين ينبع السلوك؟ وصولاً إلى شيء خطير يزعمه الكثيرون هو (التحكم) بالسلوك الإنساني. واعتبر عالم النفس الأمريكي (سكينر) من مدرسة (علم النفس السلوكي) في كتابه  (تكنولوجيا السلوك الإنساني Beyond Freedom and Dignity) أن "العقل لا يزيد عن خرافة وأن الكرامة وهم"؟ وهو يذكر بفكرة عالم الاجتماع العراقي (الوردي) عن العقل الإنساني أنه عضو يحقق وظيفة البقاء ولا يبحث عن المنطق والعدالة والحق كما يردد ذلك المتحاورون في الفضائيات. ويقول الوردي أن العقل الإنسان جعل لابن آدم مثل ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة كي تمكن الحيوانات من متابعة البقاء. وكل الحديث عن الحقيقة النهائية والعدل المطلق والعقلانية خرافات؟ وعالم النفس (سكينر) يريد الوصول بهذا  إلى نوع من العلم نتحكم من خلاله بالسلوك الإنساني كما نتحكم في مسار قمر صناعي نطلقه إلى الفضاء. وبالطبع فإن ادعاءً كبيراً كهذا يدخلنا إلى شيء خطير في تحويل الإنسان إلى إنسان آلي (روبوت)،  ويصبح سلوك الإنسان لا يزيد عن   إفراز هورموني يمكن التحكم فيه. ويرى عالم النفس (بريان تريسي) في كتابه (أسس علم نفس النجاح) أن الإنسان يشبه (الكمبيوتر) مع الفارق الهائل في التعقيد، ولكنه مثل أي جهاز يحتاج إلى كتاب (تعليمات التشغيل Manual Instruction) كما هو الحال عندما نشتري (فاكسا)  فنتحكم به ونعرف أسراره عن طريق كتاب التشغيل. وتقول الدراسة أن 3% فقط هم الناجحون في الحياة ويرفع (تريسي) الرقم إلى 5% ويدعي الفريق الذي قام بالمقارنة بعد عشرين عاماً من الدراسة أن حصيلة النجاح الذي حققته مجموعة 3% كانت تفوق عمل 97%. والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد أي الاستعداد للتشكل، وهي الفكرة التي طرحها (ديفيد هيوم) في كتابه (عن الطبيعة البشرية) أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن (ايمانويل كانت) قال بشيء اسمه (المقولات العقليةCategorical Imperative) أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. ولولا هذا لكانت رؤية البقرة للعالم ورؤيتنا واحدة، ولكن حصيلة هذه الرؤية مختلفة جذريا بين الإنسان والحيوان ومصدر الإرسال واحد. ويعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءً من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشيفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر (الجينات) تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر (جيني). ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن (الجينات) أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم (الضغط الدموي) ليست (جيناً Gen)  واحداً مفرداً بل حوالي 200 جيناً في ضفيرة متبادلة التأثير. و حتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة  لوحة الفيديو الداخلي ، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه لا يقل عن مائة  مليار خلية (عصبية). ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات (لانهائية) إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط. وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً. وتذهب مدرسة (اريكسون ملتون) في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما (اللغة الرمزية) فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف (قصص ألف ليلة وليلة) كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي (مباشرة) فتعالجه على نحو (غير مباشر). والهندسة النفسية تحاول فك هذا اللغز الإنساني لفهم جدليته المحيرة. وقديما حاول الإمام الغزالي فهم مراتب الوجود فقال بأن الحقيقة تمر من خلال مستويات تضعف فيها المرة بعد المرة كما يمر الضوء عبر أوساط شفافة مختلفة فيتعرض للانكسار في كل وسط يتخلله. فبين الحقيقة الخارجية وكتابتها مراحل من (المفلترة المشوشة) قبل أن تصل إلى مرحلة النطق اللغوي وتختم باللغة المكتوبة في النهاية. ومن هنا فإن طبيعة الاتصالات بين (الكتابة) أو (النطق) أو (المقابلة الشخصية) تدخل الخلل إلى صحة المعلومات على نحو مأساوي. بسبب أن (الكلمة) ناشفة بريئة ولكن (النطق) يحمل (لحن القول). والرؤية تحمل قسمات الوجه وما تخفي السريرة "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول". فهنا تدخل على الخط لغة جديدة هي (اللغة السيميائية). وقام فريق بحساب مقدار وصول المعلومة أي (المردود الاقتصادي) الفعلي  للحقيقة المشوهة من خلال الكلمة (المكتوبة) أو (النطق) أو (المقابلة المباشرة) فكان على الترتيب 7% ثم 38% ثم 55% ويعني هذا أن المعلومة مع كل المحاولات لا تنفرغ عصبيا بشكل كامل، وربما سيحدث هذا للمستقبل إن استطعنا أن نفعل هذا كهربيا بتفريغ كامل شحنة الأفكار والتصورات من دماغ إلى دماغ أو من الكمبيوتر إلى الدماغ وبالعكس. مع ملاحظة أن ما يستقبله الدماغ هو قسم ضئيل من الحقيقة لأنه يتغذى بالحواس الثلاث الأساسية ويرمز لها VAKمن أصل ستة حواس وهي مختصر للرؤية والسمع والحركة(Visual Auditory Kenthetic). وهي محدودة بشق بسيط من كون حافل بالموجات. والخلاصة التي نصل إليها ثلاثة أمور: إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدعي. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة. والمهم فهناك من يدعي هندسة نفسية يمكن بواسطتها التحكم في الإنسان؟ ونحن  نعرف من تاريخ العلم أن علم نفس (الفرينولوجيا) تحمس له العلماء كثيرا ولم يكن يتطلب أكثر من تمرير اليد على الجمجمة وتعرجاتها للحكم على ملكات الإنسان وطبيعة كيميائه ومزاجه. ثم ظهر أنها لا تزيد عن دجل.
اقرأ المزيد
خرافة الدولة والخلافة الإسلامية، وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟
التحريريون من جماعة حزب التحرير الذي أسسه المقدسي التقي الدين النبهاني أفنوا عمرهم في البحث عن دولة وخرافة؟ والفلسطينيون يحلمون بدولة وعلم حتى تقاتلت فتح وحماس بكل حماس؟. والكشميريون يقاتلون للانفصال عن الهند من أجل تكوين دولة. و(خطاب) الذي قتل في الشيشان ومن بعده يقودون  حرب عصابات من أجل إقامة دولة إسلامية. والأكراد يحلمون بدولة كردية، تمتد من مرتفعات الهندوكوش إلى ماردين وأرمينيا؟ حتى تقاتل الكل مع الكل، ولوحق أوجلان من الكرد والترك والعرب والعجم  ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. وفي مناقشة على الهواء من محطة فضائية قال الكردي أنه لا مانع لديه  أن يضرب بالعصي آناء الليل وأطراف النهار بيد مخابرات كردية على أن يعيش في ظل دولة غير كردية. ودول الطوائف في الأندلس زادت عن عشرين بين بني (الأفطس) و(ذي النون) و(بني العباد) مما جعل الإمام (ابن حزم) يتبرأ منهم جميعاً، ويذكر قول الشاعر (ألقاب مملكةٍ في غير موضعها .... كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد). واليوم تبلغ الدول العربية أكثر من عشرين دولة، ومع كل زيادة في العدد يزداد التناقض والشقاق والنفاق، ويستفحل الوباء والغلاء والعناء والغباء، ويحجز المواطن العربي في مزيد من مربعات التخلف، وكل زيادة في الأرقام تعني نقصا فيها عكس قوانين الرياضيات. وقديماً شكا بنو إسرائيل إلى موسى سوء الأوضاع وتمنوا الخلاص من فرعون، ولكن موسى اعتبر أن إزالة فرعون ليست حلاً للمشاكل بقدر من سيكون البديل. "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". وفي كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لـ (عبد الرحمن الكواكبي) أشار إلى ثلاث أفكار رئيسية تشكل مثلث الخلاص من الاستبداد: 1 ـ أن يكون (سلمياً بالتدريج) 2 ـ و(أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية) 3 ـ وأنه ( يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد). وإلا كان على حد تعبير الكواكبي استبدال صداع بمغص والسل بالشلل. إن استبدال فرعون بفرعون لا يتقدم في حل المشكلة إلا بإلغاء كل حل. فيتغير الأشخاص ويبقى الوسط مريضا كسيحا. (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا). إن التحدي الأكبر ليس في الهدم بل البناء. ومازلت أتذكر (آية الله منتظري) ـ وكنت يومها زائرا لإيران بمناسبة العام الثاني على الثورة ـ وهو يخطب بعد نجاح الثورة الإيرانية قائلاً:"لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي اليوم هو في إيجاد بناية أفضل". واليوم لم يبق منتظري وطالقاني وعلي شريعتي وثورة، بل أوتوقراطية خانقة ودولة بوليسية، ورئيس دولة يتلمظ لصنم نووي، ويدعو لشن الحروب. وهكذا فقد استبدلت إيران الإسلام بإسلام شاهنشاهي، والشاه بشاه يلبس عباءة ويطلق لحية ويحمل سبحة، كما جاء في فيلم مرملوك الإيراني، الذي ظهر لأسبوعين ثم اختفى. إن القضاء على الشاه كان أول الطريق وأسهله، فهو عملية هدم لا أكثر، وكل التحدي هو في التخلص من وضع " اللاشرعية" بإقامة الشرعية. والقضاء على صدام كان الفصل السهل من المسرحية الأمريكية، واستئصال السرطان لا يعني بالضرورة عدم وجود انتقالات ورمية. والتخلص من الإقطاعي السابق لا يعني استبداله بإقطاعيين جدد، أكثر عددا وأظلم وأبطش كما حصل مع الثوريين البعثيين السوريين الذين واجهوا منكر ونكير الألماني الحلس ميلس. إن إزالة الظلم هي أقل من نصف الحل، ولكن كل الحل هو في إقامة العدل. وعندما يستأصل جراح الأوعية الورم الدموي لا يعني أن العملية انتهت، بل الأصعب فيها قد بدأ، بإعادة ترميم المنطقة بالكامل من خلال وضع الشريان الصناعي محل الورم المستأصل. وفي كتاب (المقال على المنهج) لفيلسوف التنوير (رينيه ديكارت) اعتبر أن المهم في تغيير الأفكار ليس هدم البنى القديمة فهو سهل، ويجب الحذر فيه، بل وعدم البدء فيه، تماماً مثل الذي يعيش في بيت خرب قذر وتريد إسكانه الفسيح النظيف من البيوت. يقول (ديكارت): لا تهدم بيته، بل ابن له الجديد، ثم خذه ليدخل البيت الجديد، وهو من تلقاء نفسه لن يعود إلى بيته القديم. من المهم إذن أن لا نهدم شيئا ليس عندنا بديل عنه؛ بل يجب أن نمتلك ما هو أفضل منه أو مثله على الأقل. ويقول الجراحون هناك خمس قواعد فلسفية في الجراحة منها أن الجراحة تجرى إذا لم يكن عنها بديلا. وأن لا يدخل الجراح إلى وسط  لزيادة الفساد فيه أكثر مما كان. كمن أراد أن يصلح تضيقا في المعي فقاده عمله إلى انسداد كامل مهدد للحياة. وفي القرآن تقول آية النسخ أنه " ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير". فالنسخ حالة تطورية نحو الأحسن وليس نكسا للخلف. فهذه قوانين وجودية ثقيلة، وهي تتنوع وصالحة للتطبيق في الكيمياء وعلم النفس والفيزيولوجيا والجراحة والفلسفة والعمران الإنساني والسياسة. واستبدال وضع سيء  بوضع سيء مثله أو أشد سوءً لا يعني شيئا، وعندما عُرض الملك على رسول الله (ص) رفضه لأنه لم يرد بناء دولة هرقلية. والتخلص من دولة قمعية بدولة أشد قمعا هو مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. أو بتعبير (لينين) عن الرأسماليين الذين اشتروا حبل مشنقتهم بيدهم، عندما أرادوا التخلص من القيصر الروسي بالشيوعيين، وكان ذلك عندما شحن الألمان (لينين) في عربة قطار مغلقة إلى روسيا عبر أراضيهم مثل من ينقل جرثومة (الانثراكس) إلى عدوه بتصوره أنه سيقضي على الدولة القيصرية فجاء منه البلاء المبين، وهلكت القيصرية الألمانية وصعد نجم الشيوعية حتى حين. والذي حصل أن لينين قضى فعلاً على عائلة (رومانوف) بدداً فلم يترك منهم أحداً بحفلة إعدام جماعية في (كاترين بورج)، ولكن الثورة الشيوعية اندلعت في وسط الفوضى، وخسر الغرب الرهان على (كيرنسكي) فكانوا في مرض، فانتقلوا إلى اختلاط للمرض أدهى وأمر. مثل من كان يعاني من الحمى فأصيب بانثقاب معوي، أو كان يعاني من سعال بسيط فتعرض لالتهاب رئوي قاتل. وكلف هذا الحلفاء لاحقاً أن يحشدوا كل إمكانياتهم ليقضوا على السرطان الشيوعي عبثاً، وما حصل مع أمريكا وجماعات المجاهدين في أفغانستان يشبه هذا التورم الخطير، وكذلك في تسليح العراق، ففي النهاية انقلب السحر على الساحر. ويكون الإنسان في ورطة فيخرج منها ليقع في ورطة ألعن. فهذه عظة التاريخ، ولقد كان في قصصهم عبرة  لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى. واليوم يحتفل الروس بنقل بقايا جماجم العائلة المالكة القديمة التي دفنت في مستنقع، ولكن عائلة (رومانوف) شطبت من ملفات التاريخ، وإلى الأبد، ودلفوا إلى مستودعات النسيان، كما حصل لمن قبلهم قرونا كثيرة، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ إن وهم الدولة أسطورة مضاعف مرتين كل منهما أشد خطراً من الآخر. الأول بتصور الانتقال إلى دولة جديدة مثل العبور من مفازة النار إلى الجنة، ووهم فكرة (الدولة الإسلامية). ومنذ أيام (الخوارج) ادعى الناس أنهم يقيمون دولاً إسلامية، فليس أسهل من رفع الشعارات واغتيال الحقائق وتفريغ المضامين. كما حصل مع البعثيين بالثالوث المقدس. الوحدة والحرية والاشتراكية فأصبحت الخراب والديكتاتورية والطائفية. ولم تعتبر الأمة وكل مدارس الفكر الإسلامية والمذاهب أن جهاد الخوارج كان جهادا، مع أن الخوارج أثاروا قضايا فكرية جديرة بالمناقشة مثل انتخاب الحاكم من الأمة ولو كان رأسه "زبيبة"، ولكن مشكلتهم كانت في التشدد والتكفير والعنف المسلح لقلب الأوضاع. وهذا الميل المريض تشربته اليوم جماعات الإسلام السياسي اليوم، ومن الملفت للنظر أن الخوارج انعزلوا تاريخيا في الواحات البعيدة في الصحاري في الأطراف كما هو بين الطوارق في الجزائر والأباضية في مسقط. واليوم نرى أشد العنف الإسلامي ينبع حيث يقل الفقه ويشتد الحماس. والخوارج لم يكن ينقصهم الحماس  بقدر الوعي، فهذه هي كارثة العالم الإسلامي المعاصرة بالفراق بين الفهم والتقوى، وانفكاك النص عن الواقع والتاريخ. استباح الخوارج دماء المسلمين باسم الإسلام، واليوم تحت اسم الحرية اغتيلت الحرية أضعافا مضاعفة، وترسخت الديكتاتوريات بأشجار باسقة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وباسم الشعب خسف بالشعب. وعندما أراد البعض اغتيال فكرة القرآن رفعوا القرآن على رؤوس المصاحف في خديعة معاوية الكبرى. ومن المعروف في علم الكيمياء العضوية أن نفس المركب يتحول من ترياق إلى سم بقلب جذر الهدركسيل فيه؛ فيبقى الشكل كما هو والمفعول مقلوبا. ويمكن تحت اسم (مسجد) أن يمارس الضرار والتفريق بين المؤمنين، وأن يتحول إلى بؤرة تحيك الموآمرات وشبكة تجسس مضادة، كما في قصة (مسجد الضرار) الذي تحصن فيه المنافقون فأمر النبي بهدمه " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا  كفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون". ومازلت أتذكر خطبة الجمعة في فيرجينيا في أمريكا عندما شاركت في مؤتمر التعددية وقام خطيب أمريكي مسلم فحذر من خرافة الدولة، وأنها يمكن أن تتحول إلى مصيدة لكل الفكر. وتحت هذا الوهم سقط في شراك العنكبوت من كل اتجاه زوجان. وعندما اعتلى الإنقلابيون ظهر الحصان العسكري تحت إغراء إقامة (دولة) تحقق أحلامهم وطموحاتهم لم يروا سوى كوابيس وتشردا وقتلا. وعندما سئل (حارس سيلاجيج) عن البوسنة (الدولة الإسلامية) كان جوابه صريحاً وفي غاية الوعي والتألق :"نحن لسنا دولة إسلامية. نحن دولة علمانية تضم خليطاً من المسلمين والكروات والصرب تتعايش فيها كل الأقليات". إنه ليس أسهل من وضع خنادق نفسية أمام زحف الإسلام ببناء دول خرافية تحت أسماء إسلامية ليست بريئة تماما، ويمكن محاربة الإسلام باسم الإسلام، ويمكن لصدام أن يضع فوق علم العراق الله أكبر وليس شيء أكبر من صدام، أو بتعبير (النيهوم) (إسلام ضد الإسلام). فهذه خديعة يجب الانتباه إليها، وأن نبحث بدون ملل عن الحقائق، ولا نغتر بالشعارات أو الكلمات، التي وصفها القرآن أنها "كلمات ما أنزل الله بها من سلطان". أي كلمات فارغة من رصيد الحقيقة مثل العملة الورقية المزيفة. ويلفت نظرنا (روجيه غارودي) المفكر الفرنسي المسلم إلى هبوط مساجد فخمة ضخمة عملاقة، كأنها صرح ممرد من قوارير "بباراشوت" من السماء، في مدن العالم الغربي؛ فتثير هلعهم أكثر من إقبالهم، في الوقت الذي يمكن نشر الإسلام بمراكز إسلامية بسيطة متواضعة، تعتمد قوة الفكر، وحسن التنظيم، وفهم عقلية المواطن الغربي، وإتقان لسانه فلا بيان دون لسان "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم". وفي أفغانستان كان (كمال بربك) وهو الشيوعي الأحمر يتظاهر بأنه مسلم تقي نقي حتى مخ العظام، وعندما دخل (نابليون) مصر ادعى الإسلام وأصبح اسمه الحاج نابليون. فهذه قصص مهمة لأيقاظ الذاكرة على الحقائق. واليوم أزالت أمريكا (حكومة) طالبان ووضعت دمية اسمها حامد قرضاي يتحرك بريموت كونترول، تحت دعوى إقامة حكومة ديمقراطية تعددية وباسم الحرية. ويحذرنا (نعوم تشومسكي) في كتاب كامل بعنوان (ردع الديمقراطية)، أننا يجب أن نفهم قانون التعامل مع القوى العظمى، وأنها عندما تنصر فريقا على آخر، تنصره بما يتفق مع مصلحتها، أكثر من مصلحة الفريقين المتصارعين، كما جاء في قصة القرد الناسك والقطين اللذين سرقا الجبنة فأرادا منه عدالة التقسيم، فاستقرت الجبنة في بطن القرد. وبالمقابل فإن هناك شريحة ترى أن حكومة طالبان ربما هي حكومة شرعية باعتبارها تنادي بالشريعة. ولكن الصراع الجاري في أفغانستان هو لم يزد عن صراع قبلي على السلطة، ولم يظهر هذا على السطح إلا حين تم طرد الروس، وهو التحدي الخطير الذي ذكرناه فيما سبق أن زوال فرعون ليس بشيء، ولكن من سيخلف فرعون؟ أو بتعبير الآية "ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". والنموذج الأفغاني ليس ذلك النموذج الذي نرفع به رأساً، وبلد من هذا النوع يفضل للمرء فيه أن يحزم المرء حقائبه ويفر منه. وهذا يظهر مرة أخرى فكرة خرافة الدولة. والخلاصة إن هذا الغرام بإقامة دولة مستقلة، أو دولة إسلامية وهم كبير، و (النميري) في السودان وتحت اسم الدولة الإسلامية أعدم مفكرا صاحب مدرسة مثل محمود طه لآرائه، مما جعل الترابي يقلب يديه على ما أنفق في الانقلاب العسكري ويقبع في إقامته الجبرية، وكما يقول المثل العربي: "يداك أوكتا وفوك نفخ". حتى إذا خرج بدأ يكتب في الحريات وهو الذي وأدها.. وكان حظه أفضل ممن سبقه فما زال يحتفظ على برأسه بفضل الروح القبيلة. وفي مصر قتل حسن البنا من وراء أعمال التنظيم الخاص، كما اغتيل صلاح البيطار بيد الرفاق من نفس أبناء الحزب الذين تربوا عل يديه. ويقول مالك بن نبي أن مولودا لو خير أن يولد؟ هل سيختار أفغانستان فيمشي بعكازة خشبية أو يرى بعين واحدة. أو في اريتريا فيقتل في جبهات حرب بائسة. أو في بلد عربي فيقضي نصف عمره في أقبية الاستخبارات والنصف الباقي يرتعش خوفا على رزق عياله؟ أم يختار السويد حيث الضمانات؟ إنه سؤال ثقيل ومزعج ولا أحد يطرحه؟ ويحتفل العراقيون والسوريون ويهنيء بعضهم بعضا حينما ينال أحدهم الجنسية البريطانية أو الكندية. بعد أن لم يبق وطن ومواطنة، وبعد أن فروا من دولهم باتجاه العدالة والأمن والرزق، فهذا هو الوطن وهذه هي دولة الإنسان. هذه المسألة أشكلت على الفيلسوف (محمد إقبال) مع ضخامة فكر الرجل وبعد نظره، حينما دعا إلى تكوين دولة إسلامية في شبه القارة الهندية، وهو النموذج المشوه الذي ولد مع باكستان في قطعتين من الأرض بينهما بعد المشرقين، لتتمزق إلى دولتين باكستان وبنغلادش، بعد أن بنيت على أنهار من دماء ملايين القتلى، في عملية جراحية دموية من أجل إرضاء غرور سياسيين من نوعية (علي جناح)، يتربع فيها على عرش السلطة، وتطبع صورته البهية على الأوراق النقدية، ويفرش بين قدميه السجاد الأحمر في المطارات، وأن يلقب في كل مكان سيدي سيدي أو بتعبير الإنجيل " يعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي    سيدي" . إنه حلم قديم لكل السياسيين المغامرين من عشاق السلطة وبناة حكم الأسر الإقطاعية المسلحة. لقد انتبه (مالك بن نبي) إلى هذه الولادة المشئومة بحيث اعتبر أن خلق دولة  باكستان كان حاجزاً نفسيا أمام انتشار الإسلام في القارة الهندية، التي كانت في طريقها إلى التحول الإسلامي البطيء. يقول (بن نبي) أن (تشرشل) كان في طريقه إلى تحقيق هدف ثلاثي من وراء خلق باكستان: (حصانة ضد الشيوعية) و(حاجز نفسي أمام انتشار الإسلام في القارة) و(كسر فكرة أي اتحاد هندي). جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي):" لقد استطاع الثعلب الهرم أن ينشئ في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجراً صحياً ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضاً كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية أخرى، ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس، تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء ملايين الضحايا، من أجل هذا التحرير الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود". وهي طريقة بريطانيا المعهودة عندما تغادر منطقة ما، أن تخلق فيها خراجاً مزمنا على صورتين، فإما خلقت وضعاً من العشق لا يقاوم لبناء دولة كما في مشكلة كشمير. أو بناء دول خرافية كما في دولة إسرائيل. بحيث تجعل المنطقة تغلي في هذا القدر قرونا وينطبخ فيها العرب واليهود معا. ولكنه داء أصيبت به بريطانيا في مشكلة شمال أيرلندا كما يقول المثل العربي رمتني بدائها وانسلت. لقد أدرك  غاندي خطورة التقسيم، وأن التفاحة نضجت كفاية لتسقط في اليد، وأن كل التحدي هو في بناء هند جديدة بعد التخلص من بريطانيا، واقترح أن يتولى علي جناح منصب رئيس أول جمهورية في الهند المتحدة، ولكن جناح كان يحوم فكره في اتجاه مختلف يسيل له اللعاب أكثر. إن الغرام بالدولة قديم، وعشق القوة متأصل في القلوب، وفكرة الدولة تأسر القلوب بسحر لا يقاوم، ويظن المغفلون أنه مع بناء الدولة سوف يبدلهم الله بعد خوفهم أمنا وفقرهم غنى وذلهم رفعة، فحصدوا الديكتاتورية والفقر ومزيدا من التقسيم. وبنوا أصناما نووية أدخلت الفزع إلى كل بيت في القارة الهندية. واليوم يحلم الأكراد بدولة كرمنجية، فيستبدلوا طاغوت عربي بطاغوت كردي ومغص بصداع. وما حصل مع تقسيم القارة الهندية أنه كان عملية جراحية نازفة لولادة قيصرية مرعبة، فلم ينفصل كل المسلمون ـ لحسن الحظ ـ ويعيش اليوم في الهند أكثر من 100 مليون مسلم، كما لم يبق من انفصل في دولة واحدة بل انشطروا بسرعة إلى اثنتين باكستان وبنغلادش، بعد أن انتزعوا قلب مجيب الرحمن من صدره، والدور اليوم على باكستان أن تنشطر إلى دويلات، وبقيت قضية كشمير بدون حل معلقة غير مطلقة على شكل خراج مزمن كما أرادت بريطانيا لها قبل نصف قرن. ووقعت باكستان في قبضة جنرالات قساة، من خلال سلسلة محمومة من الانقلابات العسكرية. ونضحك ولا نكاد نصدق اليوم أن باكستان التي أنفقت آخر مليم من جيبها لإنتاج صنم نووي خذلها في يوم الفصل. والناس عادة يشترون السلاح ليفيدهم يوم الفصل، ولكن باكستان خافت على السلاح الذي صنعته يداها. فبدل أن يحميها السلاح تبين أنه يحتاج لحماية. إنها نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. وينطبق هذا القانون على (الشيشان) وغيرها. واليوم نرى الشيشان وقد تحولت إلى أنقاض ولا تحمل مقومات دولة، وتريد الانفصال لبناء دولة تشبه دولة الطالبان. ألم يكن أجدى للشيشان أن يبقوا ضمن إطار دولة عظمى يستفيدون من مزاياها، ويمارسوا المقاومة المدنية في حال وقوع الظلم. كما بدأته النساء في أول الحملة الروسية، وتفاءلنا به، لولا انتقال عدوى المتشددين ووباء السلفية الجهادية مثل أنفلونزا الطيور إلى هناك. هل الأفضل للإنسان أن يركب غواصة نووية روسية من نوع كيرسك أم حمارا في جبال القفقاس؟ إنه سؤال محرج مزعج ولكن قابل للطرح. إن الأرض لله. والله رب العالمين. وحيث العدل فثم شرع الله. والعبرة ليست في قيام كيان سياسي يحمل ثوبا إسلاميا ويمارس الديكتاتورية. فهذا قانون جوهري في ممارسة النقد الذاتي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كما أن هناك علاقة بين النفس والآلة، وعندما يعمد الإنسان إلى السلاح فيستخدمه ويحل له السلاح الإشكالية يتحول إلى عبد له مرتهن في قبضته. وعندما يحل المشكلة بدون سلاح يتخلص من القوة مرتين وبالاتجاهين، فهو لا يفرض آراءه بالقوة، كما لا يخضع للآخرين تحت ضغط القوة، فهذه آلية هامة في تحرير الإنسان، وهو ما فعله الأنبياء بتربية الإنسان الجديد في التخلص من علاقات القوة. وفي إضاءة هذه الفكرة عن مشكلة الدولة يمكن وضع مفاصل هامة في الصراع العربي الإسرائيلي. 1 ـ (أولا)ً: الصراع العربي ـ الإسرائيلي هامشي وجانبي والصراع العربي ـ العربي هو الجوهري والأساسي ظهر هذا واضحا في حرب الخليج الأخيرة عندما نسينا إسرائيل واصطف الجنود العرب بجانب الأمريكيين. 2 ـ  (ثانياً) إن التخلص من الحكم الإسرائيلي لا يعني شيئا، إذا تم استبداله بما هو أسوء. واستبدال طاغوت صهيوني بطاغوت عربي لا يزيد الأمور إلا سوءً. وهذا الشيء يصعب تصوره ولكنه وارد. وقيام إسرائيل بالأصل  لم يكن إلا نتيجة طبيعية وتحصيل حاصل لانهيار الجهاز المناعي العربي، وهذا الجهاز لم يتعافى بعد، وفي جعبتنا الكفاية من أسلحة التدمير الذاتية، وعدم احترام بعضنا البعض، أو التآمر على بعضنا البعض، أو الغدر ببعضنا، فنحن نعيش أزمة ثقة مروعة. وهذا هو السبب في وجود الديكتاتوريات في المنطقة بسبب فقد (قدرة تقرير المصير) عند الأمة، مما جعلها مستباحة، يمكن أن يعلو ظهرها أي مغامر جريء أو انقلابي لا يتورع عن سفك الدم. كما جاء الأسد وصدام والنميري والقذافي والسادات، وآخر من شكله أزواج، من الانقلابيين المغامرين، فالمشكلة ليست في هذا البعوض التعيس، بل المستنقع الذي يشجع تفريخ هذا النوع السام من الحشرات. واستمرار الأوضاع يعني أن الأزمة قديمة ومستحكمة وعميقة جدا بحيث تصلبت مفاصل العمل السياسي. وحتى يمكن للأمة أن تمشي وتتحرك على نحو طبيعي أمامها معالجات فيزيائية مكثفة، وعمليات ترميم وتصليح متواصلة لكل الأجهزة المعطلة عن العمل، كما يحصل مع مريض معتل بعلل مختلفة. وهناك الآن حرص على بناء دولة فلسطينية ولكن يجب أن نضع في الحساب أن الإنسان الفلسطيني يمكن أن ينتقل من سجن إلى سجن أبشع،  ومن عبودية إلى عبودية مع تبديل السلاسل والسيد. وخلال نصف القرن الفائت قامت ثورات حاولت بكل إخلاص نقل الأمة إلى التحرر فتكبلت الأمة أكثر، ونحن اليوم نعاني من نقص العافية أكثر مما كنا عليه قبل خمسين عاما؛ فالعالم يتقدم ونحن نتراجع. وفي الوقت الذي تضاعف دخل الكوري الجنوبي 13 ضعفا تراجع دخلنا 13 مرة بموجب إحصائيات المؤرخ الأمريكي (باول كينيدي). 3 ـ (ثالثاً) إن أمامنا خيار أن نكون في حالة (لا حرب ولا سلم). كما لو دخل رجل فاحتل بيتا في حارة وقاطعه أهل الحي لحين حزم حقائبه والانصراف بسلام وبدون ضرب وحرب، بحيث نحول الورم الصهيوني كما يفعل  الجسم بضرب نطاق حوله (محفظة Capsule)، والفرق بين الورم الخبيث والحميد أن الأخير محاط بمحفظة كاملة. وفكرة مقايضة الأرض بالسلام معناه حسب التعريف الطبي السابق أن الجسم يكسر المحفظة من أجل السماح للورم بالانتشار في الجسم. والعرب ليس عندهم مشكلة نقص في الأراضي، وفكرة السلام مع إسرائيل قاصرة، وهناك احتمال واحد للسلام، عندما تتغير طبيعة الورم الصهيوني من السرطانية إلى الورم السليم. ويجب استيعاب حقيقة مرة أن إسرائيل اليوم هي رأس حربة العالم الغربي، فهم من زرعها وتعهدها بالسقاية والسماد ومازال، وهذه حقيقة ثقيلة، أننا نواجه العالم الغربي في صراعنا وليس دولة إسرائيل، رأينا ذلك واضحا بمدها بالجسر الجوي في ساعة العسرة. ومراجعة بسيطة في كتاب (خيار شمشون) لـ (سيمور هيرش) تعطيك النبأ اليقين عن الغرب الذي مكنها من تطوير السلاح النووي وملحقاته من الصواريخ. لقد تغير العالم ولم يعد كما كان سابقا في مواجهات الحروب الصليبية عندما كان يواجه طاغية طاغية، بل تحول اليوم إلى طاغية يواجه مجتمعا غربيا تغيرت طبيعته كلياً يحكم بإدارة جماعية أحكمت قبضتها على العالم بتكنولوجيا متقدمة ومؤسسات علمية ومصارف من المال تحوي أكثر من مال قارون. 4 ـ (رابعاً) وهناك من يعترض أن إسرائيل لن ترضى بهذا الوضع ولسوف تحاول الامتداد إلى الجوار ولذا يجب التسلح وإنفاق المليارات في الأسلحة المتطورة. ولكنها مصيدة فالسلاح من الغرب، ولا يعقل أن يبيعك خصمك سلاحا تستطيع أن تتفوق به عليه، طالما لم نتمكن حتى الآن من بناء القاعدة العلمية لامتلاك التكنولوجيا المتطورة. وفي كتاب (اليابان تقول لأمريكا لا) بقلم (شينتارو أيشيهارا) نعرف أن التكنولوجيا النووية لأمريكا متوقفة على الميكرو شيبس المصنوع في اليابان. والارتهان للسلاح المتطور ورطة، ويمكن أن يدمر خلال الساعات الأولى من أي مواجهة، وهو ما رأيناه في المواجهة بين الدبابات العراقية ت 72 وأبرامز الأمريكية في حرب 1991م . وفي جنوب لبنان لم تهزم إسرائيل بأسلحة متطورة وجيوش نظامية بل بأسلحة فردية وحرب عصابات، وخروج إسرائيل أيضا عليه إشارة استفهام بهذه الطريقة، كما أن من نجح ضد إسرائيل على فرض نجاحه لا يعني أنه سينجح في لعبة الديموقراطية فلا يستويان مثلا. وفي عام 2006 م فاز حزب الله في صراعه مع التمساح الصهيوني، ولكنه تحول بدوره إلى ديناصور لاحم فالتهم لبنان عام 2008م في مناورة ساعات؟ وإسرائيل غير حريصة على اجتياح الجوار، ولقد جربت حظها عام 1982 في دخول بيروت وتراجعت. ثم جربت من جديد عام 2006م فتدمرت لبنان ولم يتدمر حزب الله، مثل مقاومة السرطان بالمواد الكيماوية فيهلك الجسم وتبقى خلايا السرطان؟ واليوم ينتقل كل الصراع مع الجيوش العربية والجيران إلى داخل إسرائيل. ويجب أن نعترف أن المواطن العربي اليوم يستطيع تحت الحكم الإسرائيلي أن يخرج في مظاهرات، ويكتب ما يشاء، وينظم الأحزاب، ويضرب بالحجارة، ولكنه في العواصم العربية عاجز عن أي تظاهرة، بآلية مزدوجة من الخوف المتبادل، فلن تكون المظاهرة سلمية، والقمع سيكون دموياً من خلال عقلية عنفية مسيطرة على الطرفين. ولولا الحضور العالمي ما تغيرت المنطقة العربية. وهذه حقيقة بغيضة ولكنها حقيقة. ولا ينطق بها إلا قليل. 5 ـ (خامساً) بين أيدينا تجربة جنوب أفريقيا تقول أن النظام العنصري مات في النهاية، وحكمت الأكثرية السوداء، وجاء منديلا من السجن إلى الرئاسة، وهذا الشيء يمكن أن يحدث في فلسطين، وحسب دراسات (عبد الوهاب المسيري) سيشكل عدد الفلسطينيين ديموغرافياً الغالبية في المجتمع الإسرائيلي عام 2050 م، ولكن الكلام في هذا الموضوع حرام. ونحن نرى اليوم عرب 48 يدخلون الكنيست ويشكلون الأحزاب ويعترضون ويتظاهرون. بل إن بعض الإحصائيات أظهرت رغبة بعض الأقليات العربية عدم الانضمام إلى البلدان العربية، وتفضيل البقاء في إسرائيل حيث الرعاية الصحية وضمانات العمل والتعليم واحترام الإنسان. رغم التفريق العنصري، فالمسألة درجات كما نرى. إنها حقائق فاجعة ولكنها حقائق. وهو مؤشر عميق على أزمة الأمة الحضاري. 6 ـ (سادساً) لقد جربت الأنظمة العربية خوض حروب نظامية ضد إسرائيل انتهت في معظمها إلى كوارث، واليوم مع السلاح النووي لا يبقى في المنطقة إلا (خيار شمشون)، بمعنى أن الحرب انتهت بامتلاك سقف القوة، وأي مقاومة مسلحة داخل فلسطين سيكون حظها أضعف من حظ الأنظمة العربية في النجاح، مما يؤكد خيار المقاومة المدنية. ويجب التفريق بين حالتين: الجنوب اللبناني حيث نجحت المقاومة المسلحة ضد أفراد غرباء يعيشون وسط أمة ولا يعتبرونها أرضهم، وبين أمتين متداخلتين في الجوار كما هو حاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين مما دعا ياسر عرفات في يوم تشبيه الوضع في جمعية الأمم المتحدة في خطابه المشهور أنها حالة تشبه تلك التي عرضت على النبي سليمان حينما ادعت امرأتان ملكية ولد واحد فاقترح أن يقطع الغلام إلى نصفين وتعطى كل أم شق منه. فصرخت الأم الحقيقة إنه ليس ولدي لا تقطعوه. فما كان من صاحب الحكمة نبي الله سليمان عليه السلام إلا أن أعطى الأم المشفقة الغلام. وأمامنا الآن النظر في هذه المسألة من جديد للتفريق بين الحكومة الدينية والحكومة المدنية،  ونعرف من التاريخ أنه في شتاء 1979 م انفجر الطلبة في فبراير (بهمن) من عام 1979 م  بالثورة الإيرانية ضد الشاه فقمعها بكل سبيل ولم يفلح. وأسس الخميني دولته الدينية. وفي يونيو 2003م انفجر الطلبة في طهران بمظاهرات ضد الحكومة الدينية فتم قمعها كما فعل الشاه من قبل. هذه المرة باسم الدين. واعتبرت الحكومة الدينية أن أولئك الطلبة مارقون يحاربون الشريعة. وفي لحظة تحول من قاوم الاضطهاد إلى جلاد. وهذا الانقلاب في الأدوار سنة كونية. كما في قصة طالوت وجالوت. واليوم يمثل دور داوود صبي الانتفاضة. وجالوت التنين النووي الإسرائيلي. وبقدر اضطهاد المسيحيين في الكولسيوم في روما وحرقهم وإلقائهم إلى الأسود. فقد فعلت المسيحية بخصومها ما هو أفظع مما فعلته روما بالمسيحيين. وهذا القانون النفسي يقول إن جرثومة الاضطهاد تنقل عدواها من طرف إلى طرف. بحيث يتم تبادل الأدوار من حيث لا يشعر أتباع الأنبياء ومقلدي الأفكار العظيمة. ولعل أعظم فتح وصلت إليه الديمقراطيات الحديثة هي وجود المعارضة والحكم في نفس الوقت تتبادل نقل السلطة السلمي. مثل دعسة البنزين والفرامل في السيارة. وأعظم ما فعله  الآباء الأمريكيون أن حددوا فترة الرئاسة أربع سنوات ولا تزيد عن مرتين ولا عودة بعدها. مقابل سبع سنوات في الشرق المنكود تتكرر حتى موت الرئيس أو اغتياله. واليوم تشكو المعارضة العربية من سوء حقوق الإنسان تحت بعض الأنظمة ولكن لو كانت محل الحكومة فلن تتغير الصورة. فهذه قوانين اجتماعية مثل الضغط الجوي وتبخر الماء بالحرارة. وعندما نجحت الثورة الإيرانية فإنها لم تقل للناس اذهبوا فأنتم الطلقاء بل استفتحت العهد الجديد بسلسلة لا نهاية لها من الإعدامات خلدها الخلخالي بمنظره الكاريكاتوري في محاكم هزلية باسم الشريعة . وفي فبراير من عام 1981 كنت في زيارة لطهران بمناسبة الذكرى الثانية للثورة فسألت إبراهيم يزدي عن الإعدامات التي لا تنتهي فاعتبر سؤالي (رأسماليا) مضادا للثورة. وقبل سقوط تشاوسسكو بأربعة أيام كان في زيارة طهران. وهكذا طرد الشاه من إيران ثم عاد فدخل بعباءة وقفطان ولحية. وفي السودان نجح الترابي في إقامة خلافته الدينية ولكن الحصان العسكري الذي جاء به إلى السلطة جمح به فكاد أن يدق عنقه. وهو الآن يكتب مخطوطة كبيرة في السياسة والحكم في الإسلام بأن الحريات هي أم القضايا بعد أن قضى على الحريات. وفي أفغانستان حكم الطالبان فوأدوا المرأة وقتلوا المخالف وحطموا الأماكن الأثرية بدعوى الأصنام ومشى الناس على رؤوسهم إلى الخلف. كل ذلك تم باسم الحكومة الدينية. وفي العراق كتب صدام على العلم العراقي الله أكبر ولم يكن في العراق من إله إلا صدام. وهو أمر صادم ولكن هذا ما يقرره القرآن، فيوسف قال لمن كان معه في السجن اذكرني عند ربك، ولم يكن سوى نظير صدام. ومن لم يصدق هذه الحقيقة الصادمة فليجرب حظه في أي عاصمة عربية أن يتعرض لرئيس البلد ثم الله، ليعلم أيهما أسرع في أن تمتد إليه يد المخابرات بالاعتقال والضرب والإهانة. فهذه تجربة ميدانية لنعرف الله الحقيقي، والوثنية الفعلية التي دلف إليها العربان في عالم الأوثان. وفي الجزائر ذبح أكثر من مائتي ألف بالسواطير والسكاكين بدعوى الجهاد لإقامة حكومة دينية. وعندما نشب الصراع بين محمد ذي النفس الزكية وأبو جعفر المنصور ساق كل طرف كل الأدلة العقلية والقلية أنه صاحب الحق في الخلافة. والذي حسم الصراع كان السيف فكان أصدق من كل الأدلة العقلية والنقلية. وفي سوريا تم توزيع منشورات سرية بفتوى من ابن تيمية بجواز قتل النصيرين بأي سبيل فهذا أقرب للتقوى. مما دعا السلطة إلى إصدار بلاغ بإلقاء القبض على ابن تيمية؟ وفي عام 1980 جرت محاولة لاغتيال رئيس الجمهورية في سوريا مما جعل النظام يتورط في قتل ألف معتقل سياسي وهم في عنابر السجن فهذا أدعى للأمن. وكما نرى فالكل يستحم في نفس العين الحمئة من نجاسة الدم المسفوح. كل هذا الصراع يدور حول تأسيس الحكومة الدينية، ولكن هل الحكومة المدنية تتعارض مع الإسلام؟ وهل أثبتت الحكومات التي رفعت الشعارات الدينية جدارتها ونجاحها في عالمنا المعاصر؟ وهل الحكومة الدينية هي الحل لمشاكلنا الإنسانية؟ هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تاريخية وسير في الأرض لرؤية المكاسب والخسائر التي جلبتها للناس. فمن الواضح رؤية المشهد الدامي عبر العصور لأتباع الأنبياء وهم يتقاتلون وكل حزب يريد إقامة حكومته الدينية. ويدعي أن كل ما عداها باطل يجب محوه. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" لماذا يقتتل أتباع الأنبياء؟ في البداية كان الناس يقتتلون على الطعام والمال والأرض والنساء. والقرآن يذكر أول حادثة قتل في تاريخ البشرية لأنه لم يُتَقَبل منه قربانه. فالسبب هو الإحباط والنقمة لما نزل به من فضيحة دينية حيث كشف عدم صدقه في التقرب إلى الله. وأن شعاراته الدينية كانت هزيلة وزائفة. وكثير من الدول المستكبرة الآن على مذهب قابيل ترفع الشعارات الطيبة وأحياناً الدينية وتقتل من يحاول كشف زيفها. ثم جاء بنو إسرائيل وأقاموا دولتهم الدينية على الجماجم والدماء وصوروا إلههم أنه الجبار الدموي الذي لا يرتوي إلا بحصد دائم للبشر. وحتى سليمان يخدم ربه بهذا الأسلوب "فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها" وجاء عيسى فتبرأ من كل هذه المجازر ونادى بالحب والتزم أتباعه في البداية بالحب والرحمة وبشروا أن مملكة الرب في السماء. ولم يهتموا بإقامة حكومة دينية على الأرض. إلى أن جاء قسطنطين وعقد مجمع نيقية لعلماء النصارى. ثم أصبحت النصرانية التي حددها المجمع هي دين الدولة وكل ما عداه خارج على الدولة ويجب تصفيته ومنها فرقة آريوس. وأصبح الناس يقتُلون ويُقتَلون باسم الحكومة الدينية. وقصة أصحاب الأخدود مثال على ذلك من تحريق الناس في نجران. وجاء الإسلام وأنشأ دولته في المدينة وكانت دولة راشدية هي الحكومة الدينية الأولى التي لم تقتل الناس من أجل دينهم وأفكارهم. ومع ذلك فقد قتل اثنان من الراشدين أي نصفهم ربما بسبب الاختلاف القبلي. وكانت الفتوحات في البداية حرب تحرير للإنسان من الظلم. ثم دخلها الطمع في الغنائم. ثم انفجرت الحروب الصليبية لتعرض علينا مقدار شناعة الحروب الدينية وأن تحت الشعارات الدينية مطامع دنيوية كبيرة. ولكن أتباع الأنبياء كانوا يظنون باستمرار أن الله يأمرهم أن يقاتلوا الآخرين ويفنوهم من الأرض كي يمنحهم أرضهم وديارهم وأموالهم مكافأة ومغانم. فهل أمر الله فعلاً بتصفية الكافرين؟ لماذا قال لنا إذن "لا إكراه في الدين"؟ لا بد من دراسة آيات القتال في القرآن دراسة تاريخية ضمن ظروفها وملابساتها فلكل مقام مقال، ولكن العالم الإسلامي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ لأنه عجز عن هذه الرؤية التاريخية. فهو يلغي "لا إكراه في الدين" و"ادخلوا في السلم كافة" و"كفوا أيديكم" و"كلا لا تطعه واسجد واقترب" و" فأعفوا واصفحوا" و"ادفع بالتي هي أحسن" و"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم". والقرآن يقول إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون" ويقول "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" ويقول لمحمد ص "وان احكم بينهم بما انزل الله". هل يعني ذلك إقامة حكومة يهودية لليهود ونصرانية للنصارى ومسلمة للمسلمين؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا في بلد واحد يضم مواطنين من الأديان الثلاثة؟ إن تاريخ أوربا منذ الحروب الصليبية حتى الآن يعرض باستمرار الحروب الدينية بين المذاهب المختلفة وحتى في الدين الواحد. وانظر إلى ما جري حتى الآن بين بريطانيا وايرلندا. فكل طرف يريد أن يجعل الحكم لمذهبه وكل حزب بما لديهم فرحون. والآخر هو الشيطان. والصرب انتقموا مما فعله الكروات بهم عام 1941م حين قتل ثلاثمائة ألف من الصرب. فهل يعقل أن ينزل الدين من السماء ليكون سببا دائماً للقتال بدلا من أن يكون رحمة للعالمين؟ من الواضح أن المآسي علمت الشعوب الأوربية  أن تعيد النظر وتفكر في مصالحها وما ينفع الناس بعيدا عن المذاهب والنعرات الدينية. وتركت لكل إنسان حريته في الإيمان بما يشاء من الأديان. ولكن المتحمسين من المسلمين يقولون: لكن الحكومة الإسلامية مختلفة عن ذلك إنها ترفع الظلم عن الناس وتمنحهم الأمن والعدل؟ والسؤال من هي الحكومة الإسلامية؟ أهي السلفية أم المذهبية؟ أهي السنية أم الشيعية؟ أهي التي ظهرت في بنغلادش أم أفغانستان وإيران؟ أما من سبيل لإيقاف هذه المآسي والمجازر التي ترتكب باسم الدين وطلبا لرضى الله.  وكل ما يجري في العالم الإسلامي يقول كل حزب بما لديهم فرحون. ولكن الله غير حزبي ولا يتحزب. ولا بد من الانتباه إلى أن الحكومة المدنية تسمح بالمعارضة وبوجود أحزاب متعددة تقدم أكثر من رأي حول الموضوع. أما الحكومة الدينية فإنها تعتبر المعارضة والاختلاف معها خروجا من الدين وكأن الذي يعترض عليها يعترض على الله. لأنها تعتبر نفسها تمثل حكم الله. وفي قول للرسول ص وهو يوصي الصحابي أن "لا ينزلهم على حكم الله بل على حكمه فإنك لا تدري هل يوافق حكمك حكم الله" سيقولون الله أمرنا بأن نحكَّم شرع الله؟ حسناً ولكن ما هو "ما أنزل الله؟ إنه "لا إكراه في الدين" فهذا الآيات وأمثالها تمثل مباديء قرآنية يسميها علماء الشريعة مقاصد الشريعة. وهي مباديء لا يرفضها أحد من الناس مهما كان كافرا. فلماذا لا يدعى الناس على اختلاف أديانهم إلى حكومة تتبنى هذه المباديء ويتولى شئونها مخلصون متخصصون في السياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة النفسية والجسمية. وتكون الحكومة مسئولة ومحاسبة أمام شعبها عن صلاحيتها وأحكامها. ويترك كل  إنسان ليختار من الأديان ما يشاء مع ضمان حرية الرأي وحرية الدعوة للأديان. إن الحكم بهذه المباديء سيكون حكما بالإسلام وبكل الأديان السماوية. إن دارس قصة الحضارة يتأمل في المذاهب والأديان التي تتالت على البشرية فيجد أنها اتفقت على أساس كبير واحد أن "تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟" والإسلام قال: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. أي أن نكون جميعا سواء و لا يكون أحد منا فوق القانون. قالوا باستغراب ولكن أهل الكتاب هم أهل ذمة وعليهم دفع الجزية "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" وهنا مشكلة كبيرة نعاني منها وهي العجز عن الخروج عن القوالب التاريخية التي فات أوانها. وأن هناك آيات تمثل حالة (الطوارئ) كما دفع العراق تعويضات اجتياح الكويت عن يد وهو صاغر. وكما فعل القذافي بعده، وهناك من العلماء العاصرين من تكلم عن الموضوع وقال:لم يعد هناك أهل ذمة وأصبح الجميع مواطنين لهم حقوقهم ويدفعون الضرائب لتحقيق الضمانات لهم لرفع مستوى بلدهم". إن أجمل تعريف للشريعة وضعه ابن قيم الجوزية حينما اعتبر أنه" فحيث العدل فثم شرع الله" وعندما نرى محاسبة توني بلير من مجلس العموم البريطاني في صيف 2003م على التورط في حرب العراق بمعلومات كاذبة في الوقت الذي يستعطف مواطنون عرب حكوماتهم أن يمنحوا أولادهم من الجيل الثالث جوازات سفر يصبح السؤال الجدي أين شرع الله؟ إنه سؤال مزعج ولكن لا بد منه؟
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram