- -

حقائق أولية عن الصراع بين العلم والدين والفلسفة
  ـ لم يواجه الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر تحديا مثل الوقت الحاضر، المتدينون منحسرون ورجال الفلسفة يضحكون وأهل المخابر العلمية إذا مروا بهم يتغامزون. ـ نشأت آلهة شتى من العلم والفلسفة في الوقت الذي انزوى الدين في جحر الإيديولوجية. وانحشر البابا في كيلومترات قليلة في الفاتيكان. ومهمة شيخ الأزهر لعن الثورات ودعم الحكام العسكريين. ـ لم يعاني العالم منذ زمن الأنبياء حتى اليوم مايعانيه من الجفاف الروحي وعبادة آمون العجل الذهبي. إنها قصة جحا قيمة الإنسان من ذهبه. فمن ملأ جحره بالذهب رفع علما يناسب المقدار وقد يكذب! ـ في الوقت الذي يتحول الدين إلى علم يصبح عالميا فلا يختلف الناس حولهما. كما في حبة الإسبرين وأشعة رونتجن وجراحات الكولون وخياطة الجروح بالبرولين. هل يختلف جراح صيني عن صربي في فتح البطن الجراحي، أم هل يتوانى الطبيب الألماني عن السعودي في استخدام الطنين المغناطيسي (MRI) والتصوير الطبقي المحوري (CT-Scan) ـ مهمة هذا الكتاب محاولة صياغة معادلة تشبه معادلة آينشتاين بين الطاقة والمادة أنهما وجهان لحقيقة واحدة، أو أن المادة طاقة مكثفة، أو أن أحدهما يقود تلقائيا للآخر. كذلك نريد من هذه الدراسة تحويل الدين إلى علم والعلم إلى دين. وطبيعة المهمة كما نرى أن نجعل من باحث الذرة السجود لرب العالمين بخشوع، ومكتشفات الكود الوراثي في نواة الخلية بثلاث مليارات من الأحماض النووية أن يسبح العظيم الغفار. ـ هدف الإديان واحد هو الاهتداء إلى المطلق ومعنى الكون والوجود ونظامه، ولعلها خطوط تماس حول دائرة واحدة مليئة بالألغاز والقدسية والمعنى. وبذا يتوقف الصراع عند هذه الحافة ونردد مع القرآن أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والبوذيين والزرادشتيين والكنوفوشوسيين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ـ الدين يحرر الإنسان من أعظم شعورين ساحقين بالتوقف في الزمن وتعضل الحركة. الحزن شد للماضي. والخوف توقف عن اقتحام المستقبل، وبالتحرر من هذين الشعورين تتحرر النفس بطلاقة وتسبح عبر الزمن الممتد بدون سلاسل. هذا ماقالته الآية وكرره الأنجيل أنه يرفع عنه إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. ويكررها المسيح إن نيري خفيف. ـ الدين بوصلة أخلاقية لايمكن للفرد أن يعيش بدونها، والمؤسسة الدينية ماكينة رعب اخترعها رجال الدين باسماء شتى من محاكم التفتيش والسنهدرين والأزهر لتأييد الطغيان، وهو ماجمعت بينهما الآية القرانية عن لعن الجبت والطاغوت: الطاغوت هو الطاغية وعسكره، والجبت هو رجل الدين بطربوش وعمامة ولفة وشروال وجلابية وقلنسوة وقفطان ومبخرة. يرسلون الجنود إلى المقابر ويملأون الجيوب بالدراهم. ـ حين حطم المسيح عليه السلام موائد الصيارفة وأعشاش بيت الحمام في معبد القدس صرخ فيهم الويل لكم حولت معبد الله إلى ماخور! أيها القادة العميان إنكم كالقبور من خارج مطلي بالبياض ومن الداخل تملؤه النجاسات والعظام النخرة. كذلك حال المؤسسة الدينية من أي دين كانت. ـ أمراض أهل الكتاب واحدة سواء يعبدون الصليب أو يحجون للكعبة أو يهزون رؤوسهم بجنب حائط المبكى أو يقرعون الصنج ويلبسون الأصفر في لاسا بالتيبت. ولم يكن لله أولاد أحباء من النصارى أو اليهود أو المسلمين أو البوذيين، بل يعذب الجميع بذنوبهم وأخطائهم واقترافاتهم. كان ذلك في الكتاب مسطورا.
اقرأ المزيد
قصة العصفورة البوذية
كان الهدف الأول من فلسفة القرآن تخليص الضمير من أزمة الفناء في ظاهرة الموت فمامعنى الموت؟ ولماذا خلق الموت؟ نحن نعلم أن وسوسة الشيطان لآدم كانت في اثنتين: شجرة الخلد وملك لايبلى. الخلود مع بقاء الشباب وملحقاته من ملكيات القوة والصحة والمتعة من الطعام والشراب والأمن والجنس العائلة والمال. وفي الأساطير اليونانية يروى أن ملكة الحب افروديت عشقت شابا فطلبت من زيوس رب الآلهة في الأولمب أن يمنحه الخلود! وإذ اجتمعت الالهة واتخذت قرارها بمنحه الخلود غلطت أفروديت غلطا رهيبا لأنها لم تقلد الشيطان حين وسوس لآدم ليس فقط بالخلد بل ملك لايبلى! هنا بدأ العشق يذوي مع تقدم السن للمعشوق وتراكب الهرم والضعف والشيخوخة والمرض والخرف بل بدأ يثرثر بدون توقف على عادة المسنين الذين يحبون أن يسمع لهم أحد ترهاتهم. أنا شخصيا كنت أتمنى من والدي أن يشرح لنا الفترة التي عاشها وهي القرن العشرين؟ كان يتضايق من سؤالي حتى كان ذلك اليوم الذي قال نحن عشنا ولم نعش! وهو مخطيء بهذا لأن أشياء كثيرة من التحولات مرت به ويجب أن يسجلها. هنا ترد فكرة خطيرة أن كل واحد منا يظن أن الاخرين فعلوا شيئا وهو لم يفعل شيء؟ في الواقع فنحن وكل واحد منا قارة متنقلة من الأحداث والمشاعر والذكريات ولكن لانتفطن لهذا الحقيقة. المهم كانت النتيجة أن آلهة الأولمب اجتمعت مجددا لتمسخ المعشوق إلى صرصار الليل الذي لايكف عن حك رجليه وأجنحته؛ فهذه كانت النتيجة التي انتهت اليها افروديت حين طلبت الخلود بدون شباب.  وهو تفسير حالة صاحبنا الذي شاخ وأين صار؟  وهنا تحضرني قصة الأستاذ الجامعي عندما بدأ الموت يطبق عليه فبدأ يحاور تلميذه الصحفي (ميتشم ألبم) في كل يوم ثلاثاء في تجربة فريدة لتسجيل مشاعر الميت وهو يودع الحياة وسلم الأولويات في الحياة وينقل حكمته من الحياة لمن بعده. من الأمور العجيبة التي تم تسجيها على مدار ثلاثة أشهر أن الإنسان يتطهر وينظف وتبدأ أولويات حياته تتغير بالكامل. فما كان مهماً أصبح تافهاً وما كان مهملاً قفز إلى الواجهة. وهكذا بدأ لقاء الثلاثاء الأسبوعي الذي دام لأشهر. كان موري يذكر طالبه بفكرة عند البوذيين تتطلب تخيل عصفورة على كتفنا، وسؤالها مع بداية كل نهار: "أيتها العصفورة! هل هذا هو اليوم الذي سأموت فيه؟" كان موري يقول لآلبم أن تذكره اليومي للموت سيجعله أكثر إنسانية وأكثر شفافية. وهذا يذكر بالكاتب الفرنسي (فيكتور هيوغو) والذي شبه موت المسن بسفينة تصل إلى الميناء، بينما شبه موت الشاب بسفينة تتحطم في عرض البحر. موت الشباب يشبه أيضا رواية مثيرة تتوقف في منتصف الحبكة، صاعقة كل من  حولهم بحزن عميق وشعور بخسارة مباغتة. عندما نواجه الموت وأن هذا سيكون بعد أيام نشعر أنه علينا إعادة ترتيب الاهتمامات والأولويات. فتبدأ أمور تصغر في العين إلى نقطة رياضية وكانت كبيرة بحجم الجبل ، وتبدأ أمور أخرى تكبر وتعظم بقدر المحيط وكنا لا نأبه لها أو نهتم. إن إدراكنا للموت يجعلنا نتصرف ونفكر بشكل مختلف. وإن وجود الموت كمفهوم حيوي في ثقافة ما يكّون أفرادا أكثر إنسانية. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. إن الثقافة الغربية لا تشجع على التفكير في الموت، ولهذا بدأ العديد من الكتاب الغربيين يعيدون النظر في الموت، ويدركون أهميته كفكرة مركزية في حياتنا. وعندما كنت في ألمانيا شعرت أن غرق الناس في الحياة والتمتع بخضراءها وحلوها شيء مستولي على القلوب ولذلك فإن فاجعة الموت يتلقونها بصدمة غير عادية فهي تمثل انقطاعا لشيء يبدو أنه يجب أن لا ينقطع وهو غفلة كبرى عن هذه الظاهرة المستحكمة، وأكثر ما شغل قلوب الجبارين بدءً من الإمبراطور (شين) الذي أسس الصين ومرورا بجنكيزخان وانتهاء  بالطاغية ستالين كان قلق الموت قد استولي عليهم وطلبوا الحكماء والفلاسفة حلاً لهذا الإشكالية. ويروى عن الفيلسوف الذي استقدمه جنكيزخان من مسافة 4000 كم من بكين حتى افغانستان حيث كان يذبح العباد بالجملة أن أول سؤال وجهه إليه عن إكسير الحياة فقال له أما الموت فلا سلطان لي عليه ولكن إن أردت أن أجعلك تعيش بشكل جيد قلت لك سري ومبلغ علمي فأصيب الجبار جنكيزخان بالحزن وعندما رأى الفيلسوف مايحدث من فظاعات في معسكر الطاغية طلب منه أن يخلي سبيله. وقصة العصفورة البوذية تعكس أيضا مركزية الموت في الإسلام. وجاء في الحديث مامعناه: "اعمل لدنياك وكأنك تعيش أبد الدهر، واعمل لآخرتك وكأنك تموت غدا." وقام  (ستيفن كوفي) الكاتب في علم التنظيم والنجاح، ومستشار الرئيس الأمريكي (بيل كلنتون) في الإدراة الفعالة، باستعمال الموت في تدريب تلاميذه. ففي كتابه (سبع عادات فعالة للناس الناجحين)، يخبرنا كيف سأل طلبته بأن يتخيلوا موتهم بعد ثلاثة أشهر، وطلب منهم أن يكتبوا مذكرات تفصيلية لهذه الفترة التي يجب أن يعيشوها وهم يفكرون بالموت المقترب. وكانت المفاجئة للطلبة عندما اكتشفوا أن أولوياتهم قد تغيرت وأن مشاعرهم قد تبدلت. فهم أصبحوا يكتبون الرسائل للأقرباء والأصدقاء ويتصلون أكثر بجداتهم وأمهاتهم. وفي هذا الكتاب يطلب كوفي من قراءه أن يتخيلوا ما يريدون أن يقال عنهم يوم جنازتهم، ويشرح أن كل ما نريده أن يقال عنا في هذا اليوم هو أولوياتنا في الحياة. وروت لي ابنتي عن صديقة لها توفيت بالسرطان في ميعة الشباب فطلبت من الواعظ قبل موتها أن يتحدث عن البعث في جنازتها بدل الموت. وعندما بدأ كلمته عن البعث نزولا عند وصيتها قال للحضور إنه يصعب عليه التحدث عن البعث لأناس يتألمون على موت عزير لهم. ولكن في النهاية، قال لهم إنه فهم لماذا طلبت منه هذا، فقد شعر بقوة الإيمان والحياة وهو يتحدث عن البعث. يجب أن نفكر في البعث عندما نواجه الموت، ويجب أن نتذكر الموت عندما نواجه الحياة.  
اقرأ المزيد
مستنقع الطائفية (1)
قرأت لأخي الدكتور أحمد كنعان تحليله الجميل عن مر ض الطائفية في سوريا. وقرأت فيما سبق للكاتب اليساري العظم وهو ينقد الفكر اليساري ويشير إلى شيء اسمه العلونة السياسية في سوريا. وأخطر ماحدث مع الربيع العربي أن سوريا تدمرت ليس في الأبنية ولكن في النسيج الاجتماعي فتمزقت شر ممزق. وفي القرآن سورة كاملة تحمل اسم حضارة قامت وبادت في اليمن. حين قال القرآن: فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لايؤمنون! واليوم لم يبق الفلسطينيون مشردين بل لحقهم السوريون أيضا على قائمة التمزق والتشرد. والفرق بين النسختين أن الفلسطينيين عدوهم واضح من بني صهيون ولكن المرض السوري أدهى وأمر من السرطان الداخلي. فالاحتلال أمره سهل مثل احمرار الجلد بالالتهاب السطحي فيتظاهر بالألم الموضعي والاحمرار والحرارة ومعالجته هينة. أما السرطان فهو على العكس تماما ينتشر بدون ألم ويتسرب خفيا لواذا وينتشر على غفلة مثل الورم القتاميني (وحمة أو شامة الجلد) وإذا اكتشف مبكرا فعلاجه الاستئصال الواسع، وإن تأخر قضى على المريض فلا عودة. كذلك هو حال السرطانات الاجتماعية كما هو الحاصل في سوريا. تضم قائمتها الحالية البتر والهرب والديكتاتورية الطائفية البغيضة. لحسن الحظ الأفراد يموتون ولكن المجتمعات لاتموت بل تنهض من رقدة الموت ولو بشكل مختلف وهو الذي سيحصل مع سوريا حتى نهاية القرن الحالي. وحين تفجر الربيع العربي دخلت سوريا منعرجا خطيرا في الانزلاق إلى مستنقع أشد هولا من كل مامر من التسلح والاحتراب الدموي. المستنقع هو الطائفية وليس المرض الوحيد. وعلينا وضعه تحت مبضع التشريح لفهمه. وكان ابن خلدون بارعا حين وضع عنوانا لمقدمته في اعتراف غير مباشر للتعددية حين قال كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. الطائفية مرض مثل الخراج الخفي. موجود في أكثر من قطر عربي. والكل يعلم به. والكل يكذب فلا يعترف به إلا همساً للرفاق والإخوان. والكل يكذب على الكل. والكل يصرّ على الأسنان للانتقام يوم لا ينفع مال ولا بنون.إلا من رحم ربك اللطيف المنان؟ ومن ينطق به يحاكم بتهمة الطائفية فيندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه ويقول يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا؟ وأفضل علاج له الاعتراف به. كما أن أفضل علاج للخرَّاج فتحه للخارج. وإلا فتح نفسه للداخل فأصيب المريض بتسمم دموي فمات به. ولكن هل اعترف البابا الكسندر السادس أنه مصاب بالزهري؟ والعالم العربي مصاب بمرض الطائفية وآخر من شكله أزواج. من أمراض (القبلية) و(احتقار المرأة) و(الإيمان بالغدر) و(تأليه الزعيم) و(عبادة القوة). لقد دخلت مستوصفا قميئا في الجولان (خان أرنبة حيث احترب يوما جيشان) فرأيت 17 صورة للثالوث المقدس من الآب والابن والروح القدس، وهي صور مكررة في معظم مطارات العروبة، في إحياء لمركب الأقانيم الوثني في ديار تزعم أنها إسلامية؟؟ ويتحول نظام الحكم إلى شكل فرانكنشتاين ليس فيه مقومات الحياة، إلا أن يقتل؛ كما قتل بيده من أوجد فرانكنشتاين، كما حصل مع دوللي النعجة المستنسخة. ووضع العرب هذه الأيام يذكر بجو دول الطوائف في الأندلس، أو جو الفرق المذهبية قديما، بين (معتزلة) و(شيعة) و(خوارج) و(مرجئة) و(قدرية) في خمس شعب، لا ظليل ولا تغني من اللهب. فأما الشيعة فقد رفعوا من قدر علي وذريته؛ فزعموا أن القمر نزل في حضنه، وأن في دمه كريات حمر مختلفة مقدسة. وأما الخوارج فكفروا الجميع وقَتَلوا وقُتِلوا. وأما المرجئة فهم أولئك السياسيون الملاعين والعسكر الخائبين، الذين يرون أن الله يغفر الذنوب جميعا، ولو قتل القاتل أمة من الناس؟ يكفي أن يلوك الإنسان كلمات سخيفات بلسان مصاب بالآفت (القلاع). وأما القدرية فقالوا بالحرية الإنسانية المطلقة، ودوروا القمر والشمس بأصابعهم، وعلى هذا الفكرة ذبح الجعد بن درهم. وأما المعتزلة فحاولوا تحريك العقل، في وسط يموت، فماتوا مع الأموات، إلى يوم الدين.. واليوم تنهض هذه المذاهب بكل أمراضها وعيوبها، من التوابيت، وترجع إلى الحياة، ونحن مذهولون من هذه الرؤية غير المتوقعة، لجثث تدب فيها الحياة مذكرة بالزومبي.. ونقول يا ويلنا من بعثهم من مرقدهم؟؟؟ وما جري في العراق وسوريا وباء طام، يهدد كل المنطقة بطوفان نوح، من المذابح الطائفية والمذهبية، فبعد أن سبح العرب طويلا في قذارات النتن القومي البعثي، يتحول زورقهم المنكوب، إلى مستنقع أشد هولا وقذارة؛ من المذابح الدينية، باسم الله والصليب، وعلي والحسين، والحاكم بأمر الله الفاطمي، في رحلة انقلاب في محاور الزمن، نكسا إلى العصور الوسطى الظلماء. وهكذا فبدل دخول الحداثة؛ ينتكس العرب على وجوههم، عميا وبكما وصما، مأواهم جهنم الطائفية، كلما خبت زدناهم سعيرا. وإذا كان صدام قد حول البعث العراقي، إلى ماكينة للعبادة الشخصية بتجنيد المرتزقة والعشيرة، فقد فعل البعثي الأخر من فصيلة السنوريات في سوريا الأسد بتجنيد الطائفة والعصابة من الأزلام إلى ماكينة للعبادة الفردية. يضاف إلى كل حزمة الأمراض السابقة من الأمراض تسلط ديناصورات أمنية تقذف بشرر كالقصر تذكر بملائكة العذاب عليها تسعة عشر.منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
اقرأ المزيد
الصبر والمكر: قصة الامبراطور هيلا سيلاسي والمحارب بالخا
ليس ثمة عدو للإنسان أكثر من فقده لصبره. وفي سورة مختصرة قصيرة ثمة تركيز على أربع صفات هي مفتاح تشكيل شخصية المؤمن في العصر إنه لفي خسر إلا الإيمان والعمل الصالح والمحافظة على ضبط النفس وتدريبها بالصبر والتواصي بالحق والحقيقة. هذه الصفات إنسانية المنشأ هي عمود فقري في كل ثقافة والله لايحب الظالمين. أنا شخصيا اطلعت على ثقافات متباينة ورصدت كتابي (كليلة ودمنة الجديد) متتبعا آثار ابن المقفع فوضعت 200 قصة من التراث العالمي في أربع مجلدات عن القصص العالمية ودروس الإيام وعظاتها. وبين يدينا الآن قصة رائعة عن مزيج لايصل إليه إلا الأفراد القليلون من ضبط النفس والصبر والتخطيط البطيء مثل من يلعب لعبة الشطرنح. من هذه القصص وقعت على ثروة رائعة عند الكاتب روبرت غرين في كتابه القوة (Power)   وقام بترجمة الكتاب البيجرمي على نحو جميل. وهذا الكتاب قبل ترجمته إلى العربية وقعت عليه في مجلة در شبيجل الألمانية حين أشاروا إليه واعتماد 48 قاعدة في لعبة القوة. من هذه القصص أضع بين يدي القاريء هذه القصة المعبرة عن جدلية المكر والصبر. في العشرينات من القرن العشرين استطاع الامبراطور (راس تافاري) الذي اتخذ لاحقاً اسم  (هيلا سيلاسي)  توحيد الحبشة بين قبائل تتناحر وزعامات من رجالات الحرب لانهاية لهم. وكان ما يلفت النظر  شكله الناعم وطبقة صوته المنخفضة. وبدأت تلك الزعامات بالتوافد عليه إلى  العاصمة (أديس أبابا) لإعلان الاخلاص والطاعة للعرش الامبراطوري. وكان توافد الرجال بين مستعجل ومتردد أو متباطيء ولكن رجلاً محارباً شديدا هو (جازماخ بالخا) من (سيدامو) في الجنوب رفض الدخول مع الداخلين. وكان رجلا محاربا يخشى جانبه. وانتظره هيلا سيلاسي طويلاً بدون فائدة حتى كان اليوم الذي طلبه الامبراطور للحضور إلى العاصمة ليقابله فتظاهر بالامتثال وحضر ومعه جيش من المحاربين قوامه عشرة آلاف مقاتل حتى وصل قريباً من العاصمة فعسكر على بعد خمسة كيلومترات على أمل أن يأتي إليه الامبراطور شخصياً وإلا كانت البداية لإشعال فتيل الحرب الأهلية. إلا أن هيلا سيلاسي كان طويل البال لم يعهد عنه الغضب أو فقد الأعصاب وكان قد أعد له خطة محكمة تسير وفق مراحل مثل لعبة الشطرنج تماماً بمكر سياسي بارع. قام هيلا سيلاسي أولاً بإرسال من يفاوض له ويدعو بالخا للحضور إليه بدون خوف أو مكيدة. ولكن بالخا كان يعلم معنى حضوره انفراديا أن مصيره سيكون مثل أبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور فأبى الحضور إلا مع جنده فوافق هيلا سيلاسي وقال إنه شرف كبير أن يستقبل محارباً شهما مع جنوده الشجعان في قصر الحكم. قام بالخا بانتقاء 600 من خيرة جنوده وأوصاهم أن لا يفرطوا في الشراب وأن يبقوا مستيقظين لأي بادرة خيانة. ثم سار بجنوده لمقابلة الامبراطور الذي أظهر له من الحفاوة والكرم الشيء الكثير. وعندما دخلوا القصر أظهر هيلا سيلاسي من ضروب الاحترام ما أشعر بالخا أنه من يقرر الأمور وأن سيلاسي يحتاج مساعدته بشكل ملح لتسيير أمور الدولة والحكم ومقتضيات السياسة. إلا أن بالخا لم يكن بذلك الأحمق فحذر هيلا سيلاسي أن عليه العودة إلى معسكره مع الغروب وأنه قد أعطى تعليماته لجيشه المرابط أن أي تأخر في الحضور يعني المكيدة وعليهم مهاجمة العاصمة. كان ارتكاس الامبراطور هادئاً وأظهر له أنه بعدم ثقته به يعني الكثير من جرح الكرامة. ثم دعاهم إلى تناول الطعام المعد بعناية. وعندما جاء دور العزف الموسيقى لم يكن هناك سوى تمجيد بالخا القادم من سيدامو. هذه الخطوات أدخلت الى قلب بالخا أن هيلا سيلاسي خائف منه وأنه أمام هذا المحارب العنيد يطلب وده بأي ثمن. ثم بدأ يفكر في مصير الامبراطور هل سيرسله إلى حبس انفرادي لبقية عمره أو يقضي عليه. وقبل الغروب انصرف بالخا وجنوده مزهوا بقوته بين صرخات التحية وعيارات نارية  تحية من أهل العاصمة. وعندما ألقى النظرة الأخيرة بدأ يفكر في كيفية الانقضاض على العاصمة في الأسابيع المقبلة. ولكن المفاجأة الكبيرة له كانت عندما رجع إلى معسكره ليجده خاوياً على عروشه فلم تبق خيمة أو رجل. وعندما سأل روع بالخبر فقد جاء جيش تابع للامبراطور يحمل الكثير من المال والذهب فاوض الجنود على تسليم أسلحتهم ومن امتنع مارس عليه التخويف وخلال ساعات مزقوا شر ممزق فتم نزع سلاح الأفراد وتفرقوا مع الأموال في البلاد. وعندما أراد بالخا العودة بمحاربيه الستمائة إلى الجنوب من حيث جاء بقوته قطع عليه نفس الجيش الطريق ولم يبق أمامه إلا أن يمشي باتجاه العاصمة وهناك كان الامبراطور بتحصينات كبيرة في انتظاره. وللمرة الأولى في حياته يستسلم بالخا. وعندما أجبره هيلاسيلاسي على دخول معبد يقضي فيه بقية حياته قال قبل هذه اللحظة الرهيبة إياك أن تستخف بخصمك (هيلا سيلاسي) فقد يبدو في خطوة الفأر ولكنه ينتقم كسبع ضاري. إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب وهو مافعله سيلاسي مع خصمه الذي ظن أنه يأوي إلى ركن شديد فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة.
اقرأ المزيد
الحزن والخوف
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد اختصرها في ست عناصر رئيسية توَّجَها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ماسماه: بالسلام العقلي (PEACE IN MIND) ويرى أن أهم مظاهره هي أن ينام الانسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو مايذكرنا بالقرآن الكريم الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و (الحزن): (ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في تكرار ملحِّ في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس الى هذه الحقيقة الملِّحة؟ وماهي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ ومامعنى تشديد القرآن على إيصال الروح الانسانية الى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي. لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الانسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الانسان للماضي وماطُوي في ملف الأحداث المنصرمة (لكيلا تأسوا على مافاتكم) وأما الخوف فهي السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الانسان؛ فتحرمه الهدوء النفسي والاتزان في التفكير. وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي ، فلايحزن الانسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه ، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف ، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها ، فيسقط ضحيةً لشعور القلق. أما الحزن فهو إفرازٌ تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداثٍ قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلاً هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود الى شعور تالي مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): إن كل شعور يقود الى شعور آخر (فالشعور بالخيبة مثلاً يولد العدوانية) وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة) وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عضٍ أو جُرحٍ أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة. إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور ( قلق الموت) من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع أو بعد الموت، من مصيرٍ مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعورٍ بالتلاشي والذهاب الى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآها الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) مرده الى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات. يقول الفيلسوف: (ليس الموت مفزعاً والا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت) فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عاني وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهاراً باتجاه السلبية المطلقة، في رحلةٍ أبديةٍ لاعودة منها على الاطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاماً ورفاتا؛ قد عاد الى دورة الطبيعة متحللاً الى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت الى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الانسان على الأرض؛ فكانت مصير ثمانين مليار من البشر حتى الآن. إذاً حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسياً، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني ، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس مايشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS). وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لاتتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورةٍ متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.
اقرأ المزيد
مفارقة زينون الايلي
في عام 450 قبل الميلاد عاش الفيلسوف ( زينون ZENON) في مدينة ايليا الواقعة في جنوب ايطاليا وأثار تناقضاً عقلياً لم تفارق مخيلة الفلاسفة وتفكيرهم عبر العصور، حتى أدركت مغزاه العميق الرياضيات الحديثة المتمثلة في ميكانيكا الكم، فما هو الشيء المثير في قصة هذا الفيلسوف الذي مات وارتاح في قبره، ولكنه لم يدع الفكر الانساني يرتاح حتى مطلع القرن العشرين؟! بل ماهو هذا المصطلح العجائبي: (ميكانيكا الكم) ؟؟ وأين ولد وعلى يد من؟ وماهي ظروف ولادته؟ وأثره على الفكر الانساني؟ والآثار الفلسفية التي انبنت عليه؟ ولكن لنبدأ بالقصة المسلية، قصة السهم الذي لايطير، والعدَّاء الذي يريد السباق فتتَّسمر قدماه في الأرض، وإذا أراد بطل طروادة (أخيل) أن يلحق بالسلحفاة، عجز عن ذلك مهما حاول وبذل؟!! وثق أيها القاري أنني لاأمزح كما أن الفلاسفة هم أكثر الناس جدية ومنهم صاحبنا الفيلسوف (زينون) إن السهم الذي ينطلق لايطير، والقذيفة التي تندفع تبقى مسمَّرةً في مكانها، والعداء الذي يركض في الملعب واقف في مكانه؟!! هذه الكلمات قد يتوقف القاريء عندها ليعيد قراءتها والتأكد منها هل هناك خطأ مطبعي؟ لا... إن العبارة قد انُتقيت على وجه الدقة؛ فالفيلسوف كان يعني مايقول وهو يرى الكون يضج بالحركة من حوله!! فكيف وصل الى هذه النتيجة العجائبية؟ إن السهم حتى يطير والعدَّاء حتى يركض، أو أخيل حتى يلحق بالسلحفاة فإن النتيجة واحدة، فلا السهم يطير ولا العداء يتحرك قيد انملة في الركض فهو مسمر في مكانه، ولن يلحق أخيل بالسلحفاة مهما حاول وبذل من جهد!! ولكن كيف؟؟ طرح زينون الموضوع على الصورة التالية: حتى ينطلق العدَّاء ليقطع مسافةً ما، فإنه لابد له من قطع نصف المسافة، ولكن نصف المسافة بذاتها حتى تُقطع لابد من قطع نصفها أيضاً، أي ربع المسافة السابقة، وهكذا فنحن بدون توقف مع حركة (نصف النصف) الى مالانهاية؟! بكلمة ثانية فإن العدَّاء حتى يبدأ في الانطلاق وفي كل مرة مازال أمامه بدون توقف نصف نصف المسافة، فيبقى مسمَّرا في مكانه لان رحلة اللانهاية ليس لها توقف؟!! ينطبق هذا أيضا على حركة السهم فهو في اللحظة الواحدة يشغل مكاناً واحداً، فلايستطيع أن يشغل مكانين في نفس الوقت، أي هو ساكن فيه، إذ لو كان متحركاً لانتقل في الحيز، ونظراً لان مجموع حركات السهم هي مجموع (هذا السكون) كان معناه أن السهم لايتحرك؟!! كما أن أخيل الذي يريد أن يلحق بالسلحفاة البطيئة لن يصل اليها مهما حاول لان أمامه أن يقطع دوما نصف (نصف) المسافة التي بينهما، ولكن السلحفاة هي دوما أمامه مهما تكن المسافة تافهة، لانه سينحبس في نصف النصف التي تفصله عن السلحفاة بدون نهاية!! . ولكن مهلاً ياسيد (زينون) أن مانراه أن السهم يتحرك فيجرح ويقتل، وقذائف الروس قطعت أجسام المسلمين في سوريا وسواهما من المدن، كان (زينون) يجيب بكل هدوء: نعم وأنا معكم في أن مانراه أمامنا من حركة السهم وأثره واقع، ولكنني اعتبره بحكم الوهم لانني لا أجد سنده العقلي مبرهناً كما أن الحجج التي اتقدم بها لاتدحض!! فالتحليل العقلي البارد كما ترون يقودني الى أن السهم لايتحرك والعداء مسمَّرٌ في مكانه وأخيل لن يلحق بالسلحفاة؟ فالمكان كما ترون مكون من نقط لاتنتهي، والزمان مكون من آنات لاتخلص، ولما كان الجسم المتحرك بين نقطتين يكون أثناء حركته بينهما خارج المكان؛ فإن الحركة تصبح ممتنعة لانعدام المكان الذي تحدث فيه. ولفك هذا الارباك العقلي لفهم الكون والحركة فيه تعددت الاجابات بدءً من ارسطو حتى ايامنا الحالية، مرورا بفلاسفة المسلمين الاشاعرة الذين قالوا بالجزء الذي لايتجزأ، فتقسيم زينون يجب أن يتوقف عند حافة ما من أجل تمرير الحركة من نقطة الى أخرى، وانتهاءً بالفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) الذي طرح فكرة (الكانتور في اتصال الكم الرياضي) لفك معضلة زينون، عندما نتصور وجود عدد لانهائي من النقط بين نقطتين، فإن هذا يفضي الى اجتماع النقاط فتتصل الحركة. فمشكلة الحركة التي أثارها زينون قديماً ليست بهذه السهولة أو السخف، بل تقوم على جدل عميق، وهي في الواقع محاولة لفهم الحركة وكيف تحدث من خلال التأسيس العقلي لها، فزينون أراد أن يثبت لمن حوله أن الحركة تحدث ليس على الطريقة التي يظنون ، بل لها منطق خاص ، وهذا هو الذي جاءت به (ميكانيكا الكم) حديثاً؛ فالعالم الفيزيائي (هايزنبرغ) الذي جاء بمبدأ (الارتياب أو عدم التحديد: UNCERTAINTY PRINCIPLE) أو اللاحتمية (INDETERMINISM) أدرك أن زينون كان على حق واختصر المشكلة على النحو التالي في الفيزياء الذرية: لانستطيع أن نعين وعلى وجه الدقة مكان وسرعة الالكترون ؛ فعندما نريد تعيين مكانه نُخفق في معرفة سرعته ، وإذا عرفنا سرعته غاب عن أعيننا وكأنه الشبح فتبخر فلانعرف أين اختبأ ؟! أو بكلمات زينون القديمة: لايمكن للجسم أن يشغل حيزا ويكون متحركاً في نفس الوقت.
اقرأ المزيد
كيف ولدت فكرة ميكانيكا الكم
تقدم الرسول التركي المعمم قد وضع يده على مقبض سيفه المعقوف فدفع بالرسالة إلى القائد النمساوي ستارهمبرج (STARHEMBERG) ففضها على عجل؛ ليقرأ انذاراً مروعاً من قائد الجيش العثماني (قره مصطفى باشا)؛ يأمره فيها بالتسليم لأن السلطان العثماني قد قرر ضم النمسا لملكه، فمن امتثل حافظ على روحه وممتلكاته، ومن عصى شَطَرَه ومايملك بحد السيف!!. كان ذلك في صيف عام 1683م بعد 35 سنة من نهاية حرب الثلاثين عاما المذهبية في أوربا، والتي قضت على ثلث الساكنة في ألمانيا (ستة ملايين من أصل 21 مليونا) وتم تدمير ثمانين ألف قرية ومدينة، ويراجع في هذا قصة الحضارة لويل ديورانت في فهم تفصيل الكارثة. وهكذا جاءت كارثة جديدة فوق رأس الأوربيين بعد كارثة حرب الثلاثين سنة. كانت فيها العاصمة النمساوية محاصرة بجيش تركي قوامه ربع مليون جندي، وكان هذا الحصار الثالث (والأخير) من نوعه، الذي يخترق فيه العثمانيون وسط أوربا، ففي 12 أيلول سبتمبر بعد حوالي شهرين من الحصار؛ حيث فر فيها معظم الأهالي بمن فيهم القيصر النمساوي ليوبولد الأول، أمكن صد الهجوم وفك الحصار، وكان العنصر الرئيسي في هذا التحول جيش بولوني قاده الملك يوحنا سويبسكي الثالث، قفز لنجدة أهل فيينا في اللحظة التاريخية الحرجة فأنقذ ليس فقط النمسا، وتنفست أوربا كلها الصعداء من الخطر العثماني الذي انكسرت حدته تماماً بعد ذلك، بل وانكسر الميزان العسكري بكامله، فلم يرى العثمانيون بعدها انتصارات ذات بال؛ بل بالأحرى هزائم وعلى شكل كوارث، وتابع المخطط العثماني التاريخي مسيرته الانحدارية، حتى أسلمت دولة آل عثمان الروح مع مطلع القرن العشرين. كان الانكسار العثماني على أبواب فيينا نقطة تحول في التاريخ الأوربي الحديث ففي الوقت الذي بدأت فيه مسيرة التراجع العثماني قفزت قوى جديدة الى المقدمة، فصعدت الامبراطورية النمساوية الهنغارية، لتنهار في النهاية هي وغريمتها العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وهذا التحول على أبواب فيينا لم يكن في أعماقه عسكرياً فحسب بل تحولاً حضارياً بالكامل، فالعقل الأوربي كان قد بدأ مسيرته قبل ذلك، وفي الوقت الذي كان السلطان العثماني (محمد خان الرابع) يُعزل من العرش عام 1687م، كان (اسحق نيوتن) منهمكاً في انتاج كتابه (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) (PRINCIPIA MATHEMATICA PHILOSOPHIA NATURALIS) الذي ترك بصماته على الفكر الانساني حتى هذه اللحظة. ولكن من أين تنبع أهمية كتاب اسحق نيوتن في فلسفة الطبيعة؟ في الوقت الذي كان الاتراك يحاصرون فيينا والحروب الدينية تعصف في أوربا، كان اسحاق نيوتن يقوم بتطوير حساب التفاضل والتكامل، ويكتشف قانون الجاذبية، ويستهويه الضوء فيريد معرفة أسراره، فأوربا التي صدت الخطر التركي في الربع الأخير من القرن السابع عشر، كانت غير أوربا التي اقتحمها العرب من الغرب في القرن الثامن الميلادي، وغير أوربا بعد ستة قرون التي اقتحمها الأتراك من الشرق هذه المرة في القرن الرابع عشر للميلاد، فقد بدأت روح جديدة في التدفق في مفاصل المجتمع الأوربي المسيحي، واسحاق نيوتن كان خلية من هذا الجسد الجديد الفتي، كما أن نيوتن لم يأت من فراغ ولم يتشكل فكره إلا من خلال وثبات فكرية سابقة، ففي عام 1543 للميلاد حدثت زلزلة عقلية مثلثة الزوايا في فهم الكون والجسم الانساني وجغرافية الكرة الأرضية، فــ (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه قبل موته بساعات قليلة برؤية كتابه حول دوران الكرات السماوية، فقلب التفكير الانساني حول الكون، فأصبحت الشمس لاتدور حول الأرض بل العكس، وتحولت الأرض إلى تابع بسيط حول الشمس، واستطاع (فيزاليوس) أن يقوم بأول تشريح لجسم الانسان وكان من المحرمات، كما تم تدشين الجغرافيا الجديدة للكرة الأرضية، فعرفت قارات جديدة وتحول بحر الظلمات الى المحيط الاطلنطي، مما دفع المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) أن يسمي هذا العام في كتابه قصة الحضارة بعام العجائب. ويجب الانتباه إلى عدم الخلط بين تاريخ 1543 وعام 1453 فعام العجائب كان مع منتصف القرن السادس عشر الميلادي أما منتصف القرن الخامس عشر فترافق مع استيلاء العثمانيين على لؤلؤة الشرق القسطنطينية ليتحول اسمها إلى مركز الاسلام أو مدينة الإسلام (اسلام بول أو استانبول). كان نيوتن يتساءل لماذا يتشكل طيف قوس قزح من مجموعة من الألوان؟ ما لذي يجعل الضوء فجأة بمجموعة سبعة ألوان بعد أن كان أبيضاً أو لنقل بكلمة أصح عديم اللون؟ هل الضوء (مكون) من مجموعة ألوان فاذا امتزجت هذه الألوان تشكل الضوء الذي نعرفه؟ ثم ماهي طبيعة الضوء؟ مم يتكون في الحقيقة؟ وهل له سرعة؟ في الواقع إن الضوء كان ومازال (مستودع الأسرار) فمنه انطلق (نيوتن) في فهم ظاهرة الطيف اللوني (قوس قزح) ومنه انهارت الفيزياء الكلاسيكية فجاء المقتل من نفس المولد كما سنرى بعد قليل، ومنه انبثقت النظرية النسبية التي لاترى شيئاً مطلقاً ثابتاً في هذا العالم الا (ثبات) سرعة الضوء العجيبة فوصلت إلى قلب مفاهيم الزمان والمكان والطاقة والمادة، ومنه انبثقت (ميكانيكا الكم) من خلال حل معضلة (اشعاع الجسم الأسود).
اقرأ المزيد
 الولادة ومعجزة الحمل 
ولنلقِ نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! إن وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!!.. بينما وزن المشيمة 500 غرام لأنها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟! ثم لننظر إلى هذه الأنشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية (طول الحبل السري 50 سم) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته، ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة، كما أن هذا الحبل يحوي مواسير (أنابيب) الدم التي تُنقل من المشيمة إلى الجنين، حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بإيصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم، كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين، وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين، فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (ولقد كرمنا بني آدم).. وطالما تحدثنا في هذه الضخامة التي وصل إليها الجنين وهي من ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الإنساني في تخليق المضغة وتكوينها، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والضخامة أم إنه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول: إن الرحم يبلغ من الحجم عند الفتاة العذراء حوالي 2-3سم3 (بقدر حبة الكستناء) بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً، كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين العرطل أو الحمل التوأم!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما أنها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمت إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد ذاته لولا أننا نراها كل يوم فتبلد حسناً اتجاهها، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من نواحي جسمها، أولاً على مستوى الحوض حيث إنها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً، وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل، ثم إن المبيض يكون قد لجم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الإنسان، وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بإمكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عالٍ وتكون النتيجة كالتالي: يقول الدم، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من إفراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الألدوسترون؛ فإذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطياً للطوارئ فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ إنه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين (الفيبرونوجين) ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما لو حصل نزف؟ خاصة وإن المشيمة سوف تقتلع وتتسلخ من قعر الرحم، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالما أظهرت إخلاصك للموضوع، ويكون جواب الدم إنني الخادم المخلص لهذا الإنسان العظيم الذي أساعد في إظهاره إلى صفحة الوجود، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك بتوليد المزيد من الحديد والخضاب، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم، وهناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من إنتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالإضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي أيضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن، كلها تستعد للمهمة الخطيرة: الأعصاب، الغدد، الأخلاط، العضلات، المفاصل، العظام.. ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور، وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبة التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون، إنها تعمل على أروع المستويات، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبت كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها، وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالإضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات (آ) و(ب) B +A بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة، وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة أن توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة، حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم. إنها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والأعضاء، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج، إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية، وإن المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه، وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد إدرار البول، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟ يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل، ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم، ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه، ويبدأ رأس الجنين بالتقدم فيحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها، ويكون هذا بإطباق ذقنه إلى صدره، والتقدم بمؤخرة رأسه، وهكذا يمر الولد إلى أسفل، بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب (المولود الجديد) وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل معجزة جديدة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين، وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم الذي كانت تغذي الجنين، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحله لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم، لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به، ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح في قساوة الحجر، بحيث أن الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم، ولذا سميت هذه العملية بعملية الإرقاء الحي وسمي الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً إنها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين. تغذية الطفل: أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه، ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً؟ إن الإرادة الحكيمة هيأت له الثدي كأحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين: خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً  للبن، ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالإفراز ويبدأ الإفراز، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل؟ حقاً إنه من الأسرار العجيبة المدهشة، فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الإفراز العائد للخلية، ومعنى هذا أن الخلية الغدية تمتلئء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور الغشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم، ثم تعود الخلية فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم، وإن تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل.. كما أن اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة التي تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف "يتفوق بشدة.. وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما..
اقرأ المزيد
صراع ولدي آدم
وظيفة الجهاد قد تستخدم ضد الكافر (الظالم) أو ضد المسلم (الظالم) المهم أن يكون ظالما وليس كافراً. كما فعل الإمام علي ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم ( خوارج) بل حازوا هذا اللقب تاريخياً، أما هم فكانوا يسمون انفسهم مجاهدين و(شراة) أي باعوا أنفسهم في سبيل الله. في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس (جهاداً) بل خروجاً بسبب تبني (القوة المسلحة) لفرض آراءهم بالقوة ، وهو ماوقعت فيه معظم الحركات الأسلامية في التاريخ المعاصر، لذا فالاتجاهات الاسلامية المعاصرة (العنيفة) هي (خوارج) العصر الحديث بكل أسف. لإنها ضلت طريقها مرتين. مرة في (الهدف) و أخرى في (الوسيلة). (الأولى): بوضع الغاية أن الوصول إلى الحكم يحل المشاكل (كلها ودفعة واحدة). ولم تعلم أن المشاكل تبدأ فعلاً بعد ذلك. و(الثانية) في تبني (العنف) وسيلة للتغيير. هناك آيتان في القرآن واحدة في سورة يونس والأخرى في سورة الأعراف تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق أن المشكلة ليست (نزيحكم ونقعد محلكم؟!) بل المشكلة هي تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض أن ينتشر، وأننا سوف نعيد أخطاء الاخرين على أبشع عندما تكون تحت (العباءة الإسلامية) على ماتوقع الكاتب (حسان حتحوت) في كتاب (أوراق في النقد) من أن وصول القوى الإسلامية إلى الحكم سوف يفرز ديكتاتورية جديدة، لاتختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتوريات المنطقة في شيء، ولايظن الأسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر، ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر. تأمل الآية ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تاتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف 128 - 129 ). لقد انتبه الإمام ابن تيمية قديماً إلى هذه النقطة أي أن الجهاد هو ليس لنشر الإسلام بل لدفع الظلم. إلا أنه انتبه إلى نصف الحقيقة حينما فاتته حرية الفكر والدفاع عنه وبنفس (مبدأ الجهاد) لذا فإن ابن تيمية دفع حياته ثمناً لفتواه التي أفتى بها، فهاهو قد ألقي به في السجن حين اختلفت الآراء، ليموت شريداً حزيناً في سجن القلعة بسبب آراءه، ولو أفتى باحترام وحماية الرأي الآخر مهما كان لنعم بحريته في أيامه الأخيرة. من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي لإن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد، فلا الحكومات ترحب بالمعارضة فضلاً عن إيجادها، ولا المعارضة تدرك أن المشكلة هي (ليست) في (الإطاحة بالأنظمة). لقد أدرك (عبد الرحمن الكواكبي) الحلبي على نحو مبكر هذه النقطة بمنتهى البللورة قبل قرن وسجلها في كتابه القيم (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ورأى أن الحل لايكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها مع تعديلها، الذي سيكون آليا مع نمو المعارضة. إن السيارة تحتاج إلى ( دعسة بنزين وفرامل) معاً. وليس إلى نزع دعسة البنزين ووضع أخرى محلها. ذلك أن سيارات العالم العربي كلها تمشي بدون فرامل وتقود شعوبها إلى الكوارث. إن مانحتاجه هو تغيير نظام الفكر وليس الحكومات، لإن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب، وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبات لانهاية لها. من هنا ندرك خطأ الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقود إلا إلى الكوارث، ومن هنا ندرك أيضا ًعمق المعنى في الآية القرآنية بأن الله لايغير مابقوم ليس حتى يغيروا حكامهم بل يغيروا ما بنفوسهم . الملاحظة الرابعة: كنت في كندا في مطلع عام 1990 م، فقدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتقنية في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف وتناولت قصة ولدي آدم، فعقب أحدهم: ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقتل؟ كما في الآية (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؟ تدخل شاب ذكي في النقاش حيث أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية واستوعب عمق القضية. حيث انتبه إلى كلمتي (الخاسرين) و (النادمين). وهكذا استرسلنا في شرح موسع للظاهرة: (أولاً): لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر بل العكس اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم ولم ير أية خسارة للمقتول، وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). (ثانياً): دخلت القصة بعداً جديداً حين محاولة إخفاء آثار الجريمة حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تكبيت الضمير والندم على مافعل وهذا هو بيت القصيد، لإن تفاعل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي حتى مع موت أحد الأطراف، والأطراف كلها ميتة على كافة الأحوال (إنك مين وإنهم ميتون). ولكن الموت هنا وبهذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود. الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف يصحة موقف المقتول أو تبني رأيه وإحياء أفكار الذي مات، ففي الوقت الذي مات الأول واستشهد، كان هذا هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنيه لإفكار الذي مات لأجلها ودفن. دفن الأول بالثرى وعاد الجسد إلى مصدره الترابي، ولكن (الفكر) الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسد الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود؛ لذا وجب أن ينظر الفرد ليس إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ، فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن، والأفراد يموتون، والحبة حتى تنبت لابد من دفنها أولاً . يجب أن يكرس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في العالم العربي، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي ومحاولة إلغاء الآخر ولو من طرف واحد، لإن الصراع في جوهره هو اصطدام إرادتين مصممتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر، كما هو الحال في قصة ولدي آدم. الاصرار على مبدأ الحوار ولو رفض الطرف الآخر، وعدم التراجع عن مبدأ المبادىء كلها (الحوار) لإنه بالحوار والثبات عليه، حتى والاستشهاد في سبيله هو الذي يفتح الطريق لحل مشكلة العنف. إن كان هناك إصرار فليكن على التخلي ودفعة واحدة عن العنف المسلح، لإن وجود هذه البذرة الخبيثة ولو في عالم الأفكار يقود في النهاية إلى النزاع المادي. لإن الحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية . وإعلان الرأي - وضمن شروطه المنتجة - مع تحمل تبعة مسؤولية إعلان الرأي حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد . من هنا نعلم أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص، إلا أنه على كافة الأحوال ليس بقدر تدريب الثكنات العسكرية، كما أنه أقل تكلفة في الوصول إلى أهدافه؛ بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم إلى التوبة والرجوع إلى صوابه حين يدرك أن ماتريده ليس إلغاءه وتصفيته، بل إنك مستعد ليس لقتله، بل لإن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض؟!. بل إن هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمتها بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات. هذه الصورة من الاستشهاد، أي من أجل فكرة سامية تعطي للحياة معنى، وتمد جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة كما حصل مع ابن آدم الذي خلد القرآن موقفه بأن طرح أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية، فخلد موقفه بخلود القرآن الذي يتلى إلى قيام الساعة. فأما جسده الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة، وأما موقفه فبقي خالداً لايموت . (ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
اقرأ المزيد
العامل الداخلي أم الخارجي، أيهما أهم في الانهيار ؟
ماهو السبب خلف سقوط غصن أو اندلاع حرب؟ ماهو عامل تفشي مرض وهزيمة أمة؟ ماهي المسببات الرئيسية خلف انفجار ثورة وتفكك دولة وتحلل حضارة؟ هل هناك رؤية مشتركة لفهم خلفية ولادة كل هذه الواقعات غير المتشابهة؟ هل يمكن وضع اليد أو قنص السر المخفي والقانون المهيمن خلف خروج هذه الحوادث الى السطح؟ هل هناك رؤية أنطولوجية (وجودية مشتركة) لكل هذه الأحداث غير المتناسقة والمتشابهة، غير المتناسقة في مظهرها الخارجي، والمتشابهة في خلفية علة ولادتها. مع مواجهة كل أزمة تاريخية، أو الوقوع في كارثة قومية، يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام الى العدو الخارجي، ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة؟‍! إن هذا الضرب من التفكير لايقود الى حل المشكلة والخروج من الورطة بسلام، بل يقود الى نوع من المرض النفسي الخطير، فطالما كانت ذواتنا خارج حقل المشكلة، بقي الحل في الظلام بعيداً عن متناول اليد، وبقيت بالتالي ذواتنا مبرأة عن أي خطأ، والمساهمة في أي خلل، فذواتنا فوق الخطأ ودون النقد ولاتقترب منها يد التشريح وأدوات السبر والتمحيص، واستمر الخطأ يقود الى مزيد من الخطأ، بتعطل آلية تصحيح الخطأ، كما كان العثور على كبش فداء جاهز يقود إلى فرملة آليات الجهد الذاتي بشكل كامل مطبق، وعندما يكون المتسبب عن الخطأ خارج ذاتنا يتولد عنه تلقائياً أمران: الراحة النفسية بالعثور على سبب وهمي، وإيقاف كل آلية يمكن أن تتدخل في مسار الأحداث لإصلاحها. في مستوى الطبيعة يطرح السؤال نفسه ماالذي يتسبب في سقوط غصن ما؟ هل هي الريح؟ لو كان الريح سبباً لسقطت كل الأوراق، وتناثرت كل الأغصان! ولما سقطت الأوراق بدون ريح في فصل الخريف! فلا عنفوان الريح أسقط كل الأوراق، ولاهدوءها منع وحمى الأوراق من التهاوي. ولكن البحث الأعمق يصل الى اكتشاف عنصر خفي لاتراه العين بسرعة هو قوة ارتباط الورقة بالشجرة، فالعنصر الخارجي الممثل بالريح لعب دوراً واضحاً عاصفاً مثيراً ظاهراً للعيان، ولكن النخر الداخلي مختبيء خفي لايطل برأسه الا بالبحث المنظم المعمق التأملي السببي. العامل الخارجي تضافر مع العامل الداخلي في ولادة الحدث، ولكن العامل الداخلي هو الذي هيء الظروف الموضوعية لولادة الحدث وسقوط الورق وتناثر الأغصان. وفي مستوى البيولوجيا مع حدوث (المرض العضوي) وخلل البيولوجيا يلتفت الناس الى الجرثوم أو الفيروس الخبيث، الذي فجر عاصفة المرض، ولكن الجرثوم موجود دوماً، ولايصاب كل الناس في كل الأوقات مع حضور الجرثوم وتواجده الدائمين، وفي كل فوهاتنا وداخل أمعاءنا ومع كل وجبة طعام تزدحم الملايين من طوابير الباكتريا، وينسى الناس أو لايدركوا دور جهاز المناعة الداخلي في تنظيم السلامة والمرض. ياترى ماهو المرض وماهي الصحة طبياً وفلسفياً؟ الصحة هي حالة التوازن بين هجوم جرثومي لايعرف الاستراحة والتقاعد والإجازة، وبين جهاز مناعي تأخذه السنة والنوم أحياناً لسبب أو آخر فينهار، ومع انكسار التوازن يتولد المرض فيسقط الانسان طريح الفراش لإعادة آليات التوازن الى مسارها الطبيعي، بتغلب جهاز المناعة (الداخلي) على العدو الخارجي الممثل في الجرثوم والفيروس وسواهما. ويلعب الدواء والغذاء والراحة دور العناصر المساندة والمريحة لإتمام وتنشيط آليات عمل جهاز المناعة الداخلي للقضاء على المرض وسحق الهجوم الجرثومي ـ الفيروسي. وفي المستوى النفسي يفضح شعور المجرم سلوكه ويدلل عليه، كما في قصة حكيم القرية الذي أراد ضبط لص القرية فجمعهم في صعيد واحد، وصاح بهم إن لصنا لم يكتف بجريمته، بل قام يتبجح بها فينصب على رأسه ريشة طاووس زاهية الألوان، فعمد أحدهم الى رأسه فمسحه، فتسابقت الأيدي إليه تحكم الخناق عليه! وفي المستوى الاجتماعي يروج الدجل وتتفشى الخرافة ويتكاثر ظهور الجن فجأة في منطقة ما، بفعل ضعف المناعة الاجتماعي، وتدني طبقة الوعي أمام المشعوذين والدجاجلة؛ فعندما يغتال العقل بشكل منظم لايبقى حدود لحماقات البشر. إن فلسفة القرآن تؤسس لفكرة لم يعتاد عليها الناس وهي (ظلم النفس) فالناس اعتادوا ومستعدون ان يلوموا كل أحد واتجاه وقوة موهومة الا أنفسهم، والقرآن يمشي بشكل مخالف 180 درجة تماماً؛ فهو يدربنا على أن نلوم أنفسنا فقط (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). إن كثيراً من شرائح المفكرين والسياسيين عندهم الاستعداد للوم كل القوى، كسبب لعجزنا من الصهيونية والماسونية والاستعمار والصليبية والشيطان، بل وحتى إحالتها في النهاية الى مصدر يخرس كل متحدث عندما تنسب فضائحنا اليومية الى إرادة الله، ولكن ليس عندهم استعداد ولو لوضع (احتمال) أن نفوسهم شاركت في توليد الهزيمة، وتراكم العجز، واتساع الخرق! وإذاكان ظلم الانسان لنفسه هو الظلم الأعظم ، فهو يؤسس بدوره لفهم جذور المشكلة الانسانية ، وفهم الظلم الاجتماعي عندما يتحول المجتمع من مجتمع أفقي الى مجتمع طبقي ، تتمزق فيه وتتصدع الشرائح الاجتماعية الى ( مستكبرين ) و ( مستضعفين ) كما تحدث القرآن عن طبيعة المجتمع الفرعوني ، ومصدر هذا الخلل هو خلاف مايتصور الناس من طبقة المستضعفين ، أكثر من طبقة الجبارين المتكبرين . إن الظاهرة المزدوجة ، أو علاقات القطبين المشؤومين ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) ذات مصدر موحد ، كما في أي فيلم ، فالصورة الملونة تعتمد الأساس الأسود بعد التحميض ، وكذلك علاقات القوة في المجتمع هي من خلل هذه الرافعة بين بني البشر ، فالمستكبر هو مستضعف في أعماقه لاعتماده آلية القوة والقهر ، والمستضعف مستعد بالقوة للتحول الى مستكبر يتلمظ لامتلاك القوة . ودعوة الانبياء جاءت لانتاج نسخة بشرية جديدة بالتخلي عن علاقات القوة ، وبالتالي كسر رافعة ( الاستضعاف ـ الاستكبار ) . الضعفاء هم الذين يخلقون الأقوياء . والمستضعفون هم الذين يوجدون المستكبرين . والأمم الهزيلة هي التي تنبت الطواغيت . والمستنقع هو الذي يولد البعوض . والغربان تحط على البقرة الميتة . والنمل يتجمع على جثث الصراصير . والقابلية للاستعمار هي التي تقول للاستعمار أنا هنا تعال فاركب على رقبتي . والدول تنهزم بتفككها الداخلي . وانهيار الحضارات يتم بعلة الانتحار الداخلي أكثر من قصور طاقة التكنولوجيا أو اكتساح خارجي . والاتحاد السوفيتي سقط مع امتلاكه أسلحة تدمير الكون مرات ؛ بفعل مرض داخلي أكثر من هجوم خارجي عاتي ؛ فلم يهاجم هذه المرة من الجيوش النازية أو مدفعية نابليون ، بل كان سقوطه داخلياً صرفاً . هذا القانون يمسك بإحكام جنبات الوجود ، بوتيرة مكررة ، بدءاً من الذرة الى المجرة ، مروراً بعالم النفس ، ومحيط المجتمع ، وإطار الدول ، وحزام الحضارات ، ومن أبسط الأفكار الى أعظم الامبراطوريات . ماالفرق بين آدم والشيطان ؟ رفض الشيطان السجود عندما لم يراجع نفسه ويمارس النقد الذاتي ، فاعتبر نفسه أنه لم يمارس الخطأ وأن خطأه سببه الله ( بما أغويتني ) كما اعتمد آلية علمية أثبتت الفيزياء النووية خطأها ، عندما رأى نفسه خير من آدم ، فاعتبر نفسه طاقة شريفة وآدم مادة خسيسة ، والفيزياء النووية ترى اليوم أن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة ، بل إن المادة هي في حقيقتها لاتزيد عن طاقة مكثفة . أما آدم فقام هو وزوجته ـ خلافاً لتفسيرات العهد القديم عن قصة التفاحة ـ بمراجعة نفسية قاسية من خلال اعتماد منهج النقد الذاتي ، بقدرة الاعتراف بالخطأ ( إنا ظلمنا أنفسنا ) ، فأرجع آدم الخطأ الى نفسه ، فأمكنه طلب المغفرة والرحمة له ولزوجته ولذريته من بعده ، ففاز بموجب هذا بعقد الوكالة العامة من الله ( الاستخلاف ) . طريق الشيطان بعدم اعتماد منهج المراجعة والنقد الذاتي قاد الى اللعنة الأبدية ، وطريق آدم من خلال التوبة التي هي تجسيد قدرة الاعتراف بالخطأ قاد الى المغفرة والرحمة والجنة كان المللا الكردي يشرح نصاً باللغة العربية لطلابه الأكراد . كان النص الفقهي يقول : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حيةً يبقى السمن حلالاً . بدأ المدرس الفقيه يترجم على الشكل التالي : إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت ثعباناً ؟! يعترض تلميذ : يامللا كيف خرجت ثعباناً ولم تكن سوى فأر ؟! يرد المدرس : اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر .. وتروي رواية أخرى أن المؤذن خرج لصلاة الصبح متأخراً ؛ فاجتمع بالناس في الطريق وقد بزغت الشمس ليقول لهم : أنا حضرت حسب الموعد ولكن الشمس خرجت اليوم مبكراً خلاف عادتها ؟!! إن هذه القصص المسلية تحكي لنا أزمة ثقافتنا ، فنحن على استعداد لتوريط الكون في تناقضات ، على أن نراجع أنفسنا وتصرفاتنا لحظة واحدة لإدخال ( احتمال ) مشاركتنا الجزئية ، في الذل الذي يصب على العالم الاسلامي مع كل شروق شمس .
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram