فهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( PENSEES ):
كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان البرق الحارق الخارق تضيء الوجود في لحظة واحدة ، ويذكرنا هذا بكتاب ( الخاطرات ) لجمال الدين الأفغاني ، وكتاب هكذا تكلم زرادشت للفيلسوف الألماني ( نيتشه ) وهذه الومضات الفكرية هي أحد اتجاهات علم النفس المعروفة بالجشتالت ، وكلمة ( GESTALT ) تعني بالألماني الاطار الكبير أو النسق الشامل أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشر ، حيث يصل العقل لفهم وضعٍ بدون الانتقال التدريجي التحليلي لفهم الواقعة ، وهو كما نرى أحد نزعات عمل الدماغ الانساني . هذه النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشف قانون الاحتمالات ، عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتمالات الربح والخسارة ؟ فأجاب فوراً وبعفوية ناطقاً بقانون رياضي مدهش مازال يعتمد حتى اليوم في عالم الرياضيات لمشكلة الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا التركيب العقلي عنده هو الذي جعله يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قانون الاحتمالات الرياضي الى المصير الانساني .
الرهان الرياضي والمصير الانساني :
وهي فكرة لاتخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة الإيمان باليوم الآخر تبقى أفضل حتى من الناحية البراغماتية المحضة ، في ضوء قانون الاحتمالات حيث يبقى أمام الانسان خياران ، يترتب على الأول الفوز بكل شيء ، في حين أن عكسه لايعرضه لأي خسارة ، وهي نفس الفكرة التي نظمها أبو العلاء المعري شعراً :
قال الطبيب والمنجم كلاهــــما لاتحشر الأجساد قلت إليكــــما
إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله طهرٌ فأين الطهر من جســــــــــديكما
ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله : (( وإنما نظرته الى الرهان نظرة براجماتية محضة . إن وزنه للمخاطر والتركيز على ماهو أكثر نفعا ، على مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة اللامتناهية )
علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية :
ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حاول فهم المشكلات الانسانية في ضوء الفلسفة ، والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصحيح ، كما أنها لاتتولد الا في مناخ خاص ، فهناك علاقة جدلية بين التكنولوجيا والقاعدة العلمية والمناخ الفكري ، أي عالم الأشياء والأشخاص والأفكار على حد تعبير المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) أو كما يقول المثل الأمريكي : ( الأشخاص التافهون يتكلمون في الأشياء ويحرصون على امتلاكها . والسطحيون يروقهم الحديث عن الآخرين . اللامعون والنابهون هم الذين يعنون بالعلم ويتذوقون الأفكار وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضي وقتك وماذا يفعل بالفراغ ؟ ولاكتشاف الذات تبقى الوحدة أفضل مشعر على التذوي والتخوي والتقعر الداخلي من غناه وخصبه وحيويته . علوم الكوسمولوجيا والفيزياء النووية والبيولوجيا والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ، ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع .
جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر :
الانتاج التكنولوجي لايأتي من فراغ بل لابد له من قاعدة علمية ، واستواء هذه القاعدة بدورها يتطلب مناخاً عقلياً خاصاً . والقرآن في هذا الصدد يجب أن يفهم ليس على أنه كتاب طب وكشوف علمية ، بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم .
وفي ضوء هذه الفكرة فإن فلاسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباسكال وهيجل دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية . ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطورة من الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مالم ننتج القاعدة التي تولد ( الأشياء التكنولوجية ) وهي قاعدة علمية . ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خاص . من أبرز صفات هذا المناخ حرية الفكر ، فالفكر الغربي اليوم يبحث بدون ( تابو) بدءً من الدراسة النقدية للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة . وفي جامعة مك - جيل ( Mc. GIL ) في مونتريال يدرس الطلاب أنظمة الحكم في العالم ، حيث تخضع النظم الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبرية ، كما يدرس الأطباء الباكتريا وتفريخها وتمكنها واستفحال مرضها ، كذلك العثور على الترياق المناسب لسمومها ، ليس لتصديرها الى الدول البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ، بل للاحتفاظ بها في الأدراج السرية للمؤسسات العسكرية ، كما رأينا في فيروس الموتابا في فيلم الانفجار الفيروسي (OUTBREAK ) فالسياسة علم ، والجنس علم ، وعلاقة الايمان بالعلم أيضاً علم ، وفي اللحظة التي نوحد فيها طرفي معادلة العلم والايمان ، كما وحد آينشتاين المادة والطاقة فسوف تحل أعظم مشكلة واجهت العقل الانساني حتى اليوم .
سحر الشكل الهندسي في الأرقام عند باسكال :
كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ، ففي الوقت الذي حاول ديكارت أن يقلب الهندسة الى أرقام ، فإن باسكال استولى عليه روح الجمال في رشاقة الهندسة فَفَهِم الأرقام من خلال تراكيب هندسية ، كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فالأعداد تتركب فيما بينها وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو الأمر عند فيثاغورس وفي تقدم باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضاً من شكل هندسي الى شكل هندسي آخر ، ولايرجع أبداً الى العبارات الرمزية العامة التي نجدها في الجبر ولا الى التركيبات العقلية الخيالية التي نجدها عند ديكارت . إنه يرجع دائماً وأبداً الى نظرة فنية كاشفة )(*)
اقرأ المزيد
الحكم القريبة المحجوبة :
هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفة هي لب قانون الأواني المستطرقة أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمه ثم صبه على شكل قانون رياضي يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل .
هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مستوى بحر على آخر ، وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر شغلت بال الانسان منذ أيام الفراعنة ، للاقتصاد في دروة كاملة للالتفاف حول القارة الأفريقية ، وكان هناك خوف من ارتفاع منسوب المياه في البحر الأبيض عنه في الأحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على بعض _ الى غرق مصر الكامل . وفكرة باسكال في ضغط السوائل أدخلت الى العقل الانساني فهماً جديداً في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين الأحواض المتصلة ، فإذا كان مرج البحرين يلتقيان ، فهناك برزخ غير منظور لايجعل أحد البحرين يطغى على الآخر ، فبينهما برزخ لايبغيان .
التخلص من ضغط مسلمات الأفكار السابقة :
كان باسكال عالماً تجريبياً قبل أن يكون فيلسوفاً روحانياً يمزج التصوف بالفلسفة في عصير روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ، والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة الخلاء في أنبوب الزئبق ، وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ، الذي كان يؤمن بأن الطبيعة تكره الخلاء ، ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلة هذا المفهوم ، فإذا مليء أنبوب مفتوح أحد الطرفين بالزئبق ، ثم وضع على حوض مملوء بالزئبق ، نزل مستوى الزئبق في عمود الزجاج الى مستوى معين واستقر عنده ، تاركاً خلاءً في أعلى الانبوب . وتتكرر هذه الظاهرة مع كل تجربة . وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الذي كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة . عمد باسكال الى إعادة التجربة في مستويات شتى بين البحر والجبل والسهل ، واستخدم سوائل منوعة فعمد الى الماء والكحول والزيت فكانت هذه الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد . لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعة لغة الخلق الأساسية ، التي تنطق بصدق وصرامة ، بدون تحريف وتزوير ومحاباة ، فهي أعظم من كل نص كَتب عنها ، من أي جهة كانت مصدره ، لقد لاحظ أن مستوى السائل الزئبقي يرتفع أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبق 76 سم ويقل هذا مع الارتفاع علواً . من هذه الملاحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضغط الجوي الذي قاد الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية لاحقة ليس أقلها في ميدان الطب في معالجة الحروق والغانغرين الغازي في غرف مرفوعة الضغط عالية التركيز في الاكسجين ( HYPER - BARIC - OXYGEN - CHAMBER )
تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال :
إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن السابع عشر للميلاد كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ، وكان أبرز مافي هذا الفكر كسر المسلمات العقلية السائدة ، التي تحولت الى أغلالٍ بثقل حجر الرحى ، فهي الى الاذقان فهم مقمحون . مع هذا كان باسكال نسيجاً فكرياً لوحده . كان يشترك مع ديكارت في مستوى العمق الفلسفي واستخدام الرياضيات للمنطق الفلسفي ، كما أشار الى ذلك في كتابه الخواطر ( PENSEES ) وأثنى على ديكارت ، ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقع سطحياً . ففي الوقت الذي كان ديكارت تحليلياً كان باسكال ( حدسياً ) أقرب الى مدرسة الجشتالت ( GESTALT ) وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شمولي سنني يستخدم فيه أداةً معرفية لتطبيقها بشكل وجودي في حقول معرفية شتى ، كان باسكال يرى تعقيداً وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقلٍ معرفي . وهو ماأكدته مدرسة علم النفس السلوكي .
وفي الوقت الذي كان عقل ديكارت ينفر من التجربة وجوها ولايميل الى الحقل التجريبي ؛ كان باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ، كما حصل مع اختراعه الآلة الحاسبة وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ، وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ، وتعتبر مقدمة لتطوير نظام الكمبيوتر . فإذا قرأ الانسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (PASCAL ) عليه أن يتذكر ذلك العبقري ، الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميلاد ، وأنجز ماأنجز ولم يعمر أكثر من تسع وثلاثين سنة . وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق التاريخي ، كان باسكال مهتماً بالعلم وقدره التاريخي وتاريخ العلوم ، فعندما وصل الى فهم الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصدد منذ أيام أرخميدس حتى عصره .
جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي : (إن لباسكال أسلوباً خاصاً في البحث والتفكير والتعبير وقد رأينا باسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة، لايفرض على العلم وأقسامه نظاماً سابقاً، إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قسم منه على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ، ولاشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه في العلوم ، عبارة عن حدس وكشف لااستدلال وتنظيم استدلالي للأفكار ، وأخص ماتمتاز به النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كاملاً على الموضوع المدروس ، وربما كان أخص مايمتاز به التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر لابتحرير كتاب منسق كل التنسيق )(*)
اقرأ المزيد
الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير :
كذلك تظهر هذه الثنائية التي لاتملك حتى الفلسفة الاجابة عليها في تفسير الشقاء والحبور الانسانيين : (( وشقاء الانسان لغز آخر ، فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعا من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ، كثير التعرض للألم في كل عصب ، وللحزن في كل حب ، وللموت في كل حياة ؟؟ ))
إن كلمات باسكال تحلق الى الأفق الانساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العقل ، فهذه المعاني لاتوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ، إنها هنا تعبيرات مليئة بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع .
وتبرز الثنائية في صورة أخرى بين الطبيعة كيف تتصرف والانسان الضعيف في مواجهة جبروتها الذي لايرد : (( مع ذلك فإن جلال الانسان عظيم في معرفته أنه شقي ... ماالانسان الا قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ، ولكنه قصبة مفكرة ، والكون كله لاحاجة لأن يتسلح كي يسحقه فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ، ولكنه بعد أن يسحقه الكون لايزال أنبل من هذا الذي يقتله ، لأنه يعرف أنه مفارق الحياة ، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الانسان ))
زحزحة الأفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة الانسان الأساسية :
في نوع من هذه المتحارجات في علاقة اللهو بالضجر ، وثنائية الانسان المبنية على التناقض الذي لايمكن توحيده ، وفكرة العدالة الأرضية التي يستحيل إقامتها ، واليقين الذي يعجز الانسان عن قنصه ، وسعادة الانسان التي لايمكن تحقيقها بدون فهم الانسان . حاول باسكال الغوص في بعد نوعي جديد لفهم المشكلة الانسانية في جذورها في محاولة لحل تراكيبها الخفية واكتشاف معادلاتها المجهولة وهو الرياضي الذي طور حساب التفاضل والتكامل ، ودشن رياضيات الاحتمالات ، وفهم مبدأ الضغط الجوي ، ليضع في النهاية مبدأ ضغط السوائل ، الذي مكن المهندسين لاحقاً فتح قناة السويس وبناما ، بعد أن كان المهندسون يرتعبون من إمكانية علو مستوى بحر على آخر . قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مستوى النفس وتقرير المصير ، ليس باستخدام المنطق الفلسفي ، فقد نفض يده منها بعد أن رأى كلال أدواتها المعرفية في حل المشكلة الانسانية . وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م .
الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام 1654 م :
حدث هذا قبل أن يموت بثماني سنوات ، حيث زلزلت قناعاته كلها ووصل معها الى اليقين والفرح والدخول الى حل مشكلة الانسان . في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى سالت دموعه الى الأرض ، وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ، فخرجت كلمات التجربة الروحية مهزوزة مقطعة متناثرة لاترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والفرح والسعادة . كانت تسجيلا تجربة دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ، في تلك الليلة عند السحر حيث يهدأ الليل حدث التجلي ، وكأن ناراً اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بنور خاص فكانت أول كلمة كتبها : نار . كانت نارا أحرقت الشكوك والذنوب ومعها الثنائية في ضربة موفقة واحدة . ثم خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خلاصات لمذاقات روحية ، أكثر منها جملاًُّ معبرة عما خالجه من أفكار ، واستفتح تجربته الروحية بنداء خاص الى .. اله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب .. لا إله الفلاسفة والعلماء .. إن باسكال اكتشف ثلاث عظمات كل واحدة تنفصل عن الأخرى بلانهاية في المسافة : المادة والعقل والمحبة ، الأولى للقادة والأغنياء ، والثانية للفلاسفة والعلماء ، والثالثة للقديسين والأولياء ، .. إن حل اللغز الانساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتبة الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها .
ينقل عن باسكال قوله : صنفان من الناس فقط يصح أن نسميهم عقلاء وهم الذين يخدمون الله جاهدين لأنهم يعرفونه ، والذين يجدون في البحث عنه لأنهم لايعرفونه )(8)
عندما شرع ( سنوفرو ) الجد الأعلى من الأسرة الفرعونية الرابعة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد في حملة بناء الاهرامات ، أُصيبت مشاريعه بكارثة محبطة ، انهار فيها الاهرام الأول بالكامل ، وبدأ الثاني في التشقق ، مما حمل مهندسي الاهرامات من الفراعنة الاوائل الى إمالة زاوية انتصاب الهرم ، فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطحاً ملتصقاً الى الأرض خائفاً من الانتصاب . هذه البداية المخيبة للآمال وضعت التحدي أمام الجيل التالي ، مما جعل الفرعون ( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ، في استقصاء هندسي وتجارب ميدانية مع الادمغة العلمية المحيطة به ، من جامعة هليوبوليس المدينة المقدسة قبل الانطلاق بمشروع جبار يستغرق عشرين عاماً بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجلات ، بدون حديد ، بدون حصان ، بدون بكرات رفع . فكلها تقنيات تم اكتشافها لاحقاً ؛ فالاهرام بني بالسواعد والادمغة والحجارة فقط ... والارادة الحضارية .
كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهرم على خط الأفق تماماً ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقة حفر مكعبات في الأرض على امتداد مساحة قاعدة الهرم ، ثم وصلوا بينها بممرات ثم ملأوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء الأفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم .
اقرأ المزيد
السجن الانفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البشر . بين من يحدق في ذات شقية ، ومن يعشق التأمل والاعتكاف واكتشاف العالم الداخلي الغني .
الوحدة مشعر النضج والاقتراب من الله . على كل حال سيغادر الانسان هذا العالم وحيدا وسيدخل الآخرة لاينفعه في معاناة الخلاص الأخيرة أحد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه . النفس التي ستفاجيء للمرة الأولى بمواجهة الذات ستكون من نوع مزلزل وتجربة تحدث للمرة الأولى . السجن الانفرادي يقود الانسان الى الجنون أو الحكمة ، لأنه يحبسه مع ذاته ضمن أربع جدران . من الغريب أن هذا العزل وهذه المواجهة المفروضة للاعتكاف ، وهذه المواجهة الأليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ، وفيها غاية المتعة لأفراد قلائل من الجنس البشري ، ولجوا هذا العالم الخفي ، وعرفوا مساراته الداخلية بنور خاص ، فهذا القبو عميق حالك الظلام ، لايضاء تماماً الا بمشاعل جهنم يوم يبعثون ، ولكن هذا الصنف تخصبت عندهم الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي .
الثنائية المتناقضة : اللانهايتان
كذلك يطرح باسكال في رؤيته للانسان فكرة اللانهايتان في ثنائية تحمل التناقض ولاحل لها حتى على يد الفلسفة . ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجمل ماكتب في النثر الفرنسي في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ، لأنها تدفقت من خلايا عصبية متوقدة الى أبعد الحدود ، قد ذاقت الاستنارة الداخلية . كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي حدثت معه في نوفمبر من عام 1654 م . لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الجدل الانساني المستعصي على الحل في مذكراته ( الخواطر )( PENSEES ) التي لم ترى النور بشكل كامل الا بعد 289 عاماً ؟! : (( إن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني ، ولكن هناك لانهائية أخرى وتلك هي لانهائية صغر الذرة وقبولها النظري للانقسام قبولاً لاحد له ، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا لانملك الا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه ، وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود .
إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ، وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي اللانهاية والعدم ارتعد فرقاً ، وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور .
من الانسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود ، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم ، إنه وسط بين العدم والكل ، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه ، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي أخذ منه واللانهائي الذي يغمره)
يرى باسكال بهذا العرض الأَّخاذ أن الانسان ليس مركز الكون كما رآه الفيلسوف اليوناني أرسطو ، بل هو في وسط الكون ، في حالة فقدان توازن ، وعجز مطلق عن الفهم ، معلقاً بأفظع من ألعاب البهلوان على حافة غير مرئية بين الكل والعدم ، بين لانهايتان في أي اتجاه سار ، باتجاه الكبير العالم العلوي ، أو باتجاه الأسفل الى العالم الأصغر ، هو عاجز عن إدراك العدم الذي خرج منه وقرر مصيره ، وهو أعجز عن إدراك العدم الذي يمشي باتجاهه مدفوعاً بجبروت لايقاوم ، نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مسرح الحياة . بين لانهايتان تطوقانه ، كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ، الذي يصعد فيه الأول الى الملكوت الفسيح الجبار ، ويهبط الثاني الى العالم الأصغر الذي يسبح الله بطريقته الخاصة . ولكن الانسان حينما يقارن نفسه يصاب بالذهول ، فهو الى اللانهاية لاشيء وعدم وصفر ، ولكنه مقارناً الى العدم يتحول الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية في ضربة غير موفقة وفي ثنائية تناقضية محيرة . عدم وكل شيء بنفس الوقت بنفس اللحظة . هذا ماجعل باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشياً عليه .
الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود :
تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة الانسان مرة أخرى على شكل تناقض محير مزلزل في حالاته النفسية الديناميكية : (( وطبيعة الانسان التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجا شديدا تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الاساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان ... يالهذا الانسان من كمير !! ياله من بدعة ووحش وفوضى ، وتناقض ومعجزة ، هذا الحكم في كل شيء ، ونموذج الغباء في الأرض ، مستودع الحق ، وبالوعة الضلال والشك ، مفخرة الكون ونفايته ، فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد ؟؟ )) ويُظهر الموت هذه الجدلية الرهيبة ، ففي لحظة واحدة ينهار الانسان من قمة الوجود في النطق والتعبير والحب والأماني والحلم الجميل والعيش الرغيد والحياة البهيجة والنور ، كله ينهار وبخبطة واحدة ، الى السلبية الكاملة والاستسلام المطلق والدمار الساحق والظلام المطبق .
اقرأ المزيد
تواتر الانسان بين الملل واللهو :
حللَّ الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول : (( انظر الى برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافلاً كل يوم بمختلف الأشغال والمواعيد وألوان اللهو المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أصدقاء إلى زيارة الندوات وحضور الولائم ، فالصيد من جديد ، فندوة جديدة ، فمقابلات العمل أو الأصدقاء ، فموائد الميسر أو محافل الرقص أو كلاهما ، وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل لافراغ فيه ، والناس من حوله مكلفون بالمساهمة في شغل أوقاته ، وإن توقف التيار لحظة وترك الرجل أعماله أو أغلق بابه على الزوار ، وإن أسرع الى الريف طالباً الراحة والهدوء ، لما بقي في الريف طويلاً ، وسرعان مايعود الى المدينة ، أما إن اُضطر الى ترك الأعمال أو اعتزال الوظيفة أو العيش في الريف بمفرده ، لضاق بالحياة ذرعاً وحل به الضجر ) ليصل في النهاية الى تقرير ارتباط الضجر باللهو (( اللهو إذاً مرتبط بالضجر أشد الارتباط )) فالانسان من أجل أن يهرب من السآمة يُهرع الى اللهو ، ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ، وهذا بدوره ليس له مخرج إلا باللهو ، فهناك تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مثل تركيب الأحماض الأمينية في الكروموسوم الخلوي . ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا يصاب الانسان أصلاً بالسآمة والملل
تفكيك نفسي لظاهرة الملل :
يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثافة الشعور بها هي التي تقود الى الملل ، ولكن ماعلاقة الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ، وهذا يعطينا توضيحات في غاية الأهمية لتناذر ( متلازمة )( SYNDROM ) يوم الأحد عند الغربيين ، فأثناء إقامتي الطويلة في ألمانيا تعجبت من ملاحظة مزدوجة : أولها كراهية يوم الاثنين الذي هو بداية العمل ، وتقابله ساعة النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ، عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنهك ، فتحمِّر الأعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ، بين باكي حظه وفاشي أسراره ، عند غربي لايحرص على الاقتراب منه أحد ، في حركة تدشين القطط الاجتماعية الجديدة . وثانيها كآبة يوم الأحد خاصة بعد الظهر ، فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نكدا وتنغيصاً ، في أعجب تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنينة القلوب . لم أعرف السر خلف ذلك الا متأخراً ، من خلال هذا التحليل ( الباسكالي ) .
ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة الاغتراب الداخلي :
إن قساوة العمل الاسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية الاسبوع ، ولكنهم منفردين كقطط اجتماعية ، كل لنفسه ، فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجهة للذات ، عندما تتخوى النفس من الداخل ، تتفرغ وتتقعر وتفقر داخلياً . ويدخل الانسان الحالة النفسية التي وصفها المفكر الاسلامي علي شريعتي ( حالة الاغتراب الداخلي) .
هذه المواجهة مؤلمة وتقود الى الشعور بالبؤس والحقارة والشقاء ، في حين كان العمل الاسبوعي عملية خروج وشرود من الذات ، أي عملية نسيان مؤقت للذات ، ومن هنا يدرج باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ، لأنه يؤدي نفس وظيفة الهرب من الذات وعدم مواجهتها ، وتفيد الآية في نفس الاتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) .
هذا هو السر في محاولة هرب الانسان بعد انتهاء العمل الى نوع جديد من العمل هو لهو وتسلية ، ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كلها من صنف عمل جديد قد يكون أشد إرهاقاً وأعظم مجهودا ، ولكنه يفترق عن العمل الأساسي باندماج الانسان فيه وبمتعة أكثر ، فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نشاط آخر من أنشطة العمل الذي نقوم به ، وتسعى منظومة الفكر الغربي اليوم الى تحويل العمل الى متعة مثل لعب المباريات والصيد ، من خلال بناء الديموقراطية في حقل العمل ، أي جعل العمل أيضاً ضرباً من اللهو طالما كان اللهو ممتعاً ، ولكن كلا العمل واللهو عملية تقوم في عمقها على الهروب من الذات وعدم مواجهتها ، لأن الذات فارغة لم تدرك معنى الحياة ولم تحل جدلية المشكلة الانسانية ، فيرى الانسان نفسه على هذه المرآة الشقية .
لماذا كان السجن مؤلماً مخيفاً ؟
فالذات فارغة لم تحل الجدلية الأصلية للوجود ومواجهتها يسبب الألم والشقاء ، لذا كانت ألعن أنواع السجون الافرادية ، والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس لأنه مصادرة للحرية فقط ، بل لأن الانسان يكف عن الذهول الخارجي ، والذوبان في أحداث يومية روتينية تافهة متلاحقة تختصر الحياة الى أشياء وحاجيات وغذاء ومتع رخيصة ، وتختزل الوجود الانساني الى ترانزستور حيواني منكمش ضامر لايتلقى إشعاعات الوجود العظيم ، في السجن يواجه الذات بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل والاعتكاف ، كل أمتعة الانشغال الخارجي توقفت عن تحويل انتباه الانسان ، وسقط الانسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالماً جديداً لأول مرة .
اقرأ المزيد
لماذا يشعر الانسان بالملل ؟ ولماذا يكافحه باللهو والتسلية ؟ وهل اللهو واللغو يكسران حلقة الضجر والسآمة حقاً ؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوحدة والانفراد ؟ لماذا شكلت قضية العدالة المشكلة الانسانية العظمى حتى اليوم واستعصت على الحل ؟! مامعنى الثنائية المشحونة بالتناقض المحيرة في الانسان ، بين قطبي الشيطان والملاك ، والموت والحياة ، والحزن والحب ، والشقاء والسرور ، واللانهائية والعدم ؟ لماذا لايتدفق برد اليقين الى صدر الانسان ويبقى على سطح المعلومات ؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه الانسان فيولد من جديد مكتشفاً ( المعنى ) في الحياة ؟؟
باختصار هل هناك حل للمشكلة الانسانية ؟ وهل استطعنا فهم الانسان ؟ أو على الأقل وضعنا قدمنا في طريق فهمه ؟
هذه المسائل الفلسفية الضخمة المليئة بالتحدي أغرت الفيلسوف الفرنسي ( بليز باسكال )(BLAISE - PASCAL ) فتصدى لمواجهتها في محاولة للامساك بمفاتيح الفهم الكبرى للانسان ، وهي تروي لنا قصة طريفةً من روائع مغامرات العقل الانساني في القرن السابع عشر للميلاد ، يقوم بها انسان مثقل بالأمراض ، يكاد دماغه يتفجر من الصداع ، فيحل أعقد المسائل الهندسية ، في فك لغز المنحنى الهندسي الدحروجي وهو يئن تحت وطأته ويتلوى كالأفعى من آلام الأمعاء التقرحية ، ويقترب من الشلل النصفي السفلي فيمشي على عكازتين ، ولايعمر في النهاية أكثر من ( 39 ) تسعٍ وثلاثين عاماً ( 1623 _ 1662 م ) في شهادة واضحة أن العمر في إنجازاته وليس في طوله ، وأن الزمن هو حال النفس وليس دورة الفلك كما يشير الى ذلك الفيلسوف المسلم محمد إقبال في كتاباته
ظاهرة محيرة عند المفكرين :
أجسام نحيلة يعضها المرض حيناً ، وتفترسها العلل طوراً آخر ، وتقضي عليها الأمراض في سن مبكرة ، أشبه بآلة استُهلكت بكثافة لامتناهية فطواها الموت بسرعة . نفوس عظيمة ، وأدمغة متوقدة . عيون تلتمع بالذكاء والنباهة ، ومسلك طاهر ونظافة أخلاقية ، ومواقف تشع بالحكمة والتصرف المحير الذي لايخطر على بال ، فعندما تقدم اليهود الى عيسى عليه السلام وهم يدفعون أمامهم الزانية كان حرصهم أشد على الإيقاع به عند السلطات الرومانية من إقامة الحد ، كما يروي القصة أبو الأعلى المودوديلأنه سيكون بين مطرقة السنهدرين وسنديان الحكم الروماني ، إن تأخر في النطق بالحكم اعتُبر هرطيقاً ، وإن نفذ الحكم أصبح قاتلاً أو محرضاً على القتل في نظر التشريع الروماني . كان جوابه عليه السلام عجيباً غير متوقع هادئاً عميقاً ( من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ) وانقشع جمهور الفقهاء المزورين عن رأسه .
فلاسفة وعلماء عليلون ؟؟!!
ظاهرة ملفتة للنظر تصدمنا بين الحين والآخر ونحن نقرأ للمفكرين والفلاسفة ، فنرى التحدي المخيف في إعاقة مرض وسيطرة علة ، أطلقت كوامن طاقة غير معقولة في التاريخ ، بين ظلام الرؤية في عمى أبو العلاء المعري ، وموت سبينوزا المبكر عن 42 عاماً بسلٍ رئوي افترس رئتيه ، ولكنه ترك من خلفه أربع كتب مازالت تهز الفكر الانساني حتى هذه اللحظة ، وتعتبر محطات عقلية لكل من دخل الاوقيانوس العقلي لمعرفة مغامرات الفكر الانساني الضخمة . والتقرح المعوي الممض عند باسكال ، وجنون نيتشه بمرض الافرنجي الذي استلب دماغه ، وشلل هاينه الشاعر الألماني ، ويصل المرض الى ذروته عند ( ستيفن هوكينج )( STEVEN HOWKING ) الفيزيائي الكوني البريطاني الذي صعد عنده الشلل الى أطرافه الأربعة ورقبته ، فهو مشلول الأطراف الأربعة ، مربوط الى عربة معاق يستطيع تحريك أصبعين من يده اليسرى ، ويتنفس بثقب صناعي في الرغامى ، ويتكلم عبر كمبيوتر مربوط الى حلقه ، باختصار هو دماغ فقط ولكنه اعتبر نيوتن القرن العشرين بالاختراق العلمي الذي قام به عندما طرح كتابه ( قصة قصيرة للزمان )( A BRIEF HITORY OF TIME ) الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية
ظاهرة التحدي :
يبدو أن التحدي يشكل قانوناً وجودياً ، فهو يستوفز الطاقات لتشكل حلقة حركية ، فالفكر أطلق باسكال ، والهم الفكري قاده الى المرض العضوي ، فمظم قرحات الجهاز الهضمي تندلع من تربة نفسية ، وهذا بدوره ولَّد شرط التحدي ، الذي قاد الى مزيد من الانتاج في حلقة تصاعدية ، ولايعني هذا أن كل مبدع أو مفكر يجب أن يكون مريضاً ، ولكن البدانة والشراهة في الأكل لم تكن في يوم من الأيام صفة المبدعين ، الذين يحملون هماً فكرياً يتجاوز معدتهم ، ذلك أن الهم الفكري يحرم في الغالب أو يقلل شهية التمتع بالطعام والإقبال على مايتقاتل ويتزاحم عليه الناس من المقتنيات ، ويحدد الاندفاع باتجاه هذا المتاع الرخيص ، وتفيدنا العضوية بآلية هامة في هذا الصدد وهي أن الطعام يوجه الدم الى الجهاز الهضمي ، مما يخفف دورانه في الدماغ ، فهو يقود آلياً الى تباطيء عمليات التفكير وإعمال العقل والعكس بالعكس ، وهي ظاهرة فيزيولوجية يشعر بها كل واحد منا بعد وجبة ثقيلة ، من ميل للكسل والاسترخاء ، ويظهر عكسها في الصيام أو قلة الطعام من صفاء الذهن وحدة القريحة وتألق الفكر .
تحدي الظروف بما فيها المرض والعاهات تطلق طاقة الانسان بشكل تعويضي ، وتحدي الظروف التاريخية تستنهض المجتمع ، وتحدي البيئة يحرك الجموع البشرية باتجاه الحضارة ، كما اعتبر المؤرخ البريطاني توينبي عندما رأى في وجود اسرائيل في المنطقة العربية منخس حضاري وتحدي يدفع للمواجهة وتقرير المصير .
اقرأ المزيد
نحن نعاني اليوم ليس من شح المعلومات بل فيضها بكذب منهمر. وبعد كورونا والتخاطب عن بعد تحول العالم إلى مستنقع لكل التفاهات؛ فلا يمر علي يوم إلا وخرافة تهبط على رأسي يسألني صاحبها عنها، أو دجال جديد هبط من سقف المعرفة فهو محيط بالسر وأخفى. بل وحتى نبي جديد أوحي إليه ربه زخرف القول غرورا.
منها خرافة جديدة قفزت إلى السطح هي العلاج بالطاقة عن بعد. وسببها أن رجلا فاضلا ممن أعرف ضربته الكورونا فأخذ إلى المشفى على عجل. فتبرع شخص أعرفه قبل نصف قرن حموي الأصل فقال إن عنده من طرق العلاج مايحيل الحجر إلى ذهب ويقلب العصي ثعابين.
قال ثمة شيء تدربت عليه هي الطاقة الحيوية؟ ظننت أنها كما حصل معي في مدينة مسيساجا الكندية حيث اجتمعت بطبيبة هربت من المحرقة السورية ثم عملت شيء اسمه الطب البديل وهي شعوذة جديدة تعتمد على غفلة المساكين أكثر من التأسيس العلمي الذي تعب فيه العلماء عبر القرون حتى أسسوه.
ونفس الشيء لاحظته عند سيدة حلبية تشرب أشياء وخلطات لأنها لاتعرف النوم فتنام على وقع أفلام الكوبوي من التلفزيون المنصوب عندها في غرفة النوم. وأتذكر من مدينتي القامشلي المقرودة وكمية السحر والدجل المنتشر هناك فأقول لاجديد من ديانة مسيلمة فهي تبدل أثوابها كل مرة.
وحين أخبرني صديقي الحموي القديم أنه يعالج بالطاقة من بعد لم استوعب الفكرة، ولم أكن قد سمعت بها من قبل فكل يوم هو في شان؟ قلت لزوجتي هل يستحق الموضوع أن أفرغ له من وقتي فأعرف البدعة الجديدة فترددتْ في النصيحة. المهم راجعت المصادر لأعرف ماهو السحر الجديد؟ فهالني الخبر وكمية الدجل فيه.
وكان تعجبي من البشر وكيفية تورطهم في أي خرافة دون تمحيص. هنا تذكرت ايضا صديقي الطبيب الكذاب الذي اجتمعت به في عسير وكان مدرسة في الكذب ولكن الناس تسمع وتضل وكما جاء في الأنجيل أعمى يقود أعمى الاثنان يقعان في الحفرة. قال القوم سحرة العصر الجديد إن الجسم جسمان وهو ليس كما ترونه بل نحن نراه على شكل طاقة وأثير تحومان وتحلقان حول بدن الإنسان. نحن نراها وهي خفية عليكم كما في الآية إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم . نحن ذلك القبيل أي الجن غير المرئية. فهذه هي عيوننا الجديدة التي بها نبصر وأنتم لاتبصرون. قال السحرة الجدد نحن نقوم مثل محطات البنزين فنفرغ الزيت القديم من الموتور ثم نملأه بزيت جديد. هذه هي طاقتنا التي لاتعرفونها. قلنا للسحرة الجدد وحين تفتحون قنوات التواصل المزعومة فتدخلون على روح هذا المسكين كم عدد الجلسات ومدتها يقولون العلاج أكيد ويحتاج لتكثيف إذا لزم الأمر؟ تذكرت الشيخ العمري من جبال عسير الذي كان يخرج الجن من رؤوس المعتوهين. كان يقول الجن نوعان جن الجبال وجن السهول! أما جن الجبال فهم عتاة لاطاقة لي بهم خلاف جن السهول فأمرهم سهل.
والعمري هذا في الجبال فكان إذا فشل في علاج يقول عليكم بالمشفى فاقصدوه. بختلف الشيخ العمري عن سحرة العلاج بالطاقة أنه مع العتاة الغلاظ المحيطين به من المأجورين المرتزقة فيبطحون المريض أرضا ثم يبدأ بخنقه فإذا بدأ يحشرج هتف الشيخ العمري لقد خرج الجني بطاقته السلبية والأن سوف أحقنه بالطاقة الإيجابية كما في السحرة الجدد. الشيخ العمري كان يدخل الأموال إلى حسابه فلا يعدها لكثرتها وأصبح عنده عيادات ومواعيد. تقدم له شاب سوري مغامر من تنومة وقال علمني مما علمك الله فطرده كي لاينكشف أمره.
أصدقاؤنا الجدد من سحرة العلاج بالطاقة نسألهم ماهي الأمراض التي تعالجونها غير طرد الأشباح والجن ؟ جوابهم تصور ماتتصور نحن نعالج ومن بعد تماما كما هو الحال هذه الأيام بعد كارثة كورونا (الحقيقية أو المصطنعة أو المصنوعة): إننا نعالج كل الأمراض النفسية مثل الاكتئاب و الوسواس القهرى والتوتر والعصبية وأمراض عضوية كالبرد والكحة وارتفاع الحرارة والديسك والبواسير وحصوات الكلى والمرارة والضعف الجنسى والسكر وارتفاع ضغط الدم، فجميعها تلعب الطاقة السلبية دورا كبيرا فى الإصابة بها. لاتنسوا دفع التكاليف يرحمكم الله. أما نسبة الشفاء فيقولوا لأننا ندخل إلى جذور الأمراض وخبايا الإصابات فالشفاء بإذن الله أو عفوا إذن الشيطان : نسبة الشفاء العلاج بالطاقة تكون 100%، لكن الكثير من الأشخاص لا يعلمون الكثير عن العلاج بالطاقة الحيوية وأننا نشفي من كل العلل والإصابات ولو نكسا في صمامات القلب واحتقانا في الرئة وغانغرين في الساقين. بل ويمكن الاستغناء عن الأدوية طالما عالجنا كل شيء.
صديقي الحموي الذي أعرفه قبل نصف قرن فغطس مثل أهل الكهف نصف قرن ليخرج لي بسحره الجديد أخبرته برأيي في المسألة فقلت له: أجسادنا التي بها نتسربل سنودعها ثم نمضي إلى حيث لاندري. اطلعت على مذهبكم على لسان مصري. أظنكم تسبحون في أوهام من الطب بدون طب. والمريض تحسن بفعل عناية طبية فائقة وسوف ينكس بعد يومين ويودع (بسبب الشيخوخة المدنفة). انا عشت نصف قرن في عالم البرزخ (العناية المركزة) أرى الموتى على مدار الساعة. هناك متطفلون ودجالون كثر يؤسسون لعلم بدون علم. تشكر اخي على اهتمامك اما طبكم فهو خارج الطب.
أجابني الرجل مشكورا بأنه قبل شهرين ولد لابنه الأصغر طفلة في الشهر الثامن من الحمل وتعرضت لنقص الأكسجين اثناء الولادة العسيرة وثبت ذلك بالرنين المغناطيسي. وانذرنا الأطباء انها ستعيش معوقة فاستنفرت وعملت لها جلسات كثيرة، وقلت في نفسي اذا لم اسخر موهبتي التي اعطانيها الله لعلاج حفيدتي فلا خير فيها، وبعد عشرة أيام اعادوا الرنين المغناطيسي وكان التقرير انها بخير. وهي الآن بصحة جيدة والحمد لله رب العالمين.
فهذه هي معركة الدجل والخرافة مع العلم منذ أيام كافور الأخشيدي وامنحوتب الرابع وبيبي الثاني.
اقرأ المزيد
مفهوم لا إكراه في الدين:
إن القرآن حينما طرح شعار (لا إكراه في الدين) أراد منها تحييد الجسد في لعبة الصراع الفكري، وهذا المفهوم ينبثق عنه ثلاث مفاهيم خطيرة مازال الجنس البشري يعس من أجل تحقيقها، ولم يصل الى ذلك حتى الآن الى بعضها الا بشق الأنفس.
هذه المفاهيم الثلاثة هي بالتتالي:
(1) ـ أولاً: تحييد العرق، وبذلك يتوقف الصراع العرقي وتزول العنصرية من العالم.
(2) ـ ثانياً: كما يصب تحييد الجسد في مفاهيم العنف واللاعنف فيتوقف إكراه الانسان وتعذيبه من أجل معتقداته، فلايقتل الانسان من أجل أفكاره، بل بما جنت يداه، والقرآن مشى في اتجاهين في مواجهة هذه المشكلة الانسانية التاريخية.
فهو أولاً: أعلن من جهته توقف الاكراه في العالم، بكل صوره، فكلمة (لا إكراه في الدين) كلمة جامعة شاملة لكل المعتقدات والمباديء والأديان، فنفى كل صور الضغط والاكراه وضمن أي دين أو مبدأ .
ومن هذا النبع النمير نكتشف بؤس الفقه حين دشن مشروعية قتل المرتد أي من يغير معتقداته، على الرغم من عدم وجود نص واحد في القرآن يفيد هذا الحكم الشنيع، فمن أراد دخول الإسلام ثم الخروج منه عليه أن يخرج بدون رأٍس؟؟ ومن أراد صناعة السيارات عملها تمشي للأمام فقط، فإذا دخلت الكاراج وأرادت الخروج انحشرت فما غادرته أبد الدهر؟؟
رفع الأكراه هو في اعتناق مبدأ أو تركه، دخولاً وخروجاً، وكان هذا الاعلان ـ وهو أمر مثير ـ أنه جاء من طرف واحد، وليس في صور اتفاقيات متعددة الجوانب؟ وهذا يفسر قسماً من سر انتشار الاسلام في العالم وانسياحه حتى هذه اللحظة في ضمائر البشر جميعاً.
وهو ثانياً: ترك الهامش أمام (التظاهر) بالتراجع عن المبدأ في حال التعرض للاكراه (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) كله في محاولة لتحييد الجسد عند اختلاف الآراء والعقائد، من أجل الوصول الى مجتمع انساني حر التفكير خالي من كل صور الاضطهاد والضغط المادي والأدبي، فلا تستخدم أي صورة من صور الضغط لادخال الناس بالقوة في أي مبدأ، أو إخراجهم من أي دين بالقوة، في كلا الاتجاهين، دخولاً وخروجاً.
والعنف المادي ضمن هذه البانوراما هو تلك الوسيلة التي تحتكرها الدولة لتحييد كل صور الاكراه على الانسان ضمن المجتمع كي يعيش آمناً، والجهاد بمعنى استخدام الآلة المسلحة هو لرفع الظلم عن الانسان أينما كان، والظلم من أي جهة انطلق حتى لو قام بها مسلم، من أجل إيقاف عملية إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة، فهي دعوة لأقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أممياً، وبذلك يتحول العالم الاسلامي تحت هذا المفهوم وضمن هذه الصورة الى مكان يهرب اليه اللاجئون السياسيون كل مكان وليس العكس. ومن عجيب تفكير الإصوليين أنهم يقولوا نعم هناك حرية اعتقاد ولا إكراه ولكن هذا في الدخول أما الخروج فلا؟!! بدون أي مستند من النص. وكله تأويل فاسد ضد العقل والمنطق والتاريخ والإنسانية والتطور الدافع للتقدم الإنساني ..
(3) ـ ثالثاً: كذلك يدخل ضمن تحييد الجسد حل جذري لمشكلة المرأة، كما يتحسن وضع المراة في العالم، فوضع المرأة غير مريح في الشرق والغرب على حد سواء، وعندما يتم تحييد الجسد من خلال الجنس، تتوقف المساومة على جسد المراة، التي أخذت طابع المراهنة على الجنس، ونسيان انها انسان كامل وروح متميزة.
مفهوم تحييد الجسد في الصراع الفكري:
لعل ديكارت لو بعث في أيامنا الحالية كان سيتمتع بوضع اوربا وكيف أينعت الثمرات التي وضعها هو وجيل الفلاسفة من القرن السابع عشر، وما وصلت إليه في الخلافات الفكرية، فالانسان في الغرب لايعذب من أجل أفكاره، ولايقتل من أجل معتقداته تركاً أو اعتقاداً وتحولاً، كما أن الأرض الأروربية أصبحت إن شئنا أم أبينا ملجأً للفارين السياسيين، الذين يبحثون عن نجاة لجلودهم من محاكم تفتيش القرن العشرين، فالمسعري السعودي حمته بريطانيا وحين تدخلت السياسة فطيرته لكوبا وترينيدياد تدخل القضاء البريطاني فأعاده لضباب لندن، كذلك الحال مع الغنوشي والبيانوني في اسكتلنده وويلز. كذلك الحال مع البيطار البعثي والحوراني الاشتراكي الذي آوتهما فرنسا، والعطار الذي يقضي بقية أيامه في سلام في آخن من حيث انطلقت الحملات الصليبية على الشرق الأوسط في القرون الوسطى، عظة للغافلين وآية للمتوسمين..
كذلك حققت الحضارة الصناعية ماهو أهم من انتاج السيارات والطيارات من نقل السلطة السلمي، وتدخل أوربا الآن تحولاً مذهلاً لم يعرفه الجنس البشري من قبل وهو الاتحاد بغير طريقة نابوليون أو هتلر، فلم تعد ألمانيا فوق الجميع بل مثل الجميع، ولم يعد توحيد أوربا بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بل باتفاق المونتان لإنتاج الحديد المشترك في الوحدة الاقتصادية. وحكام أوربا يجتمعون ليتحدوا بدون اجتياح أحد للآخر، وبدون أن يخسر أحد زعامة أو مالاً أو أرضاً. ولايعني هذا أن نهاية الرحلة الانسانية سوف تختم على طريقة فوكوياما بالديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية الغربية، فالانسان الغربي حقق الرفاهية والأمن الاجتماعي ولكنه لم ينجح في الطمأنينة الروحية بعد، أما نحن في عالم الأطراف والمحيط؛ فلا رفاهية ولا أمنا، بل رحلة الجوع والخوف والتيه والهولوكوست إلى قرون طويلة، وذرارينا الذين يولدون في الشرق المنكوب ليس أمامهم إلا المجهول والانفجارات والمذابح الأهليه والحروب الطائفية وحكم البعث والعبث، ومؤامرات النصرانية والناصرية والشيع والتشيع والوقوف في خنادق الزمن متجمدين عند خلافات طواها الزمن. والرحلة طويلة أمامنا لنتعلم، ولكننا لن نخرج عن خط التحول التاريخي بحال، إنما هي المسافة الزمنية قرونا بين ذلك طويلة..
اقرأ المزيد
نتابع في الحلقة الثالثة من قصة نهاية الفيلسوف ديكارت مسموما بالزرنيخ ولكن لابد من التعريج على أهم أفكار وإنجازات الرجل ولعل من ابرزها ما اهتدي إليه في مجلس كاهن كان يحرص على جمع العقول الأوربية.
طنين الذبابة وانبثاق الهندسة التحليلية:
في ضاحية باريس عمد مفكر لاهوتي هو (مارين ميرسين)( MARIN MERSENNE)(5) في مطلع القرن السابع عشر، الى عملٍ لم ينتبه له أحد، ولكنه كان مثل الزلزال للعقلية الأوربية، حيث كان يعمد الى عقد اجتماعين اسبوعيا يعقد فيها خيوط الاتصال بين أهل الفكر الحر في أوربا. وفي مجلسه العلمي المتواضع اجتمعت خيرة العقول الأوربية الحرة في ذلك الوقت، لتنتشر منها موجات التنوير بدون توقف.
هذا العمل كان مثل تحركات القارات الجيولوجية، ويعني للمفكرين أملاً لاينضب في إمكانية تحسين التفكير الانساني.
كان ديكارت لايكف دماغه عن العمل في كل مكان، وعندما أزعجه طنين الذبابة بدأ في التفكير عن احتمالات وجودها، فقاده هذا التفكير الى وضع قواعد المخطط البياني والهندسة التحليلية، التي أصبحت أحد أعمدة الرياضيات حتى وقتنا الحالي.
يقول جاك بيرج صاحب كتاب (عندما تغير العالم):
(ومن الطريف والمثير أيضاً أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد في صومعة الراهب ميرسين مرتين اسبوعيا، لتسهم اسهاماً مهماً في التفسير الرياضي لتسيير الكون، فجرَّتها مجرد ملاحظات شخصية، فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتماع. أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة؛ فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي، والآخر من أسفل. هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو مانسميه اليوم بالخط البياني)(6)
جمجمة ديكارت وعظامه الناقصة:
حتى يثبت الدكتور والصحفي (آيكه بيس) مزاعمه حول تسمم ديكارت قام برحلة بحث حول بقايا عظام الفيلسوف بعد مرور ثلاثة قرون ونصف على بلاها؛ فتبين له أن عظامه وصلت ناقصة الى فرنسا بعد دفنه في السويد عشية وفاته، حيث تم استخراجها من جديد ودفنها عام 1666م مرة أخرى في كنيسة القديس جرمان دي بري، ولم يُنتبه الى أن الهيكل غير كامل الا بعد فتح التابوت عام 1819م، ولم تصل الجمجمة لتوضع في المتحف الانساني في باريس الا في عام 1878م .
يقول الدكتور بيس عندما وضعت يدي على جمجمة الفيلسوف أردت أن أغامر فأقوم بكحت العظام وأخذ عينة منه لكشف آثار الجريمة، فالزرنيخ المعدني لاتخيب آثاره في الكشف عنها ولو بعد قرون، ولكن جرأتي خانتي في مشهد من هذا النوع !!
وأما تتمة قصة الرسالة فَعُرف أن الملكة كريستينا قامت بحملة سياسية لإعلان موت الفيلسوف، أن سببه كان التهابا رئويا صاعقا ، وعندما علمت بأمر رسلة طبيب البلاط قامت بمصادرتها، وأحيلت الى الأرشيف الملكي، ليكشف النقاب عنها بعد تطاول القرون، في أرشيف جامعة ليدن التي حفظتْ الوثيقة.
التصفية الجسدية لأهل الفكر:
جرت العادة في العصور الوسطى أن يتم التخلص من مقلقي النوم العام (كذا؟)، فأي فكرة تطرح يجب أن لاتوقظ نائماً ولاتزعج مستيقظاً، فإذا انتشرت الفكرة اعتبر صاحبها من المفسدين، فالتهمة التي وجهت لموسى عليه السلام أنه (يظهر في الأرض الفساد)...
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك؟؟
وكانت العادة تجرى بعزلهم عن فكر المجتمع في ثلاث صور، فإما النفي أو السجن أو التصفية الجسدية (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله).
وينطبق على صاحب الفكر قانون الدجاجة المجروحة، فعندما تكتشف الدجاجات أن إحداهن مجروحة ؛ تُهرع إليها فتنقر مكان الجرح النازف حتى الموت، ولكن القدر التاريخي يبدو أنه يسير في مسرى آخر، في غير هذه الصورة القاتمة، بل إن التغير الاجتماعي يحدث ضمن دورة مختلفة، ترسي في النهاية لصالح الفكر التغييري الأصلح، ضمن جبروت القانون الالهي بأن الزبد يذهب جفاءً وماينفع الناس يمكث في الأرض.
ودفاع المجتمع عن أفكاره مبررٌ في قسم منها والا تعرض المجتمع لهزات لانهاية لها مع نزوات البشر بدون نهاية، ولكن صمود وأحقية الفكر التغييري هو الذي يعطيه طاقة الصمود والتحدي والصبر حتى تجاوز معصرة المحنة والتطهر من خلالها، ونقل المجتمع الى عتبة جديدة أكثر تقدمية.
وأياً كانت صحة قصة تسميم ديكارت فالتصفية الجسدية لأهل الفكر ليست جديدة ، حتى إن القرآن عندما أشار الى نفي الصلب عن المسيح كان ـ في تقديري ـ ينطلق من خلفية أهم من كونه مات على الصليب أو قُتل بطرق أخرى، فالقرآن يشير الى أن كثيراً من الأنبياء قتل، وليست جديداً محاولة صلب أحد الأنبياء (وقتلهم الأنبياء بغير حق).
في تقديري كانت حركة القرآن لنفي قصة الصلب وصولاً الى تحييد العقيدة التي قامت عليها قضية الصلب: أي التثليث وألوهية المسيح، أكثر منها لنفي الطريقة التي قتل فيها ، بسبب ارتباط العقيدة بطريقة القتل .
هوامش ومراجع:
(5) يراجع كتاب عندما تغير العالم ـ تأليف جيمس بيرك ـ ترجمة ليلى الجبالي ـ عالم المعرفة رقم 185 ـ ص 196 (6) نفس المصدر السابق ص 201
اقرأ المزيد
والآن ما الذي قاد ديكارت الى السويد ليلاقي حتفه فيها!!
في خريف عام 1649 م أرسلت ملكة السويد كريستينا (ابنة الملك جوستاف أدولف)(GUSTAV ADOLF) ضابط كبير برتبة أدميرال الى الفيلسوف المتواري في هولندا والذي كان يُروى عنه دوماً المثل:
(عاش سعيداً من توارى في الظل وأمعن في الاختفاء عن الأنظار) تطلب منه المثول إليها الى استوكهولم لتتعلم على يديه (فن التفكير الصحيح)؟!
كان ديكارت يومها يعيش في هولندا متوارياً، يغير بيته أربع وعشرين مرة في أقل من عشرين عاماً، قد سمع بأهوال محاكم التفتيش والمصير الذي تعرض له الفيلسوف والعالم الأيطالي (جاليلو)، كما أن حرق جيوردانو برونو الذي دُشِّن به القرن السابع عشر حين أحرق حياً في ساحة عامة في روما، في عام 1600 للميلاد، عن عمر يناهز 52 سنة بعد سجن وإذلال لفترة ثماني سنوات؛ جعلت ديكارت يلجأ الى هولندا التي انتشر فيها روح التسامح الديني، فكان يسافر الى فرنسا بين حين لآخر لتدبير أموره المالية، ليعود الى هولندا يعيش حياته الخاصة بعيداً عن الناس في صحراء اجتماعية، ولكن في جنة فلسفية.
وفي هذه الدوحة الفلسفية كان يقطف ثمرات يانعة للفكر الانساني، وفيها أنضج معظم أفكاره فكتب معظم مؤلفاته بما فيها أعظم كتاب له، الذي اشتهر به وهو (المقال على المنهج) الذي أرسى فيه القواعد الأساسية للوصول الى الحقيقة في العلوم.
الشك أداة معرفية للوصول الى اليقين !!
كان ديكارت يطمح الى الوصول الى الوثاقة واليقين التي تتمتع بصلابتها الرياضيات، بحيث يؤسس بقية العلوم على هذه القاعدة من اليقين، وكان كتابه (المقال على المنهج) في إطار توليد اليقين من أرضية الشك .
كان الشك الذي استولى على عقل ديكارت كبيرا رهيبا، بحيث قاده الى قطيعة معرفية مع عقلية العصور الوسطى؛ فشطَّب دفعة واحدة الآراء المسيطرة في المجتمع.
وشق الطريق الى اعتماد المحاكمة العقلية سبيلاً للفهم أكثر من الآراء المسيطرة، فليس هناك من وسيلة لقتل العقل مثل التقليد واتباع آراء الآباء، كما نعى ذلك القرآن على كفار قريش (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ومضى به الشك كما حصل مع الإمام الغزالي سابقاً، حينما اهتزت عنده حتى الضروريات والمحسوسات.
كان يخاطب نفسه إذا كان كل الشعور موجوداً في المنام ولايزيد المنام أن يكون وهماً كاملاً!! فما الذي يضمن لي أن لاتكون الحياة برمتها نوعاً من الوهم الخادع على صورة منام كبير؟!
وإذا كانت الحواس تخدع، والمعرفة تاتي عن طريق الحواس، فكيف يتأتى لي أن أصدق هذه المعلومات المتدفقة الى عقلي وطريقها هو الحواس؟! استمرت رحلة الشك حتى مرض الغزالي؛ فكاد أن يهلك كما روى في كتابه المنقذ من الضلال، وأما ديكارت فلم يمت ولكن دماغه كاد أن ينفجر في ليلةٍ حاسمة غيَّرت مجرى حياته بالكامل، في شتاء قاسي، وحرب الثلاثين عاماً الطاحنة تزهق أرواح الناس على الأرض الألمانية.
ليلة ديكارت التاريخية:
ابتدأت حرب الثلاثين عاماً الدينية على الأرض الألمانية في عام 1618م، ولم تنته إلا عام 1648م، بعد ثلاثة عقودٍ كاملة قتل فيها الملايين من الناس من كلا الجانبين والمذهبين، من البروتستانت والكاثوليك، وعم الخراب، وانتشرت المجاعة، وتحولت ألمانيا الى أنقاض اشتركت فيها جيوش شتى من كل القارة الأوربية، ولم تُترك فظاعة الا ارتكبت، على عادة الحروب الأهلية.
ولكن أشد من عانى يومها، كان الشعب الألماني الذي مات منه ذبحاً قرابة الستة ملايين ونصف، من أصل تعداد سكان يصل الى عشرين مليوناً فقط، مما اضطر الكنيسة يومها الى استصدار قرار اشتهر بقرار نورمبرغ، أباحت فيه تعدد الزواج استناداً الى قصص العهد القديم، لتعوض النسل المنقرض، ولم تنتعش ألمانيا الا بعد مرور ثمانين عاماً (3).
ويصاب الانسان بالعجب الى حد الانبهار، كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حروبٍ أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟
ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبة؛ عندما أجبرته الثلوج والبرد الى الاحتماء طيلة الشتاء الى غرفة دافئة، لايعكره فيه هوى ولاهم او حزن، حتى كانت ليلة عمد فيها الى التفكير؛ فكاد دماغه ان يحترق من وهج التفكير (كما يروي)(4) ثم جاءه مايشبه الوحي من التفكير بحيث انفتحت أمام بصيرته الطريقة الجديدة في قيادة العقل الى الأحكام الصحيحة.
إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل الى طرح هذا السؤال: إذا كنت أشك في كل شيء، فهل هناك شيء ولو كان وحيداً منفرداً لا أشك فيه يقيناً؟ كانت اللمعة العجيبة التي التمعت في ذهنه: نعم قد أشك في كل شيء، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه يقيناً هو أنني أشك، والشك تفكير، فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنني أفكر لأنني أشك، وعندما أفكر فأنا موجود، على صورة من الصور، أي أن هناك حقيقة لوجودي على شكلٍ من الأشكال، فحقيقة التفكير تعني أني موجود على صورة من الصور.
ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية: أنا أفكر أنا موجود.
هذه الفاتحة المدهشة في نقلةٍ عقلية بسيطة، ولكنها في مثل ثقل الجبال، هي التي ساقته فيما بعد الى تأسيس الفكر المنهجي التحليلي اللاحق، الذي اشتهر به، عندما أرسى المربعات الفكرية الأربعة المعروفة :
ـ لا أقبل شيئاً مالم يكن في غاية الوضوح
ـ كل قضية مركبة تحلل الى عناصرها الأولية
ـ بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية
ـ تجرى عمليات النقد الذاتي والاختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية لإحكام ضبطها.
هوامش ومراجع:
(3) يراجع بالتفصيل عن كارثة الحرب هذه كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت (4) كتاب المقال على المنهج ـ ترجمة محمود محمد الخضيري ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، ويعد هذا الكتاب من روائع النثر الفرنسي، وقوته هي من بساطته وسحر الأدب الذي يغلف كلماته
اقرأ المزيد