- - -

ما هو الصنم؟ (3)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
من جديد نلقي المزيد من الضوء على أخطر مشاكل المجتمعات حين تنحرف فتعبد الأصنام البشرية والحجرية فتقع في براثن الوثنية. ان اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نورا فما له من نور. الا انه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). أو كما يقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).  لا يمكن لأي سيارة ان تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل. ان وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية اذا سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التى جاء من اجلها الانبياء وعليه مات بعضهم او طورد الى حافة الصلب فرفعه الله اليه؟ يقول جودت سعيد (ان البشر حين يعظمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من امريكا الى اصغر ديكتاتور)... ولفهم الطاغوت قص الله علينا قصة اكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات اكبر الاثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفرا بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر. وقصة فرعون مع موسى من اطول قصص القرآن واكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من امر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون اكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى اكثر من مائة مرة وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. انها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات. والمسلمون يلعنون فرعونا خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الاوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) و(كافور الاخشيدي) في شاهد عما تفعله الثقافة في تعطيل اقدس النصوص وان معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (امام عبد الفتاح امام) يسجل هذه الفقرات المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية): (عندما امعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم اشد سوءا وكلما اوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على ما يسوء حتى وصلت الى البدايات الاولى عند البابليين والفراعنة، دون ان اجد مرحلة استطاع فيها المواطن ان يقول بملء الفم هذه بلادي وانا انعم فيها بانسانيتي وكرامتي، واتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت). وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى ان هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (واذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس افكارا بل ينصب اصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى ان الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة ان تواجهه بما ليس فيه. واذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد ان تكون حكومته استعمارية). ولذا فان ما حصل كان سقوطا: (في احضان الوثنية مرة اخرى.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد ان كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز اصبح يقتني الاصوات والمقاعد الانتخابية). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو ان هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن (عبيد الطاغوت) يقتربون في اشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً. اذاعت جريدة (نجم المساء) البريطانية في 31 مارس (اذار) من عام 1846، انه سيكون في الاول من ابريل (نيسان) معرض هام وكبير لكل انواع الحمير في صالة عرض فخمة في غرفة الزراعة بـ(اسلنجتن)، وفعلا جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة، واخذوا في الانتظار فلما امتد الوقت لم يظهر احد ولم يكن هناك في القاعة الا من حضر عند ذلك ضحكوا على انفسهم الى درجة الاغماء، لأنهم عرفوا ان كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الاول من ابريل المترافق بكذبة نيسان. هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟
اقرأ المزيد
ما هو الصنم؟ (2)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
علينا فتح النقاش فعلا حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجرا او بشرا او (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوما بانه متعال ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة. لذا وصف الفيلسوف (محمد اقبال) ان الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الازمنة: (تبدل في كل حال مناة... شاب بنو الدهر وهي فتاة). قد يكون الصنم (تمثالا) لامعا يمنح البركات، يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون انه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشرا) متعاليا فوق الخطأ ودون النقد، كلماته حكم خالدة، وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع، وصوره مرفوعة بكل الالوان والاحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لا تقبل المراجعة فرضها (كهان) يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لا يفهمها المواطن اكثر من فهم زمع الكهان. أبسط الاصنام ما نحت من الحجر، واعقدها (الايديولوجية) لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما انزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الاصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من عل بوجه مكفهر ويد ممدودة الى جماهير مطحونة تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى، واذا تنفست كان الجو عابقا بجزيئات (رجال الأمن). عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب انهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة مطورة بدهاء عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وأشباهها في عالم العروبة وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن. يخطئ من يظن ان (الصنم) مرتبط بتمثال من حجر. كما يخطئ من يعتقد ان المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور ان معركة الانبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن ان الفرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنما لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق: (ان البعرة لتدل على البعير وان الأثر ليدل على المسير. سماء ذات ابراج، وارض ذات فجاج، وبحار ذات امواج، ألا تدل على وجود اللطيف الخبير) واختصر القرآن ذلك فقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون). كما ان معركة التوحيد التي خاضها الانبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الارض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم ادوات (علم الكلام) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هدد فيها الانبياء بالرجم والهجر والاخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمنا لذلك، وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع ان يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات ويتحول اهله شيعاً. انه لا يهم ان يكون الصنم من حجر او تمر او شعار أو حزب أو عائلة او طائفة او طبقة بل نظرتنا اليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا (السدنة) الذين يقفون خلفه يوحون الى الجماهير زخرف القول غرورا انه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق. ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم اليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف للفتوحات. انها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. ان هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). ان عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له صلى الله عليه وسلم: (انهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم). وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله الى الارض طالب بـ(كلمة السواء) ان لا يتخذ الناس بعضهم بعضا اربابا. وهي ما وصلت اليه الديموقراطية اليوم اي ان يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع افقي. ورأينا الرئيس الأمريكي (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب امام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. أو ترامب وهو يطرد من الكابيتول ومعه أربع جثث، انها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. انها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها. أين الأصنام اذاً هل هي حقا في افغانستان أم سوريا ولبنان ومصر وعبدان؟
اقرأ المزيد
ما هو الصنم؟ (1)، تشريح بنية الوثنية السياسية 
هل الصنم هو قطعة حجر أم هو فكرة؟ ولماذا أصر الأنبياء على مبدأ التوحيد؟ ثم ماهو التوحيد مقابل الصنم؟ ولماذا حدث ذلك النزاع في المجتمعات بين الوثنية وعبادة الله الواحد؟ وهل التوحيد هو موضوع نظري تيولوجي أم سياسي خطير؟ سوف نحاول تشريح هذه المشكلة العويصة؟   جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد: (يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني واياهم وكانوا قد اشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج اليهم فقالوا ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد اجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه» فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن). ان هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فان (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه أعيد إحياؤه مرة اخرى بدون اسم الخوارج. ان حركة (الطالبان) مثلا تورطت في هذا الموضوع حين هدمت تماثيل بوذا ظنا منها أن الوثنية قطعة حجر؟  كما يشبه (النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) في لعبة (مصارعة ثيران) يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها داعش وأضرابهم (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوما بالهجوم لكي يموت بعد ذلك امام جمهور يصفق بحرارة، وهي صورة تعالجها وسائل الاعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة، رغم المامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الاعلام الرأسمالي ان يذهب اليه قبل ان يعرف انه الدجال). ان من السهل ازعاج الاخرين ولا يحتاج كسر قلوب عشرين شخصا اكثر من عشرين اهانة في عشرين دقيقة. ولا حاجة لان تستعدي عليك العالم اكثر من التعرض لمقدساته ولكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع الى ربك انك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتنجتون) صاحب نظرية (صدام الحضارات) يفرك يديه الآن فرحا وهو يرى (الطالبان) يتطوعون بتنفيذ المهمة مجانا بصدم العالم الاسلامي بالبوذي. وفي الوقت الذي يعيش الطالبان وداعش وأمثالهم خارج احداثيات التاريخ والجغرافيا ولا يعرفون ما هي المعاصرة فان مجلة (در شبيجل) الألمانية تنقل لنا انهم ليسوا أول من سن هذه السنة السيئة، بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الاول قام فيه البروتستانت عام 1529 في سويسرا وهولندا والمانيا تحت شعار: ايها الصنم ان كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك، وان كنت بشراً فيجب ان تنزف دما بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر مدير المتحف التاريخي في (بيرن): هل كان ما فعلوه جنونا ام ارادة الله حقا؟ وختم كلامه (انه سؤال للضمير في اوربا المسيحية والعالم الاسلامي). والمهم ان اعظم التحف الاثرية في الشمال الاوربي تم نسفها نسفا بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس) ووصف تلك النزعة التدميرية: (بانها تشبه تدمير طروادة في العصر القديم). واما التدمير الثاني وكان أشد هولا واعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الإسبان حيث لا تعلم اوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنجلر) ما حدث بهذه الاسطر المأسوية: (فحضارة المايا لم تمت جوعا بل قتلت قتلا وهي في اوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس اذا ما قطع احد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية، وموارد اضخم بكثير من الدول الاغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي اعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وانظمة ادارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية لا يستطيع الغرب ان يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك... لم تندثر نتيجة لحرب يائسة بل جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار الا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن احد حتى الآن من قراءتها. اما أشد مظاهر هذه المأساة ايلاما للنفس وترويعا لها كون هذا التدمير الساحق الماحق جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا او انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها).
اقرأ المزيد
نهاية فرعون (1) 
كما كان اللقاء مخزيا لفرعون بالمباراة مع السحرة، كذلك كانت نهايته مثل أي طاغية. مع هذا فعلينا الاستدراك قليلا فهناك من الطغاة من انتهوا على الخازوق مثل القذافي، أوبالشنق مثل صدام، أو ضربا بالرصاص مثل شاوسسكو، أو بالاغتيال كما في السادات، وبالمقابل قد يموت على عربة حربية كما في الأسد الوحش الأب، أو مسيرة ملايين في جنازته مثل عبد الناصر الفاشل الأعظم في تاريخ العرب. وهناك نماذج مختلفة بين بين.  نحن نعرف أن شاوسيسكو كان في ضيافة ملالي أيرام قبل إعدامه بأربعة أيام ولما أخبروه أن أوربا الشرقية تتهاوى! قال نعم ولكن رومانيا شيء مختلف، وحين تتحول أشجار الصفصاف إلى أشجار تين يمكن أن يحدث في رومانيا ماحدث في بقية بلدان أوربا التي تتهاوي فيها العروش. والرجل كان معتمدا على مائة ألف من عناصر المخابرات (السيكوريتات) بأنفاق سرية تحت الأرض في العاصمة مجهزين بأفضل الأسلحة، وما حدث أنه أمر السيكوريتات بأن يجتمع الناس كما أمر فرعون من قبل بتعبير (وأن يشهد الناس لعلهم يتبعوا السحرة إن كانوا هم الغالبين). ومن أعجب ماحدث ورأيناه في تصوير حي مباشر أن الأطفال بدأوا يطلقون الصفير وأقبح الأصوات من الفم (السوريون يسمونها تعفيط) فانهدمت هيبته وهجمت الجماهير مثل الطوفان فما كان منه إلا أن فر بطائرة هيليكوبتر مجهزة ليوم الزلزلة ولكن تم لحاقه وإلقاء القبض عليه وزوجته إيلينا (كانت مغرمة بجمع شهادات الدكتوراة المزيفة من المعسكر الشرقي) وبمحاكمة سريعة تم قطع رأس الإفعى؟ وعلى العكس قد يموت صالحون بيد فاسدين كما في إعدام رئيس الجماعة الإسلامية في بنجلادش بأوامر امريكية لقيادة فاسدة، أو قتل مالكولكم أكس بيد أتباعه، أو حسن البنا بيد الملك فاروق أو غاندي بطلقة غادرة من هندوسي متعصب، أو مارتن لوثر كينج بطلقة السلامي في أمريكا من حاقد ومتآمر، وهذا يفتح الباب على أن الدنيا فيها ظلم وظلمات، وأن الآخرة هي دار لاظلم اليوم؛ فليطمئن المؤمنون. فتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا  في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. كان الموقف مزلزلا في إيمان السحرة، وهو أمر يحتاج إلى تفكيك نفسي عن انقلاب موقف الإنسان بل تغير موقف مجموعة من المتخصصين في إرهاب الناس كما قال القرآن: فاسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. بل حتى موسى أصابه ذلك الخوف الداخلي حين رأى العصي والحبال تتحول إلى أفاعي تقفز هنا وهناك في وجه القوم. تاملوا التعبير (فأوجس في نفسه خيفة موسى) هنا جاءته شحنة روحية: لاتخف إنك أنت الأعلى. وفي المباراة تحدوا وقالوا ياموسى مارأيك هل تبدأ أنت أم نحن؟ كان التوجيه دعهم يجربوا حظهم فمن يضحك أخيرا يضحك كثيرا. حين ألقوا حبالهم وعصيهم نظروا إلى فرعون ضاحكين وقالوا بعزة فرعون نحن الغالبون. من الملفت للنظر أيضا أنهم قبل اللعبة أسروا النجوى وبدأوا يهمسون لبعضهم مارأيكم فيما يحدث. بالطبع بينهم عقلاء وبينهم جواسيس فرعون من يحرض ويخبر ويعطي المال؛ فحين حضورهم طلبوا المال. قال لهم فرعون المال مضمون هناك ما هو أهم النفوذ. قالوا إئنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟ قال نعم وإنكم لمن المقربين. ربما تلقي هذه الفقرة الضوء أيضا على سحرة الفراعنة في كل عهد؛ فمثلا مايسمى علماء الدين، ووعاظ السلاطين، وفقهاء العصر، ومفاتي الجمهوريات، ومشايخ المحميات، هم أيضا سحرة العصر الجديد، وموظفون في معظمهم، مأجورين بالراتب والهدية والأعطية السلطانية، وحين يقف الحسونة والبوطي وكفتارو بجنب الطاغية فهم سحرة العصر الجديد الذين يتمتعون بالامتيازات والنفوذ. كنت في حلب حين روى لي ساحر من هؤلاء، أنه يتصل بالمخابرات و(المعلم = رئيس الفرع) ويرتب ترويض خطباء المساجد أن يكونوا عناصر مباشرة وغير مباشرة لنظام الطاغية. من الغريب في سحرة فرعون الذين كانوا في الخدمة كيف انقلب السحر على الساحر، وأعلن السحرة إيمانهم على رؤوس الأشهاد، وحين هددهم فرعون بأشنع أنواع القتل؛ قالوا اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا برنا ليغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى. هنا نحن أمام ظاهرة تستحق الوقوف أمامها، في انقلاب سريع ونوعي لموقف الإنسان، وأن لانزهد ولانيأس قط من انقلاب أي إنسان حين يواجه الحق أن يتحول إلى جانب الحق، وأن الإيمان أقوى من السحر وغلاب. وحين هرب موسى ومن معه لم يتجه صوب الساحل في الطريق الأقرب والأسهل ولكن باتجاه البحيرات الشرقية وصحراء سيناء شرق فرع الدلتا الدمياط. كانت هذه البحيرات التي يتوقعها الباحثون قبل الدخول إلى سيناء. وهي أول ماعبرها موسى بقومه، ولسوف يأتي اليوم الذي تحدد فيه رحلة العبور تماما، والطريق الفعلي الذي سلكه موسى القائد الرائع إلى أرض الحرية. وحين غرق فرعون فالجثة بقيت أياما في الماء فلا بد من أثر. وحسب (موريس بوكاي) الفرنساوي الذي أعلن إسلامه، يقول أنه درس جثة رمسيس الثاني وقاده بحثه إلى أنه هلك في الماء قبل أن يحنط. وقرأت البحث أنا شخصيا متأملا وكتابه عندي وبحثه عن الكتب المقدسة، ولكن أظن أن البحث يحتاج إلى المزيد من التتبعات، ولكن نهاية فرعون درس لكل فراعنة العالم، ولكن يبدو أن لافائدة فكل فرعون يظن أنه مختلف عن غيره. لقد خصص رب العزة بوابة خاصة في جهنم، لهؤلاء من الزعماء المؤلهين الكذابين؛ فوصف جهنم أن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم.  
اقرأ المزيد
ورطة التسلح في الثورات
جاءتني هذه الرسالة من أخ فاضل في مونتريال كندا وهو من أفضل من اجتمعنا بهم في المهجر من مثقف مميز يشتغل على أبحاث في غاية الأهمية هي ماذا جرى بعد ابن خلدون؟ هل كانت رحلة التيتانيك إلى القاع أم أن الأمة كانت في رحلة صعود وهبوط وثمة لحظات متألقة في تاريخنا.  قال الرجل في رسالته: دكتور خالص أرجو أن تكون بخير وعافية في هذا الجو القاسي. لدي سؤال لحضرتك، أطال الله بعمركم ومتعكم بالصحة والعافية. ما هو الدافع الأساسي للإنسان للحياة؟ لماذا تكتب؟ لمن؟ وماذا تتأمل من ذلك؟ صراحة بعد المقتلة السورية لمدة عشر سنوات وجدت أن لا شيء تغير، لا في التفكير ولا في السلوك، ولا كأن شيئا قد حدث، كل كتابات الإصلاح والتغيير لم تنفع، ونصف قرن من كتابة حضرتك والشيخ جودت حول اللاعنف سقطت أمام أول رصاصة، لماذا نستمر في الكتابة والصراخ في هذه الصحراء؟ شاهدت فيلم همنغواي وهو يتحدث عن مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية، وكيف دُحرت القوات الديموقراطية والمتطوعين لنصرة الشعب الأسباني، وكيف انتصرت الفاشية، وأمسك فرانكو الحكم عاضا بأسنانه عليه، ودام هذا الوضع قريبا من أربعة عقود. دامت الحرب الأهلية الأسبانية ثلاث سنين (1936 ـ 1939) ومات فيها قريب من مليون إنسان، وجربت فيها أسلحة الحرب العالمية القادمة ولكن فرانكو بعد أن ذاق ماذاق من مرارة الحرب الأهلية لم يبق عنده متسع لا هو ولا أسبانيا لحرب جديدة ولذا اعتزل وبقي على الحياد في الحرب الكونية اللاحقة وكان عقلا منه وحكمة وهو العتل الزنيم. وماحصل في سوريا كان أطول من الحرب الكونية وهلك من الناس نسبة ومقدارا أكثر مما هلك من الأمم في الحرب الكونية، وهو يشهد سواء لأسبانيا أو سوريا أو الصومال ورواندا عن عبثية الحرب الأهلية وفظاعتها. وهكذا فالزمن يتدفق، والأقدار تتشكل، وفي النهاية يذهب الجفاء، وماينفع الناس يمكث في الأرض ويستمر خيرا وأبقى، ويذهب الطغاة إلى اللعنة وسوء الدار. وحاليا تتمتع أسبانيا بالديموقراطية ولاتذكر فرانكو إلا كما يذكر الطفل أيامه وهو يوسخ على نفسه، فيضحك أو يبكي سواء؛ فهي ضريبة عدم نضج الأمم، وفي القرآن قانون صارم أن الأمم تؤخذ بالعذاب فإما رجعت وأصلحت، وإما زيد من جرعة العذاب. فإن أصرت على نفس الخطأ هلكت، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. هذا القانون يتكرر في أكثر من موضع: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الكبر لعلهم يرجعون. روى لي صديقي سفيان في مدريد كيف أن بعض أفراد المعارضة بقي متخفيا أربعين سنة تحت الأرض خوفا من بطش الطاغية فرانكو. الوضع في سوريا يذكر بعملية المحافظة على فرانكو مع الفارق. أو حتى المحافظة على النازية (البعثية العبثية) وهتلر سوريا. أتذكر حينما دخلت ألمانيا للتخصص الطبي وللمرة الأولى والأخيرة رأيت (الشيف) رئيس القسم الجراحي (كارل توما) وكان عنصريا بغيصا رأيته فرحا بموت الطاغية فرانكو، وكان ذلك عام 1975م. أنا شخصيا زرت أسبانيا لاحقا وقد تحررتْ من الطاغية ووطأت بقدمي مكان قبره ومساعده الأيمن من الجبارين. ومن أعجب ما رأيت أن هذا الطاغية سخّر المعتقلين السياسيين لبناء أعلى صليب في العالم دليلا على تقواه وورعه. قصته تذكر بقصة مسجد الضرار الموجودة في آخر سورة التوبة حين يسخر المقدس لخدمة الحقارة. كان المسجد موطئا للتآمر فجاء نبي الرحمة فهدم المسجد على رؤوس الخونة ومزق ستار التقوى. هذا التلاعب بالمقدس يتكرر في أشكال شتى عبر التاريخ، ولعل رفع المصاحف على رؤوس الرماح كانت أفظع لعبة في تاريخنا، ومن جاء بها لم يكن أنزه الطرفين، وكانت النهاية من نتائج معركة صفين مدمرة حين أفرزت ثلاث اتجاهات شتى، كل يدعي وصلا بالحق المطلق، بين فريق انتهازي يؤمن بحكم القبيلة، وثاني يؤمن بحق العائلة المقدس، وثالث يرسم خطوط التاريخ بالدم، ومازال يتناسل وداعش هي نسخة مكررة عن هذا الفريق الثالث. كانت الكنيسة مع فرانكو في هذا المسعى لترسيخ العبودية، شاهدا على فعل الأديان المزيفة مع الشعوب المسحوقة. كانت الثورة ديموقرطية بانتخابات حرة وبطعم يساري واضح، وتجند الشيوعيون أيضا يومها لنصرتها منهم جماعة ستالين فاسأوا للثورة أكثر من نصرتها. نفس السيناريو حصل مع تسلح الثورة السورية وانزلاقها إلى الحرب الأهلية فتحولت الأرض السورية إلى ساحة حرب بين فصائل شتى، والتاريخ علمنا أن من تسلح احتاج إلى التمويل وتعني دولا تمنح مقابل أجندات معينة، وبذلك يموت الشهداء، وتسرق الثورات، وتسبح الأمم في الظلمات حتى حين. وهو السر خلف تحذير أرسطو قبل 2000 عاما من الثورات. ونقرأ أيضا في كتاب الكواكبي عن الشروط الثلاثية للتخلص من الطغيان من التدرج والسلمية وأن من انخرط في الفتنة يستبعد من التغيير الجديد. بيكاسو الرسام المشهور خلد لوحة غورنيكا حيث مسحت الطائرات الألمانية المدينة من علو، في التحام شيطاني بين فرانكو وهتلر الصاعد يومها، حين وقعت تفاحة السلطة في ألمانيا في يد الحزب الاشتراكي الوطني الألماني ماعرف لاحقا بالنازي (Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei)‏ NSDAP).). بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية نلاحظ سخرية الأقدار بالمحافظة على فرانكو سوريا وإعادة تصنيعه مع قتل مليون من الأنام وتشريد خمسة عشر مليونا. أو كأننا أمام دمار ألمانيا والمحافظة على هتلر على رأس النظام النازي. هل سيشهد الشعب السوري مأساة فرانكو لمدة ثلاثين أو أربعين سنة قادمة؟ قناعتي العميقة أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية، وكما حصل لأسبانيا وغيرها من التخلص من الديكتاتوريات المقيتة إلى مزابل التاريخ مع اللعنة وسوء الدار فستكون العاقبة في النهاية للتقوى. وحاليا تنعم أسبانيا بالديموقراطية وتبادل السلطة السلمي، بل ومحاكمة الملك السابق بتهمة الفساد. مع أن الملك السابق هو الذي أجهض محاولة ضباط اشرار من جماعة فرانكو حين اقتحموا البرلمان الأسباني المنتخب بالغدارات والرصاص. وهو ماسيكون في سوريا المستقبلية، بل وسنشهد أفول الأصوليات في المنطقة بعد تجربتها الضارة سواء السنية أم الشيعية وآخر من شكله أزواج.  
اقرأ المزيد
التاريخ كمفتاح لفهم الطبيعة البشرية (1) 
سافر صديق لي قبل فترة وترك قطته عندنا في البيت، وكنت أعلم أن هذا القط أخذ من أمه ولم يكن زاد عمره عن أيام وعاش منذ ذلك الوقت مع البشر لكنه كان قطاً مثل باقي القطط، يأكل مثلهم ينظف نفسه مثلهم ويطارد الحشرات ويحاول ملاحقة الطيور، ولو وجد فأراً لا نقض عليه مثل أي قط آخر؛ فالقط المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن تتفاوت طبيعتهم، والقط لا يخسر طبيعته عندما يعيش لوحده بمعزل عن قطط أخرى؛ في حين أن الإنسان المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن يتشابها في التصرفات أو النظرة إلى الأمور، والطفل البشري لا يتعلم الإنسانية إلا بمعاشرته لأناس آخرين. لماذا أتحدث عن الفرق بين الإنسان والقطط أو الإنسان والحيان عموماً؟ الكل يتفق على أن هناك فرقاً بين الإنسان والكائنات الأخرى، لكن النقطة التي تبقى موضع الجدل هو كيفية أو آلية الفهم بين الحيوان والإنسان؟ ولندخل في الموضوع مباشرة فلكي نفهم الحيوان نحتاج لمعرفة بيولوجيا الحيوان، ولكن لفهم الإنسان لا تكفي الخريطة البيولوجية. ربما تساعدنا البيولوجيا لفهم وظائف الأعضاء كي نتمكن من معالجة الأمراض، ولكن البيولوجيا تساهم بشكل جزئي وبسيط في فهم الإنسان في جانبه الثقافي والاجتماعي. فحتى نفهم الإنسان نحتاج إلى معرفة التاريخ؛ فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عنده تاريخ، فالقطط والنمل والنحل لا تتمتع بميزة امتلاكها التاريخ؛ فهذه المخلوقات لها غرائز تمشي عليها منذ ملايين السنين على وتيرة واحدة ونظم منسق، لا تعرف التحويل والتبديل، وربما كانت مجتمعات النمل والنحل متجانسة وذات إنتاجية أفضل بكثير من المجتمع الإنساني؛ إلا أنه مجتمع راكد ساكن بدون تطور عبر التاريخ؛ في حين أن الإنسان عاش في الكهف قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده، ونفس المخلوق وصل إلى القمر قبل عدة سنوات؛ فالحيوانات تعيش بغرائزها وكأنها قطار على سكة الحديد لا يحيد، في حين أن الإنسان يخرج عن هذه السكة فيقفز منها ويطير عنها؛ فالمخلوق الذي يمشي على خط مرسوم له، ليس كالمخلوق الذي يشارك في صنع خطة، وهذه المشاركة هي أمانة الإنسان الكبرى التي أشار إليها القرآن؛ فالنمل والنحل والجبال والرياح اختارت أن لا تحمل هذا الثقل؛ فكل المخلوقات عدا الإنسان شاءت أن تسير وفق الخطة التي رسمت لها في الطبيعة، في حين أن الإنسان اختار أن يحمل أمانة ومسؤولية المشاركة في صنع خطته (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). التاريخ هو انعكاس لمحاولة الإنسان وهو يحمل الأمانة الثقيلة فيقع تارة وينهض أخرى، ينتعش أحياناً ويعاني أخرى؛ ففهم الإنسان يحتاج إلى معرفة مسيرة تاريخه المعقدة والمتشعبة وإن كانت حديثة العهد نسبياً. لماذا اعتبر هذا الموضوع جديراً بالبحث والاهتمام به؟ لأنه أن لم تعرف بعض الركائز التي يجب الوقوف عليها فلن نستطيع أن نفهم الإنسان بل ولن نقترب في كيفية فهمه، وبالتالي فلن نستطيع المساهمة في حل مشاكلنا كمجتمعات وأفراد، وهذا بالتالي معناه أننا مازلنا ظالمين لأنفسنا في اختيارنا لحمل هذه الأمانة الثقيلة. والآن مالفرق بين البيولوجيا والتاريخ...بين البشر والإنسان؟  ناقش المفكر الإسلامي علي شريعتي الفرق بين مصطلحي بشر وإنسان فالبشر (كينونة) أما الإنسان فهو (صيرورة) فقال أن جميع الناس متساوون في بشريتهم أي في كونهم من جنس البشر ولكنه ليسوا متساوين في الإنسانية لأن الإنسانية هي حالة من (الوعي) ولا تدل على جنس المخلوقات فالكل يولد بشراً ولكن (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) أي لا تعلمون الإنسانية فالبشرية بيولوجية وتولد معنا ولكن يجب أن نتعلم الإنسانية وهي مرتبطة بالحياة في مجتمع فالطفل الذي لا يرى أناساً آخرين ويعيش معهم لا يدخل الإنسانية ولتوضيح هذه النقطة سأروي لكم عن قصة (أفيرون الوحشي) هذا الطفل المسكين الذي كان بشراً ولكن لم يعرف الإنسانية ففي بدايات القرن العشرين وجد بعض الناس طفلاً في إحدى غابات فرنسا في حوالي الثانية عشرة من عمره ويبدو أن هذا الطفل ألقي أو ضاع في الغابة وعاش مع الحيوانات ووجد فيه العلماء ثروة علمية لا تقد فأرادوا دراسته ومراقبة قدرته على تعلم الأشياء كان الطفل يمشي على أربع ولم يكن يعرف الكلام وبعد جهود مكثفة انتصب قليلاً ولكنه لم يستطيع تعلم اللغة بل تعلم بعض الأصوات ولم يلبث أن توفي بعد أسابيع قليلة فيبدوا أن صدمة خروجه من محيطه قضت عليه فهو لم يعد في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع في محيطه الذي عاش فيه ولم يعد يستطيع الدخول في المحيط الجديد هذا الطفل كان أشبه ما يكون بالحيوانات فنحن نقول هذا لأننا لا نرى فيه صفات إنسانية ولو نطقت الحيوانات لقالت هذا أسوأ من الحيوانات فهو لا يعرف كيف يأكل أو ينظف نفسه أو يدافع عن كيانه أما الحيوانات والحشرات فهي تعرف كيف تتصرف أينما عاشت أو ولدت وربما يتساءل البعض إذن ما هي الطبيعة البشرية؟
اقرأ المزيد
مخطط الانحدار وإعادة البناء (2)
في عام (1099 م) قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد بالضبط، كانت مدينة القدس تعيش أزمة مروعة لسكانها المحاصرين الجياع، فالعصابات الصليبية المفلسة كانت تجتاح منطقة آسيا الصغرى والشرق الأوسط مثل الجراد المدمر، وتذبح سبعين ألفاً من سكان القدس في الشوارع، وينشغل العالم الاسلامي في حرب (كماشة) تجتاحه من الشرق والغرب بوقت متقارب. ذراع الكماشة القادم من الشرق كان الإعصار المغولي (تدمير بغداد 1258م) وذراع الكماشة الغربي كانت أوربا الفقيرة القذرة. فأما الاعصار المغولي فتم امتصاص زخم اندفاعه، وتحويله الى رصيد اسلامي (النهضة التيمورية في الهند) وأما ذراع الكماشة الغربي فقد قام بحرب لم يعرف لها الجنس البشري حتى الآن نظيراً، ولعله لن يعرف في المستقبل حرباً تدوم (171) عاما بسبع حملات عسكرية يقودها ملوك أوربا الأميُّون. يضاف لها حملة ثامنة عام 1948 ببناء مملكة بني صهيون. وعندما كان الملك الفرنسي لويس العاشر يفدي نفسه من الأسر الذي سقط فيه في المنصورة، كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يظن أنه أنهى الغارة الصليبية على العالم الاسلامي، ولم يعرف أنها قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت، ولكن من زاوية لاتخطر على بال أحد، ولاتوحي مظاهرها بذلك.  سقوط مدينة طليطلة كمؤشر لانكسار الميزان التاريخي:  إن انكسار الميزان التاريخي بين الشرق والغرب بدأ  في الواقع قبل مذبحة القدس بأربعة عشر عاماً (1085 للميلاد) عندما سقطت العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الايبرية ( طليطلة ـ توليدو حالياً TOLIDO) بيد الفونسو السادس بعد حصار دام سبع سنوات. وعندما ارتعب ملوك الطوائف وارتجفت مفاصلهم فرقاً على عروشهم البئيسة أمام الزحف الاسباني القادم، هُرعوا باتجاه المغرب الى الدولة القوية المرابطية جديدة الولادة، فاستنجدوا بملك المرابطين (يوسف بن تاشفين) ليقول المعتمد بن عبَّاد حاكم اشبيلية يومها، وهو يرى الخيار الصعب في زوال دولهم بين مطرقة الاسبان وسنديان المرابطين: إن لم يكن بد من التحول الى طبقة الخدم والعبيد وفقدان الملك، فأن أرعى جمال المرابطين أحبُّ إلي من رعي خنازير الاسبان. كان (المعتمد بن عبَّاد) شريفاً على كل حال في اتخاذ مثل هذا القرار المصيري التاريخي. وبقي قبره في (أغمات) خارج مراكش، يروي حسرات الأسير وشعره الباكي .. مات (المعتمد) قهراً وغماً في الأصفاد بعد موت حبيبته وأم أولاده (اعتماد) التي شاركته المحنة، فبكاها بحرارة روَّى فيها تربتها بالشعر المبلل بالدموع، ودفن بجانبها، فقبرهما المشترك نزلا فيه ضيفين على الأبدية يروي قصة الشعر والحب والحرب. معركة (الزلاقة) وأثرها في مصير الجزيرة عام 479 هـ ـ 1086م:   في عام (1085 م) سقطت (طليطلة) وفي عام (1086 م) كان سيف العجوز يوسف بن تاشفين ذو الثمانين عاماً، ينزل كالصاعقة على رؤوس الاسبان فيحطم تجمعهم في معركة (الزلاَّقة) ولكن ابن تاشفين يدرك فوراً بعد دخوله الجزيرة أنه لن يستطيع إيقاف مسلسل الأحداث، وأن المسلمين خسروا زمام المبادرة التاريخية، فالجسم الاسلامي مريض، وطليطلة لا أمل في استعادتها، وأبناء الجزيرة الاندلسيين تحولوا الى أيتام في مأدبة اللئام، وكان المرض الأموي القديم قد فعل فعله وآتى أكله أيضاً في الجزيرة، منذ أن نجح في إيقاف المسيرة الراشدية في العالم الأسلامي، وتحويل الدولة الاسلامية الى امبراطورية بيزنطية، فاستوى المرض وبدأ  الجسم الاسلامي في الترنح والسقوط، بفعل انهيار جهاز المناعة الداخلي قبل الهجوم الاسباني بفترة طويلة. معركة (الزلاقة) في عام 479 هـ الموافق 1086م التي دارت رحاها على حدود دولة البرتغال الحالية، حَجَّمت الامتداد الاسباني ومسحت دول الطوائف الهزيلة التي عاشت لجيلين لمدة ثمانين عاماً (399هـ ـ 479 هـ) في ضربة واحدة، وفرملت السقوط النهائي للاندلس لمدة أربعة قرون لاحقة، حتى جاء موعد كسوفها مع كريستوف كولمبس عام 1492 م. بعد سقوط طليطلة صمدت الجزيرة حتى مرحلة وفاة الفيلسوف (ابن رشد) الذي مات عام 1198م للميلاد بعد أن كافأه أهل مدينته بالطرد مرتين، مرةً من المسجد هو وابنه وكانت من أحزن ما لاقاه، ومرة بنفيه الى قرية (الليسانة) اليهودية، ليقضي فيها بقية عمره وهو في السبعين من العمر. وعندما نضب العقل الاسلامي الجماعي الى هذا القدر الحزين، جاءهم الطوفان الاسباني هذه المرة، ليمسح مدينة قرطبة بالكامل بعد موت الفيلسوف بجيل واحد فقط ( 1238م)، وليطرد أهل قرطبة كلهم من المسجد، ويُدخل في مسجدها الجامع بشكل محشور عجيب، مثل الشوكة في اللحم. كنيسة مصطنعة لايصلي فيها أحد ومسجد يؤمه السواح فقط. كل من يمر اليوم في قرطبة يبكي عند المحراب الذي لايصلي فيه أحد، والكنيسة الخرساء التي يحدق فيها السواح الأوربيون بنظرة بلهاء بدون معنى، ويتأمل العربي المسلم وجوه أهل قرطبة فيتذكر أهل دمشق. قبل توحلها وتحولها إلى مملكة قرود. هذه المرة لايسمع اللغة العربية ولا الأذان ويتعجب من اختفاء أمة كاملة من خريطة الوجود. نقطة التحول التاريخية (منتصف القرن الثالث عشر الميلادي)   إن منتصف القرن الثالث عشر للميلاد يسجل كارثتين غير معقولتين للعالم الاسلامي ودفعة واحدة وبفاصل عشر سنوات، ففي عام 1248 م يسقط الجناح الغربي للعالم الاسلامي (اشبيلية) وفي عام 1258م يسقط الجناح الشرقي، بسقوط لؤلؤة الشرق بغداد بيد الحصادة المغولية القادمة من الشرق. ويخرج خليفة أعزل سمين حاسر الرأس لمقابلة جزَّار دموي من طراز (هولاكو) يناشده الحفاظ على 700 من الجواري اللواتي لايعرفن ضوء الشمس. وكما جلس العباسيون على جثث الأمويين النازفة المغطاة بالسجاد، يأكلون عشاءً فاخراً، ويشنفون آذانهم بسماع ألحان حشرجة أنات الموتى الأخيرة، فإن حياة آخر خليفة عباسي كانت في كيس (خنشة = جوال خيش) يقضي نحبه على نغم طبل مختلف، بالخنق والرفس بالأقدام، ويساق الوزراء وأعضاء الأسرة الحاكمة والأعيان والفقهاء الى مقبرة المنظرة فيذبحون كالشياه، وتنعي بغداد يومها حوالي ثمانمائة ألف قتيل، وتتحول أكوام الكتب الى جسر يصلح لمرور الجندي التتري على نهر دجلة. إن التدمير المغولي خاصة لشبكة الري في جنوب العراق، والذي قامت عليه حضارة سومر، لم يصلح حتى يومنا الحالي.
اقرأ المزيد
مخطط الانحدار وإعادة البناء (1) 
لو أتيح لزائر سماوي أن يمر على الأرض قبل ألف سنة من غير أن يعرف أي لغة أو ثقافة أو دين، وتفقد الأرض والناس والوقت والعمل، فسوف يتشكل في ذهنه انطباع واضح من جراء تكرار المناظر، أن هذا العالم ليس عالماً واحدا بل عالمين، وأن هناك خطان واضحان يفصلان الناس في الكرة الأرضية، تماماً مثل خطوط الطول والعرض وخط الاستواء ومدار الجدي والسرطان، ولكنهما ليس خطان جغرافيان بل خطان حضاريان متميزان، أو لنقل محوران للشمال والجنوب: يمتد الخط أو المحور الأول على طول طنجة ـ جاكرتا، ويربط الثاني بين موسكو ولندن.   المحور الأول (طنجة ـ جاكرتا) يملك الثروة والعلم والقوة العسكرية، ناشط اقتصادياً، تمر عبر أراضيه خطوط التجارة الدولية، وتزدحم أسواقه بالبضائع والناس والمال معاً، في أعظم دينامية اقتصادية عرفتها أسواق المال، وتزدان بيوته بكتب العلم والثقافة العالمية والترجمات المنوعة، ومجالسه بالبحث العلمي والمناظرات على الطريقة التي سجلها لنا مثقف ذلك العصر أبو حيان التوحيدي، في كتابه (الإمتاع والموآنسة)، ومدارسه التي تقيس محيط الكرة الأرضية، وتخطط لانتقاء أفضل مكان لبناء بيمارستان (مستشفى) بتجربة صمود اللحم للفساد  وتمتلك دوله الجيوش النظامية المتطورة، ويتحرك في مدنه بشر فعَّالون بوجوه تفيض بالجمال والحيوية، يرتدون الملابس النظيفة الجميلة، وفي مدينة مثل بغداد يعالج فيها أكثر من 800 طبيب في عشرات البيمارستانات عشرات الآلاف من الناس، الذين ينعمون بالرفاهية ويرتادون الحمامات العامة بشكل دوري، ويعنون بالنظافة والجمال، وتشع منهم الزينة ويتبارون في التأنق في المأكل والملبس، ويقضون الكثير من الوقت في مجالس العلم والرحلات، كما خلدها الأدب العربي في قصص السندباد البحري، ومجالس الظرف والفكاهة، وعجائب الأسفار وغرائب الحوادث، في قصص ألف ليلة وليلة، وكتاب (الأغاني) لأبي فرج الاصفهاني. كتاب الثقافة العالمية وسطور الحضارة كانت تكتب في ذلك الوقت بخط  ولغة من اليمين الى الشمال .......... وفي المحور الثاني على خط لندن ـ موسكو يعيش أكثر شعوب العالم فقراً وتخلفاً، ينتشر فيهم الطاعون فيحصد ثلث السكان على الأقل، في المدن القذرة التي لاتعرف نظام التصريف الصحي والحمامات بعد، يطاردون الساحرات والقطط، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير، ويشترون تذاكر لدخول الجنة، ويحرقون العلماء والكتب معاً في الساحات العامة، بتهمة الهرطقة والزندقة، وتزدحم مدنهم بالشحاذين على الطريقة التي وصفها الروائي الفرنسي (فيكتور هوجو) في قصته العالمية المشهورة (أحدب نوتردام) ويُعالج المريض النفسي بالسلاسل والضرب بالكرباج لاستخراج الأرواح الشريرة من جمجته، وينسب انتشار الأمراض الى البروج والكواكب أو اليهود! فتخرج الناس على شكل طوابير تطوف البر تضرب نفسها بالسوط لدفع المرض، أو تحرق اليهود والساحرات والقطط معاً في الساحات العامة، وتتحرك من وسطه أفواج من الحجاج الفقراء لزيارة القدس، أو عصابات صليبية مفلسة يقودها رجال أمُّيون من طراز ريتشارد قلب الأسد، ويضحك البابا لاكتانتيوس أشد الضحك على الذين يزعمون أن الأرض كروية فيقول: هل جُنَّ الناس الى هذا الحد فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار والناس تتدلى من الطرف الآخر؟! ! في صورة حضارية (كاريكاتورية) تعجز عنها ريشة أعظم فنان!! وبعد ألف سنة بالضبط يصاب الزائر السماوي بالدوار وجحوظ العينين، ويبدأ ليمشي على رأسه حتى يفهم قراءة الخطوط من جديد؟!...........إن الشمال تحرك الى الجنوب، وتزحزح الجنوب فاستقر في الشمال في معادلة معكوسة جداً. محور طنجة جاكرتا يزدحم بشعوب فقيرة هزيلة عاجزة عن حل مشاكلها، يشكل العالم الاسلامي فيها وزناً كبيراً، قد خسر الرهان العالمي، وطُوِّق بحضارة رأسمالية غربية، ذات إدارة موحدة، تُحْكِم قبضتها على الكرة الأرضية كلها، للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، مسلحة بالصواريخ النووية ومصارف المال ومراكز البحث العلمي. وانقلب خط الشمال ليمتد هذه المرة فيملك أربع قارات جديدة، ويضع يده على ممرات الملاحة البحرية ومعها الثروة العالمية، ويمتلك الجيوش النظامية المتطورة التي فاجأت فرسان المماليك عند سفح الأهرام مع نهاية القرن الثامن عشر، ومعها الأسلحة المتطورة من البنادق والمدفعية، بالأضافة الى التقنية الحربية الرفيعة. الغرب اليوم يملك ثلاث أخماس الكرة الأرضية وأربعة أنهار من كل خمسة أنهار هامة في الجغرافيا، وخمسة فدادين من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، ويملك ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف في العالم وتنام في مانهاتن في نيويورك، أعظم خزينة ذهب في تاريخ الجنس البشري لم يحلم بها الفرعون خوفو، ولم يملكها قارون بذاته. وانتشرت لغة ريتشارد قلب الأسد لتصبح اللغة العالمية، وبُني لأحفاده بيت على ظهر القمر. كتبت الحضارة هذه المرة من الشمال الى اليمين ..... مجلة الشبيجل الألمانية تمثل لهذا الانقلاب العالمي بعنوان (عالم منكوس  VERKEHRTE  WELT) وتمثل لهذا بكمية الاستهلاك العالمية للطاقة، حيث تحتل أمريكا الشمالية رأس القمة؛ فتستهلك ثلث مايستهلكه جميع البشر على وجه الكرة الأرضية (.82212 مليون طن) وتأتي أوربا في المقام الثاني الى (.11407 مليون طن) وتأتي دول أوربا الشرقية في المقام الثالث (.21685 مليون طن) وتنكمش قارة أفريقيا كلها في هذه الخريطة الى مايعادل استهلاك اسبانيا، وعندما كبرت الصورةُ ظهرت أمريكا وكأنها الديناصور وانكمشت حجم الدول الى مقدار استهلاك الطاقة، وتحولت صورة العالم الى كائنات عملاقة يسكنها الرجل الأبيض، وتحولنا نحن الى كائنات قزمة وذيول تابعة لكائنات خرافية ديناصورية تتمدد على خط الشمال المحور الذي سماه سابقاً المفكر الجزائري مالك بن نبي (واشنطن ـ موسكو) والسؤال كيف حدث هذا الانقلاب الصاعق ومتى ؟
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (4) (آثار رحلة كولومبوس)
الادوات المعرفية التاريخية:   حتى تفهم أحداث التاريخ لابد لها من الربط الكرونولوجي وإدخال عنصر الحركة فيها، مستخدمين آليات التفكيك والتحليل التاريخية التي لاتعتمد منهج النقل فقط، واستخدام الادوات المعرفية التاريخية، حتى يمكن الوصول أو بكلمة أدق الاقتراب من سر التاريخ المغيب ضمن أحداث حفظت في أوراق وملفات أكلها البلى، وتلعب السينما دورا حيويا في الوصول فهم رائع من هذا النوع. وعندما يستعرض الكاتب النيهوم خسارة شبه الجزيرة الايبرية فإنه يحلِّل آثارها على الشكل التالي: (إن العرب لم يخسروا اسبانيا كما يقال في كتب التاريخ، بل خسروا المحيط كله، ومعه الامريكيتين واستراليا ونيوزيلندا وآلاف الجزر وجميع ممرات التجارة الدولية، وقد حشرتهم مدافع الاسبان وراء مضيق جبل طارق؛ لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد، ويروا الفلاحين الاوربيين يبحرون بسفن عربية وخرائط عربية الى عصر آخر في عالم جديد، وعندما نزلت فرقة الخيالة الاسبانية في المكسيك، وتقدم المدعو (كورتيز) لابادة الهنود أكثر من سواه، كان على التاريخ أن يسجل بهدوء، أن الحصان العربي قد وصل الى أمريكا، لكن فارسه العربي لم يصل؟!! وخلال الثلاثمائة سنة التالية كان العرب يقضون عقوبة الحبس وراء مضيق جبل طارق، مثل مارد مسحور في قمقم، وكان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للمسلمين، ولفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية مالبثت أن اجتاحت العالم بقاراته السبع، ووضعتها جميعا تحت ادارة راسمالية واحدة، لاول مرة في تاريخ العالم والادارة معاً) ليصل في النهاية الى رسم صورة العالم في العصر الفيكتوري: (الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 م تقريرا عن وضع الامبراطورية يقول لها مباهيا: سهول روسيا وأمريكا الشمالية هي حقول قمحنا. شيكاغو وأوديسا هي مطاحن غلالنا. كندا والبلطيق غابات أخشابنا. استراليا مراعي خرافنا. أودية أمريكا الغربية مراعي أبقارنا. مناجم البيرو تغدق علينا الفضة. استراليا وجنوب أفريقيا مناجم لذهبنا. الهندوس والصينيون يزرعون لنا الشاي والقهوة. الانديز تزرع لنا السكر. اسبانيا وفرنسا عرائش أعنابنا. بلدان البحر المتوسط حدائق ثمارنا. أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة)(8) المهمة التي تواجهنا هي فهم أحداث التاريخ بشكل ديناميكي جدلي، ومن خلال رؤية فلسفية عميقة لآليات الصراع الانساني، فالأحداث لاتولد من فراغ ولاتتشكل عبثاً وبدون خلفيات من  الانجاز التاريخي.    فلسفة ولادة الحدث التاريخي   حتى يمكن فهم الأحداث التاريخية لابد من القيام بأجراء تحليل تاريخي، لإدراك العوامل الخفية والعميقة التي قادت لتشكيل هذا الحدث. فكل حدث هو في علاقة جدلية في عدة مستويات. كونه سبباً ونتيجة بنفس الوقت، نتيجة لما قبله، وسبباً لما سيأتي بعده، وكونه في وضع (مجموعة) من العناصر (المركبة) بين تفاعل العناصر الداخلية والخارجية، وليس ولادة لحدثٍ مفردٍ يتيم،  وكونه في حالة (ديناميكية) فحتى يولد ويبرز أي حدث الى العيان ، فلابد من (تفاعل) مجموعة من العناصر بكمٍ وكيفٍ معينين، وكونه يولد بشكل أساسي بعد أن مهدت العناصر الداخلية في تشكيله.    الارتطام الحضاري الحزين  عندما وضع كولومبوس أقدامه في جزيرة اسبانيولا (جمهوريتي هايتي والدومينيكان حالياً) لم يدر في خلده أبداً مأساة الارتطام المروع الذي سيحدث بعد هذا اللقاء ويقود الى افناء مائة وثمانين مليون من البشر، في كارثة انسانية لم يكشف اللثام عنها بعد، في موت ثمانين مليون من أبناء القارتين الامريكيتين قبل أن يختم القرن السادس عشر، وإبادة مائة مليون من السود من أفريقيا، في عمليتين دمويتين الى أبعد الحدود، الأولى بالتفريغ والثانية بالشحن على ظهور السفن لاستحداث مزارع الرجل الابيض في الارض الجديدة ومد أوربا بالغذاء والذهب. هذا اللقاء الحضاري غير المخطط له، وهذا الارتطام بين حضارات العالم القديم والجديد قاد الى تدمير حزين لكامل الحضارات الموجودة في الامريكيتين، في عملية عنيفة لاقصى الحدود لم تعرف الرحمة، فتم القضاء الكامل على حضارة الازتيك والانكا والمايا والهنود الحمر، في عملية يعجز عنها الشيطان الرجيم. العالم القديم منح اسم العالم الجديد. شعوبه أُبيدت. وحضارته دمرت بالكامل وسويت بالارض، ولغته لم يعد يتحدث بها أحد، وكتبه يحاول علماء الفللوجيا حتى اليوم فك ألغازها فيما تبقى من كتب قليلة للاهتداء الى سرها، وأهم من كل هذا انقلاب الميزان التاريخي لصالح الغرب، فهذا الانقلاب الصاعق المزدوج في تبدد الهيمنة الاسلامية في العالم، وصعود القوة الغربية للامساك بمقود الحضارة العالمية فيما يسمى الدول الصناعية السبع، كلها بدأت برحلة رجل خرافي متعصب يؤمن بالاساطير أكثر من العلم، ويسجل خيالات فكرية أقرب الى الهذيان، ولكن كل هذا لايعني شيئاً البتة. الشيء المهم أن هذا الرجل أحدث زلزالاً في التاريخ الانساني من حيث يشعر أو لايشعر، فهو الذي فتح فتحة في سد يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون وقارات بأكماها يستعمرون.
اقرأ المزيد
أسرار الانقلاب التاريخي (1) (آثار رحلة كولومبوس)
نكتب عن التاريخ الحزين لنا والمفرح لغيرنا ونؤرخ ليوم الثاني من يناير من عام 1492م قبل 530 سنة نهاية غرناطة والوجود العربي الإسلامي. بنفس السنة يحصل تطور تاريخي مفصلي فما ذا حدث؟  قبل مايزيد عن خمسة قرون وفي أيام خريف عام 1492 للميلاد، رست ثلاث سفن اسبانية تحمل اسماء (نينيا) و (سانتا ماريا) و(بينتا) بامرة البحار الايطالي كولومبوس على شاطيء أحد جزر البهاما، في أكبر غلط جغرافي عرفه تاريخ العلم، وفي أكبر كشف ولدته الصدفة المحض، ليقلب تاريخ الشعوب الاوربية الفقيرة الجاهلة، فالارض التي كانت ثلاث قارات تحولت الى سبعة، مضيفةً أربع قارات غنية الى حساب الغرب، ومعها آلاف الجزر الغنية التي لايحصيها العدد، في أكبر انعطاف وخسارة تاريخية للعالم الاسلامي. يكاد الانسان لايصدق عندما يقرأ مغامرة البحار الايطالي (كريستوفرو كولومبو)(CRISTOFRO  COLOMBO) الذي سماه الاسبان (الدون كريستوبال كولون) (DON  CRISTOBAL  COLON) والذي اشتهر لاحقاً باللغة الانكليزية العالمية تحت اسم كريستوف كولومبوس (CHRISTOF  COLUMBUS)( مجلة الشبيجل الألمانية (DER  SPIEGEL) عدد 1 ـ عام 1992 م ص 100 وقد نشرت يومها بحثاً مزلزلاً تحت عنوان نهب العالم الجديد (DER  RAUB  DER NEUEN  WELT) في ست حلقات لكشف الآثار العميقة والبعيدة لرحلة كريستوف كولومبوس، ولفظة (الدون) تعني بالاسبانية السيد العظيم (وكريستوبال) معنى حامل المسيح و(كولون) معنى الستعمر أو المستوطن، وهكذا فاسمه أصبح يرمز الى حمل رسالة المسيح ونشره من خلال الاستعمار والاستيطان في العالم الجديد ومن هنا جاءت لفظة الكولونيالية بمعنى الاستعمار من كلمة كولون) الذي ظن بوصوله الى جزر البحر الكاريبي أنه قد وطأ الهند، في لحظة تاريخية حاسمة، وبقي تحت تأثير هذا الخطأ الجغرافي الفادح حتى مماته عام 1506 م، وهو في الواقع اكتشف ماهو أهم من الهند، اكتشف عالماً جديداً لم يكن الهنود الذين اكتشفهم فيه هنوداً، بل كانوا السكان الأصليين لقاراتٍ جديدة غنية حظي بها الغرب في ضربة حظ تاريخية بين غفلة العالم الإسلامي عن مسار التاريخ وضعف السكان الاصليين. والهنود الحمر الذين أبادهم المستوطنون الأوربيون بالبنادق والمدافع والحرب البكترولوجية لم يكونوا هنوداً من قريب أو بعيد، في صدفة تاريخية عجيبة لم يحلم بها أحد. ولكن التاريخ حقق عندها انعطافاً لمصلحة الغرب ضد العالم الاسلامي. الشيء الذي توصل إليه البحار كولومبوس لم يفطن الى قيمته لا نفس المكتشف ولا الجيل الذي قام بهذه المغامرة الكبرى. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم الحدث أكثر بكثير من نفس مكتشفه الاساسي كولومبوس بعد الامساك بالكرونولوجيا التاريخية ولماذا يحدث الذي لايحدث؟ يطرح الكاتب (النيهوم) تساؤلاً حزيناً على هذه الصورة: (وطننا العربي يقع في خانةٍ تضم أكثر الشعوب عجزا عن ملاحقة مسيرة الحضارة، وهو موقع لا مبرر للشكوى منه، سوى أن الحضارة بأسرها ولدت في وطننا، وأن السفن والاسلحة التي ارتاد بها الاوربيون قارات العالم الجديد كانت في ايدينا قبل أن يعرفها الاوربيون بثلاثة قرون على الأقل، فلماذا يحدث الذي لايحدث وكيف يمشي وطن وناسه الى الوراء؟). وعندما يحاول أن يفهم البانوراما التاريخية أو السياق الكوني ويحاول الامساك بالكرونولوجيا التاريخية يصف أبعاد الانقلاب التاريخي بكلمات قليلة ومعاني حزينة ومزلزلة: (في العالم القديم الذي شهد غارة الصليبيين على الوطن العربي منذ ألف سنة تقريباً كان العرب هم أصحاب الجيوش النظامية المتطورة، وكان موقعهم على أبواب آسيا وأفريقيا يضع بين أيديهم المفاتيح الذهبية للتجارة بين القارات، ويضمن لهم معركة سهلة ضد عصابات صليبية مفلسة، يقودها رجال أميون من طراز ريتشارد قلب الأسد). ويقرر الكاتب بعد ذلك تحول المسار التاريخي لميزان الغرب على الصورة التالية: (في العالم الجديد الذي نعرفه الآن يملك الصليبيون المفلسون أنفسهم وهم شعوب غرب أوربا جميع مفاتيح التجارة الدولية بين القارات ويملكون أيضاً ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة أنهار من كل ستة أنهار، وخمسة فدادين، من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، وثمانية قروش، من كل تسعة قروش ونصف). ولكن ماهو السر خلف هذا الانقلاب الصاعق؟ يجيبنا الكاتب بقوله : (سبب هذا الانقلاب الصاعق أن شعوب أوربا الغربية بحكم موقعها على المحيط الاطلسي في عصر تميز بتطوير الملاحة المحيطية على أيدي العرب، قد ارتادت فجأة ثلاث قارات ومئات الجزر المأهولة بشعوب بسيطة السلاح والتنظيم، فأبادت سكانها بالبنادق، وفتحتها لاستيطان ملايين من مواطنيها، الذين تولت الشركات أمر تهجيرهم، وتمويل مشروعاتهم في العالم الجديد، منذ مطلع الغارة خلال القرن السادس عشر)    فكرة الكرونولوجيا التاريخية   عندما نرى كولومبوس مع تسعين بحاراً يضعون أقدامهم في جزر البهاما من جزر البحر الكاريبي، وهم يظنون أنهم وصلوا الى الشرق من خلال الابحار غرباً، على أساس كروية الأرض، ويسمون أهل الجزر الطيبين الذين يحسنون استقبالهم ويرحبون بهم بالهنود، تبقى هذه (اللقطة) من الكرونولوجيا التاريخية في إطار الرحلات الممتعة والمغامرات الشيقة، كما نرى أفلام الرحالة والقراصنة، ولكن الفيلم يكون قد بدأ من هذه اللحظة، فإذا أمسك أحدنا باللقطات التاريخية بدون ربط الواحدة بالاخرى، فإنه لايفهم السياق التاريخي ولايضع يده على السر المصون، القريب المحجوب عن العيون، والفيلم نفهمه عادةً بسبب وصل اللقطات ببعض وإدخال الحركة عليه بالسرعة، فالمنظر الواحد يبقى جامداً ولكن تتابع اللقطات والمناظر بسرعة معينة، يدخل عليه الحياة، ويعطينا بالتالي إدراك المغزى الخفي خلف هذه الأحداث التي تتالى، من حصيلة مجموعات جامدة من اللقطات، فهناك سببية تربط بين الأحداث.    جدلية السبب والنتيجة   من هنا نعلم أن كل حدث هو نتيجة لما قبله وهو بنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده، ويصدق هذا على الأحداث الرهيبة التي شاهدناها في راوندا وبروندي وزائير ولاحقا سوريا من زحف الآلاف الهاربة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا، في حروب أهلية بئيسة لا تشذ عن صرامة القانون الاجتماعي الذي أوردناه في جدلية الأحداث، ضمن سياق سنة اجتماعية. فما حدث الآن بين قبائل الهوتو والتوتسي لم يأت من فراغ، بل لابد من رؤية السياق التاريخي وتبادل آثار الفعل ورد الفعل المدمرين، من تبادل جرعات الحقد والانتقام المتبادل، وتوزيع أدوار القوة والمذابح المتواترة. كذلك الحال في البوسنة فلا يمكن رؤية الأحداث في ضوء مذابح عام 1992 م بل العودة الى معركة (أمسل فيلد)(AMSELFELD) عام 1389 م التي خلَّدها العثمانيون في تاريخهم باسم معركة (قوص أوه) قبل ستمائة عام من ذلك التاريخ، بل العودة الى التقسيم التاريخي، الذي قام به الامبراطور ثيودسيوس عام 389 م حينما قطع الامبراطورية الى حصتين بين ولديه اركاديوس وهونوريوس، ولم تتحد الامبراطورية بعد ذلك قط، حذاء صدع تاريخي في المنطقة التي نسميها اليوم البلقان، دعى الى حدوث شرخ ديني موازي للشرخ السياسي.
اقرأ المزيد
حقوق النشر محفوظة ، خالص جلبي 2024  
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram