- - -

البيكادون : الالتماع النووي
بصوت رفيع متهدج وبلغة أدبية منمقة تحدث الامبراطور (هيروهيتو) الى شعبه صبيحة يوم الخامس عشر من شهر أغسطس (غشت) عام 1945 . كانت الكلمات قليلة ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: ( إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث ، يمتلك من قوة التدمير مالاعهد للانسان به ، ومالاطاقة لنا به ) وتابع الامبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان : ( وإنني أخشى ياشعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد ) ؟‍! كان الامبراطور الياباني قد أدرك العهد الجديد الذي دخلته الانسانية ، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري ، فهذه القنبلة غيرت العالم ، والتاريخ ومصير الجنس البشري ، والفكر الانساني ، في ضربة واحدة وفجرت معها عصراً جديدا ؛ فدخل العالم حقبة جديدة ، وتكون خلقاً أخر ، ونشأة مستأنفة . وختم الامبراطور كلمته : ( علي أن أقول لكم إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل مالاطاقة لنا به ؟! ) القاذفة ( اينولا جاي ENOLA GAY) والضابط ( باول تيبتس PAUL.W.TIBBETS.) : كانت الساعة( 2.52 ) صباحاً عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع ( B ـ 29 تتحرك من جزيرة ( تينيان ) في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية ، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق ولاتدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات . يقود السرب الضابط ( باول تيبتس )( PAUL . W . TIBBETS ) وخبير الأسلحة ( ويليام بارسونز )( WILIAM PARSONS ) . كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس : علينا أن نبدأ الان . كان الظلام يحيط بالطائرة التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس ( اينولا جاي )( ENOLA GAY ) . كان على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه اسطوانة الغاز الكبيرة ذات ( أنف مبعوج ) ولايزيد قطرها عن 60 سم ويتراوح محتواها الأساسي حوالي ستين كغ من مادة اليورانيم 235 المكثف ، الا أنها بالغلاف الفولاذي المحيط بها ارتفع وزنها الى أربعة أطنان . وبجانب الطائرة اينولا جاي حلقت طائرتان حربيتان أخريتان الأولى تحمل مخبراً كاملاً لدراسة استخدام ( السلاح الجديد ) والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها . في الساعة 3.10 عمد ( بارسونز ) الى إغلاق زناد القنبلة بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة في هذه المهمة التي أخذت لقب ( بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13 ) وهتف : كل شيء على مايرام !! . عند الساعة ( 4.55 ) حلَّق التشكيل الثلاثي بشكل حرف ثمانية باللغة العربية ؛ حيث تحتل القاذفة النووية ( اينولا جاي ) رأس التشكيلة ، وسأل المساعد بوب كارون ( BOB CARON ) هل سنشطر الذرة اليوم ؟ علق تيبتس : لقد بدأتَ تفهم الأمور ! كانت مدينة هيروشيما قد برمجت للمسح من ملف الوجود ، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى للرحيل الى العالم الأخروي ، وهذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف ، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما ؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى الإعدادات الجنائزية عند الساعة 6.30 بدأت الإعدادات الجنائزية لسكان العالم السفلي في مدينة هيروشيما ، فاستل ( بارسونز ) ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة ، ليضع بدلاً عنها حمراء اللون ، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقاً ، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد . عندها صرخ الضابط ( باول تيبتس ) للمرة الأولى بكل علانية ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية : إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا !! عند الساعة 7.25 صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم الى 9500 ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد ( كلود ايثرليس CLAUDE EATHERLS ) الذي بثهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات أو وجود طائرات معادية في الجو ، صاح فيهم : ياشباب كل شيء على مايرام ... دمروا الهدف الأول على القائمة !! وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام لـ 140000 من البشر الذين تحت طير أبابيل الذرية يفتتحون يوماً جديداً في الحياة ، وليس عندهم أقل تصور ، لقصر المسافة بينهم وبين هوة الموت ، التي فتحت فاهها العريض لاستقبال جحافل الموتى بأبشع طريقة وسلاح . إنها هيروشيما !! صاح تيبتس : إنها هيروشيما !! ثم نظر الى بارسونز بعد أن هبطت القاذفة مخترقة فتحة من السحب وسأله : هل هي هدفنا بالضبط ؟ أجاب بارسونز بهز رأسه فهو يعرف المدينة ذات الأذرع الثمانية المستلقية بارتخاء تحتضن البحر ، وصاح تيبتس بطاقم الطائرة : أعدوا نظارات ( لحام الاكسجين ) الحماية ؛ فالوهج الذي سينطلق سيعي العيون كما أفادونا علماء لوس آلاموس !! عند الساعة 8.13 هتف تيبتس بمساعده ( توم فيريبي TOM FEREBEE ) لقد جاء دورك الآن ‍‍!! فتولى الآخر قيادة الطائرة ، التي كانت السرعة فيها تشير الى الرقم 460 \كم في الساعة . كانت المدينة معروفة تماماً لتوم فيريبي ، فهو يعرف نهر ( الاوتا OTA ) الذي يتشعب منه سبعة فروع ، كأنها راحة اليد المفتوحة ، كما يعرف جسر ايواي AIOI ) المشهور ، ذو شكل حرف T باللغة الانكليزية . في هذه اللحظة اقتربت القاذفة تماماً من نقطة الهدف ، وعند الثانية 17 بعد الدقيقة 15 من الساعة الثامنة باضت القاذفة البيضة الكبيرة ذات الاطنان الأربعة بين رجليها . مالت القنبلة أولاً الى الجانب ثم استقرت وأنفها المسطح نحو الأسفل وقد زودت بمظلتين . وعندما تحررت القاذفة من هذا الثقل عمدت الى الأعلى بكل قوة ، فالأوامر كانت تقول : ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون . وبدأ العد التنازلي للثواني 43 القادمة ؛ فالمفروض أن يحصل الانفجار على ارتفاع خمسين متراً وفي تمام الساعة 8.16 من صباح ذلك اليوم النحس ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر . عند الرقم 43 أطل الفطر النووي برأسه عندما وصل العد الى 35 ثانية وضع الطيار نظارة الوقاية ( التي تستخدم في لحم الاكسجين ) ولكنه لم يرى شيئاً فرماها جانباً ، وصاح هل ترون شيئاً ؟ أجاب أحدهم لاشيء على الاطلاق ‍!! كان خوف الأمريكيين كبيراً أن تفشل التجربة خاصة وأن هذه القنبلة لم تجرب في منطقة آلامو جوردو (1) لثقتهم العالية أنها لن تخيب !! كان اللويتنانت ( ملازم ثاني ) نوريس جبسون يعد بفارغ الصبر ، وعندما وصل الرقم الى 43 توقف وللحظة ظن أن التجربة فشلت ، ولكن في هذه اللحظة أشرقت الأرض بنور وهاج يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ؛ فالتمعت كل الطائرة ، وأبصر ( بوب كارون ) الذي كان في المؤخرة بزوغ حلقة مرعبة من الضوء ، صعدت كالعملاق الى الأعلى وكأنه الضوء القادم من كوكب آخر ، وانطلقت قوة عاتية قذفت بالطائرة الى الأعلى ، مما أطلق صفارات الإنذار داخلها ، وسمع تيبتس مايشبه طلقة المدفع من عيار 88 ملمتر ، بعدها بقليل رجت الطائرة قوة أخرى ، فصاح تيبتس : إنها قوة الضغط المعاكسة حافظوا على النظام . وعندما كانت مدينة هيروشيما تمسح من الوجود كان ( بوب كارون ) يسجل : ( ارتفع عمود فظيع من الدخان الى الأعلى وبسرعة ، في وسط العمود نار حمراء . كانت الحرائق تلتهم كل شيء ... كانت كثيرة للغاية ... أكثر من يحصيها العدد ... والآن جاءت .. جاءت ... لقد تشكل مايشبه رأس الفطر الذي نراه في الحقول ... انظروا ... انظروا الى هذا المنظر العجيب ... ) مصطلح الفطر يستخدم للمرة الأولى في تاريخ العلم صعق تيبتس من هول مارأى وقال : لم أكن أتوقع تدميرا كهذا تراه عيني ... ثم أرسل تلكس الى القاعدة الجوية في تينيان ( TINIAN ) : تحقق التدمير والنتائج ممتازة !! صاح بارسونز : ماذا أرسلت ؟ إن هذا لايكفي !! وعمد الى إرسال تلكس آخر : كانت النتائج ناجحة وذات أثر أكبر مما حصل في تجربة آلامو جوردو (2) الا أن الرعب تملك بقية طاقة الطائرة وارتسمت علامات الخوف على وجه لويس مساعد القيادة وأخذ يخاطب نفسه : رباه ماذا جنت يدانا .. ماذا فعلنا .. ماذا فعلنا .. ‍‍!! وأنه أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا كان الطيارون الأمريكيون يفركون أيديهم من قوة الإنجاز وحسمه ، ووجه ليزلي جروفز ( LESLIE GROVES ) يطفح بالبشر والسرور ، الجنرال المشرف على المشروع العسكري ابن القس البروتستانتي في لوس آلاموس ، الذي لم يندم لحظة واحدة عما حصل حتى بقية حياته ، ووجه الرئيس الأمريكي ترومان يشع بالغطرسة والتجبر ، فبدأ يفرض في مؤتمر برلين مع ستالين شروطاً مستحيلة بعد أن سكر بخمر القوة . في نفس الوقت كان أهل هيروشيما يحترقون بالنار ذات الوقود ، يذوبون ويشوون ، ويموت بالجملة الأطفال والنساء ، الشباب والعجائز ، فالنار التي كانت تنزل شواظ من نار ونحاس ، ترمي بشرر كالقصور ، كأنها الجمال الصفر المتراقصة .... وكأن القيامة قد قامت ؟‍‍! درجة الحرارة فوق مركز المدينة وصلت الى 300 ألف درجة : عندما اشتعلت كرة النار على ارتفاع 550 متراً فوق مستشفى ( كا أورو شيماس )( KAORU - SHIMAS ) في مركز مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة صباحاً و16 دقيقة من يوم السادس من أغسطس عام 1945 م كان العالم يدخل حقبة جديدة ، ليس بفعل الحرارة الجهنمية التي وصلت الى 300 ألف درجة بحيث تبخر المستشفى بمن فيه من المرضى ، ولكن بفعل امتلاك طاقة الوقود الشمسي ، وهذا التطور يعتبر نوعيا في تاريخ الجنس البشري . فلقد كان تاريخ القوة حتى تلك اللحظة تصعيداً تدريجياً في الطاقة النارية ، ويعني خسارة فادحة في الجنس البشري مع كل نزاع ، أما هذه المرة فأصبح بإمكان الانسان أن يفني جنسه للمرة الأولى في تاريخه ، حين امتلك سقف القوة ، ووضع يده على طاقة النجوم ، وتحت ضغط هذه الحقيقة العلمية أكثر من مواعظ الأخلاقيين وتعاليم المصلحين ، دلف العالم الى السلام العالمي مرغماً مفاجئاً لايكاد يصدق ، فهو يعيش حيرة التناقض بين انشطار التاريخ بين مفهوم القوة والتطور العلمي وعتبته الجديدة . هذه القوة العاتية التي استخدمت مرة واحدة فوق رؤوس البشر ولعلها الأخيرة ، توقفت القوة أن تكون سبيلاً لحل المشاكل ؛ في مستوى دول العالم الأول على الأقل ، حيث أصبحت الحروب اليوم موضة المتخلفين ، أو تأديب المتخلفين ، الذين لم يدخلوا العصر بعد ، وهذا يحمل تباشير أن يدخل الانسان المرحلة ( الانسانية ) في التاريخ ، ويبدأ عهد الانبياء فعلاً الذي نادوا به وبشروا بإمكانية إقامته ، وبذا كانت قنبلة ( هيروشيما ) نذيراً وبشيراً للبشر في آن واحد ، نذيراً بالفناء وبشيرا بالسلام . البيكادون ( PIKADON ) الالتماع المدوي كانت المدرِّسة ( كاتسوكو هوريبي ـ KATSUKO HORIBE ) بفعل ظروف الحرب قررت القدوم بشكل مبكر الى المدرسة الابتدائية ( هونكاوا ـ HONKAWA ) وكان الوقت ثواني قليلة بعد الدقيقة 16 من الساعة الثامنة صباحاً ، وقد اجتمع الطلبة وبدأت الحياة تضخ بنظمها المعهود (3) عندما قامت القيامة . تقول المدرِّسة كاتسوكو إنها لم تسمع شيئاً على الإطلاق ولكنها لاحظت فجأة أن غرفة التدريس غرقت بضوء أزرق متوهج يكاد يعمي الأبصار ، ثم انفجر زجاج النافذة وطارت الشظايا البللورية ، لتغرز نهاياتها الحادة في رأسها وذراعها الأيسر . لم تشعر بشيء ولكنها ارتمت أرضاً ، وخلال لحظات ساد سكون قاتل ، ثم ساد ظلام عجيب ، وكأن النهار تحول الى ليل . كانت الصدفة لاأكثر هي التي أبقت على حياة المدرَّسة ( كاتسوكو هوريبي ) لإن زملاءها العشرة الذين جاؤوا بالترام على الموعد تحولوا في لحظات الى قطع من الفحم الأسود ( واختارت أمريكا المكان والزمان بدقة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر ، وأعظم عتبة من الخوف والمفاجأة فألقت القنبلة بدون سابق إنذار ) كذلك حالف الحظ المدرسة كاتسوكو في مركز الانفجار ؛ فالمفروض أن تكون نقطة الانفجار 250 مترا فوق جسر ايوئي ( AIOI ) والذي حصل أن مركز الانفجار حصل بارتفاع 550 مترا فوق مستشفى كاأورو شيماس كما ذكرنا ، الذي اختفى بالكلية وانمسح من الوجود بكل مافيه من أشياء وأناسي ، فتبخر الجميع في وهج حرارة وصلت الى 300 ألف درجة ، حولت في مدى نصف قطر 500 متر كل شيء الى رماد وهباب فحم ، وحتى 3.2 كم ارتفعت الحرارة الى 3000 درجة فعرضت كل من صادفته الى أبشع الحروق ، والى مسافة 14 كم احترق الورق ، وبذا تحولت هيروشيما تحت تأثي رالضغط والحرارة والاشعاع الى جهنم تتلظى ، فقضى نحبهم فورا ثمانون ألف انسان من السكان ثم تتابع عشرات الألاوف بعد ذلك ليقترب العدد الإجمالي الى قريب 150 الف انسان . باتجاه نهر الموتوياس ( MOTOYAS ) عندما استعادت كاتسوكو وعيها اندفعت الى المدرسة باتجاه نهر الموتوياس لإنقاذ سبعة أطفال من حرق مرعب أكل وجوههم وحول ملابسهم الى أسمال ومزق ، صاحت بالأطفال : باتجاه النهر .. عليكم بالنهر ‍‍!! كان النهر هو أملهم الوحيد ، ولكن ال120 مترا أصبحت طريقاً لاينتهي ، بين جثث محترقة ، وأكتاف تتدافع قد أصابها من الحرق ماحولَّها الى جموع شاردة مجنونة تزعق من الألم ، كما أن النهر بذاته أصبح مطوقاً من النا رمن كل جانب ، فمركز المدينة بالكامل قد استحال الى كتلة نارية ملتهبة ، تزداد بالاتساع ، واختفى الأطفال السبعة من ناظريها في الاتون الملتهب . شعرت المدرِّسة هوريبي بأنها تموت واستولى عليها نوبة من الاقياءات المرة ، وعندما نظرت الى ملابسها كانت مقطعة قد غرقت بالدماء ، لم تعرف تفسير ماحدث ، هل هي نهاية العالم ؟ مابال هذه الجثث المحترقة ؟ مامعنى اكوام الموتى ؟ قصدت النهر فغطست فيه حتى الذقن هرباً من النار الحارقة ، حتى إذا انتعشت هرعت الى بقايا مدرستها التي كانت مبنية من الخرسانة المسلحة المتينة ، والتي كانت خلف نجاتها ، فرأت منظراً لاتنساه : كانت بقية زميلاتها من المدرِّسات قد تحولن الى قطع متناثرة من الجثث المتفحمة وكأنه يوم الحشر والدينونة كانت ( ساكائي ايتو SAKAE ITO ) في مجموعة من المتطوعين ، لتهيئة المدينة لمقاومة هجوم جوي ، تتذكر كيف شبت النار في معطفها فجأة بدون سابق إنذار ، وخلال لحظات عم الظلام ، ثم بدأ مطر أسود لزج قطراني يتساقط من السماء ، لم تفهم ماحدث ؟‍! ووجدت نفسها تحت أنقاض منزل !! وعندما نظرت باتجاه تلة ( هيجي ياما ـ HIJIYAMA ) رأت القمة بوضوح وكأنها قريبة . لم يبق هناك من المدينة مايعزل عن رؤيتها ، فالمدينة كنست ‍!! واندفعت باتجاه جسر ( تسورومي ـ TSURUMI ) وهي تتساءل أي قنبلة هذه التي حولت كل المدينة الى أنقاض ، لم تسمع انفجارا أو ترى حفرة في الأرض ‍!! هكذا اصطلح أهل المدينة على تسمية ماحدث بيكادون ، وهي اجتماع كلمتين ( البيكا ) وتعني الالتماع و ( الدون ) الصوت الخارق المدوي . كل من كان بالمدينة لم يشعر الا بالالتماع والتوهج ، ومن كان في البعيد رأى تألق الضوء وصوت الفرقعة . كانت طوابير الناس المحترقة المتألمة المختنقة والمتبقية من ( الهولوكوست ) المحرقة الكبرى ، تزدحم في الجسر ، يغلفها منظر واحد مكرر ، حفاة عراة ، لم يتبق على أجسادهم تجنباً لاحتكاك الجلد المحترق المؤلم ، وقد تدلت قطع الجلد المحترقة المهترئة ، يلوح بها الهواء ، لم يعد يفرق بين الذكر والانثى ، الوجه من القفا ، يصرخون في طلب الماء ، يتأوهون من الألم ، يجرون أقدامهم بين الجثث المتناثرة ، قد احترقت شعورهم وتجعدت وتصاعدت رائحة الشواء منها ، وانتفخت وجوههم من الحرق ، فلم يعد بالإمكان التعرف على هوية المصاب ، والكل كأنه في حلم ، ماالذي حدث ؟ ماالذي دهى البلد ؟ هل هو سلاح ؟ هل هي نهاية البلدة كما في بركان فيزوف في إيطاليا الذي دفن مدينة بومبي في العصرالروماني ؟ أم هي نهاية العالم ويوم القيامة التي تحدثت عنها الكتب المقدسة ؟ لاأحد يفسر !! لاأحد عنده الإجابة !! كان الجميع يبحثون عن أي مصدر للماء لتخفيف آلام حروقهم ، فعمد البعض الى دفن رؤوسهم في أحواض الماء ، التي خصصتها الحكومة لإطفاء حرائق الحرب ، وبدأ البعض في تحريك رؤوسهم في هذه الأحواض ، إلا إن الموت فاجأهم فبقوا جثثاً فوق الأحواض ؟!! وماتبقى منهم جاء وصفهم على لسان كاتب ياباني معروف هو ( يوكو اوتا ) مايلي : (( لم أتوصل بسهولة إلى فهم كيف استطاعت بيئتنا أن تتحول إلى هذا الشكل خلال لحظة ، وظننت أنه من المفروض أن يكون قد حدث شيء ما ، لاعلاقة له مطلقاً بالحرب ، إنه لاشك نهاية العالم ، كما كنت اقرؤها في الكتب عندما كنت طفلاً )) . أو مارواه شاهد عيان : (( بعد قليل شرعت مواكب المعوقين من جميع الأنواع والأشكال _ لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، تتهافت وهي تنزح من وسط المدينة ، باتجاه الضواحي المحيطة بها )) : (( كانت أذرعهم تتدلى ووجوههم _ ليس فقط جلود أيديهم وحدها ، بل أيضاً جلود وجوههم وجميع أطرافهم كانت تتساقط مهترأة ، ولو اقتصر الأمر على شخصين أو ثلاث لهان الأمر ، ولكن حيثما كنت أتوجه كنت أصادف مثل هؤلاء البؤساء ، كثيرون سقطوا أمواتاً على طول الطريق ، ولازلت أراهم ثانية وهم يتقدمون كالأشباح ، ولم يبد عليهم أنهم ينتمون إلى هذا العالم .. وبسبب جراح اولئك الناس لم يكن بالإمكان أن يعرف فيما إذا كنا نراهم من الوجه أو الظهر )) مفاجأة إضافية : مرض الأشعة نجى الدكتور ( ميشيهيكو هاشيا MISHIHIKO HACHIYA ) بإعجوبة بعد أن سقط منزله فوق رأسه ، ونزف من أربعين جرحاً في جسده ورأسه ، وعندما انطلق الى الشارع اكتشف نفسه عارياً !! يقول الدكتور ( هاشيا ) كان منظر العري هذا متكرراً حيثما وقعت عيني على الكارثة ؛ فالضغط والحرارة والحرائق أطاحت بكل شيء بما فيها الملابس ، ولكن العورات مع الحرائق لم يعد المرء يفرق بين الذكور والإناث ؟! وفيما هو يُعالج في مشفاه الذي كان مديراً له ، أثارت فضوله العلمي ظاهرة محيرة لم يعرف كيف حدثت ؟ ماهو نوع السلاح المستخدم الجديد ؟ وعندما لاحظ أن مرضاه يتغوطون دماً على شكل إسهال مدمى ، تبادر الى ذهنه ؛ أن السلاح قد يكون من النوع البيولوجي ؟! ولكن مظاهر أخرى رافقت هذه الظاهرة ، من نقص المناعة وانخفاض عدد الكريات البيض ، الى حدود 500 كرية في المليمتر المكعب الوحد ( الطبيعي يتراوح بين 4000 ـ 7000 ) والتهاب الحلق الشديد ، وسقوط الشعر ونقص الشهية وتراجع الوزن وارتفاع الحرارة ، جعله يفكر ويطلق على هذه الظاهرة ؛ وكان محقاً في هذه التسمية وكان الأول الذي لفت النظر إليها ـ سماها ( مرض الأشعة ) ؟! إذاً فهذا السلاح الجهنمي يفسر ظاهرة تساقط الأموات بدون توقف مع اختفاء النيران والدخان والحرائق ، بل وعودة الحياة الطبيعية الى مدينة هيرشيما . بل مازال الفريق العلمي حتى اليوم بعد مرور نصف قرن ، مازال يتتبع الآثار المدمرة للاشعاع الذري . هذه المفاجأة غير السارة في تلويث البيئة بالأشعة جعلت السلاح النووي خطيراً للغاية ، ولم يكن في حساب الفيزيائيين ، الذين أقدموا على التلاعب بقوى الكون من أجل الانتصارات العسكرية . خمسة صور فقط حُفظت للذاكرة الانسانية كان المراسل الصحفي ( يوشيتو ماتسوشيجي YOSHITO MATSUSHIGE ) يعمل لصالح جريدة ( شوجوكو شيمبون CHUGOKU SHIMBON ) والتي مازالت الجريدة الرسمية في هيروشيما حتى اليوم . يقول كان عمري يومها 32 عاماً ( وه ومازال على قيد الحياة يرزق وعمره 82 سنة ، ومازال يمارس مهنته المحببة التصوير حتى اليوم ؟‍! ) عندما سقط منزلي فوق رأسي بعد ظاهرة البيكادون ؟! هُرع لاى متن دراجته ليرى ماحل بالمدينة ؟ وليعرف ماجرى لمحل الحلاقة الذي تعمل فيه زوجته ؟ ماوقعت عيناه عليه أن كل شيء تهدم ، ولكن كاميرته من نوع ( ماميا MAMYA ) كانت ماتزال تعمل ، فانطلق وهي تتأرجح على الدراجة ، ولم ينتبه الى جروحه لتي كانت تنزف ، كل ماستولى على تفكيره كان مصير صالون الحلاقة التي تعمل فيه زوجته . كان منزله يبعد 2700 متراً عن النقطة زيرو ( ZERO صفر ) لمركز الانفجار . مازال يتذكر ويقول : حقاً إنه شيء عجيب أن يجرح الانسان بدون صوت قنبلة ؟ وعندما وصل الى مركز المدينة رأت عيناه ماندم عليه بقية عمره أن يفعله ، عندما كان الشاهد والمصور الأول ، الذي خرج من الاتون النووي حياً ، ولم ينتبه الى أنه كان أول من رأت عيناه الهول ، ولكنه لم يصور سوى خمس صور يتيمة هي كل مابقت للجنس البشري نذيرا للبشر عن هول ماحدث ؟‍! هذه اللقطات الخمس ، مازالت تتكرر ملايين المرات حتى اليوم ، بمثابة الشاهد الوحيد اليتيم عن آثار الحرب النووية ، كشاهد ليوم الفزع الأكبر الذي حل بهيروشيما ، ولم يعلم وقتها أن قنبلة ذرية انفجرت فوق رأسه لأول مرة في تاريخ الجنس البشري ، التي ربما لن يراها البشر مرة ثانية . يقول المصور ( يوشيتو ) : كان ركاَّب الترام في منظ رمفزع حقاً ، فبعضهم قد تمزق وسقط ارضاً ، ولكن الكثيرين كانوا يجلسون في مقاعدهم ، قد حافظوا على هيأتهم كما كانوا ، وكأن شيئاً لم يحدث ، ووما لفت نظري يومها اثنان مازالت أيديهم تقبض على أحزمة الجلد ( القشاطات ) مثل مخالب الصقور ، وكأنهم أمسكوها لتوهم بعد أن أعلن الترام الصفير بدء التحرك الى المحطة التالية ، ولكن وجوههم كانت بشكل عجيب ؛ فكأنها طليت بفحم المداخن الأسود . كانت الوجوه الجميلة قد شوهت بكل السخام والقتام الفظيع . كانت المحافظ بجنب الناس بدورها متفحمة ، كانت المظلات وأشياء أخرى كثيرة من حاجيات الناس اليومية قد أكلتها النيران وحولتها الى قطع متفحمة شوهاء بلهاء . كان الشيء المشترك والمريع ؛ يتابع المصور الياباني قصته : والذي ترك في نفسي أثراً لاتمحوه مرور الليالي ؛ تلك الوجوه والنظرات الفارغة من المعنى المحملقة في الأفق البعيد ، بعد أن عانقت الموت ، الذي جاءها من بعيد ، الذي عرفنا لاحقاً أنه جاء من لوس آلاموس . كأن الناس في متحف شمع ولكن بلون أسود قاتم ، قد انطفأت الحياة وتوقفت فيها . ويبقى السؤال لماذا لم يصور تلك الوثائق التي لاتقدر بثمن للجنس البشري ؟ يجيب المصور الياباني ( يوشيتو ـ ماتسوشيجي ) : كان سببه التقاليد اليابانية ، التي تنهى عن عن النظر في وجوه الأموات والمصابين ، والتعليمات الصارمة العسكرية ، أن لاتصور المشاهد المروعة والمقيتة من الجثث المشوهة ، كي لايفت في عضد الناس ، وتنهار المعنويات . كان العسكريون يريدون أن تستمر آلة الحرب نشيطة ، والناس تغذيها نارها التي تتلظى بالقرابين البشرية بدون انقطاع ، بل هل من مزيد . وقبل هذا أن المصور لم يكن يدري أن مارأته عيناه كانت المشاهد الأولى من حرب نوعية جديدة قفزت فيها القوة الى سقف النجوم المستعرة ، وأنه دخل عصر الذرة . النتائج فاقت كل التوقعات في نفس هذا الصباح وعلى الشاطيء الآخر من الاطلنطي ، كان الرئيس الأمريكي (ترومان ) يجتمع مع ( ستالين ) على مائدة المفاوضات بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية ( بوتسدام ) في صدد تقسيم العالم والنفوذ في مرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية !! وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي ، وغطى السرور محياه ، ظهر ذلك في حركات يديه وعينيه ، بعد أن وضعت بين يديه البرقية ( العملية تمت صباحاً . التشخيص لم يكتمل بعد . يبدو أن النتائج مطمئنة . وفاقت كل التوقعات ) . وعندما سطعت الشمس النووية ، وحلَّق ( الفطر النووي ) البئيس فوق مدينة ( هيروشيما ) ، وطوى تحت جناحيه أشباح وأرواح عشرات الآلاف من البشر ، عندها أدركت عائلة ( ويسل مان ) وسائق القطار ( ايدلين ) والمذعور ( لويس فاريس ) من قرية ( كوريثوثو ) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة ، بل وولادة عصر جديد . وتبين أن ماشاهدوه كان في الواقع تجربة أول انفجار نووي على ظهر الأرض ، في صورة تفجير قنبلة البلوتونيوم 239 . بقي أن نقول أن منظر الفطر النووي حول راحلته ليبزغ مرة أخرى بعد ثلاثة أيام ، فوق مدينة أخرى ، كأن ماحدث في هيروشيما لم يكن كافياً ، فتكرر منظر الحرائق واللهب والتفحم والانفجار ، فالتهمت النار ذات الوقود مرة أخرى قريباً من مائة ألف انسان في مدينة ناغازاكي . كان قرار الرئيس الأمريكي ترومان صارما واضحا : نقل ربع مليون انسان الى العالم الأخروي في أيام معدودة ، وانعطاف نوعي في تاريخ الجنس البشري . في نفس يوم التاسع من آب الذي مسحت فيه مدينة ناغازاكي ، كانت مدينة هيروشيما تضمد جراحها ، وتكنس الخرائب التي لاتنتهي ، ويبدأ الترام فيها صفيره مرة أخرى ، وتدب الحركة والحياة فيها من جديد ، في أقل من 72 ساعة ، شاهداً على حيوية شعب بإرادة أقوى من السلاح الذري . مراجع وهوامش : (1) يعتمد بناء السلاح الذري الانشطاري على استخلاصه من اليورانيوم 238 في طريقين الأول : استخلاص اليورانيوم المكثف 235 وهو بمعدل سبع ذرات من كل ألف ذرة يورانيوم 238 أي أن كل 1000 ألف ذرة يورانيوم خام فيها 993 ذرة غير قابلة للانشطار ، وسبع ذرات 235 صالحة لبناء السلاح النووي منها كونها ذرات قابلة للانشطار غير مستقرة . والثاني التلاعب باليورانيوم 238 وقلبه الى 239 غير مستقر قابل للانشطار بدوره ، وأعطي لقب بلوتونيوم من الكوكب التاسع بلوتو !! وكما نرى فهناك طريقة صعبة مكلفة ، وثانية صناعية أسرع وأسهل وتضخ باستمرار وتتم عن طريق المفاعل النووي ، الذي ركبه انريكو فيرمي الايطالي للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري مع نهاية عام 1942 عندما أرسل برقيته الشهيرة الى الرئيس الأمريكي دولانو روزفلت يقول : لقد رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة !! بقي أن نقول أن قنبلة البلوتونيوم 239 هي التي أنتجها مخبر لوس آلاموس الذري وتم تجريبها في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 تموز يوليو عام 1945 وقصفت بها مدينة ناغازاكي ، أما قنبلة اليورانيوم 235 المخصب فلم تجرب لثقتهم بنجاحهما ، وتم تركيبها في مختبر أواك ريدج عند التنيسي وقصفت بها مدينة هيروشيما . ولم تكن الولايات المتحدة تملك أثناءها سوى عدد لايتجاوز أصابع اليد ، ولكن سر السلاح النووي أصبح في يدها وبالتالي يمكن تصنيع العدد الذي تريده قبل انتقال سره الى الآخرين كما حدث لاحقاً عندما فجر الاتحاد السوفيتي أول قنبلة له عام 1949 م قنبلة ( جو ) الأولى نسبة الى جوزيف ستالين ، وبدأت رحلة التسابق النووي التي عاصرناها كما عاصرنا نهايتها ، وتوقف العالم عن السير في رحلة القوة ، وبدء رحلة السلام ، ونزع فتيل الحرب ومعه السلاح النووي (2) من المفارقات العجيبة التي كشف عنها العلم النووي لاحقاً أن قنبلة هيروشيما كانت تزن 60 ستين كيلوغرام من اليورانيوم 235 المخصب ولم ينفجر منها سوى 700 غرام أقل من كيلوغرام واحد ـ لحسن حظ أهالي هيروشيما فلم يكن ليبقى منها شيء لو انفجرت كل طاقتها ـ بمعنى أن كمية التفجير بلغت 2% فقط من كميتها ؟! وأما قنبلة ناغازاكي فوزنت 6,2 كغ وتفجر منها 1.3 كغ بمعنى أن ماتفجر منها 21% لذلك عمد فريق التسلح النووي لاحقاً لتطوير نظام الحقن المدعم بجرعة إضافية ( BOOSTER ) من مادة التريتيوم لتحقيق أكبر كمية تفجير ممكن من المادة (3) اتخذ الرئيس ترومان قراره بالضرب المزدوج للمدينتين بتوقيع واحد على أن يكون متتابعاً مريعاً مفاجئاً بدون أي إنذار وفي وقت بدء الحياة ، كي تكون جرعة الصدمة والرعب في أقصى مداها وجرعتها . ( توثيق المعلومات تم أخذها من مجلة الشبيجل الألمانية وكتاب القصة السرية للسلاح النووي للكاتب الأمريكي مهندس الكمبيوتر جاك هانزن وكتاب مصير الكوكب الأرضي لجوناثان شيل ومصادر أخرى متفرقة )
اقرأ المزيد
الالتماع النووي، قصة ولادته .. تطوره .. ومصيره !! (1)
عندما سقطت المانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية ، كان هاجس الحلفاء هو المدى الذي بلغته المانيا في تطوير سلاحها ؟ وما كُنْه السلاح السري الذي هدَّدَ به هتلر العالم ، عندما كان الرايخ الثالث يغرغر في سكرات الموت ؟ وهل قصد به السلاح النووي ؟ وكان همُّ الحلفاء مركزاً على وجه الخصوص على سلاحين ، فأما الأول فكانت ألمانيا قد بدأت في تطويره قبل نهاية الحرب بقليل وهو سلاح الطيارات بدون طيارين والصواريخ ( ف 1 و ف 2 _ V1 V2 ) الذي ذاقت منه لندن الويلات يومها ، وأما الثاني وهو الأكثر أهمية فهو السلاح النووي ، فبحمل المقذوف النووي على ظهر الصاروخ يمكن تدمير أي بقعة على وجه الأرض ، وبامتلاك سلاح من هذا النوع لايبقى فرق بين دولة صغرى وعظمى . غنائم الحرب : المادة الرمادية الثمينة ( الأدمغة العلمية ) !! في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي يقتلع القضبان الحديدية ويجمع بقايا المعامل الألمانية فيما عرف بعد ذلك بألمانيا الشرقية ( DDR ) كغنائم حرب ومعها العلماء ، كان همُّ الحلفاء _ وبوجه خاص الولايات المتحدة الأمريكية _ منصباً على الاستيلاء على المادة الرمادية أي الأدمغة العلمية ( والمادة المادية _ GRAY MATTER _ تعني قشرة المخ )(1) وخوف الحلفاء هل مايبرره ، وحرصهم دليل على قمة الذكاء ، لان التفوق العسكري هو تفوق تقني وعملية ذكاء قبل كل شيء ، وتنقل لنا أسرار الحرب خبرين من صراع الديناصورات الخفي ، الأول الاجتماع الذي قامت به وزارة الدفاع الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية مع فريق العلماء بقيادة الجنرال ( ميلش MILCH )(2) والثاني التنصت السري الذي مارسته استخبارات الحلفاء على الفريق العلمي الألماني الذي سقط في يد الحلفاء ابان سقوط الرايخ الثالث . حوار العسكريين والعلماء في وزارة الدفاع الألمانية : حصل اجتماع هام ومصيري في وزارة الدفاع الألمانية قاده أحد الجنرالات النازيين المخضرمين ( ميلش ) حين وجه السؤال للفيزيائي المبدع ( فيرنر هايزنبرغ ) عن الطاقة النووية والقدرة التدميرية فيها ؟ وهزته الاجابة أنها في امكانية أن تمسح مدينة بكاملها من خارطة الوجود !! فأغرته الأجابة بمتابعة التفصيلات : ياترى كم حجم هذه القنبلة ؟؟ وكان الجواب صاعقاً : ربما لاتزيد عن حجم رأس ثمرة الأناناس ؟!! ( كان وزن قنبلة البلوتونيوم التي القيت على ناغازاكي 2.6 كغ ولم ينفجر منها الا 21% فقط !! ) فتابع يسأل : ولكن كيف الطريق الى امتلاك مثل هذا السلاح ؟ وكان جواب هايزنبرغ والفريق العلمي المرافق : إن الطاقة النووية هي الآن ليست أكثر من فكرة نظرية وصلت اليها الفيزياء النووية منذ فترة قريبة (3) وهي تقوم على انشطار نواة اليورانيوم ، وبموجب المعادلة النسبية ( الخاصة ) التي وحدت مابين الطاقة والكتلة ؛ فان كمية قليلة من مادة اليورانيم سوف تقود الى نتائج تدميرية لم تخطر بعد على قلب بشر ، الا أن الطريق لمثل هذا السلاح يحتاج الى سنوات طويلة قد تصل ربما الى العشرين سنة ، وشعر الجنرال النازي بكثير من الاحباط لطول الوقت والتكاليف ، وكانت الحرب العالمية الثانية قدحمي أوارها واشتد سعارها وتعالى نارها ، فاكتفى النظام النازي بدفع المشروع باتجاه التطوير بدون حماس كبير خاصة وأن ( القائد _ - FUEHRالفوهرر لايميل كثيرا الى هذه الكيمياء اليهودية (4) الى أين وصلت رحلة التسلح النووي الألمانية مع نهاية الحرب ؟ عندما تم اعتقال مجموعة من العلماء الفيزيائيين الألمان كغنائم حرب (5) لايتجاوز عددهم ( الدزينة الواحدة ) مع سقوط ألمانيا النازية ، تم وضعهم في فيلا مريحة للغاية في بريطانيا مع كل تجهيزات الرفاهية الممكنة ، الا أن الفيلا كانت قد صممت بكيفية شيطانية على طريقة ( ارسين لوبين وشارلوك هولمز وقصص أجاتا كريستي ) حيث لاتوجد زاوية أو حائط أو طاولة أو جهاز بدون ميكرفون صغير أو لوحة تسجيل وتنصت ، وهذه الشبكة الفظيعة متصلة بمركز مراقبة مركزي ، يسجل كل حديث عابر ، أو خاطرة فكرة ، أو زفرة حسرة تصدر عن أي عالم من هذه المجموعة العلمية الهامة ، وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة ، وكان المشرفون على عملية التنصت خبراء متقنون للغة الألمانية ، واجتمعت أشرطة بطولٍ بلغ كيلومترات لانهاية لها في نهاية المطاف ، وبعد مراقبة استغرقت ستة أشهر كاملة (6) وفي نهاية الرحلة تبين للحلفاء كمية العمل الذي قام به الفريق العلمي الألماني والمدى المتواضع الذي وصل اليه البحث النووي ، الذي كانت أمريكا تمثل فيه ( المونوبول الدولي ) أي الاحتكار الدولي الكامل من طرف واحد ، فالفريق الألماني لم يتقدم شيئاً يذكر في مجال تطوير السلاح النووي خلافاً لنظام الصواريخ الذي استفادت منه الولايات المتحدة بعد ذلك لتطوير نظامها العابر للقارات . كان الفريق العلمي الألماني الخاضع للتجربة مثل فئران المخابر يتكون من أدمغة في غاية الذكاء والنباهة والابداع مثل ( فيرنر هايزنبرغ ) صاحب نظرية الارتياب ومطور ميكانيكا الكم ، و( اوتو هان ) الذي انشطرت الذرة على طاولته ، و( كارل فريدريش فون فايتسكر ) الذي اهتدى للوقود النووي الذي تستخدمه الشمس في لهيبها الذي مر عليه خمسة مليارات سنة . الفطر النووي يرتفع فوق هيروشيما : بعد سقوط ألمانيا بأشهر قليلة كان السلاح النووي جاهزاً في المخبر الصحراوي في ( لوس ألاموس _ LOS ALAMOS ) في ولاية نيومكسيكو ، وفي صبيحة اليوم السادس عشر من تموز يوليو 1945م وعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً ارتفع الفطر النووي وتحررت الطاقة النووية من قمقمق الذرة كجني علاء الدين و المصباح السحري ، وهتف ( روبرت اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع : لقد تحولتُ الى مدمرٍ للعالم ، وراقب الفريق العلمي بذهول وللمرة الأولى هذا الفطر النووي البئيس والمرعب وهو يرتفع فوق رؤوسهم ، بطاقةٍ لم يصل اليها البشر ولا في أحلامهم ؛ فأما العسكريون فشدوا قبضة اليد تحت سكرة القوة ، وأما العلماء فأدركوا أن عصراً جديداً قد ولد ، كما حصل مع الذين رأوا قارون في زينته حيث دهش الذين لايرون أبعد من أرنبة أنفهم فغرهم وهم القوة والثراء الفارغ ، وأما العلماء فأدركوا أنه سراب خادع وخطر مبين !! ( قال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولايلقاها الا الصابرون ) ولادة العصر النووي ومغزاه الفلسفي : كانت تجربة تفجير السلاح النووي في صحراء نيفادا في منطقة آلامو جوردو ذات أبعاد فلسفية ، فلأول مرة في تاريخ الجنس البشري العاقل تصل القوة الى مرحلة عجيبة ، ستتجلى بعد ذلك في كل مراحل انعطاف القوة ( سقوط الصين في يد الشيوعيين 1948 م _ حرب كوريا 1950 م _ ازمة قناة السويس 1956 م _ حرب فيتنام 1965 _ ازمة كوبا 1960 _ الحروب العربية الاسرائيلية 1967 و 1973 الخ ... ) وهي عدم القدرة على استخدامها ، وأن القوة بدأت في فرملة وكبح والغاء القوة كوسيلة في تعامل البشر ، فالرئيس الأمريكي ترومان حينما وقع على مسح مدينتين يابانيتين وفي وقت واحد من خارطة الوجود ، أدرك بعدها مستوى الدمار الذي يملكه هذا السلاح الجديد ، فالسلاح النووي الآن أصبح ذات فلسفة وجودية ( انطولوجية ) يؤشر على انعطاف في مسرح الأحداث العالمية ومسيرة الجنس البشري ، أكثر منه قفزة جديدة في تطوير سلاح جديد ، فالسلاح النووي هذه المرة تجاوز أن يكون سلاحاً ، ليتحول الى قوة كمونية تحمل مخاطر انهاء الجنس البشري العاقل برمته من الوجود ، وكفت الحرب أن تكون غالبا ومغلوبا ، وانقلبت الى انتحار لكل الأطراف ، وهذا هو السر في التحول الخفي والبطيء في توقف عالم الكبار عن الصراع وتوديع أسلوب القوة ، هذا التحول لم يدركه بعد فريق كبير من صانعي القرار وسياسي العالم الثالث ، فشهوة امتلاك السلاح النووي وسيلان اللعاب باتجاهه ، أشبه بعجل السامري الذي أغوى بني اسرائيل ، فالسلاح النووي يشبه اليوم الأصنام التي لاتضر ولاتنفع ، أو مسدسات المطاط التي يلعب بها الأولاد، فهي أسلحة ليست للاستخدام ، وفي اللحظة التي ينتبه فيها انسان العالم الثالث الى حقيقة هذه الأصنام ، فسوف تخر صريعة لليدين والجنب ، وسيتوقف عن الخوف منها ومن سدنتها . الا أن هذا التحول مر في مراحل ، من الطريف أن نتناول تطورها خطوة خطوة ، فقنبلة هيروشيما كانت ذات قوة تدميرية رهيبة ( 15 _ 20 كيلو طن ) ولكنها مع كل هذا ليست شيئاً مع التطور الذي تلاها ( قنابل الميجاطن )(7) . انفلات السر النووي من يد الولايات المتحدة عام 1949 م : في ايلول سبتمبر من عام 1949 كانت طائرة التجسس الأمريكية ب _ 29 تحوم في منطقة صحراء ( سيمي بالاتنسك _ SEMIPALATNSK ) في كازخستان ، فوق الاتحاد السوفيتي على ارتفاع 15 كم ؛ فاصطدمت بغمامة شعاعية تم التأكد أنها من عقابيل تفجير نووي ، ومع تبليغ البنتاغون دقت أمريكا أجراس الخطر ، حيث علم أن النظام الشيوعي فجر أول قنبلة نووية تحمل اسم جوزيف ستالين ( القنبلة جو 1 ) فبدأت الرحلة الجديدة باتجاهين : تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي والحرب الباردة ، وجاءت الساعة الذهبية لمنافس ( اوبنهايمر ) الهنغاري ( ادوارد تيللر _ EDWARD TELLER ) الذي عمل مع اوبنهايمر في مشروع ( مانهاتن _ MANHATTEN PROJECT ) لتطوير السلاح النووي الانشطاري الذي جرب في آلامو جوردو من صحراء نيفادا . فادوار تيللر كان يضحك من مشروع ( الألعاب النارية ) التي تستخدم في أيام الأعياد ؟!! يقصد بها تفجير بضع آلاف من مادة ( ت . ن . ت ) وهي التي حققتها القنبلة الذرية الأولى حيث بلغت قوة التدمير في حدود 20 عشرين ألف طن ( 20 كيلو طن ) . كان تيللر يطمح الى ( قنبلة السوبر _ SUPER BOMB ) القنبلة الالتحامية الهيدرجينية التي يقوم عليها استعار الشمس وغليانها ، حيث تصل القوة التفجيرية الى حدود الميجاطن = قوة تفجير من عيار مليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بخمسين مرة ) وكان ذلك في موعد مع اكتوبر من عام 1952 بعد سبعة أعوام من تفجير قنبلة اليورانيوم 235 الولد الصغير ( LITTLE BOY ) و قنبلة البلوتونيوم 239 الرجل السمين ( FAT MAN ) . مشروع مايك ( MIKE ) الجهنمي ( القنبلة .. السوبر ) : عندما كلف البنتاغون تيللر بالانطلاق في مشروع الماموت الجديد ، والذي كان قد مات منذ أيام العمل في لوس آلاموس لانتاج القنبلة الانشطارية الأولى فرك الهنغاري يديه فرحاً كونه سيحقق حلمه القديم ، فقنبلة الهيدرجين تقوم على مبدأ مختلف ، فهي تنتج من التحام ذرات الهيدرجين لانتاج مادة الهليوم ، وكان كلاً من العالمين ( هانس بيته ) و ( كارل فريدريش فون فايتسكر ) قد وصلا الى فهم ديمومة الشمس في بث الطاقة وعمر الشمس التقريبي بناء على ذلك ، فالشمس لاتنتج وقودا تقليدياً ، بل هي تقوم على التحام ذرات الهيدرجين لانتاج ذرات مادة الهليوم ، وبذلك تبلغ الحرارة على سطح الشمس حوالي ستة آلاف درجة ، وهو سطح الفرن الخارجي ، أما محل الطبخ الرهيب في قلب الفرن فتبلغ الحرارة حوالي 15 خمس عشرة مليون درجة ، والقنبلة الهيدرجينية النووية الالتحامية تقلد الشمس فتشعل هذا الفرن فوق رؤوس الناس على الأرض !! مبدأ القبضة الفولاذية المضاعفة ( F . F . F . F . = fission . fission . fussion. fission) ( انشطار _ انشطار _ التحام _ انشطار ) : انطلقر ادوارد تيللر بكل حماس لهذا المشروع ولكنه فوجيء بمصاعب فنية جمة ، حتى أنقذه في ذلك عالم رياضي شاب موهوب هو ( ستانيسلوف أولام _ STANISLAW ULAM ) من خلال تطوير مبدأ اشعال قنبلة نوووية انشطارية في حوض محكم ، يحوي مادة نظائر الهيدرجين ( الدويتريوم والتريتيوم ) المبردة السائلة في وعاء داخل الوعاء ، فيضغطها من الخارج ، بنفس الوقت يقود التفجير الأول الى تفجير قنبلة نووية انشطارية ثانية ، كالجزرة المغروسة داخل وعاء نظائر الهيدرجين ، فتصبح مادة الهيدرجين تحت ضغط مرعب من قنبلتين نوويتين في نفس الوقت ، من الخارج والداخل على حد سواء ، وتحت هذا الهرس الساحق الماحق تبدأ نويات الهيدرجين في الاندماج والتحول الى مادة الهليوم واطلاق الطاقة النووية الرهيبة ، ويكون بانتظار هذا التحول الجهنمي ، الذي ينتهي في أجزاء من المليون من الثانية ، قشرة يورانية ( مادة اليورانيوم ) تنتظر الأشعال ، فتبدأ في الانفجار هي بدورها ، فاذا نحن أمام انفجار ثلاث قنابل انشطارية وانفجار قنبلة التحامية معاً ، فلا غرابة من وصول الطاقة الى عشرات الميجاطن أحياناً !! وهذا الذي حدث مع قنبلة مايك الأولى التي بلغت طول ستة أمتار وقطر المترين ووزن 65 طن ، بحيث لم يمكن حملها على ظهر طائرة الى جزر المارشال للتجريب ، بل نقلتها بارجة حربية . وفي مارس آذار من عام 1954 م تمت تجربة جديدة وكان من المتوقع أن قوة التفجير في حدود ستة ميجاطن فتبين أنه 15 ميجاطن ( أقوى من قنبلة هيروشيما بـألف مرة ؟!! ) فانخسفت الجزيرة الى قاع البحر ، وانطبخت الأسماك والحيتان في قاع المحيط ، ودمرت الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة برمتها ، وأصابت صيادين في زورقٍ ياباني على بعد 80 كم فتأذوا جميعا ً بالأشعة ، ولكن العسكريين كالعادة صفقوا وصفروا فرحاً بنشوة القوة ، حيث أصبح بأمكانهم مسح الأرض ومن فيها ، وتبين أن هذه القنبلة ( السوبر ) بالأمكان تصعيد طاقتها التدميرية بدون حدود ، حتى لربما نصل الى فهم لغز اختفاء الكوكب بين المريخ والمشتري ، وبقاء نفايات غبار وحطامٍ من صخور لربما هي النهاية البئيسة لكوكب سابق ، ارتكب أهلوه حماقة نووية ؟!! (8) الجنون النووي الكامل ( قنبلة الجروباتز بعيار 58 ميجاطن والبنتاغون يخطط لــــ 100 ميجاطن ) ؟! في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تطور ترسانتها النووية لم يقف الاتحاد السوفيتي متفرجاً ، بل قفز بسرعة رهيبة نحو الأمام ففجَّر في نهاية الستينات قنبلة لم يكن أعظم وأشد بطشاً منها ، فاقت كل أحلام جنون القوة . كانت قوة التفجير ( 58 ) ميجاطن أي أشد من قنبلة هيرشيما بــ ( 3800 مرة = ثلاثة آلاف وثمانمائة مرة ؟!! ) فارتعب منها جنرالات الجيش الأمريكي ، وتخلخلت منها مفاصل استراتيجيي البنتاغون ، فدعوا الى حملة لاتبقي ولاتذر ، وأسرعوا الى اجتماع طاريء وبدأوا في التفكير لانتاج قنبلة لم يسمع بها ولا أبالسة الجحيم : هذه املرة من عيار 100 مائة ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بــ ( 6600 ) ستة آلاف وستمائة مرة (9)؟! ولكنهم أدركوا أن هذا الخط لايفضي في النهاية الا الى الجنون المطبق ، واستنزاف كل الموارد ، وتلويث البيئة ، وانتاج لعب ليست للاستخدام ، حتى كانت أزمة كوبا التي نجا منها العالم بأعجوبة !! العالم يقف على حافة الانهيار النووي في أزمة كوبا في الستينات : يذكر روبرت كنيدي في مذكراته تلك اللحظات عندما تم وضع الترسانة الأمريكية في حالة الانذار القصوى بتاريخ 24 تشرين أول 1962 م في الساعة العاشرة وبضع دقائق عندما اقتربت سفينتان حربيتان سوفييتان تواكبهما غواصة لعدة أميال من المنطقة التي فرض عليها الحصار البحري ( اعتقد أن الرئيس الأمريكي جون كنيدي قد مرت عليه لحظات عصيبة من القلق الذي يعصف به متسائلاً : هل أصبح العالم على حافة الهاوية فعلاً ؟ هل ارتكبنا خطأ ؟ هل كان هذا خطأنا ؟ هل أهملنا حلاً عُرض علينا ؟ هل ذهبنا بعيداً بهذا الطريق ؟ كان الرئيس قد حمل يده الى وجهه وأخفى بها فمه ، كان يطبق قبضة يده ويفتحها وكانت قسمات وجهه مشدودة ونظراته حزينة مكفهرة وكنا نتبادل النظرات فوق المنضدة فاعتقدنا لعدة ثواني أنه ليس من أحد غيرنا في المكان وأنه لم يعد الرئيس ، وكانت الساعة قد دنت من اتخاذ القرار النهائي وانفتحت أمامنا الهوة وليس من مهرب ؟ هذه المرة وجب علينا الجزم واعطاء الكلمة المباشرة ليس في الاسبوع القادم حين كنا نقول سنقرر في الاجتماع القادم ليس غداً ولاحتى بعد ثماني ساعات حين كنا نقول ابعثوا برسالة جديدة الى خروتشوف نحاول اذعانه للصواب والحق كلا ولاشيء من كل هذا . كان ممكناً في تلك اللحظات فعلى بعد 1500 كم من هنا وفي هذه الامتدادات الشاسعة من المحيط الاطلسي يجب اتخاذ القرار في الدقائق التالية فقد صعد الرئيس جون كنيدي الأحداث لكنه سيفقد السيطرة عليها من الآن وصاعداً ) (10) مراجع وهوامش : (1) الدماغ البشري مكون من قشر بسماكة عدة مليمترات وفيه النورونات العصبية أي الخلايا العصبية مركز التفكير والنشاط الذهني بعدد يصل الى مائة مليار خلية عصبية ولون هذه الطبقة رمادي ، وأما لب الدماغ فهو ذو لون أبيض وهو كم مرعب من الاتصالات ( الكابلات العصبية ) لهذا الرقم من الخلايا (2) نقلت مجلة الشبيجل الألمانية في خمس حلقات السلسلة الكاملة للاسرار الخفية لانتاج السلاح النووي ، كما أن وزارة الطاقة الأمريكية فتحت المجال للباحثين بعد مرور الفترة الزمنية الكافية مما جعل مهندس الكمبيوتر الأمريكي ( جك هانزن ) يكتب كتاباً كاملاً في هذا عن القصة السرية لانتاج السلاح النووي الأمريكي (3) وصل الكيميائي الألماني ( اوتو هان _ OTTO HAHN ) قبل الحرب العالمية الثانية بقليل وبشكل تجريبي الى امكانية شطر الذرة ، وبذلك نسف المسلمة اليونانية القديمة عن الجزء الذي لايتجزأ ( الذرة ) (4) اشترك الكثير من العلماء اليهود في تطوير السلاح النووي ويكفي أن نعلم ان رأس المشروع النووي العلمي في أمريكا كان روبرت اوبنهايمر وهو يهودي ، ولاغرابة أيضاً من تطوير المشروع النووي الاسرائيلي على يد عالم يهودي كيميائي ذو أصول ألمانية ( بيرغمان ) (5) كتاب الجزء والكل حوارات في الفيزياء الذرية _ فيرنر هايزنبرغ _ حيث يذكر العالم الفيزيائي كيف سقط أسيرا في يد القوات الأمريكية وكيف كان يتوقع هزيمة ألمانيا في الحرب وهو الألماني ، كون الحرب تكنولوجية بالدرجة الأولى ، وكيف بقى في ألمانيا من أجل بناء جيل مابعد الحرب ، فهو الذي ساهم في بناء مؤسسة ( ماكس بلانك ) في تطوير البحوث العلمية الالمانية في فترة مابعد الحرب (6) مجلة صورة العلم الألمانية ( BILD DER WISSENSCHAFT ) (7) الميجاطن هي القوة التفجيرية لمليون طن من مادة ت . ن . ت أي أقوى من قنبلة هيروشيما بما لايقل عن خمسين مرة وهي عيار واحد ميجاطن فقط وهي تكفي لمسح مدينة في حجم دمشق أو القاهرة ؟!! (8) بحساب أبعاد الكواكب عن الشمس تم الاهتداء الى قانون عجيب في الأبعاد ، حيث ظهر أن منازل الكواكب ( الزهرة _ عطارد _ الأرض _ المريخ الخ ) تمشي وفق مسلسل عددي يبدأ بالصفر ، ثم يتدرج بضرب الرقم 3 في اثنين واضافة اربعة الى كل رقم بعد ذلك ، فتصبح الأرقام هكذا : ( 4 _ 7 _ 10 _ 16 _ 28 _ 52 _ الخ ) فاذا ضرب الرقم الناتج بتسعة حصَّلنا مسافة بُعد كل كوكب بملايين الأميال بشكل تقريبي ، فالزهرة تبعد 36 مليون ميل ، والأرض تسعين وهكذا ، ولكن ثغرة القانون ظهرت بين رقمي 16 و 52 فعند الرقم 28 لم يظهر أي كوكب ، ولكن البحث الفلكي المكثف أظهر بعد ذلك وجود ليس كوكب بل ( كويكبات ) أي بقايا كوكب محطم مندثر ، فهل كان كوكبا عامرا بالحياة فارتكب أهلوه حماقةً نووية فتفجر كوكبهم ؟؟ تراجع فكرة القانون بالتفصيل في كتاب قصة الايمان _ نديم الجسر _ توزيع دار العربية _ ص 308 (9) مجلة ( P . M ) الألمانية ( 10) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ تأليف جون ناثال _ ترجمة موسى الزعبي _ مكتب الخدمات الطباعية دمشق 1986 م ص 14 .
اقرأ المزيد
جمهورية الصراصير والعقارب ؟!
ماحدث في بيروت بتاريخ 4 غشت 2020 يذكر بحدث الصحراء الجزائرية بفارق أن التفجير الفرنسي كان على الأرض الجزائرية وفي الصحراء، أما ماحدث في بيروت فبين الناس وفوق بيوتهم، وهو في الغالب صراع بين بني صهيون والأصابع الإيرانية. 13نتابع حديثنا عن السلاح النووي ففي فبراير (شباط) 1960 م كان السكون يخيم في الصحراء الجزائرية ولايعكر هذا الهدوء سوى الريح التي تصفر فوق الرمال الممتدة عبر الأفق، وفجأةً يمزق هذا الهدوء إعصار مدمر ورعد مجلجل، ويرتفع عمود هائل من النار عبر السماء، وترتسم في الأفق كرة نارية هائلة، لايلبث أن يتلو ذلك ارتفاع غمامة من الدخان تأخذ شكل رأس الفطر. إنها فرنسا تجرب السلاح النووي الأول لها، ليس فوق التراب الفرنسي، بل على الأرض الجزائرية، فالجزائر بلد التجارب من كل الأنواع، فهو المستودع الخلفي لنفايات فرنسا! كما حصل لاحقا في سلسلة التجارب الفرنسية في جزر المحيط الهادي (مورورو) بعد خمس وثلاثين سنة من التجربة الأولى، على الرغم من غضب أهل الأرض وحنقهم جميعاً! كل المنطقة المحيطة بالانفجار تحولت الى موتٍ كامل ودمارٍ مطبق، فالرمال الناعمة نُفخت في الاتجاهات الأربعة، وتقعر باطن الأرض بفوهة قبيحة، وبرزت ندبةٍ واسعة لاتعرفها الأرض منذ العصر الجوراسي، وتشوه وجه الطبيعة الجميل. تفحمت النباتات جميعاً، واحترقت الحيوانات بنارٍ تتلظى. وماكان في مركز الانفجار أو قريباً منه تبخر الى السماء بفعل درجة الحرارة التي ارتفعت الى مايزيد عن عشرة ملايين درجة! وماكان بعيداً عن مكان الظاهرة الكونية الجديدة قضى نحبه من هول الاشعاعات؛ فهذا السلاح يقضى عل الحياة باللهب الحارق، أو الضغط الساحق، أو الشعاع الماحق، فهي طاقة لم يحلم بها حتى أبالسة الجحيم! إلا إن العسكريين الواقعين تحت سكرة القوة ونشوة الجبروت، فغروا أفواههم من الدهشة حينما وقعت أعينهم على عقربٍ صحراوي في مكان الانفجار، يتحرك بكل اطمئنان، غيرُ عابيءٍ بكل مايحدث حوله، قد رفع زعنفته بنهايتها السمية المدببة، ملوحاً بها يتحدى الجنرالات الفرنسيين!. ولكن كيف نجا هذا الشقي من العاصفة النارية والأشعة الخارقة التي التمعت فوق جحره ولم تؤثر في قوته بحال؟ فهو يمشي ولاتظهر عليه أية مظاهر للتعب أو الترنح أو الأعياء! وبعد مرور كل هذه السنوات لم يصل العلماء الى الجواب الذي يروي الغليل عن سر قوة العقرب الصحراوي الجزائري الذي صمد في وجه الإعصار النووي! الا إن المعلومات التي أمكن جمعها حول هذا الحيوان المدرع ذو الزعنفة السامة منذ تجربة الاعصار النووي قادت الى معرفة مدهشة بخصائص هذا الحيوان الذي عكف على دراسته العالم الفرنسي (فاشون vachon) لأكثر من ربع قرن، فهذه المقاومة الخارقة للحرارة والأشعة الناجمة عن تفجير السلاح الحراري النووي، قد تكون المفتاح لتطوير مادة دفاعية في جسم الانسان تقيه من الكوارث النووية للمستقبل، خاصة الجيل الثالث من السلاح النووي (النتروني) ومن أجل فهم هذا السر الخفي في جسم هذا الحيوان المرتبط بالذاكرة الانسانية بالخبث والغدر واللدغ، فقد تبين من دراسة طراز حياته وعاداته اليومية، التي تمت في متحف باريس قسم التاريخ الطبيعي، أنه يمتاز بصفات لايكاد يصدقها الانسان، فالعقرب (اللدَّاغ) منحنا الكثير من الدروس الملهمة والحكم القيمة. 1- أولاً: فهذا العقرب الذي يصل طوله الى حوالي عشرين سنتيمتر، لايجاريه في صومه وزهده فقراء الهنود المستلقين على المسامير الحادة لفترةٍ الطويلة، كما لايصل الى تحمله في الحرمان من الطعام والشراب أشد النساك، ولاأكثر من يمارس الصيام، فهو يستطيع أن يتابع صومه لمدة ثلاث سنوات كاملة بدون طعام أو شراب. 2 ـ ثانياً: كما أنه يستطيع كتم أنفاسه تحت الماء متربصاً هادئاً بدون أي أكسجين لمدة يومين بالكامل! 3 ـ ثالثاً: واذا غطس في الثلاجة في درجة الحرارة تحت الصفر، ونقل بعدها الى درجة حرارة الصحراء ذات الستين درجة؛ فإنه يحافظ على حيويته، ويستطيع الارتكاس بنفس السرعة فيقفز للدغ والدفاع، فهو يتكيف بشكل مدهش مع كل التبدلات المريعة في درجة الحرارة. 4 ـ رابعاً: واذا وضع في حمام من الجراثيم ذات الذيافين الفظيعة التي تنهك الانسان وتورثه المرض فانه يَمُرُّ بها، كما لو كان يأخذ حماماً لطيفاً، بدون أي مرض أو عطب، ولايتأثر بدنه البتة. 5 ـ خامساً: وأما تحمله لجرعة الاشعاع النووي فهي تصل الى ثلاثمائة ضعف (300) من الكمية السمية القاتلة من الاشعاع ، تلك التي يقضي الانسان بها نحبه ، ويصبح بعدها رميم. ويعود الفضل في مقاومته للاشعة النووية ، الى أن مايدور في أحشائه ليس دما أحمرا كالذي نملكه نحن بني الانسان، بل هو عصير (مصل) أصفر يقوم بدور أساسي في ترميم الخلايا المُدَمَّرة من الاشعاع النووي، ويبدو أن هذه الخاصية الدفاعية قد تشكلت عنده منذ فترة طويلة، فهو كائن يعيش على الأرض منذ حوالي خمسمائة مليون سنة. ويبدو أن هذه الفترة السحيقة التي عاشها وهو يواجه كل أنواع الاشعاعات الكونية طورت فيه جهازاً دفاعياً متميزاً . وتمت التجربة على الجرذان بحقنها بـ ( سيروم ) العقرب المُخَفَّف والمُعَدَّل ، ثم عُرِّضَتْ للأشعة النووية فارتفعت عندها المقاومة بشكل هائل وبسرعة . ويتفق الباحثون المتخصصون في ( العقارب ) اليوم أن كلَ السرِ مختبيءٌ في التركيب الجيني له ، ولذا فان فك هذا السر في مدى عشر السنوات القادمة سوف يقفز باتجاه حل هذا اللغز ، خاصةً بعد تجاوز الحرب الباردة وكثرة استخدام الطاقة في الأغراض السلمية ، فيمكن تطوير لقاح خاص ، لايقدر بثمن لحماية العاملين في المؤسسات النووية . فلسفة الضار والنافع ؟!! ليس مانحبه أو نكرهه هو المقياس للصحة والخطأ ( وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) فمشاعرنا خدَّاعة ، وأبصارنا زائغة ، وقلوبنا متقلبة ، وليس شعورنا بالبرد أو الحر هو مقياس الكون ، فدرجة حرارة 37 التي يعوم فيها جسمنا ويسبح ؛ هي درجة من سلم حراري يتأرجح على شكل طيف من 273,15 تحت الصفر وهي درجة الصفر المطلق لكالفن ، الى درجة حرارة باطن الشمس التي تصل الى 15 مليون درجة !! ونحن نخطيء كثيرا حينما نقيم الكون على صورة ثنائية وليس على صورة الطيف ، وقصة العقرب التي أوردناها تبرز المعنى الفلسفي لجود العقرب في الطبيعة ، فلم يعد ذلك الكائن الضار والخبيث والغدَّار ، بل أصبح ملهم الحكمة ، ومصدر المصول الطبية الواقية ، وأحد أسلحتنا الدفاعية في ترسانة الحرب ؛ ضد الأخطار المحيقة بنا ، فتحول بهذا المنظور الى صديق حميم بعد أن كان العدو اللدود ، ولايعني هذا أن ينام الانسان معه في فراش واحد !! بل أن يحافظ عليه ضمن إطاره في الطبيعة . كما أننا نرى الطبيعة في صورته بلون مختلف ، فالطبيعة كلها ذات كيان متكامل ومترابط ، متفاهم ومتوازن ، ويجب أن نفهمها كذلك ، فالبعوض بجانب الضفادع ، والعناكب بجانب الحشرات ، والذباب بجانب النمل ، والأشجار بجانب الحيوانات تنفحنا الاكسجين بعطاء مستمر ، بدون مَنِّ ٍولا أذى بشكل متوازن ، فهناك حلقة كونية جبارة محكمة التماسك ، متوازنة الأطراف ، تعدل بعضها بعضاً في لحظات الخلل ، لم نفهم سرها الخالد حتى اليوم ، وهكذا أُميط اللثام الآن عن بعض أسرار العقرب المسكين ( الذي صُبت عليه كل قصائد الذم والهجاء .. حب الأذية من طباع العقرب .. الخ ) كما لانفهم حتى اليوم تدخلنا وكسرنا لحلقة الطبيعة ، واعتداءاتنا المتواصلة عليها ؛ إلا بين الحين والآخر وبشكل درامي ، كما حصل مع تخريب الغابات وانفلات فيروس ( الايبولا الدموي ) (2) الرهيب ، يعلن الدفاع عن البيئة ويحصد من لايحترم هذا القانون ، فحتى الغابة لها قانونها ، واذا كان هذا العقرب الحكيم ، هو الذي يقاوم الأشعة الكونية المؤذية ، ويرمم فيه العصير الأصفر الذي يتدفق في مفاصله كل تخربات الخلايا ، التي تدمرها أشعة جاما المنطلقة مع الانفجارات النووية ، فإنه على مايبدو يعمل بحكمة أكبر من الانسان في التهيؤ للتربع على جمهورية المستقبل : ( جمهورية الصراصير والأعشاب والعقارب ؟!! ) عندما يرتكب الانسان حماقته النووية فيقضي على نوعه . جاء في كتاب الحكماء الثلاثة من فلسفة بوذا مما يفضي الى هذا المعنى ، تحت المبدأ الخامس : (( الحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لاحصر لها وهي قابلة للفناء ، وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من صور الحياة ، والرحمة هي وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها في هذا الأطار ، وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين ، وأنها التناسق الأبدي ، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة ، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه ))(3) . واذا كانت الديناصورات قد اختفت من ساحة الأرض قبل خمس وستين مليون سنة ، فلايستبعد أن ينتهي الجنس البشري في حماقة كبرى من هذا النوع ، وان كانت كل المؤشرات تدل على أن الخطر النووي في طريقه للتقلص الآن . جمهورية من الصراصير والأعشاب ... والعقارب ؟!! كتب الدكتور ( فرنون . م . ستيرن _ VERNON . M . STERN ) وهو عالم اختصاصي بالحشرات في جامعة كاليفورنيا ( ريفر سايد ) في كتابه ( الزراعة وتربية المواشي ) عن قدرة الحشرات مثل الصراصير على الصمود في العاصفة النووية ، بحيث أنها تتكاثر بشكل جيد بعد ذلك ، في الوقت الذي يسرع الجنس البشري للهلاك : (( وستكون الأعشاب آخر مايهلك .. ويبدو أن الولايات المتحدة لن تكون أكثر من جمهورية من الأعشاب والحشرات )(4) وحسب الدراسات الفرنسية الأخيرة فسوف تسود العقارب على مايبدو ظهر البسيطة بقدرتها غير العادية على مقاومة الأشعة النووية الفتاكة . والحديث عن الأشعة النووية المهلكة لم تكن في حساب آباء القنبلة النووية عندما انفجرت المرة الأولى فوق رؤوس اليابانيين . وعندما انتهى الحريق النووي فوق هيروشيما وناغازاكي ؛ فإن أثر القنبلة لم ينته حتى يومنا الحالي ، فتشوهت الأجنة في أرحامِ مَنْ لم يقتل من النساء ، وأسرعت أمراض السرطانات تفتك في البقية الباقية من الذين لم يطوهم الحريق الكبير !! (5) وعندما تم تطوير ماعرف بالجيل الثاني من السلاح النووي ، الذي عرف بالسلاح النووي الحراري ، والذي يقوم على مبدأ الالتحام الهيدرجيني ، ومنه أخذت القنبلة اسمها ( الهيدرجينية ) اشتدت وطأة هذه الظاهرة ، أي أثر الأشعة والغبار النووي المتساقط ، فبدأ التفكير في تطوير الجيل الثالث من السلاح النووي ( 6 ) أي ماعرف بالقنبلة النظيفة ، ولم تكن نظيفةً بحال ؟!! ( كونها تنظف البيئة من الانسان فتحافظ على الأبنية والآلات وتفني البشر في مدى ساعات الى أيام ) وهو أيضاً مالم يفكر به حتى ابليس اللعين ؟!! القنبلة النظيفة .. لقتل الأحياء فقط ؟؟ !! ( قنبلة النيوترون ) : قفز السباق النووي بعد مرحلة الجيل الثاني أي جيل القنابل الالتحامية الى تفكير جهنمي من نوع جديد ، فتفتقت عبقرية الشر هذه المرة عن سلاح جديد يحافظ على الأشياء ويمحو الانسان من ظهر الأرض ، في مدى ساعات الى أيام ، بعد موت مرعب مليء بالمعاناة ، والسبب الذي دفع العلماء الى ابتكار هذا السلاح هو ظاهرة الغبار النووي المتساقط ( FALLOUT ) فبعد قنبلة هيروشيما ظهر التأثير الثالث للقنبلة النووية ، وبشكل غير متوقع ، فبدأ الناس يموتون على الرغم من عدم تعرضهم المباشر للدمار ، ولم يمكن تفسير هذه الظاهرة فوراً فالجنرالات كانوا مشغولين بنشوة الظفر وتأليه القوة ، وكان أول من سماها هو الدكتور الياباني ( ميشيهيكو هاشيا _ MISHIHIKO HASHIYA ) فأطلق عليها بحق ( مرض الأشعة ) عندما لاحظ على مرضاه الاسهال المدمى ونقص الكريات البيض وتحطم جهاز المناعة وانهيار الانسان والموت بعد ذلك (7) يعتبر العالم ( سام كوهن _ SAM COHEN ) أحد الذين شقوا الطريق الى الجيل الثالث من السلاح النووي ، فالقنبلة النووية في العادة تولد ثلاث أنواع من الطاقة : الحرارة والضغط والأشعة ، بنسبة مايزيد عن 50% ضغط ، ومايزيد عن 35% حرارة ، والباقي في صورة تدمير شعاعي ، فتم التلاعب في طريقة الانفجار ، بحيث يتم زحزحة الطاقة باتجاه توليد قدر أكبر من الأشعة المهلكة للانسجة الحية ، وهكذا فبدلاً من توليد الطاقة الشعاعية بنسبة 5% تقفز الى حوالي 30% وأكثر فتصبح القنبلة ذات آثار مهلكة بصورة شعاعية بالدرجة الأولى ، فيقتل الجنود في ساحات المعارك في دباباتهم وخلف دروعهم وهم لايشعرون ؟!! (8) ولذا فإن هذه القنبلة تناسب أماكن حشود الجنود والبشر لكنس الأرض منهم ، ووضع اليد على مخلفات الأجهزة والمعدات الحربية ، فهي أهم من اللحم الآدمي الرخيص . حلقة الدمار المريعة لقنبلة النيوترون : اذا سقطت قنبلةٌ نيوترونية فوق بقعة من الأرض وعلى ارتفاع 150 مائة وخمسين متراً ، تجلت آثارها على الشكل التالي : في قطر ( 120 ) مترا تعمل ( آلية الضغط ) أولاً فتتفتت المدرعات ويتبخر الناس ؟! وأما في مدى ( 400 ) اربعمائة متر فتتفجر البنايات المسلحة وتتطاير الى بقايا من أحجار وتراب وشظايا من الزجاج في الهواء !! وأما في حدود ( 700 ) سبعمائة متر فسوف يصاب الجنود داخل مدرعاتهم بالشلل الكامل ؛ فتتعطل ملكات القتال ، ليموتوا في مدى أربع وعشرين ساعة بشكل عذاب مرعب لايطاق ، وأما في مدى 900 متر فسيجتاحهم الشلل ليتلوه الموت بعد 2 _ 6 أيام ، وأما في حدود 1200 متر فسيكون مصيرهم الموت الجماعي بالانسمام الشعاعي ، وفي الكيلومترين الباقيين فسيموت الناس غير المحميين في حفلة مروعة من الموت الجماعي بالسم الشعاعي ، الذي لايرونه ولايحسون بهم فيأتيهم العذاب من حيث لايشعرون ؟!! هوامش ومراجع : (1) مجلة ( P . M ) العلمية الألمانية العدد التاسع _ عام 1992 م تاريخ 21 أغسطس _ ص ( 50 ) حيث ظهرت صورة العالم الفرنسي الذي أجرى أبحاثه (2) اندفع من الغابات فيروس قاتل جديد هو ألعن من فيروس الأيدز بمرات وأفردناه بمقالة خاصة في جريدة الرياض _ المقالة رقم 47 مما كتبت حتى الآن في الجريدة _ العدد 9845 تاريخ 24 محرم 1416 هـ الموافق 22 يونيو حزيران 1995 بعنوان ( الايبولا ) عصر الفيروسات القاتلة _ ويقتل هذا الفيروس المصابين به في مدى ساعات بانحلال دموي معمم ( 3 ) كتاب الحكماء الثلاثة _ سلسلة اقرأ _ رقم 123 _ الطبعة الثانية عام 1967م _ تأليف أحمد الشنتناوي _ دار المعارف بمصر _ ص 106 _ حيث جاء هذا المبدأ من أصل 12 مبدأ حصرت فيه الحكمة البوذية (4) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ تأليف جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي وعيسى طنوس _ ص 72و 74 ( 5 ) كانت مقالتي رقم 51 في جريدة الرياض بالتفصيل عن هذه الظاهرة _ مقالة الحريق الأعظم في هيروشيما _ عدد 9915 تاريخ 21 ربيع أول 1416هـ الموافق 17 أغسطس 1995 م ( 6 ) كما نرى في القنبلة النووية فقد مشت في ثلاثة أجيال : الأول الذي يقوم على مبدأ الانشطار من نوع قنبلة هيروشيما وناغازاكي ، حيث صنعت الأولى من مادة اليورانيوم 235 والثانية من مادة البلوتونيوم 239 ، والجيل الثاني : يقوم على مبدأ الالتحام بين ذرات الهيدرجين لانتاج مادة الهليوم ، وهي تقليد لما يحصل في الشمس من نار وطاقة ، وتحتاج هذه القنبلة الى عود ثقاب من قنبلة انشطارية لانتاجها ؟! وأما الجيل الثالث فهو استخدام أحد صور الطاقة ( الحرارة والضغط والأشعة ) وهي في قنبلة النيوترون الأشعة ، بحيث تكثف طاقة الأشعة فتتحول القنبلة في أعظم تأثيراتها الى الأثر المدمر للأشعة ( 7 ) نجا الدكتور المذكور من الموت بأعجوبة في الحريق الأعظم في هيروشيما ، بعد أن سقط منزله فوق رأسه ونزف من أربعين جرحاً في جسده ورأسه ، وعندما انطلق الى الشارع اكتشف نفسه عارياً فلم يترك الحريق عليه من ملابس ، يقول الدكتور هاشيا : كان منظر العري هذا متكرراً حيثما وقعت عيني على الكارثة فالضغط والحرارة والحرائق أحاطت بكل شيء ، بما فيها الملابس ولكن العورات مع الحرائق لم تعيد تميز الذكور من الأناث !! ( وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ) وفيما هو يعالج مرضاه بعد أن شفي أثارت فضوله هذه الظاهرة المحيرة كيف حدثت ؟ وماهو نوع السلاح الجديد المستخدم حيث لم يكن قد عُرف بعد أن السلاح النووي قد ألقي فوق رؤوس الناس ، حتى لم يكلف الناس انفسهم في تصوير هذه المشاهد الفلكية التي لن تتكرر بعد اليوم ، فقنبلة هيروشيما ألقيت مرة واحدة ولم تتكرر ، وكانت أحدى الكبر نذيرا للبشر ، وعندما لاحظ أن مرضاه بدأوا يتساقطون الى الموت خطر في باله أن سلاحاً بيولوجيا قد استخدم ، ولكن تكرر الظاهرة ودراستها التفصيلية كشفت عن أثر مدمر في التركيب الخلوي والجيني للانسان ربما يبقى ينخر الى ثلاثين جيلاً ( 8 ) مجلة العلم الأمريكية عن التسلح والأمن والمترجمة للالمانية ( RUESTUNG UND SICHERHEIT ) ( مجلة الطيف _ SPECTRUM ) بحث المدخل .
اقرأ المزيد
انقلاب السحر على الساحر .. !!
في 6 ديسمبر _ كانون أول عام 1965 م أبحرت حاملة الطائرات الأمريكية ( تيكون ديروجا _ TICONDEROGA ) عندما كانت نار الحرب محتدمة في فيتنام ، وهي تحمل على ظهرها العديد من الطائرات المزودة بالقنابل الهيدرجينية ( الالتحامية الحرارية النووية من عيار الميجاطن ) وكان ذلك ضمن الاستنفار النووي الأمريكي خوفا من تطور نووي غير محسوب ، فحدثت واقعة نووية تم التكتم عليها في وقتها ، وهي سقوط احدى الطائرات من نوع ( سكاي هوك ) تحمل في بطنها قنبلة هيدرجينية ، من عيار واحد ( 1 ) ميجاطن من على ظهر حاملة الطائرات الى قاع البحر (1) لتستقر في عمق 4880 متر في ظلام المحيط ، تحمل 33 رطلاً من البلوتونيوم ، باتجاه الساحل الياباني قريباً من اوكيناوا على بعد 130 كم بين تايوان والجزيرة اليابانية الكبرى شيكوكو ، وطوى البنتاغون سر القنبلة الثمينة الضائعة يومها ، وليس هذا هو السر النووي اليتيم ، فقد تم إماطة اللثام في الفترة الأخيرة أن مدينة ناغازاكي ضربت بقنبلتين وليس بقنبلة نووية واحدة كما هو معروف تاريخياً الا أن احداهما لم تنفجر ؟!! قنبلة نووية من عيار ميجاطن في قعر المحيط : والذي كشف الواقعة هو كاتب أمريكي اسمه ( ويليام أركين _ WILLIAM ARKIN ) الخبير في القضايا الاستراتيجية حيث نشر كتابا أشار فيه الى مايزيد عن 1200 واقعة نووية من هذا النوع في البحار ، منها 11 مفاعل نووي ضمن غواصة نووية هوت الى القاع ومنها 48 رأسا نوويا غرقت في قاع البحر من الشكل الذي بين أيدينا ، وبعد مضي عشرات السنوات عرف أهل الجزيرة بأن أمام ساحلهم وفي قاع البحر يرقد شر سلاح عرفه الجنس البشري ، ولكن البنتاغون هدَّأ أهل الجزيرة ، بأن فترة الاثني عشر سنة قد انتهت (2) ولذا فلاخوف من بأس القنبلة الراقدة في أعماق المياه الباردة ، ولاندري ماهي مشاعر سمك القرش وهو يحوم سابحاً ، حول هذا الضيف الغريب غير المرغوب فيه ، حيث لاأمل من مغادرته ضيافة قاع المحيط؟!! القنبلة النووية المفقودة ؟!! ومن جملة الأسرار التي خرجت للسطح أيضاً في الفترة الأخيرة أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين من نوع الرجل السمين ( FAT MAN _ البلوتونيوم 239 ) بدلاً من واحدة ، وان كان بعض الخبراء قد شكك في الواقعة ، وتم تسليمها الى السوفييت عن طريق اليابانيين ، قبل دخول الجنرال الأمريكي ( مارك آرثر ) الجزر اليابانية بأيام قليلة ، وكان حرص اليابانيين على ذلك أن لاتنفرد أمريكا بسر السلاح النووي (3) وربما كان مخطط ضرب المدينة بقنبلتين ، بسبب جغرافية المدينة المحاطة بالجبال ، ولذا كان تأثر ناغازاكي أقل من تأثر مدينة هيروشيما بالكارثة النووية نسبيآً . وسواء ضربت ناغازاكي بقنبلة واحدة أو اثنتين فان المحصلة النهائية أن عهدا جديداً قد انبثق ، وأطل العصر النووي برأس الفطر المرعب ، وهو يحلق فوق مصير الجنس البشري ، تماماً كما في الأساطير التي نعرفها ماحصل مع علاء الدين والمصباح السحري . قصة علاء الدين والمصباح السحري والجني : تروي الأساطير أن علاء الدين الفقير أغراه الساحر بالدخول الى مغارة سحيقة ليخرج منها مصباحاً عتيقاً ، والذي حصل أن علاء الدين عندما وقع على المصباح رآه قد علاه التراب ، فلما أراد تنظيفه خرج من فوهة المصباح جنياً هائلاً يفعل الأعاجيب ، انتشر كالدخان ينتظر الأوامر من صاحب المصباح ، ولكن ميزة العصر الجديد الذي أخرج الجني ( النووي ) من القمقم أنه ليس مصباحاً واحداً يتيماً ، كما أن السحَّارين يزداد عددهم باضطراد ، ليس كوريا الشمالية واسرائيل آخرهم ، ولذا فإن العالم يعيش أزمة نووية حتى اليوم ، فهو استطاع ترويض الجني ( النووي ) ومازال ممسكاً به ، ولكن كثرة السحرة والمصابيح التي بها يمسكون والجن المختبيء فيها ، يجعل العالم الذي نعيش فيه عالم الجن وعبقر وعالم الخوف وعدم الاطمئنان للمردة الجدد ، الذين أعادوا الينا روح الأساطير وقصص الجان مرة أخرى . وفي الواقع يجب أن لانضحك أو نستخف بالأساطير ، لانها مخزن الحكمة الانسانية ، كما تحكي رغبات الانسان الخفية والمظلمة والتي تحرك اللاوعي عنده ، من مثل امتلاك قوة لاتخطر على بال أحد . دور الأسطورة في الذاكرة الجماعية للجنس البشري : ليس المهم في الأسطورة أنها تمثل حقيقةً أم لا ؟ المهم فيها أنها تمثل وقود تحريك الانسان ، فالسيارة تحتاج للبنزين لتمشي ، أما الانسان فيمكن أن يتحرك ويمشي بل ويقتل بالوهم ، فالذاكرة الجماعية للصرب مثلاً مازالت تتغذى من معركة ( أمسل فلد _ AMSELFELD )(4) التي جرت في كوزوفو عام 1389م ، كما أن الخيال اليهودي مازال يشحن من تهديم ( تيطس _ TITUS ) للمعبد عام 60 للميلاد ، وهذه الظاهرة لاتخلو منها أمة ، ومنها تتغذى ذكريات الأطفال ، وتشحن بها الذاكرة الجماعية للأمة ، وتُخَلِّد بها الأمة ذكريات أبطالها بكيفية ما ، وفي تراثنا هناك الكثير من الأساطير التي مازال ( الحكواتي ) يرويها في الحارات الشعبية في دمشق والقاهرة والقيروان ، من أمثال قصص ( حمزة البهلوان ، والأميرة ذات الهمة ، وعلي الزيبق ، وتغريبة بني هلال ... وماشابه ) وقصة علاء الدين والمصباح السحري تدخل تحت هذه المنظومة المعرفية ، وقصة سندباد لم يبق طفل في العالم لم يشاهدها فقد مثلَّها اليابانيون بأفلام الكرتون وترجمت الى شتى لغات العالم . وهذا يعني أن عشق الانسان للقوة وغرامه بتطويرها تكمن في العمق الرهيب للاوعي الانساني منذ قرون طويلة ، ولذا كانت المحرك العميق خلفه للتطوير بدون توقف ، ولكن هراوة الغابة غير السلاح النووي ، والقوة النارية ليست كالفطر النووي ، والذي حصل في هذا التطور الفريد ، والقفزة النوعية المذهلة للقوة ، والتي عاشها جيلنا فقط ، ولم يهضمها العقل الجماعي الانساني بعد ، يجعله يقتات من مشاعر الأسطورة ، وأحاسيس الغابة ، والاعتماد على مبدأ الهراوة . والذي حصل بكل بساطة هو تطور ثوري جديد في مفهوم القوة ، قاد الى عكس مفعوله ونقيض ماأُريد له ، حيث ألغت نفسها بنفسها ؛ فالقوة أصبحت كائناً خرافياً مثل قوى الأساطير التي سمعناها عن الجني الذي انطلق من مصباح علاء الدين ، وبات الخوف من جهاز الرعب هذا داعياً لتفكيكه من جديد ، ولكن رحلة الصعود تكون أسهل من رحلة النزول أحياناً ، واسترداد الثقة بعد كسرها بين بني البشر أصعب بما لايقارن مع فقدها . الكائن الخرافي ( الاسطوري _ الحقيقي ) الجديد : لم يفهم ساسة العالم ( بُعد ) ومدى التطور الجديد للقوة بما فيهم ( كلينتون ) الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها ، وأوعز في نفس الوقت ، الى المخابر الجديدة بتطوير تقنيات جديدة ، لاتعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي كما سنشرحه بشكل تفصيلي لاحقاً ، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض ، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم ؛ بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم ، وبكلفة إجمالية تصل الى اربعين مليار دولار تنفق في مدى العشر سنوات القادمة ، للمحافظة على التفوق النووي ، ويعرف هذا المشروع الان ببرنامج البحث والانتظار العلمي ( STOCKPILE STEWARDSHIP AND MANAGEMENT PROGRAM ) ويرمز له اختصاراً ( SSMP ) . أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة لتفجير قنابل عيار ( المائة كيلو طن ). الا إن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة ، كما يفكر الانسان ، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير ) الجنرال فيكتور فيرنر ، عندما نتصور انساناً يدب في المدينة ، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان ، فإنه لن يبقى أنساناً حتى لو حافظ على شكله الانساني ، فامتلك رأساً انما بقدر غرفة كبيرة ، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر !! (5) أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف في كتابه ( البيروستويكا ) حيث أشار الى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة ، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية ، فقال (( ولأول مرة في التاريخ أصبح هناك حاجة حيوية لادراج المعايير والقواعد الأخلاقية _ الجمالية الانسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية )) (6) مأزق العصر النووي : ولذا فان العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة ، وأدخل مفهوما ً فلسفياً جديداً في علاقات البشر والدول ، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي ، وانتبه الى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على ( مشروع مانهاتن ) في ( لوس آلاموس ) الفيزيائي الأمريكي ( روبرت اوبنهايمر ) الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري ، في منطقة ( آلامو جوردو ) ، عندما تصور علاقات القوى ( كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد اذا اشتبكا في صراع فان الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعاً ) وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق ( آيزنهاور ) عام 1956 م في احدى رسائله : (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة او اختيار الموت ))(7) وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف الزعيم السوفييتي عندما قال في النمسا في يوليو تموز عام 1960 (( نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فاذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح ، وإذا نحن بدأنا حرباً لتسوية المنازعات بين الدول ، ومنها مايبغض الرأسمالية ومنها مايبغض الشيوعية ، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض ))(8) وقريباً من هذا الكلام كرَّره جورباتشوف بعد ذلك بثلاثين سنة في كتابه البريسترويكا (( استحالة حل التناقضات الدولية حلاً عسكرياً نووياً ينتج ديالكتيكاً جديداً للقوة والأمن ، اذ لايمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية ، لاباستخدام السلاح ولابالتهويل المستمر لـ ( السيف والترس ) كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة )) (9) ليخلص في النهاية الى أن (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وايديولوجية أو أي أهداف أخرى ، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً ، كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم ، فالوظيفة السياسية للحرب كانت دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها ( عقلاني ) أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون ، لان الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما . ان النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )(10) وكان هذا الانعطاف وهذا ( الفهم ) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص ، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه . رحلة السلاح النووي في نصف القرن السابق : حتى عام 1960 كان السباق المحموم هو في إطار تضخيم وتكبير السلاح النووي ، من خلال تطوير ماعرف بالجيل الثاني ( القنبلة الهيدرجينية ) وحتى عام 1958 م فجرت أمريكا 118 قنبلة ، في جنوب المحيط الهادي قضت فيها على كل حياة حيوانية ونباتية ، وفي عام 1954 فجرت سلسلة من القنابل تحت الاسم السري ( كاسل ) في جزر المارشال منطقة ( بيكيني _ أتول ) حيث تم تفجير سبع قنابل هيدروجينية بشكل متلاحق ، تحت تصفير وتزمير العسكريين وفرحهم الشديد بألعاب العيد النووي !! وفي الأول من آذار عام 1954 م هتف الجنرالات لتفجير قنبلة جديدة كان المتوقع أن تكون بقوة 6 ميجاطن فانكشف الغطاء عن جبروت نووي بلغ 15 ميجاطن ( أقوى من هيروشيما بألف مرة ؟! ! ) فارتجت الأرض من تحتهم وحلق في السماء مارد علاء الدين النووي الجديد يطل برأسه من ارتفاع 25 كم ، وأرسل الجنرال المتحمس يصف الاعصار النووي على الشكل التالي : (( اندفع الفطر النووي محلقا الى ارتفاع 25 كم في عنان السماء وبسرعة مخيفة انطلقت الغمامة النووية ترغي وتزبد لتشكل ثلاث كرات من الكريستال اللامع ، وعندما وصل الانفجار الى أوجه التمعت السماء فجأة بلون أزرق بنفسجي في تضاعيف التشرد الأيوني المقدس !! ) (11 ) فجُن جنون السوفيات فانطلقوا لايلوون على شيء في تطوير أعظم منها ففجروا في نهاية الستينات قنبلة بلغت قوة ( 58 ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ 3800 مرة !! ) فصرَّ جنرالات البنتاجون حنقاً على أسنانهم وقرروا المضي في مشروع لم يحلم به ابليس اللعين ، بتفجير قنبلة من عيار ( مائة ميجاطن = أقوى من هيروشيما بـ6600 مرة !! ) كل هذا قبل اتفاقية عدم التفجير في الهواء والماء التي ذكرناها والاحتفاظ بالتفجير تحت الأرض فقط . المسموح به فقط اقلاق عظام الموتى تحت الأرض ؟!! في السبعينات تم الاتفاق على السماح بمتابعة لعبة الموت وتجارب التفجير تحت الأرض فقط ، لتقفز الاتفاقية بعد ذلك على تحديد قوة التفجير بما لايزيد عن ( 150 ) كيلوطن ( أقوى من هيروشيما بعشر مرات !! ) وكان كل ذلك في ضباب الحرب الباردة قبل أن تدفن الأخيرة في جنازة خاشعة في باريس ، مع التسعينات من هذا القرن بعد أن زُلزل العالم عدة مرات وبلغت القلوب الحناجر ، وفي السبعينات حصل تطوران هامين في التطوير النووي الأول : هو في اتجاه التصغير ( MINIMIZING ) والثاني في التلاعب في اتجاه الطاقة حيث تم انتاج قنبلة النيوترون ذات التأثير الاشعاعي . انتاج قنابل فاكهة التفاح !! كانت القنبلة الهيدرجينية الأولى التي أخذت اسم ( مايك ) والتي أنتجت في خريف عام 1952م ذات حجم مرعب ، بطول ستة أمتار وبقطر 8.1 متر وبوزن 65 طن ، وهي التي عرفت بالسلاح الاستراتيجي ، ولم يمكن حملها على ظهر طائرة في ذلك الوقت ، بل شحنت على ظهر بارجة حربية ، وفي عام 1956م استطاع الأمريكيون حمل أول قنبلة هيدرجينية على ظهر طائرة حربية من نوع ( ب _ 52 ) وكانت القوة الجوية الضاربة لأمريكا مكونة من ثماني طائرات من هذا النوع ، ولكن التطوير الجديد مشى بعكس هذا تماماً ، بانتاج ماعرف بالاسلحة التكتيكية ، حيث أمكن تصغير القنابل الى حجم الفاكهة الصغيرة ، أي أصغر من قنبلة هيروشيما ذات القوة التدميرية ( 15 كيلوطن ) ، وهكذا أصبحت الخيارات منوعة بين القنابل ( الاستراتيجية ) والـ ( التكتيكية ) ونشأ رعب جديد من هذا الطيف من الامكانيات ، حيث قفز الى الإمكان حدوث حروب تستخدم فيها الاسلحة التكتيكية الصغيرة ، ولكن الاستراتيجية النووية أظهرت مرة أخرى ، أنه مع العصر النووي أن السحر قد انقلب على الساحر ، لانه لايوجد هامش واضح بين السلاح التكتيكي والاستراتيجي ، فيمكن الانزلاق بأبسط ممايتصور الانسان من الحرب التكتيكية الى الحرب العظمى التي لاتبقي ولاتذر ، تحت تأثير أعصاب انفلتت ، وأحقاد تفجرت ، ودماء سالت؛ فالانسان مازال يحمل في جمجمته بقايا تلافيف دماغ التماسيح وسمك القرش ، كما نكتشف بين الحين والآخر عن مدى رقة وتفاهة قشرة الحضارة في القشرة الدماغية في تلافيف دماغ الانسان ، والا كيف يمكن أن نفهم صواريخ كابول ، واغتصاب خمسين ألف امراة في البوسنة من سن السبع سنوات الى السبعين على يد الصرب ؟!! تطوير نظام الصواريخ ونتائجه البعيدة : وبقي لتتويج رحلة السلاح النووي تطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية ، ومن هنا تطور علم الفضاء وارسال الأقمار الصناعية ، التي أتت بالخير لنا من حيث لايشعر العسكريون ، حيث ينتظر الجنس البشري الآن ، امكانية ربطٍ هائلة للجنس البشري من المعلومات والاتصالات ، وتهيئة الجو لبناء الدولة العالمية الواحدة وإنتاج الانسان العالمي الثقافة الجديد ، وإيقاف الحروب نهائيا واجتثاث فقر ومجاعات العالم ، وفتح الامكانية لارتياد الفضاء واكتشاف الحياة في كواكب النظم الشمسية الأخرى . المفاجأة الكبرى في نظام الصواريخ : بين اختراع أول سلاح نووي وبين الوضع العالمي الجديد قفزات لاتخطر على بال ، بين عقيدة الهجوم النووي الأول ، فمن يهاجم أولاً يربح بالقضاء الكامل المبرم على الخصم ، وتبين مع الوقت مدى سطحيته وعدم جدواه وامتلاءه بالثغرات ، فتحولت العقيدة الى الردع النووي ، أي في الحين الذي يهاجم أحد الأطراف ، فإن الطرف الثاني يطلق صواريخه النووية _ وهو يغرغر في سكرات الموت _ التي سوف تصل الى الخصم في فترة أقصاها عشرين دقيقة ، فتأخذ الخصم مع نزع الروح معا ً الى قبر مشترك ؟!! ثم تطورت عقيدة ثالثة تقول بعدم جدوى وأمان أي وسيلة أمام الحرب النووية ، فالأمر لايحتاج لهجوم أو دفاع ، بل يكفي الانتحار النووي ، فتفجير أحد الأطراف قنابله التي يملكها هو بالذات ، وفوق رأسه بالذات ، سوف تقود العالم الى شتاء نووي رهيب ، ينقرض فيه الجنس البشري ، كما انقرضت الديناصورات بظروف مشابهة . كذلك فان الياباني ( شينتارو ايشيهارا )(12) لم يضن علينا بكشف السر عن سبب الاريحية والاخلاقية المتميزة ، التي جعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تكف عن التسابق النووي !! وكان السر في نظام الالكترونيات المتطور ، الذي خرج من أيدي الديناصورات الكبرى ، ليصبح مصير تطويره في يد دولة غير نووية هي اليابان !! فالصواريخ حتى تصيب أهدافها بخطأ محدود يعتمد بالدرجة الأولى على نظام الكمبيوتر المتطور ، و( الميكرو شيبس ) التي تُخَفِّض امكانية الخطأ الى أمتار قليلة أصبحت انتاجاً يابانياً ، فحتى يمكن تدمير القنبلة الهيدرجينية _ المختبأة في ( السيلو _ SILO )(13) مباشرة وبضربة رأس لرأس ، وفي فوهة البئر النووي تماماً ، المحصن ضد الزلازل ، بجدار من الخراسانة الاسمنتية المسلحة حتى ستين متراً ، كما في المخابيء النووية الأمريكية الموجودة بشكل رئيسي في كاليفورنيا في قاعدة ( فاندنبرغ ) _ لابد من امتلاك الكمبيوترات اليابانية ، وهكذا فان قصة انقلاب السحر على الساحر أخذت بعدا ً جديداً ، حيث ظهر مرة أخرى قصر نظر العسكريين ، ومدى رجاحة عقل العلماء الذين انتبهوا الى روح العصر الجديد ، فاقتراب العالم تدريجيا ً من السلم ، كان العلم هو المطور الأكبر خلفه ، أكثر من أي اعتبار آخر أو أية موعظة أخلاقية . هوامش ومراجع : (1) مجلة الشبيجل الألمانية حيث أوردت تقرير الخبير الأمريكي بالتفصيل عن مجموع الواقعات النووية ويراجع في هذا كتاب عندما بزغت الشمس للكاتب _ نشر دار الكتب العربية _ دمشق ص 189 فصل الجيل الثاني من السلاح النووي (2) تعتبر مادة نظير الهيدرجين ( التريتيوم _ TRITIUM ) ذات حياة تصل الى ( 3.12 ) عاماً وهذا يعني أنه لابد من حقن القنبلة مرة أخرة بهذه المادة حتى تحافظ القنبلة على مفعولها ، وهو مبدأ الجرعة الداعمة كما هو في اللقاح الطبي ؟!! (3) أشارت الى هذا الخبر المجلة الألمانية شديدة الدقة ( الشبيجل ) في عددها رقم 10 من عام 1992 م حيث ذكرت اسم الترجمان والحزبي الشيوعي الروسي ( تيتارنكو _ TITARENKO ) الذي كانت مشتركاً في اللقاء الذي عقد بين القيادة اليابانية ( بالصور ) وبين القيادة الروسية اثناء استسلام الجيش الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي كشف اللثام عن رسالة تيتارنكو التي أرسلها الى القيادة الروسية يومها هو الروسي المتخصص في التاريخ العسكري ( ايجور موروسوف _ IGOR MOROSOW ) والذي كتب مؤرخاً للحرب بكتاب أخذ عنوان ( الحرب التي لاتنسى ) وتم عرض فيلم وثائقي في ألمانيا بـ 16 حلقة عن الحرب تحت نفس العنوان (4) معركة أمسل فلد ( AMSELFELD ) جرت عام 1389 م حيث هزمت فيها القوات الصربية أمام الجيش العثماني بقيادة السطان العثماني مراد خان الأول وقتل في هذه المعركة كلا القائدين فأما الملك الصربي ( لازار ) فقتل في المعركة بعد الأسر ، وأما السلطان العثماني فأثناء تفقده ساحة المعركة من جريح صربي متظاهر بالموت _ يراجع في هذا كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية _ عن معركة قوص أوه _ تأليف محمد فريد بك المحامي _ دار النفائس ص 135 (5) كتاب الحرب العالمية الثالثة ( الخوف الكبير) تأليف الجنرال فيكتور فيرنر _ المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ ترجمة الدكتور هيثم كيلاني _ ص 21 (6) بيروسترويكا _ م . س . غورباتشوف _ الفارابي _ ص 200 (7) مصير كوكب الأرض في الحرب النووية _ جوناثان شيل _ ترجمة موسى الزعبي ص 14 (8) حول منع الحرب _ تأليف جون ستراتشي _ ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد _ الدار المصرية للتأليف والترجمة _ ص 16 (9) نفس المصدر السابق ص 200 (10) نفس المصدر السابق ص 199 (11) مجلة الشبيجل عدد 13 عام 1990 ص 278 (12) كتاب اليابان تقول .. لا شينتارو ايشيهارا _ ترجمة د. أسعد رزوق _ دار الحمراء _ ص 17 _ 20 ( 13 ) المخبأ النووي للصاروخ الذي يحمل العديد من الرؤوس النووية وقسم منها وهمي .
اقرأ المزيد
السرطان والثورة البيولوجية الحديثة
السرطان حيوان قشري لا يثير منظره الرعب ولكن هذا الحيوان البريء اقرن بطائفة من الأمراض تعتبر الإصابة بها بمثابة الحكم بالإعدام على حاملها ولو بعد حين, فحين يطبق على الإنسان لا يتركه إلا وقد مات الاثنان السرطان وحامله, فهو يتصرف بحماقة القرد الذي نشر الغصن الذي يقعد عليه من شجرة الحياة, ولكن لماذا سمي هذا المرض المفزع بالسرطان؟ ولماذا يحمل انعدام الأمل؟ واقترن بالموت؟ وإذا كان له آلية عمل فهم هناك سرطانات اجتماعية؟ أو وضع سرطاني اجتماعي مثل سرطانات الأفراد البيولوجية؟ وإذا كانت الثورة البيولوجية الحديثة تجتاز فضاءات معرفية جيدة لفك لغز السرطان, والسيطرة على الأمراض الوراثية وجراحة الكروموسومات ومعالجة مرض الإيدز فأين العلوم الاجتماعية من هذا؟ تقدم لي الأستاذ الثانوي وهو يبتسم: جميل أني رأيتك في المخبر هنا وأود استشارتك في هذه الكتلة التي أحس بها في إبطي الأيسر, كنت في ذلك الوقت جديد التخرج من كلية الطب وليس عندي تصور لمثل هذا النوع من الأمراض الرهيبة تحسست منطقة الإبط التي أشار إليها فشعرت بكتلة صغيرة بقد البندقة أو الجوزة الصغيرة تتحرك تحت أناملي, قلت له من الأفضل أن تؤخذ للفحص النسيجي لمعرفة طبيعتها, إلا أن المعلومات التي تواردت بعد ذلك أعطت صورة مختلفة لطبيعة هذه العقد الليمفاوية المتضخمة, فالرجل كان قد شعر بأن شامة (خال) في ذراعه بدأت بالكبر فلم يعرها انتباهاً, إلا أنها مع الوقت بدأت تغير طبيعتها بكبر الحجم واسوداد اللون والتقرح وغياب الشعر منها والنزف, ثم بدأت العقد الليمفاوية الأبطية بالانتفاخ, وخلال الأشهر القليلة التالية لم ينفع أي علاج من جراحة وتفريغ الأبط من العقد الليمفاوية أو الأشعة الحارقة أو المعالجة الكيماوية من استخلاص الأستاذ الرفاعي –رحمه الله- من قبضة السرطان والموت فواراه التراب شاباً ذكياً نشيطاً ووقفت أردد مع الشاعر ألا رب وجه في التراب عتيق ويا رب حسن في التراب رقيق ويا رب رأي في التراب ونجدة ويا رب حزم في التراب وثيق فقل لقريب الدار أنك راحل إلى منزل ناء المحل سحيق وما الناس إلا هالك وأبن هالك وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق يبدو أن هنالك علاقة جدلية ما بين الأشياء فما هو شر لطرف قد يكون خيراً لطرف ثان وما يضحك البعض قد يبكي الآخرين وعندما يخسر طرف يربح الآخر وإذا طار المال من يد سقط في يد أخرى وفي اللحظة التي تتدفق فيها الحياة في مكان يستولي الموت في مكان ثان ومع كل شروق شمس تدفع الأرحام الأجنة إلى الحياة ومع كل غروب شمس تستقبل القبور طوابير الأموات!! وعندما بدأ مرض الإيدز في الانتشار عكف الأطباء على دراسة طبيعة هذا المرض الذي لم تحدد هويته تماماً حتى لحظة كتابة هذه الأسطر مع هذا لمع طيف من الأمل وقبس من الخير مع موجة المرض المعذرة هذه حيث عرف أن طبيعة المرض يمكن إرجاعها إلى فيروس ذي طبيعة قلوبة عكوسة فهو بدلاً من وظيفته في تلقي الأوامر من أعلى من مركز الخلية فإنه يمشي (عكس) التيار وضد طبيعة تركيب أمثاله فيتسلل للخلية ومكان المفاتيح الرئيسية بل وبقص في تركيب الحامض النووي الذي يعتبر الشيفرة السرية لبناء كل محتويات الجسم ويفسح لنفسه فليس أمام الخلية إلا إعادة طباعة هذا الغازي وتشكلي فوتوكوبي مكرر في نموذج هذا اللص؟! وهكذا تتبع الخلية مضاعفات ومشابهات هذا الفيروس أي تصبح نواة الخلية مركز إصدار أوامر لتوليد المزيد والمزيد من نسخ جديدة للفيروس المقتحم وبذا يتحول المقود قائداً والعبد سيداً؟! الفيروس القلوب هذا (الريتروفيروس) سوف يصبح مفتاحاً للدخول إلى الخريطة الوراثية عند الإنسان فكما استخرج البنسلين من العفن (عفن المقابر قيل؟) وكما استخرج الأنسولين من جراثيم الغائط سيكون هذا الفيروس المجرم بعد ترويضه حلقة الوصول إلى مفتاح الخريطة الرئيسية ومكان إصدار الأوامر لتشكيل قطعات الجسم وتشكيلاته الأساسية من أجل إدخال التعديل المطلوب, ولكن كيف يدخل؟ ما هي مكوناته ؟ ما هي هذه الخريطة الوراثية والشيفرة السرية؟ وأين تقعد؟ مع إنجازات الطب الحديثة وكشوفات المجهر الإلكتروني المكبرة عشرات الآلاف من المرات أمكن معرفة أن كل ما تقع عليه عيننا ليس أبسط الأشياء ولا أصغر الموجودات, فالشعرة التي تسقط من رأسنا والعشبة التي نطأها بأقدامنا وقطعة الخبز التي نلوكها بأفواهنا, مكونة من وحدات أصغر وأصغر مثل قصة الصندوق داخل الصندوق إلى ما لا نهاية!... وهكذا فالشعرة الواحدة وقلامة الظفر التافهة وقشرة البصل التي لا نأبها لها مكونة من ملايين ملايين الوحدات التي تشكل كل وحدة فيها كياناً قائماً في ذاته مستقل عاملاً بمفرده وبالانسجام مع نظيراته وأشباهه من الخلايا أو المختلفة في الاختصاص أخذ وعطاء. هذه الوحدة التي تعمل كمصنع فيه الإنتاج والاختصاص والصيانة بنفس الوقت, له دماغ مركزي ووحدة تحكم أولية وكمبيوتر أساسي تعمل في أحدث الأجهزة بل تتضائل أمامه أعقد كمبيوترات العصر, وفي داخل الدماغ المركزي تم العثور على قطع غريبة في شكلها عظيمة في أثرها وفعلها ونظراً لولعها الشديد بالألوان تتشربها الفائق للأصباغ سميت بالصبغيات (الكرموسومات) متباينة الأحجام هي ألياف رفيعة للغاية وخيوط متناهية في النحافة قد ضمت بإتقان لا حد له وضغطت بشكل كبب بحيث أنها إذا فردت وفككت تحولت إلى خيوط بالغة الرفع لا ترى إلا بالمجهر الكبر آلاف المرات فإذا مدت كحبل متصل وصلت إلى ثلاثة أمتار ويبقى المرء متعجباً عن هذه اليد الخفية التي لففت وجمعت وحفظت ثلاثة أمتار من خيط رفيع في كبة لا ترى إلا مكبرة عشرة آلاف مرة؟! أكثر من ذلك إذا اقتربنا إلى هذا الخيط الذي يهتز أمام أبصارنا تبين لنا أنه ليس خيطاً واحداً بل هو في الواقع خيطان مثل حافتي الجسر أو عمودا السلم الذي تربط بين حافتيه أو جانبيه درجات وهو قد وضع بشكل السلم الأنيق الذي يشبه سلماً أو درجات الصعود داخل المنارة أو البرج تماما كما ه يفي الساعة الخضراء المنصوبة في مدينة عنيزة والتي أقامتها بلدية القصيم برشاقة وبدقة هندسية جميلة أكثر من ذلك حافتا الدرج أو عمودا السلم إذا اقتربنا لنراها أكبر فأكبر لنرى مما تتكون وحداتها الأولى ولبناتها الأصلية لعرفنا شيئاً هو لغز الوجود وسر الكون الذي يقوم على البساطة فكل هذا التعقيد يقوم على البساطة فكما نكتب القصائد الرائعة والأفكار الضخمة والمجلدات التي لا تنتهي من عشرين حرفاً فقط فإن اللغة البيولوجية الأساسية لسر الخلق هنا هو أربعة حروف لا تزيد وليس 28 حرفا كما في اللغة هذه اللبنات الأساسية الأربعة هي أربعة حروف تماماً كما في ا.ب.س.ج وهذه الحروف تصطف وتلتحم وترتبط بعضها ببعض لتشكل في النهاية خيطاً طويلاً يصل إلى حوالي الأمتار الثلاثة. وهذان الخيطان المترابطان متشابهان تماماً من ناحية التركيب والكمية ويلتقيان كما يلتقي (السحاب) الذي نستعمله في ملابسنا لإغلاق الفتحات كما في (البنطلون) أو (الفستان) وأكثر من ذلك فإن هذه الحروف الأربعة تصل ببعضها بشكل مختلف . ولا غرابة لأن الكمبيوتر يقوم على قاعدة (الشخطة والنقطة _ .) وحتى نفهم الموضوع أكثر نقول أن تسلسل هذه الحروف هو الذي يشكل لغة الخلق السرية؟! هذه اللغة العظيمة والخفية التي تنساب لك رشاقة حتى بدون نقط وفواصل وإشارات تعجب بقي أن نعرف أن تسلسل هذه الحروف يكون مجلداً ب 500 صفحة هو كتاب (كتاب خلق الإنسان) فإذا نظرت إليه راعك المنظر من تتابع غامض سحري كأنك دخلت الهرم لتقرأ اللغة الهيروغليفية لأول مرة وأكثر من هذا فكل تسلسل من هذه الحروف صغر أم كبر هو مكان ومركز صناعة شيء وصلة في كريه حمراء اتصال في نسيج عظمي, خميرة مهمة, أنسولين لحرق السكر, هورمون لحبس الماء والملح الخ هذه القطعة سميت بالجبن (GEN) وكأنها جن نبي سليمان التي كانت (تغوص وتعمل عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين) هذه الجينات تبلغ حوالي ثلاثة مليارات قطعة وهناك مشروع الآن هو اعظم من مشروع ناسا (NASA) لارتياد الفضاء في فك الشيفرة (الجينية) عند الإنسان على وجه الدقة بحيث يصبح (كتاب السر الأكبر واللوح المحفوظ) معروفاً مكشوفاً لنا ويتوقع العلماء أن كشف اللثام عن مجموع الجينات الكامل يحتاج إلى 10-15 عاماً وهناك إثارة ملفتة للنظر في الحث حيث يتوقعون أن ما يعمل لإنتاج كل تركيب الجسم لا يزيد على 100-150 ألف جين فقط ويبقى السؤال والمليارات البقية هل هي (سلطة) لا معنى لها؟ أم أنها مخصصة ومعدة لأهداف مستقبلية؟ أم هي مسؤولة عن التركيب النفسي مثلاً؟ أم أن هذه الجينات بالفعل هي مخصصة لوظائف وأشياء في عمق أعماقنا ولا نعرفها لأننا لا نعرف أنفسنا فعلاً ؟؟ وكما يتكون القماش الذي تخاط منه ثيابنا التي نلبسها, وكما أن قطعة القماش مكونة من خيوط أولية بألوان مختلفة صنع على نفس الطريقة وبني على هذه الشاكلة, وبألوان شتى بن عظم أبض ودم أحمر وسائل مراري بلون الذهب وحليب أبيض بل وغائط بني, فهي كلها مكونة من خيوط أولية معروفة بالأحماض الأمينية, فهي اللغة التي يتشكل منها هذا البناء (اللغوي البيولوجي) وعرف أن هذه اللغة التي يبنى منها (قميص الجسد) مكون من عشرين خيطاً أو أن هذه (اللغة البيولوجية) مكونة من عشرين حرفاً, وهناك حلقة تفاهم ما بين لغة الكروموسومات المكونة من أربعة حروف أو أربعة خيوط بألوان مختلفة, حلقة التفاهم تمشي باتجاه واحد من الكروموسومات إلى الجسد فكل ثلاثة خيوط (تنجدل) أو (تشكل ضفيرة) من حروف الكروموسومات الأربعة فتوعز بشكل حرف واحد من حروف الجسم العشرين, وقد يتعجب الإنسان من كمية الاحتمالات, وهل يمكن لأربعة حروف أن تنتج من احتمالاتها عشرين احتمالا. أي عشرين حرفاًَ, والواقع نعم إن الطبيعة والخلق الإلهي المدهش أودع إمكانية ليست الضعف بل ثلاثة أضعافها وحاول أن تقوم أيها القارئ ولو أنني أتعبت دماغك قليلاً بحساب هذا فسوف تصل إلى أربعة وستين احتمالا. وعرف أكثر عن هذا الجسد العجيب فهناك تنسيق وتفاهم مدهشين بين اللغتين اللتين ذكرنا, بحيث أن كل إشارة تفسر على ما يرام, وكل حركة تأخذ مكانها للإنتاج بما يليق فلا خلل ولا شطط ولا نقص ولا زيادة, وعلى هذا الميزان يقوم بدننا فتنهدم في اللحظة الواحدة ملايين الخلايا, في اللحظة التي تتكاثر فيها ملايين جديدة, وأي خلل ولو في خلية واحدة يعتبر خروجاً على القانون وتمرداً على النظام وإعلان (ثورة) داخل البدن, وقيادة لعصيان مسلح وهذا هو (السرطان=CANCER) والسرطان ذلك الحيوان القشري البريء تمتد منه أذرع كثيرة, كذلك هذه العصابة المدمرة, فالخلايا السرطانية تمد أذرعها إلى كل مكان ومن هنا سمي مرض السرطان بـ (السرطان) لأنه خبيث أكال ممتد شرس يحفر وجوده في كل مكان ويمتد إلى كل نسيج وبذا تسبح خلاياه مثلاً من أنسجة الكولون حيث الغائط والقذر فتترك مكانها إلى الصدر النظيف والكبد النشيط والدماغ المتألق فيضيق الصدر وتحشرج الروح ويتفتت الكبد ويدمر الدماغ؟!! فالسرطان في الواقع إعلان عن الاختلال الخلوي الزماني المكاني الوظيفي وثورة عشوائية مدمرة فلا تبقى الخلية مكانها ولا تؤدي وظيفتها وتتكاثر زعماً منها أنها تخدم البدن وهي في هذا قد ارتكبت حماقة ستقودها إلى الموت مع الجسد الذي تدمره وهنا معنى اجتماعي كبير في السرطان الاجتماعي أيضاً حيث نبصر الأفراد يفعلون قريباً من هذا عندما تتغير طبيعة الوظائف فيتحول الحارث إلى لص والحامي إلى مدمر وأهل الفكر إلى فقراء والانتهازيون إلى (أصحاب ملايين) في الواقع يصبح المجتمع في حالة (سرطانية) وهؤلاء سمك القرش الجدد يظنون أنهم عندما يسيئون إلى المجتمع الذي يهبهم دم الحياة، والسفينة التي عليها يعومون، إنهم يحسنون صنعاً( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) بكل أسف لا يدرك الكل، كما لا يشعر حامل السرطان أنه يحمل السرطان حتى ينفجر عليه في صورة انثقاب معدة مثلاً والسرطان بإساءته إلى الجسد الذي غذاه سوف يقضي على نفسه في النهاية فالجسد الذي سيعود إلى التراب سيحمل معه نفس الخلايا السرطانية الإجرامية، والمجتمع الذي ينهار سوف يضم في حفرة القبر معه أيضاً الانتهازيين واللصوص وسمك القرش الاجتماعي. وهذا مغذى عظيم اجتماعي من مرض السرطان. ما الذي يحدث حتى تتحول الخلية من خلية مسالمة لها مكانها المعروف ونشاطها المتزن إلى خلية سلطانية تعلن التمرد على نظام الجسم هذا ما فتحت الثورة البيولوجية الطريق إليه من خلال معرفة لغة الخلق وحروفها الأربعة التي أشرنا إليها والجواب هو: الخلل الجيني ! ولكن ما هو الخلل الجيني؟ إن الخلق قصيدة خالدة وديوان شعري رائع، فكل تركيب هو قطعة فنية مدهشة، هندسة العظام. دورة الكريات الحمر. نسيج الكبد. وظيفة الكلية. تألق الدماغ. الجهاز المناعي. الإفراز الهرموني. توازن الشوارد والمعادن. استقرار أخلاط البدن كلها في أحسن تقويم وأروع خلق. كلمات مصفوفة بجانب بعضها البعض، مكونة من حروف ربطت إلى بعضها برشاقة، وكما في حياتنا العادية فأي خلل في نظام الكلمات أو ربط الحروف يؤدي إلى كارثة في التعبير فيتحول المدح قدحاً والثناء ذماً والهجاء رثاءً كذلك الحال في التعبير البيولوجي، فالأمراض هي اضطراب حروف وكلمات اللغة البيولوجية، الأمراض هي تراكيب لم تتسق وتنتظم بحيث تشكل تعبيراً متجانساً وشعراً موزوناً وقافية محكمة وتنطبق هذه القاعدة بدورها على العلاقات والأمراض الاجتماعية. لنحاول التقدم خطوة أخرى في كشف الغطاء عن هذه الحكم القريبة المحجوبة, لنتصور لغة الخلق على شكل كلمات مصفوفة بجانب تعضها البعض والكلمة الواحدة ترابط محكم لمجموعة من الحروف, لنأخذ كلمة(حرب) فهي كلمة شنيعة تمثل افظع ما دمر النسيج البشري وافسد العلاقات الإنسانية على النحو الذي استعرضناه في جريدة الرياض تحت مقالتين (كفى بالحر واعظاً) و(عبثية الحرب). كلمة (حرب) مكونة من ثلاثة حروف ولكن سحب الحرف الثاني منها يقلب (الحرب) إلى (حب) والفرق بين الحرب والحب فرق بين الوجود والعدم لأن الحب مشاركة والحرب نفي الحب نماء والحر عدم ,الحب أعظم عاطفة في الوجود والحرب هي غاية الحقد والكراهية, فإذا رجعنا وأضفنا حرف الراء المحذوف إلى نهاية كلمة حب تحولت إلى (حبر) التي تفيد مادة فإذا قلبنا الحروف قلبة ثانية تحولت كلمة (حرب) إلى (بحر) ذلك الكيان المائي المتلاطم وهكذا يمكن توليد ست كلمات بستة معان مختلفة من خلال إدخال الاختلاف إلى ترابط الحروف بعضها ببعض فكلمة (حرب) تصبح (حبر ـ برح ـ بحر ـ رحب ـ ربح). هذه اللغة البيولوجية تتشكل من عشرين حرفا لتكوين كل تراكيب الجسم ولكل منظومة منها تشكل قطعة مسؤولة عن وظيفة أساسية فالأنسولين مثلاً مكون من سلسلتين من الوحدات الأولية تماما مثل بيتي الشعر ولا يختلف أنسولين البشر عن أنسولين الخنازير مثلاً إلا بكلمة واحدة في نهاية البيت الثاني ولا غرابة لأن شاعر هارون الرشيد كاد أن يفقد حياته حينما هجى المحظية (خالصة) فأنشد: لقد ضاع شعري عندكم كما ضاع عقد على خالصة وعندما شعر بالخطر من نفوذ المحظية أنقذ رقبته فقط بمسح نهاية حرف العين فتحولت إلى همزة (ع) (ء) وهكذا أصبح بيت الشعر على لسان أبي نواس: لقد ضاء شعري عندكم كما ضاء عقد على خالصة؟!! هذا الدخول إلى الكنز المخبأ والمفتاح السري والخريطة العظمى الأساسية والنسخة الأصلية للخلق واللوح المحفوظ في الدماغ المركزي في نواة الخلية هو بداية قفزة نوعية في علم الإنسان والمعالجة الطبية وإذا كانت الأمراض الوراثية التي تم اكتشاف حوالي (800) منها حتى الآن سببها (خلل جيني) بما فيه (السرطان) فإننا عمليا وكل منا يحمل إمكانية خلل جيني في مكان ما وإذا كان مرض (الإيدز) الفظيع هو تسلسل فيروسي يخلع معطفه وملابسه وقشرته الخارجية ليتزوج الحمض النووي الداخلي ليصبح قطعة في تكوينه لكي ينتج ذرية له كما يحدث في أي زواج وعاقبته من إنتاج الأطفال فإن بإمكان العلم استخدام هذا (التكتيك) تماماً مثل (حصان طروادة) للدخول إلى الخريطة الأساسية ومفاتح التحكم في الإنتاج الخلوي من خلال التحكم في الحمض النووي المركزي بحيث يمكن أو وصول إلى الخلل الجيني وإصلاحه سواء كان بإضافة قطعة ناقصة أو تعديل تركيب مغلوط. إن السرطان يكشف اللثام عن أسراره اليوم حيث يمكن فهمه أيضاً ضمن هذه اللعبة فالتكاثر الخلوي يخضع لتوازن دقيق من خلال عمل جيني محكم والخلل الجيني هو الذي يطلق جماع التكاثر الخلوي من خلال فقد آلية السيطرة على التكاثر بل نبدأ نفهم من لعنة السرطان هذه سر الحياة أكثر ولماذا كتب علينا أن نعيش عشرات السنوات فقط وهل الانقسام الخلوي محدد كما يقال على حوالي خمسين انقساما فقط؟ ولكن لماذا تمضي الخلايا السرطانية المجنونة بانقسام رهيب لا يتوقف بحيث إذا أخذت الخلايا السرطانية في جسم المريض مات المريض ولكن الخلايا تستمر في التكاثر المرعب طالما ضمن لها الغذاء الذي يمد في عمرها عندها قد لا نرى في السرطان لعنة بل رحمة من خلال إدراك سر التكاثر الخلوي؟!! ثم أليس تكاثر خلايا الجنين في بطن أمه تكاثراً سرطانياً من نوع آخر إيجابي حيث تتكاثر الخلية الواحدة إلى مليارات الخلايات المتخصصة؟ ما هي الآلية يا ترى التي تسرع في الخلايا وهو جنين في الرحم ثم تتباطأ أكثر فأكثر مع الخروج من الرحم؟ كلها أسئلة يخترقها العلم الجديد اليوم ويجب أن تتعلم حقيقتين من العرض السابق ... الأولى تقول يجب أن لا نخاف من العلم ففيه قدرة التصحيح الذاتي كما قاد العلم إلى السلم مرغماً على النحو الذي عرضناه في علاقة العلم بالسلم في مقالات سابقة. والحقيقة الثانية أن الزبد سيذهب جفاء وما ينفع الناس سيمكث في الأرض ويجب أن لا يفزعنا التطور العلمي لأنه سيأتي بشواهد جديدة على الحق الذي بنيت عليه السماوات والأرض الهوامش والمراجع : (1) تكشل العقد اللمفاوية شبكة الإصطياد للجراثيم والعناصر الغريبة القادمة من خارج الجسم بعد حاجز الجلد والصراغ ضد الكريات البيضاء. فإذا انتفخت العقد اللمفاوية كان معناه مرحلة متقدمة لتقدم فرق اللإجتياح الغريبة. (2) أصيب الأستاذ المذكور بسرطان جلدي يعتبر من أخبث الأنواع وأشدها انتشارا وفتكاً وهو المعروف بالسرطان القتاميني (الصبغي) وينمو على شامة في الجلد. (3) تنسب هذه الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه المشهور (4) في المؤتمر العالمي الأخير في اليابان عن مرض الإيدز تمت الإشارة إلى وجود زمر فيروسية إضافية تتسبب في المرض. (5) يعتبر الحامض النووي المرمز له بـ (د.ن.أ.(D.N.A هو المحتوي الرئيسي للجينات التي هي بدورها لقطع المتصلة ببعضها البعض والتي تشكل الكروموسومات (الصبغيات) والمسؤولة عن الشيفرة السرية لأوامر تشكيل كل شيء في البدن. (6) لمزيد من فهم هذه الآلية نقول أن الحامض النووي المركزي والذي يعتبر النسخة الأصلية يرسل أوامره السرية عن طريق حامض نووي آخر إسمه الرسول أو الناقل, والفيروسات تحوي ضمن كتلتها شبيهاً من المركز إلى المحيط أو أوامر الحامض المركزي إلى الجسم باستثناء الفيروس القلوب أو العكوس فإنه يمشي ضد التيار ومن هنا أخذ أسمه العكوس (ريتروفيروس) فهو يقتحم الحامض المركزي ويجلس داخله؟! (7) يتشكل الحمض الأميني المركزي من أربة أحماض أمينية هي (الأدتين والستوزين والجوانين والثمين). (8) لتطبيق مبدأ الاحتمالات من ربع حروف نقول مثلاً (أ.أ.أ.ب) (أ.أ.ب.ب) (أ.أ.ج.ج) (أ.أ.س.س) (أ.ب.ج.س) (أ.ج.ب.س) (أ.س.ب.ج) (أ.س.ج.ب) وهكذا فسوف تصل إلى 64 احتمالا كل احتمال يوعز إلى الجسم من خلال مطبعة عملاقة في الخلية أحماض أمينية مسؤولة عن هورمون ما أو الأنسولين وهو مكون من 51 حمضاً أو خضاب الدم وهو مكون من مئات الأحماض الأمينية وهكذا.
اقرأ المزيد
سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي
هل تقود الحروب إلى السلام فعلاً ؟ أم يفضي العنف إلى السعادة ؟ أم أن تدمير الخصم وتطويع إرادته ينهي الصراع ؟ أم أن الكراهيات المتقابلة والخوف من الاستئصال المتبادل يفضي إلى وضع مستقر ؟ هناك مذهبان في العالم لاثالث لهما : يقوم الأول على العنف وتدمير الآخر وإلغائه ، والثاني على احترام الإنسان والحفاظ عليه ، وكلا المذهبين خلفهما عواطف متباينة ، فالأول يُسقى بالحقد والثاني يُغَذَّى بالحب ، والحقد عملياً هو الانكفاء والارتداد على الذات ولذا فهو مدمر لإنه يحذف الآخر ، والحب مشاركة ولذا فهو حياة ونماء ، وسوف يقص علينا علم النفس خبراً من هذا الموضوع . كيف يمكن مقابلة العنف بالسلام ، ولايُقابَل بما تفرضه الغريزة البحتة والقائلة : من يضربني كفاً ضربته اثنان ، وكِلْتُ له الصاع صاعين ، وتركته عبرة لمن يعتبر !! هذه هي الثقافة التي يتشربها الإنسان في العادة ، وتبثها العادات والتصرفات اليومية ، وتكرسها أفلام هوليوود ، ويتكرر ترسيخها في أذهان الأطفال من خلال لعب ( أدوات الموت ) من المسدسات والدبابات وماشابه من أفلام الكرتون من أمثال ( غراندلايزر ) وسواها . كتب إلي أخ فاضل فقال : (( إلا أن النقطة التي استعصى علي فهمها هي مسألة العنف ، والسؤال الذي لم أجد له إجابة أبداً كيف تحاور الكلمة الرصاصة ؟ نعم قد أحاور من يرغب في حواري ولكن كيف أحاور من يرغب في استئصالي بغض النظر عن فكرتي التي أحملها ، وقد تابعت لك عدة مقالات تتحدث فيها عن نبذ العنف وعبثية الحرب فياحبذا لوسلطت مزيداً من الأضواء على هذا الجانب )) . عندما وضعت سؤال الأخ الفاضل تحت المجهر للتحليل _ وأعتبر أن تساؤله هذا يمثل شريحة ليست بالقليلة من القراء _ فإنني أثير مجموعة النقاط التالية في أول بحثي : 1 - تقول الأولى : إن هذا الموضوع مختلط ونظراً لنوعية تعقيده فإنني _ على الرغم من قلة زادي فيه _ أخذ مني طاقة فكرية كبرى حتى وصل إلى مرحلة البللورة المتألقة _ على الأقل في ذهني _ وأفاض على قلبي من ضروب السعادة والتحرر من العقد وتوديع التقليد ، ماجعلني أشعر بما يشبه الولادة الجديدة والنور الجديد ( وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) . حيث أن هذه المشكلة أقضت مضجعي وشغلتني منذ مايزيد عن عشرين عاماً ، حتى انتهيت إلى وضوح في هذه الفكرة وتماسك في بنائها ويقين في محتواها ، ولاأزعم أن هذا هو اليقين المطلق بل هو حصيلة البحث الذي وفرت له طاقتي الفكرية منذ ربع قرن من الزمان ، ولذا فإنني أكتب في هذا المجال بشعور المتخمر والسعيد والشغوف في إعلان هذا التوجه. 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن وضع العالم العربي هو _ ولنكن صريحين _ فيما يشبه الحرب الأهلية المهدِّدة في أي مكان في أي زمان ، فما اشتعل في لبنان ودمر في الصومال وتكرر في أفغانستان واليمن والجزائر والعراق وسوريا وليبيا ، إن هي إلا عينات أو لنقل بالتعبير الطبي ( خراجات ) قابلة للتفتح والانفجار في أي مكان ، وليس هناك من بلد عربي بمنجى من هذا الخطر المدمر الماحق ، والذي يظن نفسه أنه في جزيرة ( الأمل ) كما جاء في مسلسل الأطفال ( عدنان ولينا ) فهو في سراب خادع ووهم كاذب ، وسوف تلد الأيام الحبالى ماأقول به ، ويشاطرني فيه الكثير من أصحاب الفكر والقلم ، وهذا يوجب على أهل الفكر والمثقفين المساهمة في تحليل هذا المرض وتسليط الضوء على هذه الظاهرة المرعبة التي تأكلنا يومياً . ولانظن ونسرف في التفاؤل أن مصير ( راوندا ) بعيد عنا ، فالشروط لحدوث حريق مثل هذا قائم في أكثر من بلد عربي ، وإن في قصصهم عبرة لإولي الأباب . وتقول الفكرة الثالثة : إن ظاهرة العنف مرض عام في أي بلد عربي ؛ فهي بلاسما ثقافية يسبح فيها الجميع ، وجو مسموم يتنفس فيه الكل ، ومرض عام لكل الفرقاء المتنازعين ، والاتجاهات المختلفة تقريباً ، وإن اختلفوا ففي التوقيت فقط ، فهم بهذا تبنوا الغدر وشرعوه . هذا الوباء بل الطاعون الفكري والإيدز الاجتماعي هو ثقافة مكررة تنتج نفسها ( وذرية بعضها من بعض ) ولذا فالانفجارات موجودة في كل بيت وزاوية ودولة . إن مرض الكوليرا عندما يجتاح بلداً ما ؛ فهو عندما يأتي لشخص ما لايسأله عن هويته العقائدية وانتماءه العرقي وانتسابه القبلي أو الطائفي ؛ بل يصيبه المرض كظاهرة بيولوجية بحتة ، والأمراض الاجتماعية شبيهة بهذا ، إلا أن ( وحدة ) المرض الاجتماعي أي الكينونة الإمراضية الناقلة والمسببة للمرض هي هنا ( الفكرة ) تماماً كما في ( وحدة ) الأمراض البايولوجية فهي ( البكتريا أي الجرثوم أو الفيروس ) . لذا ففي الواقع إننا في العالم العربي نسبح في بلاسما ثقافية موحدة مشربة بالعنف سواء اعترفنا بهذا أم لا ، يتجلى هذا من خلال ( علاقات القوى ) بين الزوج وزوجته ( 1 ) والأب وابنه ، والضابط بالجندي ، والموظف بالمراجع ، والطبيب بالمريض ، والشرطي بسائق السيارة ، والعسكري بالمدني ، والدولة بالفرد ، والأعلى بالأدنى ، فكلها في معظمها علاقات إنسانية مشؤومة ، ونظراً لأهميتها فقد عالجها القرآن في أكثر من ثماني مواضع ، واستخدم فيها مصطلح ( استكبار - استضعاف ) أو مايسمى في المصطلح الطبي العلاقة ( السادية - المازوخية ) ( 2 ) . وتقول الفكرة الرابعة : إن هذه العلاقة الإنسانية المشؤومة ( المستكبر - المستضعف ) ( 3 ) أو ( السادية - المازوخية ) هي في حقيقتها وجهان لعملة واحدة ، وإذا أردنا تفهم هذه الظاهرة فيمكن ملاحظة كيفية أخذ ( اللقطات ) في الكاميرا ، فإن الفيلم ( الأسود - السلبي ) هو الذي يكون أساس اللقطة ، ثم وبعد التحميض يخرج الفيلم الملون ، ونحن إذا أردنا المزيد من الصور ( نسخ إيجابية جديدة ) فإننا نرجع دوماً إلى الأصل ( الأسود وغير المعبر والمشوه ؟! ) ، وهكذا يمكن فهم علاقة ( المستكبر - المستضعف ) أو العلاقة ( السادية - المازوخية ) فهما وجهان لحقيقة واحدة ، أصلها هو الأسود بمعنى أن ( المستكبر ) هو الوجه البارز والملون والمبهرج ، ولكنه في حقيقته هو ( الأسود المستضعف ) ، وكذلك فـ ( السادي ) هو في أعماقه ( مازوخي ) ، وكما في الفيلم قبل وبعد التحميض ، كذلك الحال في مرض الاستكبار والاستضعاف ، فالاستضعاف هو الذي يولد الاستكبار ، هو أسه وأساسه وجذره ومنبعه الذي يولده بدون توقف ، فإذا أردنا فهم المشاكل الاجتماعية ، وهذا المرض الاجتماعي الرهيب بالخاصة ، والذي سلط القرآن عليه الضوء لمعالجته فيمكن فهمه من خلال مثل الفيلم الأسود وتحميضه . وهكذا فانهيار الجهاز المناعي هو الذي يهيء الوسط للمرض ، وتفكك الأمة الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي ، والبيت القذر هو الذي يفرخ الصراصير والجرذان ، والمستنقع هو الذي يولد البعوض ، والأمم الهزيلة هي التي تصنع فرعونها ، والحضارات تنهار بعلة الانتحار الداخلي ( 4 ) . ويترتب على هذا نتيجة في منتهى الخطورة وهي أن التغيير يجب أن يبدأ من تحت : في البناء المخفي ، في طبقة الوعي الداخلية ، في الفيلم الأسود الذي لم يحمض بعد ، في الأمة أو حسب تعبير القرآن ( تغيير مابالنفوس ) ( 5 ) . وتقول الفكرة الخامسة : وإذا استقامت هذه الفكرة عندنا أمكن لنا تحليل العديد من المواقف والمشاهد اليومية في ضوء هذه الفكرة ، وإذا أردنا الإنسان ( الحر ) مثل بلال فيجب أن نتخلص من هذا المرض ( السادي - المازوخي ) وبالتالي الوصول إلى حالة الامتلاء النفسي والتواضع ، فلاتبطر القوة صاحبها ، ولاتسكره خمرة الانتصار ، ولاتستبد به اللحظة ، ولايعلو مع امتلاك المال ، ولايفقد توازنه إن جلس خلف طاولة كبيرة أو تسلم منصبا ً حساساً ، وبالمقابل لايصبح ذليلاً حقيراً حينما يحرم من القوة ، أو يخسر المال ، أو تتدهور الصحة ، أو يواجه مشكلة ما ، بل حتى مواجهة الموت !! وهذه كانت رسالة الإسلام القديمة الحديثة إيجاد المجتمع العادل من خلال إيجاد الإنسان العادل من خلال إحكام التوازن الأخلاقي عنده . وتقول الفكرة السادسة : إنني أقدر تساؤل الأخ واختلاط الموضوع ، وتشابك المفاهيم وضغط المعاصرة ، وثقل مفاهيم التراث ، كل هذا يفرض علينا وعيا ً حاداً ، وتأملاً تاريخياً ، ومطالعة علمية لاتنضب من أجل تحرير هذه المفاهيم ، والأخ في تساؤله إنما يعبر عن ضغط مجموعة من المفاهيم في الوسط الثقافي الذي نسبح فيه ، والطرح الذي تقدمتُ به يخلق إشكاليةً لابد من حلها ، ولذا أحببت في مقالتي هذه أن أضع يدي محاولاً تلمس هذه الفكرة في دينامية النفس وكيفية عملها ، وكيف يفعل العنف ويؤثر ، وكيف تعمل الأفكار السلامية ؛ تلك التي أشعر أن العالم العربي يحتاج إليها اليوم أكثر من المصاب بصدمة نزف الدم والمحتاج لنقل الدم لإنقاذ حياته ، فوضع العالم العربي لم يعد يحتمل الانتظار أمام كوارث العنف اليومية التي تتفجر مثل القنابل الموقوتة في كل مكان ، وعلينا أن نتقدم بهذا الطرح بدون خجل أو خوف من أجل إعلان ماأسميه ( ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي ) لكل الأطراف من عرقية واثنية ودينية ، وجنسية للمرأة والرجل ، لكل من يعيش في هذا المجتمع أين كان موقعه ، للحكم والمعارضة ، للدولة والفرد ، ذلك أن آلية الإعدام والإفناء المتبادل تفعل فعلها المدمر بين كل الأطراف الاجتماعية اليوم . وربما مانحتاج إليه أكثر من الصلح مع إسرائيل هو صلح الإنسان العربي مع الإنسان العربي ، والدولة العربية مع جارتها العربية . وتقول الفكرة السابعة : إن درس ( أفغانستان ) البليغ يعطينا توسعاً وتعميقاً لهذا المفهوم الذي نطرحه ، فالمشكلة كما نراها ليست فقط عربية ، وإن كان حظ العرب منها كبيراً ، بل هي إسلامية ، بل هي عالمية ، لإنها إنسانية في جوهرها ، ولذا فإن الطرح الذي أتقدم به يشكل خلاصاً إنسانياً محلياً وعالمياً في تقديري ، وهو طرح لن يتضرر منه أحد بل سيربح منه الجميع ، فلن يخسر أحد أرضاً أو زعامة أو مالاً ، بل يربح الجميع كما يفعل الأوربيون اليوم حيث يتحدون ولايخسر أحد شيئاً بل يربح الجميع . وفصائل المجاهدين الأفغان فعلوا ببعضهم اليوم وفي وقت قريب نسبياً ، مالم يفعله الشيوعيون والروس مجتمعون ، وهي بأيديهم ومن عند أنفسهم وظلموا أنفسهم و ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟؟ قل هو من عند أنفسكم ) ( 6 ) كلها لإن النفوس تشربت العنف ، ومارست القتل ، وشربت الدم ، ولم يخالط قلوبها الحب ، أو سيطر على عقولها مفهوم السلام ، الذي أود شرح ديناميته بعد قليل . فعلينا مع درس أفغانستان ألا نبحث عن ( كبش فداء ) و ( علاَّقة مهازل ) نلقي عليه اللوم ونتهمه أنه الذي يتآمر علينا ، فالمسؤول عن الدمار اليوم ليس الشيوعيون والروس ، أو الاستخبارات الأمريكية ، أو الصهيونية والموساد ، أو الصليبية العالمية وقوى التنصير ، أو الماسونيين وقوى النورانيين الخفية ، هذه المرة انكشفت عورتنا ، وبانت عيوبنا الذاتية بغير غطاء ، وأن العجز هو مرض عميق متأصل في العالم الإسلامي ، ونحن المسؤولون عنه ، وأن تدمير كابول اليوم يتم بيد المسلمين أنفسهم و ( يخربون بيوتهم بأيديهم ) ، ولكن ( جعبة ) العاجز حاملة ماهو أدهى من جعبة ( حاوي السيرك ) الذي يخرج الأرانب والثعابين من المنديل ، فيمكن إلقاء اللوم على الشيطان ، أو لامانع من إدخال الأرادة الألهية أحياناً التي أرادت هذا الدمار لكابول ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . وهذا التوجه هو في أعماقه نفس طريق اللاعودة ، طريق اللعنة الأبدية التي دخلها الشيطان لإنه ألقى اللوم على الله في ضلاله ( بما أغويتني !! ) في حين أن طريق ( الآدمية ) ودخول الجنة دشنها آدم باعترافه بالخطأ من خلال عملية نقد ذاتي قاسية ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) . وأريد أن أشير إلى أن الروس والحلفاء معاً ينسحبون من الأرض الألمانية بدون طلقة رصاصة واحدة من ( مجاهد ) كما لايزهق بعضهم أرواح بعض بعد الانسحاب ، كما حققوا وحدتهم بدون صواريخ على المدن أو حرائق في مصافي البترول . واليابان هو البلد الوحيد الذي ضُرب بالسلاح الذري في تاريخ الجنس البشري وربما لن يتكرر ذلك مرة أخرى ، واستسلم بدون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية ، هو الذي ( تترجاه ) أمريكا اليوم أن يتسلح ، فيرد بكل اللطف الشرقي المعهود ، أنه ملتزم بالفقرة الثالثة من وثيقة الاستسلام التي تنص على عدم عودة اليابان إلى التسلح في المستقبل ، مع العلم أن اليابان لو أرادت الوصول إلى السلاح النووي لامتلكته في شهر واحد لايزيد بسبب القاعدة التكنولوجية التي تمتلكها ، ذلك السلاح الذي يتلمظ ويتبارى في شرائه وتكديسه كثير من دول الأطراف ، بل تستفيد منه كثير من دول ( الامتيازات ) كما نسمع اليوم عن تهريب البلوتونيوم ، فباب الخلاص للأمم كما نرى ليس مثل ( باب الحمصي ) ( 7 ) ولايحتاج دوماً لطلقات المجاهدين ، الذين أفرزوا مشاكل لاتنتهي من خلال تشرب العنف وتسريبه للعالم الإسلامي . وتقول الفكرة الثامنة : إن حركة الخوارج قديماً وبإجماع الأمة ، لم يعتبر المسلمون حربهم أو خروجهم جهاداً في سبيل الله ، في الحين الذي كانوا يلقبون أنفسهم بالمجاهدين والشراة ( أي الذين شروا أي باعوا أنفسهم في سبيل الله ) بل واعتبروا كل من عداهم كافراً مارقا ً يستباح دمه ( 8 ) وعرضه ولاتؤكل ذبيحته ؛ كونه مشركاً ، كل هذا تولد من صراع سياسي ضاري ، وكانوا يعتبرون أنفسهم أنهم يمثلون الإسلام النقي ، ودشنوا حركتهم بقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وكان إخلاصهم لإفكارهم بدون حدود ، وتضحيتهم لما يعتقدون به شيء مرعب ، مع هذا لم ينفعهم إخلاصهم لإن وعيهم وفقههم لم يكن في مستوى هذا الحماس والاندفاع الذي اشتهروا به ، وخير من وصفهم هو نفس الإمام علي حينما اعتبرهم طلاب حق أخطأوا الوصول إليه فقال فيهم : (( ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ؟؟!! )) . ومانراه اليوم من بروز هذا التوجه في مصارعة الأنظمة ومناطحة الحكومات من خلال الصراع الدموي العنيف والمسلح ، هو في الواقع ( إحياء ) لمذهب ( الخوارج ) من حيث أرادوا أصحابها أو لم يريدوا ، وبكلامي هذا لااريد إدانة طرف أو تزكية آخر ، لإننا كلنا نسبح في مستنقع العنف وندفع فواتيره اليومية ، وكله ينبع من ثقافة إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به فضلاً عن إيجاده إن لم يكن موجوداً أخي السائل : إنك عندما تدخل إلى روع الاخر أنك لن تسمح له بالوجود ، مع أن الله منحه الوجود بالأصل ومنحه كرامة أن خلقه بشراً سوياً وليس عشباً أو قطاً ؛ فإنه لن يسمح لك بالوجود أيضاً ، والوصول إلى كسر حلقة العنف والعنف المضاد هو برمي السلاح كلية ومرة واحدة إلى الأبد كما فعل ابن آدم الأول ، وإلا كيف تنشأ الحروب بين الدول أو الحرب الأهلية ضمن الدولة الواحدة ؟ إنها تنشأ من عقدة أو حلقة فظيعة من هذه السلسلة ، لنتأمل ذلك . ************************************* كيف تنشأ الحرب الأهلية مثلاً ؟ إنها تبدأ من تخمر وتفشي فكرة ( الدفاع عن النفس ) في وسط مشحون بالتوتر والهلوسات العقلية عن الآخر !! كما هو الحال في معظم مناطق تفجر النزاعات العرقية . إن استيلاء فكرة واحدة على الطرفين هي التي تدفع الطرفين لافناء بعضهما بعضاً ، الأول تستولي عليه فكرة ( قبل أن يقتلني علي أن أقتله !! ) والثاني يقول ( سوف يقتلني وأولادي لذا يجب أن ادافع عن نفسي واهلي !! ) فالمرض ناشيء من هذا الشعور الطاغي والمشترك والمتسلط على الفرقاء المتنازعين ، و( تشابهت قلوبهم ) والبداية المروعة بدأت وكانها بريئة ومبررة ومعقلنة تماماً أي مبدأ ( الدفاع عن النفس ) وهو مقبول ومهضوم من كل شخص أو فريق إذا اقتنع به ، ولكننا ننسى أن كلاً من الطرفين ينطلق من فكرة ( الدفاع ) ليصل إلى ( الهجوم ) ولاتوجد اليوم في العالم كله ( وزارات هجوم ) بل كلها ( وزارات دفاع ) ؟!! وحين يحصل الهجوم من أي طرف فإنه ينطلق تحت ضغط الدفاع تماماً ، أو الضربة الاستباقية للدفاع ، فهي ليست هجوماً بل دفاعاً ، أو كما يقول المثل الشعبي ( اتغدى به قبل أن يتعشى بي ) أو حسب مبدأ هتلر الشهير ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) ******************************** إننا لو استطعنا كسر هذه الحلقة المعيبة ومن ( طرف واحد ) وأدخلنا إلى قناعة الآخر ( من خلال تاكيد المفهوم وتكراره واتخاذ المواقف المناسبة ) ؛ بأن الطرف الأول لن يدافع عن نفسه حتى لو هوجم ، فإن النتيجة سوف تكون أن الآخر سوف يتوقف عن الهجوم وتخمد حدة اندفاعه فهذا هو جذر سيكولوجية العنف والسلام ، فطالما لايوجد خطر ( حس الدفاع المشترك المتبادل ) فسوف يتوقف هذا المرض عن التفشي وإحداث الكوارث ، ولماذا يهاجم مسالماً أعزل ؟ قد يركب رأسه ويقوم بالهجوم !! هنا تبرز الآلية الثانية في عملية تحرير النفس من مركب ( الاستضعاف _ الاستكبار ) التي أشرحها على الشكل التالي : إن عدم الرد على الأذى والعدوان باتخاذ موقف عدم الدفاع عن النفس ، سوف يدخل إلى الماكينة الهجومية للطرف الآخر الفرملة الأولى ، ومن خلال الدفع بالتي هي أحسن سوف تحرض عند الطرف الآخر آلية تنبيه الضمير والخير التي هي في كل إنسان فينا ، فكل فرد هو ملك وشيطان بنفس الوقت ، فإذا لم تنفع الآليتان في وضع كمية الفرملة المناسبة ، تدخل عند ذلك آلية جديدة متقدمة لوضع الفرملة النهائية المتدرجة لكل حركة العنف المتقدمة . إن الذي يستقبل ضربات الطرف الاخر يتصرف على نحو مضاعف ؛ الأول بعدم رد الأذى بمثله ، وعدم شحن النفس بالحقد والكراهية تجاه الطرف المعتدي ، كل الهدف هو فرملة التصرف فقط ، ولذا لايتراجع السلامي عن موقفه بل يدعوه إلى الحوار ، فهو بهذه الالية النفسية المزدوجة يقوم بعكس مايريد العنيف ، العنيف يريد إلغاء الطرف الاخر ، يريد كسر إرادته وتطويعها تمهيداً في النهاية لإلغائها ، تمهيداً لتوليد الوسط المشؤوم ( السادي - المازوخي أو التابع والمتبوع ) ( 9 ) أما الطرف السلامي فهو ومن خلال عدم الرد وعدم الحقد والدعوة للوصول إلى الحقيقة وعدم التراجع ، يفسح المجال أمام وجود الآخر والاحتفاظ بأرادته وعدم إعدامها ، وبالتالي المحافظة على الطرفين ، وهكذا فالأول يريد الربوبية المحرمة ، والثاني يريد العبودية لله رب العالمين وتآخي البشر ووحدتهم وتساويهم . إن الطرف المعتدي إذا استمر في اندفاعه واستمر الاخر في عدم بسط يده حتى لو أراد الأول قتله كما جاء في قصة ولدي آدم في القرآن ، فإن جوا ًنفسياً عجيباً سوف يحدث ، وهذا الذي كشف عنه علم النفس الحديث ( 10 ) فالمهاجم سوف يدخل في مرحلة نفسية أولى تتسم بالدهشة والسبب هو عنصر المفاجاة ، فالجندي اعتاد أن يهاجِم ويُهاجَم ، ولكنه غير معتاد على الهجوم فلايصادف دفاعاً !! ولذا فالنشاط السلامي يستخدم تكتيكاً ذكياً بإدخال عنصر المفاجأة في اللعبة !! ثم يبدأ الفصل الثاني في اللعبة وهو أخطرها إن لم يكن السلامي قد تدرب تماماً واقتنع بالفكرة حتى مخ العظام ، فكما يتدرب الجندي في الثكنة العسكرية ، فإن أمام السلامي تدريباً من نوع مختلف ، باستثناء أنه غير مؤذي وأكثر بركة في نتائجه ، ويمكن لكل شرائح الأمة المشاركة فيه بما فيه النساء والأطفال ، ودخول المرأة هذا النشاط الاجتماعي سيجعل الحياة تدب فيه ، باعتبار أن المرأة هي نبع الحياة والمحافظة على الحياة وهي مصدر طاقة الأمومة والحب ، وسبب قوة سلاح هذه المقاومة هو توجهها إلى ضمير الخصم من أجل إدخال النشاط إليه ؟! . إن العنيف مع استمرار هجومه قد يقنع نفسه أن خصمه حقير وتافه ( من نفس شجرة إلغاء الآخر ) ولكن صمود وعدم تراجع السلمي وعدم حقده والاستمرار على دعوة الحوار سوف يحول موقف العنيف تدريجيا ًبحيث يتشرب الموقف تدريجياً بآلية المحاكاة ، حيث تحصل ( عدوى ) في الموقف ، سوف يشعر العنيف أنه قد يخسر المعركة ولكن بعد قليل سوف يتبين له أن طبيعة المعركة الآن مختلفة فليس هناك إلغاء للأرادات بل حالة ( التئام وتكامل ) في الأرادات . وبذا ينتهي الصراع ليدخل الاثنان في عملية بناء سلمية وفي جو ديموقراطي ، لإنه لاديموقراطية مع العنف ، فإذا أردنا حصد الديموقراطية في العالم العربي علينا بزرع روح السلام ونبذ فكرة العنف . *************************************** وفي النهاية أريد أن أقول للأخ السائل لقد كشف علم النفس الحديث أيضاً عن آليات عمل النفس في جو الصراع التقليدي ونوع الصراع الجديد الذي أطرحه ، إن صح تسميته بالصراع لإن نصفه من العالم القديم ونصفه الاخر من عالم السلم العالم الجديد ، الذي أخبر الله عنه الملائكة حينما رأت جانب العنف في الإنسان فقال لها مبشرا ًبالإنسان الجديد ( إني أعلم مالاتعلمون ) . عندما ينشب الصراع على طريقة ( كلاوسفيتز ) الضابط الألماني صاحب كتاب ( فن الحرب ) من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة ، أي إخضاع إرادة الخصم لإرادتنا . ياترى ماذا يتشكل عند هزيمة الطرف الاخر في الصراع والحرب ؟؟ هل نظن أن السلام يولد من جوف الحرب ؟؟ هل يمكن لشجرة الحنظل أن تنبت تمراً ؟؟ ولشجرة الحسك أن تنتج تيناً ؟؟ هيهات هيهات لما توعدون !!! . إن الحرب لم تقد إلى السلم مطلقاً ، وهي مظاهرة جوفاء فارغة وسطحية ومؤقتة في انتظار جولة الحرب الجديدة ، وهذا الكلام ينطبق أيضا ً على الشرائح السياسية المتصارعة داخل البلد الواحد ، وأصبع الإدانة توجه أيضاً إلى عالم الكبار الذين أوقفوا الحروب بين بعضهم ليس قناعة بالسلام ، بل خوف الدمار الذري !! إن المهزوم سوف يحمل الحقد في انتظار الثأر المخبأ في ضمير الغيب ! وسوف يكون الثأر مروعاً ومنتجاً بدوره لثأر مضاد ، وهكذا تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال ، في حين أن عدم هزيمة إرادة أحد الطرفين والدخول في تكامل من أجل توليد عالم جديد ليس فيه مكان للحقد هو السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم ، الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانت . إن القرآن لم يقص علينا هذا الأسلوب عبثاً في صراع ولدي آدم في فجر التاريخ الإنساني ، فهو طرح أسلوبين لاثالث لهما كأسلوب لحل المشاكل ، الأسلوب الأول هو إلغاء الآخر إلى درجة قتله ، والثاني الذي زكَّاه القرآن وأثنى عليه هو رفض الدفاع عن النفس من أجل كسر حلقة العنف الشيطانية ( ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) . ********************************** إن الثبات على هذا الموقف وحتى الموت سيجعل النهاية أن نفس القاتل يندم على فعلته ، لإنه سوف يكف أن يكون ( بطلاً ) بل سوف يتحول إلى ( مجرم ) . إننا بآلية ( الدفاع ) سنحرض عنده آلية الدفاع الغريزية فسيقتلنا وهو يقوم بعمل ( بطولي ) مبرر ؟! أما بعدم دفاعنا فسنحول عمله إلى ( جريمة ) !! والفرق كبير بين الشعور بـ ( البطولة ) والشعور بـ ( الجريمة ) ومذبحة الحرم الإبراهيمي مثلاً جعلت اليهود ليس في إسرائيل لوحدها بل حتى في مونتريال في كندا يمشون مطأطيء الؤوس خجلاً ، وهم يحملون الشموع والقناديل والدموع ، عن أولئك الذين قتلوا صبراً ظلماً عزَّلاً مصلين ، بل إن تكتيك داوود القديم حيث يعيد التاريخ دورته بعد ثلاثة آلاف سنة ، حيث ينقلب داوود إلى المدرع ( جالوت ) = إسرائيل النووية الجديدة ، وينقلب جالوت القديم إلى داوود الجديد ، ليستخدم نفس المرقاع و ( الحجر ) لدحر جالوت الجبار ، أقول هذا التكتيك ( الداوودي ) وروح الشهادة ، أسهم في دفع القضية الفلسطينية أكثر من كل عمليات التفجير والاغتيالات والحروب العربية مجتمعة . يجب أن ندرب انفسنا على عدم قتل الاخرين ، بل الاستعداد للموت من اجل افكارنا إذا تطلب الأمر ، وبذلك نحول أنفسنا إلى ( شهداء ) والآخرين القاتلين إلى ( مجرمين ) ، وميكانيزم الشهادة عجيب ، لإن المقتول ظلماً هو الذي يتحول إلى قديس يعصر القلب ويدمع العين ويحرض إرادة الآخرين لسلوك نفس الطريق الذي سلكه صاحبه ، وراجع قصة أصحاب الأخدود تعطيك الخبر اليقين ، ومذبحة ( صبرا وشاتيلا ) حركت الضمير العالمي كله بل وحركت المظاهرات داخل إسرائيل نفسها حزناً عليهم ، بسبب موتهم بغير دفاع ، خلافاً للقتل المتبادل في كل الحرب الأهلية اللبنانية . مع أن الذين قتلوا في الحرب الأهلية هم أضعاف أضعاف المذبحة ، كل هذا بسبب تحريك الميكانيزم الإنساني ، الذي يجب أن نثق به ، ونعلم أنهم مغروس في أعمق أعماقنا فطرتنا ويستيقظ في الحادثة الإنسانية . وجرت سنة الطبيعة أن البذرة حتى تنبت لابد من دفنها بالتراب أولا ً . إن القاتل سوف يندم في النهاية ( فكان من النادمين ) والندم هو التوبة ، لإنه لن يقدر أن يبقى تحت الضغط الساحق الماحق لفكرة كونه ( مجرماً ) ، إنه في النهاية سوف يحمل أفكارنا التي قَتَلنا هو من اجلها ، وبذا تدخل أفكارنا الخلود ؛ لإنها لم تمت مع موت صاحبها وهذا هو خلود الشهداء بخلود أفكارهم ومواقفهم ( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ؟!! أنا صوت صارخ في البرية .. من كان له أذنان للسمع فليسمع .. هذه المفاهيم سوف تعم العالم في النهاية لإنها صوت الحفاظ على الجنس البشري (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) هوامش ومراجع : ( 1 ) تقول الأمثال العامية وهي معين لاينضب للثقافة اليومية ، أن ليلة الدخول في العرس ( ليلة الدخلة ) يجب أن يسيطر فيها وعلى مسرح العائلة ومنذ اللحظة الأولى الرجل ( الذكر الفحل ) ؛ فيقطع رأس القط من الليلة الأولى !!! تعبيراً عن الرجولة وسيطرة الذكر وانعدام المشاركة في البناء الجديد ، فهي صورة وأد خفي في الواقع لإنها إلغاء إرادة الأنثى التي تنتقم فيما بعد عندما يشيخ الذكر من خلال أولادها ، وهناك ثقافة عجيبة غير مكتوبة وهي قتل الفتاة غير المتزوجة في الانحراف الجنسي وترك الشاب بدون عقوبة ، مع أن الشريعة الإسلامية واضحة لأبعد الحدود في هذا الموضوع فهي لم تشرع القتل للفتاة ولاالسكوت للشاب بل الجلد للاثنين ، ومن هنا نرى أن الثقافة غير الناطقة والتي تدمغ سلوكنا اليومي شيء عجيب من حيث لاندري ، وإذا كان هذا المثل واضحاً جداً فهناك من الأمثلة ماهو أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء ، مما يتطلب مراجعة قاسية وكبيرة لثقافتنا التي تراكمت عبر العصور . ( 2 ) السادية تنسب إلى المركيز دي ساد وهي حالة التمتع بالأذى عند إنزاله بالآخرين ، والمازوخية عكس ذلك وهي التمتع بالألم عند استقباله من الآخر ، وهناك حالات عجيبة من الشذوذ الجنسي لها علاقة بهذا المركب ، بحيث أن صاحبها لايصل لقمة اللذة الجنسية إلا بالوضع المازوخي مثلاً بالضرب بالكرباج أو التقييد بالسلاسل وما شابه ، وفي العادة فإن المازوخي سادي وبالعكس ، وهذا معنى عجيب في اختلال النفسية الإنسانية وإصابتها بهذا الضرب من الأمراض . ( 2 ) تأمل الآية من سورة سبأ رقم 31 : (( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استُضعفوا للذين استكبَروا لولا أنتم لكنا مؤمنين )) ( 4 ) يراجع في هذا البحث القيم الذي كتبه المؤرخ البريطاني ( ج . أ . توينبي ) في كتابه الموسوم ( مختصر دراسة التاريخ ) تحت بحث انهيار الحضارات . ( 5 ) الآية من سورة الرعد ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) رقم 11 . ( 6 ) الآية من سورة آل عمران رقم 165 . ( 7 ) تروي النكتة السورية وهم يتندرون كثيراً على الحمصيين مع أنهم من أذكى وأطيب أهل سوريا ، وهناك تنافس بينهم وبين الحمويين بسبب قرب المدينتين من بعض ، أن حموياً طلب من نجار حمصي أن يصنع له باباً ، فلما جاء لأخذه كان الحمصي في الصلاة ، فما كان من الحموي إلا أن أخذ الباب فاشتد الحمصي في أثره لأخذ أجرته وثمن الباب فالتقيا في فلاة واسعة ، فما كان من الحموي إلا أن أغلق الباب ، فبدأ الحمصي في قرع ااباب : افتح الباب افتح ، والنكتة معبرة ولكننا في كثير من مشاكلنا ننسى كل الفلاة ونريد فقط الدخول من باب الحمصي !! . ( 8 ) الصحابي أو التابعي الذي حدثت معه هذه الواقعة المشهورة هو واصل بن عطاء وجاءت بشكل مفصل في كتاب الكامل في اللغة والأدب للمبرد 2 \ 122 ( نقلا ً عن كتاب أدب الاختلاف في الإسلام _ تأليف طه جابر العلواني _ إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي _ الطبعة الخامسة عام 1992 الموافق 1413 هـ _ ص 12 ) : (( يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج فقال واصل لإهل الرفقة : إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا : شأنك فخرج إليهم فقالوا : ماأنت وأصحابك قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده ، فقالوا قد أجرناك قال : فعلمونا فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا قال : ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فأبلغونا مأمننا فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن )) ( 9 ) تأمل الآية من سورة البقرة رقم 166 : ( إذ تبرأ الذين اُتبعوا من الذين اتبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) . ( 10 ) راجع البحث الممتع ( سيكولوجية واستراتيجية المقاومة اللاعنفية ) للكاتب ريتشارد غريغ ، وكتاب نحو اللاعنف لخالد القشطيني ، وكتاب تجاربي مع الحقيقة لغاندي ، وكتاب قانون الحب والعنف لتولستوي ، وكتاب العصيان المدني لهنري ثورو ، وكتاب نحو السلام الدائم لعمانويل كانت .
اقرأ المزيد
الجراحة الحديثة
تم تدشين ثلاث فتوحات علمية في عالم الجراحة في منتهى الخطورة والأهمية، هي تدشين الجراحة العجائبية الجديدة : جراحة بدون جراحين ( TELE - SURGERY )( 1 ) أو الجراحة بالفاكس ؟؟! والاستنساخ الإنساني ( CLONING ) الذي أوقفوه عن المضي في مسيرته لاعتبارات أخلاقية وقانونية ( 2 )، وجراحة الجينات (GEN - SURGERY ) من خلال حقن ثلاث مليارات خلية كبدية معدَّلة بإضافة الجين الناقص ( 3 ) لمريضة فرنسية من مقاطعة كيبك في كندا والمصابة بـ ( فرط الكولسترول العائلي المميت ) والمعروف ب ( FH ) ... هذه أخبار من قمة الوعاء العلمي ورأس حربة اختراق الفضاءات المعرفية الجديدة ، في الحين الذي يفاجئنا بعض مرضانا بعدم قناعته إلا بــ ( الكي ) وسيلة للخلاص من الألم والمرض ؟! . قبل 14 عاماً من الآن كان الطبيب الألماني كورت سيم ( KURT SEMM ) يعمل في عيادته كطبيب أخصائي في أمراض النساء والولادة ، في مدينة ( كيل ) الميناء الشمالي القصي من ألمانيا الغربية ، وبينما كان يقوم بعمله المعتاد في نفخ بطن المريضة تحت التخدير كي يدخل المنظار المستخدم لـ ( التشخيص ) عثر على زائدة دودية ملتهبة عند مريضته ، فانقدحت في ذهنه فكرة جديدة مفادها : لماذا لانستخدم نفس المنظار أداةً للعلاج الجراحي من خلال إدخال آلات مساعدة للقطع والشفط والحرق الكهربي ؟؟ ولكن هذا يعني أنه سيقوم بعمل الجراح وليس النسائي !! تساءل الطبيب ( كورت سيم ) لماذا لانستأصل وبنفس المنظار الزائدة الدودية الملتهبة أو الحويصل المراري الفاسد أو حتى أي عضو تعطل عن العمل ويمكن التخلص منه ومن خلال فتحات هي فوهات الدخول فقط ، طالما هي تحت أعيننا وفي متناول يدنا بل وتحت التكبير بحيث تراه العين بشكلٍ أفضل؟! كل مافي الأمر هو تطويل أصابع اليدين من خلال منظار إضافي يدخل إلى البطن !! كانت الفكرة رائدة وثورية وترتب عليها عملياً انعطاف نوعي في تاريخ الجراحة . وجاءت كالعادة ليست من حقل الجراحين بالذات ، بل من اختصاص آخر خارج الجراحة العامة ، كما حصل مع باستور والأطباء ، فباستور كان حتى من خارج الطب تماماً لإنه لم يكن طبيباً ولكنه خدم الطب بأعظم من دفعة أطباء ، وجرت السنة أن المبدعين والعباقرة يأتون عادة من خارج حقل المهنة ( 4 ) . ونظراً لإن الدكتور يمتلك تحت عيادته ورشة عمل ، وله صلة بأخيه الذي يسكن في الجنوب والذي يعمل مهندساً في صناعة الآلات الطبية فكان يقوم بتصميم المناظير وتطويرها باستمرار ويعمل بصمت وفي الظل حتى استطاع أن يقوم بإنجاز كمية كبيرة من العمليات الجراحية بهذه الطريقة ، ثم تقدم إلى مؤتمر الجراحين في ألمانيا لعرض نتائج عمله ؛ فقامت قيامة الجراحين من هذا المتطفل على ميدانهم والذي لايعتبرونه جراحاً بالأصل ؟! بل مضى بعضهم إلى المطالبة بمحاكمته على مااقترفت يداه بحق الجراحة التقليدية التي أُسست منذ مائة وخمسين عاماً !! فهرب إلى بريطانيا حيث سخِر منه الجراحون بل وزملاؤه أطباء النسائية حيث قال له أحدهم : لعلك تريد إجراء عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! ( 5 ) وهكذا قرر الطبيب المحاصَر أن يهرب من القارة الأوربية العجوز إلى العالم الجديد ؛ الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم احتضانه وتبني أفكاره وتطوير أدواته ثم المباشرة بتطبيق طريقته ( لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ، ورجع المهاجر إلى وطنه ( راغماً ) قومه مما جعلهم يتبنون طريقته ويحترمونه ، وهكذا وجد نصر المهاجر ( يجد مراغماً كثيراً وسعة ) . ( 6 ) تعتبر طريقة الدكتور ( سيم ) انقلاباً ثورياً في تاريخ الجراحة الحديثة ، لإنها شقت الطريق إلى تطوير الجراحة بشكل نوعي ، فهي فتحت باب الجراحة على إمكانياتٍ بدون حدود ، لاشقوق ولاندبات على البطن ، الوصول إلى أي مكان لمعالجته ، مع خروج سريع من المستشفى ، وتوقع اختصار في تكاليف العلاج للمستقبل ، وهكذا فالمنظار سيستأصل الحويصل المراري الفاسد والورم المدمر ، سيفتح الشريان المغلق ، ويغلق الفتق المنسدل ، يقطع العصب المريض ، ويرتق الأكياس المهترئة . بل وشق الطريق إلى معالم جراحة جديدة لم يكشف اللثام عنها بعد وهي الجراحة من بعد ( TELE - SURGERY ) بما يشبه الريموت كونترول ، وهكذا بدأت في العام الماضي تجارب في مدينة ( كالرسروهه ) في ألمانيا ، على جراحة تجرى بين جراح يبعد عن حقل العملية ( 3 ) كم من خلال عمل وثيق محكم مع ( إنسان صناعي = روبوت ) يجري العملية !! الروبوت يُسير من قبل الجراح المزود بنظارات خاصة تتمتع بميزة الأبعاد الثلاثية ، وهكذا يستطيع رؤية كل مافي جسم الإنسان ، من خلال تطوير أجهزة جديدة تلقم بكل المعلومات التفصيلية ( الداتا عن البناء الهندسي والوظيفي للجسم الإنساني ؛ إنه أشبه بالسحر وعالم الجان !! ولكن إذا استطعنا أن نقوم بإجراء العملية عن بعد ثلاثة كيلومترات ، فيمكن عن طريق التقنية الالكترونية المتقدمة أن نجري عمليتنا لمريض ممدد على طاولة العمليات على بعد 3000 كم ؟! وهكذا ستحمل جراحة الغد ، أن الجراح سيجلس وبدون أن يلوث يديه بالدم والقيح ومخاطر التهاب الكبد الإنتاني والأيدز ، يجري عمليته كما يلعب الطفل بلعبة ( الأتاري ) ، الجراح يجلس في نيويورك والمريض في تايلاند ، بل إن العالم السويسري ( كريستوف بوركهاردت ) الذي صمم الروبوت لوكالة ناسا لارتياد الفضاء ( 7 ) قام الآن بتطوير الروبوت الجديد للعمليات الجراحية ، وتم تدشين العمليات الأولى صيف العام الفائت حيث وقف الروبوت ليفتح فتحات صغيرة في جماجم مرضى مصابين بامراض دماغية في حالات ميؤوس منها وليقوم بمعالجتها من خلال عمل خاص يقوم به منفرداً ، ويطمح العلماء إلى الوصول إلى هذا المستوى من إعطاء الروبوت بكل الداتا المطلوبة ليقوم بعمليته منفرداً ، فهو على سبيل المثال يخطيء بمقدار ثلاثة من عشرة من الميلمتر ، في حين ان أحسن جراحي الأمراض العصبية على فرض أن يده لن تهتز ، يحمل إمكانية ان يخطيء بمقدار ميلمتر واحد فالجهاز الحالي أدق من أفضل جراح بثلاث مرات !! كما أن العملية التي يجريها أكمل وأسرع لإن ( حفَّار ) الجمجمة يدور أكثر من 500 دورة في الدقيقة ( مثل مثقب الأسنان ؟! ) ، وينهي العملية التي يحتاجها الجراح النطاسي في ساعات مضنية تكسر الظهر مع التركيز العصبي المهلك ، ينجزها الروبوت في أقل من نصف ساعة !! لم تعد المسافات مهمة وتقارب الزمان ، كل مافي الأمر هو التعاون الوثيق بين أصابع الجراح الرشيقة والآلة المتقنة التي أنتجتها بدورها أيضاً أنامل الإنسان المبدعة . حقاً إنه معنى كبير في العلاقة بين الصانع والمصنوع ، بين الإنسان والجهاز ؛ إننا نتلمس عبقرية الإنسان حقاً كلما استطاع أن ينجز جهازاً يحقق استقلالية أكثر فأكثر عنه وبشكل عكسي ، فالفرق كبير بين ( مضخة الماء ) التي تحتاج لليد الدائمة المرتبطة بها والتي لاتضخ الماء مالم تدفعها يد الإنسان ، أو الدراجة التي لاتمشي بدون ضغط الساق عليها ، وبين الكمبيوتر الذي يبدأ عمله بكبسة زر ، أو الروبوت الذي صنعه العالم السويسري لشركة ( ناسا ) فكلما صنع الإنسان جهازاً يستطيع أن يستقل عن الإنسان فيؤدي وظائف أكثر ، كلما كان معناه زيادة في الإبداع وعظمة في عبقرية المنتج ، وهذا يقودنا إلى فهم حقيقة وجودنا وتركيب أجسادنا العجيبة التي هي تنتج نفسها بنفسها ومعها جهاز الصيانة الخاص بها كما لو أن سيارة ( فرقع فيها الإطار ) فيقوم نفس الإطار بسد الثقب ولحمه ووضع الصمغ المناسب حتى يتابع سيره وكأن شيئاً لم يكن ، أن هذا يحدث في اللحظة الواحدة في الجسم وبملايين المرات !! نحن منحنا الوعي والإرادة والاستقلال والحرية بحيث يكون الإنسان مهندس مصيره ، فهذه الاستقلالية هي من روعة الجهاز وعظمة الخالق ، إن هذه القوة التي أخرجته للوجود بهذا الكيفية أعظم من ان يحوطها علم أو يصل إلى فهمها عقل هي مطلقة أزلية أبدية لاحدود لعظمتها وقدسيتها ربنا ماخلقت هذا باطلاً . أما الانفجار العلمي الثاني والذي يحمل مخاطر مرعبة إن لم يتم تطويقه بالغلالة الأخلاقية لإن الأخلاق بذاتها هي علم ، بل هي دينامية النفس السوية ، وهي المشكلة التي كرس الفيلسوف الهولندي اسبينوزا كتابه الموسوم ( الأخلاق مدعمة بالبرهان الهندسي ) لها . فماهو ياترى هذا الانفجار الجديد الذي حدث في خريف عام 1993م ؟؟ وماهي عملية الاستنساخ التي نسمع بها بين الحين والآخر ؟ هذه المرة الاستنساخ الإنساني !! الاستنساخ ( CLONING ) عملية نجح فيها الطبيب الأمريكي أخصائي الأمراض النسائية ( جيري هول ) لأول مرة في تاريخ الطب الإنساني في اكتوبر من عام 1993 م ، حيث تم الكشف أن الخلية الملقحة الأولى التي تتشكل من التحام رأس الحيوان المنوي مع البويضة في الثلث الوحشي ( البعيد ) من البوق ، تبدأ في الانقسام الهائل بعد التشكل وهي في رحلتها في البوق التي تستمر حوالي عشرة أيام حتى الرحم كي تعشش هناك . لقد عرف أن الاختصاص في الخلايا يبدأ بعد الانقسام الرابع لإن الخلايا قبل الانقسام الرابع متشابهة ، لننظر إلى عدد الخلايا وهي تنقسم ( 1 - 2-4-8-16-32-64-128-256-وهكذا ) وعند الانقسام ( 1 - 2 - 4 - 8 - ) وقبل أن تصل إلى 16 خلية تتشابه الخلايا تماماً ، ثم تبدأ كل مجموعة _ وحسب خطة عليا سرية _ في التشكل باتجاه معين فهذه الخلية تتكاثر لتوجد أذناً تسمع ، ولكن الأذن بدورها مكونة من مجموعة معقدة من الأعضاء ، فهي أذن خارجية تشكل صوان الأذن وعظام سمعية في الداخل وأذن باطنية في تعقيد مذهل يصل إلى درجة التيه ، مما جعل الأطباء يسمون القسم الداخلي من الأذن بالتيه ( LABYRINTH ) ومجموعة ثانية تذهب لتشكل الجهاز البصري الذي هو بدوره مكون من مجموعات ضخمة من الخلايا ذات الوظائف المتباينة ، فالقزحية ليست مثل الصلبة والثانية ليست مثل قعر العين الذي يحوي الشبكية ، التي هي مجموعة من الخلايا المنضدة فوق بعضها بعضاً في عشر طبقات تشكل الطبقة العميقة فيها مركز الإدراك البصري وهي الطبقة المعروفة بالعصي والمخاريط ، والعصي بدورها مسؤولة عن النور الأبيض والضوء الخفيف وهي موزعة في المحيط أكثر ، والمخاريط التي تشبه عواميد الجزر مختصة بتمييز الألوان ، وتذهب مجموعة ثالثة لتكوين خلايا الجهاز المخاطي في الأمعاء ورابعة للنسيج العظمي الشديد وهكذا ، أي أن تصبح هذه الخلايا المتخصصة في النهاية الإنسان الذي يسمع ويبصر ويتغذى ويتكاثر ، والوظيفة الأخيرة تقوم بها أيضاً مجموعة متخصصة من الخلايا التي تحافظ على النوع وهي الخلايا الجنسية ، هذه الخلايا الثمانية قبل أن تنقسم مرة أخرى لتصبح 16 خلية وعندها بالضبط عرف العلماء أن واحدة منها إذا تركت شكلت إنساناً كاملاً ، وإذا أخذت السبع خلايا الباقية أمكن من كل خلية منها أن تنتج إنساناً كاملاً قائماً بذاته !! بل ويمكن تجميد الخلية إلى حين واستخراجها بعد فترة لنفس عملية التصنيع المذكورة !! وهكذا ففي الواقع يوجد لكل فرد منا ليس نسخة أصلية واحدة بل ثماني نسخ أصلية ، بل نسخ لاتنتهي إذ نظر الى الاستنساخ من خلال التكاثر غير الجنسي ، لقد تم انتاج حيوانات ( عجول ) بهذه الطريقة حيث تم توليد ثماني نماذج متطابقة ، ونجحت التجربة في المستوى الإنساني إلا أن التجربة أُوقفت لاعتبارات أخلاقية وقانونية ، ونحن لانعرف بالضبط وعلى وجه الدقة هل أُوقفت التجربة فعلاً أما أننا سنفاجيء بعد فترة بالنماذج الثمانية وهي تطل برأسها على العالم ؟؟ وهذه الطريقة هي طريقة الاستنساخ الجنسي وهناك طريقة الاستنساخ اللاجنسي حيث يمكن توليد نماذج جديدة من أي خلية في الجسم ولقد نجحت هذه الطريقة على الضفادع كما أوردها الدكتور عبد المحسن صالح في كتابه التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان ( 8 ) وهذا يعني أن الفرد منا قد يمكن المحافظة عليه بطريق غير مباشر بنسخة خلف نسخة ؛ فمن المرأة العجوز يمكن استخراج نماذج مشابهة ولكن شابة وهكذا ؟؟!! يعتبر هذا الآن ضرب من الخيال العلمي ولكن المستقبل سيحمل لنا من المفاجآت ماهو أكبر من التصور وأعظم من الخيال ؟؟!! . والآن إلى قصة تدشين أول معالجة لمرض وراثي عند الإنسان ، عن طريق إضافة الجين الناقص اجتمع حشد من الأطباء والممرضات وكأَّن على رؤوسهم الطير ، في صمت مطبق وتوتر بالغ ، وهم يرقبون الدكتور ( ويلسون ) وهو يحمل بحذر بالغ حقنة كبيرة مملوءة بـ ( سائل بني ) يشبه عصير الفواكه الكوكتيل . اقترب من المريضة المممدة على السرير ، وهو يقول : ياسيدة ( فرانسين ) لاداعي للتوتر الآن فالمرحلة الصعبة قد مرت ، ونحن الآن أمام إعطاءك هذه الحقنة البسيطة ! ! برز من بطن المريضة ، من القسم العلوي الأيمن قثطرة متصلة بانبوب مطاطي ، فعمد الدكتور ( ويلسون ) بحذر إلى وصل الحقنة التي بيده ذات اللون البني ، والمحتوية على الخلاصة ( السحرية ) ، بالأنبوب المطاطي ، ليبدأ حقن المريضة ( فرانسين ) الكندية بالجرعة الأولى من ( خلاياها الكبدية بالذات ) والمعدلة بإدخال الجينات إليها . بعد عدة أيام من الحقنة الثالثة كانت المريضة تشعر وكأن حياة جديدة قد دبت فيها ، فهي تشعر للمرة الأولى أنها معافاة حقاً ، وعندما سألها الطبيب كيف تجدين نفسك الآن ؟ قالت كان مصيري الموت كأختي ، إلا أنني أشعر الآن وكأنني بعثت من الأموات !! ( 9 ) والآن ماهو الهام علمياً خلف هذه القصة ؟ وماهو المرض الذي كانت تعاني منه ؟ وماهي طبيعة هذه الحقنة الغامضة السحرية التي تم حقن المريضة فيها ولثلاث مرات ؟ في أي مكان تم هذا ؟ ماهي العتبة الجديدة والفضاءات المعرفية التي يرتادها العقل الإنساني الذي طَّوع الطب وآلته ، لفك شفرة الوجود ، وسر الخلق ، ولغز الحياة الدفين ؟؟ كانت السيدة ( فرانسين ) الكندية ، والتي تسكن في مقاطعة ( كيبك ) ذات الأكثرية الفرنسية ، مصابة بمرض فرط كولسترول الدم العائلي القاتل !! ( FAMILIAR HYPERCHOLESTERNAEMIA - FH ) ، حيث يصل مستوى الكولسترول إلى 600 - 800 ملغ في 100 سم مكعب من الدم وهي ماتعادل ثلاث إلى أربعة أضعاف سقف ارتفاع الكولسترول عند الإنسان العادي . والمعروف عن هذا المرض أنه يؤدي إلى انسداد الأوعية الدموية المبكر ، بسبب كثافة الدهن في الدم وبالتالي الموت المبكر باحتشاء القلب عند الشباب صغار السن ، واعتبر الأطباء أن عمرها مسألة سنوات قليلة . في قاعة العمليات في المستشفى الجامعي في فيلادلفيا مع الصباح الباكر كان رئيس الجراحين ( ستيفن رابرSTEVEN-RAPER ) ومساعده الدكتور ( هانزل ستيدمانHANSEL STEDMAN ) يقومون بمهمة صعبة هذه المرة في جراحة الكبد على المريضة فرنسين ، حيث عليهم أن يغيروا الطريقة التقليدية في جراحة الكبد ، من أجل إعطاء الدكتور ( ويلسون ) المتوتر في القاعة حصته النفيسة ، من خلايا كبدية حية ، تذهب مبردةً مباشرةً إلى مختبره الثمين . كان على الدكتور رابر مهمة أخرى هي وضع قثطرة من نوع ( HECKMAN CATHETER ) في الوريد البابي ( PORTAL VEIN ) الذي يضخ ثلاثة أرباع الدم الصاعد والمغذي للكبد . كان الدكتور ( ويلسون ) من النوع الذي لايطيق قاعة العمليات ، أورائحة اللحم المحترق ( بالكاوي الكهربائي ) ، ولغط ماكينات التخدير ؛ وينتظر بفارغ الصبر كنزه الكبير ، الذي سرعان ماهُرِع به إلى مخبره في وعاء بلاستيكي مبرد ، من خلال أروقة لاتنتهي وممرات لاتحصى بين البناء الضخم للمستشفى والمخبر . قبل خمس سنوات انطلقت الولايات المتحدة الأمريكية في مشروعٍ يعتبر أهم من مشروع ( ناسا ) لارتياد الفضاء ، وأهم من مشروع ( مانهاتن ) للسلاح النووي في ( لوس آلاموس ) الذي قاد الولايات المتحدة ، لتصنيع قنبلتها الذرية الأولى ، هو مشروع ( HUMAN GENOM-PROJECT ) أي مشروع المورثات الإنسانية ، لفك شيفرة الخلق الأولية ، المضغوطة في قلب نواة الخلية ، لمعرفة اللغة التي كتبت فيها ، وفك سرها المخزون . لقد وصل العلم إلى معرفة أن كل قطعة من تركيب بدننا ، سواء شعرة أو عظماً ، جلداً أو نسيج من العضلات ، الهورمونات أو الأنزيمات ، الانسولين أو الثيروكسين أو خضاب الدم ، يتكون من سلاسل طويلة أعدت بعناية فائقة وبدون أي خلل ، من مجموعة هائلة من ( الكلمات الأولية ) التي هي ( أحماض أمينية ) . كلها مكتوبة بلغة خاصة ، تماماً مثل المقالة التي بين يديك ؟! لقد عرف أن المبدع هنا هو كائن هش غريب الشكل ، يجلس بكل رفعة على عرش نواة الخلية ، إلا أنه مصغر إلى عشرات الآلاف من المرات ، مضغوط في أصغر حيز ممكن ، مخبأ في حرز أمين داخل نواة الخلية ، وفي شكل زوجي بلغت ( 23 ) زوجاً سميت لشدة أخذها الألوان بالـ ( الصبغيات ) ، وضمن هذه الكروموسومات أو الصبغيات ، تم ضغط قرابة ثلاثة مليارات من فقرات من كلمات الخلق ، بلغة سرية عجائبية لاتزيد عن أربعة حروف . هذه الفقرات هي ماتسمى ( الجينات ) ، والتي هي في حقيقتها أحماض أمينية مصفوفة ، تشكل بعدد محدود يزيد وينقص فقرة هامة ذات معنى محدد للجسم ، سواء كان بدن إنسان أو هيكل فراشة ، أو قطعة من التفاح . هذه الفقرات تعطي أوامرها بواسطة مطبعة خاصة ، إلى نقل هذه الرسالة إلى البدن كي يقوم بتصنيع دائم لكل مكوناته أو التعويض عما يفقد أو ترميم ماينهار ، في عملية على مدار الساعة ، لاتعرف الفتور والسآمة تسبح بحمد الله العلي الكبير . فهنا انسولين يحرق سكراً ، وهنا أدرينالين ينظم الضغط ، وهناك جرح يحتاج للالتئام . وفي مريضتنا ( فرانسين ) عُرف أن الخلل هو في الكروموسوم ذو الرقم ( 19 ) بنقص جيني محدد على وجه الدقة ، وعلى المتسلل الذكي أن يُسرب القطعة الناقصة لتلتحم بالأصل ، فتبدأ في العمل ، وهي هنا حياة المريضة للتخلص من طوفان تراكم شحم الدم . في الليلة السابقة لنقل العصارة الرائعة ، تم إغراق الخلايا الكبدية بالفيروسات المقلوبة ، وفي الصباح الباكر تم غسل الخلايا من جديد ، من بقايا أغلفة الفيروسات المكسرة والتي انتقلت مادتها الجينية الآن إلى نواة الخلايا الكبدية ، أصبحت الخلايا قد تم التلاعب بالمكونات الوراثية فيها ، ويبقى أمامهم وضعها في نابذ مركزي يدور بسرعة تزيد عن ألف دورة في الدقيقة ، حتى يتم طرد الخلايا الثقيلة إلى المحيط ، وأخذهم بالتالي في خلاصة بنية اللون للحقن . تَمَّ حقن المريضة فرانسين ثلاث مرات كل مرة بحوالي مليار خلية مُعَدَّلة الجينات ، على أمل استقرار الخلايا الجديدة في النسيج الكبدي وقيامها بدورها الحيوي في تكسير بللورات الكولسترول الخطيرة في الدوران . وإذا تمتعنا بهذه القصص السابقة في الإنجازات العلمية فإن هناك قصصاً أشد متعة في المعاناة اليومية للجراحين والتي توجب عليهم أن يتحلوا بالحكمة البالغة وهم يرون بعض الظواهر التي تدل على خلفية عقلية خاصة تحتاج إلى العلاج ربما أكثر من الظاهرة البيولوجية المرضية لنسمع هذه القصة : اتصل بي مساعدي الدكتور مصطفى وهو مرتاع من منظر المريض الذي دخل العيادة على الكرسي المتحرك ، قد بدأت في محياه سمات الانهاك ، وارتسمت على قسمات وجهه قصة ألم ممض طويل ، وعندما حُمل المريض إلى طاولة الفحص الطبية ، بدت ركبته بمنظر مرعب من انتفاخ لايكاد يصدق يصل إلى حجم ( البطيخة ) ، قد عقل ركبة المريض عن الحركة ، وبدأت القدم تدخل مرحلة الشلل . وبدأ العم ( خلف ) يتحدث عن قصة الأشهر الطويلة من الألم الذي لايطاق ، ثم استدار ليبرز أمكنة ( الكوي ) المتعددة فوق مكان الورم ، حيث حفرت أخاديد بشعة من احتراق الجلد . كانت الحالة ( أم دم ) المعروفة بالانورزم ( ANEURYSM ) وهذا الحجم الذي رأيناه يصعب رؤيته في الممارسة العادية لإنه يكون في الغالب قد قضى على صاحبه . كان حظ المريض جيداً وحظ ( الطبيب العربي ) أجود ، لإن مكان الكوي كان تماماً فوق مكان الورم الدموي ، حيث ينبض الورم الدموي ويرقص ويعربد . وعملية ( الكوي ) المتكرر وفوق ( القنبلة الدموية ) هذه كانت حظاً نادراً ، فلو انفجرت أثناء الحرق لقضى المريض نحبه بدقائق معدودة غارقاً بدمه ، قبل إمكانية إيصاله إلى أقرب مستشفى . هذه قصة ليست بالنادرة بل هي حالات تتكرر يومياً بحيث تمثل ( ظاهرة ) في بعض المناطق ويمكن أن اختصر تعليقي عليها بالأفكار التالية : تقول الفكرة الأولى : إن مانراه يشي في الواقع بأن من يعالج نفسه بهذه الصورة المريعة فيعرض نفسه للحرق الذي هو أشد الآلام طراً ، إنه لولا قناعته القصوى بهذه أكثر من كل طبنا الحديث ، وكل هذه ( الفلسفات ) التي نطرحها في المؤتمرات العلمية ؟! وماتحاول أن تبثه الثقافة اليومية ، أقول لما لجأ للشعوذة والدجل الذي يحاول أن يأخذ صوراً مقنعة لانهاية لها ، وبالتالي فإن هذا مؤشر خطير إلى مدى تفشي ( الخرافة ) وأن الواقع أقوى من كل كلماتنا التي نعتد بها ونعيدها . 2 _ وتقول الفكرة الثانية : إن العقلية الخرافية وعدم الاقتناع بكل موضة الطب الحديث هذا ، وأن الثقة بالكوي ( عند أول شكوى ولكل شكوى وليس آخر الدواء ) هي في ( الأرضية الثقافية ) وطالما كانت العقلية المختبئة خلف هذا النوع من القناعات في العلاج ، فيجب أن نتوقع سقوطاً في مطبات لانهاية لها في سلوكياتنا اليومية ، من مثل جدوى الدقة في العمل ، والمهارة اليدوية ، والانضباط ، والنظام ، والذوق الجمالي ، ومسؤولية الكلمة ، والفعالية ، ومعرفة قيمة الوقت ، واحترام القانون ، وروح النظافة ، والتعاون ، واحترام العمل مهما كان ، وتفشي روح السلامية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : وهذا لايعني أن شكل الخرافة واحد فصورها لانهائية ، بل إن الدجاجلة موجودون في أكثر البلاد رقياً ، بل وينشرون الدعاية لأسمائهم في المجلات اليومية ، ولكن الشيء الأكيد بنفس الوقت أن التيار العام بما فيه التيار الشعبي العميق ، والذي يمثل العمود الفقري للأمة واحتياطها التاريخي قد تخلص إلى قدر كبير من سيطرة الخرافة عندهم بفضل تفشي الروح العلمية ، فضلاً عن وجود المؤسسات العلمية العريقة ذات التاريخ الطويل والتي تنظر لها القاعدة العريضة من الأمة بالاحترام . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن سيطرة العقلية الخرافية يصعد في مجتمعنا إلى مستويات عليا غير متوقعة ، ولاينحصر فقط ي دائرة ( الأميين ) فقد تجد أستاذاً في الرياضيات قد بنى نفسه على ماهو معروف بعلم ( الوثاقة واليقين ) ولكنه عندما يواجه موقفاً يومياً ، فإنه يتصرف كأكبر خرافي ومن خلال مناقشاتي الطويلة مع المثقفين يتأكد عندي هذا المعنى يوماً بعد يوم ، وخطورة هذا الموضوع أنه يُلبَّس بتفسيرات معينة ، بل قد تستخدم نصوصاً وفقرات من هنا وهناك لدعمه ، والمشكلة الفلسفية القديمة الحديثة هي أن أي نص لاينطق ، والذي يستنطقه هو الفهم الإنساني وبقدر عمق الفهم الإنساني ، بقدر عمق إدراك أي نص ، بل إدراك الوجود كله . فالنص والفقرات لاتشع بالمعنى بل هي تعكس المعنى ، وقد انتبه إلى ذلك الأمام الغزالي قديماً حينما ذكر في كتابه المستصفى من أصول الفقه (( أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك ، وكان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه ، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع الألفاظ المعاني فقد نجا )) ( 10 ) 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن عملية أي إصلاح اجتماعية يجب أن تتبع شروط نقل الدم وزرع الأعضاء ، لإن بعض الاستعصاءات العقلية هي أشد من انسدادات الشرايين المزمنة ، بل إن الدم إذا لم ينقل وفق زمرته تماماً فإن الجسم يرفضه ويفضل الموت على الترحيب به ، وإن الجسم الذي هو بأمس الحاجة للكلية وهو مصاب بالقصور الكلوي يرفض العضو إن لم يقدم وفق الشروط التي يريدها ويرحب بها الجسم ، لذا يجب أن نتعلم احترام الإنسان حتى لو كان خرافياً غاطساً في الخرافة ويظن أن الكرة الأرضية جالسة على ظهر سلحفاة ، فاحترام الإنسان هي أهم قاعدة في تغييره ، لإننا يجب أن نحبه من خلال الاحترام من أجل فتح الحوار معه تمهيداً للتغيير العقلي الذي هو الولادة الجديدة للإنسان. لقد أدخل طفل صغير إلى المستشفى بسبب لدغ ثعبان له ، إلا أنه كان عندما يرانا يصرخ بأشد من خوفه من الثعبان ، لإن أمه قد كونت فيه الخوف من الطبيب ، فإذا أرادت تخويفه قالت له : هل تسكت أم أحضر لك الطبيب ليضربك إبرة ؟؟ فيسكت الطفل تحت خوف إبرة الطبيب المرعبة !! هل نعلم ياترى أن ثقافة الرعب تأخذ مداها عندنا في كل مستوى ونتشرب هذه الثقافة المريضة منذ أن نكون اطفالاً . إن الطفل الذي لدغه الثعبان يجب أن يعالج بنفس الأهمية من الصدمة النفسية المزدوجة من الخوف من الثعابين والأطباء على حد سواء . هوامش ومراجع : ( 1 ) قدمت مجلة الشبيجل الألمانية تقريراً موسعاً في عددها رقم 34 من عام 1994م عن هذا الموضوع ( 2 ) دشنها الدكتور جيري هول اكتوبر عام 1993م في أمريكا ( 3 ) دشنها الدكتور ويلسون في المشفى الجامعي في فيلادلفيا من ولاية بنسلفانيا فبراير شباط عام 1994م ( 4 ) في كتاب العبقرية والإبداع من كتب عالم المعرفة يشير المؤلف إلى أن معظم المبدعين جاؤوا من خارج التخصص لإناس عشقوا المادة واهتموا بهذا الفرع من المعرفة وفي سن مبكرة .( 5 ) روى لي زميلي الدكتور ( نشأت عساف ) استشاري أمراض النساء والولادة ، الذي زاره في مركز عمله في ألمانيا واستمع إلى محاضرته في جدة عندما زار المملكة وذكر أثناء محاضرته : أرجو أن لاتتعجبوا وتسخروا مني كما فعل الأطباء البريطانيون هل ستجري عملية قيصرية بهذه الطريقة ؟! ( 6 ) تأمل الآية الموجودة في سورة النساء رقم 100 (( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة )) ( 7 ) الدكتور كريستوف بوركهاردت وقصته رويت بالتفصيل في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 34 عام 1994 . ( 8 ) ( ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان تأليف د . عبد المحسن صالح نشر كتب عالم المعرفة - الكويت عدد 48 ص \ 246 . ( 9 ) مجلة الشبيجل الألمانية عدد 19 عام 1994م ص 231 ( 10 ) يراجع كتاب المستصفى من أصول الفقه - الغزالي - الجزء الثاني ص 21 .
اقرأ المزيد
الطاعون رعب التاريخ
بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري ، فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون ، فهو الذي قوض دولاً بكاملها ، وأفنى شعوباً بأسرها ، ومسح مدناً من وجه الأرض ، وصدع حضارات عظيمة ، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع ، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً ، ولكن أحداث الهند الأخيرة حملت معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي ، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء ويسافر فيه الناس قريباً من سرعة الصوت . والآن ماالمرعب في هذا المرض ؟ ماهي قصته التاريخية ؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له ؟ بل ماهي فلسفة انتشار المرض عموماً ؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الافرنجي والايدز ؟! دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع ، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد. في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً ، رائعة الجمال ، بديعة الألوان ، لمرضى يموتون في شر حال وأسوء مصير ، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً : إنه الموت الأسود .. (الطاعون PLAGUE) !! . كانت اللوحة أكثر من رائعة ، تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن ، تناثر فيها مرضى ( الطاعون ) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة ، وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة ( الموت الأسود ) ، وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات مدَّ يده يطلب العون ومامن معين !! في حين وقف القائد الفرنسي ( نابليون بونابرت ) بين جنوده في مستشفى ( يافا ) مقطب الجبين ، عابس الوجه ، خائر القوى ، قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس . هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لايستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض ( الطاعون ) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة . دمر الطاعون دولاً وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا ( الجنرال ) المخيف .. الموت الأسود ( الطاعون ) !! . وقف ( الجزاَّر ) حاكم عكا ( 1 ) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابوليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة ، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده ( القسطنطينية ) فنابوليون كان يرى أن ( استانبول ) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه ، هذه المرة كان الجنرال ( طاعون ) بجانب حاكم عكا ( الجزار ) كما كان الجنرال ( شتاء ) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً ( عام 1812م ) ( 2 ) يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر ( 1798م ) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة فاستولى على يافا وتابع طريقه إلى عكا ، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولى مدبراً ولم يعقب ، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة : (( وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا .. ووصل بونابرت في 16 مارس ( 1799م ) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها ( فولتير ) لكتاب ( روح الشرائع ) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب .. وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً .. حينئذ صمم على العودة إلى مصر بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه ، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد : (( لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم ، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة )) وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب ووصلوا إلى يافا في 24 منه فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصداً ، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم ، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ماصاروا إليه وماكانوا يشعرون به من العذاب .. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات والإجهاز عليهم وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل موتهم )) ( 3 ) ؟!! كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لاتحصى ، يسقط من عدو مجهول لايراه ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن !! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب ؛ يغلي من الحرارة ، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب ، زائغ النظرات متشنج الأطراف مربد الوجه مكفهر القسمات يزحف إليه الموت بسرعة ، ينفث قشعاً مملوءً بالدم ، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ ( الموت الأسود ) فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه ؟! هكذا مات الملايين من البشر في أبأس وأشنع موتة عرفها الإنسان ، وهذا يعلمنا حكمة الحياة : إن الحياة جميلة جداً ولكن الطبيعة تسحق الفرد بدون أن تبالي بنفس القدر من الحرص على المحافظة على النوع. إن هناك علاقة جدلية بين التاريخ والمرض ، فكما تتفشى الأمراض مع الحملات العسكرية والحروب المجنونة ، فإن انتشار الأمراض يصنع التاريخ بدوره ، فيقود إلى النكسات العسكرية وتوقف الحملات الحربية(4) على النحو الذي رأينا في حملة نابوليون بونابرت ، بل يقود إلى خلخلة الامبراطوريات وتصدع الحضارات ، وهو الذي لاحظه ابن خلدون حين كتب يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية وترافقه مع انتشار الطاعون الذي نزل في منتصف المائة الثامنة فتحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وجاء للدول فقلص من ظلها وأوهن سلطانها وتداعت إلى التلاشي : (( هذا إلى مانزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 5 ). كان المرض المرعب يأتي بهجمات مزلزلة عبر التاريخ ، ويعشش لعشرات السنوات ، فيمسح مدناً بكاملها من خريطة الوجود ، ثم يغيب في بطن التاريخ مرة أخرى ، فلايعرف الناس كيف جاء ولا كيف ولى وانقشع ظله الرهيب !!.جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود مايلي : (( ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى ، فقد أزعج أوربا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر ، وإحدى وأربعون سنة من الخامس عشر ، وثلاثين سنة من السادس عشر وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان ... ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألف ماتوا في هذا الوباء ، وفي باريس خمسين ألفاً ، وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً ، وربما كان المجموع ( ربع سكان العالم المتحضر ) وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض .. وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية ، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل ( الفلاجلان ) الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم .. واستمع اناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين ، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة ، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة ، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة )) ( 6 ) ويبقى عام 1347 هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئاً مخيفاً حقاً عندما نتصور سكان أوربا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع ، وتتصحر أوربا عملياً ، بل وتعاني من إمكانية نقل التراث المعرفي للإجيال القادمة ، وتحتاج إلى مايزيد عن مائتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني !! ( 7 ) . من أين جاء هذا الوباء المخيف ؟؟ كيف تولد ونشأ ؟؟ هل من حادثة أيقظته ؟؟ أو حرب أثارت حفيظته فقام يفتك بالناس ؟؟ كيف انتشر كل هذا الانتشار في المعمورة يحصد أرواح الناس بمنجل لايعرف الرحمة وكأن الناس في موعد مع حصاد هذا العالم ؟!! تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب ( انسكلوبيديا تاريخ العالم ) عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوروبا ( 8 ) وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم !! فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م ؟؟ بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانيء وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة ، إلى مدن أوربا القذرة التي لاتعرف نظام التصريف الصحي ، ولانظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات !! ( 9 ) هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من اهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا ، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب ، فقاموا بشن أول حرب ( بكتريولوجية ) ربما في التاريخ الإنساني ، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة ؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون ؟!! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون ، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافيء التي وصلوها ، وبذلك نشروا المرض في كل أوربا ، فلم ينتهي عام 1352 م إلا وكانت مدن أوربا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة ، والطاعون ليس أكثر من مرض ( الرشح ) الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر ، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة !! وكما حملت السفن جرذانها ، فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة ، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لاترى إلا بالمجاهر مكبرةً آلاف المرات ، والتي لم تكن لا أوربا ولا العالم قد سمع بها ، وكان على العالم أن ينتظر طويلاً كي يبدأ الهولندي ( لوفنهوك ) بائع القماش صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا ، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب أقرب من حبل الوريد ولكن لانبصرها . بل كان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة ، فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية . ومع استفحال المرض تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض ، فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض الذي دخل الدم والأحشاء والعظام . كل أنواع النباتات والطحالب ، نقيع لحاء الشجر ، القذر والعذرة ، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة ، كتابة الرقي للأرواح والنجوم والكواكب ، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح ، الفصادة والحجامة ، الدوش البارد والساخن ، مركبات اليود والبزموت والزرنيخ والزئبق ، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون ، الحقن والزرع ، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت ولاعصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم للخلاص من هذا المرض الذي يسري في جسد ابن آدم مسرى الدم ، واليوم يمكن السيطرة عليه بجرعة من السولفا أو الستربتومايسين أو التتراسيكلين الخ .. ولكن هذه المركبات هي عصارة أرضية رهيبة من التقنيات والتراكم العلمي . لم يكن مرض الطاعون هو الوحيد في معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ ، فسلسلة الأمراض في هذا الموضوع لاتنتهي ، بين الجذام الذي كان يفضي بصاحبه إلى الإعدام الاجتماعي ، من خلال مزرعة عزل بشرية ، أو الكوليرا التي كانت تنقل إلى المقابر آلاف الجثث في هامبورغ في نهاية القرن التاسع عشر ، أو مرض الزهري ( SYPHILIS ) ( مرض الحب الفرنسي ) الذي عصف بالبشرية مايزيد عن أربعة قرون بدون معرفة المتسبب الأساسي في هذا المرض ، وبالطبع كانت الأرواح والكواكب متهمة في إحداث هذا المرض ، حتى كشف الغطاء أمام عيني ( شاودين ) في مطلع هذا القرن ، ومن خلال تطوير المخبر والمجهر ، الذي هو بدوره حصيلة القفزة العلمية برمتها ، حيث رأى تلك ( البريميات - اللولبيات الشاحبة ) والتي تشبه حبل المعكرون الملفوف أو السلك الملفوف لفتح أغطية وسدادات الأوعية الزجاجية ، ثم المثير في الوصول إلى الدواء من خلال رحلة رهيبة لاتصدق لاكتشاف الدواء النوعي الذي يخلص البدن من الجرثوم ولايفعل للجسم شيئاً ، كما حصل مع ( باول ايلريش ) في 606 من المحاولات كي يلوى مركب ( الزرنيخ ) حتى يصبح شافيا ً وبجرعة واحدة ( مركب السلفارسان ) وعندما أعطي اسمه ( 606 ) كان رمزاً للمحاولات المئوية المكررة قبل الوصول إلى الرصاصة السحرية لقتل الجرثوم !! ( 10 ) . إن مرض الطاعون ( PEST) الذي يطل علينا بقرنه اليوم من القارة الهندية يعطينا حزمة من الحكم والأفكار والتأملات : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن هذا المقالة لاتستهدف الترويع ، كما لاتبغي الاستخفاف ، كل ماتريده وضع المرض في إطاره الطبيعي والتاريخي والإمراضي ، بل والثقافي الحضاري ، فهي إذن لم تكتب للأطباء والمتخصصين في المخابر أو المتبحرين في علوم المناعيات وجراحة الكروموسومات وفصائل الجراثيم وقبائل الفيروسات ، بل هي كتبت بالدرجة الأولى من المنظور الثقافي والفلسفي ورفع مستوى الوعي . في مدى خطر هذا المرض ومعنى انتشاره بعد أن خاله الناس جميعاً أنه أصبح في ذمة التاريخ يرقد في بطون الكتب . وبالطبع يفتح هذا الباب أمام فلسفة انتشار المرض ويقظته من رقاده بعد كل هذا الهجوع عبر القرون ، فإذا به مثل ( دراكولا ) ينهض شبحاً يمتص دماء ضحاياه ليحولهم إلى أشباهه ( 11 ) . 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن بعض الناس لايتصورون طبيعة الحياة الشاقة التي كان الناس يحيوها فيما مضى ، بل ويعشق بعضهم فيما لو أتيحت له ( آلة الزمان ) أن يدخل التاريخ ، ليعيش حقبة يهواها ؟! لنتأمل ذلك : لنتصور أن صاحبنا دخل فترة منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حيث الطاعون يقصف الأرواح ولاأثر لصاد حيوي بسيط !! صداع بسيط بدون حبة أسبرين واحدة !! رائحة المدن القذرة بدون نظام التصريف الصحي !! مدن مظلمة في الليل بدون أبسط إضاءة !! المرأة تغسل بيدها كل شيء وبمواد تنظيف لاتكاد تذكر !! سفر طويل مرهق لأقرب مدينة يعلو الإنسان فيها الغبار والإنهاك وطرق محاطة باللصوص وقطاع الطرق !! تبتر الأطراف المصابة بضرب الإنسان على رأسه حتى يدوخ ثم تبدأ عملية القطع المرعبة ليتلوها بعد ذلك الكوي بالزيت المغلي !! ( كان اكتشاف امبروز باريه طريقة الزهراوي في ربط الأوعية بدون غطس الطرف في الزيت المغلي تخفيفاً كبيراً ونصراً طبياً مبيناً ) ، التهاب الزائدة الدودية معناه الموت غالباً ، وموت الأم الحامل مع جنينها أمر مكرر ، شوارع موحلة وثياب ليس فيها رائحة الأناقة ، وطرق موحشة . هل لنا أن نتصور العكس أي لو أرسلنا صاحبنا إلى المستقبل أو لو أتينا بفرد من الماضي من أيام الطاعون ليُعافى بحقنة من صاد حيوي بسيط رخيص الثمن متوفر في أصغر صيدلية في قرية نائية !! إن صاحبنا لو ذهب إلى المستقبل فلن يعود لإنه سيعيش مع عالم خالي من الحروب والمجاعات والاضطهاد يحقق الإنسان فيه ذاته وينسجم مع اخيه الإنسان . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : إذا كان الجرثوم ينتقل عن طريق التنفس على الشكل الذي سمعناه وهو شكل في منتهى الخطر وقاتل ، فإن هناك طاعون اجتماعي لايقل في خطره وينتقل أيضاً عن طريق الجهاز التنفسي ، فكما انتقل هذا المرض ( PLAGUE ) عن طريق الرذاذ التنفسي ، فإن الطاعون الاجتماعي ينتقل من الحبال الصوتية عبر الموجات الصوتية ، الأول يستهدف الجهاز التنفسي ، والثاني يتمركز في الجهاز الواعي العقلاني ، الأول يدمر الصحة البيولوجية ، والثاني يدمر الصحة النفسانية ، الأول وحداته ( عصيات يرسين ) الغليظة سلبية التلوين والثاني ( وحداته ) الفكرة الضارة ، الأول سهل بسيط بسبب أحادية المسبب ، والثاني خطير أخطر من الفيروس الذي يتقلب في أنواعه بسبب تنوع أفكار التدمير ، الأول سهل الكشف كما وصل إليه العالم ( يرسين ) و( كيتازاتو ) والثاني صعب الكشف بل لايطلب المصاب فيه إلى الكشف عنه لعدم شعوره أنه مريض ؟! بل إن أعظم تحدي يواجه الإنسان ليس عالم ( البيولوجيا ) بل عالم ( السيكولوجيا ) لنوعية قوانينه التي لم يتوجه الاهتمام الإنساني بعد لاكتشاف ديناميكيتها ، وإلا فكيف نقارن بين رؤية جرثوم تحت المجهر ورؤية طيف الحسد مثلاً ، هل يمكن ياترى لأي جهاز راصد أن يقيس لنا ( الطيف اللوني ) للحسد مثلاً ، أو مدى توتر ذبذاته ، أو كم وزنه ، أو ماهي موجاته في الدماغ وكذلك الكبرياء والكذب والنفاق وحب الظهور والزعامة والانتفاخ المغرور ، وهذا يوصلنا إلى أن ( الطاعون الاجتماعي ) أصعب في الضبط ، وأفظع في الانتشار ، وأرهب في الإصابة ، وإلا مامعنى اغتصاب خمسين ألف امرأة في البوسنة بمن فيهن طفلة السبع سنوات وعجوز السبعين ؟ مامعنى إبادة حضارة الازتيك والمايا والإنكا ؟ مامعنى ذبح مليون إنسان في راوندا ؟ مامعنى تدمير كابول بأيدي أبنائها ؟ أليس كل هذا مؤشرات لــ ( طواعين ) اجتماعية ؟؟؟؟ . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن القذارة مصدر العلل أياً كانت هذه القذارة ، بيولوجية أم نفسية أم اجتماعية !! والقرآن أشار إلى كل هذه الانحرافات المهلكة ، فطلب نظافة الثوب والبدن ( وثيابك فطهر ) وطهارة القلب والمسلك ( وذروا ظاهر الأثم وباطنه ) ونظافة المجتمع من الفساد ( أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) ، واعتبر القذارة الاجتماعية سبب تدمير المجتمعات الداخلي ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) ، وهذا يعني جهداً متواصلاً للحفاظ على وسط الطهارة ، فالحياة تقوم على ( وضع ديناميكي متحرك ) وليس ( وضع استاتيكي جامد ) ، الحياة تقوم على مبدأ ( الصيرورة والتطور ) وليس مبدأ ( التوقف والجمود والتحنط ) ، فمع الموت تقف الحياة عن التشكل وإمكانياتها عن المتابعة ، وهكذا على الإنسان أن يعيش في جو نظيف في كل مستوى ، بالنظافة الدائمة لثوبه بالغسل ، وبدنه بالحمام ، وروحه بالصلاة وبالتنمية الجدلية للنقد الذاتي ، ومجتمعه بالوعي المتقد والسلوك الرشيد والقدوة الحسنة وتفشي روح السلامية والحوار المثمر ، والثقة بأن الكلمة كائن حي مؤثر ، فيها قوة الاندفاع الذاتية في قدرة الاصلاح الاجتماعي . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن الكون الذي نعيش فيه تنتظمه قوانينه النوعية بدءاً من الذرة وانتهاءاً بالمجرة ، فهي في مستوى البايولوجيا الجراثيم والأمراض والتوازن الهورموني والاستتباب المعدني والإحكام الفيتاميني ، وهو في مستوى الذرة ( ميكانيكا الكم ) ، وفي عالم المجرات ( النسبية ) ، وفي النظام الشمسي قانون ( الجاذبية والكهرطيسية ) ، وهكذا تمسك القوانين النوعية وجودنا بإحكام ، فالإرادة الآلهية أقامت الكون على ( النظام ) و ( البرمجة ) و ( الغائية ) و ( الجمال ) و ( الحق ) ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ، ولم يكن الكون يخضع لـ ( الصدفة ) أو ( الضرورة ) أو ( العبثية ) أو ( الفوضى ) . وإذا كان الأمر كذلك فإن الجاهل يدفع ( فاتورة ) المخالفات ، فالتقي سوف تتحطم عظامه حين يسقط من شاهق مهما كان تقواه ، والهنود سوف ينتشر عندهم ( الطاعون ) بسبب تفشي القذارة ، ودفع الأوربيون ثمن الإباحية سابقاً في مرض الزهري والعقبول ، ويدفعونها مع الأفارقة اليوم في مرض ( الأيدز ) ، والسرطان الاجتماعي يشبه تماماً السرطان البيولوجي في فوضوية النمو ، فإذا أرادت خلايا أن تنمو كما يحلو لها وتزينها لها مصالحها الخاصة فإنها سوف تتورم ، ولكن على حساب التدمير المشترك المضاعف لها وللمجتمع الذي تنتسب إليه ، وكما يذهب الجسم المتسرطن بكل خلاياه ( الورمية والسليمة ) على حد سواء إلى القبر ، كذلك الحال مع الجسد الاجتماعي المتسرطن حيث يدفع الصالحون قبل الطالحون فاتورة الانقراض الاجتماعي . هوامش ومراجع : ( 1 ) راجع في هذا كتاتب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي جزء 2 ص 288 دار الجيل بيروت _ عن كتب بونابرت لأهل مصر عن سبب رجوعه عن حصار عكا . ( 2 ) انسحب نابوليون من عكا في 20\5\1799م كذلك انسحب من موسكو في 19 \ اكتوبر من عام 1812م . ( 3 ) كتاب تاريخ نابوليون الأول تأليف طنوس الحويك الجزء الأول منشورات دار ومكتبة الهلال ص 131 - 134 . ( 4 ) كان انتشار الطاعون في أوربا سبباً في توقف حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا ، وسبباً لاعتناق بريطانيا البروتستانتية من خلال زواج الملك هنري الثامن زوجة جديدة غير زوجته ماريا الحولاء المصابة بالداء الفرنسي والتي لم تنجب له أولادا ً . ( 5 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 . ( 6 ) قصة الحضارة - ويل ديورانت _ مجلد 22 - ترجمة عبد الحميد يونس - الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية ص 122 و123 و124 . ( 7 ) عندما فاجىء أهل لندن عام 1665م قضى على سبعين ألفاً من سكان لندن البالغ عددهم 400 ألف نسمة ؟!! عن كتاب الأمراض الإنتانية تأليف مدني الخيمي _ فصل مرض الطاعون ، ويراجع في هذا أيضاً كتاب عندما تغير العالم سلسلة عالم المعرفة الكويتية . ( 8 ) ( ENZYKLOPAEDIE DER WELT GESCHICHTE PAGE 409 HOLLE VERLAG UWE K . PASCHKE ) ( 9 ) لم تعرف أوربا نظام الحمامات إلا بشكل متأخر وحتى الآن توجد بعض البيوت في ألمانيا ليس فيها حمام ، وكان صاحب القلعة الكبيرة ( الإقطاعي ) له كرسيه الخاص لقضاء الحاجة فتؤخذ من تحته لترمى في الوقت الذي كانت الحمامات شيئاً طبيعياً في الحياة الإسلامية . ( 10 ) كتاب قصة الميكروب - تألف بول ديكرويف - ترجمة أحمد زكي - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1969م - ص 366. ( 11 ) حشيت ثقافة المواطن الأوربي العادي بقصة مصاص الدماء دراكولا الذي مات ولكنه يخرج من عالم الأموات شبحاً يمص دماء الناس فيتحول الضحية إلى دراكولا جديدة وهكذا .
اقرأ المزيد
بانوراما القوة عبر التاريخ
مع فجر الحضارة أُصيبت الإنسانية بمرض الحرب ، ومع الحرب تدفق نهم الإنسان لامتلاك القوة ، ومع تكريس العنف والعنف المضاد تطورت التكتيكات والأسلحة على شكل حلقة متصاعدة ، ومع عطش امتلاك القوة وتسخير العلم لانتاج السلاح نمت العلوم والتقنيات العسكرية بما لايقارن مع علوم تسخير النفس والمجتمع ، إلا أن المفاجأة كانت أن الذين دفعوا سفينة الحضارة في هذا الاتجاه أدركوا في النهاية أن الطريق مسدود ، والعدم يلف الكون ، والانتحار ينتظر الجميع ، فرأى جيلنا وللمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري بداية الرحلة لتوديع السلاح وثقافة البطولة . لنسمع خبر التاريخ في رحلة التكتيكات والأسلحة ، ففيها عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . نظرتْ إلي ابنتي أروى بشيء من الدهشة : ياأبت ألا تعرف أهمية مسابقات تصفية كأس العالم لكرة القدم ، ولا أهمية ألعاب الأولمبياد ، أو سباق الماراتون ؟؟ اعترفت لها بقلة زادي في هذا الحقل على أهميته ، كما اعترف للقاريء بأنني استغرب أحياناً وقوف الناس محملقين وهم يتابعون المباراة ساعات متواصلة ، مع هذا فأنا أدرب نفسي على احترام اهتمام الناس وتبين سر هذا الاهتمام !! قلت لصديقي الدكتور عماد : هل تعلم من أين جاءت فكرة سباق الماراتون ؟ هز رأسه بالنفي ، قلت له إن هذا يرجع إلى قصة في التاريخ حدثت أثناء اجتياح ملك الفرس ( دارا ) لبلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث نشبت معركة عند مدينة ماراتون مما جعل العدَّاء اليوناني ( فيديبيدس _ PHEIDIPPIDES ) يركض إلى كلٍ من أثينا التي تبعد خمسين ( كم ) واسبرطة التي تبعد ( 224 كم ) ليخبرهما بالهجوم الفارسي من جهة وطلب المساعدة الاسبرطية من جهة أخرى ، ويقال أنه قطع المسافة في يوم وليلة بركض متواصل ، فهذا هو سباق الماراتون وأصله التاريخي . وصف المؤرخ ( ولز ) ( H . G . WELLS ) عبور كزركسيس ( XERXES ) لمضيق الدردنيل ( HELLESPONT ) عام 480 قبل الميلاد لاجتياح بلاد اليونان : (( حتى إذا نظر فرأى الهلسبونت تغطيه السفائن ورأى كل شواطيء سهول أبيدوس غاصة بالرجال ، قال عن نفسه إنه لسعيد ، وما لبث بعد ذلك أن هملت عيناه بالدموع فسأله عمه أرطبانوس فإنك قد وصفت نفسك رجلاً سعيداً تذرف الدمع الآن فأجاب الملك : أجل إني بعد أن أحصيتهم عداً دار بخلدي إحساس بالشفقة والحسرة لتذكري كم حياة الإنسان قصيرة ، لعلمي أنه من بين هذا الجمع الحاشد لن يكون واحد حياً بعد أن تمضي مائة من السنين )) ( 1 ) وفي معركة سلاميس هُزم كزركسيس أمام الأغريق بحراً وبعدها بعام هُزم قائده ماردونيوس ( MARDONIUS ) في معركة بلاتيا عام ( 479 قبل الميلاد ) براً على الرغم من ضخامة الحملة التي شنت والاستعدادات البطيئة والهائلة التي أعدها كزركسيس ، وكانت معركة بلاتيا ( PLATAEA ) من أكثر معارك التاريخ القديم حسماً ، لإنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية ، وكان التكتيك والسلاح الذي استخدمه الاغريق في هذه المعركة هو الذي أنقذهم من العبودية لآلاف السنوات التي بعدها ، والسؤال هو كيف كانت طبيعة التكتيك المستخدم في معركة بلاتيا؟ وماهو نوع السلاح الذي استخدم في هذه المعركة ؟ رحلة القوة نحن في هذه المسألة لسنا في صدد بحث العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الجماعات والمجتمعات الإنسانية إلى الصراع المسلح ، فهذا له بحثه الخاص ، والمقالة حصرت نفسها في تطورأداة القوة وطريقة استخدامها ، ومانريد تسليط الضوء عليه هو ( رحلة القوة ) كيف بدأت ؟ كيف نمت ؟ كيف تطورت ؟ وأين وصلت اليوم ؟ أي إننا نطبق منهج ( الجنيالوجيا ) ( GENIALOGY ) على علم الحرب (( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ))( 2 ) ، فهي محاولة لفهم كيفية بدء ( خلق ) ظاهرة الحرب والصراع الإنساني المسلح ؟ كيف تم تصعيد ظاهرة الحرب حتى وصلت إلى أفق لم يحلم الإنسان به منذ أن خُلقت الخليقة !! . يمكن بللورة الصراع المسلح عبر التاريخ في المراحل أو الأفكار الأحدى عشر القادمة : 1 - المرحلة الأولى : يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي ، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما ، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً ( أسلوب لأقتلنك ) ، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة ، مقابلاً أسلوب ( القتل ) بأسلوب جديد مدهش هو ( التخلي عن القوة من طرف واحد ) ، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية .... ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجر . 2 - المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة ، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي ( التعددية ) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات ( لأقتلنك ) ، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح ، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش ( الذكورية ) ، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة ، لإن مرض الحرب دخل في تركيب احلضارة فيما يشبه الخطأ ( الكروموسومي ) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا ( مرض ) . إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت ( دورة الحرب ) تأخذ نظماً تاريخياً ، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف . 3 - المرحلة الثالثة : أصبحت ظاهرة الجيوش ( الذكورية ) ظاهرة ثابتة في تشكيل كيان المجتمع وتحت ضغط فكرة ( الدفاع ) عن المجتمع ، وهكذا عمدت الأنظمة السياسية التي تشكلت في كل دول العالم القديم وامبراطوريات التوسع إلى مايلي : أولاً : تشكيل الجيوش الجرارة المكلفة . ثانياً : تطوير أداة البطش والتدمير الممثلة في تطوير أنظمة السلاح والتكتيكات العسكرية والتقنية الحربية بوجه خاص ، بل وتسخير كل إمكانيات المجتمع لخدمة الهدف العسكري . هذا التنافس بالطبع لن يؤدي في النهاية إلا إلى حملات التوسع والاصطدام مع الدول المجاورة ، كما حدث في الحروب الرهيبة في العالم القديم على الشكل الذي أوردناه في حملة كل من دارا وكزركسيس على اليونان ، أو الحرب ( العالمية ) القديمة بيم روما وقرطاجنة ، التي استهلكت موارد كلا الدولتين من خلال ثلاث جولات من الصراع المريعة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد وقادت الأولى إلى الفناء تحت التراب ، والثانية إلى ( العدمية ) فوق التراب وبذا ماتت الاثنتين عملياً !! (3) 4 - المرحلة الرابعة : كانت دورات الحرب تمشي في اتجاهين ( الأول ) : هو الاستمراية والتواصل وكانت فترات السلم ( هدنات ) لأخذ النفس ومتابعة الحرب ، من خلال قانون العنف والعنف المضاد ، فكل فعل له رد فعل مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في القوة ، وهذا يستتبع بالتالي رفع جرعة رد ( رد الفعل ) أي نصل لـلاتجاه ( الثاني ) : فحتى يمكن التغلب على رد الفعل الجديد فلابد من رفع قوة الفعل الجديدة ، أي أن الدورة الجديدة من العنف سوف تبدأ أعنف من الأولى وفي جعبتها كل تجارب الدورة السابقة ، فلو أردنا تصوير مايحدث فهو أشبه بهرم مقلوب الرأس ، ذروته نقطة بداية العنف وقاعدته المتوسعة باستمرار العنف المستشري ، أو هو شكل لولب صاعد كحلقة دخان أو نفثة نار تكبر مع صعودها إلى السماء بدون توقف ، أو هي حلقات الماء بألقاء حجراً فيها فتكبر الحلقات بدون نهاية . أو انتشار موجات الصوت أو الضوء !! حتى خيل للبعض أن السلام عملية مستحيلة ، أو هي خدعة مؤقتة ، أو أن الوجود مؤصل على العنف المقدس ( كذا ) 5 - المرحلة الخامسة : كان أمل القوى المتصارعة دوماً ومن خلال تطوير أداة الحرب أنه سيقهر خصمه ويستولي عليه بل ويلغيه ويحذفه من الوجود ، وهو بهذا الأسلوب يخلق العدو باستمرار ، ويلغي حتى وجوده الخاص ، وكانت هناك علاقة جدلية بين طغيان الشر وتطوير ( أداة البطش ) وهكذا أغرى قديماً مثلاً الدولةَ الآشورية براعةُ الآلة الحربية الآشورية التي تكللت باختراع ( العربة الحربية الآشورية ) ذات الأنصال الباترة حيث كانت تقضم أذرع المقاتلين فتقع ترتعش ، قبل أن يحس المقاتل بفقدان ذراعه أو قدمه !! ، وحفزتها لتطويع وتركيع الأمم المجاورة ، ومع امتداد هذه الذراع البطَّاشة سال اللعاب أكثر فأكثر لافتراس المزيد من المدن والأمم ، فكلما زاد ( كمال ) أداة الحرب كلما أصيبت النفس بمرض التضخم والشعور بالتجبر الكاذب ، وبذا تضخمت الدولة الآشورية بشكل مرعب في جنوب غرب آسيا ، فحكمت بدون رحمة ، ودمرت ولم تأبه ، وسوَّت معظم مدن الشرق الأوسط بالتراب ، وحملت شعوباً بأكملها إلى معسكرات الاعتقال ، ومايزال الشعب اليهودي يحمل في الذاكرة الجماعية التاريخية فظائع ( نبوخذ نصر ) . كانت الأداة الحربية الآشورية تحت المراقبة والتطوير الدائمين ، إلا أن الحملات التي لاتنتهي لإخضاع الشعوب المجاورة على النحو المذكور ، ومعاناة هذه الشعوب وآلامها التي لاتنتهي ، استنفدت في النهاية دماء الدولة الآشورية فماتت على الشكل الذي وصفه المؤرخ ( توينبي ) عن مصير النزعة الحربية ( الجثة في الدرع ) ( 4 ) 6 - المرحلة السادسة : تحت شعور ( السيطرة ) على مقدرات الناس تم دفع أداة الحرب وتطويرها بكل سبيل ممكن ، وسُخر العلم لذلك ، وهكذا حدث تناقض عجيب ، حيث تمت ازدواجية بين خدمة العلم لآلهة الحرب ، وبين تطوير العلم من خلال تبني المؤسسات العسكرية له !! وهكذا تم تطوير أبحاث الذرة بشكل مرعب خلافاً لمؤسسات علم دراسة النفس والمجتمع ، كل ذلك تحت معلومات كاذبة ، أن هتلر يطور سلاحه الذري الخاص به ، وأظهرت التحريات ومقابلة العلماء الألمان بعد الحرب ، أن الألمان لم يكونوا قد خطوا بعد في هذا الطريق شيئاً يذكر ( 5 ) ، بل وكشف النقاب عن هدف إلقاء السلاح الذري على اليابان ، أنه لم يكن هو المستهدف به بالدرجة الأولى بل الإعلان الأمريكي لمرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية ، لإن اليابان كان في حكم المهزوم . ويقع الاتحاد السوفييتي في رأس قائمة الذين يجب إرعابهم ؟! . 7 - المرحلة السابعة : انتقل تطوير السلاح في دورات من أسلحة ( الصدم ) و ( القذف ) والوقاية من خلال جهاز ( الدروع ) ، فالأولان للاختراق والأخير للدفاع والوقاية أثناء الهجوم كما هو الحال اليوم في سلاح الدبابة ، وكما يحدث تماماً أثناء اشتباك مجموعتين من الأطفال في العراك حصل نظيره في تاريخ الحروب في التاريخ ، فالأطفال يعمدون إلى التراشق ثم الاشتباك بالأيدي والقبضات أو بالعكس ، وهكذا مشت رحلة التسلح في دورات من المشاة المدرعة ، فالخيالة الخفيفة ، فالخيالة المدرعة ، وأخيراً العربات المدرعة . ( 6 ) وبالطبع فإن بحثنا هذا لم يكتب للعسكريين وإن كان يستهويهم ، وهكذا تطور السلاح بين الإنسان المدرع ، فراكب الحصان المدرع ، فراكب العربة المدرع ، والذي غلب ( كزركسيس ) في معركة ( بلاتيا ) كان نظام ( الفالانكس الأغريقي ) ( PHALANX ) عام ( 479 ) ق . م . الذي يعتمد القوة المركزة المزودة بالرماح الطويلة التي تعمل كـ ( المطرقة الثقيلة ) ، ثم تطور هذا النظام على يد الملك فيليب المقدوني والد ( الاسكندر الكبير ) الذي هيأ له الآلة المناسبة لاجتياح الدول المجاورة ، حيث تم صقل جهاز الفالانكس بحيث يستطيع المناورة بشكل أفضل ، ومن هنا نرى سخرية القدر في عمل الفرس باجتياحهم بلاد اليونان ، كي يحركوها لتقوم برد الفعل بعد 146 عاماً لتطحن جيوش داريوس في معركة ( أربيلا ) عام 333 ق . م . استطاع الاسكندر بجيش لايتجاوز ( 47 ) ألف مقاتل أن يحطم جيوش ( داريوس ) كما تفعل المطرقة في صدم وعاء من الفخار !! فعلى الرغم من جيش داريوس الهائل والمكون من قرابة مليون من الجنود !! والفيلة والعربات ذات الأنصال ( العربات الآشورية ) فإنها لم تصمد أمام جهاز ( الفالانكس ) الأغريقي والمكون بشكل رئيسي من المشاة المدرعين ، المزودين بالحراب الثقيلة الطويلة ، في أرتال منظمة تعمل كالمطرقة في الاختراق وتتحرك في مجموعات تشبه كل مجموعة ( القنفذ ذو الأشواك ) . ثم جاء دور ( الليجيون - LEGION ) الروماني الذي تسيد الصراع لقرون لاحقة بفضل التطوير الجديد على نظام ( الفالانكس ) الاغريقي ، فأضاف السيف الاسباني القصير المعمر وأنقص طول الرمح ليطور الرمح الخاص به بطول قدمين ( PILUM ) ، إلا أن نظام الليجيونات الرومانية تم هزيمته واختراقه سواء بمبدأ ( الكماشة ) الذي طبقه هانيبال في معركة ( كاني - CANNAE ) ( 7 ) بحيث أصبح لفظ كاني دليلاً على الكماشة الفظيعة !! أو عن طريق الجرمان الذين طوروا ( الفأس مخترق الدروع - الفرانسيسكا ) أو أخيراً على يد الخيالة القوط في معركة ( أدريانوبل - ADRIANOPLE ) عام ( 378 ) م حيث تسيد راكب الحصان الذي يستخدم سلاح الصدمة ( الرمح والقوس ) للفترة التالية . ثم جاء الدور من جديد ليُلغى دور الخيالة الخفيفة وأقواسها الممتازة على الرغم من براعة أصحابها كما حصل لجيش ( العاصفة ) القديم المتمثل في جيوش جنكيزخان التي لم تقهر ، كان ذلك بواسطة ظهور الخيالة المدرعة والتي أرعبت الناس حينما ظهر الملك ( شارلمان ) يلمع بالحديد المخيف تحت اشعة الشمس حينما حقق انتصاره في معركة ( بافيا ) عام 814 م ؟! ثم جاءت هزيمة الدروع من داخلها فقد أثقلت الفارس إلى الدرجة التي لم يعد الحصان قادراً على حمل كل هذا الحديد ، وكان منظر سقوط الفارس المدرع من ظهر الفرس على الأرض يثير الشفقة لإنه لايعود بعدها يستطيع حراكاً كما يحصل مع الحيوان البحري إذا اخرج من الماء !! وعندما بدأ ترقيق الدروع فاجأتها أسهم القوس المتصالب والقوس الطويل في كلٍ من معركة ( هاستنجز ) عام 1066م تلك التي انتصر فيها الدوق ويليام واحتل فيها بريطانيا ، أو في معركة كريسي عام 1346 ميلادي حيث كان بإمكان السهم اختراق الدرع والفخذ وتسمير الفارس في سرجه الخشبي !! وعندما أراد الفلاحون السويسريون التخلص من الأقطاع الألمان طوروا سلاحهم الخاص بهم والذي يُرى في المتاحف الآن ( الهالبارد ) ذو نهاية ثلاثية : رمح للطعن وفأس لضرب الخوذة ثم خطاف لنتر الفارس من ظهر الحصان . ثم جاءت القفزة النوعية في تطوير الأسلحة النارية فمع البارود بطل دور قلعة ( الإقطاعي ) ومعه النظام الإقطاعي ، إلا أن البندقية الأولى وحاملها ( الموسكيتير ) وجد صعوبة في التكيف معها بين الحشي والإشعال والإطلاق لمرة واحدة ، حتى جاء القائد المبدع فريدريك لينجز انتصاره الرائع في معركة ( لوثن ) من خلال الاستخدام الجيد للسلاح الناري ، وأمكن تطوير أمد الرصاصة وقوة انطلاقها من خلال أمرين تطويل السبطانة و ( حلزنتها ) ، ولبطء الحشي في المراحل الأولى تم إضافة ( السونكي ) كي تأخذ البارودة وظيفة الرمح والبارودة بنفس الوقت !! واستمر تطوير نظام ( لأقتلنك ) ، وعندما أمكن الوصول إلى ( الماشين غن - الرشاش ) استطاع الجنرال كيتشنر دحر المهديين ورماحهم في السودان ، كما قُتل من خيرة جنود كيتشنر في الحرب العامة الأولى ستين ألفاً في إحدى الهجمات برشاشات الألمان المتمركزين في وحول ( السوم ) ، ويعتبر نابوليون المعلم الكبير في استخدام النظام المدفعي وبه شق الطريق لأمجاده في حروب أوربا قبل أن يهزم في واترلو ، ومع تطوير الطيران والرشاشات والمدفعية ثم الدبابات وأخيراً الغازات السامة بدأت معارك الحرب العالمية الأولى تتحول إلى مسالخ بشرية فعلية ، حيث قتل في إحدى المعارك في ( السوم ) في مدى أربعة أشهر مليون و265 ألفاً من الشباب الأوربي بين ألماني وفرنسي وبريطاني . ثم ( ختامها مسك ) ؟! اختتمت الحرب العالمية الثانية بتطوير الصاروخ والسلاح النووي ، وبتركيب الثاني على ظهر الأول لم يبق مكان على وجه الأرض ينعم بالامن ، وبذا انقلب السحر على الساحر . 8 ـ المرحلة الثامنة : كانت الحروب في العصور الوسطى تعتمد الجنود المرتزقة ، فأعدادهم قليلة والمعارك تعتمد الفروسية ، وتكاليف ساحات المعارك يبقى بين حملة السيف ، ومع الثورة الفرنسية والأمريكية حصل انعطاف في تركيبة الجيوش ، فأصبحت شعبية وبالتالي بدأ المدنيون يعانون من الحروب بشكل مباشر وغير مباشر ، وبدأ مايسمى ( الحرب الشاملة ) ، وأصبح أكثر الضحايا بين المدنين وهكذا تغيرت الصورة وانقلبت الآية . 9 ـ المرحلة التاسعة : في صباح يوم 16 تموز - يوليو من عام 1945 ميلادي وفي تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً ، حصل انعطاف ( نوعي ) في امتلاك القوة ، حيث وضع الإنسان يده على الوقود الكوني هذه المرة ، حيث تم تفجير قنبلة ( البلوتونيوم 239 ) التجريبية ، وكانت قوة التفجير التجريبية في ذلك الصباح البارد حوالي 15 ألف طن من مادة ت . ن . ت . ، وطبق هذا السلاح بكل أسف في إبادة البشر مثل فئران التجارب تماماً وكانت كل قنبلة ( مع أن كل محتواها لم ينفجر تماماً كما تبين بعد ذلك ) قد مسحت مدينة عظيمة بمعظم سكانها ، مع أن قدرة التدمير كانت متواضعة ؟! وقد يتساءل القاريء وكيف كانت متواضعة ؟ والجواب أن الجيل الثاني من السلاح النووي طور قوة التفجير حتى وصل بقنبلة تجريبية إلى ( 58 ميجاطن ) أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 3800 مرة ) ؟؟!! واعتمد الجيل الثاني على مبدأ الالتحام ( لمادة الهيدرجين ولذا سميت هيدرجينية ) وليس الانشطار ( انشطار مادة اليورانيوم 235 أو 239 ) كما كان مع الجيل الأول . وكان وراء القنبلة الأخيرة الاتحاد السوفيتي فأراد البنتاغون إنتاج قنبلة بقوة 100 ( مائة ) ميجاطن ، أي أقوى من قنبلة هيروشيما بـ ( 6666 ) مرة ، وعند مناقشة الموضوع شعر الجميع أن هذا الطريق الذي يمشون فيه ليس إلا ( جنون مطبق ) و ( انتحار جماعي ) و ( تلويث للبيئة ) وتهديد جدي للإنسانية ، التهديد هذه المرة بالفناء الماحق المترع بالعذاب ، حيث لاتوجد كرة أرضية ثانية نجرب عليها أو ننتقل إليها بعد خراب الأولى ؟! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) . ثم مشت الرحلة إلى جيل ثالث من القنابل النووية ، ثم مالت النفوس إلى إنتاج ( تفاح ) من الحجم الصغير أي عيار كيلو طن واحد فقط كما هي مع الألغام المزروعة في الجولان السوري ، أو تلك التي تحمل في المعارك التي ينبغي تطويقها لتطلق من مدافع بسيطة ؟؟ هذه المعلومات هي يوميات بسيطة لاستراتيجي الدفاع والأمن والتسلح العالمي اليوم ، وكما ذكرتُ فهذه المعلومات هي لرفع مستوى ( الوعي ) عند إنساننا ، كي يدرك طبيعة العالم الذي نعيشه ، وأن عهد البطولة قد ولى ، وملف الحروب قد طوي ، وأن أشعار ( أبو تمام ) لم تعد تطرب ( السيف أصدق أنباءً من الكتب ) . 10 ـ المرحلة العاشرة : عندما كتب ابن خلدون في مقدمته عن عدم اعتماد الأخبار لمجرد نقلها عن الثقات ، بل يجب عرضها وقارنتها مع ( أصول العادة ) و ( قواعد السياسة ) و ( طبيعة العمران ) الخ ... قام بستة تطبيقات على ذلك ، منها أن جيش موسى في التيه لايعقل أن يبلغ ( 600 ألف مقاتل ) واعتمد ابن خلدون مشكلة الاتصالات في الجيش في تفنيد الخبر ، فكيف يقاتل جيش لايعرف طرفه مايحدث في الطرف الآخر ؟! وهو محق بالنسبة لعصره ، ولو بعث ابن خلدون في أيامنا الحالية لما تعجب من حملة ( بارباروسا ) التي قادها هتلر ضد الاتحاد السوفييتي بخمسة ملايين جندي ، والسبب هو أن مشكلة الاتصالات أمكن حلها والسيطرة عليها . إن تحقق هذه الإمكانيات قفز بالحرب قفزة ( نوعية ) ، فمع التراكم المعرفي والتقنيات الحديثة ، لم تعد الحرب كائناً بسيطاً ، بل تحولت إلى كائن خرافي ، ولم تعد الحرب ( حرباً ) بالمعنى الحرفي للكلمة . يقول صاحب كتاب الحرب العالمية الثالثة الجنرال فيكتور فيرنر : (( إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل ؛ ذلك أن حجم التدمير وسرعته اللذين يمكن أن يحدثا لن يغيرا أبعاد الحرب فقط ، وإنما سيؤديان إلى تغيير في جوهر الحرب ، فإذا كان هناك إنسان طوله متران ونصف المتر ، ووزنه 200 كلغ فإنه يبقى إنساناً بالرغم من أنه غير عادي . ولكن هل يمكن أن نعتبره كائناً بشرياً إذا بلغ طوله مائتي متر ووزنه عدة أطنان ؟؟ )) ( 8 ) 11 ـ المرحلة الحادية عشر : ثم رأت أعيننا شيئاً لم يخطر على قلب بشر في العالم القديم ، فلو قام من قبره الآن داريوس أو الأسكندر الكبير أو نابوليون أو جنكيزخان لفركوا عيونهم من هول الجبروت الذي امتلكه الإنسان المعاصر ، ثم سوف يتحول عجبهم إلى مايشبه الجنون فلايكاد يصدقون رؤية الظواهر التالية : الأولى : سقوط أعظم امبراطورية ، تملك أعظم سلاح امتلكته قط أي قوة مرت على وجه البسيطة حتى اليوم ، فالاتحاد السوفيتي هوى صريعاً لليدين والجنب ، وفي قدرته تدمير الكوكب الأرضي أربع مرات ؟! الثانية : صعود قوى لاتملك أي سلاح ، بل هي مجردة من السلاح ومشروط عليها أن لاتتسلح مثل اليابان وألمانيا ، وهذا يعلمنا أن الصعود لايحتاج لقوة ، فهل يدرك الأفغانيون هذا الدرس من التاريخ ؟! أو هل تفهم الحركات الإسلامية المتلمظة للقوة منطق التاريخ ؟؟! الثالثة : إن المشكلة التي تواجه مالكي البلوتونيوم والسلاح النووي اليوم هو كيفية التخلص منه وليس تركيبه ؟؟ إن هذه المرحلة التي عاصرناها شيء عجيب حقاً فقد رأينا ثلاث أمور كل واحدة أعجب من أختها ؛ رأينا توقف ظاهرة الحروب عند من يملك العلم والمعرفة واستمرارها عند المتخلفين ، ورأينا اتحاد الأوربيين الذين اقتنعوا بأن الحرب لاتحل المشكلات بل تخلق المشكلات سواء منتصراً أو مهزوماً ، ورأينا انتهاء الحرب الساخنة والباردة ووُدعت الأخيرة بجنازة خاشعة في باريس إلى المقبرة عام 1989 م . فإذا استطعنا هضم الأفكار السابقة في مجمل بانوراما القوة فيمكن طرح الأفكار التالية : 1 ـ تقول الفكرة الأولى : إن الجنس البشري جرب حظه من الحروب وامتلاك القوة ، ووصل ليس فقط إلى نهاية الطريق المسدود ، بل مشى كالأعمى يتلمس الطريق في هذا الكهف المظلم ، حتى لمس الجدار الصاعق الحارق فاحترقت يداه فهو مايزال يعالج يديه المحروقتين ، وسمع دمدمة الشياطين في جهنم ( الفناء النووي ) خلف الجدار !! وهذا أكثر من درس للمغفلين والحمقى الذين يريدون دخول مخاضات عبرها غيرهم ، ووصلوا إلى هذه النتيجة من عبثية الحرب وعدم جدوى امتلاك الأسلحة بما فيها خرافة السلاح النووي ، ولعل عدم امتلاك العرب لهذا الصنم سوف يوضع في تاريخهم كرواد إنسانيين . 2 - وتقول الفكرة الثانية : إن الذين وصلوا إلى نهاية الرحلة واحسوا بعدمية هذا الاتجاه أخذوا يرجعون عنه ، ونحن مثلنا كما يقول المثل السوري ( يطعمك حجة والناس راجعة !! ) فإذا فات موسم الحج أبينا إلا أن نقيم كل يوم موسم حج للعنف والقوة ؟! وهذا يوحي بأن هناك فريق من الناس خارج التاريخ والجغرافيا ، وتشوش عليهم الفرقعات التي تحدث هنا وهناك ، بل يمضي بعضهم إلى اعتبار أن الحروب ستبقى إلى قيام الساعة ، والعالم المعاصر يحتفل بتدشين إغلاق هذه الدكاكين العتيقة . 3 ـ الفكرة الثالثة تقول : إن نفس القوى العظمى التي أدركت هذه الحقيقة تحاول أن تعمي على عيون وعقول الآخرين كي ( تزغلل ) الرؤية عندهم ، وهكذا مازالت أسواق الأسلحة قائمة ( بما فيها البلوتونيوم المهرب ) وهم يدركون تماماً أنهم يبيعوننا عتاداً ميتاً ولى وقته وانقضى ، ويفعلون هذه من أجل المحافظة على امتيازاتهم في العالم ، فالعالم اليوم مقسوم إلى شريحتين منها 10% تأكل خيرات 90% وشريحة مقلوبة بنفس النسبة أي تشكل 90% ولكنها تمنح 10% من خيرات العالم ؟؟!! وبالطبع فهذا وضع مرضي يجب التخلص منه ، وهي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى ، فسوف نبقى ندفع فواتير ( نعال الجمال ) حتى نرشد ( 9 ) 4 ـ والفكرة الرابعة تقول : إن الذين يريدون إشعال الحروب يخطئون مرتين وليس مرة واحدة ، الأول أنهم انقادوا ودخلوا الحقل الذي لايسيطرون عليه ، بل يسيطر عليه الآخر ويعرف أسراره ، فنهاية الحرب لن تكون بأيديهم ، بل بيد من يملك تمويلها ، فينصر من يرى أن من مصلحته نصره والعكس بالعكس ، وهذا تناقض عجيب يعيشه العالم هذه الأيام حيث لايقاتل من يستطيع ، ويقاتل من لايستطيع ولايملك مقدرات نهاية الحرب !! وهكذا فإن من يدخل الحرب يدخل مكان اللعبة التي لايعرف أسرارها بل يتحول هو إلى أحد رموز اللعبة ، وللخلاص من هذا وجب إما الخروج الكامل من اللعبة أو عدم دخولها ابتداءً .. من كان له أذنان للسمع فليسمع . بقلم الدكتور خالص جلبي هوامش ومراجع : ( 1 ) معالم تاريخ الإنسانية ( THE OUTLINE OF HISTORY BY H . G . WELLS ) - هـ . ج . ولز - المجلد الثاني - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ص 367 . ( 2 ) سورة العنكبوت - الآية 20 ( 3 ) راجع تعليق المؤرخ الألماني أوسفالد شبينجلر في كتابه أفول الغرب عن آثار تلك الحرب وكيف أنها امتصت آخر طاقة حيوية لروما - الجزء الأول ( 4 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ - جون أرنولد توينبي عن انتحارية النزعة الحربية ( 5 ) كشفت مجلة صورة العلم الألمانية النقاب عن التسجيلات السرية لمجموعة العلماء الألمان الذين أسرهم الحلفاء الغربيون ووضعوهم في فيلا مريحة في بريطانيا لمدة ستة أشهر ، قد وضع في كل زاوية منها جهاز تنصت ، موصول بجهاز تسجيل مركزي يعكف عليه خبراء باللغة الألمانية لفك كل كلمة للعلماء ، وعرف على وجه الدقة أن العلماء الألمان كان قد فاتهم القطار _ لحسن الحظ _ في موضوع السلاح النووي ، ولكن بنفس الوقت فإن الحلفاء استفادوا من الخبرة الألمانية في تطوير جهاز الصواريخ ف 1 وف 2 الذي عانت منه بريطانيا في نهاية الحرب الثانية ( 6 ) راجع في هذا كتاب الأسلحة والتكتيكات - ونترنغهام وبلاشفورد- سنل - ترجمة المقدم حسن بسام - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 7 ) معركة كاني عام 216 قبل الميلاد سحق فيها القائد القرطاجي جيشاً رومانياً ضخماً وبلغ قتلى الرومان فيه حوالي خمسين ألفاً من أصل ثمانين ألف مقاتل ، واعتمد مبدأ الكماشة على تقسيم الجيش إلى قلب وجناحين حيث ينسحب القلب إلى الداخل وينفرج الجناحان ، فيجر معه الجيش الروماني إلى الداخل في الحين الذي تطبق فيه الأجنحة من الجانبين والخلف وبالتالي يتحول الجيش المقاتل إلى كتلة مختنقة تقاتل فيها الحافة فقط ، ويتحول جيش هانيبال إلى مفرمة لحم !! ( 8 ) الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير - الجنرال فيكتور فيرنر - ترجمة هيثم كيلاني - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 21 ( 9 ) يروى أن وصياً كان يعرض على القاصر كل سنة أمواله وفي نهاية الحساب يقول : وقد دفعنا يابني ثمن كذا وكذا لنعال الجمال ، ففي إحدى السنوات قال الغلام : ولكن ياعماه ماأراه أن الجمال لاتنتعل الأحذية ، قال الوصي أردت امتحانك فقد رشدت فهذه أموالك أعيدها إليك . والفرق بيننا وبين القصة أننا لن نسترد مادفع ثمناً للأحذية .
اقرأ المزيد
خيار شــمشــون الجبار !! (السلاح النووي الإسرائيلي بين الاسطورة والحقيقة)
لم تولد فكرة السلاح النووي الاسرائيلي في ( المدراشا )( 1 ) بل ولدت في ( الفانين زي )( WANNENSEE ) ( 2 ) . لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل ، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م ، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م ؛ حينما خطط ( هايدريش ) الرهيب مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو النازي للقضاء على 11 مليون من اليهود في أوربا ، ولم يولد الجنين النووي الاسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا ، ومن الغريب _ وهذه آلية معروفة في علم النفس _ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته ، فهذه مأساة إسرائيل ( اسبرطة ) الجديدة ، التي تعيش على ذكريات القائد الروماني ( تيطس ) ( 3 ) ومحارق النازية في ( آوسشفيتز _ AUSSCHWITZ _ ) و ( تيريبلنكا ) . فالنازيون خططوا لـ ( الحل النهائي ) الجرماني ، ومؤسسوا الصهيونية خططوا لـ ( الحل النهائي ) الاسرائيلي خيار شمشون . ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم فلنسمع قصته المثيرة . قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلاً _ وهو محق في هذا _ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن ( يفهمون ) في العالم العربي : يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوباً من القهوة !! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب ، هل تنظر متفرجاً بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء ؟ وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق ( المجنون ) من أجل الردع والتوازن ، أي أنه ينصح بالمضي في نفس الطريق الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد ( العتيق ) . وعقب الزميل الثاني : الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل ، أما الزميل الثالث فأضاف أنا مع أفكار السلام ( النظرية ) ولكن الواقع أثقل في الميزان ، والذي أوصل أوربا إلى السلام هو الردع المتبادل ، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل . ************************************* هذه الأفكار التي أنقلها إلى القاريء تمثل ( عينة ) من فهم العالم الذي نعيش فيه ، كما تمثل تشرب البيئة لـ ( ثقافة العنف ) التي يستحم فيها العالم جميعاً ، هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلاً لأشخاص بأعينهم ، بل إفراز ثقافة ، وتعبير وسط اجتماعي ، وفهم لطبيعة علاقات البشر ، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه . لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين _ فضلاً عن السياسيين _ لزيادة معلوماتهم ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة ، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث ، هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقاريء العادي كي تمنحه ( وعي ) العالم الجديد الذي نعيش فيه ، مسارات القوة ، تطور التكنولوجيا النووية _ بما فيها الاسرائيلية _ دورة التاريخ وعبرة الماضي ، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم . ***************************************** لايمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه ، معلقاً في الفضاء ، مفصولاً عما حوله ، مالم يدخل ضمن ( القانون الجدلي ) الخاص به ، ضمن شبكة علاقاته ، فكل ( حدث ) هو ( نتيجة ) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو بنفس الوقت ( سبب ) لما سيأتي بعده ، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات ، ولايشذ عن هذا القانون بل ويصدق عليه أكثر حدث ( شمشون الجبار ) الذي بين أيدينا ؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال ( ايرنست بيرغمان ) و ( بن غوريون ) و ( عاموس ديزحاليط ) ولدوا وعاشوا في ( الهولوكوست ) ( 4 ) ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى ، وحذرهم غير متناه ، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود ، بما فيها الغرب ممثلاً بفرنسا التي بنت لهم مفاعل ( ديمونا ) ونظام الصواريخ ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الاسرائيلي ( 5 ) ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع يجب أن نتوقع كل شيء . وأكثر من هذا فحتى مشروع ( مانهاتن ) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي انطلق من ( شبح ) أن هتلر يُصَنِّع السلاح النووي ، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئاً يذكر ، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك ( 6 ) وكان في مشروع ( لوس آلاموس ) _ المخبر الذري الذي ضم الفيزيائيين النوويين في ذلك الوقت _ طائفة من العلماء اليهود الذين اندفعوا أيضاً للعمل تحت ضغط هذا الشعور ، يكفي أن نعلم أن رأس المشروع العلمي كان يهودياً هو ( روبرت اوبنهايمر ) ، ولاننسى أن نذكر أن نفس آينشتاين العبقري وهو يهودي وصهيوني بنفس الوقت ، تقدم بفكرة تطوير المشروع النووي إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ، تحت الرعب الذي استولى عليه مع العالمِ اليهودي ( سيلارد ) الهنغاري الهارب ، وقد ندم على ذلك بعد فوات الوقت وكرس بقية حياته للسلام ، كما اعتذر عن قبول أول رئاسة للدولة اليهودية الوليدة بقوله : الرياضيات خالدة والسياسة زائلة !! . ********************************** لابد قبل الدخول في البحث من شرح كلمة ( خيار شمشون ) ( SAMPSON OPTION ) ومن أين جاءت ؟ فهذا المصطلح تم طرحه في لقاء ( المدراشا ) الذي أشرنا إليه في قبو الموساد ( الاستخبارات الإسرائيلية ) حيث تم استعماله في ذلك اللقاء التاريخي الحاسم ، وأصل هذه الكلمة من العهد القديم ( التوراة ) وخلاصتها أن شمشون كان جباراً عاتياً ، وكان يكفيه أن يقتل ألف شخص بلحي ( فك ) حمار ، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة ، فأرسلوا له فتاة جميلة هي ( دليلة ) كي يُغرم بها ويَدُلَّها على قوته ، ويفضي إليها بسره ( قوتي في خصائل شعري السبعة فإذا حُلقتْ ذهبت قوتي ) فلما نام على ركبة دليلة خرج الكمين فقص شعر شمشون ليتحول إلى قط وديع ، وإمعاناً في إذلاله أعموه بأن سملوا عينيه ، ثم سَخَّروه في الطحن بدلاً عن حمار الرحى ، ثم عرضوه لكل الإهانات الممكنة أمام الناس ، وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لايعلمون (( وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح ، نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون ، فدعا شمشون الرب وقال ياسيدي الرب اذكرني وشددني ياالله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ، وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائماً عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره وقال شمشون : لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته )) ( 7 ) فمغزى هذه القصة إذن هي المثل الشعبي المعروف ( علي وعلى أعدائي ) أي أن مصممي السلاح النووي الإسرائيلي أدركوا من نقطة البداية ، أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط ، هي لحظة التهديد بالفناء ، فإذا واجهوا خطر الفناء فإنهم لن يعيدوا قصة ( الماسادا ) قصة الانتحار الجماعي مرة أخرى ، هذه الفكرة كانت ومازالت محور التفكير الاسرائيلي ( لن تتكرر مآسينا مرة أخرى ) و ( لن تتكرر محارق آوسشفيتز ) ، هذه هو ( الدينمو) الفكري ، والنظارة اللونية التي ترى إسرائيل بها العالم . ******************************** لنسمع القصة من بدايتها إذن ............ إن الذي دشن القصة لم يكن ( ارنست ديفيد برغمان ) ولا ( أهارون كاتزير ) ولا ( شالحفين فراير ) الأدمغة العلمية اليهودية ، الذس دشن المشروع فعلاً هم ( هملر ) و ( هايدريش ) و ( أوزفالد بول ) !!! ( 8 ) ففي صبيحة يوم بارد هو العشرين من يناير كانون ثاني عام 1942م في ألمانيا النازية وعلى ضفاف بحيرة برلين ، تم لقاء على غاية الأهمية بين أقطاب الحكم النازي ، هذا اللقاء السري الذي أعد بعناية فائقة وبسرية مطلقة إلى درجة إنه لم يخلف وراءه أية مخطوطات أو وثائق ورقية ، كان قائد اللقاء ( هايدريش ) مساعد ( هملر ) رئيس الجستابو والحرس الخاص ( اس اس )( SS ) في هذا اللقاء تم طرح ( فكرةً ) ترتعد لها المفاصل ، وهي تنظيف أوربا من كل يهودي ( 9 ) وهذا يحمل ضمناً القضاء على حوالي ( 11 ) مليون يهودي موزعين على الشكل التالي : ( 131800 ) يهودي مازالوا يقيمون في أراضي الرايخ الأصلية ، وخمسة ملايين في الاتحاد السوفيتي ، وثلاثة ملايين في أوكرانيا ومليونان وربع في بولندة وثلاثة أرباع المليون في فرنسا وثلث مليون في بريطانيا ( 10 ) . كتب ويليم شيرر عن هذا اللقاء : (( وقد دعا هايدريش إلى اجتماع ضم ممثلي كافة الوزارات المختلفة والوكالات المتفرعة عن الحزب النازي والفرقة لخاصة ، وعقده في وانسي ضاحية برلين الجميلة في العشرين من كانون ثاني عام 1942م ، وقد لعبت الوقائع المدونة لهذا الاجتماع دوراً مهماً في بعض المحاكمات الأخيرة التي أقيمت في نورمبرغ ، وعلى الرغم من النكسات الراهنة التي منيت بها القوات المسلحة الألمانية في روسيا فقد اعتقد الموظفون النازيون أن بلادهم قد كسبت الحرب وأن ألمانيا ستتحكم عما قريب في جميع انحاء أوربا بما فيها انكلترا وإيرلندا ، ولهذا فقد أبلغ هايدريش هذا المؤتمر الذي ضم نحواً من خمسة عشر موظفاً من كبار الموظفين أن نحو من أحد عشر مليوناً من اليهود سوف يشملهم الحل النهائي للمشكلة اليهودية في أوربا )) ( 11 ) هذه الأجواء هي التي فرخت السلاح النووي الإسرائيلي قبل أن يولد في صحراء النقب ، فأفران الغاز في آوسشفيتز هي التي قادت إلى أفران المفاعل النووي في ديمونا . ولكن جرت العادة أن العقل يتعطل عن التفكير في الرعب الشديد والحزن الشديد وهذا ماحصل للعقل اليهودي المعاصر المحاصر بذكريات الإعدام الجماعي وغرف الموت بالغاز !! ****************************** لم يمر اجتماع ( المدراشا ) بدون معارضة سواء أخلاقية أم تقنية ، خاصة من أولئك الذين عاشوا ( الهولوكوست ) فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك ؟! وقد صدرت عدة أفكار معوقة لفكرة الانطلاق النووي ، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول ( بلغت 15000 دكتوراة ) وأفضل الأيدي الماهرة ، وزبدة الصناعات ، وجبلاً من الدولارات ، ثم في سبيل سلاح لن يستخدم ؟؟ هل هناك حماقة أكبر من هذا ؟! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ورقة تقدم بها دماغ مهم هو ( بنيامين بلومبرغ ) تفيد أن العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاماً ، كما ورد عائق تقني آخر برز في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي فضلاً عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية . لذا انتهى الاجتماع على ثلاث خيارات بين متابعة البحث العلمي ، وإيجاد قطع تجميع السلاح ، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم ؟؟ وهذا الذي كان . ************************* بدأ حفارو القبور النوويين بالعمل الصامت في إزاحة مئات الأطنان من التربة في صحراء النقب لايراهم إلا الغربان في السماء ، وحشرات النهار وأفاعي الليل البهيم ، يبنون طبقاً تحت طبق حتى بلغت ثمانية . كانت التقنية الفرنسية تصب عصارة فكرها وأحدث تقنياتها ، وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة ( يو - 2 ) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس ، ولكن الإدارة الأمريكية كانت بين من يغض الطرف ومشجع ومتذمر إلا أنه لم يكن هناك أمر لإيقاف هذه العمل أو التأكد منه بجدية . وفي عام 1986 روى رجل اسمه ( فانونو ) كان يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل ( ديمونا ) وزعم أن عنده صوراً التقطها بنفسه ( 57 صورة ملونة ) لكل أجزاء المفاعل ، عندها ادرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطاً بعيدة في إنتاج السلاح النووي ، وكلف هذا فانونو أن تصطاده الموساد في لندن ويحكم بالسجن لمدة 18 عاماً . وفي عام 1991 نشرت مجلة الشبيجل الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ ( الرحم النووي ) في ديمونا . بعد الهجوم الثلاثي على مصر وانسحاب إسرائيل من سينا ، قايضت فرنسا قبول إسرائيل بقبول الانسحاب مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل ( ماركول ) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي الرون . وبدأ المشروع يغلفه السرية والصمت المطبقين . وفي أوائل عام 1968 بدأ إنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كغ اسبوعياً ، وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج مالايقل عن خمس قنابل نووية سنوياً وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى . ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت اسرائيل في مطلع عام 1970 مالايقل عن عشرين رأس نووي ، وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي ، ثم مشى التطوير في نفس بانوراما القوة الدولية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة سواء في اتجاه التكبير أو التصغير . وكما كان المفاعل يبنى تحت الأرض ، كان هناك وفي نفق آخر في منطقة ( هربات زكريا ) وبمساعدة تقنية فرنسية ( شركة داسو ) يتم تطوير نظام الصواريخ (( ذهل يغال ألون لما رآها وصرخ : كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وهاهي اسرائيل تبني صواريخ نووية ، إننا شعب عظيم ، لقد انبعثنا أحياء بعد أن كنا أمواتاً ، في جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين . إننا سبارطة عصرنا )) ( 12 ) هل ماقاله يغال ألون صحيحاً ؟؟ في الواقع لقد تحول داوود إلى جوليات المدرع بعد مرور ثلاثة آلاف سنة !! ************************* وفي الوقت الذي كانت الرؤوس النووية تنضج في إسرائيل لتحمل من النقب إلى حيفا حيث تركب تهيأة ليوم الفصل ؛ يوم شمشون الجبار ، كان العالم يمضي في طريق القوة بكل عنف ، وإذا أردنا أن نأخذ بانوراما للاستراتيجية النووية الجديدة ، فإنها تبدأ مع قنبلة هيروشيما ، حيث تم إلقاء قنبلة انشطارية من قوة ( 15 ) كيلو طن ، أي ( 15 ) ألف طن من مادة ت . ن . ت شديدة الانفجار ويمكن تقسيم رحلة الصعود النووي إلى المراحل التالية : 1 - كانت البداية مع السلاح الانشطاري بشكليه ( اليورانيوم ) و ( البلوتونيوم ) ، ويتم استخلاص اليورانيوم ( 235 ) من خام اليورانيوم ( 238 ) إلا أن البلوتونيوم ( 239 ) هو تركيبي وتم الوصول إليه من خلال المفاعل النووي الذي نجح في إنشائه للمرة الأولى الإيطالي ( انريكو فيرمي ) والقنبلة التي أُلقيت على هيروشيما كانت قنبلة يورانيوم ( 235 ) ( سميت الولد الصغير وحجمها بقدر اسطوانة الغاز الكبيرة ) وبدون تجريب ، في حين أن قنبلة ناغازاكي كانت قنبلة البلوتونيوم ( 239 ) وأخذت اسم ( الرجل السمين ) بسبب انتفاخها ، وبلغ وزنها 2 طن واختلفت تقنيتها تماماً عن قنبلة الولد الصغير ، وهي التي جربت في صحراء نيو مكسيكو ، في منطقة ( ألاموجوردو ) وأعطيت لقب ( ترينتي ) أي الثالوث المقدس !! وكانت القدرة التدميرية لاتزيد عن عشرين ألف طن من مادة الـ ت . ن . ت . لكلا القنبلتين ، ومع تركيب المفاعل النووي أصبح هذا ( التنور ) يخرج من ( الأرغفة النووية ) مايشاء !! فلاغرابة أن أصبح مخزون الدولتين العظميين مايزيد عن خمسين ألف رأس نووي تكفي لتدمير الكوكب الأرضي عدة مرات !! 2 _ مشى التسارع بعد ذلك في اتجاه زيادة القدرة التفجيرية بعد أن وصل الاتحاد السوفيتي إلى تفجير قنبلته الانشطارية الأولى عام 1949 وأعطاها لقب ( جو 1 ) نسبة إلى جوزيف ستالين ، فجُن جنون البنتاغون واستدعوا ( ادوارد تيللر ) للمضي في مشروع جهنمي كبير لاتعتبر القنبلة الانشطارية أمامه بشيء ، في الحين الذي تم استدعاء الرأس العلمي ( روبرت اوبنهايمر ) للتحقيق تحت شبهة تهريب المعلومات النووية للسوفيت وتهمة الجاسوسية . وفي آذار من عام 1954 تم تفجير قنبلة بقوة 18 ميجاطن ( أقوى من قنبله هيروشيما بألف مرة !! ) فقنبلة هيروشيما متواضعة جداً فهي من عيار ( 18 ) كيلو طن أي ألف طن ، أما هذه فهي من عيار ( مليون طن ) من المادة المتفجرة ، كان بإمكان هذه القنبلة الجديدة مسح عاصمة عالمية من خريطة الوجود ، مثل دلهي أو طوكيو إلى درجة إصابة الناس بأشد انواع الحروق ( درجة ثالثة ) حتى بعد 45 كم من مركز الانفجار ؟! وتُوج تصعيد التفجير في عام 1958 بتفجير قنبلة سوفييتية من عيار 58 ميجاطن أي أقوى من قنبلة هيروشيما ب( 3800 ) مرة !! وفكر البنتاغون بمشروع أشد هولاً ( تفجير قنبلة بعيار 100 ميجاطن ) ، ولكن الطرفان شعرا أنهما يمضيان في طريق الجنون المطبق !! 3 - في المرحلة الثالثة تم الوصول لما اعتبروه قنبلة نظيفة وماهي بنظيفة ( القنبلة الشعاعية النيوترونية ) حيث يمكن الفتك بالوحدات العسكرية ( البشر ) دون المعدات والأبنية والمنازل لإنها أثمن من الإنسان !! 4 - في المرحلة الرابعة بدأوا في اتجاه تصغير القنبلة فبدلاً من الكيلو طن ؛ ليكن عُشر الكيلو وهكذا تم انتاج قنابل من عيار 30 - 100 طن من المادة المتفجرة ، وبذلك بدأ السلاح الناري العادي والنووي في الاقتراب من بعضهما ، أي بروز السلاح النووي التكتيكي ، ويمكن لهذه ( التفاحات ) الصغيرة أن تُقذف بمدافع الميدان المخصصة لها ، وظن الاستراتيجيون أنهم اكتشفوا البديل ولكن باتصال العالم النووي بالعالم العادي ، بدا العالم العادي التقليدي مهددا بالزعزعة ، فأي نزاع يتطور عبر الأسلحة ( التقليدية ) يمكن أن يتزحلق إلى استخدام ( بدايات ) السلاح النووي ( التكتيكي ) ليصل في النهاية إلى السلاح النووي ( الاستراتيجي ) تحت مبدأ ( التصاعد الآلي ) الذي أشار إليه المنظر والخبير الاستراتيجي النووي الجنرال ( بيير غالوا ) ( 13 ) 5 - كانت الحاجة ماسة إلى ( نظام نقل ) للرأس النووي ، لذا قام الروس الذين استفادوا من خبرات نظام الصواريخ الألماني في ألمانيا الشرقية التي وقعت تحت سيطرتهم ، والتي كان قدوضع هتلر فيها مراكز أبحاثه بعيداً عن قاذفات الحلفاء ، في تطوير نظام القاذفات الاستراتيجية وأهم منها النظام الصاروخي ، ومع إرسال ( اسبوتنيك ) الأول عام 1957م والذي يحمل القمر الصناعي الروسي أصبح بالأمكان حمل رأس نووي بدلاً من قمر صناعي !! وحمي الوطيس في تطوير الصواريخ العابرة للقارات ، وفي النهاية أمكن وضع جهاز هجومي يمكن أن يصل إلى أي مكان في الكرة الأرضية خلال دقائق !! فالغواصات النووية السوفيتية الرابضة في قيعان المحيط الهادي والاطلنطي كان يمكن أن تصل إلى أي هدف في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة أقصاها 4 - 6 دقائق . 6 - كان التكتيك الأول هو ( الهجوم ) فتحول إلى ( الدفاع ) ثم بطل كلاهما وشرح ذلك كما يلي : ففي الهجوم يمكن تحقيق الضربة الاستباقية وإبادة الخصم ، ولكنن تبين أنه مع السلاح النووي يمكن للخصم المضروب ، أن ينتقم وهو يغرغر في سكرات الموت النووي بما تبقى عنده من صواريخ ليأخذ معه إلى الدمار النووي خصمه المهاجم ، كذلك بدأ الخوف من احتمال الخطأ كما لو شعر أحد الطرفين وبخطأ من خلل راداري أن هناك هجوما ً عليه ، مما يجعله يحرك صواريخه التي لن يستطيع سحبها كما في القاذفات الاسترتيجية التي يمكن أن ترجع إلى قواعدها ، فالصواريخ حققت السرعة الخيالية ولكنها إذا ضربت لن تسحب ، فبرزت عقيدة ( الانتظار النووي ) للتأكد من الهجوم الصاروخي النووي ، حتى يتم الرد عليه كي يذهب الاثنان إلى الفناء النووي !! ولكن بأربعة شروط : 1 - الصواريخ المضادة المحمية 2 - التمكن من اختراقات العدو المهاجم 3 - الكمية الكافية 4 - العمل الآلي . ومن أجل تأمين حماية الصواريخ تم تطوير ثلاثة أنظمة الأول : ( السيلو ) أي الفتحة المختبئة في الأرض فلا ترى ، وليس هذا فقط بل خرسانة مسلحة لسبعين متر ويزيد تحيط بالصاروخ النووي ، بحيث لاتؤثر فيه حتى الزلازل ، ولذا وجب على الصاروخ المهاجم أن يضرب فوهة ( البئر ) النووي المختبيء في الأرض وبقنبلة هيدرجينية ، حتى يمكن تعطيل أسلحة الهجوم عند الخصم ، ومن هنا ندرك عمق كلام ( شينتارو ايشيهارا ) الياباني الذي كشف النقاب في كتابه ( اليابان الذي يستطيع قول لا لأمريكا ) حين أشار إلى علاقة دقة تصويب الصواريخ بالكمبيوترات التي تصنع في اليابان . الثاني : المنصات المتحركة والثالث المحمول في الغواصات النووية . ومن خلال هذا الاستعراض السريع الذي كتب فيه الاختصاصيون كتباً وأفنوا اعمارهم يمكن عرض حزمة الأفكار التالية : 1 - الفكرة الأولى تقول : إن علينا استيعاب العصر الذي نعيش فيه ، وبالتالي فهم الاستراتيجية النووية ، ورحلة القوة النووية . وأن العصر ( الحراري النووي ) هو عصر جديد مختلف كلية ولم يعد عصر الكهف والهراوة ، ولا عصر المدفع والبارجة ، والذي تفطن لهذا هم العلماء ولا السياسيون ، لإن كثيراً من السياسيين لايرون أبعد من أرنبة انفهم ، وهو ماانتبه إليه غورباتشوف في كتابه ( البيروستريكا ) فطرح فكرة ( الانتحار النووي ) فلم يعد الأمر بحاجة إلى أن أُهاجِم أو أُهاجَم يكفي أن أفجر أسلحتي النووية فوق رأسي كي يتلوث سطح الكرة الأرضية وأن تدمر الحياة ، وإن في قصة ( شيرنوبيل ) لعظة . وهكذا أبطلت القوة القوة وبدأ الإنسان يضع قدمه في أول طريق السلام التاريخي ، وهكذا رأت أعين الجنس البشري وللمرة الأولى توقف الحرب بين الذين يملكون ( المعرفة ) سواء امتلكوا السلاح أو فقدوه ، وأصبح الذين يملكون المعرفة بالتالي يتحكمون في مصير الحروب ، وأصبحت الحروب أساليب العاجزين ، عجزاً عن السيطرة عليها والتمكن من خاتمتها . 2 - الفكرة الثانية تقول : أصبح السلاح النووي مثل ( الصنم ) الذي لايضر أو ينفع ، فالناس يعظمونه ويهابونه ، وهو سلاح ليس للاستخدام ، ثبت هذا في أحلك الظروف وأكثرها احتياجاً ، مثل حرب ( كوريا ) و ( فيتنام ) ، وماحدث مع بني إسرائيل في هذا الصنم هو ماحدث مع السامري الذي أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى !! 3 - الفكرة الثالثة تقول : أن المضي في رحلة التسلح ستنتهي بالإفلاس والارتهان للآخرين كما حدث مع الاتحاد السوفيتي الذي يفكك سلاحه الذري ، ويبيع البلوتونيوم ، ويصدر علماء الذرة ، وأن الذي طلَّق القوة هو الذي يبني المستقبل ويكتسح الأسواق كما في نموذج اليابان . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : إن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال ( معركة حضارية ) ، فالانتاج النووي يحتاج لقاعدة تكنولوجية علمية متقدمة ، وهزيمة الجيوش العربية المتكرر أمام اسرائيل هي هزيمة الشرق أمام الغرب المتفوق تكنولوجياً ، لإن إنجاز اسرائيل وعقول اسرائيل هي غربية كانت ومازالت ، وليست اسرائيل أكثر من امتداد ( جيب ) غربي للمنطقة . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : إن مشكلة العالم العربي هي ليست اسرائيل بالدرجة الأولى فهي ليست أكثر من ( ميزان حرارة ) لكشف حرارة الجسم العربي المعتل ، ومايخيف أكثر من الخراج الإسرائيلي وسلاح شمشون هو النزاع العربي العربي ، وفي اللحظة التي يشعر فيها الغرب أن العالم العربي نهض كما نهض الصين فسوف يتخلى عن فورموزا الشرق الوسط . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إذا كانت هذه الأسلحة هي الأصنام الجديدة فلماذا تنتج ؟ هل يجهلون أنها لاتضر ولاتنفع ؟ أغلب الظن أنهم يعرفون كل أبعاد اللعبة ، ولكن الذي لايعرف ينقلب إلى الأشياء المسخرة ، والذي يعرف قانون تسخير الأشياء هو الذي يتسخر له الكون أشياؤه وأناسيه يقول المفكر ( فؤاد زكريا ) في كتابه ( خطاب إلى العقل العربي ) : (( ويظل بعد ذلك سؤال محير هل هم يجهلون هذا ؟ أغلب الظن أنهم لايجهلون ، وإنهم على وعي بأن الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة ( عقلياً ) ، مادامت تؤدي إلى عكس المقصود منها ، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر ، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب الحرب ، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة ، أما إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب فسوف يكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه ، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج ( لعب ) مميتة لن يستخدمها أحد . وأغلب الظن أن هذا بعينه هو المقصود : فأسلحة الدمار الشامل تنتج من أجل الإنتاج ، لامن أجل الاستخدام ، لإن الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد ، أما الاستخدام فسيكون الجميع خاسرين ، ومن هنا كان واجبنا نحن شعوب العالم الثالث أن نحدد موقفنا من هذه المسألة مادمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة ، لإننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسية من حقائق الكون) (14) الهوامش والمراجع : ( 1 ) ( المدراشا ) مجمع الموساد ( الاستخبارات الاسرائيلية ) جنوب تل أبيب ( 2 ) ( الفانن زي _ WANNENSEE _ ) بحيرة برلين وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية لاستئصال اليهود من العالم ( 3 ) ( تيطس ) القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م ( 4 ) الهولوكوست أصبح تعبيراً معروفاً عن محرقة اليهود في التاريخ وبخاصة معسكرات الإبادة النازية ( 5 ) في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الاسرائيليين قال لهم : إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة وأنها ثانياً لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل وثالثاً يعرف الاتحاد السوفييتي ذلك . راجع سيمور هيرش \ خيار شمشون مكتبة بيسان ص 140 ( 6 ) يراجع في هذا كتاب ( سجناء العالم الذري ) الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم ( اوبنهايمر ) الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم ( ايرفين ) والحقيقي في مشروع ( مانهاتن ) هو ( روبرت ) من أن الألمان انتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان !! ولم يثبت هذا تاريخياً ( 7 ) سفر القضاة - العهد القديم ص 408 - 409 وقصة الماسادا انتحر فيها 900 من اليهود المحاصرين دفعة واحدة أثناء هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيطس عام 73 بعد الميلاد ( 8 ) ( هملر ) رئيس الجستابو الاستخبارات النازية و ( هايدريش ) مساعده الأيمن و ( أوزفالد بول ) الحاكم النازي البولندي وأحد الرؤوس الإجرامية في الحرب العالمية الثانية ، كانت نتيجة الثلاثة بالانتحار للأول والاغتيال للثاني والشنق للثالث راجع تاريخ ألمانيا الهتلرية - وليم شيرر - الجزء الرابع ص 52 ، وأما العلماء الثلاثة اليهود المذكورين فهم الرؤوس العلمية التي تسلمت رئاسة المشروع النووي بالتالي ( 9 ) استخدمت الكلمة الألمانية بالضبط ( تنظيف ) = SAUEBERUNG ) وهناك من فلول النازيين اليوم من نسمع خبر إحراقهم للأجانب كما هي في حادثة إحراق العائلة التركية أخيراً في ألمانيا !! ( 10 ) تاريخ ألمانيا الهتلرية جزء 4 ص 63 ( 11 ) شركة ( سان غوبان ) الفرنسية هي التي بنت المفاعل النووي الاسرائيلي بقوة 24 ميجا واط ، وكان يعمل بقوة أربع إلى خمس أضعاف طاقته أي حتى 120 ميجاواط أما شركة ( داسو ) فقد بنت لهم نظام الصواريخ _ راجع كتاب سيمور هيرش \ خيار شمشون ( 12 ) سيمور هيرش ص 138 ( 13 ) كتاب استراتيجية العصر النووي - الجنرال بيير غالوا \ ترجمة اللواء الركن محمد سميح السيد \ دار طلاس \ ص 10 .( 14 ) عن كتاب ( خطاب إلى العقل العربي ) - فؤاد زكريا - كتاب العربي - ص 164 .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram