- - -

النسبية تفتح الطريق للمشروع النووي
كتب ( آينشتاين EINSTEIN ) أبو ( النسبية ) عن الأناس الفعَّالين يقول : (( إن معرفة الحقيقة مرةً واحدة لاتكفي ، والأهم منها هو المحافظة عليها بعناد كي لاتتعرض للضياع وتطويرها باستمرار فتبقى حيةً ناميةً بالتجديد الدائم . إن الحقيقة تشبه تمثال الرخام المنتصب في الصحراء ، مُهَدَدَّاً في كل لحظة بالدفن في لجة التراب ، بفعل عواصف الرمل المتربصة بها . الأيدي النشيطة التي لاتعرف الكلل ، والتي تمسح التراب عن التمثال بشكل متواصل ، هي التي تبقيه متألقاً تحت ضوء الشمس ))(1). وإذا كان آينشتاين (2) قد تكلم في معرفة ( الحقيقة ) فإن فيلسوف التنوير من القرن الثامن عشر ( ليسنغ LESSING) تكلم عن ( البحث عن الحقيقة ) فقال : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ؟ إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) ( 3 ) ، ففي هذا الجو النهم للمعرفة ولدت النظرية النسبية فما هي هذه النظرية التي قلبت المفاهيم وماهي ذيولها الفلسفية ؟ لنستمع إلى القصة المثيرة . سألني الدكتور ( ط ) وهو يحدقني بنظراته التي تشع ذكاءاً كالعادة : لك عندي مجموعة من الاستفسارات !! ومضى الليل إلى منتصفه ونحن يخوض في فضاءات معرفية مختلفة ، ونبحث بنهم مع آخرين في اختراقات المعرفة الجديدة ، ولكنه وقف أمام سؤال ليقول : أريد تعليقاً شافياً لقضية ( الجن والمس ) فماذا في جعبتك عنها ؟؟! كان جوابي على هذه المسألة متعدد المحاور ولكنني بدأتها بالفكرة التالية : أريد أن أخبركم أولاً أن ماأنجزه العقل البشري حتى الآن عجزت عنه الجن والمردة ( 4 ) انظروا إلى شاشة التلفزيون هذه أمامكم ، التي لم يحلم الإنسان فيها إلا من خلال أسطورة ( سندباد والجن الأزرق ) ، حيث نرى الساحر وهو ( يعزِّم ) على الكرة الزجاجية ليرى من خلالها الأحداث البعيدة ، إن هذا الجهاز ينقل لكم أحداث العالم كلها وبسرعة الضوء ، ماذا تقولون لو جاء رجل من الماضي قبل ألف سنة ثم دخل هذه الخيمة الآن ليرى هذه الشاشة _ وفي هذه اللحظة كان الفريق الأهلي يدخل هدفاً مما جعل معظم الحضور يصيحون صوتاً واحداً جول .. جول !! _ وعندما اختنقت كلماتي تحت هتاف الحماس لـ ( الكورة ) _ التي احترم قطعاً المتحمسين لها ، بدون إدراك سر الحماس فيها إلى درجة الاقتتال _ انتبه الدكتور ( هـ ) إلى أهمية الفكرة فهتف صائحاً : كان سيصاب بما يشبه الجنون !! . وتابعت البحث في محور ثاني ، فهناك قصة جميلة من ( القرآن ) تنقلنا إلى إدراك الفرق بين عمل ( الجن ) وأهل ( العلم ) وهي قصة تحمل طيفاً من المعاني الرائعة ، وهي قصة ( سليمان والهدهد والعرش والجن والصرح ) ( 5 ) ولكن قبل الدخول في القصة والتي أشارت إلى ( سرعات ) غير عادية نتساءل في ( عالم السرعات ) ماهي السرعات التي تنطلق بها الحيوانات أو الآلات أو حتى الأمواج ؟ هل هناك حدود قصوى للسرعة لايمكن تجاوزها ؟ وإذا كانت هناك سرعات قصوى فمن هو هذا الكائن الذي يحقق مثل هذه السرعة ؟ ثم كم هو مقدار هذه السرعة ؟ ثم هل أمكن قياس مثل هذه السرعات الخارقة مثلاً ؟ هذه الأسئلة ونظائرها تمثل أرقاً فلسفياً قديماً ، استطاع العلم الحديث أن يحل بعض ألغازه ، ويفك شيئاً من أسراره ، وكان ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ، وكان هذا الكشف مدعاة لانبثاق نظرية هزت العالم ، وقوضت بنيان العالم الفيزيائي القديم ، وطوحت بنظريات أساسية حافظت على صلابتها لقرون بل آلاف السنوات ، فأما النظرية الجديدة فهي ( النسبية _ RELATIVITY THEORY _ ) وأما التي تهاوت فكانت فكرة الزمان والمكان لـ ( نيوتن وأقليدس ) . في عام 1907 تقدم إلى جامعة برن في سويسرا شاب يبلغ من العمر 26 عاماً ، خجول الوجه ، قليل الكلمات ، بسيط الملابس ، يبدو عليه فقر الحال ، ببحث غريب لايثير الانتباه في ( الديناميكيا الكهربية للجسم المتحرك ) . كان عنوان البحث لايبعث على التفاؤل إلى درجة أن الذي قُدم إليه رفض طلب الفتى وصرفه من وجهه !! وكان هذا البحث المرفوض هو خلاصة الثورة الفيزيائية الحالية والتي عرفت فيما بعد بـ ( النظرية النسبية الخاصة ) ، وعندما بدأ البحث تنتشر رائحته عمدت جريدة نمساوية إلى القول بظهور مشعوذ يدعي إمكانية ( انضغاط الزمن ) بـ ( حيلة رياضية ) فيمكن أن تكون الساعةُ ساعةً ، ويمكن أن لاتكون كذلك ، ويمكن أن يكون الزمن في مكان دونه في مكان آخر ؟! فالزمن لايتدفق بنفس السوية في كل الكون ، بل قد يكون الماضي حاضراً لآخرين والمستقبل ماضياً عند مجموعة ثانية ، لإن الزمن هو ترابط الحوادث ، المرتبطة بدورها بعامل السرعة ؟! ومع زيادة السرعة يتباطيء الزمن حتى التوقف عندما تبلغ السرعة سرعة الضوء ( 6 ) إن سرعة الإنسان سخيفة حتى في مستوى عدَّاء ( الماراتون ) الشهير ( فيديبيدس ) الذي ركض ( 224 كم ) بين مدينتي ( ماراتون ) واسبرطة القديمة للتحذير من الاجتياح الفارسي الوشيك لبلاد اليونان فهو لايزيد عن 15 - 20 كم \ ساعة ، في حين أن سرعة الحصان لاتزيد عن 70 كم \ ساعة ، ويبدو أن الفهد البري هو أسرع الحيوانات قاطبة إذ تعقب المكتشف الأمريكي ( روي تشابمان آندروز ) فهداً هندياً قريباً من نيبال بسيارته وبقي يزيد في السرعة فلم يستطع اللحاق به ولم يتعب الفهد الرشيق ، وربما بلغت سرعته حوالي 120 كم \ ساعة ، وتبقى الطيور هي المتفوقة بين كل كائنات الكرة الرضية فهناك مجموعة من الطيور تصل سرعتها حتى قريبا ً من سرعة الطائرات ( مايزيد عن 350 كم \ ساعة)(طير الفرقاطة) ، ويعتبر سمك (أبو سيف) أسرع الكائنات البحرية إذ يصل في سرعته حتى حوالي 100 كم في الساعة ، إلا أن القرآن يفتح عيوننا على ( سرعات ) تتفتح لها ( الشهية العلمية ) تماماً ، تقوم بها ثلاث كائنات واعية هي ( الملائكة ) التي يكشف القرآن النقاب فيها عن سرعة الضوء ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) ، كما يشير القرآن إلى اختلاف الزمان بين مكان وآخر ، فـ ( اليوم = الزمن ) هو في مكان ( خمسين ألف سنة ) ولكنه في مكان آخر ( ألف سنة ) من الزمن الذي نتعامل به ( مما تعدون) (7) ، و ( الجن ) محدودي السرعة بعدة مئات من الكيلومترات في الساعة ، وكائنات عندها (إمكانيات علمية) لها سرعة الضوء بل وإمكانية نقل المواد على الطريقة التي عرضت في فيلم ( الهرب ضد الزمن - RUNNING AGAINST THE TIME - ) ( 8 ) حيث تم تكثيف المواد سواء الفيزيائية أو البيولوجية من خلال ( داتا = وحدات معلومات ) رهيبة ونقلها عبر الزمن إلى زمن آخر . وبالطبع فإن الفيلم الأخير هو من أفلام الخيال العلمي لاأكثر ، ولكن الإنجازات الإنسانية العظيمة جاءت كلها من خيالات ، وصاحبنا ( آينشتاين ) جاءت نظرية ( النسبية ) عنده من خياله وهو طفل (أن يركب شعاع الضوء). إن القصة وترميزاتها بين ( سليمان والهدهد والعرش والصرح ) تنعش العقل بإمكانيات لم يصل لها حلم الإنسان ، بل وحتى كل التصورات العلمية الحديثة ، باعتبار أن سرعة الضوء ثابتة لاتتغير كما لايمكن تجاوزها ، شرحت متابعاً المحور الثاني في حديثي ، كان السباق بين ( عفريت ) من الجن يريد إحضار العرش في مدى ساعات ( قبل أن تقوم من مقامك ) وبين من يملك إمكانية ( علمية ) ( عنده علم من الكتاب ) والذي عرض خدماته في إحضار العرش بسرعة الضوء ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) ، وأنا في حديثي هذا أنحو مع المفكر ( فؤاد زكريا ) إلى الحذر من قصة ( إقحام الآية في كشف علمي ) ( 9 ) ولكنني أميل إلى ماطرحه المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) عن ( القرآن ليس كتاباً علمياً ولكنه يخلق المناخ العلمي لتفتح الأفكار الرائدة ، وفي صفحاته إشارات خفية لحقائق علمية مذهلة ) ( 10 ) . كانت إذاً إمكانية ( الجني ) في سرعةٍ وصل إليها الإنسان بل ( تجاوزها ) في الوقت الراهن ، فهو أحضر حمولة بسيطة ( العرش ) وخلال ساعات ، والبشر اليوم يرسلون الصواريخ التي تخترق الجاذبية الأرضية بسرعة تجاوزت 12 ألف كم \ ساعة ، ولكن الإمكانيات البشرية لم تصل حتى اليوم إلى قدرة ذلك الذي عنده ( علم من الكتاب ) . لم تصل إلى مستوى عمله مرتين : ( الأولى ) لم تصل إلى سرعته ؛ لإنها سرعة الضوء ، لإن ( النسبية ) تضع ( استحالة ) في الوقت الراهن أمام الوصول إليها ، و( الثانية ) إمكانية نقل أي شيء عبر هذه السرعة التي تمثل أعظم سرعة في الوجود حيث يتحول من يصل إليها إلى ( كتلة لانهائية ) ويستهلك من الطاقة ( طاقة لانهائية ) وينضغط في ( الطول ) وينكمش إلى الصفر ، كما يتوقف ( الزمن ) عند ذلك !! بل إذا زادت السرعة عن سرعة الضوء انقلبت الأحداث بشكل معكوس فيقوم الأموات من القبور ، وتلد البنت أمها !! إنني أريد التنويه في بحثي قبل الغوص فيه إلى أحشاءه من أجل استعراض التركيب ( التشريحي ) له ثم ( الفيزيولوجي ) ، إلى أن هذا البحث لم يكتب لفيزيائي الكون ، أو الهندسة الذرية ، كما لم يكتب للمتبحرين في الفلك ، أو الغارقين في الرياضيات ، ففي جعبتهم مايجعل مثلهم لايستفيد من مثلي _ وإن كان البحث يهمهم ويستهويهم _ ، هذه المقالة وضعت لنفسها هدف مخاطبة القاريء العادي بغية ( التثقيف ) وأخذ بانوراما الأحداث العالمية الضخمة ، والتحولات المصيرية ، والأفكار المفصلية ( البنيوية ) ، لإننا سنرى بعد قليل الذيول الفلسفية لهذا ( العلم ) الذي جاء به ( الكتاب ) من أجل اكتشاف قوانا الداخلية الخفية المودعة ، كي نعمل في الحقل المفيد ، وليس الحقل الأسطوري الخلاب والمريح والسالب لنظرية ( الجهد الإنساني ) . تابعت الحديث في خط محوري ثالث ، وفي ( الحقل المفيد ) في فكرة ( إن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلاً خارقاً للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر ) ( 11 ) ففلسفة القرآن كلها تقوم على ( عدم ) اعتماد المعجزة أسلوباً للأقناع ، وإذا كانت ( هموم ) أهل قريش منحصرة في أن يصبح بيته من ( زخرف ) أو تتنزل الكتب من السماء ، أو أن تتدفق الأرض بالماء إلى آخر الطموحات الصبيانية ، فإن القرآن اعتمد سياقاً واضحاً من أجل تحرير العقل الإنساني من الخرافة ، فلا يتعلم السحر فهو قريب من الكفر ( فلا تكفر ) ، ويتجنب نصائح الكهان ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما انزل على محمد ) ، وأن لايتصل بالجن لإن لهم عالمهم الخاص بهم ( وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ) ، وهو بهذا قطع أصل شجرة ( الحقل غير المفيد ) وغير العلمي ، وتحرير البشر من سلطان البشر . ورفع الإنسان إلى مستوى العلم الذي به يرتفع بغير حدود ، وبه يتحرر ، وبه يمتلك القوة الفعلية . ومضيت في شرح المحور الرابع وصديقي الدكتور يصغي بشغف المفكرين وتواضع العلماء : وإذا كان المجدي هو اتجاه ( العقل و ( العلم ) وتوديع ( الهوى ) و ( الظن ) ؛ فإن العلم يروي لنا أعظم قصة من الثورات العلمية التي دشنها الإنسان في قصة النسبية وسرعة الضوء ، لإنه لم يكن لهذه النظرية ان تشق الطريق لولا توديع الفكر ( العتيق ) ( 12 ) ، والعميق والرائع في النظرية النسبية والانقلابي ، هو عطشه العميق لاكتشاف العلاقات الكبرى بين قوانين الوجود ، وهكذا استطاعت النسبية أن تدمج المكان بالزمان ، ليتحول مفهوم ( الزمن ) إلى البعد الرابع ، وتتحول علاقة الزمان - المكان إلى كينونة واحدة ، وليدمج بين الطاقة والمادة ، فتتحول كل منهما إلى الأخرى وفق معادلة صغيرة ، لم يعد هناك زمن مطلق كما اعتبرته الفيزياء التقليدية ، كما نُسف مفهوم المكان المطلق ، لذا لاغرابة أن اعتبرته ( أي آينشتاين ) المجلة النمساوية ؛ مشعوذاً يريد أن يثبت تغير الزمن بحيل رياضية . ولكن كيف يمكن فهم تغير الزمن ؟ هل اليوم مثلاً في كوكب آخر هو غير اليوم على الأرض ؟ الجواب نعم فإن ( سنة ) الكوكب عطارد هي 88 يوماً ، ويومه قريب من ذلك ، فلافرق بين اليوم والسنة على ظهره ، فهو يدور حول نفسه بقدر دورانه حول الشمس ( 13 ) في حين أن سنة الكوكب ( بلوتو ) 238 سنة ( مما نعد نحن ) ثم أن الزمن يتعلق بالسرعة ، فالسرعة تضغط الزمن ، فكلما ازدادت السرعة انضغط الزمن أكثر ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء ، وهي مستحيلة لأي سرعة غير سرعة الضوء حسب معطيات العلم الحالي ، توقف الزمن !! . جاء في كتاب آينشتاين والنظرية النسبية للدكتور محمدعبد الرحمن مرحبا : (( ويستتبع القول بالزمان المحلي نتائج يصعب على العقل قبولها . إذ أنه لما كان هذا الزمن يتناول جسم الإنسان كله فيمكننا أن نستنتج أن الشخص المتحرك حركة بطيئة ( يشيخ ) قبل الشخص المتحرك حركة سريعة . بل إن الشخص الذي يتحرك بسرعة النور يعيش خارج الزمن ، أي لايشيخ أبداً . وكيما نوضح ذلك بطريقة محسوسة ونصور التحول العظيم الذي طرأ على علم الفيزياء نقتبس المثل الآتي من ( لونجفين ) ( 14 ) فقد تخيل هذا العالم رحالة فلكياً غادر الأرض بسرعة تساوي 1\ 20000 من سرعة الضوء ، وقفز في المستقبل قفزة إلى الأمام ليرى ماتكون عليه الأرض بعد سنتين من سنيه هو ، ولما آب راجعاً إلى مستقره على الأرض وجد أن السنتين اللتين قضاهما عبر الفضاء ذهاباً وإياباً تعدان قرنين من عمر الأرض ، ووجد الأرض آهلة بسكان جدد وعادات جديدة ووجد حضارة لاعهد له بها قبل منطلقه )) ( 15 ). استطاع آينشتاين بومضة عبقرية أن يكتشف علاقات الكون الأساسية ويربطها ببعض ، فالمكان ذو ثلاث أبعاد : طول وعرض وارتفاع ، ولكن الزمن هو بعد رابع ، إلا أننا لانستطيع تصوره بسبب طبيعة تركيب عقولنا ، والمركب ( الزمان - المكان ) مرتبط بدوره مع السرعة ، وأعظم سرعة في هذا الوجود هي سرعة الضوء ، فآينشتاين اعتبر أنه لاشيء ثابت في هذا الوجود إلا سرعة الضوء ، وسرعة الضوء فقط ، وبذلك مسح في أول ضربة نظرية الأثير القديمة ، وأعطى التعليل الراسخ للتجربة التي قام بها عالمان جليلان هما ( ميكلسون ومورلي ) ( 16 ) أجرياها بكل دقة من أجل قياس سرعة الضوء في كل الاتجاهات ، وهكذا فالضوء ينتشر وبسرعة ثابتة ومهما كانت سرعة حركة المصدر ، وتبين أن سرعة الضوء رهيبة ، حيث بلغت ( 300 ) ألف كم \ ثانية ، فلاغرابة إذاً إذا اعتبر ديكارت أن سرعة الضوء غير متناهية ، أو فشل غاليلو في قياس سرعته ، لإنه كان كمن يقيس الكرة الأرضية بالشبر !! وهكذا فالضوء يلف الكرة الأرضية سبع مرات ونصف خلال ثانية واحدة ، فلاغرابة أن نتحدث مع من هم في أقصى الأرض بنفس اللحظة ، كما يصل ضوء القمر في ثانية وثلث فقط ، في حين أن ضوء الشمس يغمر الأرض بعد انطلاقه بثماني دقائق . ونظراً للأبعاد الكونية الشاسعة فقد استخدمت هذه الوحدة في القياس ، فكلمة ( سنة ضوئية ) تعني المسافة التي يقطعها الضوء في مدة سنة كاملة ( أي ستة ملايين مليون ميل أو حوالي 9 مليون مليون كم ) وعلينا أن نعلم أن قطر المجرة اللبنية التي ننتسب إليها هي في حدود 100 ألف سنة ضوئية ، وهي مجرة متواضعة فمجرة المرأة المسلسلة مثلاً يصل إلى 150 ألف سنة ضوئية !! وأقرب مجرة إلينا تبعد حوالي مليونين من السنين الضوئية ، ولأخذ فكرة عن سعة الكون الذي نعيش فيه ، فماعلينا سوى وضع التصور التالي والمنقول عن كتاب الكون لكارل ساغان ( ص 167 ) : في قبضة اليد الواحدة من رمل الشاطيء حوالي عشرة آلاف حبة ، وفي الكون من النجوم ماهو أكثر من كل رمال الشواطيء في بحار الدنيا أجمعين. انطلقت النظرية النسبية من علاقة السرعة بالأشياء الأخرى ، وبذلك سجلت النسبية الخاصة الخطوات الأولى لعلاقة السرعة بالكتلة والزمان والمكان ؟ ماذا يحدث لو زادت السرعة في علاقتها بالكتلة ؟ ترى النسبية أنه مع السرعة يحدث تبدل في ثلاث اتجاهات ( الأول ) تزداد الكتلة و ( الثاني ) هو انضغاط الزمن و ( الثالث ) هو انضغاط الطول ، فإذا زادت السرعة مثلاً لعمود يبلغ طوله مترا حتى بلغت نصف سرعة الضوء انضغط الطول إلى حوالي 86 سم ، فإذا وصل إلى حوالي 90% من سرعة الضوء لم يبقى من المتر إلا 45 سم ، فإذا وصل إلى سرعة 99 % من سرعة الضوء انكمش المتر إلى 14 سم فقط ، فإذا وصلت السرعة إلى سرعة الضوء أصبح الطول صفراً !! ولايشعر بهذا الشيء من هو داخل العملية ، بل يشعر بها المراقب من الخارج فقط ، كما أنها تنطبق على كل شيء في هذا الوجود ، وهذه أمور لايستطيع العقل تصورها ، ولكنها قضايا فجرتها النظرية النسبية ، وبذلك نفهم النسبية ولماذا أخذت هذا الاسم ، فكل مافي الكون في حركة وبسرعة مختلفة ، فالأرض تدور حول نفسها بسرعة ربع ميل في الثانية ، وهي تدور بنفس الوقت حول الشمس بسرعة 5.18 ميل في الثانية ، والشمس وكواكبها سائرة باتجاه نقطة في المجرة بين مجموعة هرقل ( الجاثي ) ومجموعة اللورا وبسرعة 12 ميل في الثانية ، ومجرة الدرب الحليبية التي ننتمي إليها تدور حول نفسها دورة كاملة كل ربع مليار سنة وبسرعة 120 ميل في الثانية ، ومجرتنا تبتعد عن أخواتها المجرات الأخرى بسرعة تصل إلى ( 600 - 40000 ميل في الثانية ) وكل في فلك يسبحون ، لم يبق ثبات لشيء مطلقاً ، فلا الأحجام تبقى أحجاماً ، ولا الأبعاد أو الزمان أو المكان ، فكل مافي الكون هو في حالة ( يزيد في الخلق مايشاء ) و ( كل يوم هو في شأن ) و ( يخلق مالاتعلمون ) ، فالزمان الذي يتدفق مفكك الأوصال في هذا العالم الذي نعيشه ، وتياره الذي يجري مختلف من مكان إلى آخر ، فالزمن في مكان من الكون هو غير الزمن في مكان آخر ، ويتبع هذا تغير كل شيء من الأبعاد والأحجام والأوزان والحركات ، وكل هذا يتبع السرعة التي يتمتع بها الكوكب او المكان الذي يتدفق فيه الزمن ، بل هو حتى في الكرة الأرضية اليوم ليس كالغد ، فبعد خمسة مليارات سنة سيكون يوم الأرض 36 ساعة ، كل هذا بفعل تباطؤ حركة الأرض بفعل الاحتكاك ( 17 ) ، إذاً يبقى فهم العالم ووضعه بشكل نسبي حسب مكان المراقب ، هذا التحول العقلي هو الذي ألهم صاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد أن يقولا أن هناك ثورة في المفاهيم أطاحت بالنظام القديم ، وشقت الطريق إلى فهم جديد للعالم بل رسم معالم حضارة جديدة (18). وأما أهم أمرين فتحت الطريق إليهما النظرية النسبية ، التي بدأت تتأكد مخبرياً ، فهما أولاً : ( نظرية الانفجار العظيم ) في كيفية تشكل الكون الأولي ، وثانياً : ومن خلال معادلة علاقة الطاقة بالمادة الانطلاق في المشروع النووي ، حيث أمكن انتاج طاقة لم يحلم بها حتى ( الجن ) التي أرقت مضجع صديقي الدكتور ، فلأول مرة يضع الإنسان يده على الوقود الكوني !! كان هذا من خلال بحث قام به عالمان هما ( كارل فريدريش فون فايسكر ) والثاني ( هانس بيته ) ، حيث ومن خلال معادلات آينشتاين ، تم الوصول إلى كشف السر عن نوع الوقود الذي يحترق في الشمس وأنه وقود غير تقليدي ، فلو كان مخزون الشمس من الفحم مثلا ً لاستُهلك في مدى 300 عاما ً لايزيد ، ولكنه من نوع القنابل الهيدرجينية ، التي تنفجر بدون توقف ، قاذفةً أحياناً شواظاً من لهب يتجاوز الـ 500 ألف كم خارج الجحيم الشمسي المستعر . كيف لاتنتهي الشمس مع كل ضخامة الوقود الذي تستهلكه . السبب أن الشمس تبلغ في القطر 3.1 مليون كم ، وكتلتها أكبر من الأرض بـ 330 ألف مرة ، وتستهلك في كل ثانية 4 مليون طن من غاز الهيدرجين ، ومع أن مااستهلكته في مدى خمسة مليارات سنة شيء ضخم ، مع هذا عندها من المخزون مايعادل 98% من كتلتها الحالية ، فكتلتها تصل إلى 2 بليون بليون بليون طن ( 19 ) وهذا يثير سؤالاً مهماً مفعماً بالمسؤولية ، عن إمكانية استمرار الحياة لخمس مليارات سنة أخرى على الأقل على الأرض ، والجريمة المروعة في السلاح النووي أو تلوث البيئة حينما تُوقف الحياة عليها بحماقة يرتكبها السياسيون . قادت النسبية إلى إدراك بانوراما جديدة لعلم الكوسمولوجيا ، كيف بدأ ؟ ماهو تركيبه ؟ وأين يتجه ؟ ومع أن آينشتاين نفسه قد أدرك منذ البداية أن المعادلات تقوده إلى عالم ( ديناميكي ) متمدد ، إلا أنه يقول هو نفسه أنه ارتكب اكبر حماقة في حياته ، حينما أراد إمساك المعادلات في قالب ( استاتيكي ) جامد فادخل ماأطلق عليه ( الثابت الكوسمولوجي ) . والذي حدث أن آخرين استخدموا معادلاته ليصلوا بها إلى تصور جديد لشكل الكون (المتوسع) ، وإذا كان الكون يتوسع فهذا يقود بشكل معكوس إلى أنه من قبل كان أصغر ، فإذا مشى التصور مقلوبا ً وصلنا إلى نقطة بدأ منها الكون ، وقد تم الكشف عن ذلك بواسطة ظاهرة ( الزحزحة الحمراء ) بواسطة العالم الفلكي (أدوين هابل) الذي عرف أن كل المجرات تبتعد عن بعضها في سرعة مخيفة ، وتم تحديد عمر الكون من خلال ذلك بين 15 وعشرين مليار سنة ، كما تم تحديد عمر النظام الشمسي الذي ننتسب إليه بحوالي ثماني مليارات من السنين . ولكن نقطة البدء الكوني هي التي تشكل التحدي العقلي الذي لم يحل حتى الان ، حيث تتوقف القوانين الكونية عن العمل ، فلايبقى زمان أو مكان أو طاقة أو مادة أو أي وجود لأي قوانين كونية ، إنها الحقبة ( المتفردة ) التي لايناسبها إلا كلمة الخلق من العدم !!. ومن علاقة الطاقة بالمادة استطاع آينشتاين أن يضع قانوناً بسيطا ً للغاية ، ولكن نتائجه كانت مروعة ، فالطاقة والمادة هما وجهان لحقيقة واحدة ، حتى الضوء هو كتلة مادية ولكنها متناهية في الدقة ، والطاقة تساوي المادة المتحولة ولكن مضروبة في مربع سرعة الضوء ، فإذا عرفنا أن سرعة الضوء 300 ألف كم في الثانية الواحدة كان معنى هذا أن الطاقة تساوي مايعادل 90 مليار من المادة المتحولة ، وهذا يحمل خبرين ( نذيرا وبشيرا ) فهي عالم الوصول إلى الطاقة الرخيصة ، وإذا توفرت الطاقة لم يبق نزاعات إنسانية ، فالبشر لايتخاصمون على ( الهواء ) ولكنهم يتقاتلون على مصادر المياه والبترول ، فإذا حلت مشكلة الطاقة الرخيصة إلى درجة المجان ، ربما حل القسم الأكبرمن المشاكل الإننسانية ، وأما النذير فهي أخبار هيروشيما وناغازاكي !! . وهنا فذلكة في عالم المادة والروح ، فالضوء يبقى محدود السرعة لإنه ( مادة ) ولكن رقيقة للغاية ، أما الروح الإنسانية فعندما غادرت عالم المادة لم تعد سرعة تقيدها ، وهذا ماسيكشف العلم القادم عن أسراره . شيء هام من ذيول الفكرة النسبية لم يتم التاكيد عليه ، وإن تمت الإشارة إليه أحياناً ، وهو معنى روحي كبير وفلسفي ضخم ، ولايقل عن الفتوحات المادية ، وهو علاقة الزمن بمتحولات أخرى دشنتها ( النسبية الخاصة ) بعلاقة الزمن بالسرعة ، ودشنتها ( النسبية العامة ) بعلاقتها بالكتلة فاعتبرت الأولى أن الزمن يتباطؤ كلما ازدادت السرعة ، إلى درجة أن الزمن قد يتوقف إذا وصلت السرعة إلى حد سرعة الضوء ، ومعنى توقف الزمن بكلمة أخرى دخول ( الخلود ) أو على حد تعبير العالم الفرنسي لونجفين توقف الشيخوخة ، فإذا عاش الإنسان على كوكب غير الأرض بسرعة كبيرة كسب من العمر المزيد فالمزيد ، ولكن دخوله سرعة الضوء يجعله يستعصي على الفناء ، لإن الزمن لن يأكله بعد اليوم بعد أن توقف أن يعمل . وعندما نسمع عن تحول بيولوجي لأهل الجنة ( التحول إلى طبيعة نورانية الذي يعني اكتساب سرعة الضوء أي توقف الزمن ) ( 21 ) فإن هذا يقرب إلى وعينا أكثر طبيعة الخلود والصمود أمام الموت والزمن . وأما في النسبية العامة فإن حياة الإنسان على كوكب ذو كتلة كبيرة تدخله نفس العملية من التاثير على الزمن ، وهكذا فالحياة على المشتري الذي يكبر الأرض أكثر بألف مرة ، يمنح الإنسان حياة أطول ، فإذا عاش على ظهر كوكب من النوع الذي قال عنه القرآن ( عرضها السموات والأرض ) كان معناه مرة أخرى توقف الزمن أن يفعل فعله المميت المدمر ، والدخول بالتالي عالم الخلود ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين ) وبذلك أدخلتنا النسبية إلى إمكانية الخلود مرتين وقربت إلى وعينا مفاهيم روحية مستعصية على العقل كي نصل إلى ذلك المزيج الرائع من العلم والإيمان . بقلم الدكتور خالص جلبي 19 \ 5 \ 1415 هـ الموافق 24 \ 10 \ 1994 م هوامش ومراجع ( 1 ) ALBERT EINSTEIN - JOHANNES WICKERT - RORO PAGE 7 ( 2 ) معنى كلمة آينشتاين باللغة الألمانية ( حجر واحد ) ! ( 3 ) ( ليسنغ ) راجع مقدمة كتاب الأمراض القلبية - مدني الخيمي - طباعة جامعة دمشق - ص 7 وقد نسب القول المذكور إلى ( غتلدلنغ ) ( 4 ) اكتشف ابن خلدون قانوناً هاماً في مقدمته عندما فند أقوال الذين زعموا أن الأهرامات شيدها العمالقة ، خاصة حينما يزعم إلى الرشيد أنه أراد هدم إيوان كسرى فعجز عن ذلك فكيف بالبناء ، وكفذك لما حاول المأمون هدم الأهرام ، في حين أن ابن خلدون لم ير فيها سوى إنجاز بشري وهندسي رائد _ راجع المقدمة ص 177 وص 346 ( 5 ) تراجع القصة بكاملها في سورة النمل ( 6 ) يراجع كتاب آينشتاين والنظرية النسبية - عبد الرحمن مرحبا - دار القلم بيروت - ص 80 ( 7 ) يراجع في هذا المجلد الثاني من موسوعة المعرفة ص 200 عن سرعة الحيوانات ، وأما فيما يتعلق بسرعة الملائكة والتي تبلغ سرعة الضوء فيمكن حسابها بزمن ( خمسين ألف سنة مما تعدون ) فهي حاصل ضرب 50000 في 365 في 24 ساعة في 60كم \ ساعة على أساس سرعة الحصان ( 60 - 70 كم \ ساعة - راجع موسوعة المعرفة مجلد 2 - ص 200 ) التي كانت أقصى سرعة بلغها الإنسان في وقت نزول القرآن ( مما تعدون ) وجداء الضرب هذا يبلغ = 000و000و280و26 كم ( 26 مليار و280 مليون كم ) وهي المسافة التي يقطعها الحصان في خمسين ألف سنة ، فإذا قسم هذا الرقم على الثواني التي يحويها اليوم الذي هو 24 ساعة ( مما تعدون ) بلغت 86400 ثانية ، فإذا قسم الرقم الأول على الثاني تحت قانون السرعة = المسافة تقسيم الزمن بلغت السرعة التي يشير إليها القرآن سرعة الضوء تقريباً وهي 300 ألف كم في الثانية الواحدة ( الرقم بالضبط = 304166 كم في الثانية الواحدة ) !! وهكذا فيوم العروج الروحي يستغرق نفس اليوم على ظهر الكرة الأرضية ، ولكنه يحقق بهذه السرعة مسافة تقاس بالسرعة الضوئية ، وهي مطابقة ملفتة للنظر ، ولكن الأهم منها أن العالم الإسلامي برمته لم ينتبه إلى أقل من هذا من كنوز القرآن !! وجاء اختلاف الزمن في آيتين الأولى من سورة السجدة حيث يعرج ( الأمر ) من الأرض إلى السماء بسرعة تبلغ ألف سنة من حساب الكرة الأرضية ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) السجدة - 5 - أما آية العروج الأخرى فهي في سورة المعارج ( تعرج الملائكة والروح إليه في كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) الآية 4 ( 8 ) تقوم خلاصة هذا الفيلم على اختراع عالم ٍ لآلة بإمكانها دفع الإنسان عبر الزمن وفكروا في إنقاذ حياة الرئيس الأمريكي ( روبرت كيندي ) بحمايته من القتل كي يتم تغيير التاريخ وعدم تورط أمريكا في حرب فيتنام ، ولكن الذي حدث هو موت من أرسل !! فلما أرادوا إنقاذه شعروا أن أفضل شيء أن لايغيروا شيء ورجعوا إلى مذهب الخيام والجامعة داوود ( الكل باطل وقبض الريح ) وكأنهم انتهوا مع الفيلم إلى مذهب الجبرية !! ( 9 ) يراجع في هذا كتابه الصحوة الإسلامية في الميزان ( بحث التخلف الفكري وأبعاده الحضارية ص 46 - 47 ) ويعرض فيها أفكاراً قيمة ويتساءل وهو محق في هذا لماذا لم يتوصل المسلمون إلى كشف علمي من خلال آية قبل أن يصل إليه العلم ( 10 ) يراجع في هذا مؤلف مالك بن نبي رحمه الله ( دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ) وكذلك كتاب شروط النهضة ( 11 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - دار آسيا - ص 145 ، وهذه الفكرة تولدت من فكرة عظيمة محورية وهي فكرة إلغاء النبوة حيث يرى فيلسوف الإسلام أن النبوة في الإسلام تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ، وبذلك يكون مجيء الإسلام للعالم ، هو إعلان ( مولد العقل الاستدلالي ) حيث تكف المعجزة عن العمل في حياة الناس ، كما كانت مع موسى في انشقاق البحر وإحياء الموتى لعيس ، فالقرآن دشن فلسفة واضحة بعدم اعتماد هذا الأسلوب ، وهو معنى مكرر في كل ثنايا القرآن . ( 12 ) يعتبرصاحبا كتاب العلم في منظوره الجديد ( روبرت أغروس وجورج ستانسيو ) أن نظرية النسبية قادت إلى التخلي إلى الأبدعن فكرتي الزمان والمكان المطلق - عالم المعرفة عدد 134 - ص 21 ( 13 ) الكون الأحدب ص 37 وعبد الرحمن مرحبا ص 75 ( 14 ) أبرز العلماء الفرنسيين الذين نشروا النظرية النسبية وروجوا لها في فرنسا ( 15 ) عبد الرحمن مرحبا ص 80 ( 16 ) تمت في كليفلاند عام 1881 م وكررت في كل فصول السنة وفي كل الاتجاهات وتبين ثبات سرعة الضوء - مرحبا ص 65 ( 17 ) كتاب التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان - د . عبد المحسن صالح - عالم المعرفة - ص 23 ( 18 ) العلم في منظوره الجديد ص 16 و 15 و 19 ( 19 ) التنبؤ العلمي ص 22 ( 20 ) الحديث : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لايبولون ولايتغوطون ولايتمخطون ولايتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء )) مروي في الصحيحين ( زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم - الشنقيطي - المجلد الأول ص 71 رقم الحديث 201 ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة .
اقرأ المزيد
بين السرطان البيولوجي والسرطان الاجتماعي (2)
هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه ، كما يقضي سرطان المعدة أو الكولون على المريض ؟ ( 1 ) هل يمكن للخلايا الاجتماعية أن تصاب بـ ( الخبث ) في تصرفاتها كما تفعل الخلايا السرطانية المدمرة في الجسم ؟ هل هناك مظاهر أو تصرفات اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر ؟ وهل هناك أدوات وأجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحولات الخبيثة ؟ بل هل تطورت الأبحاث الاجتماعية بما فيه الكفاية ، مثل الأبحاث البيولوجية فطورت المعالجة ( الاجتماعية الكيمياوية والشعاعية بل والجينية ) من أجل التطهير الاجتماعي والقضاء على الخلايا المسرطنة القاتلة ونجاة البدن من موت محقق ؟ وهل يموت المجتمع بهذا الداء العضال كما يموت الأفراد بالسرطانات المختلفة ؟ بل هل هناك بالأصل ( موت اجتماعي ) فتموت الأمة كما يموت أي فرد ؟ وإذا وجد فكيف تتجلى صورته ؟ دعنا نغوص في أعماق البحث الفيزيولوجية والاجتماعية على حد سواء لنرى تجليات العلم الحديثة في هذا الصدد ؟ دخل علي الزميل ( أبو حسن ) وقد استشاط غضباً ؛ فارتفع صوته وتهدجت نبراته ، على واقعة اقتصادية مدمرة تحدث بين الحين والآخر وفي أكثر من بلد ، عن رجل خدع الناس فجمع أموالهم ، وغرر بهم ، تحت سراب الربح الوفير ، فيأتيهم رزقهم رغداً ، وإلى بيت بابهم بالعشي والإبكار ، وهم مستلقون على ظهورهم ، يأكلون السمن والعسل ، وهكذا قام ( الساحر ) الاقتصادي الجديد بالمعجزة الألمانية الاقتصادية الثانية ؟! وأراح العباد من همِّ المستقبل واستثمار الأموال ، فهرع الناس إليه زرافات ووحدانا ، يضعون بين يدي الساحر تعب العمر وشقاء الليالي ، وتراكمت الأموال والآمال ، حتى انقشع السراب الخادع _ كالعادة _ فانهارت المؤسسة المالية الجبارة المذكورة ، وأفلس صاحبها ( المظلوم ) !! وطارت الأموال إلى الأرصدة الخارجية ، وتبخرت أموال الناس بين يدي ( الدجال ) الاقتصادي ، وأصابهم ماأصاب أهل البستان ( فأصبحت كالصريم ) وأخذوا يقلبون أيديهم في ظل الكارثة ، وهم يتأملون سمك القرش الاجتماعي الجديد ، بين اقتصاد مدمر ، وثقة تخلخلت بين الناس ، وأسعار للعقارات ارتفعت وبشكل وهمي ، بأشد من سرعة الصاروخ وبأعلى من قمم الغمام ، وجمود في حركة المبايعات . فالعقارات أصبحت معلقة في الهواء بعد انتفاخ الأسعار الوهمي ، في انتظار مسيلمة كذاب جديد ، ولاغرابة لماحدث لإن الحمق لوحده ليس له علاج ، فكيف إذا انضاف إليه الطمع ، وقديماً سأل الجاحظ غلاماً فقال له ياغلام : أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمقاً ، قال لاوالله ياعماه ، قال له الجاحظ : ويلك ياغلام ولم ؟ قال ياعماه : أُضيِّع الدنانير وأبقى أحمقاً !! ( 2 ) ************************** هذا المرض الاجتماعي ليس اليتيم الذي يحدث ، بمحاولة الفرد ( الانتهازي ) أن يتضخم فـ ( يتورم ) و ( يتسرطن ) على حساب الجماعة التي منحته الوجود الاجتماعي بعد البيولوجي فيتحول إلى ( مجموعة القوارض الاجتماعية ) ( 3 ) ، التي تقضم الشبكة الاجتماعية !! أو الخلايا السرطانية الاجتماعية التي تفترس الأنسجة الحية ، ياترى كيف يمكن تصنيف هذا المرض ضمن قائمة ( أمراض اجتماعية ) لاتحصى ؟ فكما يصاب الفرد بالمرض سواء العضوي أو النفسي فإن الجماعات لها أمراضها ( النوعية ) الخاصة بها ، فكل مرض يشكل وحدة عضوية خاصة به ذات شخصية متكاملة سواء الزكام أو السل أو انتهاءً بالسرطان ، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية ، فالجعبة مليئة ، وليس المثل السابق إلا واحد من الكثير من أمثال ( عدم احترام القانون وتجاوز إشارات المرور ) و ( كراهية النظام والانضباط ) و ( السطحية في معالجة الأمور ) و ( عدم رؤية المشاكل قبل وقوعها بل الاصطدام بها بعد ذلك مثل العميان !! ) و ( نمو الفردية إلى درجة الانتفاخ ) و ( النطق بلا مسؤولية ) و ( عدم احترام الآخرين ) ( 4 ) و ( التسيب الوظيفي ) و ( واللافعالية ) و ( البيروقرطية غير المنتجة ) و ( عدم تقدير الوقت ) و ( ضعف الذوق الجمالي ) و ( غياب الروح العملية ) و ( انطفاء روح المبادرة ) و ( عدم الشعور بالحرج من سرقة المال العام ) ، وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان الاجتماعي يأتي في قمتها ( الرشوة ) و ( المحسوبية ) و ( والوساطة ) واختصرها القرآن بالثلاثي : الشفاعة التي تقابل الوساطة ( ولايقبل منها شفاعة ) والعدل مقابل الرشوة ( ولايؤخذ منها عدل والمحسوبية مقابل ( لاتجزي نفس عن نفس شيئاً ) ويمكن القول باختصار : تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه ، بمدى سيطرة العلاقات الشخصية أو قوة نفاذ القانون ، فحين يتضخم الأفراد ينكمش القانون ، لإن الوجودين متزاحمين في الوعاء الاجتماعي ، والنمو الورمي للأفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات والمجتمعات . ويظن أولئك ( المغامرون ) أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم ( شطار ) و( أذكياء ) ويعرفون كيف ( تؤكل الكتف ) ، ولكن السرطان حينما ينمو ، فأول مايفعله هو أن يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة ، فيكون مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة ، حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه !! . وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث لايشعر ، حين يدمر مصادر وجوده ، فيهوي والبدن إلى فراش الموت والعدم . **************************** هناك ( قانون اجتماعي ) ( 5 ) يربط بين العلاقات الشخصية وشبكة العلاقات الاجتماعية ، وأي زحزحة من قطب لآخر يعطي الفكرة عن مدى تماسك المجتمع وقوته من ضعفه ، وفكرة المركزية واللامركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات ، كذلك تربط علاقة صارمة بين فكرتي ( الحقوق ) و ( الواجبات ) فالواجب هو ( حق ) من جانب ، وهو ( واجب ) من الوجه الآخر ، تماماً مثل وجهي العملة !! ، لنتأمل هذه الفكرة المهمة : إن أية ( معاملة ) هي واجب للموظف يؤديها في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها ، وتنعكس الأدوار ، فنفس الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى ، في الوقت الذي يعتبر هذا واجباً للطبيب يؤديه ، وهكذا تصبح ( العملة الاجتماعية ) تدور بين ( حق - واجب ) في كافة شرايين الخدمة الاجتماعية ، ويجب أن لاتزور هذه العملة ، فيجب أن يقوم الطبيب بعمله في غير تذمر وملل ، كي يتحرك الموظف بنشاط وهمة لتسيير المعاملة وترك طاولته في نهاية الدوام نظيفة ، كي يؤدي الشرطي مراقبته للمرور بدون محاباة ، وهكذا يتم تبادل هذه العملة في مرافق الحياة . وحسب قواعد الاقتصاد ، متى ياترى يعتبر المجتمع معه ( فائض في العملة ) إذا نظرنا إلى العملة الاجتماعية المذكورة سلفاً ؟؟ أو أنه غني ، أو أنه في حالة بحبوحة حضارية ؟؟ الجواب عندما يتم تحصيل فائض في الواجبات !! إذاً نحن أمام ثلاث معادلات اجتماعية في الواقع : الأولى هي تلك التي تقول بفائض الواجبات عن الحقوق ، وهي تشي بالتالي بحقيقة مجتمع متفوق حضارياً ، الثانية بتساوي الحقوق والواجبات وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن ، أما عندما تتفوق حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية ، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار . ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر على غاية الأهمية وهو : عدم المطالبة بالحقوق أو بكلمة أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب ، لإن المجتمع الذي تعلم ان يقوم بواجباته سوف تنشق السماء وتعطيه حقوقه ، فالحقوق لاتؤخذ ولاتعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب . يقول المفكر السعودي الدكتور محمود محمد سفر في كتابه ( ثغرة في الطريق المسدود ) : (( لقد فقدنا الوعي الصحيح بدورنا كأفراد وجماعات في عمليات التنمية وأصبحنا جميعاً من (( أصحاب الحقوق )) .. وماأدراك ما (( أصحاب الحقوق )) إنها سمة التخلف في جيلنا .. حيث أصبحنا لانعرف إلا حقوقنا على حكومتنا .. وجهلنا تماماً واجباتنا وتكونت هنا وهناك في عالمنا الإسلامي جمعيات وهيئات للمطالبة بالحقوق .. حقوق المرأة وحقوق العمال وغيرهم . وقد آن لنا أن تتكون بيننا (( هيئات للقيام بالواجبات )) التي أغفلتها أو عجزت عنها الإدارات الحكومية . إن سيكولوجية مدمرة تتكون عندما يعيش الإنسان في أجواء المطالبة بالحقوق واللهث وراءها عند أجهزة غير قادرة على منحها .. حيث يصبح الإنسان عبداً لوهم اسمه (( الحقوق )) يستبسل في المطالبة بها وربما أعطى حياته من أجلها .. ولو أنه أنفق في سبيل الواجب بعض ماأنفقه في سبيل الحقوق لبلغ كثيراً مما يرجو من تقدم وازدهار .. إن التنمية في مجتمع ما تبدأ مسيرتها عندما ينسى أفراد هذا المجتمع حقوقهم ويذكروا واجباتهم .. إن الأمة تحتاج في ساعات (( الإنقاذ التنموي )) إلى النفر القدوة الذين لايسألون أين الرزق الوفير وإنما يسألون أين الواجب الكبير .. ولقد ساقنا الحديث عن التنمية إلى دور الأثرياء في مجالاتها لإننا نؤمن أنه في غياب الدور الحضاري للمال يمكن أن يصبح الثراء مدمراً . فعندما تصبح وسائل الثراء سريعة ورخيصة يبدأ المجتمع في الانصراف عن التنمية الحقة والتي تتطلب جهداً ومشقة حيث يصبح كل هم أفراد المجتمع أن (( يغترفوا من نهر طالوت )) ولاينتظروا ويصبروا أمام مشاكل التنمية ))(6) عندما زارنا الأستاذ ( مالك بن نبي ) في دمشق عام 1971 م وجلست معه وسألناه عن العديد من القضايا ، بدأت تضغط على عقلي فكرة ، في صدد الذهاب إلى العالم الغربي للاختصاص الطبي ، وخلاصتها إن الرحلة تحمل مبررها الكبير ليس من أجل تحصيل الفن الطبي ، فهذا هو أقل المبررات وأكثرها هامشية ، وهو الذي جعلني أيضاً أتردد في مغادرة الوطن ، في الوقت الذي كان يتسابق زملائي في شد الرحيل للخروج ، وأنا أعذرهم طبعاً فلكلٍ وجهةٌ هو موليَّها ، كان مايضغط علي ويؤرقني هو ( فعالية الغرب ) الكامنة خلف الطب وكل العلوم ، بل وخلف كل التكنولوجيا ومراكز البحث ، وهذه قضية أثرناها مع الاستاذ مالك بن نبي ، وكانت وجهة نظره أن معظم أبناءنا يذهبون إلى الغرب فلايفهمون عليه ( سر الفعالية ) وإنما يحصل معهم ماسماه _ رحمه الله _ الارتماء إما في ( مزابل الحضارة ) أو الانزواء في ( مقابر الحضارة ) ؟! ويعني بكلامه هذا رؤية الحضارة الغربية من ثقبين ، إما الفساد الأخلاقي والإباحية الجنسية الفظيعة ، وإما المخابر العلمية وبطون الكتب وأجواء المستشفيات ، والحضارة ليست هذا ولاذاك ، كما أنها لم تخلق في هذه الأمكنة . كان الاستاذ مالك يريد من الشباب المسلم والعربي ، أن يذهب إلى الأماكن التي تولد فيها الحضارة فعلاً ، كان يريد بناء بانوراما ضخمة ، وجغرافية عقلية ، لفهم الحضارة ككائن عضوي مترابط . التعرف على المؤسسات التي تحافظ على الحضارة وتطورها باستمرار ، التعرف على فعالية الفرد والشروط النفسية والاجتماعية التي تولِّد هذه الفعالية وتحافظ عليها باستمرار ( 7 ) . التفريق بين ( العلم ) و ( الثقافة ) حيث يشترك في الثقافة الرئيس والأجير ، ويختلف في العلم الطبيب عن الممرض ، ولذا فالطبيب يرجع بالعلم دون الثقافة ، وكان حرص الاستاذ مالك على الثقافة قبل العلم . الثقافة هي المحتوى الضخم لعالم ( اللاوعي ) والذي بموجبه يتصرف الفرد أمام الأحداث ، والثقافة تتشكل منذ لحظات مقابلة الإنسان للعالم الجديد بعد الولادة إن لم تكن حتى في الرحم ؟1 فالطفل الذي يتعلم منذ ساعات عمره الأولى أن العالم ( المتمثل بأمه ) أنه يستجيب له بالبكاء ، يتعلم البكاء وسيلة لحل المشاكل !! إلا أن العالم القاسي من حوله سوف يحمل له العديد من المشكلات الصعبة والمفاجآت ، التي سوف تحيل حياته إلى جحيم ونكد وإحباط ، لإن العالم يمشي وفق سننه الخاصة ، وليس هو أمه التي أفسدت ( ثقافته ) ولذا فلن يستجيب له بالبكاء والصراخ ، كما حصل مع العرب في هزيمة حرب 1967 م ، والتي لم يستجب لهم العالم فيها ، عندما بكوا وصرخوا وزعقوا باعلى صوتهم ، والتي يحاولون فيها حتى الآن إصلاح ذلك الخرق الذي لم يرقع بالشكل الملائم حتى اليوم ، هذه هي الثقافة العاجزة التي نعيش فيها بكل أسف !! وهذه هي القضية الكبرى التي كرس المفكر مالك بن نبي نفسه لها ( مشكلة الحضارة ) . هذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة في الإجابة والتفسير عن بعض الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً في البدء ، لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته بصورة غير التي كان يتصرف بها هناك ؟ فلا يحافظ على الموعد ، أو يلقي بالبقايا على الأرض ، أو يستخدم زمورالسيارة كالبقية ، أو لايتقيد بإشارات المرور ، أو يعتقد بالخرافة إلى أخمص قدميه ومخ عظامه . كما أنني أدركت أن سفرتي إلى الغرب حيثما كانت وجهتي كانت مصيرية وحيوية ، فإن أي باب من أبوابها سوف يدخلني إلى بنائها الداخلي ، سواء كان الاختصاص في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا ( الابن البكر لأوربا ) أو حتى أوربا الشرقية ، أو اسبانيا الحالمة المسترخية على ظهر جبل طارق ؟! فكما يدخل المسلم إلى الصفا والمروة من أبواب شتى ، كذلك الحال في دخول فناء كنيسة الحضارة الغربية ذات الأبواب العديدة ( 8 ) *************************** هناك مغالطة يجب تحريرها واكتشفت هذا أثناء مؤتمر حضرته في مدينة ( ميونيخ ) الألمانية في المركز الإسلامي أثناء إقامتي في المانيا ، حيث تم التعرض لمشكلة المرأة ووضعها في الغرب ، وكان محور المتكلمين في إطار ( تَسَقُطْ عورات الغرب ) والكشف عن نقاط الضعف التي يعرفونها هم بالذات وعن انفسهم أكثر مما نعرف نحن ، والفكرة التي استولت علي حينذاك وقمت في وقتها بشرحها بكثير من القوة والتحليل ، وخلاصتها الأفكار الثلاثة التالية : الأولى : إننا في الواقع وكأننا نريد تطمين أنفسنا اننا بألف خير ، طالما كان الغرب على وشك السقوط منتحراً بعيوبه التي لاتنتهي ( كذا !! ) والثانية : إننا نتأمل الغرب من خلال عيوبه وهذه فضلاً عن كونها غير عادلة فهي مضللة لنا نحن بالذات أكثر منهم ، والثالثة : فليموتوا بعيوبهم لإن ماينقصنا ليس التعرف على عيوبهم ، بل التعرف على عيوبنا نحن بالذات ، والقيام بعملية النقد الذاتي ، كي نبدأ مسيرة الإصلاح والإقلاع الحضارية ، مانحتاج إليه أكثر هو الاستفادة من مزاياهم الإيجابية ، والتعرف على أسرار الفعالية عندهم ، وينابيع القوة والتفوق . وهذا سيقودنا إلى موقف مختلف تماماً وعادل وإنساني ، فنحن لانريد تدميرهم ، كما لانشمت بسقوطهم ، ولانفرح بنكس القيم الإيجابية التي تعبوا في تحصيلها . بل يجب معاملتهم تحت قانون : عامل الناس بما يليق بك لابما يليق بهم ، من أجل علاقات إنسانية غير استعمارية للمستقبل ، كنت أقول لبعض الألمان أحياناً إن عندكم من القيم مايجب أن أدافع أنا عنه ، من أجل المحافظة عليه لإنه ذخر إنساني قبل أن يكون إنجازاً غربياً . ********************* إن العديد من القيم التي رأيناها في المجتمع الغربي ، وأزعم لنفسي معرفة متواضعة بالمجتمع الألماني ، الذي يعتبر من قمم مجتمعات العالم ، فألمانيا هي صيدلية العالم ، وأرض الفلاسفة ، ومكان الموسيقيين المبدعين ، وأرض حملة جوائز نوبل ، ولكنها وبنفس الوقت محرقة آوشفيتز وأرض الهولوكوست ( 9 ) ومستنقع العنصرية ، ومزبلة كبيرة لكل الإباحيات الجنسية ممتدة من مدينة ( فلينسبورج - في معهد بيآته BEATE - INSTITUT-IN FLENSBURG ) حتى الغابة السوداء ( SCHWARZ - WALD ) وما يهمني من الألمان ، واستفدت منهم في ذلك بأكثر من تكنيك ( شق ) الجلد للجراحة أو ( ثقبه ) بالمناظير أو ترقيع الشرايين وتقطيع الأوردة ، استفدت منهم ( أخلاقيات العمل ) فالإنسان الألماني أو الغربي عموماً قد يسكر ويخمر في الليل ويعربد جنسياً ، ولكنه في صباح اليوم التالي لايتأخر في حضوره للعمل ، لإن العمل عنده مقدس بل إنك إذا أردت تعذيب الألماني فاجعله يكف عن العمل ، ويشهد لهذا ظاهرة ( متلازمة ظهر يوم الأحد ) ( 10 ) ( SYNDROM SUNDAY - ) وهي مؤشر خطير عن ( التخوي والتجوف الحضاري ) كما يحصل مع تجوف نخاع الشجرة الداخلي مع كل فخامة القشر الخارجي . إن عندهم من الفائض في ( العملة الاجتماعية = الواجب ) مايجعل أمراضهم مسيطرٌ عليها ، وهذا يعني أن عندهم من الأمراض مايكفي ، ولكن قوتهم تأتي من مصدرين الأول : معرفتهم بطبيعة هذه الأمراض ، والانتباه الدائم لها ، ومراقبتها سواء بسواء مثل مراكز مراقبة انتشار الأمراض والعدوى ، بما فيها إدمان التلفزيون والإباحية الجنسية ، كل ذلك من خلال توفر أداة النقد الذاتية الاجتماعية ، قد تحدث عندهم سرقات ومخالفات ولكن الصحافة لها بالمرصاد ، ومن المعروف طبياً ، أن معالجة الخراجات هي في شقها وفتحها للخارج كي ترى الضوء ، كما أن أخطر أنواع الباكتريا ، هي الباكتريا ( اللاهوائية ) ، أي تلك التي تعشعش في الظلام ، والغانغرين فيه ليس له علاج إلا البتر المفتوح !! كما أن الأمراض النفسية تعالج بنقل آليات ( اللاوعي ) المختبئة في الظلام إلى ( الوعي ) أي الضوء الصحي والنور المطهر . لذا فإن آلية النقد الذاتي ( بشروطها ) هي تلك الآلية المطهرة للفرد والنفس والأسرة والمجتمع بل وحتى والمجتمع الدولي . الثاني : إن المحصلة الكمية للأخلاق الاجتماعية تعطيهم الوضع الطبي المعروف ( عدم انكسار المعاوضة ) ، فقد يمرض الإنسان كما هو في داء ( أديسون ) أي تخرب خلايا الغدة فوق الكظرية ( 11 ) المسؤولة عن تنظيم السكر والملح والهورمونات في الجسم . طبياً لاتظهر أعراض المرض حتى يحترق مايزيد عن 75% من مجموع الخلايا في الطرفين ، وعندما يصل البدن إلى هذه المرحلة يكون قد دخل في مرحلة ( انكسار المعاوضة ) والمجتمع الغربي مازال في مرحلة ( المعاوضة الاجتماعية ) ، وذلك بفضل زخم مجموع الأخلاقيات والقيم السائدة حتى الآن ، ويخطيء الكثير حينما ينعت الحضارة الغربية بصفتين : إما اللا أخلاقية أو أنها حضارة مادية ، ويجب طبعاً أن نحدد مامعنى ( المادية ) ؟؟ **************************** الحضارة الغربية لاتحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم إن شئنا أم أبينا ، سواء في جناحها الانجلو سكسوني أو اللاتيني أو الجرماني أو حتى الأصفر الياباني ، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى . ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم ، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير ، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها . إنني كنت ( شاهداً ) في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب ( أمريكا التي رأيت ) بل عاينت القوم ، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم ، وطرفاً من أسرار قوتهم ، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه ، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لايحسدون عليها ، فلم يعد الشرق يعجبهم ، كما أن الغرب لم يسعدهم ، فهم ( نفسياً ) في الأرض التي لااسم لها !! والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب ، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة ، والرؤيا عندهم واضحة مبللورة ، وهذه لايصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب ، ونحن الذي أدينا وظيفة ( الشهادة ) علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ وبأمانة . فلاشيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السوات والأرض . *************************** إنني يجب أن اعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولاعدلاً في مثل هذه الأمور - إننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم ، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق ، وهو مالاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع ( رفاعة الطهطاوي ) الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها ( الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز ) . منذ اللحظة الأولى بين بيروت و ( نورمبرغ - مكان ولادة الحزب النازي أكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط ، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة ، ولكن ثلاثين سنة لاتكفي للفهم العميق للثقافة . في بيروت وأنا نزيل الفندق الذي يدفع ثمن ( البيات ) لم أعرف طعم النوم بسببين الأول قرقعة ( القباقيب ) والثاني ( انبساط ) صاحبنا المشرف على إراحة نزلائه ، فلم يطب له النوم إلا على أغاني ( صباح وأم كلثوم ) وبأعلى صوت ، وبالطبع أنا لست ضد الغناء إلا في هذا الوقت ، أما في نورمبرغ فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر ظاهرة ( السكون ) كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً و( هادئاً ) فعرفت أنني فارقت حضارة ( الضجة والوسخ والضوضاء ) واستقبلت حضارة ( النظافة والسكون والهدوء ) إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم لإنني أنتمي إليها ، مع شعوري الذي لايختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها ، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة ، بل وشق الطريق لمجتمع مابعد الحداثة ، هذا الشعور سبب لي الألم مرتين ، فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها ( وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك !! ) ( 12 ) في الوقت الذي أزكي ( في جانب ) مزية من هم خصومنا أو من لايحبونا على أقل تقدير ، ولكن هذا ماتتطلبه الشهادة التاريخية ، ويوجبه العدل ، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا ، التي لاتحتمل التاجيل ، وكانت الملاحظة الثانية ( لاشيء في الأرض ) وتذكرت الحديث ( وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان ) ( 13 ) ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً ، وبانوراما ضخمة ، وخريطة تفصيلية ، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً ، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها ، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات ( وكيف أن في رأسهم أغنية خاصة لمشكلة البوسنة ، وإلا حلوها كما احتل هتلر كل يوغسلافيا في مدى 11 يوماً ، وليس تأديب صرب البوسنة فقط ، وبالمناسبة فخريطة الهجوم النازي قد وضعها وزير الدفاع الألماني في درجه لساعة الصفر - معلومات مجلة الشبيجل ) . يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص ، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي ( 14 ) ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها ، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة ، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة ( دوراة المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر ) . هذه النظافة ليست ( الحكومة فقط ) ورائها وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة ، والتثقيف المستمر ، والتنبيه الدائم ، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد . يقول جان جاك روسو في كتابه ( في العقد الاجتماعي ) عن القانون الرابع : (( يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً ، وهو القانون الذي لاينقش على الرخام ولاعلى البرونز وإنما في قلوب المواطنين ، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي ، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة ؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفيء ، يحرك أوارها أو يتممها ، ويحافظ على شعب في روح نظامه ، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة . وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام ، وهو فرع مجهول لدى ساستنا ، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به : ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر في حين يبدو أنه لايهتم إلا بتنظيمات خاصة ، إلا انها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع ، الأكثر بطئاً في نشوئها ، مفتاحه الذي لايتزعزع )) ( 15 ) كان مارأيناه هو ( النظام والانضباط في دقة الساعة ) و ( الدقة بحب وشغف ) ( المثابرة بجلدلايعرف الممل ) و ( التعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب بين عناصره ) و ( اليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح ) و ( النطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية والنظر في وجه السائل !! ) و ( المحافظة على الموعد إلى درجة الهوس ) و ( الالتزام ومعرفة معنى المسؤولية ) و ( الصدق فهو انفع للمعاملات والحجز وسواه ) و ( احترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة ) و ( الفعَّالية في معالجة المشاكل ) و ( البيروقراطية الميسرة ) فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لايقف ، فلاتحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج !! وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل . والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع ، فشكلت ( ظاهرة اجتماعية ) و ( تياراً مسيطراً هادراً ) وليست حوادث فردية ، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة تغلف المجتمع كله ، وتهبه اللون الخاص به ، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه . ************************ هل نريد الآن ان نفهم الأخلاق والقيم ( السرطانية ) في مجتمعنا ؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً ؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم ، وهو في صورة ثانية ( الخلل الوظيفي الزماني المكاني ) ، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة ، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكان خاصاً بآخرين ، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع ، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير ( سرطان العظام ) ، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة ( سرطان الجلد ) ، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب فيه في الكبد والرئة بل والدماغ ( سرطان الكولون ) ... ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات .. ويشذ الناس على القانون .... إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى ، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء ، أو هو يسير نحو الفناء لإنه فقد مبرر الحياة ، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة ( 16 ) ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد ، تموت الجماعات ، وتدول الدول ، وتفنى الأمم ، وتنقرض الحضارات فـ ( لكل أمة أجل ) ومن خلال السرطان النوعي الخاص بكل مستوى . هوامش ومراجع : ( 1 ) يجب أن نستثني من هذا الوضع اكتشاف السرطان المبكر قبل انتشاره مما يحسن إنذار المرض عموماً حسب المرحلة التي يضبط فيها ، والجراحة الحديثة تحاول فك هذا اللغز ، بحيث تكتشف بشكل مبكر الخلايا المتسرطنة المتحولة الأولى فتقضي عليها ( 2 ) دُمر أقرب الناس إلي اقتصادياً تحت أسنان سمك القرش الاقتصادي الجدد وبالطبع كنت من المدعوين لهذه الوليمة إلى فم الحوت ، كيف لا والأرباح الفلكية تلمع ( للمغفلين ) ، ومن الغريب أنه بعد كل الكارثة لايصدقون أن ماحدث هو اقتصاد ( سيقان الخشب ) بل مازالوا يعيشون أحلام ( النظرية التآمرية ) ؟؟!! ( 3 ) هذا المصطلح هو للمفكر الجزائري مالك بن نبي ، تأمل مثلاً الذي لايحترم شارات المرور ، إنه يشعر أنها لم توضع له ، فهو فوق القانون ولكنه يدمر النسيج الاجتماعي الذي يحافظ عليه بالذات ، ويذكر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه هل للإنسان مستقبل عن حماقة الحمار ، أنه يأبى أن يخرج من الزريبة أثناء الحريق مع كل حرص الآخرين على إنقاذه ( 4 ) مما كان يلفت نظري في ألمانيا أثناء وجودي الطويل فيها أن الموظف يعامل المراجع على ثلاث قواعد الأولى : إنجاز مسألة واحدة في وقت واحد ( وماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه !! ) فهو يهتم كل الاهتمام بمن هو أمامه وينسى كل النسيان من هو خلفه ، بل إذا أراد التكلم معه لم يرد عليه ، الثانية : الإنجاز الكامل والدقيق لوحدة العمل التي يتعامل معها ، وهكذا فمحاسب الصندوق لايبدأ مع الشاري الثاني مالم ينتهي من الأول قبضاً وتسديداً الثالثة : الاهتمام بالإنسان الواقف أمامه فيعطيه كل وجهه مع الكلمة الطيبة والابتسامة العذبة ليسأله في النهاية إن كان هذا كل شيء أو هناك ماتبقى لقضاءه ، وأريد أن أسجل لموظفي الخطوط السعودية سبقهم في هذه الأخلاقيات ( 5 ) أول من التفت إلى فكرة القانون الاجتماعي هو العلامة ابن خلدون ، لتتوقف من بعده ، ثم ليعاد بعثها من جديد على يد عالم فرنسي هو ( أوجست كومت ) ( 1797 - 1857 ) صاحب مدرسة ( الفلسفة الوضعية ) يراجع في هذا كتاب دراسة المجتمع - مصطفى الخشاب - مكتبة الانجلو مصرية - ص 35 ( 6 ) ثغرة في الطريق المسدود دراسة في البعث الحضاري _ د . محمود محمد سفر \ د . سيد دسوقي حسن _ سلسلة آفاق الغد - ص 78- 82 ( 7 ) يراجع كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي بحث الأفكار القاتلة والأفكار الميتة ( 8 ) يراجع في هذا كتاب مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن حقل الدراسة التاريخية - ترجمة فؤاد محمد شبل - جزء 1 ص 3 حيث يعجز عن شرح التاريخ البريطاني منفرداً وإنما يمكن فهمه من خلال وحدة الحضارة الغربية ( 9 ) من الأرض الألمانية انطلقت الحروب العالمية ، التي أزهقت أرواح مالايقل عن سبعين مليون البشر ، ونزاعاتهم مع جيرانهم لاتنتهي خاصة الفرنسيين ، وأما محرقة اليهود على أيديهم فتعجز عنها حتى أبالسة الجحيم ، فمصطلح ( هولوكوست - HOLOCAUST ) أي المحرقة هي تلك العملية المنظمة التي شحنت اليهود من كل أوربا إلى معسكرات الاعتقال الجماعية ، والموت في غرف الإعدام بالغازات السامة ثم المحارق المخصصة ، واشتهر معسكر ( آوشيفيتز ) في بولونيا بشكل خاص حيث التهمت نيرانه اليهود وغيرهم بالملايين ( 10 ) من الغريب أن الألمان يشعرون بالكآبة يوم الأحد بعد الظهر ، لإنهم سوف يستقبلون يوم العمل والواجب في اليوم التالي وهو أمر متناقض مع شعب العمل والشغف به أعني الشعب الألماني ، وهذا يوحي بالمرض الداخلي العميق للإنسان والمجتمع الألماني ، بل والمجتمع الغربي للمستقبل البعيد ، وهذه أمراضهم ولكنها أدويتنا فما ينقصنا نحن ليس التنافس في الكسل بل العمل ( 11 ) غدة الكظر تجلس فوق الكلية في كل جانب بوزن حوالي ثلاثين غراماً ، مكونة من لب مسؤول عن تنظيم الضغط الشرياني من خلال إفراز هورمون خاص هو الأدرينالين ، وقشر يفرز ثلاث أنواع من الهورمونات لتنظيم الاستقلاب السكري والملحي والهورموني ، بالاشتراك مع البانكرياس والغدة النخامية في الدماغ والخصيتين أو المبيضين ( 12) من أفلام التراجيديا الفرنسية فالفارس ( سيرانو دي بيرجاك ) الذي يستطيع هزيمة مائة ويحب ابنة عمه ، يحمل أنفاً كبيراً اعطاه دمامة فحجبه عن طلب يدها ، وتمضي القصة في اعتصار قلب البطل حتى لحظة الموت التي يبوح فيها بالحب لابنة عمه ( 13 ) من العجيب في هذا الحديث الذي هو من ثقافتنا أنه ينص على أن الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها شهادة أن لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ، فنحن ليس فقط أننا لانرفع القذى من الطريق ، بل نلقي زجاجات الببيسي كولا ، وهذا يعطي فكرة أن التعطل العقلي يحرم من الاستفادة من كل الكنوز حتى لو وجدت في الثقافة ، ويجب ان نسجل لبلديات المملكة إنعاشنا بالنظافة والمنظر الجمالي الذي عهدناه في أوربا ( 14 ) يراجع في هذا كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية لفيلسوف عالم الاجتماع الألماني ( ماكس فيبر ) عن أثر الأخلاقيات البروتستانتية في انتشار الرأسمالية روح الادخار + روح المبادرة + قيمة الشغل ( 15 ) في العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم ص 101 ( 16 ) يراجع بالتفصيل كتاب الطب محراب الإيمان - جزء 2 - للمؤلف عن السرطان والتمرد في الجسم - دار الكتب العربية ص 103 .
اقرأ المزيد
موت المجتمعات وهلاك الأمم وانحلال الحضارات
أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لإفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين ، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لاتفارقنا يوماً واحداً ، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة ، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة ، ولكننا لا نستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما ، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد ، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت ؟ أو أنه كائن من نوع غير ( بايولوجي ) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت ؟ وإذا كانت ( سنة أو قانون ) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه ( المجتمع ) وتشكل مصيره ، فقد بات علينا معرفة هذا ( البعد الجديد ) في الحياة الإنسانية ، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك ؟ وبأي آلية ؟ وفي أي ظرف ؟ وتحت أية شروط ؟ ( لكل أمة أجل ) مقارنة بين الموت البيولوجي والموت الاجتماعي: اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم : إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت ، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي في القرن القادم . صدمت وبعمق ، فهذا الإنذار المرعب ( PROGNOSIS ) ( 1 ) يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان ، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه ، مع هذا يبقى المريض مريضاً ، أي أنه مازال حياً يرزق ، ولو أنه محكوم بالإعدام . لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد ، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده !! فمن أين جاء بتحليله هذا ياترى ؟؟ إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده من المشعرات ( INDEX ) والدلائل والمؤشرات إلى وضع المجتمع ، ولادة أو موتاً ، صحة أو مرضاً ، عافية أو اعتلالاً ، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص ( DIAGNOSIS ) فاعتبر الجسد الاجتماعي ( جثة ً ) . قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت : إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات مافيه الكفاية على موت الفرد ( عضوياً ) من انعدام النبض ، وتوقف ضربات القلب ، وغياب التنفس ، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد ، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة ، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة ، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة ، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة ( الصمل الجيفي ) ، ثم تبدأ في التعفن والتحلل ، ويصبح القبر خيرُ سترٍ لهذا القميص المتهتك ، الذي يتمزق في كل لحظة : باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنــــتهم القــلل واسُتنزلوا بعد عـــــز عن معاقلهم فأُودعوا حفراً يابئســــــــما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ماقبروا أين الأسرة والتيــــــــــجان والحلل أينَ الوجوهُ التي كانــــت منعمةً من دونها تُضرب الأســــتار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـــها الدود يقتــتل قد طالما أكلوا دهراً وماشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب : بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب ؟!! مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل ؟! ماهو المجتمع بالفعل ؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي ؟ لايمكن أن نفهم ( موت المجتمع ) مالم نفهم ماهو ( المجتمع ) بالأصل ؟ فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن ( النوعي ) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته ، وموته من حياته ، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو ( شبكة علاقات ) تنظم نشاط الأفراد ( 2 ) ، فإذا أردنا تصور ( الشبكة الاجتماعية ) أو ( النسيج الاجتماعي ) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد ، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة ، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل مابين هذه العقد ، وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع ، حيث تترابط مايزيد عن ( 100 ) مليار خلية عصبية ( النورونات - NEURONS ) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف ، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط ، بحيث يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في رأسه ، من زاوية الاتصالات ؛ أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا . وتتعاون هذه ( النورونات ) من خلال ( نظام التحام ) بين كل خلية وأخرى ، تسري فيها سيالة عصبية ، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه ، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة ، والنسيج الاجتماعي أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها ، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود ، المتوتر أو المسيَّب ، النشيط أو الخامل ، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها ، وينبنى على هذه الفكرة أمرين هامين : 1 - الأمر الأول : إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لإنها من صناعتهم 2 - الأمر الثاني : إن الأفراد قد يمزقوا هذه الشبكة ، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد ، وهي ( الظاهرة الورمية ) التي تحدثنا عنها في بحث السرطان الاجتماعي ، حيث يؤدي ضخامة الفرد ( العقدة في الشبكة الاجتماعية ) إلى قطع الأوتار الاجتماعية ، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة ( السرطان ) ، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص ، غير عابئة بما يحصل للجسم ، ولكن السرطان كما عَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه ، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية ، يقضي على وجوده بالذات . يقول مالك بن نبي : (( بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات ، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا ، بينما شبكة علاقاته مريضة ، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد ، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب ( الأنا ) عند الفرد من ( تضخم ) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية ، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم ، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلا ً ))( 3 ) المجتمع يعتبر شبكة علاقات وليس كماً من الأفراد كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية ، فالسكر السداسي ( الغلوكوز ) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا ، مكون من ذرات من الفحم الأسود ( الكربون ) ، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد ، مكون من ذرات من ( الكربون الأسود ) المضغوط بشكل جبار . والذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة ، هو طبيعة ( التركيب الداخلي ) لذرات الكربون ، فأصبحت ( يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار ) والمجتمع بدوره هو ( طبيعة تراص ) خاصة بين أفراده ، فإذا بقي ذرات كان سخاماً أسوداً ، وشحاراً قاتماً ، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة ، أو لمعان تفوق عبر التاريخ . فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة ، وأعطى ذرة الألماس الصلابة المخيفة والتألق المدهش الفذ ، هو طبيعة التركيب الداخلي ، مع أن ذرات الكربون بالأصل سواد وقتام ، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية ، بل يعتبر الفحم ( شبه معدن ) وليس معدناً ، فهو ليس في صلابة الحديد ، أو ندرة الذهب ، أو ثقل الزئبق ، أو إشعاع اليورانيوم ، فالذي يعطي التركيبَ القوةَ الضاربة ، أو النوعية الممتازة ، أو التميز والتفوق ، هو كيفية ( اجتماع ) عناصره الأولية . وكذلك المجتمعات ، فالذي يَسِمْ المجتمع بالقوة أو الضعف ، بالتميز أو السطحية ، بالتفوق أو الانحطاط ، هو نوعية علاقة ذراته ( أشخاصه ) الداخلية . وبذلك تفوق المجتمع الياباني وتأخر المجتمع العربي ، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين بالمجتمع الغربي كانت متقاربة ، فارتفع المجتمع الياباني وحلق ، في حين أن المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة ، ويعجز عن السيطرة على حل مشاكله ، وبين عامي 1960 م و1990 م حقق المجتمع ( الكوري ) قفزة نوعية وبقي المجتمع ( الغاني ) يتجرع غصص التخلف ، مع أن مستوى دخل الفرد كان واحداً في نقطة البدء !! ( 4 ) . إذاً المجتمع هو تركيب ( STRUCTURE ) تماماً كما في التراكيب الكيمياوية العضوية ، وهو بالتالي ليس ( مجموعة ذرات ) و ( كومة أشخاص ) ونحن نعلم من الكيمياء العضوية ، أن تغيير فاعلية مركب ، من وضع إلى وضع ، يتم من خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية ، ويبقى ( الكم الذري ) كما هو بدون نقص أو زيادة ، فينقلب المركب الخامل إلى فعاِّل وبالعكس ، والدواء إلى سم زعاف ، والسم إلى ترياق ، كما حصل مع باول ايلريش ( PAUL EHRLICH ) بعد ( 606 ) من المحاولات ؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض الأصبغة ، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياقٍ وعقارٍ ، لمعالجة داءٍ فتكَ بالجنس البشري أكثر من ( 400 ) عاماً ( الافرنجي _ SYPHILIS )( 5 ) . كيف يبدأ المرض في المجتمع ؟؟ كيف يتحول المركب إذاً ؟ كيف ينقلب في وظيفته ؟ بل وكيف يمرض المجتمع ؟؟؟؟ كلها تحدث بنفس الآلية ( تغير طبيعة العلاقات الداخلية بين العناصر الأولية ) ، فإذا تورم الأفراد وتحولوا إلى ( قوارض اجتماعية ) تلتهم الشبكة الاجتماعية ، انحدر المجتمع صوب الفناء والموت ، وبنفس الآلية التي يموت فيها الأفراد . ولكن علينا أن نتأمل هذه الظاهرة جيداً ؟ فماالذي يحدث عند موت الفرد ؟ دعنا نتأمل ظاهرة ( الفك والتركيب ) في أي موجود تحت أيدينا من مثل الكرسي أو الطاولة أو السيارة ؟؟ وكيف نسمي الطاولة ( طاولة ) ؟ أم كيف نمنح لقب الكرسي لـ ( الكرسي ) ؟ أو السيارة لـ ( السيارة ) ؟؟ إن هذا يرجع ليس لـ ( القطع أو الأجزاء ) التي تشترك في تركيب الطاولة أو الكرسي فضلاً عن السيارة !! فلو أمسكنا بالكرسي و( فككَّنا ) الأجزاء عن بعضها ، لم تعد الطاولةُ ( طاولةً ) ولا السيارةُ ( سيارةً ) ؟! والسبب هو أن السيارة تأخذ ( وظيفتها ) و ( شكلها ) الذي يمنحها الاسم ، من ( اتصال القطع ) و ( تلاحم الأجزاء ) فتقوم السيارة بوظيفة محددة من مثل الحركة لنقل الركاب والأمتعة . كذلك الحال في الكرسي الذي نجلس عليه ، فإذا التأمت قطعه ، وتضافرت عناصره الأولية ، لتؤدي وظيفة ( الجلوس ) عليه ، استحال إلى كرسي ، أما قطعه الأولية فليس لها اسم ، وأجسادنا هي تركيبٌ من هذا النوع ومعقدٌ للغاية ، والذي يحدث في الموت ، شبيه بما يحدث للكرسي عندما تتناثر قطعه ، وتعود إلى سيرتها الأولى ، أو للسيارة عندما تُفكَّك وترجع إلى وحداتها الأولية ، وأشار القرآن إلى هذه الحقيقة عندما قال ( قد علمنا ماتنقص الأرض منهم )(6) فالجسد الذي يتحلل إلى عناصره الأولية لاينقص منه شيء ، وبَدَنُنَا في الواقع مكون من برميل ماء ، ومقدار من الحديد يكفي لصناعة مسمار صغير ، وقبضةٍ من الكلس ، وكمية من الكبريت تكفي لرأس عود ثقاب ، وحفنة من الفوسفور ، وآثارة من اليود والنحاس ، وبقيةٍ تافهة من الفوسفور المتقد ، وكميةٍ من الغازات التائهة !! فنحن كـ ( مواد أولية ) في ( ثمننا ) لانساوي شيئاً مذكوراً ، ولكننا في تركيبنا الإنساني لايصل إلينا ( سعر ) ، لذا فالذي يبيع نفسه بالذهب يعتبر تاجراً في منتهى الغباء !! وعندما يموت الفرد بيولوجياً فإن البدن يتحلل بعد فترة ليرجع إلى دورة الطبيعة ، ولاغرابة عندما نسمع أبو العلاء المعري ينشد : رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٌ من تزاحمِ الأضداد خفِّف الوطءَ ماأظن أديم الأرض إلا من هذه الأجســــــاد إن العنصر الواحد مثل حديد الدم ، أو فوسفور المخ ، أو يود الدرق، أوكلس العظام ؛ مصيره في النهاية إلى التراب ، إلى دورة الطبيعة ، ليعاد تشكيله واستخدامه من جديد ، في غاية جديدة ، ونشأة مستأنفة وعالم محدث وخلق مبتكر ، قد يكون بشراً جديداً ، أو أنسجة حيوان ، أو محتويات خلية نباتية ، فأجسادنا الزائلة جاءت من الطبيعة ، وهي تيمم شطرها مرة أخرى إلى التراب ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ( 7 ) ، والذي حصل مع الموت اتسم في الواقع بصفتين جوهريتين ، سبقت إحداهما الأخرى ، فأما الخلل الأول بعد الموت والذي يطرأ على الإنسان فهو ( توقف الوظيفة ) فيتحول الإنسان إلى صورة جامدة ، لايبكي ولايضحك ، لايتألم ولايحس ، لايتكلم ولايسمع ، فإذا استقرت هذه الحالة انتقل إلى الحالة الثانية وهي ( تحلل الشكل ) فالميت مثل النائم ، يبقى في الفترة الأولى محافظاً على شكله ، بل يبقى اللحم حاراً ولساعاتٍ بعد الوفاة ، كما تبقى بعض الخلايا حية ، بل قد تنمو الأظافر شيئاً ما ، ثم يسيطر الموت فتبدأ ( علاقات ) الأنسجة بالتفكك و ( ارتباطات ) الخلايا بالتمزق النهائي ، كي يتفكك الجسم تماماً إلى وحداته الأولية . والمجتمع عندما يبدأ الانهيار في مرحلة الموت يمر مايشبه هذه المراحل من ( شلل الوظيفة ) لينتقل بعدها إلى مرحلة ( اندثار الشكل ودماره الكاملين ) .. ليتحول في النهاية إلى ( كومة ) من الأناسي و ( خردة ) من البشر لايجمعها رابط ، أو يضمها مثل أعلى ، أو يحدوها قيم عليا ، أو ينتظمها تنسيق مشترك ، فيعيش كل فرد لنفسه ، أو يتحول الإنسان من ( الشخص ) إلى ( الفرد ) فيخسر ذلك ( البعد ) الذي منحه أياه المجتمع ، حينما أضاف إلى معادلته البيولوجية ( المعادلة الاجتماعية )( 8 ) موت الأفراد وموت المجتمعات حسب القرآن ومن الملفت للنظر أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين ، فذكر موت ( الفرد ) ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات ( لكل أمة أجل ) ( 9 ) فالأجل هنا جماعي وليس فردي . فالآجال إذاً نوعان : منها ماهو خاص بالفرد والآخر بالمجتمعات ، كلٍ من نوعية متباينة ، وهذا يعني بكلة ثانية أن الأمم تموت ، والدول تنتهي ( 10 ) والشعوب تفنى ( 11 ) والحضارات تباد وتنهار ( 12 ) بل إن حديث القصعة أشار أيضاً إلى طرف من هذا ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) فيتحول المجتمع الإسلامي إلى مواد غذاء وتموين لبناء أجساد أخرى ، عندما يختل تركيب التكوين الداخلي الاجتماعي ، فتتحول طاقات الأفراد المنسابة عبر الأقنية الاجتماعية إلى مصادر تفجير لها ، فتتمزق أقنية الوصل الاجتماعية ، ويتهتك النسيج الاجتماعي . جاء في كتاب ميلاد مجتمع : (( ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع مالم يسبق تكييفها ، أعني مالم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا تعيد تنظيم هذه الطاقة وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع - إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما ))(13) . كما أسعفنا القرآن بأمثلة عن مجتمعات باتت مريضة تمشي باتجاه الموت ، وكيف تم التصرف تجاهها ، بين فتية أهل الكهف ، الذين انطلقوا لتأسيس مجتمعهم الخاص بهم وضنوا حتى بالكلب أن يبقى في المجتمع السابق !! وبين موسى ( ص ) وهو يواجه أعظم حضارة في عصره ، حيث حدد مهمته على وجه الدقة ، من أنه لايريد إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه ، إنه يريد شعبه ، الذي ينتظره أن يُدفن في الصحراء أولاً من خلال ( التيه ) كي يخرج من أصلابهم جيل لايعرف غير الشمس والحرية ، وهو الذي لن يرتعد من ( القوم الجبارين ) الذين توهمهم آباؤهم كذلك . والمثل الثالث في انفلاق مجتمع المدينة الساحلية إلى ثلاث مجموعات أمام تحدي الانحراف ، نجى فيها الفريق الصغير نواة الأمة الجديدة ، بترابط جديد للقيم ، أما بقية المجتمع فتشوه الترابط الداخلي عنده ، ليتحول إلى مجتمع ( القردة الخاسئين ) ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ولاغرابة لإن كروموسومات القردة تشبه 99% من كروموزومات الإنسان ، ولكن الاختلاف في البناء الداخلي ولو باختلاف 1% يقلب البناء رأساً على عقب ، ويحول البشر السوي إلى قردٍ خاسيء !! شهادة التاريخ في موت المجتمعات : إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ ، وبقيت الأهرامات تشهد على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ ، لم يمت أفراد ذلك المجتمع ( بيولوجياً ) ولم تُغيَّب عناصره الأولية في التراب ، ومازال الإنسان الفرعوني ( المصري ) يعيش ، ولكن كعنصر أولي يشارك في حضارة مختلفة ، فعندما مات المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و ( طوب ) أو ( لبنات ) امتصها مجتمع زاحف نامي متفوق ، كوَّن بها نفسه من ( لبنات ) المجتمع الميت ، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وهكذا تحول المجتمع ( الفرعوني ) إلى مجتمع ( روماني ) ، ثم مات بدوره ليتحول إلى مجتمع ( إسلامي ) وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى ، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ) مثل المجتمع اليوناني والقرطاجني والازتيك والإنكا والوبيخ والفرعوني الخ ... (( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )) ( 14 ) تحليل يومي تشريحي لحركة المجتمع : ومن خلال البانوراما التي استعرضناها من القرآن والتاريخ وعلم الاجتماع والكيمياء العضوية والبايولوجيا بل وحتى علم الأدوية ، نتوجه لتسليط الضوء على فكرة ( السلسلة الذهبية ) كي نفهم في ضوئها معنى الموت الاجتماعي ، وتقطع شبكة الربط الحضارية !! مامعنى أن ( معاملة ) ما في أي قطاع اجتماعي لاتمشي إلا بطريقة ( الدفع المتتابع المستمر ) مع شيء من المقبلات من ( الوساطة ) ؟؟!! إن هذا المرض خطير للغاية ، ومؤشر لأزمة اجتماعية ، فالعملية الاجتماعية أياً كانت هي _ إن شِئنا أم أبينا _ وحتى تنجز تتكون من سلسلة من الأفعال الاجتماعية ، يقودها الأفراد الاجتماعيون ، من خلال معادلة ( حق - واجب ) أي أن الواجب الذي يؤديه فرد في سلسلة ( آ ) ستكون له حقاً في سلسلة ( ب ) مثل العلاقة بين ( علاج طبي لمريض ) و ( استخراج رخصة قيادة سيارة في مصلحة المرور ) و ( نقل رسالة بريدية ) فالعملة أي ( الخدمة الاجتماعية ) هي عملة ذات وجهين ( حق - واجب ) فما كان حقاً لفرد هو واجب للتأدية في ذمة آخر . هذه العملية الاجتماعية مهمة في كل ( حلقات السلسلة ) بمافيهم الفرَّاش وحامل الأوراق ، لإنه يكفي أن ( تنام ) المعاملة في ( درج ) أو يضطرب التعقيم في مرحلة طبية ، أو يهمل أي موظف الخدمة الاجتماعية ، أن تضطرب السلسلة كلها وتحل الكارثة !! وهذه الحقيقة القاسية والمؤسفة هي لب العملية الاجتماعية . فإذا كانت ( السلسلة الاجتماعية ) مكونةً من عشر حلقات بين الرئيس ، ومساعده ، والسكرتير ، والموظف المتلقي ، وحامل الأوراق ، والمدقق ، والناسخ ، والضارب على الآلة الكاتبة ، وصاحب الكمبيوتر ، والجالس خلف سنترال التلفون . يكفي أن تضطرب ( حلقة واحدة ) وحلقة واحدة فقط لاغير ، من هذا السلسلة كي يختلَ العمل بأكمله ، وهذه المشكلة هي أس الأسس في التركيب الاجتماعي ، فعندما يكون الموظف متسلِلاً بدون إذن ( 15 ) والساعي مهملاً ، والمدقق نعساناً ، والناسخ فوضوياً ، والجالس على الكمبيوتر جاهلاً ، والقاعد خلف السنترال نائماً ؟! يكفي الخلل في ( حلقة مفردة يتيمة ) ولو كانت كل ( السلسلة ) من الذهب الخالص و24 قيراط ، أن تحل الكارثة وتقع المصيبة ، وتتوقف السلسلة أن تمر بها ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وبذا ينطفيء الضوء الاجتماعي ، ويذهب نوره ، وتحترق الآلات ويعم الخراب ، وتسود الفوضى ، ويبدأ المجتمع في التحول إلى مجتمع ... نفسي نفسي . إن هذه الحقيقة المرة والموجعة هي الإصابة العصبية الاجتماعية الكبرى ، والتي تحول المجتمع إما إلى ( مشلول ) بانقطاع العصب ، أو متشنج مضطرب بإصابة العصب الجزئية ، مشلول عندما يعطب العصب بالكامل فلايمرر السيالة العصبية الاجتماعية ، ومتشنج بعدم تناسق عضلات الفعل الاجتماعي في اضطراب مرور السيالة العصبية حسب نسبتها ومقدارها موت المجتمع لايعني بالضرورة فناء الأفراد إن النزول إلى ساحة العمل الاجتماعي مرهقة إلى أبعد الحدود ، مزعجة إلى حد المرض ، مضيِّعة للوقت بدون مبرر ( لإننا ملوك الزمان ) بل وتأكل الكرامة الإنسانية أحياناً ، فلا موظف يبقى خلف طاولته ، ولاعامل يبقى مرتبطاً إلى عمله ، والدخول إلى الطرقات هو النزول إلى ساحة الحرب يحمد الفرد فيها اللهَ في نهاية المطاف على السلامة ، وملاحقة المعاملات جولة في بلاد( أليس للعجائب ) و( عبقر ) للجن ، وإنجازها وكأنها إزاحة جبل ، والسر في هذا هو تقطع ( نقط الاتصال والالتحام الاجتماعية ) بين ( حلقات ) السلسلة الذهبية التي أشرنا إليها ، فلا تعود ذهبية بل تتحول إلى سلسلة تنك ، وحديد صدأ ، والصدأ على كل حال يعني التفكك والعودة إلى حالة ( الخام الطبيعي ) ، فإذا اضطربت ( السيالة الكهربية ) الاجتماعية ، وتقطعت حلقاتٌ متعددة ، من سلاسل شتى ، كان مؤشراً خطيراً لتدمير النسيج الاجتماعي ، وكان معناه أن المجتمع يبدأ يكف أن يكون مجتمعاً ، بل يتحول إلى ( مُجمَّع هزيل ) و ( مافيات اجتماعية ) وحوضاً مرعباً لسمك القرش وقنافذ البحر والاخطبوط الاجتماعي ، وهذا المرض لن يقف عند هذا الحد بل سيقضي في النهاية حتى على تلك الجزر الطافية هنا وهناك في الاوقيانوس ( المحيط ) اللاجتماعي المتخبط ، كما كانت حالة الامبراطورية الرومانية في العصور الوسطى ، وفي النهاية يصبح المجتمع أمام طريق مغلق ، وعليه أن يولد من جديد ، إما بحزمة قيم جديدة بالولادة الروحية الجديدة كما فعل الإسلام مع ( البشر الخام ) في الجاهلية ، حيث لم يكن يهم ( طرفة بن العبد ) إلا قدحاً من الخمر ، وقتالات طائشة ، وممارسة الزنا مع بنات الهوى ( 16 ) أو الذوبان والاختفاء الكامل في مجتمعات قوية متفوقة ، واندثار ثقافة المجتمع ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم ) وقد حدث هذا في التاريخ ويتكرر . مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع الكهربائي والالكتروني : ماالفرق بين مجتمع ومجتمع ؟؟ هناك ثلاث أنواع من المجتمعات فيما لو أردنا استخدام المصطلحات العصرية !! مجتمع ( مضخة الماء ) والمجتمع ( الكهربائي ) و ( الالكتروني ) ، فعندما لاتمشي المعاملات إلا بطريقة ( الدفش المتتابع المستمر ) !! فهي تعود إلى مجتمعات (مضخة الماء ) فالماء يتدفق طالما بقيت اليد ملتصقة بالذراع الحديدي ، فإذا توقفت عن( الدفش ) انقطع الماء وتوقف الخير !! وهكذا فالمعاملة التي تقف مباشرة قبل هدفها بملمتر واحد ؛ لاتصل إلى هدفها بدون ( الدفعة الأخيرة ) ويعتبر كل جهد سابق وكأنه لاشيء ، فلا تولد أو ترى النور بدون الحقنة الأخيرة !! أما المجتمع ( الكهربي ) فهو الذي يتحرك بكبس الأزرار ، فتمشي المعاملة لوحدها بدون متابعة إلى مقرها الأخير ، بسبب قوة كل حلقة من ( السلسلة الذهبية ) ، وهكذا تولد كل معاملة وصاحبها مطمئن إليها طالما حركَّها ، وهو الذي لمسناه في الماكينة الاجتماعية الغربية أثناء العيش بينهم ، وهي من أسرار تفوقهم وقوتهم ، فلاتحتاج أي معاملة إلى متابعة أو ملاحقة ، فضلاً عن نشوء مؤسسات خاصة في المجتمع لمثل هذه الوظائف الطفيلية ( تخليص المعاملات - متابعة الجوازات - تحصيل الديون الفوري ؟؟!! ) أما المجتمعات المستقبلية مجتمعات ( النبض الالكتروني ) فهي تلك التي تتربع على عرش الالكترونيات ، ويفتح لها القرن الواحد والعشرين ذراعيه للاحتضان ، من مثل المجتمع الياباني ( 17 ) وحتى يمكن نقل المجتمع من عصر (مضخة الماء ) إلى ( الفعل الكهربي ) فضلاً عن ( التوهج الالكتروني ) فإنه يتوقف على اتصال عناصر العملية الاجتماعية ، فإذا أدى أحد ( حلقات ) السلسلة عمله بفعل ( جذبي بانتكاس داخلي ) قعد المجتمع وانشل ، وإذا تحول إلى روح ( الواجب وضمن المراقبة المتقابلة المزدوجة وبآلية النقد الذاتي ) تحول إلى مجتمع ( حركة الكهرباء ) فإذا قفز إلى روح ( المبادرة ) أصبح بسرعة الومض الالكتروني !! ولله في خلقه شؤون . ثمن الانهيار الاجتماعي مع تمزق شبكة المجتمع يدفع كل عناصر المجتمع الثمن ومع كل فوائده المركبة ، حتى من هم في قمة الهرم الاجتماعي ، والسبب بسيط هو أن ( الماكينة الاجتماعية ) لاتعمل ، حتى الأوامر التي تأتي من فوق تفقد حرارتها كلما نزلت إلى أسفل ، فتتباطيء ويتوقف الانتاج ، وكأنها مثل القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية ، فهي تبرد مع الوقت ، والتحرك باتجاه المحيط ، أي أن الفعل الاجتماعي يتحول من فعل ( واعي إرادي ) إلى عمل ( فيزيائي ) وشتان بين الإرادة والمعدن ، والحي والجماد ، والفعل والانفعال ، والطبيعة والإنسان ، في حين أن المحافظة على الشبكة الاجتماعية يجعل الحياة سهلة لكل واحد فيها ، ممتعة لكل فرد ، حلوة لكل من يشارك في نشاطها ، ولعل هذا هو الذي قصده القرآن حين ربط بين مفهوم ( الاستقامة ) والفائض في الحياة الاجتماعية ( غدقا ) ( وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقاً ) ( 18 ) مثل انكليزي معبر : يقول المثل الانكليزي أن هناك قصة طريفة جرت لأربعة أشخاص أسماؤهم ( كل واحد ) و ( أي واحد ) و ( لا أحد ) والرابع كان اسمه ( بعض الناس ) ، وكان هناك أمر مهم يجب أن ينجز . فُسئل ( كل واحد ) كي ينجزه ، إلا أن ( كل واحد ) كان يتوقع من زميله ( بعض الناس ) أن يقوم به ، إلا أن ( بعض الناس ) غضب لإن المهمة كانت مهمة الزميل ( كل واحد ) ، إلا أن ( كل واحد ) فكر أن ( أي واحد ) يمكن أن يؤديها ، ولكن الزميل ( لا أحد ) تحقق أن ( أي واحد ) يمكن أن يفعلها ، وبذلك كانت المحصلة أن ( كل واحد ) لام ( بعض الناس ) لإن ( لا أحد ) فعل ماكان يجب أن يفعله ( أي واحد ) !!! THIS IS A STORY ABOUT FOUR PEOPLE NAMED ( EVERYBODY ) , ( SOMEBODY ) , ( ANYBODY ) , AND ( NOBODY ) . THERE WAS AN IMPORTANT JOB TO BE DONE AND ( EVERYBODY) WAS ASKED TO DO IT . ( EVERYBODY) WAS SURE ( SOMEBODY) WOULD DO IT . ( ANYBODY ) COULD HAVE DONE IT . ( SOMEBODY ) GOT ANGRY ABOUT THAT , BECAUS IT WAS ( EVERYBODY) ,S JOB . ( EVERYBODY ) THOUGHT ( ANYBODY) COULD DO IT BUT ( NOBODY ) REALIZED THAT ( EVERYBODY) WOULD,NT DO IT . IT ENDED UP THAT ( EVERYBODY ) BLAMED ( SOMEBODY) WHEN ( NOBODY ) DID WHAT ( ANYBODY ) , COULD HAVE DONE . قصة الملك وشعبه المحب : وتحكي القصة أن ملكاً أراد اختبار محبة شعبه له ، بأن نصب في الميدان العام للبلد حوضاً كبيراً ، وطلب من كل فرد عربوناً لحبه قدحاً صغيراً من العسل ، وفي اليوم التالي كان الحوض فارغاً ، لإن كل واحد فكر بنفس الطريقة : (( وماالذي سيؤثر في الوعاء الكبير أن ينقص منه قدحي الصغير !! )) مراجع وهوامش: ( 1 ) الإنذار مصطلح طبي عن توقع حالة المرض للمستقبل ( 2 ) جاء في كتاب ( ميلاد مجتمع ) لمالك بن نبي - ترجمة عبد الصبور شاهين - إصدار ندوة مالك بن نبي - ص 15 : (( المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد ، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني ، يتم طبقاً لنظام معين ، وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ماتقدم على عناصر ثلاثة : 1- حركة يتسم بها المجموع الإنساني 2 - إنتاج لأسباب هذه الحركة 3 - تحديد لاتجاهها )) ( 3 ) كتاب ميلاد مجتمع - المصدر السابق - ص 40 (( فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية ، وهذه الحالة المريضة قد تستمر قليلاً أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام ، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي )) ( 4 ) يراجع كتاب ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) تأليف باول كندي - النسخة الانكليزية ص 193 ، ويذكر المؤرخ أن دخل الفرد كان في البلدين عام 1960 م 230 دولار في السنة ليصبح اثني عشر ضعفاً للكوري ويبقى الغاني راوح مكانك ( 5 ) يراجع قصة الميكروب تأليف ( بول دي كرويف ) - ترجمة أحمد زكي - لجنة التاليف والترجمة والنشر - بحث الرصاصة المسحورة ص 339 ( 6 ) سورة ق الآية 4 ( 7 ) سورة طه الآية رقم 55 ( 8 ) يراجع في هذا التحليل القيم لاوسفالد شبنجلر في أفول الغرب عن مفهوم كم البشر الذي تضم خليطه المدن العالمية الكبرى بدون أي رباط قيم ( 9 ) راجع الآية رقم 49 من سورة يونس : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون وراجع الآية رقم 19 من سورة ق : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ( 10 ) أشار ابن خلدون في مقدمته أن الهرم إذا نزل بدولة فلايرتفع لإن لها أجل طبيعي راجع المقدمة ص 293 - 294 ( 11 ) راجع القصة المروعة لفناء شعب الوبيخ في شمال قفقاسيا من خلال القصة الدرامية ( آخر الراحلين ) ( 12 ) راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني توينبي عن انقراض 23 حضارة من أصل 28 حضارة مرت على ظهر البسيطة ( 13 ) مالك بن نبي المصدر السابق ص 100 ( 14 ) ميلاد مجتمع - ص 8 : ولقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت ، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت مثل المجتمع الغالي بعد معركة اليزيا والمجتمع القرطاجني بعد معركة زاما والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على بومبي ، وحضارة الازتيك عاشت في أمريكا الوسطى والانكا في أمريكا الجنوبية وكلاهما دمرهما الأسبان ، أما شعب الوبيخ فقد دُمر بيد روسية عثمانية مشتركة !! راجع قصة آخر الراحلين ( 15 ) تأمل الآية من سورة النور رقم 62 - 63 وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يستأذنوه .... قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ( 16 ) يراجع في هذا معلقة طرفة بن العبد ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ...... وجدك لم أحفل متى قام عودي .. شربة الخمر التي يعلوها الزبد+ الكر في الحروب الفارغة + والبهكنة ( الفتاة الناعمة ) للمتعة الرخيصة ( 17 ) يراجع في هذا كتاب آفاق المستقبل - جاك أتالي - عن تحول القلب الصناعي في المحيط الهادي باتجاه طوكيو وكذلك كتاب ( اليابان الذي يستطيع أن يقول لأمريكا لا ) تأليف عضو الدايت الياباني ( شينتارو إيشيهارا ) ( 18 ) السورة الجن الآية 16 .
اقرأ المزيد
الحوار أم الصدام ؟
في الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله ، في مركب جديد متطور ، متفوقٍ على كل ٍمن المركبين السابقين ، وفي الصدام يلغي كلُ طرفٍ الآخرَ، ليموتَ الاثنان في النهاية ، لإنه في اللحظة التي يلغي فيها أحد الأطراف الطرف الآخر يكون قد حكم على نفسه بالإلغاء . فالحوار هي آلية نجاة الجميع . لإنها وثيقة الاعتراف المتبادل بالوجود الذي أسبغه الله على الجميع يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر : هل لك في الحوار ؟ فقال : على عشرة شروط !! قال وماهي ؟ قال : ألا تغضب ، ولاتعجب ، ولاتشغب ، ولاتحكم ، ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ، ولاتجعل الدعوى دليلاً ، ولاتجوز لنفسك تأويل آيةٍ على مذهبك ، إلا جوزت لي تأويلَ مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلاً منا يبغي من مناظرته ؛ أن يكون الحق ضالته والرشد غايته !! (1) دخل عليَّ صديقي التركي ( عاصم ) مع طفله الصغير ، الذي أعجبته مكتبتي وتلون كتبها ، فانطلق في هذا العالم الجديد يعس فيه ويكتشف ؟! إلا أنه سرعان ماعاد إلى منعكسات اللجم التي عُوِّد عليها ، فكانت والدته لاتنطق إلا بلفظ ابتعد لاتلمس أو لاتقترب وممنوع !! المهم كان حرف ( لا ) المقدس يتكرر كالمطرقة على رأس الصبي المذهول ، بين جاذبية المكتبة وأغراضها ، وبين حرف ( لا ) العنيد البئيس والمتكرر ؟!! وبقي الطفل يتأرجح بين كلمات اللجم ، والقانون الميمي الثلاثي ( مايصير . ممنوع . مافي ) ونظرات التخويف ، وبعضاً من صفعات والده التربوية !! وأردت أن أقوم بتجربة صغيرة مع هذا الطفل ، فبدأت في ( حواره ) ، وكان دوري أن أعلمه ( أسماء الأشياء ) ( 2 ) ومن خلال التعريف أسمح له بالدخول إلى العالم المزدحم من حوله ، فبدأ الطفل فتجرأ فـ ( نطق ) وتجاسر فتكلم فـ ( سأل ) ولكنني أدركت أن هذا الطفل ( الصفحة البيضاء ) يتشكل فيه ( نقشنا ) بقدر الجهد المبذول من خلال ساعات العمل . والإنسان في الواقع كمعادلة ليس أكثر من : وضع صيرورة ، ومحصلة تراكمية بطيئة للحظات الجهد الواعي خلال وحدات الزمن التي مرت قبل كل لحظة جديدة ، وهذا التراكم لايتوقف إلا بالموت ، فالموت هو توقف الصيرورة ، وإن كان كثير من الناس أموات وهو محسوبين من الأحياء ***************************** هذه الواقعة السابقة أثارت في ذهني بعض الذكريات من الوسط الألماني ، وطريقة المرأة الألمانية في معالجة طفلها اليومي . كنت أتأملها وهي تعطيه كل الوقت ، تنمي عقله ، بـ ( احترام السؤال ) وتنمية ( الدهشة ) واستثارة ( روح الفضول ) وتشجيع ( الحوار ) وطرد شبح الخوف منه ، وجرأة ( النقد والنقد المضاد ) والتعبير عن وجهة النظر أمام الملأ بدون وجل أو اضطراب ، جنباً إلى جنب ، مع العناية بغذاءه ونظافته وحمَّامه اليومي ، وتشكيل السلوك عنده في عدم إلقاء شيء على الأرض ، أو عدم إخراج الأصوات من فمه أثناء ارتشاف الشوربة أو الشاي ، فهي حضارة النظام والنظافة والهدوء . وأدركت أن الطفل في مجتمعنا ومن خلال تركه للظروف ( تُشَكِّله هي ) ينبت وقد اغتيلت عنده مجموعة من الصفات النفسية الإيجابية ، لعل أبرزها ( روح الدهشة ) في تأمل العالم ، لإنه مع وأد روح الدهشة تتوقف آلية الفضول ، فيُقتل النمو وروح البحث العلمي عنده دفعة واحدة . وبالتالي لذة ( الجِدَّة ) في الحياة التي تخلع على الحياة معنى وتشحنها بالاستمرارية والنمو ، وبكسب العادات العقلية الجديدة هذه ، ينشأ ليس على الانطلاق وروح المغامرة وحب اكتشاف المجهول ، بل على السلبية والجمود والخوف والتقليد الأعمى . كما ذكرتني الواقعة آنفة الذكر ، بالدراسة الشيقة التي قام بها عالم النفس السويسري ( جان بياجييه )( JEAN PIAGET )( 3 ) عندما قام بدراسته على أولاده الثلاثة ، من خلال دراسة ( التطور الروحي الحركي ) وارتقاءه مع ارتقاء الإنسان في العمر ، ووضع اتجاهاً كاملاً بين مدارس علم النفس ، التي اجتهدت في فهم المزيد عن الآليات النفسية وعملها عند الإنسان ، وعلاقة ذلك في بناء العادات العقلية ، ومنها كسب آلية الحوار التي نحن بصددها . يرى ( بياجييه ) أن : (( كثيراً من المفاهيم مثل التفكير والذكاء والوعي والقيم والتوقع )) تعود إلى (( تأثير البيئة على الإنسان )) الذي هو (( محكوم بمدى وعيه بها وهو وعي يمر في مراحل ارتقائية مختلفة )) ( 4 ) فكرة الزوجية ( القانون الانطولوجي _ الوجودي - وعلاقته بالحوار ) : إن الزوجية هي القاعدة الأولى التي ينطلق منها الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى فكل شيءٍ من الأناسي والحيوان والثمار و( الأفكار ) خُلق زوجين وليس فرداً ، وبغرض التزاوج ( ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ( 51 : 49 ) فالإنسان يولد من زوجين أب وأم ، كذلك الحيوان والنبات ، وكذلك الأفكار ، فكل فكرة هي مولودٌ من أب وأم ، وفروع وأصول ... ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لايعلمون ) ( 36 : 36 ) .. وتزاوج فكرتين _ بشروط الزوجية _ يخصب العلاقة بذرية جديدة صحيحة البنية ، ولكن مع هذا قد يحدث زواج ولايحصل الإنجاب ، بفعل عقم أحد أو كلا طرفي العلاقة . فالشرط العضوي أساسي في الزواج ، ولايتم الإنجاب بدونه ، ولكنه مع هذا فهو شرط غير جامع ولامانع . إذا فشلت العلاقة الجنسية فشل الزواج في الغالب ، ولكن إذا نجحت فإنه لايعني أن الحياة الزوجية في مركب استقرار ، بل لابد من الشرط الكامل ( الجامع والمانع ) : ( المودة والرحمة ) ؛ فحتى يأتي الأطفال إلى الدنيا لابد من زواج بين رجل وامرأة ، وحتى يرى الحيوان ذريته من أي نوع ، لابد من زواج ذكره بأنثاه ، وحتى يتم إثمار النبات ، لابد من اللقاح والزوجية ، فـ ( ولادة ) البشر و ( تكاثر ) الحيوان ، و( إثمار ) النبات ، يتوقف كله على التلاقح والزوجية . فالزوجية هي : (( أس الكون وأساس الوجود المخلوق عداه سبحانه وتعالى )) . هذا القانون ينطبق أيضاً على الأفكار ، باعتبارها وحدات مخلوقة . فشرط الخصوبة والتكاثر الإيجابي ، بل وحتى السلبي في الوجود المخلوق هو الزوجية ، وتعبير القرآن ( من كل شيء ) يجعل القاعدة تعم المخلوقات كلها ، فتدخل دنيا الأفكار تحت هذه القاعدة ، باعتبار أن كل فكرة هي ( مخلوقة ) من مخلوقات الله فكما أن كل شيء مخلوق ، كذلك فهو خاضع لقاعدة الزوجية ... ولاتشذ الأفكار عن هذه القاعدة ، ففكرة ( ا ) عندما تتزاوج مع فكرة ( ب ) يتولد منهما فكرة ( ج ) ، وكما أن كل إنسان له أب وأم ، كذلك فكل فكرة لها آباؤها وأبناؤها بل وأحفادها ، وكما كان للبشر أبناء وحفدة (( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )) ( 16 : 72 ) كذلك كان للأفكار ذرية صالحة وأحياناً طالحة ، ولكن كما قلنا : إن شرط الزوجية هو أساس الخصب ، كذلك تبادل الأفكار واللقاء والبحث ، فإنها تحتاج للأزواج ( العقليين ) المخصبين ، فاجتماع عاقلين يتبادلان الآراء ينتج عنهما أفكار جديدة ، باعتبار ( التلاقح النوعي والفكري ) هنا . مع هذا فإنه ليس كل الأزواج عندهم ذرية (( ويجعل من يشاء عقيما )) ( 42 : 5 ) واجتماع جاهلين هو اجتماع عقيمين ، والعقيم من طرف واحد يسبب عدم الإنجاب فكيف إذا كان من الطرفين ؟!! فالخصوبة تأتي من مخصب وكذلك اجتماعات الناس ... إلا أن علاقات الأفكار في تزاوجها تخضع للقوانين التالية ( بعضها على الأقل ) : 1 - تقول الفكرة الأولى : إن علاقات الأفكار في التزاوج ليست مثل الواقع الاجتماعي الإنساني ففي عالم الأفكار يمكن للأفكار أن تتزاوج مع أصولها وفروعها إن صح التعبير ، وهذا يعني ذرية برقم قياسي . 2 - وتقول الفكرة الثانية : الذرية التي تخرج من هذا الاقتران ليست ( نُسخاً = كوبي ) ولا أصول ، بل هي أفضل من الأصول ، بل وكل ذرية هي أفضل من التي قبلها ، كما يحصل في اولادنا الذين ننجبهم فأولادنا نسخ أصلية أفضل منا ويحملون نفس القدرة الانتاجية . 3 - وتقول الفكرة الثالثة : الفكرة كائن حي ، بمعنى أنه يحمل صفتي ( الحركة والتكاثر ) وهكذا فالفكرة تحمل في ذاتها قدرة الاندفاع الذاتية ، لذا يجب علينا أن لانزهد بأي فكرة ندلي بها في أي وسط إنساني واعٍ . والقرآن اعتبر الكلمة الطيبة أنها كائن حي ( كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) . 4 - وتقول الفكرة الرابعة : هناك في عالم الأفكار قانون ( النمو أو الفناء الذاتي ) فالفكرة السيئة فيها خلل كروموزومي ، يقودها إلى وضع سرطاني فتنمو إنما بشكل شاذ ، مما يودي بها في النهاية إلى حتفها ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) . خلافاً للفكرة الجيدة التي فيها صفتي ( الخيرية والديمومة ) . 5 - وتقول الفكرة الخامسة : اعتبر القرآن أن العاقبة هي للأفكار الصالحة فهي التي ستبقى في حين أن بقية الأفكار السيئة تمتاز بالجزئية وعدم الصمود مع عنصر الزمن ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهكذا سقطت الشيوعية ومضت الفاشية وانقرضت النازية . فهو قانون تاريخي صارم . 6 - وتقول الفكرة السادسة : إن الكون يقوم على مبدأ التعددية فالجبال مختلف ألوانها ، والألسنة متعددة ، والشعوب متباينة ، والأفكار متضاربة ، وهذه القاعدة متأصلة في الوجود ، وعلى أساسه تمت برمجته ( ولذلك خلقهم ) فهو جل جلاله لو أراد جعل الناس أمة واحدة ، ولكنه خلقهم مختلفين حتى تبقى الحياة في حالة صحة ونمو وحركة ومدافعة ويقظة . وكما أن العقم ليت حالة مستعصية في كل الأحوال وبشكل مطلق ، وثبت علمياً أنه يمكن معالجة العقم كي يصبح منتجاً ، كذلك العقول والأفكار واللقاءات . قد يحصل اجتماع ، وتبادل آراء بين العُقماء ، ولكنه من نوع تبادل الجهل ، وكثير من الاجتماعات هي في الواقع إما في صورة ( مجاملات ) أو إذا حصل خلاف في الرأي حدث ( نزاع ) ، فكثير من الناس يدرجون في لقاءاتهم على الانعكاس على أحد طرفي علاقة مشؤومة هي ( مجاملات - منازعات ) وبذلك يتعطل الجهد العقلي في هذا اللقاء فلا يثمر . إن جو المجاملة في البحث يعني بكلمة أخرى التهرب والالتفاف حول الموضوع ، والاحتفاظ بالخنادق الفكرية ، وبذلك لاتتعرض الأفكار للتجلية والتمحيص ، وبالتالي النمو والبللورة ، فهو تهرب لبق من البحث تحت ضغط فكرة : إن البحث سيقودنا إلى النزاع واختلاف القلوب ، ولذا وحفاظاً على علاقاتنا الشخصية يجب أن نتجنب البحث الجدي والحوار الفعَّال . والكثير لايتصور خلاف الرأي إلا في صورة ( النزاع ) ، مع أن الله خلق البشر بالأصل مختلفين ، لإن في الاختلاف تفاعل وصحة وخصوبة وكشف لصورة الحق (( ولذلك خلقهم )) ( 11 : 119 ) وإذا حصل النزاع حصل تبادل الجهل ، وارتفعت الأصوات ، وعم الصخب ، وتفشت المهاترة ، لذا كان من الأفضل في مثل هذه الأجواء أن يتوقف العقل عن المتابعة ، لإن العتبة العقلية تتوقف هنا ، وتبدأ عتبة الحنجرة والحبال الصوتية !! .. وجرت سنة الله في خلقه أن رفع الصوت في مثل هذا الجو ، يتماشى بشكل طردي مع ضعف الحجة ، فكما يلجأ البعض إلى ثخانة الصوت وذبذبات الحبال الصوتية ، كتعويض عن عمق الحجة وقوة البرهان ، فإن آخرين قد يلجأوا إلى رفع العصا أو فوهة البارودة ، بل وحتى سبطانة المدفع والرأس النووي الموجه ؟! وفي البلاد المتخلفة قد توقف العقل عن العمل منذ فترة طويلة ، فهو في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر ، وعندما ينطق العقل ، فعليه أن يقول قولاً لا يوقظ نائماً ولايزعج مستيقظاً ؟! فلا يرحب بمقلقي ( النوم العام ) ، ذلك أن حركة العقل خطرة أكثر من الانشطار النووي (( ومايستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ومايستوي الأحياء ولا الأموات )) ( 35 : 19 ) . يجب أن نعترف أن الحوار الفعال النشط يحتاج بدون شك إلى أرضية فكرية خصبة ، وطاقة نفسية ، وتحرر فكري وانكسار قيد التقليد ، ولكنه مع هذا يبقى مفتاح دخول وتجاوز العقبة ( فلا اقتحم العقبة ) . إن العقل يتحرر تماماً عندما يتجاوز عتبة الخوف من البحث ، إن الأمان للعقل هو في البحث ، لإنه يتأسس على أرض صلدة . أما الانعكاس على الطرف الآخر للعلاقة المشؤومة ، فهو النزاع والانفعال في البحث ، وفقد ضبط النفس ، والحزبية ، والأسلوب التبريري لدعم الأفكار ، فهذا الجو يعتبر غير منتج ، فهو محاولة دفاع عن الآراء بأي ثمن من أجل الاحتفاظ بها ، وليس أسلوب تنمية الأفكار أو تبين وجه الصواب فيها . وكما أن الحوار وتبادل الآراء _ أي جو النقد الذاتي _ هو جو زوجية الفكر فإن ( الصممية ) هي عقم هذا الجو . والصمم أنواع : فقد يكون عضوياً فيزيولوجياً ، وقد يكون لغوياً ، وقد يكون ثقافياً . فالصوت حركة في وسط مادي ، تنتقل هذه الحركة عبر غشاء الطبل وعظيمات السمع ، فإذا حدث خلل في هذا الطريق العضوي في أي نقطة من شريط الانتقال ، تعطل انتقال الصوت ، وكان الصمم في مثل هذه الحالة عضوياً فيزيولوجياً بحتاً . وقد يحدث صمم من نوع آخر ، وهو ليس قصوراً في انتقال حركة الصوت ، وإنما في تفسيرها في الفص الصدغي في الدماغ ، فيحدث عجز في التفاهم ، ويحدث ( حديث طرشان ) من نوع جديد ، كذلك الصمم الثقافي عندما يتحاور شخصان بلغة واحدة ولكن بخلفية ثقافية متباينة ، فكما أن الحروف لها شيفرتها الخاصة بها ، لكل حرف وكلمة في الدماغ ، ولكل لغة ، كذلك هو في عالم الأفكار . فإذا اجتمع مثلاً من يؤمن بمادية التاريخ وفائض القيمة وآلية وسائل الإنتاج ، مع آخر قضَّى عمره في دراسة النحو والصرف والمعلقات الشعرية فقط ، فإن مايحدث بينهما سيكون عجباً ، ليس لإن الحروف والكلمات غير مفهومة ، بل لإن موجة الحديث كلها متباينة ، كما في جهاز الراديو عندما يوضع على الموجة القصيرة والبث على الموجة المتوسطة ؟! . كذلك حتى يحصل تبادل الآراء وإمكانية التفاهم لابد من تغيير موجة الاستقبال الفكرية بكبس أزرار خاصة في تلافيف الدماغ !! فالصمم هنا ليس فيزيولوجياً ولالغوياً بل ثقافي ببعد جديد ( 5 ) العقل على مفترق الطرق : أحسن الفيلسوف الفرنسي ( ديكارت ) حينما اعتبر أن أفضل الأشياء توزعاً بين الناس وبالتساوي هو العقل ، لإن كل فرد يعتقد أنه اوتي منه الكفاية ، فلا يريد المزيد ولا التغيير ، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فقد يشتهي أن يجعل أنفه أصغر ، أو شفتيه أكثر حمرة ، أو جسده أكثر رشاقة ، أو قامته أكثر طولاً ، ولكنه لايفكر ولا للحظة واحدة أن يجعل عقله أفضل بناءً ، وأكثر نضجاً ، وأحسن توجيهاً ، فعنده شعور الاطمئنان لهذا الجانب ، أكثر من اطمئنان التماسيح وهي تتشمس على شطئان الأنهار !! ويصل ديكارت إلى تقرير حقيقة على غاية من الأهمية . يقول ديكارت : (( إن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين الناس بالفطرة ، وكذلك يشهد بأن اختلاف آراءنا لاينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر ، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ، ولاينظر كل منا في نفس ماينظر إليه الآخر ، لإنه لايكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه ، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل ))( 6 ) ، وإذا كان الأمر بهذا الأهمية فيمكن وضع قاعدتين عقليتين هامتين في الحوار والبحث ، تتولد منهما نتائج في غاية الخطورة في أرض الواقع ، سلباً وإيجاباً حسب الزحزحة العقلية . 1 - القاعدة الأولى تقول : في أي حوار عقلي اعتبر إن ماعندي صحيحاً ويحتمل الخطأ ، وماعند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحاً . 2 - وتقول القاعدة الثانية : وهي (( آلية الفيلسوف الألماني ليسنغ ))( 7 ) إن الرغبة إلى البحث أهم من امتلاك الحقيقة ، لإن امتلاك الحقيقة الحقيقية المطلقة إدعاء ، وخدعة ، وتعطيل للجهد الإنساني ، وغير ممكنة لإنها ملك لله وحده فقط . فالعقل بين احتكار تفسير النصوص ، أوتشغيله لفهم النصوص ، فالأول يقع في مغالطة أن فهمه للنص يساوي النص ، والثاني يتحرر بإدراكه أن فهمه للنص هو ( كم ) أقل من النص دوماً _ وإلا أصبح هو النص - ويتناهى إلى الصفر ، لابل قد ينقلب تحت خط الصفر فيصبح سلبياً ، كما حصل للخوارج في التاريخ الذين قتلوا المسلمين وأبقوا على المشركين ، وظاهرة الخوارج هي ( عقلية ) قابلة للتكرار دوماً . يقول ليسنغ : (( لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه ، ومعها الخطأ لزام لي ، وسألني أن أختار ، إذاً لجثوت ذليلاً عند يسراه بكل تواضع ، ثم قلت يارب : بل أعطني الرغبة إلى البحث ، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك )) . والآن ماهي النتائج المباركة أو المريعة المترتبة على العقليتين والتفكيرين ؟؟ هذا التحليل يترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية ، فطالما رأت العقلية الأولى أن هناك هامشاً للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله ، فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي ، وبالتالي تفتح المجال أمام تصحيح الأخطاء والنمو والنضج ، في حين أن العقلية الثانية تنبع منها نتائج مختلفة تماماً ؛ فطالما امتلكت ( الحقيقة النهائية ) فهذا يعني وبشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ ، بل كل ماعندها صواب ، وهذا يعني بالتالي أن لاحاجة للمراجعة ، وبالتالي لاداعي لتصحيح الأخطاء إذ لا أخطاء ، وكيف يخطيء من هو مقدس ؟؟ إذن لانمو ولانضج ، أي ( لاحياة ) وبذلك يُستل نور الحياة تدريجيا ًمن هذه العقلية فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة ، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك . إن الله الذي خلق الطرفين ، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع ، لم يلغ طرف على حساب طرف ، بل منح الوجود للطرفين ، إلا أن الطرف الأول لايرضى بهذا ، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر وأحياناً بأسلوب ( لأقتلنك ) ، فإذا قال الطرف الأول إن الله أوجدني ومنحني المشاركة يكون جواب الطرف الآخر ( العملي ) : نعم إن الله منحك الوجود أما أنا فسوف ألغيك ؟؟!! ( إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه ) . ومن الناحية العملية تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر ، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة ، فحين تترك العقلية الأولى المجال لهامش من الخطأ ، وبالتالي قدرة المراجعة والنقد الذاتي ، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر ، بل احترامه ، بل حمايته ، بل طلبه ، لإنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح ، وتقويم الأخطاء ، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً ، ليس فقط للفرملة والتوازن ، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه ، لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني ، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً ، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجودا ً ؟؟!! .. فرق رهيب إذن بين العقليتين ........... العقلية الأولى تقوم على ( ثنائية التفكير = الديالوج ) ، تفسح المجال للأخطاء ، للنقد المضاد ، للمراجعة الذاتية ، للتسامح مع الطرف الآخر ، لاحترامه لما فيه من خير عميم ، ولحمايته لإنها بذلك تحمي نفسها بالذات ( 8 ) لإيجاده إن لم يكن موجوداً لإنها تضمن وجودها باستمرار وجوده . وإذا اختلفت مع الآخرين ، اتخذت بعين الاعتبار أن الموضوع لايتعدى ( خطأ في الفهم ) يمكن إصلاحه بالحوار ، والصبر عليه ، و ( قتل الموضوع بحثاً ) وليس ( قتل الإنسان إعداماً ) . بل والاستعداد ليس لقتل الآخرين ، بل أن تموت هي من أجل فكرتها ، كي تحول القاتل ليس إلى بطل بل إلى مجرم . العقلية الثانية ليس عندها قدرة المراجعة ، ولماذا المراجعة طالما كانت تملك الحق المطلق ؟؟ فمهمتها إذن محصورة في نشر ماتعرفه ، وعلى الآخرين أن يحظوا بشرف الاستماع ، من مصدر المطلق !! . هي عقلية ( أحادية التفكير = المونولوج ) ، لاتقبل الاعتراض ولاتسمح به ، فإذا قام اعتراض العقل كان شاذا غير مرحب به ، فكان مبررا لتصفيته ( ELIMINATION ) وحذفه من الوجود غير مأسوف عليه ، وهي على مايبدو طريقة سريعة واقتصادية !! فلماذا الحوار الطويل في ساعات غبية تافهة ، لمردود هزيل !! في حين أن طلقة واحدة و( كلمحٍ بالبصر ) تحل المشكلة ودفعة واحدة !! كما يحدث في قصف كابول اليومي الآن !! ( ألا ساء مايحكمون ). والتهم جاهزة فإذا اختلف السياسيون تقاذفوا بـ ( العمالة والخيانة ) وإذا اختلف العقائديون كانت الجعبة أدسم فتراشقوا بــ ( الهرطقة ) ، وماهو جزاء الهرطيق سوى القتل؟؟ العقلية الثانية تلغي الطرف الثاني إن كان موجوداً ، وبكل حماس وإخلاص وطمأنينة بال ، بأنها نفذت إرادة الوجود ، كي تنفرد هي بالوجود . إذن فلاتجاه الأول يوجد ملغياً ، والثاني يلغي موجوداً ، وهذا هو الفرق بين العقليتين ، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت ، فلا يستويان ... من كان له أذنان للسمع فليستمع ............... مراجع وهوامش: ( 1 ) مجلة 15 - 21 مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي ، العدد 11 السنة الثالثة - ص 4 - نقلت بشيء من التصرف ( 2 ) تأمل الآية : وعلم آدم الأسماء كلها _ البقرة - الآية رقم 21 ( 3 ) جان بياجييه عالم نفس سويسري ومؤسس مدرسة علم النفس الارتقائي ، وهو اتجاه من خمسة اتجاهات بين ( مدرسة علم النفس التحليلي _ وعلماؤه فرويد ويونج ) و ( المدرسة السلوكية وأبرز روادها سكينر وباندورا ) و ( مدرسة الجشتالت وتنسب إلى فرتهايمر وكوفكا وكوهلر ) وأخيراً الاتجاه الأخير ( مدرسة علم النفس الإنساني ) الذي شق الطريق إليه أبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل ) وينضاف للمدرسة الارتقائية الاتجاه المعرفي المعروف بـ ( الفلاسفة الفينومينولوجيون = أي علم الظواهر ) وكذلك علماء النفس الوجودي بدءً من كيركيجارد وسارتر ، ويرتكز الاتجاه الوجودي على الفكرة القائلة بأن شخصية الفرد تتكون من خلال نضاله الذاتي لتشكيل ذاته الداخلية إلى أن يجد لنفسه في الحياة معنى وقيمة وأسلوباً يحقق به ذاته ( 4 ) راجع في هذا كتاب ( الإنسان وعلم النفس ) سلسلة عالم المعرفة - تأليف عبد الستار إبراهيم - ص 57 ( 5 ) يراجع بالتفصيل كتاب النقد الذاتي للمؤلف بحث لماذا النقد الذاتي - مؤسسة الرسالة ص 93 ( 6 ) رينية ديكارت - المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم - ترجمة فواز الملاح - دمشق - محمود صالح - ص 22 ( 7 ) من فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر ( 8 ) ومفهوم الجهاد في الإسلام ينبع من هنا في حماية الإنسان بما فيه المخالف ، حتى لايبقى إنسان يفتن ويضطهد من أجل آراءه ( حتى لاتكون فتنة ) لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه ( لاإكراه في الدين ) أي مجتمع حرية العقيدة .
اقرأ المزيد
علم تغيير ما بالنفوس
إذا استطعنا تقرير أن أي واقع بشري هو نتيجة طبيعية للأفكار التي يحملها الناس في مجتمع ما ، فإن العكس صحيح أيضاً ، بمعنى أن تغيير رصيد مابالنفوس سوف يغير الواقع الاجتماعي ، ويتولد عن هذا ثلاث نتائج متلاحقة يأخذ بعضها برقاب بعض : فطالما كان تغيير مابالنفوس يرجع إلى الأفكار التي نزرعها ؛ فإن مفاتيح التغيير الاجتماعي هي ملك يميننا ، وبها تدشن الكرامة والحرية الإنسانيتين ، وطالما كانت أسرار التغيير تحت أيدينا فإن أي شيء يحدث لنا هو من صنع أيدينا ، وهي فلسفة القرآن التي تنص على أن الظلم الذي يقع على الإنسان هو من صنع يده قبل أن يكون من مصدر آخر !! وأعظم فضيلة يتدرب عليها الإنسان هي : أن لايلوم أحداً ، بل يلوم نفسه عند مواجهة أي خطأ ، وأن لايلعن الظروف ، بل يفهم قوانين حدوث تلك الظروف ، تمهيداً للسيطرة عليها ، وأخيراً فإن علينا أن نتوجه إلى الحقل المفيد في التغيير الاجتماعي من خلال فهم سنن التغيير ، لإن وعي أي قانون يفتح الطريق أمام تسخيره ، والتسخير هي الخدمة المجانية ، وهي متاحة لجميع البشر . مازالت أحداث البوسنة ماثلة في ذهني وبجنبي الأخ معاذ وفي وجهه مظاهر الألم وهي مشاهد مكررة مع اختلاف المواقع. أتذكره حين قال : عندما أسمع أخبار ( بيهاج ) أشعر وكأن أحشائي تتمزق من الداخل ؟! ورد الأخ عماد : إن مايحدث شيء غير معقول ، وتتابعت التعليقات في توزيع ( اللوم ) على الأمم المتحدة أو رؤوساء الدول الأوربية أو موقف أمريكا المتردد ؟؟!! هذه عينة جيدة من آلام المسلمين اليومية ، ولكن هل يمكن فهم كارثة بيهاج بدون كارثة البوسنة ، بل هل يمكن فهم مايحدث في البوسنة بدون الاجتياح العثماني للبلقان في القرن الرابع عشر الميلادي ، وهل يمكن فهم عقدة الصرب بدون معركة ( أمسل فيلد - AMSELFELD ) التي حدثت في عام 1389 م ، أو حتى قبل ذلك منذ الشرخ التاريخي بين الكنيسة الشرقية والغربية عام 879 م على أرض البلقان ( 1 ) أم هل يمكن فهم الأحداث الحالية بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني ، ضمن صيرورة الحضارة الإسلامية ؟ وأن مايحدث اليوم لايشذ عن القانون التاريخي الذي يفيد بالعلاقة الجدلية بين الأحداث ، فكل حدث هو نتيجة لما قبله ، وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده من الأحداث . وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم فلايمكن فهمه من خلال إيقافه عند لقطة بعينها ، بل لابد من استعراض الفيلم التاريخي حتى يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة الأحداث كلها . في نهاية القرن الثامن الهجري ( الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميلادي ) وفي قلعة منعزلة في أقصى المغرب العربي ، جلس رجل غريب التفكير جم النشاط ، يسطر بحثاً في التاريخ ، غريب العنوان طويله ( 2 ) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل ، فقد استطاع أن يحلق بعقله عبر القرون ، فيصل إلى فهم حركة التاريخ ، ويعلن عن انطفاء شعلة الحضارة الإسلامية ، بهذه الكلمات القليلة (( وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملةً ، فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 3 ) هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي . وأهمية ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس ( قانوني - سنني ) مرهف ، فهو يحاول فهم علل الأشياء ، ويدخل إلى بطن الأحداث ، ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه الأحداث (( فإن التاريخ في ظاهره لايزيد على أخبار عن الأيام وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق )) هذا الاكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقلابياً ونوعياً في تاريخ الفكر كله ، فهو نزل إلى الحوض التاريخي ، يقرأ الأحداث ويحاول فهمها ، ليس كقطع ممزقة ، ونثارات مرمية ، وحوادث لايجمعها خيط ، أو ينتظمها قانون ، بل كواقع بشري يخضع لـ ( سنة الله ) في خلقه ، فاكتشف قانون قيام الدول وموتها ، كما حلَّق إلى مرتفع شاهق ، فلمح بومضة عين انتهاء مسيرة الحضارة الإسلامية ، وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل الفهم السنني إلى مجال التاريخ ، فلاغرابة أن اعتبره المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي _ والعلماء يقدرون بعضهم _ بأنه (( أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان - IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT ES CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE )) ( 4 ) أو أن يعتبره ( فلنت ) : (( إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون ، وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا إلى جانبه )) ( 5 ) إن فكر ( ابن رشد ) و ( ابن خلدون ) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل الإسلامي حتى اليوم ، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه ، ولهذا لم يتابع أحداً هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش ، أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن ؟! والذي استفاد من هذا الفكر ( السنني ) هم رواد النهضة الغربية ( 6 ) خاصة في إيطاليا ، حيث أطلق تياراً عقلياً تحررياً ، بدأ ينتبه إلى فكرة ( السنن ) في إدراك الوجود ، و( البحث التجريبي ) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود هي الطريقة ( الاستقرائية - INDUCTION ) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة ( الاستنباطية - DEDUCTION ) ( 7 ) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود ، فكانت طريقة ابن خلدون الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين ( العودة إلى الواقع ) لإن أي ( صخرة ) هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أياً كان مصدره ، أي بربط الفكر النظري بالواقع ، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل ؟ لاكيف يجب أن تكون كما فكر من قبل أرسطو وإفلاطون ( 8 ) وهي نقلة نوعية في الفكر . هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار ( الطبيعة والتاريخ ) من مصادر المعرفة ( 9 ) هي روح إسلامية وهي بنفس الوقت ثورة على التفكير اليوناني القديم ، ففكرة ( السنة ) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن ، والسنة ليست في التفاعل الكيمياوي ، أو الخواص الفيزيائية لمعدن ما ، بل ولا في البايولوجيا ، عنى القرآن بالسنة ( النفسية الاجتماعية ) ، واعتبر أن هذه السنة ثابتة ، فلا تتغير ولاتتبدل ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 10 ) وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون ( السنة ) فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى ، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه ؟؟ هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية ، فالقانون يفرض نوعا ً من ( الحتمية - DETERMINISM ) على العقل ، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البايولوجيا ، كما أن قانون الذرة هو غير قانون المجرة ، وقوانين ( ميكانيكا الكم ) هي غير قوانين ( النسبية ) ، وغير القوانين ( النفسية والاجتماعية ) ، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره ، ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية ، لذا أصبح المجتمع متطوراً وقابلاً للتغيير . يقول مالك بن نبي (( إن كل قانون يفرض على العقل نوعاً من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون ، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً ، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم . فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لاينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببية ضيقة النطاق ... وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لاتتقبل التغيير حسب طبيعتها تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير ، لإن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس )) ( 11 ) وإذا كانت ( السنة أو القانون ) تسيطر على الوجود بكل قطاعاته بدءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة ، من الالكترون حتى النفس الإنسانية ، ومن الجزيء الكيمياوي حتى المجتمعات ، فكيف يمكن فهم قانون تغيير مابالنفوس ؟؟ إن النفس الإنسانية لاتشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود ، ولكن قطاع التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البايولوجي ، فــ ( وحدة التأثير - UNIT ) هنا هي ( الفكرة ) إضافة أو تعديلاً أو ابتداءً ، واعتبرت الآية القرآنية أن إمكانية تغيير مابالنفس ممكناً ، والواقع يمدنا بشواهد يومية على ذلك ، بل إنها ربطت تغيير الواقع ، ومن خلال سنة الله في خلقه ، بتغيير رصيد مابالنفوس (( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم )) ( 12 ) ، ففي هذه الآية الرائعة والتي تشكل بناءً أساسياً وفكرة مفصلية في منظومة المعرفة الإسلامية ( الابستمولوجيا ) تنقدح ( حزمة ) من الأشعة الفكرية !! يقول الشعاع الفكري الأول : إن الإرادة الآلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على أساس مجموعة من السنن المحكمة ، ومن هذه السنن ( الجهد الإنساني ) ، فالله لايغير الواقع الاجتماعي ، مالم يتدخل الفعل الإنساني ، على كل تفاهته وضعفه ، فلولا الماء المهين الذي نمنيه ( نحن ) ماتمت عملية الخلق التي لاحدود لروعتها ، وهذا تكريم إلهي للإنسان على دوره في هذا الوجود من خلال وظيفة الاستخلاف التي أُنيط بها . ويقول الشعاع الفكري الثاني : إن هذا القانون دنيوي أرضي فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في راوندا أو ألمانيا ، لاختار قطعاً ألمانيا ، والسبب بسيط هو وجود الضمانات ، فمنذ اليوم الأول من ولادة الإنسان ، تكون حظوظه أن لايموت في الأمراض ، أو أن لايقتل بحرب أهلية ، أو أن لايموت جوعاً ، أو أن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة ، أو أن يحصِّل تدريساً عالياً ، ولا يعني هذا أن كل من يولد في راوندا يكون فقيراً ، أو من يولد في الصومال مريضاً ، أو من يولد في أفغانستان مقطوع الساقين بقذيفة مدفع ، ولكن احتمالات كل هذه وبنسبة تتراوح تزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي للمجتمع ، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى الجبهات ، أو لو ولد يهودياً أن قضى نحبه في إحدى معسكرات الاعتقال النازية . لذلك كان المسؤولية والحساب في الآخرة فردية ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) ( 13 ) في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 14 ) ، وفي حديث السفينة عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية ( 15 ) فعندما تنطلق القوارض ؛ من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً ، فإن الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء ، بمافيهم القوارض الفاسدة الحمقاء التي لاتبصر أكثر من أرنبة أنفها ، بتضخم الذات المريضة السرطانية على حساب المجتمع ( مثل تلك المناظر اليومية المؤذية والعدوانية ، من الوقوف أمام إشارة المرور ، فيتحرك المخالف الذي ركب على رقبة الناس وسرق وقتهم ، عندما يزمر له طابور السيارات المصطف خلفه ؟! ) . ويقول الشعاع الفكري الثالث : إن هذا القانون بشري ، يضم تحت شموليته كل البشر مؤمنين وملحدين ، مسلمين وكافرين ، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات : المستوى الأول : إن الكون مسخر ( كمونياً ) بالقوة ، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين تسخيره ، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها ، فهو حقل متاح للجميع ( كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( الإسراء : 20 ) وهكذا طير الأمريكيون الحديد في الهواء ، وأطلق اليابانيون الإعصار الالكتروني من قمقمه ، ويفتك الصرب اليوم بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون . المستوى الثاني : ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوي في هذا الكون الذي نعيش فيه ، وليس هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن ، والإخلاص بدون حدود ، والحذر من الأخطاء بدون نوم ، ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم ، كما عذب اليهود والنصارى من قبل (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق )) ( 16 ) ويقول الشعاع الفكري الرابع : إن هذا القانون اجتماعي وليس فردي ، فلو أراد فرداً أومجموعة صغيرة أن تغير مابنفسها ، فقد يحصل العكس ، فقد تتعرض للسحق تحت قانون ( الدجاجة الجريحة ) الذي ذكره المؤرخ البريطاني توينبي ، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة المجروحة ، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت ؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين : داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم ، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة ، في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً ، لإن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق ، الحسرة على المزيد والقلق على ماهو موجود ، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ، أن لايكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق اللصوص ؟! ويقول الشعاع الفكري الخامس : إن لفظة ( ما ) في آيةٍ استبدلت بلفظة ( نعمة ) في آية أخرى ، وبذلك فيمكن للنعم أن تتغير لتصبح ( نقماً ) !! والعكس صحيح ؛ من خلال تغيير مابالنفوس ، والنعم كثيرة لايحصيها العدد ، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة وظروف العمل المريحة والأمن الاجتماعي ، ومقابلاتها من انتشار الأمراض ، وفساد التعليم ، وسوء نظم القضاء والخيانات الزوجية ، والتوتر في ظروف العمل ، والخوف الاجتماعي ، وجمعت الآية القرآنية نموذجين متواجهين (( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) ( النحل : 112 ) وليس هناك من ( نعمة ) أعظم في المجتمع من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش وراحة البال ، وكنت أتعجب من ( الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة ) مع كل رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي ، واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي ( قوت اليوم ) في مجتمع يوفر ( الضمانات ) للأفراد الذين يعيشون فيه ، ضمن ( الطمأنينة الروحية ) وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل الشوكولاتة الاجتماعية ( وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) فهذه الطمأنينة هي التي كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع الرفاهية ، والعكس صحيح بفقر عالم ( الأشياء ) فالعلماء تفيض قلوبهم بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من الدولارات ، لإنهم ( لايملكون الأشياء كما لاتملكهم الأشياء ) . إذا ً كيف يحصل التغيير الاجتماعي ؟؟ إن جواب هذا يتعلق بفكرتي ( الكتلة الحرجة ) و ( المثلث الاجتماعي ) . فكرة المثلث الاجتماعي : حتى يمكن السيطرة صحياً وفي منطقة ما ، فلايشترط أن يتحول كل الناس إلى أطباء بل يكفي قدراً معيناً ، وهذا يختلف من منطقة إلى أخرى ويتعلق بمجموعة من العوامل ( عدد السكان _ الأمراض المتوطنة _ الحالة المعيشية _ التعليم _ المواصلات الخ .. ) فكيف يمكن خلق وضع صحي جيد في بلد ما ؟ فأقول تقريباً للموضوع مايلي : حتى يمكن إشباع المجتمع صحياً والقضاء على الأمراض ومعالجتها في مجتمع ما ؛ لابد من وجود ( كتلة اجتماعية حرجة ) تقوم بالدور الصحي ، هذه الكتلة الحرجة تنتظم ( مثلثاً ) ذو أضلاع ثلاثة يجلس في الضلع الأول ( الأشخاص الفنيون ) ( الأطباء والممرضون والفنيون .. الخ ) ، ويكون في الضلع الثاني ( المؤسسات الصحية ) ( المشافي المستوصفات المخابر مراكز البحث العلمي الخ .. ) ، وأما الضلع الثالث فيحوي ( الأفكار ) وهي هنا تمليح المجتمع بنشر الفكر الصحي الإيجابي ، أي برفع مستوى الوعي الصحي عند الأفراد ، فلا يكفي بناء مشفى وشراء لأحدث المعدات كي ينتظم عمل المؤسسة الصحية ، ذلك أن الحضارة ليست شراءً للأشياء ، بل هي عملية بناء ، والشراء مهما كانت الأموال خلفه ( سينفد ) ( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ) ( النحل : 96 ) وتختصر في ثلاث كلمات ( بناءٌ لها وصيانتها والقدرة على تطويرها لإنها تمتلك السر الحضاري وبالتالي العلاقة الجدلية بين الآلة والإنسان وهي الآن جوهر مشكلة التطوير والتبعية بين الدول الصناعية ودول الأطراف ) . إن انتشار الأفكار وإدراك الناس لأهميتها والتزامهم بها يؤدي إلى توتر الشبكة الصحية وقيامها بوظيفتها بفعالية . وتطبيق مثل هذه الفكرة يجعلنا ندرك أثر تطبيقها في بقية مساحات المجتمع من أسفل الشرائح الاجتماعية وانتهاءً بأعلاها . و كذك يفهم الاقتصاد وبقية القطاعات الاجتماعية بما فيها المؤسسة العسكرية . وبالطبع فإن الاقتصاد كما قلنا لايخرج أيضا ً عن القاعدة الصحية التي ذكرناها فيما سبق أي وجود المثلث الذي يضم ( أشخاص + مؤسسات + وعي فكري مطابق ) . فهذا هو مثلث النهوض بأي مساحة اجتماعية من خلال تشكيل الكتلة الحرجة والشبكة الاجتماعية المتوترة . وهكذا فإن نهوض اقتصاد صحي لابد من تهيئة عناصره الأولية ، وأول عناصره الهامة على الإطلاق هي الإنسان الاقتصادي، أي الإنسان المختص بفهم ميكانيكية هذا العلم وقوانينه التي تحكم سيره . فكرة الكتلة الحرجة : يمكن فهم المثلث الاجتماعي الذي ذكرناه بصورة أخرى ، فحتى يحصل التغيير الاجتماعي لابد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لاينقصون عنها ولافائدة من زيادتها إن لم تربك ( كتلة حرجة CRITCAL MASS ) من الذين يبنون المؤسسات وينشرون الأفكار الصحية ، لإن بعض الأمراض فيها قدرة العدوى ، في حين أن الأفكار فيها قدرة العدوى دوماً ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفكرة الجيدة فيها صفة الخلود ، في حين أن الفكرة السيئة فيها الصفة السرطانية ( التورم غير الصحي والموت بعد حين ) وهو تعبير القرآن بأن الفكرة السيئة هي ( خبيثة - MALIGNANT ) ، وفكرة الكتلة الحرجة كونية سواء في المادة الصلبة أو السوائل ، في البايولوجيا أو النفس ، في الانفجار الذري أو غليان الماء أو التغيير الاجتماعي ، فهو قانون انطولوجي وجودي . ولعله الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته أيضا ً ، من أن التراكم ( الكمي ) يحدث انقلاباً ( نوعياً ) مع الزمن ( 17 ) ولمزيد من فهم الفكرة نقول : من أجل تمليح الماء حتى يحفظ الجبن ، كانت النسوة قديماً يلجأن إلى إضافة الملح بالتدريج ، ولايكفي مجرد الإضافة ، بل لابد من التفاعل حتى يذوب الملح في الماء تماماً ، أي يختلط بدرجة التجانس ، وتستمر هذه ( الإضافة ) وهذا ( التفاعل ) إلى الدرجة التي يكون الوسط قد أشبع إلى ( الدرجة الحرجة ) بحيث أننا نعرف مثلاً أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح . إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة ، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضاً إلى ( الكتلة الحرجة ) فلاتنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية ، بل لابد من كتلة حرجة ، بحيث تضغط كتلتان من مستوى ( ماتحت الحرج ) كي تصبحان بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة ؛ فيحصل الانفجار المهول . هذه ( الكتلة الحرجة ) تعتبر سراً حربياً للدولة مالكة السلاح الاستراتيجي . ويسري هذا القانون على النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة ( التأثر الحرج ) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) ( 5 : 83 ) . ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لاتحدث إلا بــ ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد ، فلايتم الغليان حتى تصل الدرجة المتجانسة للماء كله الموضوع على بؤرة التسخين إلى درجة 100سنتجراد . وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي ، فلايحدث الغليان مالم يصل إلى الدرجة الحرجة . وهكذا فـ ( الماء ) حتى يغلي لابد له من ( الدرجة الحرجة ) و( القنبلة الذرية ) تحتاج لانفجارها إلى ( الكتلة الحرجة ) و( الجبن ) حتى يُحفظ يحتاج لــ ( الوسط الحرج ) والتغيير الاجتماعي لابد له من كتلة إنسانية حرجة سواء ( نوعياً ) أو ( كمياً ) حتى يتم الإصلاح المنشود . ولتبسيط الموضوع أكثر نقول ، كما أن خبراء السوائل أو الأطباء عندهم من الأجهزة مايحكمون به على تشبع الوسط بالكمية الحرجة ، أو الغليان بالوصول إلى الدرجة الحرجة ، كذلك يفعل خبراء المجتمع سبراً وقياساً وإدراكاً بل وتنبؤاً عن تغير المجتمع . والآن إلى أخطر قطع البحث ، إلى قاعة العمليات الجراحية : للتداخل على استئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية ، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية . لابد قبل العمل الجراحي من معرفة ( تشريح الخارطة النفسية ) فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى ( المعرفة المحيطة بالتشريح - ANATOMY ) كذلك لابد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية ، ونحن هنا لانحتاج إلى معرفة ( كنه وحقيقة النفس ) فهذه يبدو لاجدوى منها ولن نصل إليها - على الأقل في القريب العاجل _ مايهمنا هو كيفية عمل النفس ( ديناميكية النفس ) ، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها ، وهذه تحت السيطرة الإنسانية ، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية ، بجراحات دقيقة . إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة ( الوعي ) وشريحة ( اللاوعي ) ، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار ، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر ، هو مدى تشبع النفس بالفكرة ، أو على حد تعبير القرآن ( الرسوخ ) ، فالفكرة قد يكون وزنها ( ميكروغرام ) وقد يكون وزنها ( ميجاطن ) !! فعندما تترسخ الفكرة وتهضم جيداً تتحول إلى اللاوعي ، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل ، فلايعرف الراحة كما يتصور البعض ، حتى في النوم كما ثبت من الدراسات الالكترونية المتقدمة ، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها ، فهو في أحد وظائفه كمبيوتر مدهش ، فهو ( يعالج ) المعضلات حتى لو تركها الإنسان ، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة ( حسب التجلي ) وهو مايحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء . وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات ، وإطلاق الحرية الإنسانية دوماً . فلو تم تشغيل الوعي دوماً بالمعلومات ، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي ، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان ، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي ، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية . حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير ، و ( العواطف ) هي تعبيرات اللاوعي ، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولانعرف عنها شيئاً ، ولكنها توجهنا بشكل مرعب ، فالصربي الذي يقتل المسلم اليوم ، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة ( أمسلفيلد ) في كوزوفو قبل 600 عاماً ، قد امتلأ ( اللاوعي ) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة ، ومعالجة كيمياوية ضد السرطان مكثفة ، واختراق فكري شعاعي لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن . والمثل الصربي واضح ، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبأة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية . كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل ، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولط إلى 220 ، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي ، ولكن ( التردد الكهربي ) داخلنا هو عادة في فولتاج ( الوعي - اللاوعي ) وليس العكس ، بمعنى أن الأفكار تمشي أولاً إلى الوعي ( باستثناء الأطفال والعوام التي قد تمر الأفكار مباشرةً الى اللاوعي عندهم كما في تشكل السلوك بالتقليد ) حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي ، فأصبحت في اللاوعي ( خبرة ) و ( تحرر ) الوعي لاستقبال أفكار جديدة ، وهي في حالة سيالة متصلة ، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت ( العواطف ) فأفرزت ( السلوك ) فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس . وإذا كنا من أجل ( أجهزة ) معينة نضطر لتحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولط إلى 220 فولط ، كذلك يمكن نقل سيالة ( اللاوعي ) إلى ( الوعي ) وهو مايفعله المحللون النفسيون أحياناً ، فإذا ظهرت تلك ( العفونات ) المختبأة بدون ( أكسجين عقلي ) إلى الضوء والهواء الطلق تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال . وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم . هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان ، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ . تقول الأسطورة أن عملاقاً أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة ، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول ، فهرع إليه لينتقم منه والأرض تهتز تحت أقدامه ، فلما سمع الثاني وقع الأقدام أصيب بالرعب ، فهدأته زوجته ، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى الأمر هي بآلية ( الأفكار ) لا بآلية ( العضلات ) ، وغطته باللحاف باستثناء قدميه الضخمتين ، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر ، اعتذرت عن عدم وجود زوجها ورجته أن لايرفع صوته حتى لايوقظ ( ابنها النائم ) فلما التفت فرأى الأقدام الفظيعة البارزة قال في نفسه إن كان هذا غلامه فكم يكون الأب ، فأصيب بالرعب وولى الأدبار ( 18 ) ؟؟!! . مراجع وهوامش : ( 1 ) وقعت عام 1389 ميلادي حيث انتصر فيها العثمانيون بقيادة معركة أمسل فيلد السلطان مراد خان الأول على الصرب الذين كان يقودهم الملك لازار ، ومن غرائب الأحداث التاريخية أن كلاهما قتل في هذه المعركة ، فأما السلطان العثماني فغدراً من جريح في المعركة ، وبعدها سقطت البلقان بما فيها صربيا تحت الحكم العثماني لمدة خمسة قرون _ راجع كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية تأليف محمد فريد بك المحامي ص 135 - ومازال الصرب حتى اليوم يحتفلون بذلك التاريخ المر ، ويندبون قتلى تلك المعركة التي مضى عليها مايزيد عن ستة قرون ؟! وأما النزاع الديني فيراجع في هذا كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة ص 161 وكان منشأ الخلاف أن الكنيسة الشرقية اعتبرت أن روح القدس هو من الآب فقط في حين أن الكنيسة اللاتينية قالت إنه مشتق من الاثنين الآب والأبن ؟! ( 2 ) كتاب التاريخ لابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) ( 3 ) المقدمة ص 33 ( 4 ) مقدمة كتاب التحرير لمقدمة ابن خلدون ص 8 ( 5 ) تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ص 162 ( 6 ) يراجع في هذا بالتفصيل كتاب عندما تغير العالم - كتاب عالم المعرفة رقم 185 _ تأليف جيمس بيرك _ ترجمة ليلى جبالي (( وجدير بالذكر أن مدينة بادوا كانت المكان الذي هرب إليه معظم مؤيدي الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) ( AVERROISM ) في القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر لمواصلة تعليم فلسفته في البحث التجريبي لدراسة الكون الذي يشبه في نظرهم آلة تسير وفقاً لقوانين عقلانية )) ص 94 - 95 ( 7 ) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 562 ( 8 ) ، وتقوم الطريقة الاستنباطية على وضع المقدمة والقياس عليها وهي مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة ( كل انسان فان . أحمد انسان . أحمد فان ) في حين أن الطريقة الاستقرائية تعمل من تحت لفوق بالعكس ، فهي تجمع الوقائع ثم تخرج بالقانون الذي ينتظم الوقائع ويفسرها ، والفرق الجوهري أن المنطق الأرسطي الصوري يبقى في الإطار النظري في حين أن منطق البحث التجريبي ، والذي انطلق به المسلمون من روح القرآن ، هو الانطلاق من الواقع واستخراج قانونه الذي يفسره . يراجع كتاب ( منطق ابن خلدون ) للدكتور علي الوردي ص 21 والمثل المضحك عن ( أسنان الحصان ) حيث اجتمع رهط من تلامذة أرسطو يتناقشون في أسنان الحصان ، فاختلفوا وكل مكنهم أراد إثبات وجهة نظره ( نظرياً ) فلم يكلف أحدهم خاطره ويلوث يده بفتح فم الحصان والنظر في نوعيتها !! ( 9 ) يراجع كتاب تجديد التفكير الديني - محمد إقبال - ( غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ ) ص 146 ( 10 ) فاطر 42 ( 11 ) كتاب ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) تأليف جودت سعيد _ تقديم مالك بن نبي - ص 11 ( 12 ) لاتوجد سوى آيتان في القرآن في هذا المعنى الأولى من سورة الرعد المذكورة أعلاه ، والثانية من سورة الأنفال استبدلت لفظة ( ما ) بلفظة ( نعمة ) فقالت : ذلك بأن الله لم يك مغيراً ( نعمة ) أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) ( 13 ) الأنعام 94 ( 14 ) الأنفال 25 ( 15 ) الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ًولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وماأردوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ( 16 ) المائدة 18 ( 17 ) يراجع المقدمة ص 29 ( 18 ) حتى يغيروا مابأنفسهم ص 91
اقرأ المزيد
انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية
(( إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة : 1 - الأولى : تحول العقل إلى ( حاوي فوضوي ) لــ ( كم ) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي ، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة ( التحليلية التركيبيبة ) والنقدية للعقل ، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي . 2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات ( فكرة كبش الفداء ) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد ، فتوقفت عن تصحيح الذات ، فوقفَ النمو ، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ . 3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي ، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم ، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!! ) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة ( تحدي ) ثلاثية الأبعاد ، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها ، وكأنه لاأمل في حلها ، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه . الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر ، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة ، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد ، واليوم يمثلون ليس مركز العالم ، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها ، فالألم عميق بين الهدف والواقع ، بين الإمكانيات والإرادات ، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع ، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا . والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع ( المعرفي ) في العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها ، بل هو في حالة ( فقد توازن ) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته ، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق ، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها . والثالثة : إننا عقلياً ( دون مستوى القرن الثالث الهجري ) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية ، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره ، ويصدر نتاجه العلمي ، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته ، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه ، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !! والسؤال كيف حدث هذا ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي ؟؟ لايمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض مالم يفهم ضمن قانون ( الصيرورة التاريخية ) فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون ، ولذا لابد أولاً من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض ، فلايمكن فهم الحدث لوحده معلقاً في الهواء . فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضلَ لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم . عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في اسبانيا كنت مهتما برؤية نهر ( التاجه ) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة ، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر ، والذي يطوق البلد وكأنه ( التاج ) الذي أخذ النهر منه اسمه . كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد ، كلفت الاسبان يومها حصاراً مديداً ، قبل أن تسقط ( العاصمة التقليدية ) لشبه الجزيرة الايبرية عام 1085 بأيديهم ، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الاندلس برمته ، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الاسبان ضد المسلمين ، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم ، لإن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم . جاء في كتاب دول الطوائف مايلي : (( وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً . ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة ، ويغدو قصرها منزلاً للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلاً للولاة المسلمين . وقد كانت بمنعتها المأثورة ، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية ، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها . وانقلب ميزان القوى القديم ، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة ، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون ، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لاشك فيه ، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الاسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي ، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت ، وتقتطع أشلاءها تباعاً في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب ))( 1 ) كان سقوط طليطلة عام 1085 م الموافق عام 478 هـ ، ويوافق أيضاً مرور 80 سنة على تفشي مرض ( دول الطوائف ) في الأندلس ، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام 399 هـ ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل ، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد ، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير : ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد ) ولكن سقوط ( طليطلة ) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف ، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب ( دولة المرابطين ) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد ( الفونسو السادس ) أو على يد ( يوسف بن تاشفين ) فقال المعتمد بن العبَّاد قولته الشهيرة ( إن كان ولابد من أحدهما : فرعي الجمال أحب إليِّ من رعي الخنازير !! ) . وكانت معركة ( الزلاَّقة ) على حدود ( البرتغال الحالية ) بين نهري ( جريرو ) و ( جبورة ) من جانب ونهر ( الوادي ) من الأسفل في سهل الزلاَّقة الذي يأخذ اسم ( ساكراخاس ) اليوم ، وكان ذلك يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ الموافق 23 اكتوبر تشرين الأول سنة 1086 م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع . وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاماً ( بن تاشفين ) . إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الاسبانية ، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك ، لإن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام ، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفاً استراتيجياً لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة ، فأدرك استحالة استردادها ، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة ، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين . كانت معركة الزلاقة ذات حدين ، فهي فلت حد الأسبان ، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل . وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها ، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين ( دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين ) يسمونها بـ ( اليتيمة ) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم ( البوسنة )؟! . هذه الضربة عام 1085 م كانت حلقة في سلسلة ، لابد من معرفة ماقبلها وما بعدها ، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي ، فبين معركة الزلاَّقة عام 479 هـ الموافق 1086 م ومعركة العقاب عام 1212 م الموافق 609 هـ ( 126 ) عاماً فقط ، فمعركة ( الزلاَّقة ) التي فرملت الزحف الأسباني ، انتهت بمعركة ( العقاب ) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي ( 2 ) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد ( 1492 م ) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد 14 عاماً من موت الفيلسوف ( ابن رشد ) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذاً محطم القلب ، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ ( 24 ) سنة فقط ( 1236 م ) !! وكانت مدينة ( سرقسطة - ZARAGOZA ) قد سقطت قبل ذلك عام 1141 م ، ثم تتالى مسلسل السقوط ، فسقطت ( بالنثيا - BALENCIA ) عام 1238 م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام 1248 م ( اشبيلية - SEVIA ) وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي ، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول ( غرناطة - GRANADA ) ينتظرون مصيرهم في كف القدر ، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور ، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير . وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ( 3 ) فإن كارثة أشد ترويعاً حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي ، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية ، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق ( بغداد ) رأس الخلافة الإسلامية عام ( 1256 ) م ، فاغتصبت لؤلؤة الشرق ، ودمرت المدينة ، وذبح مليونين من السكان ، وأحرقت المكتبات ، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوماً من الاستباحة الكاملة ؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط ( جناحي ) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد ، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة ، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب (( وجاء للدول على حين هرمها ، وبلوغ الغاية من مداها ، فقلص من ظلالها ، وفل من حدها ، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها ، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر ، فخربت الأمصار والمصانع ، ودرست السبل والمعالم ، وخلت الديار والمنازل ، وضعفت الدول والقبائل ، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب ، لكن على نسبته ومقدار عمرانه ، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض ، فبادر بالإجابة ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وإذا تبدلت الأحوال جملة ؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله ، وتحول العالم بأسره ، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث )) ( 4 ) مع هذا نريد أن نضع مخططاً بيانياً مفيداً لــ ( صيرورة ) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط ؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري ( مفاك بن نبي ) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي ( 5 ) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته : الأولى : ويعتبرها نقطة ( توقف ) وهي المتوافقة مع معركة ( صفين ) عام 34 هـ . والثانية : وهي بداية ( الانهيار ) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون ، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري . في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل ، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله ( l ) في الجزيرة العربية ، وفي الثانية تحررت الغريزة من أسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي ، لإن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة ، حتى في حديث البايولوجيا ، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضاً مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين : نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس ، وإن كان البعض يحاول جاهداً مصارعة لغة البايولوجيا التي لاترحم ولاتفقه إلا بمفردات لغتها بالذات . يرى مالك بن نبي أن معركة ( صفين ) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصاراً على طرف أو بالعكس ، بل كانت ( انعطافاً ) في مسيرة الحضارة الإسلامية ، و ( انقلاباً ) لسلم القيم . ويشهد لانقلاب ( منظومة القيم ) هذه قول عقيل ابن ابي طالب : (( إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي )) في حين أن ( منظومة القيم ) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 ) . فهنا نلاحظ حدوث ( فصام ) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا - SHIZOPHRENIA ) ( 7 ) التي لم يعافى منها حتى اليوم . وهذا الانشقلق المروع في عالم صفين أفرز ثلاث عوالم : عاَلم عقلاني ، وآخر انتهازي ، وثالث دوغمائي ، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج ، والانتهازي يملك مقود التوجيه ، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي . وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف ، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي ، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب ، فلم يعد ( رشد ) بعد الحكم الراشدي ، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لاينتهي من قنص السلطة الدموي ؛ ففقدَ العالم الإسلامي الرشد ، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي ، وتحول إلى مذهب الغدر . وسوف نرى نتائج ذلك ، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان . إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة ، في اشبيلية أو بغداد ، لم يدشن بهجوم خارجي ، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى . بدأ المرض منذ معركة ( صفين ) فالانشقاق الرهيب صدَّع العالم الإسلامي من يومها ، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم ، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن ، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب ، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة ، والخلايا الحية ، والأعضاء الاجتماعية الحيوية ، ففي رحم التاريخ ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا ، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن ، فالكثير الكثير من الأفكار ( القاتلة ) و ( الميتة ) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا ، لإنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات ( اللاوعي ) الاجتماعية . أن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لايسقط طريح الفراش ، لإنه يكون عندها في مرحلة ( المعاوضة - COMPENSATION ) وليس في المرحلة ( السريرية - CLINICA ) أي لايحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير ، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج ، الذي أصيب ( التجرثم الدموي - SEPTICEMIA ) مع معركة صفين ، ليبدأ بالنوافض ( SEIZURES ) المجنونة مع الخوارج ، والنزف ( BLEEDING ) العباسي ، والحرارة ( FEVER ) الأندلسية ، والغيبوبة ( COMA ) المملوكية ، والدخول في الصدمة SHOCK) ) والانهيار البونابرتي ، وأخيراً ( السرير ) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر ، ثم ( التشريح ) في قاعة العمليات ، حيث جرت عمليات البوسنة ( استئصال الأعضاء ) أو زرع الأعضاء ( زراعة إسرائيل ) ، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أُكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى ، لانستطيع أن نقول شيئاً ، لإننا لانعرف ماذا يجرى لنا ، ولانعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية ، ولانملك العقل الخلدوني التحليلي . إذا كان هذا التحليل الخطير صادقاً ، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني ، أي تحت خط الصفر ، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي ، حيث ينحدر الخط إلى ماتحت الخط الأفقي ، الذي هو خط الصفر . إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه ( صعود وسقوط القوى العظمى ) و ( التحضير للقرن الواحد والعشرين ) يؤرخ لـ ( المعجزة الأوربية ) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة ، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين ، حسب الخانات التي يوزعها . ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات ( الدراويش ) ، وازدراد الأساطير ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأخبار الجن والعفاريت ، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئاً جديداً يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على مايحدث كان يجيب : سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً !! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك ، أنه سيحول أولاده بعد فترة من ( فاتحي ) أوربا إلى ( متسولي ) أوربا ، وراجعوا قصة ( علي التركي - ALI ) تعطيكم الخبر اليقين ( 8 ) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة . يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى : (( لماذا قدر لتلك السلسلة التي لاتتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية ؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسارالسياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى لاعلى الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة )) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق ، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار ، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية ، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية ، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد ، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد ، للغرب فيه اليد العليا ( 9 ) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق ، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب ، وهذا الليل كان ( منظومة الأفكار ) بالدرجة الأولى ، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار ، ونظم معين من ( العقلية ) المتشكل . إذا كان ( طنين الذبابة ) عند أذن ديكارت أوحى له بـ ( الهندسة التحليلية ) ( 10 ) في مجالس ( مارين ميرسين ) في بورت رويال في باريس ، وسقوط ( التفاحة ) أوحت إلى نيوتن بقانون ( الجاذبية ) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة ( قوة البخار ) ، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة ( الكهرباء ) ، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر ، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه ، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! ( 11 ) . وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب ( الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات ، ويطُوَّر التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين ، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة ( استعصاء تاريخية ) لم يتعافى منها حتى الآن ، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري ، ليدخل في ( دارة معيبة ) يؤثر كل طرف على الآخر سلباً ، بين ( العطالة ) العقلية و( العجز ) الحضاري . إن الفوضى الاجتماعية في العالم الأسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكييك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي . يذكر ابن كثير في تفسيره واقعةً ملفتةً للنظر عن صحابي أُصيب بالدهشة عندما أخبره ( l ) عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه ( العلم ) !! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك ، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل ، وينقله إلى الآخر ، فأرشده ( l ) إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن ( 14 ) بسبب العقل المتعطل ، فلا يستفيد من أعظم الكنوز ، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل ( 15 ) وهذه الواقعة إن دلت على شيء ؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لايستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به ، ويمر على الآيات ( وهو عنها معرض ) لإن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئاً . وأن ماحدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق . فالقانون الألهي يطوق عباده جميعاً . هوامش ومراجع : ( 1 ) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأيف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص 115 - 116 ( 2 ) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون ( 3 ) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص 78 - تراجع فكرة نقطتا التحجر ( 4 ) مقدمة ابن خلدون ص 33 ( 5 ) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص 99 ( 6 ) الأنعام 162 ( 7 ) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام ( الشيزوفرينيا ) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان ، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولاً التكسر في المقومات المكونة للعقل : ( الشخصية ) وهي الفكر والعاطفة والسلوك . وثانياً : فقدان التوازن ( الترنح ) في العمليات النفسية الداخلية ، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكاناً للظل ... فلاة شاسعة لاحدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ... )) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص 24 ( 8 ) كتبها رجل ألماني تزيَ بزي تركي ، وعمل لمدة ثلاث سنوات ، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعاً زاد عن عشرة مليون مارك !! ( 9 ) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 حتى 2000 - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص 38 و49 و50 ( 10 ) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتمناع ، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان ، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل ، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت ، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد ، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم ( الخط البياني ) - عالم المعرفة 185 - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص 201 ( 11 ) سورة القصص 76 ( 12 ) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزئين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية ( 13 ) الزخرف 23 ( 14 ) الحديث : (( ذكر النبي ( l ) شيئاً فقال : وذاك عند ذهاب العلم . قلنا يارسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والانجيل ولاينتفعون مما فيهما بشيء )) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 66 المائدة وصححه ( 15 ) تأمل الآية القرآنية ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) سورة الجمعة آية 5 .
اقرأ المزيد
العقل النقلي والعقل النقدي
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات ( تمرير الأفكار ) بدون مناقشة و ( تكرارها ) بدون تمحيص و( تبريرها ) بل والدفاع عنها حتى الموت . فبالأولى : يتحول العقل إلى ( وعاء ) يضم ( كم ) فوضوي من الأفكار بدون نسق معرفي ( الابستمولوجيا ) ، وبالثانية : تتشكل الدوغمائية ( 1 ) لإن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك ، وبالثالثة : تتشكل ( العقلية أحادية الرؤية ) المريرة ، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص ، مبني على الراديكالية ( التطرف ) ، فالوجود أبيض أو أسود ، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير ، معنا أو ضدنا ، والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل بل اصطياد الاتباع ، وبناء حلقات الدراويش الجدد . فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة ، ويزداد التقليد ، يشتد التعصب ، ويتعمق اتجاه العنف ، يتحنط العقل ، ويتوقف النمو ، يتعطل التطور ، وتصبح الحياة مستحيلة ؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة ، فلاغرابة أن يتحول المجتمع ( كمونياً ) إلى مايشبه الحرب الأهلية المبطنة ، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين ، فالعقلية النقلية تسبح بين ( الاطمئنان البارد ) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة ، و ( كراهية الآخر ) المارق ، ومع الكراهية تتبرمج ( الحرب ) سلفاً ، لإن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد . أما العقل ( النقدي ) فيقابل المعطيات السابقة ، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على ( تنقية وغربلة ) الأفكار القادمة من العالم الخارجي ، كما تقوم على ( تأمل ) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي ، وطالما قامت بوظيفة ( المراجعة الدؤوبة ) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي ، وأداة وعي حادة ، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة ، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ ، ولإنها تحولت إلى نظم ( تردد - FREQUENCY ) يشبه سريان التيار الكهربي ، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم ، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة ، والحياة مثل ( الطريق السريع ) ذو اتجاه مزدوج ، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب ؛ لإن جوهر الحب مشاركة ، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر ، فالعقلية النقدية سلامية ، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين . هذا التكوين ( الطفلي ) للعقل من خلال تأسيس (العقلية النقلية) والمحافظة عليها ونشرها في المجتمع وتربية الجيل عليها في (الجامع) و(الجامعة) له آثار اجتماعية مدمرة ، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة ، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر ، إما إذا ملك الشباب ليس ( الكلام والفتوى ) بل السلاح ؛ فنموذج ( كابول ) والصومال جاهزة ، فلايُتْعب أحدهم ذهنه ؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد ، وأنه قد يكون ( مخطيء ) لا أكثر ، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم ( يُكَفِّرون ) ومن عادة أهل العلم أنهم ( يُخَطِّئون ) ، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض ( الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض ( الهرطقة . إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى ، مصيبة مرض ( الآبائية ) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة ، فمالم ينكسر التقليد ؛ لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة ، فضلاً عن الإبداع ، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة ، عند مواجهة الكوارث والمصائب ، بتحرير منهج ( الشك ) فإنه لن يصل إلى شاطيء اليقين ، لإن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج ، والعقلية النقلية لاترى ربطاً بين الأمرين ، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة ، فلا صدفة في الكون ولاعبثية ، وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث . فإذا انهدمت بناية ، أو مات مريض ، أو توقف جهاز عن العمل ، أو حلت هزيمة عسكرية أوتردي اقتصادي ، أو نكبة حضارية ، فيجب أن نفترض أن خط أً ما قد حصل ، وليس لإن قوى لانعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك ، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة ، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه ، وهذا مبدأ قرآني ( قل هو من عند أنفسكم ) ( 2 ) ينكفيء العقل ( النقدي ) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي ( الذات ) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون ( جمع ) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات ، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم ( العفوية ) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن ( الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع ، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس . إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها ( ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال ( الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على ( الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و ( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي ( تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين . والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى ، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : (( لإن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق )) ( 3 ) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ) . وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون : (( واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح )) ثم يخلص إلى هذه النتيجة : (( وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه )) ( 4 ) إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه ( الفهم البنيوي التركيبي ) ، والثاني ربطه بالواقع ( في الآفاق وأنفسهم ) لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم ، واقتلاع نص من مكانه ، بدون سياقه العام ، والحيثيات التي ولد فيها ، والترابطات التاريخية ، لايقرب من فهم النص ، بل قد يكون خطراً ومعطلاً . والأخ الذي كان ( يقتلع ) نصف آية من سياقها يبرر بها ( العنف ) الذي يمارسه (( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء ، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (( كفوا أيديكم )) مروراً بــ (( كتب عليكم القتال )) وانتهاءً بــ ( قاتلوا المشركين كافة ) ، وغاب عنه ثانياً أن هذه ( الوظيفة العسكرية ) هي أداة خطرة للغاية ، لإنها مرتبطة بسفك الدماء ، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION ) وبيد ( الحاكم المسلم ) فقط ، فهي ليست لــ ( وظيفة فرد ) كما أنها ليست ( مهمة جماعة ) ، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة ، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح ، وضمن السياسة الشرعية ، التي هي لدفع ( الظلم ) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة ، بل بالأحرى لدفع الظلم ، سواء صدرت من كافر أو ( مسلم ) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته ، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم ، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة ( الجهاد ) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم ، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى ، إنما يفجر الكوارث في كل مكان ، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد ، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح . وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر ، ولاعلاقة له بالصراع المسلح في البوسنة ، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف . فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من ( الفتنة ) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة ، أو بإخراجه من بيته ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ( 5 ) ، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه ، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة ، بما فيه الإسلام ، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ( 6 ) فالإسلام وفر نفس الصرب ، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب. ولكي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها . الأول : عمل الجهاز الكهربي ، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة ، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة ، كذلك يقوم العقل ( النقدي ) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع ، أي أخذ النتائج ، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي ، فنتائج عملنا ( جراحي الأوعية ) فوري ، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية ، ونتائج جراحة البطن ( تظهر ) في مدى أيام ، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام ، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع ، حتى يمد رجله ويحمل ثقله ، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة ، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد ، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات ، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً ، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى . كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع ، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين ، ومع البشر عقوداً ، أما التغيرات الاجتماعية ، فليس عندنا من ( مطل ) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال ( بانوراما ابن خلدون ) أي الحقل التاريخي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ( 7 ) . الثاني : هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال ( PUZZEL ) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل ، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر ، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع ، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة . الثالث : وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة ، والصورة لاتفهم إلا بتضام أجزاءها ، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه ؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه ، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال ( حركة ) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء ، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها ، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع . نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء ، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة ، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده) ( 8 ) وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا ، في معنى العقل ( النقدي ) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار ، والعقل ( النقلي ) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص ، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه ، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام ، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء ، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز ، واللحم إلى ( الحروف الأولى ) في صورة الأحماض الأمينية ، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب ، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة ، أو إطلاق الطاقة من السكر . إنه يفعل مايفعله ( العقل النقدي ) مع اللغة ، فكلمة ( فكر ) تتكون من ثلاث حروف ، ولكن حسب نظرية الاحتمالات ، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات ( فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك - ) بمعاني عجيبة ، فالأول ( فكر ) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية ، والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء ، والثالث ( فرك )عمل يدوي ، والرابع ( كرف ) ( شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟! ) والخامس والسادس ( ركف + رفك ) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر ) فيحيلها إلى ( فكر وإيمان ) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن . كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية ، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي ( BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية ، قد تخصصت في ( النقد الذاتي ) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد ؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة ، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن ، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه ، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد ، ويتمهل في اتخاذ قراراته ، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني ، تحتاج إلى ستين ساعة ، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور ( 9 ) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية ؟ وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً ، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد ، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية ، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب ، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية ، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع ( العقل النقلي ) إلى وضع ( العقل النقدي ) ؟؟ ، وفي ضوء هذا فإن ( جراحة الفكر ) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها ، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً ، بل انغلاقاً عقلياً ، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً ، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية ، فتحطم الأغلال العقلية ، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية ، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس). توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به !! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض ، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها ؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي ، لأن الرجل حبس من داخل عقله ، وليس حقيقة بل وهماً ، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً ؟؟ هوامش ومراجع : ( 1 ) الدوغما ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة ، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة ، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن ( 2 ) سورة آل عمران - رقم 165 ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قل أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 3 ) المقدمة ص 9 ( 4 ) المقدمة ص 37 ( 5 ) الممتحنة الآية 8 ( 6 ) البقرة 256 ( 7 ) الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 ( 9 ) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ ( بول اهرلنج ) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم ، حقيقة فريدة من نوعها . لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون ( الحاجز بين الدم والمخ ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة ، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة . وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
اقرأ المزيد
مصير الحرب .. إلى أين ؟
قد يستغرب القاريء لو قلت له : إن زمن الحرب قد ولَّى وأننا نطأ بأقدامنا عتبة (عالم السلام) ونحقق علم الله القديم فينا ( 1 ) وسيعتبرني بعضهم مسرفاً في التفاؤل أو غير واقعي بل قد يرى البعض أنني أتكلم ضد التاريخ وأحداث العالم !! نعم قد يختلط هذا الأمر على كثير من الناس وهم يسمعون طبول الحرب ويرون فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ، ولكن الغوص الصبور والتأمل الفاحص في بطن الواقع ، سيكشف الغطاء عن بصيرتنا ؛ أن هذه المظاهر هامشية وجانبية أمام زخم التدفق العام لحركة التاريخ ، فهذه الفرقعات هي بقايا فلول جيش منهزم أومحتضر في سكرات الموت ، فالعالم أصبح الآن وكأن رأسه في عالم السلام وقدماه ملوثتان في برك الدم وهو يخرج منها ، فدماغه مع العهد الجديد ، وأطرافه مازالت في العهد القديم ، وعدم تصديق هذا التحول النوعي الجديد يأتي من عدم حضور العالم و ( شهود ) مايحدث فيه ، والكهنة ( الجدد ) للعالم الصناعي يدركون تماماً أن سحرهم قد بطل وأن أصنام القوة لاتضر ولاتنفع ، ولكنهم يحاولون احتكار الامتيازات في العالم الجديد حتى الرمق الأخير . مازلت أتذكر أحداث الشيشان حين هز الدكتور كامل رأسه متألماً على وضع مدينة (جروزني) وهي تتحول إلى أنقاض ويتصاعد منها رائحة البارود وتسقط في بركة دم . وعقبت زوجته قائلة : يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم ؛ فالروس سمحوا باستقلال الكثير من الجمهوريات فلماذا يحرمون منها الشيشان ؟ إن صورة الدمار والحروب في بؤر التوتر والنزاع تشوش البانوراما ( الصورة الشمولية ) التي رسمناها عن مصير الحرب وزوال المؤسسة العسكرية ، فماذا نقول عن مذابح راوندا والبوسنة ؟ وصراع اذربيجان والأرمن ؟ والحرب الأهلية في الصومال وأفغانستان ؟ بل ماذا نقول أمام شهادة ( ويل ديورانت ) وهو المؤرخ الحجة في التاريخ الذي يقول في آخر كتاب صدر له : (( الحرب أحد ثوابت التاريخ لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والاربعمائة سنة الأخيرة ( 3421 ) من التاريخ المسجل لاتوجد سوى ( 268 ) سنة بغير حرب))( 2 ) فعلى حساب ديورانت المذكور يصبح تاريخ الجنس البشري في غاية الظلام والإحباط ، لإنه مع كل دورة ( 14 ) أربع عشرة عاماً في التاريخ تلطخت ( 13 ) ثلاثة عشر عاماً منها بالدم الإنساني وسكت منجل ( عزرائيل ) ملك الموت سنة واحدة فقط ؟! فإذا أخذنا هذه الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة من مآسي التاريخ المروعة ، وجعبة التاريخ مليئة من مثل تدمير حضارة الازتيك في المكسيك على النحو الذي رسمه ( تزفيتان تودوروف ) في كتابه ( فتح أمريكا مسألة الآخر ) ( 3 ) حيث كشف النقاب بعد مرور خمس قرون ومن خلال استنطاق نفس النصوص التاريخية للغزاة الاسبان ( المبشر لاس كاساس ) عن إبادة ( 80 ) ثمانين مليون من أصل ( 100 مائة ) مليون نسمة كانوا يعيشون في الأمريكيتين ، تم إبادة معظمهم على يد الاسبان والبرتغاليين . أم ماذا نقول عن حصار قرطاجنة وذبح معظم سكانها على يد الرومان عام 164 قبل الميلاد وحمل ماتبقى منهم عبيداً إلى ساحات المجالدين لتسلية الرومان المتخمين ، أم ماذا نتكلم عن تراجيديا شعب ( الوبيخ ) من شعوب شمال قفقاسيا المجاورة لمنطقة الشيشان الحالية ، الذي لم ينقل إلينا خبره إلا رجل واحد فقط ، سجل النهاية المروعة لذوبان أمة بأكملها في قصة ( آخر الراحلين ) ( 4 ) بحيث تنقل لنا بوضوح مآساة شعوب شمال قفقاسيا في منتصف القرن التاسع عشر ، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسوريا ومصر ( 5 ) هذه القصة من قصص التراجيديا التي لاتقترب منها قصص التراجيديا العالمية بشيء ، لاقصة البؤساء أو قصة عاصفة وقلب ( 6 ) لــ ( فيكتور هوجو ) ، لاقصة ماجدولين للمنفلوطي ، أو قصص ديستوفسكي وتولستوي ، لإنها رواية شعب يفنى بكامله فلايبقى حتى من يقص خبر اختفاءه من سطح الأرض ، إنها ليست قصة عاطفية ومأساة فردية ، بل هي مصير أمة ونهاية شعب بالكامل ، إنها قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة ولايتركها إلا وقد بكى مرات ومرات .. وروعتها أنها ليست قصة من تأليف الخيال ، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل ، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه الإنسان .. إلى درجة أن البعض فكر أنه من الأفضل للانسان أن يهرب من المجتمع ويرجع إلى الغابة التي خرج منها مرة أخرى ، فثعابين الغابة ووحوشها أرحم من بطش الانسان وظلمه ... ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجأوا إلى الكهوف ، لإنهم توقعوا شر ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ) كله بسبب الخلاف في الرأي ، حتى ضنوا بالكلب أن يعيش في ذلك المجتمع ، فمجتمع من هذا النوع ليس فيه الضمانات حتى للحيوان ؟! ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا ) ( 6 ) ولاغرابة في هذا الكلام فالمجتمع الإسلامي لاتموت فيه القطط جوعا والكلاب هرسا بدواليب السيارات ، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشاناً ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت . *********************** ولكن صبراً فهذه ليست القصة ولاكامل الجرعة ، فلابد من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد ... والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب ؟ كيف يقتل الإنسان أخيه الإنسان ؟ كيف نشأت الحرب وتطورت ؟ أين نشأت وماهي ظروف تكوينها الجنينية ؟ وماهي جذور العنف والحرب عموماً ؟ ثم إلى أين وصلت اليوم ؟ وماهو مصيرها في المستقبل ؟ ************************** إن الحرب هي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان ، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لاثالث لهما لحل المشكلة القائمة بينهما ، إما محاولة التفاهم بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة ، وإما باستخدام أساليب ( الاكراه ) للآخر بصور شتى لاتنتهي ، فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة ، وأشكال السلوك العنيفة لاتنتهي من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية ، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية ، فالحرب هي الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لانعترف بوجوده ، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح النووي والكيمياوي؟! فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان . *********************** الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة ، وتشكلت كخطأ ( كروموسومي ) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني ، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية ، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية ، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم ( المؤسسة + العلوم + التكنولوجيا ) ولدت الحرب من رحم العنف ؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو بأشد من السرطان والغيلان ، بل إن مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلى مجتمعات عسكرية بالكامل كما حدث مع مجتمع ( اسبرطة ) القديم والذي أصبح مضرب مثل السوء ، مقابل مجتمع ( أثينا ) مركز العلم والفلسفة والفنون . ومع تطور آلة الحرب وعلوم استخدامها ، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة ، تفجرت الحروب والصدامات كتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية ، وكلها تحت ستار ( الدفاع ) عن النفس المشروع ، أو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع ، وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل البارود الذي لايحتاج لأكثر من عود ثقاب كي يتفجر ، فكانت الحرب كما وصفها ( غاستون بوتول ) بنت الحضارة وقاتلتها بنفس الوقت ( 7 ) فالحروب قررت مصير العديد من الدول والامبراطوريات فارتفعت لتسقط بعد حين وبنفس الآلية . ************************ ومرت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع سواء في الصدم أو الوقاية أو الحركة ، وهكذا طور الآشوريون العربة الحربية ، واستخدم هانيبال الفيلة ، وطور الاسكندر نظام الفالانكس ببراعة ، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة وتفوق ، وفتح الاتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار ، وحول كل من جنكيزخان وهتلر جيوشه إلى فرق محمولة سواء بالخيالة أو البانزر ( الدبابات ) ، ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون ، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الانكليز دولة التعايشي خليفة المهدي في السودان ، كما حصد الرشاش أرواح مايزيد عن ستين ألفاً من خيرة الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي 12 ساعة فقط ( معركة السوم ) ، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما معلناً وصول الإنسان إلى سقف القوة ، ممتلكاً هذه المرة سلاحاً ليس كالأسلحة ، فهذه المرة وضع يده ودفعة واحدة على الوقود النووي وأصبح مصير الجنس البشري برمته مهددا بالفناء ، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي ( القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن ) أصبح بالإمكان مسح عاصمة دولة عظمى تضم 20 مليون نسمة ؟؟؟!! وتحويل سطح الأرض في النهاية إلى مايشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر ، وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما ؟! . ********************* تعتبر الحرب حسب تعريف المعهد الفرنسي لعلم الحرب أنها كارثة ذات ( 18 ) ثماني عشر وجه فهي : (( هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية وعدم الاعتراف بالغير بل وإنكار وجوده واندلاع العنف وغياب الحق والمخاطرة بحياة الإنسان وتدمير الثروات المتنوعة وتكريس جميع النشاطات للمجابهات الدموية وأفضلية اللامعقول على المعقول والمطلق على النسبي في إطار عقلي شمولي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة والفوضى واشتداد الأزمات والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب )) ( 8 ) . مع كل صورة ( التنين ) ذو الألسنة النارية الثمانية عشر هذه كما تتكلم الأساطير ، فإن الإنسان يخطط لها ويبرمج ، ويسعى لها ويحفد ، يتدرب ويستعد ، فالثكنات العسكرية كلها للتدريب على قتل الإنسان أخيه الإنسان ، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه ؟؟!! ******************** لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما ( الرق ) و ( الحرب ) فالحرب كانت تفرز الرقيق ، والرق كان ( الآلة القديمة ) فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرض وحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وماشابه ، وبدخول الإنسان عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية ، فلولم يُلغ الرق قانوناً لألغته الآلة عملياً ، فاختراع الإنسان الآلة وفر الجهد البشري ، فكان تحرير الرق تابعاً لهذا التطور النوعي ، وبنفس هذه الآلية يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني ( الحرب ) وكل توابعها وتأثيراتها على الإدارة والعلوم والفنون . وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر النووي ، فلابد من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد . يقول غورباتشوف (( الحرب النووية لايمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى وتكتسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونها تعني قطعاً نهائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام ، فالوظيفة السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون وخاسرون لإن الحضارة العالمية سوف تفنى فالنزاع النووي ليس حرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار )) ( 9 ) وانتبه الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) إلى هذا التحول النوعي منذ عام 1956 م فأشار إلى أن الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار وبأن عصر التسلح قد ولى ؟! ( 10 ) ************************* وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا ، في اذربيجان والشيشان ؟؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين . إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه . وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر : ( 1 ) تقول الفكرة الأولى : إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين ، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه ، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولاتخطر ، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي ( آيزنهاور ) أي أنه لاسبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة ، وفض النزاعات عن طريق الحروب ، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها بعضاً ، وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة ، وتشكلت الوحدة الأوربية التي يزداد أعضاؤها كل يوم ، بحيث تتحول البحيرة الأوربية مع كل يوم إلى بحيرة سلام ، وأرض تفيض عسلاً ولبناً . والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لارجعة فيها ، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في نهاية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش عقلياً في القرن التاسع عشر ، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق ؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ ( صنم ) السامري الجديد ، سلاح شمشون الجبار ، القنبلة النووية ، التي يفككها من بدأ بصناعتها ، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها ، ويعلم علم اليقين أنها سلاحاً ليس للاستخدام ، فهي صنم السامري الذي له خوار ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ) ولكنه لايضر ولاينفع ولايملك موتا ولاحياة ولانشورا ، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة ً ، في حرب فيتنام وكوريا وسواه . ( 2 ) وتقول الفكرة الثانية : إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم ، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه ، بعد أن شعر أنه صنم لايضر ولاينفع ، وبدأ يكتشف أن أعظم سلاح هو الانسان الجديد المسلح بالعلم والسلم ، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل ، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار ، بل والمضحك أكثر ، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلايبيعه ، ويبيع السلاح السخيف ، فيقبض عليه أموالا ً وفيرة ، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع ( مليون مليون = تريليون ) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال ، كل ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه . ( 3 ) وتقول الفكرة الثالثة : إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية ، يدركها أساطين السياسة ، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين ، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن ، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم ، ويتراجع مركزهم في العالم ، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة . ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك ، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد ، ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك ، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا ، بل تحت سيطرتهم ، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم ، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره ، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم ، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج ، كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين ، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي ، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين ، وتجربة البوسنة التي تمثل ( حي أوربي ) داخل أوربا لاتخرج عن هذه اللعبة المقيتة ، التي آخر ماينظر فيها مقياس العدل والحق ، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه . ( 4 ) وتقول الفكرة الرابعة : طالما هم الذين ( يدركون ) و ( يستطيعون ) فلماذا لايطفؤون الحرائق ، أو لايشعلونها على الأقل ، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم ، فالعلم شق الطريق إلى السلم ، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة ، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين مازالوا لم يقفزوا نفس القفزة النوعية التي قفزها العلم ، فهم مازالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة ، ولكن وضع ( الغاز ) في ( قربة جلد) تنتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير ، كما هي في حروب السياسيين التي لاتنتهي ، ومايحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار إليه غورباتشوف ، فمسلمة ( كلاوسفيتز ) القديمة في فن الحرب ، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جدبدة ، قد طواها الزمن وأكلها العث ، ولكنها مازالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد . ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثاراً بعيدة ، فلايظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه ، فابن رشد مازال يعيش في ذاكرة التاريخ في الحين الذي لانذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها . إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حل مشاكلنا بسهولة ، من توديع العالم القديم ، عالم الحرب والسلاح ، وأن دخولنا إلى دائرة النار تجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخَّرات ( بالفتح ) تحت رحمته ، وسنبقى ندفع فواتير الدم والدموع وحفلات التهجير الجماعي وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم كما وصف القرآن اليهود ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ) . يقول المثل ( الله يطعمك حجة والناس راجعة ) عن الرجل الذي أراد أن يذهب إلى الحج ، عندما قفل الناس عائدين إلى بيوتهم ، فإن أبينا الا سلوك طريق القوة ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة ، تنفض عن كاهلها الغبار الذري وهي لاتصدق أنها مازالت على قيد الحياة فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معاً . مراجع وهوامش : ( 1 ) تأمل الحوار بين الله ( جل جلاله ) والملائكة في سورة البقرة ، فالإنسان في نظر الملائكة متهم بأنه مجرم ومخرب (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) في حين رأى الله تعالى فيه كائناً آخر (( إني أعلم مالاتعلمون )) ( 2 ) دروس التاريخ - ول واريل ديورانت - ترجمة علي شلش - دار فكر ص 155 ( 3 ) فتح أمريكا مسألة الآخر - تزفيتان تودوروف - سينا للنشر - ترجمة بشير السباعي - ص 143 ( 4 ) آخر الراحلين - رواية قفقاسية _ باغرات شينكوبا - ترجمة ونشر محي الدين سليق ( 5 ) تتناثر قرى ( الشراكسة ) في المناطق المذكورة وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا ولذا فإن الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة السابقة ( 6 ) الكهف الآية رقم 18 ( 7 ) راجع كتاب الحروب والحضارات - المعهد الفرنسي لعلم الحرب - ترجمة أحمد عبد الكريم ( 8 ) المصدر السابق ص 28 ( 9 ) بيروستريكا - غورباتشوف - دار الفارابي - ص 199 ( 10 ) كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية - جوناثان شيل - ترجمة موسى الزعبي - مكتب الخدمات الطباعية دمشق ص 14 (( يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد انتهى وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت ))
اقرأ المزيد
جدلية الممكن والمستحيل
(( في مواجهتنا للأشياء نحن حيال ثلاث معادلات : أشياء ( يمكن ) أن ننفذها ، وأشياء ( يستحيل ) أن نحققها ، وبين الممكن والمستحيل هناك ( طيف ) من الإمكانات ، فضمن الممكن هناك أشياء ( يسهل ) فعلها ، وهناك أشياء ( يصعب ) إنجازها ، ولذا يجب أن نسأل أنفسنا دوماً هذا السؤال المحوري : هل الأمر الذي يواجهنا ( مستحيل ) أم ( صعب ) ؟؟ لإنه بناء على تحديد الإجابة يتولد أمر في غاية الأهمية ، فــ ( المستحيل ) يعني أن لا فائدة من بذل الجهد ، في حين أن ( الصعب ) يتطلب بذل الجهد المكافيء ، فوحدات من طاقة العمل تذلل الصعوبات حسب حجم الصعوبة ، وهي مرتبطة بعامل ( الزمن ) حتى يتم تحريرها من الاستحالة ، فالعملية الجراحية مهما بلغت من سهولة التداخل وصغر الحجم وقصر الوقت تعتبر ( مستحيلة ) إذا افترض العقل إنجازها في خمسة ثواني !! ونقل جبل يصبح في حيز ( الممكن ) إذا توفرت ( الإرادة = الجانب النفسي ) و ( القدرة = الجانب الفني ) مضافاً إليهما عنصر ( الزمن ) .
المستحيل يعني العبثية في الاتجاه فكل حركة في هذا الاتجاه هي مضيعة للوقت والجهد وعمل في الحقل غير المفيد ، وهذه الفكرة إنارة رائعة للحديث الذي ينهى عن البكاء على الماضي تحت مقولة ( لو ) ( 1 ) والاختلاط يقع بين تداخل هذه الحقول الثلاثة ( المستحيل ) و ( الممكن ) بشقيه ( السهل ) و ( الصعب ) حيث تصبح عقليتنا ترى الأشياء في ( تردد = ذبذبة ) بين ذهان ( السهولة ) وذهان ( الاستحالة ) وبذلك يختفي مفهوم الصعوبة الذي يعتبر المحرك الأساسي لتحريض آلية بذل الجهد ، وهكذا رأى العقل العربي في يوم من الأيام ( اسرائيل ) دويلة عصابات وشذاذ الآفاق ، أما اليوم فهي التنين النووي وشمشون الجبار الاستراتيجي ، والأمر ليس بهذا ولاذاك ، وينطبق القانون التاريخي على الجميع ، ولن تشذ اسرائيل عن قانون التاريخ ، فهي منخس التحدي التاريخي ، وترمومتر انهيارنا الحضاري ، ومشعر مرضنا وعجزنا ، ولذا فهي تمثل كمية ( من العمل الصعب المليء بالتحدي والقابل للانجاز ) ، ومن الضروري في المستوى الفردي والاجتماعي تحديد مساحات الممكن والمستحيل والعلاقة الرياضية بينهما ، فحين نزهد في ( الممكن ) ونحلم بــ ( المستحيل ) نصبح عملياً في إجازة مفتوحة ، وحين نتعامل مع الممكن فنستفيد منه ؛ فإننا عملياً ومن خلال الجهد نربط بين طرفي معادلة ( الممكن - المستحيل ) لنقفز من عتبة الممكن _ مع الزمن _ إلى فضاء المستحيل )) .
أحجار على رقعة شطرنج كبيرة ؟؟!!
وضع الموظف البنكي الكبير ساقاً على ساق ثم نفث في وجهي دخان سيكارته ؛ الذي لم يكلف نفسه في الاستئذان كثيراً قبل الهجوم على صحة رئتي وسلامة أوعيتي الدموية ، وحدَّق في الحضور وتابع الحديث : ياجماعة كل مايحدث لنا يتم وفق تخطيط خارجي ونحن لسنا أكثر من أحجار على رقعة الشطرنج ؟!! وباعتبار مهنتي المزدوجة ( جراح أوعية ) فأنا أصلح الأوعية الدموية في قاعات العمليات ، والمجاري الفكرية في جلسات البحث العقلية ، وكنت قد فرغت لتوي منذ أيام قليلة من تصليح شرايين مدخن عمره 38 سنة كان يجرُّ قدمه بسبب فقر التروية الدموية ( ISCHAEMIA ) في ساقه اليسرى ، ولإنني أصبت بالصداع في جو الدخان ، فقمت بتداخلين لاصلاح الوسط : ضباب الدخان لانقاذ رئتي وأوعيتي من هجوم النيكوتين ، عن طريق المدخنة المسلطة فوق رؤوسنا ، وضباب الأفكار السلبية المعيقة للتنفس العقلي الصحيح !!
الأمثال الشعبية :
من خلال خبرتي الميدانية لفت نظري موضوع ( الأمثال الشعبية ) وعلاقتها بالثقافة
السائدة ولاحظت أن هناك تياراً من الأمثلة يشكل عقلية انسان المنطقة ، ومن الغريب تكرر المثل مع تباين اللهجات المحلية ، وهكذا نسمع ( موطالع بايدنا شي ) , ( عين ماتقاوم مخرز ) و ( ياللي اخد أمنا بنسميه عمنا ) و ( الايد اللي ماتقدر تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر ) و ( من حيط لحيط وربي سترك ) و ( مادخلنا ) و ( فخار يكسر بعضو ) ؟؟!!! ........ ومازلت أتذكر حادثة جرت لي في مدينة الدمام عندما كنت عند بياع ( الشاورما ) عندما سمعنا ضجة كبيرة فصاح البياع ( مادخلنا = أي لادخل لنا فيما يجري ؟؟!! ) ثم أردف ( فخار يكسر بعضو = أي فليكن مثل جرات الفخار التي يكسر بعضها بعضاً طالما أنا في الحفظ والصون ؟؟!! ) .
من القصة السابقة والأمثلة الشعبية التي أُوردت يمكن أخذ ( عينات ) ثقافية للتحليل المخبري العقلي البارد ، فكما أن المريض يأتي إلى المخبر فتؤخذ عينة من دمه للتحليل فيكشف من هذه العينة البسيطة أشياء لاتنتهي عن وضع بدنه وأجهزته البيولوجية المعقدة ، من مثل فقر الدم وارتفاع الكولسترول وقصور الكبد وفشل الكلية والتهاب المعثكلة واضطراب الشوارد المعدنية ، كذلك الحال في ( العينات الثقافية ) ، فصاحب ( الشاورما ) عندما صرخ مع صوت الاصطدام ( مادخلنا ) كان في الواقع يعبر عن ثقافة سائدة وعقلية مسيطرة ومفاهيم لها اليد العليا في المجتمع ، فكلمته هذه تمثل ثقافة الانسحاب والارتداد والانكفاء على الذات وتوقف روح ( المبادرة الفردية ) هو يريد أن لايسمع شيئاً غير إطار عمله اليومي ، كون العالم الخارجي لايحمل الا الشر والأذية والرض ( TRAUMA ) هو لايرغب أن يكون شاهداً على واقعة ، فهو قد خسر وظيفة ( الشهادة ) التي تكلم عنها القرآن منذ زمن بعيد ، هو لايحب من قريب أو بعيد رؤية ( البوليس = الشرطة ) فيعينهم على كشف جريمة ، هو غير مستعد لاسعاف انسان مصاب طالما أنها لاتخصه ، فهو مؤشر فاضح لتفكك الشبكة الاجتماعية . فهذه الثقافة السلبية في مجتمعنا يمكن الكشف عنها بمثل هذه العينات من ( الأمثال الشعبية ) . وبالمقابل مازلت أتذكر برنامجاً كان يبث في ألمانيا بعنوان ( XY ) حيث كان يعرض للجرائم فيعرضها ويعيد تركيبها ( RECONSTRUCTION ) ثم يتم مخاطبة الجمهور في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وليشتنشتاين ( المناطق الناطقة بالألمانية ) للافادة بأية معلومات هامة حول الواقعة ، وكان يتم بواسطة ( المبادرات الفردية ) الكشف عن الكثير من الجرائم المروعة ، فالفرد هناك يفتح عينيه على كل مايحدث ويشارك بدون خوف ومعه كل حس الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه ، وعندما نرجع لتحليل مقولة الرجل آنف الذكر لفهم الآليات الخفية خلف حدوث الواقعات يبرز أمامنا السؤال المفصلي : هل حقاً أننا لانملك من أمرنا شيئاً أي أننا أمام ذهان ( الاستحالة ) أم أن هناك هامش يمكن أن نتحرك به ؟ وماهو مقداره ؟ وأين هو حقله ؟ إذاً من الواجب أن نتأمل قطاع ( الممكن ) الذي يمكن أن نحدث فيه شيئاً بـــ ( جهدنا ) .
الممكن والمستحيل في الواقع الأرضي :
لنطرح الأسئلة البسيطة التالية : هل هناك قوة في الأرض تمنع الانسان أن يحرص أن يأتي لموعده على وجه الدقة ؟ هل هو في حكم الاستحالة أن يلبس الانسان ثوباً نظيفاً أو أن تكون رائحته طيبة وشعره مسرح ؟ هل هناك من يمنع أن يحترم الانسان زوجته ويثقف ابنه ويبتسم في وجه جاره ويقرأ كل يوم نصف ساعة بحثاً مجدياً ؟؟ هل هناك من يحول بين المرء وأن ينظف أمام بيته وأن لايلقي زجاجات الببسي في الطرقات ؟ هل هناك صعوبة بالغة أن يوطن الانسان نفسه أربع وعشرين ساعة أن لايذكر أحداً الا بخير ؟؟ هل من يمنع أن يتسامح الانسان مع الآخرين وأن يعذرهم وأن لايسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم ؟ هل في إمكان الانسان أن يدرب نفسه على أن لايفعل أمراً يخالف القواعد الأخلاقية ولو أُمر بذلك ؟ هل بإمكان الفرد أن يتخلص من التحول إلى ( شيء ) في صورة بوق أو مسدس ؟ هذه الاسئلة البسيطة وأمثالها تعطينا الانطباع أن مساحة الممكن هي العظمى في الحياة وأن بإمكان المرء أن يفعل أشياء كثيرة جداً . إن أعظم إحباط يصاب به الانسان عندما يضع لنفسه هدفاً لايستطيع الوصول اليه !! وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم ؟ وأشد تدميرا منه عندما ينتظر الصدف أن تولِّد هذا الواقع الذي يحلم به !! فكلها سلسلة من الأخطاء الرهيبة التي تلغي آلية الجهد .
يحمل الانسان جدلاً رهيباً ، فهو لاشيء إذا قورن باللانهاية ( كما هو معلوم في الرياضيات أن نسبة الرقم الى اللانهاية تساوي الصفر ) وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية . بين الممكن والمستحيل ، فهو لايستطيع خلق نفسه ولاخلق أولاده ( لايخلقون شيئاً وهم يخلقون ولايملكون لانفسهم ضرا ولانفعا ولايملكون موتا ولاحياة ولانشورا ) ( 2 ) ولذلك سحب الله إمكانية الخلق منا ولو كانت ذباباً تافهاً (( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له )) (3)
العلاقة الرياضية بين الممكن والمستحيل :
نحن نرى في اللحظة الواحدة السهل والصعب والمستحيل في الشيء الواحد في ثلاث حالات ، وفي الأشياء الثلاثة في الحالة الواحدة ، فمن الممكن ( حمل ) الصحن ، ولكن يصعب حمل الطاولة الكبيرة ، ويستحيل حمل البيت ، كما أنه نستطيع أن نحمل الصحن ولكن يصعب تحويله الى قدح ولكن يستحيل قلبه إلى أرنب . نحن لانستطيع تغيير عقول كل الناس ، ولكن نستطيع عدم إضاعة الوقت في ( الشدة والطرنيب ) والالتفات إلى تثقيف أنفسنا . نحن لانستطيع تغيير قوانين المرور ، ولكن بإمكاننا أن لانخالف إشارة المرور ، حتى لو كنا وقت صلاة الجمعة والشارع فارغاً ، وإذا دخل في روعنا هذا وجب أن ندخل عنصراً آخر هو عدم الاستخفاف بأي إنجاز ( ممكن ) مهما كان زهيداً وصغيرا ، فالكل يفكر بالأشياء الكبيرة وينسى الأشياء الصغيرة التي هي مكونات الأشياء الكبيرة وعناصرها الأولى ولبناتها الأساسية ، فأكبر الأرقام هو تجمع رقم الواحد فوق بعضه البعض مهما بلغت ضخامة الرقم ، والانجازات العظيمة هي محصلة تراكمية للانجازات التافهة الصغيرة ، والجبل تجمع هائل للحصى الصغيرة وحبات الرمل التافهة ، والهرم تركيب ملايين الأحجارالصغيرة ( الممكنة الحمل ) ( 4 ) والانسان هو محصلة تراكمية بطيئة للجهد الواعي المتشكلة عبر وحدات الزمن ، وفي معركة بدر التي سماها القرآن فرقاناً كانت ( إظهاراً ) لإمكانيات تشكلت فيما سبق ، وليست إنجازا برز فجأة إلى السطح ، والمجتمع كم هائل من الأفراد منظمين ضمن شبكة علاقات ، وتغيير الأفراد التدريجي سيقود في النهاية إلى تغيير المجتمع ، ولايتطلب ذلك تغيير كل الأفراد فليس مطلوباً ولاممكناً ، بل تغيير الكم الحدي ( أو الكتلة الحرجة ) وعند الوصول إلى تغيير الكتلة الحرجة يبدأ التيار الاجتماعي في التشكل وعلى العكس فإن ( شذوذ ) فرد منه بتصرفات وأفكار يعرضه لقانون ( الدجاجة المجروحة في القن ) حيث روى لي صديقي الدكتور الصناديقي عن ملاحظة أمه التي تربي الدجاج ، أن الدجاجة إذا جُرحت عمدت بقية الدجاجات إلى نقرها في مكان الجرح حتى الموت ، ولذا تعمد أمه _ على ماروى _ إلى عزل الدجاجة المجروحة فوراً ، وهذا يفسر لنا بعض الوقائع التاريخية البشرية فــ ( جرح ) ابن تيمية في ( القن البشري ) في الفتاوى التي ( تميز ) بها في عصره في الطلاق وشد الرحال ( 5 ) عرضه للنقر الاجتماعي حتى الموت ، فرمي في سجن القلعة حتى فاضت روحه خلف القضبان . كما يفسر لنا الانسحاب الذي يقوم به الانبياء في مرحلة من دعوتهم ( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) وهو مأشار إليه المؤرخ البريطاني ( توينبي ) في كتابه ( دراسة التاريخ ) عن قانون الاعتزال والعودة .
جدلية الممكن وتطوره :
عند وضع اليد على المفتاح السحري : ( أن بإمكاننا أن ننجز شيئاً ) تتولد سلسلة من الأمور الايجابية :
الأمر الأول : ( النجاح يقود إلى النجاح ) فالنجاح يولد الشعور بالثقة بالنفس ، عندما يحس الفرد أن بإمكانه أن يفعل شيئاً . والعكس بالعكس فالفشل يخلق الاحباط والخوف من المحاولة الجديدة ، مالم يزود بميكانيزم نفسي مرافق وهو أن المشكلة ليست في ( المشكلة ) بل في موقفنا منها ، فأي استعصاء في حل المشاكل يرجع بالدرجة الأولى إلى عجزنا أكثر من تعقيدها الذاتي ، والمشاكل تنبع من ( مواقفنا) غير السليمة منها ، فنحن مستعدون إلى لعن كل شيء واتهام كل أحد ، وغير مستعدين لمراجعة أنفسنا لحظة واحدة ، وهذا ميكانيزم خبيث للغاية ( MALIGNANT ) لإنه يقود إلى تعطيل الجهد البشري وتدخله في إصلاح الخلل ، طالما كانت التهمة للآخر جاهزة وعدم الالتفات إلى إدخال الذات في معادلة التصليح ، ولذا وجب تدريب أنفسنا على قانون نفسي قاسي هو ( عدم لوم أحد ) في مواجهة أية مشكلة ، ليس لعدم وجود طرف آخر في المشكلة ، فالنزاع الانساني في العادة مزدوج الطرفين ، ولكنه التدريب على العمل في الحقل المفيد ، فأفكارنا تحت سيطرتنا ، أما اتهام الآخرين فهو _ بشكل غير مباشر _ دعوة إلى إراحة الذات من التفعيل والمراجعة وتعب إدخال التصحيح ، فهو تعطيل ( قانون الجهد ) ، بل إن ( تغيير نفوسنا ) هو طرف ( الرافعة ) الميكانيكية النفسية الاجتماعية ، كما هو عند الأطفال عندما يجلسون في الحديقة على طرفي الرافعة ، فإذا أمكن التأثير فهو من الطرف الذي يستقر عليه ثقلنا ، وهكذا فالساحة النفسية عندنا هي حقل تأثيرنا ، أما الآخر فنحن غير مسؤولين عما يعمل الآخرون ( ولانسأل عما تعملون ) ، والمسؤولية فردية ( ولاتزر وازرة وزر أخرى ) ( وأن ليس للانسان إلا ماسعى ) .
الأمر الثاني : ( النجاح يعطي قدرة ( تمكن ) أعلى ) فبعد انتهاء العملية الناجحة فإنه يخرج منها بغير حصيلة الخبرة قبلها بل زيادة الخبرة الجديدة ، وكل ضربة لاتكسر الظهر تقوي أكثر كما يقول المثل .
الأمر الثالث : ( ينعكس النجاح على النفس فيعطي السعادة ) في حين أن الفشل يدخل الانسان في دوامة الحزن ويجب أن يتخلص منه بالنجاح ، وفي الواقع يجب أن نرى الديناميات النفسية في ( حقل ) متحرك ( ديناميكي ) وليس وسط جامد ( استاتيكي ) كما هو في علم الميكانيك ، وهذا نعرفه من يومياتنا العادية ، فعندما يتعرض الانسان لخطر ما فإنه يصاب بالخوف الذي يدفعه إلى شعور وحركة ، شعور بالكراهية لمصدر الخطر ، وحركة بالهرب من الخطر المحدق ، أما النجاح فيعطي شعورين مترادفين ، الأول : الثقة بالنفس التي قد تنتفخ إن لم تلجم فتصل إلى الغرور ، فتتدخل الطبيعة لتفرمل الغرور حيث يصاب صاحبها بالخطأ فالنكس فالارتداد للموقع الأول ، والثاني : السعادة الغامرة التي تنعكس على البيولوجيا إيجابياً . وهذا نراه في مضاداتها أيضاً فالغضب يقود إلى جفاف الفم وانحباس البول والامساك وخفقان القلب وارتفاع التوتر وزيادة الحركات التنفسية ، والحزن يولد الوهط والكسل والتوقف عن النشاط والكآبة والميل للعزلة والانسحاب ، ومع الكآبة يشعر الانسان كأنَّ السموم تتدفق في كل خلية من جسمه ، وأنا أعرف من الأطباء الذين بقوا تحت ضغط نفسي لفترة طويلة من أصيب بارتفاع في التوتر وانسداد شرايين القلب على عمر مبكر ، والسبب تلك العلاقة الخفية التي لم نفهمها ولم يماط اللثام عنها حتى الآن كيف تؤثر الحالة النفسية على البيولوجيا ، فوالد يوسف ( عليهما السلام ) ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، كما ارتد إليه بصره مع بشارة العثور على يوسف ( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا )
الأمر الرابع : قانون ( التراكم الكمي يقود إلى التغير النوعي ) : هناك علاقة بين الكم والنوع انتبه لها العلامة ابن خلدون في المقدمة ، وهو أمر ملاحظ في الطبيعة ، فرفع درجة حرارة الماء إذا زادت بشكل تراكمي قادت في النهاية إلى تغير نوعي في طبيعة الماء ، عندما تصل درجة الحرارة إلى درجة الغليان ، فهو يتبخر ويطير في الهواء ، كما أن انخفاض درجة حرارته إلى الصفر تقود إلى تجمده وزيادة حجمه ( خلافاً لكل العناصر التي ينكمش حجمها مع البرودة ) وهذا يعني أن التراكمات ( الممكنة ) ستقود في النهاية إلى شق الطريق لكسر المسلمات والحتميات ، فالكثير منها نحن الذين نصنعها ونمنحها الحتمية فتتحول هذه الأفكار مع الوقت إلى ( أصنام ) ، ومشركو قريش رفضوا الاسلام تحت ضغط أمثال هذه الأفكار ، وهكذا تم كسر الكثير من المسلمات عبرالتاريخ ، في النظام الفلكي ، وتحطيم الذرة ، وقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب ( بواسطة إضافة البروتونات والنترونات ، فالذهب يتحول إلى زئبق بإضافة بروتون واحد أو بالعكس فيتحول الزئبق ذهباً بسحب بروتون واحد منه ، ذلك أن قلب نواة الذهب تحوي 79 بروتون والزئبق 80 ) وإيقاف القلب وإعادة تشغيله ، وانتقال الصوت والصورة بسرعة الضوء .
الأمر الخامس : إن أخطر مرض عقلي يهدد التقدم الإنساني هو عقدة الآبائية ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) أي التقليد ، فبقدر مايجعلنا المجتمع بشراً ( من خلال العادات واللغة وسواهما ) بقدر مايشكل الطوق الاجتماعي خطراً يغتال العقل الانساني ، وهذا هو السر في بطء نمو مجتمعات وتطور أخرى ، والمجتمع الياباني مااستطاع الطيران للعصر لولم يتحرر من العادات العقلية المفرملة ، وأول قفزة له كانت باتجاه الاستفادة من إضافات المعرفة الانسانية الجديدة ( ثورة الميجي - العهد الامبراطوري لعام 1868 م ) ( 6 ) وكان إدراك اليابان حاداً في أهمية الخلاص من الحذاء الصيني الحديدي ( العقلي ) ( في الصين جرت العادة آنذاك وضع قدم الطفلة الصغيرة في حذاء حديدي لايغير حتى تكبر الفتاة وهي تحافظ على أقدام صغيرة ؟!! )
تجربة نفسية محرجة
من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة قاسية فسألت الموظف : لو أُعطيت مسدساً ، ووُضِع على صدغك مسدس ، ثم طُلب منك قتل هذا الذي أنت في ضيافته ، وهو من أعز أصدقاءك ، ماكنت فاعلاً ؟؟ فإذا لم تضغط الزناد قُتلت أنت !! ..... فوجيء صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل !! .... إلا أنه اكتشف نفسه ويداه ملوثتان بالدم ، وقد تحول إلى ( مجرم ) ... عندها تدفق من فمه سيلًٌ من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لإنه ( مُكْرَه ) .
هنا تعرت الآليات النفسية تماماً وأدركنا في جو الحوار الذي لايخلو من توتر أمام كشف ( آركيولوجي ) نفيس كهذا ، في حفريات تضاعيف النفس ، أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر ، إن لم يكن هذا هو تصرف معظم الناس ، في مثل هذه المواقف الصعبة ، يشفع لها المناطق المظلمة من النفس الانسانية التي لم تشكلها الثقافة الجديدة بعد .
إن هذا المثل فظيع ولاشك ولكن هل يدخل في إطار ( الممكن ) أو ( المستحيل ) ؟؟؟!!!
هوامش ومراجع :
( 1 ) جاء في الحديث الصحيح النهي عن ( لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن ليقل أحدكم قدر الله وماشاء فعل ) لإن التمني على تغيير الماضي يعتبر في حكم ( المستحيل ) ولذا وجهنا الحديث للعمل في الحقل المفيد أي حقل ( الممكن ) ( 2 ) الفرقان الآية رقم 3 ( 3 ) الحج 73 ( 4 ) صحح ابن خلدون في مقدمته معلومة هامة عن بناء الاهرامات حين ضل بعض الناس فظنوا أنها بنيت بيد بشر عمالقة ، وقال إنها بنيت بيد بشر مثلنا تماماً ولكن الذي مكنهم من ذلك هو استخدامهم لتقنيات هندسية متطورة في عصرهم في الرفع والبناء ( 5 ) كلفت فتوى الطلاق ابن تيمية غالياً فهو الذي رأى أن الطلاق الثلاث في وقت واحد يبقى واحداً ، كما اعتبر الحلف بالطلاق يبقى في إطار الحلف وكفارته صوم ثلاثة أيام ولايقع طلاقاً ، كذلك واستناداً إلى الحديث أن الرحال لاتشد إلا الى ثلاثة مساجد ونحن نستغرب اليوم كيف ألقي في السجن من أجل هذه الآراء ليموت فيه ، بل تمت المطالبة بإهدار دمه ؟!! وهذا يشي بتناقضات الصراع الانساني وأنها قابلة للتكرار بنفس الصورة في أوقات شتى يراجع في هذا كتاب ( ابن تيمية ) لــ ( هنري لاوست ) كتاب ( آراء ابن تيمية في الاجتماع والسياسة ) وكتاب ( ابن تيمية ) سلسلة أعلام العرب بقلم محمد يوسف موسى ( 6 ) جاء في كتاب الشرق الأقصى - فوزي درويش - ص 60 النص الكامل للعهد الامبراطوري الذي دُشِّن عام 1868 م وهو مكون من خمس فقرات تقول الفقرة الخامسة ( سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم وعلى هذا النحو سوف تترسخ الامبراطورية على أسس متينة ) .
اقرأ المزيد
الصراع حول امتلاك المستقبل الجوجول ـ الفيسبوك ـ آبل ـ الأمازون
قديما كانوا يقولون من يملك البحار يملك الثروات ويملك العالم. ولكن بحار العالم اليوم خضراء إلكترونية والبشر يتواصلون عبر شبكة إلكترونية فيتعارف بعضهم على بعض محققين كلمة الله القديمة: جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. التقوى بمعنى أكثر التزاما بخدمة البشرية. حاليا عالم الانترنت يحوم فوقه أربع نسور خاطفة تحاول سبيه وسلبه إلى عشها في حرب ضروس. القوى العالمية الجديدة ليست عسكرية ولا سياسية بل علمية ثقافية اقتصادية تكنولوجية. العمالقة الأربعة المتصارعون هم الجوجول وآبل والفيسبوك والأمازون. وكل له حقله الذي نبت فيه واشتدت أذرعته وبأسه .المؤسسات الأربعة تمثل أربع حقول مختلفة؛ الجوجول يمثل المعرفة الكلية. والفيس بوك الشفافية الكلية. وآبل الديناميكية الكلية. والأمازون العرض والسوق الكلية. وحتى نأخذ فكرة عن العمل الخارق والقوة العظمى التي تمثلها قوى المستقبل الأربعة، فيمكن بلغة الأرقام أن نقول التالي: في الجوجول يجري يوميا من الداخلين على النت بحث عن مليار سؤال يحتاح الإجابة والشرح. أذكر جيدا حين بحثت عن كلمة (غثبر) في قاموس المحيط والصحاح لابن منظور الأفريقي لم يسعفني فأسعفني البحث في الجوجول فتأمل! (أصيب بالتَّعنية، وهي انقباض مؤلِم في الشَّرج مع الرَّغبة الملحَّة في التبرُّز مصحوب بحزق لا إراديّ وتبرُّز قليل) رئيس آبل الحالي تيم كوك (كوك تعني الطباخ) أعلن عن بيع 146 مليون جهاز من نوع آي فون    (iPhones)  في الربع الثالث من عام 2011م فكم سيكون الرقم في عام 2020م؟ حين أحضرت لي ابنتي هديتها من هذا الجهاز ضحكت وقالت لاتخاف منه جربه فقط. أنا شخصيا ارتحت مع جهازي الدمعة المطور ولكن من يعتاد على الآيفون ينسى ما عداه لحد العشق؛ فقد ربطوا الانترنت على الموبايل؛ فأصبحت المعلومات تركب سيقانا للحركة. الأمازون تصل الطلبات عندها في كل شيء تقريبا وفي أيام الذروة إلى 13.7 مليون طلب. وصفحات البيع تغطي ما يبحث الشاري وما يحير الباحث. كانت سابقا في الكتب أما الآن فهي تبيع كل شيء، وسوف تضرب سوبرماركات العالم أجمعين. إنها تبيع السيارات والطيارات وإطارات السيارات والكتب النفيسة وحمامات السباحة. أذكر جيدا قبل فترة كيف قام المزاد العلني في لندن في بيع نسخة قديمة أصلية من كتاب أصلي بخط أرخميدس، عثر عليه من بيت راهب قد يكون أصله من كنيسة في القدس، مما دفع راعي الكنيسة أن يطارد المخطوطة عبثا. وصادها (جيف بيزوس) ملياردير الأمازون بمبلغ 2.3 مليون دولار ولا خوف من هذا الرقم فالرجل في جيبه خزانة من تسعين مليار دولار وهي الآن فوق المائة مليار، وأضحكني طلاق زوجته إنها وضعت في حقيبة تجميلها وكحلها عشرات المليارات من الدولارات وهي مبالغ سوف يعوضها البيزوس وأكثر. أما الشاب العفريت علامة جبل السكر (مارك شوجر بيرج) Mark Zuckerberg)) مؤسس الفيسبوك فيجمع حوله نادي عالمي بما لم يحلم به إنس ولا جان بعضوية 800 مليون إنسان ويزيد على مدار ارجاء المعمورة. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ هؤلاء العمالقة الأربعة غيروا حياتنا وطرائق تفكيرنا بما لم يسبق إليه أحد من قبل!. في البداية اقتسموا عالم الديجتال فيما بينهم؛ أما الآن فبعضهم لبعض عدو يحاول كل واحد إزاحة الثاني ورميه من العرش واغتصاب حقه وملكه. وهناك الكثير من الإفكار والاكتشافات وبراءات الاختراعات، يقوم بها كل لوحده، ولكن ماوصل إليه هذا الرباعي هي كنوز من المال مالم يجمعه خوفو في هرمه، ولا قارون في خزائنه، ولا زورو (Soros) اليهودي الحالي. إنه مال أكثر من التصور .. مال كثير وفي فترة قصيرة نسبيا. تصوروا مافعله الشاب علامة جبل السكر (Mark Zuckerberg) ذو الـ 36 عاما (ولادة 14 مايو 1984م) مخترع الفيسبوك من فقير خاوي الوفاض إلى ملياردير بجيب محشي بمائة مليار دولار خلال سبع سنين بين عامي 2004 و 2011م وجمعية تضم 800 مليون عضو من الأنام وهي الآن أضخم وجيبه أكبر! هل يمكن تصديق هذا؟ ليس هذا فقط بل الإعلان عن دخول الفيسبوك إلى سوق البورصة، كما أعلنت عن ذلك مجلات مهمة في عالم الاقتصاد مثل (ميجا بورزينجانج Boersengang  Mega)  وحمى الفيسبوك Facebook Fieber إن ثروة هذه العمالقة الأربعة شيء مخيف! لنقرأ الأرقام التالية  :أقلهم (الأمازون Amazon) بـ 90 مليار دولار بقيادة الإمبراطور جيف بيزوس  (Jeff Bezos) ومع كتابة هذه الأسطر قفزت إلى 120 مليار، وبعده جبل السكر  (Zuckerberg)  سيد (الفيس بوك) بمبلغ 100 مليار دولار، يأتي بعده (الجوجول) الذي يملكه الثنائي المرح لاري الصفحة (Larry Page) وسيرجي برين (Sergey Brin) بمبلغ 200 مليار دولار. وعلى قمة الثروة تتربع آبل بمبلغ خرافي يصل إلى 360 مليار دولار!. حاصل جمع الأرقام السابقة يصل إلى سقف ينقلب إليك البصر فيه خاسئا وهو حسير. إنه رقم 750 مليار دولار قريبا من تريليون دولار. ما يتمناه الاتحاد الأوربي للخلاص من ورطة الحريق اليوناني وانخساف الأرض باليورو، وكل إنفاق أمريكا العسكري لايصل إلى تخومه (500 مليار للعقد القادم) إنه رقم تقوم على أكتافه إمبراطوريات وتنهدم دول وعروش.هذا المال.. المال الكثير هو ملكية أربع مؤسسات وخمس أشخاص!. (جيف بيزوس  (Jeff Bezos) + Mark Zuckerberg = مارك جبل السكر +  (Larry Page) وسيرجي برين (Sergey Brin) + ستيف جوبز ومن بعده) وهذه العمالقة الأربعة هي أمريكية مما يجعلنا نرى نوعا من التجدد الخفي في شرايين إمبراطورية اليانكي، بعد سلسلة من الهزائم في حروب خاسرة بين العراق وأفغانستان، وما حصل في وول ستريت حيث طالب المتظاهرون باحتلاله، بعد سمعته السيئة تالية لنكبة السوق العقارية وتبخر مئات المليارات في سوق الحرامية. وتوقف إرسال المسابر والمنصات للملأ العلوي منذ فترة وبوار سوق صناعة السيارات. وإعلان البنتاجون التقشف لإيجاد جهاز دفاعي أرشق بتكاليف أقل وارتفاع ديون أمريكا إلى ذرى لم تصل إليه في كل تاريخها بتريليونات! هؤلاء العمالقة الأربعة يبدلون العالم ومعه أيضا أمريكا التي تقود العالم... إلى حين. مع هذا فالحرب ضروس بين العمالقة الأربعة هي حول امتلاك المستقبل. الجدير بالذكر أن هذه المؤسسات ليست عسكرية وسياسية بل تكنولوجية اقتصادية وثقافية. ولكن متى بدأ عمل أولئك العباقرة وولد إنتاجهم فضربوا ضربتهم ووضعوا أيديهم على سطح الكرة الأرضية؟ أين مكان توضعهم؟ وإلى أين يميل ميزان القوى؟ مع مزايا العمالقة الأربعة تطير أمريكا بأربعة أجنحة إلى المستقبل. منتجات آبل تنقل المعلومات مع الحركة. الجوجول يفتح خزائن معرفته لكل سائل بالمجان. واجهات لخزائن كل شيء يطلبه الشاري والباحث في مخازن الأمازون. ويقوم الفيسبوك بربط الناس بشفافية فيبنون الصداقات ويتذكرون طفولة بعضهم بعضا وقرابتهم عبر القارات. مجموع كل هذا يكرر إنتاج مايعرف بالطريقة الأمريكية في الحياة. الأربعة هم القوى العظمى وديناصورات عالم الديجتال. بينهم لايوجد سلام. وما يدفع الكل هو جنون العظمة أن يسيطر كل واحد على كل شيء، ما يجعل المستقبل طوع أمره وفقط. الاربعة شركاء متشاكسون لايرضون بأقل من السيطرة على عالم الانترنت في الغابة العالمية. فلمن سيكون المستقبل؟الوضع الحالي يقول أن الاشتباك حاصل بين هذه الحيتان الضخمة؛ الجوجول يحاول السيطرة على سوق الموبايلات فيدفع آبل بعيدا. الفيسبوك يحاول منافسة الجوجول في السيطرة على المعلومات فينافس في مجال البحث عن المعلومة. الأمازون ينافس آبل بأجهزة القراءة ليزر مما يتفوق به على آي باد (iPAD). آبل تحاول غزو سوق التلفزيونات. بقية العالم يتفرج على هذا التخاطف لآخر معاقل الثقافة الإنسانية طالما تتحول إلى ديجتال.لمن سيكون الاجتياح ؟ لا أحد عنده الجواب النهائي؟ والآن ماذا يمثل كل من العمالقة الأربعة وما هي مراكز ثقلهم وحقول تأثيرهم؟ عالم الديجتال هو قارة جديدة مجهولة ونحن نعيش عصر ما بعد الرأسمالية. والكون الإلكتروني ليس له إرادة أو أخلاق أو هدف. إنه بكلمة مختصرة نسيج ابتكرته العقول الإنسانية واستخدمه الجنس البشري فانقلب العالم فجأة. أنا شخصيا أتذكر نفسي جيدا عام 1993م حين كنت أرسل مقالاتي بالبريد لنتحول فجأة إلى الفاكس ونحن مسحورون! كان الكمبيوتر في بداياته عام 1988م وقوة الذاكرة في حدود 20 ميجا بايت ونحن نفرك عيوننا من الدهشة. كانت المراسلات بيني وبين أصدقائي بالبريد العادي وليس الإلكتروني. كنت أجلس يوم الخميس بعد صدور مقالتي (جريدة الرياض يومها) فأصور منها عددا ثم أطويها في مغلفات خاصة وأرسلها لأصدقائي. قال لي أبو محمد من حلب إن المخابرات السورية رابها الإرسال المنتظم للمقالات ففتحت صندق بريده وحققت معه! قال لهم هل أقول له أن لايرسل؟ قالوا لا دعه يرسل لنعرف ماذا يرسل؟ كانت المقالات في معظمها علمية. حاليا اضحك أنا من غباء الأجهزة الأمنية وعدم مواكبتها التطور العلمي. إنهم يشبهةن من جهة ساحرات العصور الوسطى يريدون اصطياد طائرات نفاثة تئز من فوقهم بعصا! إن الثورات في الربيع العربي تدين بقسم منها إلى عالم الديجتال. الرباعي الذي يتقاسم عالم الديجتال حاليا هم (الجوجول Google) الذي يدعي (المعرفة الكلية). و(الآبل Apple) صاحب المعرفة المتنقلة (الحركة الكلية) كما وصفته مجلة در شبيجل الألمانية (49\2011) أما الثالث (الأمازون Amazon) فهو المورد لكل شيء فلم تعد مبيعات الأمازون الكتب بل يبيع كل شيء ويكسر احتكار الطفيليين بين البائع والمشتري. أخيرا (الفيسبوك Facebook) مملكة مارك جبل السكر (تسوكربيرج) فهي عالم الشفافية الكاملة. ولنبدأ أولا بعالم الجوجول فما هو؟ 1 ـ جوجول (GOOGLE) : المعرفة الكلية (Total Knowledge): الجوجول: دنيا المعرفة الكلية. يمكن مقارنة ما فعله الجوجول بإيصال المياه المركزية النقية إلى البيوت. أنا شخصيا عرفت هذا التحول بعد أن كنا نعتمد على مياه الآبار. كانت ثورة في عالم السكن أن تمد يدك فتغسل من صنبور (حنفية = روبين بتعبير المغاربة) تعطيك الماء النقي فتغسل بالماء الدافئ على مدار الساعة، بعد أن اقترنت خدمة البيوت بالكهرباء والماء. هذه هي الحياة العصرية. سفلتة الشوارع. المياه. الكهرباء. السيارة، والآن يتوج البشر بعالم الديجتال الذي يوصل العالم من أقصاه لأقصاه، وتتربع الجوجول على ينابيع لانهاية لها من المعرفة، يدخل على أبوابها السائلون بأكثر من مليار استفسار وبحث يوميا. حين بدأ الثنائي (سيرجي برين) و (لاري بيج) عملهما عام 1998م تحت عنوان سنجمع كل معلومات الجنس البشري، وحين ولد المشروع في في كاراج كان أشبه بالمزحة ولكن هذا ماحصل، وحاليا يعمل الشابان في إمبراطورية رأسمالها 200 مليار دولار و24400 خبير في كاليفورنيا في جبل الرؤية (ماونتن فيو Mountain View). لم يقف الأمر عند المعلومات؛ فبعد سبع سنوات (عام 2005م) من الإقلاع في عالم الديجتال وخزن المعلومات جاء الدور على جوجول إيرث (جوجول الأرض Google Earth) وبدمج المعلومة على الموبايل، أمكن للإنسان أن يعرف نفسه في أي مكان بالعالم، بعد أن تم ترسيم خرائط العالم أجمع، بل المشي في الشوارع سياحة بدون سياحة. أنا شخصيا أتأمل بيتي في هضبة الجولان حيث بنيت لنفسي فيلا جميلة وحرمني منها البعثيون العبثيون فحولوها إلى مركز تعذيب المواطنين العبيد، بنفس الوقت أقفز لكندا فأرى رأي العين بيتي في مونتريال، وكذلك حافة الأطلنطي في المغرب حيث سكنت في مجمع كاليفورنيا في مدينة الجديدة. إنه عالم جديد أليس كذلك ذلك الذي حققه الجوجول؟ فلم يعد يدهش أحد وهو يستخدم جوجول الأرض في التحليق فوق الكرة الأرضية يديرها كيف يشاء؛ فيستعرض القارات والبحار؛ فيعرف أي أرض تقله وأي سماء تظله، وأي نجم يشع فوق رأسه، وكل مكتبات العالم المليونية تحت تصرفه. إنه عالم بهيج وخطير بنفس الوقت؛ فنحن نودع الذاكرة البشرية في أيدي مؤسسات متطاحنة، تريد السيطرة على أفكارنا ووسائلنا واتصالاتنا، والويل لنا من هذا الفخ الذي نصبناها لأنفسنا بأيدينا. يقول المثل العربي (يداك أوكتا وفوك نفخ) عن ذلك البدوي الذي نفخ القربة ليعبر بها نهر الفرات؛ فلما كان في اللجة نفَّست القربة فقد كانت مثقوبة، ولما كان صاحبنا لايحسن السباحة فقد غرق؛ فذهب مثلا في الحماقة التي يرتكبها صاحبها بيده وينتهي بالهلاك. بالمناسبة كلمة جوجول كان أول تعرفي عليها من عالم البيولوجيا من كتاب الدماغ لسيد رصاص، حين ذكر أن جزيئات الكون كلها تبلغ عشرة قوة 83 ولكن ترابطات نورونات الدماغ تقفز فوق عشرة قوة مائة إنه الجوجول. وهي رمز المعرفة الكلية كما ذكرتها مجلة در شبيجل الألمانية عن هذه القفزة النوعية في المعرفة الإنسانية. كنت قبل أيام في صدد البحث عن كلمة غثبر؟ عييت في القاموس المحيط للفيرز آبادي وكذلك لسان العرب لابن منظور الأفريقي ولكن الجوجول اعطاني المعنى بسرعة خرافية. قال هو الذي يعكر المياه والأخلاط . ربما أو ذلك الذي يعاني من جهازه الهضمي؟ في الحقيقة الكلمات نحن من يشحنها بالمعنى فهذه هي فلسفة الكلمة. يقول رئيس المؤسسة (ايريك شميدت) أنه لو أمكن تسريع البرنامج 2 ـ 5 ثواني في البحث فلسوف نوفر على البشرية مائة ألف من سنين البحث. المعرفة الكلية أصبحت في متناول كل إنسان، وفي أي حقل معرفي، وفي السؤال عن أي شيء. لم يعد من حاجة لدخول مكتبة والعس فيها الأيام  والليالي؛ بل بكبسة زر فتتداعى المعلومات من دماغ عملاق يلف الأرض والجغرافيا والتاريخ وفنون المعرفة، التي تعبت في تحصيلها جهود الجنس البشري خلال ستة آلاف من السنين. مع هذا فالتطاحن الآن مع المؤسسات الثلاث الأخرى آبل + فيسبوك +أمازون في أكثر من ميدان واختراع، مثل (كيندل فاير Kindle fire) في وجه آبل وجوجول + في وجه الفيس بوك أو الاندروئيد الذي طوره الجني (أندرو روبين) فاحترق قلب (ستيف جوبز) مؤسس آبل وقال لقد سرقوه من إبداعنا للآي فون (iPhone) ولسوف أكرس كل قرش من ثروتي البالغة أربعين مليار دولار في إشعال حرب نووية حرارية معهم! ثم ودع وأصبح ضيف التراب الأبدي. إنهم يبالغون جدا أليس كذلك! أعذب الشعر أكذبه أليس كذلك؟ كان البدوي الصحراوي الشاعر يقول أن لو أغضبوه ملأ البحر سفينا وهو لم ير البحر كما ورد عن عمرو بن كلثوم في قصيدته مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا            وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا إِذَا بَلَـغَ الفِطَـــــامَ لَنَا صَبِـيٌ             تَخِـرُّ لَهُ الجَبَــابِرُ سَاجِديْنَـا إنه جميل أن تجمع المعرفة الإنسانية على هذا النحو الكلي واستدعاءها بالسرعة الخارقة حتى لو أراد الإنسان قطع مسافة بين مدينة وأخرى. أذكر سفرتي بين مونتريال وفيلادلفيا في أمريكا وكيف زرنا منطقة الأميش الذين لايعرفون كل هذه التقنيات الجديدة، ويتنقلون بالحناطير (عربات تسوقها الخيل) ولايستخدمون الكهرباء، ويتعاملون بسلام مع المجتمع الأمريكي المحيط بهم؛ فهم قوم لايؤمنون بالدفاع عن النفس. لقد مثلهم فيلم الشاهد (Witness) الذي كان بطله هاريسون فورد خير تمثيل. الطريق إليهم أعطانا الجوجول تفصيلات عجيبة في كل كيلومتر نعبره من نقطة الانطلاق حتى الوصول؛ فأين مقتفي الآثار ليروا العالم الجديد الذي أصبح لكل احد منا مثل كفه؟ فيقرأ الخطوط والثنيات والتعرجات والبصمات . ومن سنحت له فرصة زيارة مكان الجوجول في كاليفورنيا فلسوف يدهش من عالم ملون مريح. حمامات سباحة. دراجات. أمكنة رياضة واستجمام لكل من يريد. زوايا قهوة. وأذرع من الخضرة البهيجة في كل مكان. إنه مكان مريح للعمل؛ وفي المنتصف تمثال هائل لديناصور برونزي. وحسب المدير الحالي فهو يطمح إلى عالم الجوجول الذي ينتج سيارات خاصة به، تغذى بالكمبيوتر، وتلفون جوجول يعمل بطرق التخيل. إن طموح الشركة لاحدود له كما قال (ايريك شميدت) ذلك لمجلة (البوردا) أثناء زيارته لميونيخ.   آبل (Apple) : الحركة الكلية (Total Mobility) إن مبيعات آبل التي اقتحمت كل بيت، ووصلت مبيعاتها في ربع عام 2011م إلى 146 مليون جهاز في العالم، بدأت متأخرة عن الأمازون، التي كانت السباقة بين العمالقة الأربعة، فقد بدأت الأمازون عام 1995م وببيع الكتب فقط وتحت عنوان هل هناك كتاب لم تعثر عليه بعد؟. تلتها الجوجول عام 1998م . لتلحق بها آبل عام 2001م بالموسيقى بجهاز آي بود (iPod) ثم وفي عام 2003 تثني بالآي توينس (iTunes) قبل أن تقفز إلى آي فون الشهير عام 2007م (iPhone) الذي لم يبق مدر ووبر إلى ودخله. صديقي عبد الواحد يلعب ابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات في  واحد منه ويسمع الموسيقى. أنا شخصيا مازلت على موبايل الدمعة المطور، مرتاح معه ومسرور من إداءه، تحت فلسفة الموبايل للحديث بصوت واضح، وإرسال رسائل نصية واضحة. حتى فاجأتني ابنتي بهدية من تلفون ذكي بدل العالم عندي فبدأنا نتحدث مع كل العالم مجانا على نظام الواتس أب والأيمو. أخيرا في عام 2010م قفزت آبل إلى بناء كتابها الخاص بنظام آي باد (iPad)والتحدي كبير امامها بعد وفاة مؤسس الشركة (ستيف جوبز) أن تبقى على معدل التنافس والسباق ومد السوق بهذه المعيارية من جمال الأجهزة. يقول (مارتين ليندشتروم) من التسوق العصبي إن جهاز الايفون يعمل فعل الإدمان ولكن بالحب لهذه الجهاز الأنيق. يبدو أن كل من تعامل معه أحبه وأصبح صديقه. حتى عام 2007 حين بدأت آبل في تثوير نقل المعلومات كما رايت أنا عند ابنتي في مونتريال وهم يتلقون الأخبار من كل مكان يتحركون به، ومن خلال الفيس بوك آخر أخبار الثورة السورية. لم يعد التلفزيون في البيت. إنه الآن في جيبك مع المعلومة. هذا هو إبداع آبل كما سمتها مجلة در شبيجل الألمانية: الحركة الكلية. قالت يومها (موتورولا) و(نوكيا) لايمكن أن يحدث هذا؟ ولكنها نفس مقولة الموبايل بذاته كيف يمكن أن يسمع الإنسان التلفون بدون شريط وجهاز؟ الموبايل كسر الجمود لصالح الحركة، وحاليا توجد مليارات الموبايلات على امتداد الأرض وبعشرات الأشكال. وكل من المؤسسات الأربعة تريد ربط هذه الأجهزة بنظامها فقط. هذا هو الصراع الجديد. وماعملته آبل ليس أحهزة جميلة أنيقة بل عالم يقترب من المثال. تأمل جهاز الآي فون لتدرك ذلك وكل يوم هو في شان. وأعلن ستيف جوبز (الحمصي الأصل بالمناسبة) قبل موته بشهرين أنه في صدد نقل مشاريعه إلى عالم التلفزيون، ولسوف يصمم جهازا سهل التحكم والقيادة، وكانت توقعاته أن يكون في نهاية عام 2012م ولكن يد المنية كانت أسرع فمات شابا وهذه هي الحياة ونهاية المبدعين. إن ستيف جوبز مثال للنموذج الفردي الأمريكي، كيف يمكن لفرد أن يصل إلى بناء إمبراطورية برأسمال 360 مليار دولار، وبشركة تضم 46600 خبير وبوقت قصير نسبيا. قارن هذا الإبداع بما تفعله ديكتاتوريات العالم العربي ومنظر الدماء المسفوحة لأهل حمص وستيف جوبز هو من أصل حمصي! فأين وصل هو؟ وماذا نال أهل حمص من صواريخ طاغية دمشق البراميلي إنها الغابة البعثية العبثية أليس كذلك؟   ولادة العمالقة الأربعة استفدنا من المفكر الجزائري (مالك بن نبي) قاعدة تقول أن كل حدث هو علاقية جدلية بين السبب والنتيجة؛ بمعنى أن كل حدث هو في نفس الوقت سبب ونتيجة في جدلية الزمن؛ بكلمة أخرى هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده. ومن هذه القاعدة يجب معرفة ظروف ووقت ولادة العمالقة الأربعة؟ يبدو أن نهاية القرن العشرين هو الذي دشن هذا الفتح المبين؛ فبين عامي 1995م و2011 على امتداد 15 عاما تلاحقت فتوحات عالم الديجتال. أنا شخصيا كان من أدخلني إلى عالم الكمبيوتر ابنتي مريم حين أدخلنا إلى منزلنا الكمبيوتر بسرعة بسيطة و رام (RAM) لايتجاوز 16 اليوم 256 عادي وكنا مع البنتيوم فرحين ونحن الان على عتبة كمبيوتر الكوانتوم حسب قانون التسارع المعروف في عالم الكمبيوتر وبناؤه، بل يقوم ماركرام في لوزان بمحاولة تقليد بناء الدماغ من عمل شيبس الكمبيوتر (الرقائق). في عام 1995م بدأ الأمازون في أمريكا وانطلق من عالم الكتب. أنا شخصيا أتذكر مكتبة عجان الحديد في حلب وفي مكتبته ليس من كتاب في التراث إلا وجدته عنده. من الخارج لم تكن تغري كثيرا أما محتواها فهائل. الأمازون في عام 2010 بعد 15 سنة من الانطلاقة كانت مبيعاته السنوية 32.2 مليار دولار بربح سنوي 1,2 مليار دولار وشركة تجمع من العاملين 33700 خبير! مركز إمبراطورية جيف بيزو في سياتل ـ واشنطن. فكر جيف بيزوس في عالم الكتب فضرب آبل بدل (آي باد) بتنزيل الكيندل فاير (Kindle ire) حيث يمكن قراءة 1400 كتاب لمكتبة عامرة وبطريقة سهلة وبمزايا أنيقة في تتبع القراءة والكتب. في نفس الوقت جعلت هذا الجهاز من ملكياتها فلا يمكن لأي جهاز أن يعمل عليه إلا مايختارون. بعد الأمازون بثلاث سنين في عام 1998م تأسست شركة الجوجول ليلحقها بعد سبع سنين (2005) جوجول الأرض (Google - Earth) مع خدمة الخرائط التي تصل حاليا إلى أبعاد لم يحلم بها إنس ولا جان. اليوم كنت أسمع من قناة مونت كارلو عن تقنيات جديدة لراكبي السيارة أن تمسح لهم المنطقة من حولهم حيث يسافرون بل ويتخاطبون مع السيارات المجاورة لهم وهو يقودون عرباتهم المرفهة. إنها جنات من ديجتال مصفى ولهم فيها ماتشتهي الأنفس وتلذ الأعين. الجوجول تعمل حاليا في جبل الرؤية (ماونتن فيو ـ كاليفورنيا) وبعمل يصل إلى 29,3 مليار دولار وربح سنوي وصل عام 2010م إلى 8,5 مليار دولار ويعمل في المؤسسة 24400 عامل وخبير، وضربت الجوجول ضربات مضاعفة جديدة في تقوية مركزها في السوق فانزلت الاندروئيد وهو مطور عن الآي فون ويقرأ حالة الجو وتلوث المناخ ودرجات الحرارة وما شابه، وفي وجه منافسة الفيسبوك أنزلت نظام جوجول بلس (Google +) آبل (Apple) تأخرت قليلا في السباق وبدأت بعد ست سنوات من الأمازون عام 2001م  وثلاث سنوات بعد الجوجول. بدأت بالموسيقى فأبدعت  آي توينس وآي بود (iTunes , iPod). آبل أسسها شخص واحد (ستيف جوبز) يقال أن أصله حمصي ربما من باب عمر حيث قصفت براجمات الصواريخ الأسدية في شتاء 2012م! آبل مقرها في (كيوبريتنو) في كاليفورنيا بلغت عملياتها عام 2010م 64,2 مليار دولار وربحت 14 مليار دولار يعمل عندها 46600 خبير. إنها مدينة عقول وخبرات أليس كذلك؟ استطاعت آبل لاحقا عام 2007 م تنزيل الآي فون الرائع وتبيع في ربع سنة حوالي 150 مليون جهاز في العالم. جيلنا ينظر حاليا إلى أطفال الآي فون بدهشة. أنا شخصيا مازلت أحمل جهاز دمعة مطور وقد خسر السباق مع الآب فون بشكل ملحوظ أداء وأناقة. آبل تخطط لغزو عالم التلفزيون ولكنها تلقت ضربة هائلة مع موت مؤسسها ستيف جوبز فمن سيربح في هذا الماراتون؟ أما مؤسسة الفيسبوك فتأخرت عن المازون تسع سنين عددا وعن الجوجول سبع سنين وعن آبل أربع سنوات، ولكن (مارك تسوكربيرج) ضرب ضربته وحقق فائض مالي تجاوز مائة مليار دولار في سبع سنوات سمان. بدأ الفيس بوك ع عام 2012م بنادي عالمي يضم 800 مليون عضو وعملة خاصة وآلية عمل خاص ونظام ضرائب ويدخل سوق البورصات بقوة وهو ما يرشحه أن يستولي على عالم المستقبل كما جاء في مجلة در شبيجل الألمانية (49\2011م) الفيسبوك (Facebook) اليوم رابضة في بالتو ألتو في كاليفورنيا (Palto - Alto) وتعمل بمليارين من الدولارات وتربح 0,6 مليار دولار سنويا ويعمل فيها من الخبراء ألفي شخص. الشفافية الكاملة (Complete Transparence) الفيس بوك: 800 مليون عضو على امتداد مساحة الكوكب. بمعدل كل واحد من ثلاث من سكان الأرض يدخل على النت. في ألمانيا كان العدد 14 مليونا ارتفع إلى 22 مليونا. خطتهم من يدخل على اليوتيوب يكون دخل على النت. يوصف مارك تسوكربيرج (Mark Zuckerberg) ملك الفيس بوك بأنه شاب في الثلاثينات بسيط الثياب والهندام جم النشاط والذكاء فالمال يفتح المواهب والرجل أصبح في جيبه أكثر من كنوز خوفو وقارون فقد تراكمت ثروته في سبع سنين سمان من الصفر إلى 100 مليار دولار. والرجل كريم يتبرع بمائة مليون دولار ضربة واحدة مساعدة للمدارس. شعاره سنغير العالم. ويريد معرفة كل شيء عن المشتركين عنده في الفيسبوك. الأمازون (كل شيء تحت التصرف ويمكن الوصول إليه). أنتجوا الكندل فاير بـ 1400 كتاب في مكتبة متنقلة ملئية بذخائر المعرفة. إنها تذكرني بمشروعي الفكري قوانين البناء المعرفي فقد حرصت على جمع كتب تنمي المعرفة أقل من هذا فيمكن بذلك لكل شاب يريد بناء نفسه معرفيا أن يحمل هذه الكتب الألفية ويشتغل عليها عشرين عاما. إنه مشروع تثوير القراءة وتراكم المعرفة الكمي. جهاز الكندل خفيف الوزن مثل الهاندي (Handy) وإذا مرت كلمة لم يفهمها القاريء أتاه الجواب بكبسة زر فلا حاجة لقاموس الفيروزآبادي و قاموس المحيط أو لسان العرب لابن منظور الأفريقي. وهناك القراءة الاجتماعية فيمكن الاطلاع على ملاحظات الأخرين، كما أن المكان الذي توقف عنده القاريء ليلا يجده صباحا وهو يقرأ في الكاندل الفقرة الأخيرة التي توقف عنده فلا حاجة لتشخيط المكان وطوي الصفحة. كله عالم عبقر بدون ورق وحبر. يباع الكندل حاليا بمبلغ 79 دولارا وفي ألمانيا بـ 99 يورو. إنها قفزة نوعية في التحصيل المعرفي.. جيف بيزوس إمبراطور المازون يريد الاحتفاظ بالاحتكار لنفسه ويشبه في هذا روكفلر قبل مائة عام وإضاءة العالم بنور القناديل. لذا فكتب الجهاز كندل لاتعمل عند غيره. كذلك فإن مبيعات الأمازون حاليا أقل مافيها الكتب، فهي تبيع كل شيء بدء من حمامات وأحواض السباحة إلى إطارات السيارات وقطع الغيار. خطورة هذا التطور أمران؛ من المصنع إلى البيت توصل الأغراض بدون طفيلي، وسوبر ماركت دونه كل سوبر ماركات العالم أجمعين. إن مجمع الأمازون في مدينة مثل (لايبزيج) يضيع فيها الإنسان من كثرة الأشياء الموجودة فيها من كتب ومعلبات ومصنعات واختراعات مايعرفه المرء ويجهل معظمه. نحن ندخل عصرا جديدا من البيع والشراء عن طريق النت. كنت يوما في البريد وقلت لهم انتهى عصركم بعد الفاكس والنت؟ قالوا على العكس اليوم بدأ عملنا. هذا الكلام صحيح على مستوى مبيعات المازون ولكن لامكان للكسالى والمتخلفين عن نبض التاريخ والتكنولوجيا وعالم الديجتال. بضاعة تصل لأي إنسان في أي مكان فقط عليه أن يحدد مكانه ويدفع الثمن عن طريق البطاقات الائتمانية. في عام 2010م باعت الأمازون 6 مليون جهاز كندل وبلغ سقف المبيعات عام 2000م 2.7 مليار دولار ليصل عام 2010 م إلى 34 مليار دولار. شعاره صديقي الشاري هل ثمة كتاب لم تعثر عليه؟ وغرض تعثرت في الوصول إليه؟ نحن في خدمتك وبالطبع يدنا في جيبك؟ وهكذا فأي شيء في أي مكان أصبح تحت التصرف وبأبخس الأثمان أو هكذا يزعمون. بوجود الحيتان الأربعة نشي صراع ضاري على امتلاك القارة المجهولة الجديدة عالم الديجتال.. فلمن ستكون الغلبة في امتلاك المستقبل؟ أذكر جيدا حين بدأ نظام (الفيديو ـ Vedio) عام 1979م . كنت حينها في ألمانيا والثورة الإيرانية في أوجها. بدأ النظام واشترينا من وكالة جرونديك (Grundig) أشرطتها الثقيلة العريضة وفرحنا. ولكن لم يدم فرحنا طويلا فلم ينجح النظام. جاء نظام (البيتا ماكس Beta Max) ففاز وكان حجم الشريط صغيرا عمليا، ثم نافسه (VHS) وكان بحجم الكف أكبر من البيتاماكس فطار وحلق ونسينا نظام الجرونديك. أتذكر تلك الأيام جيدا وكيف بدأ نظام الفيديو فيلم أيضا وكان جهاز التصوير منفصلا عن الفيديو بوزن خمس كيلوجرام. وحاليا لم يبق نظام بيتا ماكس إلا في الذاكرة. ومازلت أحتفظ بأشرطة من نظام (VHS) وهي جيدة وتعمل ولو بعد مرور ربع قرن، ولعلها أفضل من نظام الأقراص الليزرية (CD) من جهة حيث تعمل بدون مشاكل، ولكن ليس بنقاوة الأقراص الليزرية كما لاننس فارق الحجم، حيث يمكن حمل قرص واحد عليه العديد من الأفلام بدل الشريط الثخين القديم فلا يستويان مثلا، ولذا هجر الناس النظام القديم إلى الجديد؛ فلم يعد يشتري الناس أجهزة تعمل فيها الأشرطة القديمة إلا ربما من أجل نقل التراث القديم من أفلام شتى، حيث بلغ عدد الأفلام الممثلة حتى اليوم حوالي مائة ألف فيلم ويزيد. قانون التاريخ يتقدم على ساقين من الحذف والأضافة؛ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. مازلت أتذكر عام 1979 م فلا أنساه ونحن نسجل وقائع الثورة الإيرانية على أشرطة (VHS) والغرب يرجف من يقظة الشرق، ولم يكن يخطر على بالي ولو في أشد كوابيس المنامات أن تتحول الثورة الإيرانية إلى عدو للشعب السوري، وتساند نظاما قمعيا إجراميا دمويا، فقد انقلبت الثورة إلى دولة، ومن نظام حرية إلى وضع طائفي بغيض خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، كل همها بناء صنم نووي ليس للاستخدام بل وحتى ليس للأكل مثل صنم عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فكان إذا جاع أكله! إنها السياسة الوسخة فلنرجع إلى العلم النقي.عالم الديجتال كما ذكرنا يشبه من وجه قارة الانتراكتيس أي القطب الجنوبي؛ فهي أرض خلاف القطب الشمالي الذي هو جليد وصقيع من ماء. وعلى الرغم من انخفاض درجة الحرارة هناك دون الخمسين تحت الصفر ولكنها أرض عذراء نقية بما فيها من بحيرات عذبة لم تتلوث منذ خمسين ألف عام. عالم الديجتال يختلف عن الانتراكتيس أنه اختراع وليس اكتشاف؛ فهي قارة مجهولة ولكن مخترعيه عباقرة ضربوا ضربتهم وأبدعوا وغيروا العالم وملأوا جيوبهم من مال وفير. (الأمازون Amazon) يضع تحت تصرفك ما ترغب، و(الآبل Apple) يعطيك التنقل الكامل بالمعلومة وتلقيها أينما كنت، و(الفيسبوك Facebook)الشفافية الكاملة، أما (الجوجول Google) فيدخلك إلى كهف معرفة لاتنضب معلوماته وتزداد كل يوم فهو بحر المعرفة الكلية. ولكن هناك مشكلة خطيرة بين هذه المؤسسات الرباعية فهي تخوض صراعا ضاريا في الاستحواذ على خريطة الديجتال، وقد نفاجيء بخامس يضاف لهذا الرباعي فيضيف لما نعرف الجديد والمفيد. المشكلة في هذه المؤسسات العملاقة أنها تعطي المزيد من الراحة لكل من يتعامل معها، ولكن من جهة خفية تسحب منه مزيدا من الحرية؛ فالفيسبوك يخترقنا، والجوجول أئتمناه على ذاكرتنا. إنها مؤسسات تصطاد الأفراد بشبكات تحتبس فيها هذه الكائنات. فلسفة الجوجول قد تحمل لونا من التناقض فهي تعطي المعلومة بالمجان، ولكنها حصرية عليها ولها؛ فهل هي عين الصدق ونبع التقوى؟ تأمل مثلا الويكيبيديا ومن يدخل عليها. الفيسبوك يقضي على الخصوصية وتقع كامل الشبكة في قبضة الشمولية. وتشتهي حكومات كثيرة أن تمتلك عن الأفراد ماتعرفه الفيسبوك عن 800 مليون إنسان في المعمورة. لاغرابة أن لايثق الواحد بالبقية، والكل يتجسس على الآخر، والكل يسرق من الكل. إنها حكومات جديدة متشاكسة. (ستيف جوبز) مؤسس الآبل أقسم وتوعد وهدد أنه سينفق كل قرش يملكه من ثروته التي تبلغ 40 مليار دولار أن يدمر الاندروئيد الذي طورته الجوجول! قال الرجل إنه نسخة عن الآيفون! قال إذا تطلب الأمر أن نشن حربا نووية فأنا مستعد، ولكن الموت كان أسرع إليه من شراك نعله. إن المبالغات لا حد لها كما نرى. ولكن بنفس الوقت عمق الإحباط وهو يرى أجمل ماتعب عليه يلعب به الآخرون وجهده يسرقون! ما هو الاندروئيد؟ رجل ذكي كان من صنعه من وادي السليكون اسمه (اندرو روبين) ويمكن أن يعمل الجهاز على 300 نوع من الموبايلات خلاف الآيفون. ومستوى بيعه خرافي فقد ظهر مخطط البيع صاعدا مثل طائرة تقلع من ارض مطار. يقول روبين سوف نجعل الايفون من آبل من منسيات التاريخ! ميزة الاندروئيد أنه صالح لآلاف الاستخدامات في أجهزة القياس وحرارة الكون ورطوبة الجو ومقدار تلوث الهواء ويعطيك التفصيلات عن مشكلة الاحترار الكوني وهو يجمعها من ملايين نقاط المعلومات المتفردة. أما الفيسبوك فقد نبعت الحاجة لها من حاجة الناس إلى العلاقات الاجتماعية الحميمة أكثر من من المعلومات والمعلومات فقط. الصراع بين الجوجول والفيسبوك بلغ الذروة حول الأدمغة والخبرات، ولذا فقد تقدم الجوجول لخبير مهم بنصف مليون دولار هبة مع زيادة مترقية في الراتب. مع هذا فهؤلاء (الأدمغة) ينظرون للمستقبل ومع دخول الفيسبوك إلى مستوى البورصات فلسوف يحققوا من الارباح أكثر من عظيم الرواتب فهم إلى حقول الفيسبوك يزحفون. يسري (مثل) في أمريكا الشمالية أن أصحاب الرواتب الثابتة لن يصبحوا أغنياء قط مهما علا مقدار الراتب. أذكر جيدا من كندا ذلك الشاب المضارب (ميشكو) كيف حقق ثروة باللعب بهذا القمار فخلال سنوات من المضاربات جمع ثروة ارتاح على ظهرها ولا أعرف هل أفلس أم زاد؟ إنها أمريكا وسحرها وسحاريها أليس كذلك؟ حاولت الجوجول الرد على الفيس بوك وقالت حسنا هل تريدون أكثر من المعلومات من حميمية الاتصالات فلنخترع شيئا جديدا فيه ميزة المعلومة والاتصال وهكذا اخترعت الجوجول ماسمي بجوجول بلس (Google +). (آميت سينجهال Amit Singhal) يعتبر من الأدمغة الخمسين في أمريكا الشمالية خلف نظام المعلوماتية هو من طور القفزة الجديدة لجوجول وهو يرى أن المعلومة يجب أن لاتكون قطعة مفردة بل لها بعد شخصي أيضا وهذا يعني ثورة عالمية. بالمقابل يرى (جون كالاس John Callas) وهو رائد في تطوير نظام آبل أن من يستفيد من التطوير والمعلومات يعني بالنسبة للمؤسسات أرض فلاحية وزراعة تنتج رؤوس سلطة، والحصاد هو المهم، تماما كما يفعل أصحاب المحميات في بيع الخضار. أين وصلت الأمور؟ يعتبر ستيف جوبز نموذج الحلم الأمريكي شخص واحد يبني مؤسسة تضم أكثر من أربعين ألف موظف وخبير وبرأسمال يقترب من حافة 400 مليار دولار. مشكلة آبل أن مؤسسها فارق الحياة بسرعة. وفي اليوم 14 من تكريمه اجتمع عمال وموظفو آبل ليتحدث إليهم الخليفة الجديد تيم الطباخ (كوك) قال بصوت خاشع لاتكونوا مثل والت ديزني الذي انتهت شركته مع موته ليتابع كل منكم مايستطيع فعله ولكن القول سهل أليس كذلك! كان مشروع ستيف جوبز الأخير هو دخول عالم التلفزيون فبعد نقل المعلومة لتصبح متحركة مع جهاز الآيفون يحاول أن يقوم بنفس الحركة فترى بجهازه ماتراه في منزلك من التلفزيون. كلام الرجل فيه قدر من المصداقية فهناك العديد من المؤسسات التي تحاول كسر الهيمنة الأمريكية بوجود أو موت مؤسسيها مثل (IBM) و (Microsoft) و (Yahoo)  و ((Netscape و (AOL )  و My) Space ) وعند الصينيين مثل Baida)  و Sina ). الخلاصة التي تنتهي لها مجلة در شبيجل الألمانية أن آبل استنفدت إمكانياتها، ومع موت مؤسسها لن تصمد أمام زحف الفيسبوك، وقد قدمت أفضل ماعندها، وجميل لها أن تحافظ على مكتسباتها، أمام تنافس سمك القرش العالمي. فمن سوف يسيطر؟ يبدو أنها جمهورية علامة جبل السكر (مارك تسوكر بيرج). يبدو أن المستقبل سيكون للفيس بوك فقد تجنبت أغلاط شركات مثل AOLالتي وقعت في أغلاط الجمهوريات الاشتراكية التي تضخمت فيها البيروقراطية إلى درجة الانهيار كما حدث مع جمهورية ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية فانهارت مع هونيكر. إنها لحظات مخيفة لانهيار الأنظمة كما حصل مع الرحيل الجماعي من جمهورية ألمانيا الشرقية. وحاليا تقوم الفيسبوك على سياسة حكيمة من عملة خاصة ونظام ضريبي وتشجيع مغري للعاملين وأعضاء وصل عددهم إلى 800 مليون عضو بشفافية خطيرة وقواعد مرنة للتعامل وما ينتظر هذه المؤسسة غد من نزوح جماعي من باقي المؤسسات إليها! فهل هذا الكلام جدي وصحيح؟ تعلمنا من القرآن قوله: قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. جبابرة المستقبل الأربعة عالم اليوم ديجتال، والكرة الأرضية غرفة صوتية. والعلم حطم الجغرافيا محققاً كلمة الله القائلة بأن الشعوب والقبائل واللغات والمذاهب تتعارف. لكن من قاد هذا الانقلاب في تفكير وعلاقات البشر، ليسوا العسكر ولا الساسة، وإنما شباب مدوا أيديهم إلى عالم الديجتال فامتلكوه. إنهم الرباعي المرح: "جيف بيزوس" إمبراطور "الأمازون"، والثنائي "لاري بيج" و"سيرجي برين" سيدا جوجول، و"تيم كوك" صاحب التفاحة الذي باع من أجهزة الآي فون في عام واحد 146 مليون جهاز وبنى ثروة تصل 360 مليار دولار، مقابل 80 مليار دولار للأمازون و200 مليار لجماعة الجوجول و100 مليار لمارك شوكربيرج الذي حقق ثروته من الصفر وخلال سبع سنوات فقط. إنهم يذكرون بجيتس وبرنامج السوفت وورد والماوس الرهيب الذي حببنا في الفيران، مثل قصة الراتتيو التي أنتجتها والت ديزني عن الفأر الطباخ. يطلب على جوجل يومياً مليار باحث بسؤال يريد إجابة، ويتكدس حول شوكربيرج 800 مليون عضو في الفيس بوك. ويطلب من الأمازون يومياً 800 مليون طلب، فقد آن الأوان لإغلاق السوبر ماركت وحدوث انقلاب في تكديس وتوزيع البضائع، في ضربة موجعة للسوق الرأسمالية. إنه عصر ما بعد الرأسمالية تحمله أمواج البحر الأخضر الإلكتروني بأجنحة من الإنترنت، ويطوف فيه من يريد معرفة العالم محلقاً حول الكرة الأرضية وما حوت، بواسطة "جوجل إيرث". كلهم ضربوا ضربتهم بقفزات في ثلاث سنوات (الأمازون 1995 ، جوجل 1998، آبل 2001، الفيس بوك 2003) وملأوا خزائنهم بمال كثير... أكثر من خزائن قارون ومستودعات خوفو. وكانت بركتهم بدون حدود لحركات احتجاج الشباب العربي، فأشعلوا الأرض ناراً في الشوارع والساحات بين شباب بطال عطال لا أمل له في المستقبل، فمنحوه أمل التغيير، وقفز الإسلاميون إلى سلطة تجهزت لهم على غير موعد لكن على طبق من جوجول وفيس بوك. هذا الرباعي يتنافسون بل ويتحاربون على امتلاك المستقبل. "جوجل" الذي يملك المعرفة الكلية ويزداد مخزونه من المعلومات ما تبكي أمامه مكتبة الإسكندرية لأنه يخزن يومياً عشرة أضعاف ما تحويه المكتبة في أطنان الكتب. الأمازون: كل شيء للبيع. آبل منحتنا الحركة الكلية بأجهزة تربطنا بعالم الإنترنت. وأخيراً الفيس بوك الذي يملك الشفافية وبناء مجتمعات الصداقة واكتشاف الأصدقاء. إذن هذا المزيج من العمالقة الأربعة الذين يملكون مفاتيح المستقبل الأربعة: المعرفة، الحركة، الخدمة، الشفافية، بدأوا الآن حرباً تذكر بقول الرب "بعضكم لبعض عدو" في عضاض ونهاش. أما الذي سيملك المستقبل فهو من كان خير زكاة وأقرب رحما، حتى ولو طال الصراع، فالكون مبني ليس على العبث بل على الحق. وحالياً هناك اتجاه في عالم الأدوية يطرح إمكانية دمج الأدوية المختلفة التي يتناولها شخص يعاني من عدة أمراض في دواء واحد. والسؤال الآن: لماذا لا يمتزج هذا الرباعي في حبة واحدة لفائدة الجنس البشري؟
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram